الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بادت أو تمّ تخطيها، وعن تجارب معرفية ووجدانية فقدت تأثيرها، حلقة وصل ضرورية في حياة اللغة، ومرحلة تواصل ذهني مع ما هو قابع وأداة فهم استقطابا للجديد بخيط دلالي يصل الماضي بالحاضر، لا تنفك العربية عنه.
حقول دلالة العربية:
إنّ العربية بمفرداتها والأسماء عبّرت عن جملة معطيات ومعان، فقد كانت أداة للتعبير عن العرفان في كل معطاه الوجداني والعاطفي واللاواعي، بمثل ما كانت أداة فهم للاحساس الفطري الأول في حياة الناطقين بها. ومن ثمّ انتقلت لتشكّل اشارات وحروفا للفكر والتجريد، فاستعدّت لاستقبال معاني الغير. وهنا في خضم إعمال العقل والفهم وتلقّي المجردات من الخارج انسكبت كل تلك المعاني في قوالب اللغة بعد تلقيها في الأذهان وانطباعها بها، وبالتالي تمّ اتسامها- تصورات الغير- بطبع العربية أيضا وبنيتها، هذه العربية في مبناها لا تنفك عن ذهنية صانعيها وناطقيها.
وهكذا تنجدل الأمور برباط معقّد متفاعل بين ما في الأذهان وما في اللسان انطلاقا مما في الأصوات والأعيان.
ولا بدّ من تمييز الذهن عن العقل، فالذهن في اللسن: «الفهم والعقل
…
وحفظ القلب» «1» . إذا هو يجمع عملية الفهم والتفكير والقلب، أي الوجدان وما هو قابع في النفس بحسب المعطيات النفسية الحديثة، لذا كان العقل تبعا لدلالة العربية: الجمع للأمر والرأي، والربط والتثبّت من الأمور. وكان الذهن أوسع نطاقا من هذا، وهنا نتلاقى مع التمييز الفرنسي التقليدي بين العقل المكوّن الفاعل la raison constituante وبين العقل المكوّن المنفعل المشيّد السائد la raison constituee . الأول يمثّل النشاط المخي الذي يقوم به الفكر بالربط والجمع، حيث يستخرج الانسان تصورات من ادراك العلاقات بين الأشياء. أما الثاني فهو مجموع المبادئ والقواعد المعتمدة في التفكير أو الاستدلال «2» . هذه القواعد تتأتّى من خارج فعل الفرد وفردية نشاط مخه.
لهذا هي أقرب لمعنى الذهن أي العقل المكوّن المشيّد الذي يمارس دوره كاستعداد للادراك، أي إنّه محل المدركات. وهنا يتلاقى مع معنى Mentalite بوجهته النفسية في بعض المناحي.
(1) ابن منظور، لسان العرب، مادة ذهن.
(2)
Lalande. A. Vocabulaire technique et critique de la philosophie. Paris. P. U. F.
1968.
P . 388
ولا ضير إن مررنا لماما على بعض هذه التوضيحات والتعريفات لتبيان علاقة المفاهيم والمعاني باللسان، وكيفية بناء الصياغة اللفظية والحكم على حقيقة من الحقائق أو تصور اصطلاح من المصطلحات فيما يخصّ الانسان، أنّى كان زمانه أو مكانه، ولا سيما أن لغة العلوم تعود للإنسانية جمعاء في سيرورتها والابداع. ومن ثمّ تنسكب في هذه اللغة أو تلك.
حتى أن الاسميين بدءا بالرواقية وانتقالا إلى أهل البيان المسلمين وخاصة ابن تيمية (661 - 726 هـ) وصولا إلى الأوروبيين المعاصرين، جعلوا الحقيقة العلمية ومحصلة التجارب والتصورات تقوم في الأسماء وتعرف من خلالها وبالألفاظ، وان الحقيقة المتجسدة قائمة في الألفاظ، فلا عجب أن ينكبوا انكبابا واسعا على بيان العلاقات المنطقية القائمة في قضايا اللغة وعلاقة المفردات والكلام.
ولعلّ علم الدلالة أو حقل المعنى من أدق العلوم، إذ هو يبحث في العلاقة بين المعنى والمبنى، بينما ذهبت اللغويات الحديثة لدراسة العلاقة في داخل المبنى للغة.
علما أن دراسة المبنى بما هو مبنى يساعد في فهم عمليات الصياغة وبناء العربية وبنيتها الشكلية. إلا أن دراسة عقل المعنى وعلم الدلالة متعلّق تعلقا مباشرا بموضوع تحقيقنا للكشاف.
ولقد أدرك العرب والمسلمون أهمية هذه المباحث فاحتفلوا بعلمي أصول الفقه والمنطق احتفالا ظاهرا، وذهب بعضهم إلى اعتبار تمايز العلوم في نفسها إنّما هو بتمايز الموضوعات. فصدّروا العلم بما عرف عندهم بالمبادئ والمقدمات. فكانت معرفة العلم بمعرفة حدّه تمييزا للمفهوم، وبمعرفة الموضوع تمييزا للذات.
والملفت للنظر أنّ للفظ الواحد والمصطلح الواحد أحيانا عدة مفاهيم وكثرة من المعاني، حتى تكاد اللفظة الواحدة تضج في تشعّب دلالاتها. وهذا الأمر يسري في معظم اللغات وبحسب اختصاص كل علم وفن وتباين حقله عن الآخر. إلا أنّ دراسة معمّقة في علم الدلالات تكشف لنا عن ذاك الخيط المشترك بين الدلالات، فتفتح الأفق أمام المحلّل والأناسي واللغوي لدراسة واسعة لطبع العربية وذهن ناطقيها وطبيعة تاريخ العلم وكيفية صدوره.
ولهذا كله يمثّل كشاف المصطلحات عدة أدوار علمية، فهو حلقة وصل واتصال لنحت المصطلح المستحدث. كما أنّه أرض خصبة لدراسة تاريخ العلم والموروث