الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثقافي برمته، وفي الوقت عينه معلمة مرجعية لعلماء ومراجع وكتب وآراء متعددة منتشرة على امتداد قرون الحضارة العربية والاسلامية.
بنية العربية وقابليتها للتحديث:
لقد طلع علينا زكي الأرسوزي في تصويره عبقرية العربية برأي مفاده أن تأسيس الدلالة ارتكز على عمليتين: تقليد الطبيعة وتصويرها، والتعبير عن المشاعر النفسية الداخلية للفرد. فالأصوات ثم الأسماء بالعربية حدثت من الثنائي إلى الثلاثي ونشأت من خلال هذين البعدين.
ومع بداية القرن العشرين ميّزت الوضعية المنطقية «1» بين وظيفتين رئيسيتين للغة:
احداهما هي الوظيفة المعرفية التي تستخدم اللغة فيها كأداة تشير إلى وقائع وأشياء موجودة في العالم الخارجي، ولا يتعدى دور اللغة غير هذا التصوير لتلك الوقائع والأشياء. أما الوظيفة الثانية للغة فهي الوظيفة الانفعالية ومؤدّاها أنّ الانسان يستعمل اللغة أحيانا للتعبير عن مشاعر وانفعالات تجول في نفسه. ويدخل في اطار هذه المشاعر العبارات التي تعالج مسائل الأخلاق والجمال والماورائيات. فلا عجب إن صنّفنا العدد الكبير من المصطلحات في الكشاف الذي بين أيدينا ضمن دائرة مسائل الأخلاق والماورائيات والمشاعر النفسية التي تبدّت عند الصوفي أو غيره.
(1) شكّلت جماعة فيينا حلقة ذات توجه فلسفي علمي لغوي. من أشهر أعلامها شليك Schlick وفايزمن Waismann وفتغنشتين Wittgenstein وغيرهم مثل كارناب Carnap وفايجل Feigl وكرافت Kraft وآير Ayer . اضافة إلى هؤلاء سارت مدرسة آكسفورد بهذا المنحى، ومن أشهر ممثليها أوستن Austin ورايل Ryle وستراوسون Strawson وهيرت Hart وهامبشير Hampshir وهير Hare . ونويل سميث N .Smith واشعيا برلين I .Berlin وسواهم ك رسل Russell . وشكّل هؤلاء الأفراد من الوضعيين واللغويين توجها معرفيا، منذ أواخر القرن التاسع عشر الميلادي والمنتصف الأول من القرن العشرين، غرضه التأكيد على الآراء التالية: الفلسفة تحليلية. الفلسفة علمية، أي هي روابط منطقية لغوية لوقائع جزئية مجرّبة في العلوم. القضايا تحليلية أو تركيبية. كل الماورائيات والأفكار القبلية الداخلة على التجربة لغو.
ثم ان الاتجاه اللغوي شدّد على أن اللغة العادية هي الصحيحة ومعاييرها تساعد بصورها واشاراتها على تحقيق الوظيفتين المعرفية والانفعالية للغة فقط.
إن التفريق بين المعنى الدلالي والاشاري يتم خلال التجربة والعلاقة المنطقية الخاصة باللغة.
إن هذه الواقعية التي اتسم بها هذا التوجه تساعد في منهجها والنتائج على فهم عمليات وضع المصطلح في اللغة العربية، وتؤازر على ادراك ذاك التحول بين الدلالة العادية للفظ ودلالته الاصطلاحية وكيف استخدم العرب والمسلمون اللغة العادية والمعايير البنائية للسانهم في صياغة التصورات العلمية، بمثل ما يؤيّد ذلك التعرف على موقع الاصطلاح والمصطلحات في اطار أي وظيفة للغة، ولا سيما أنّ الألفاظ والاصطلاحات المعتقدية والصوفية تغزر في العمل الذي بين أيدينا.
والمتبحّر في فضاء العربية يجد بوضوح كيف استفاد المجتهد والفقيه والعالم والعارف من اللغة العادية ومن الأسماء العربية. فغدا الاسم مثقلا بدلالات عدة سبق للمنطق التقليدي أن أطلق عليها الأسماء المتفقة Homonymes ، وقصد بها ما كان اسما مشتركا لمعان مختلفة.
أما معنى كلمة عادي فهي ما يقابل ضمنا غير المألوف والسوي والاصطلاحي والشعري والرمزي. وتعني كلمة عادي المشترك والمألوف عند العامة والمتداول على كل لسان، لكن هل كل ذلك يتعارض مع الأساليب والأسماء المعتمدة لدى قلة من الناس اصطلحوا عليها في مضمار الفنون والرموز والعلوم؟ «1» وشكلوا الخاصة وأهل النظر. فلقد حرث المصطلح ولغة العلم في العربية حرثا عميقا ومديدا. إذ تمثّل عمقه في تحويل الأسماء بدلالتها الحسية ثمّ الدينية إلى دلالة اصطلاحية عبّرت عن كل علوم من سبق على الحضارة العربية والاسلامية تقريبا مضيفة ما كان من عنديات عقول تلك الحضارة والابداعات والاضافات والتبديّات «2» والمشاعر. وتحصّل مديد المصطلح من طول عمر تلك اللغة العربية وانتشارها الزماني، بحيث يشكل اللسن العربي تاريخيا بين اللغات لسنا معرقا قديما امتد عشرات القرون ولم يزل حيا قادرا على الاستقطاب.
كل هذا يمكن أن نخلص من خلاله إلى عدم التعارض بين اللغة العادية والاصطلاحية.
بيد أنّ الأقدمين تنبهوا إلى مثل هذه العملية داخل اللغة واستخرجوا منها تلك التفعيلات والأوزان الضابطة؛ التي اعتبر ابن جني في خصائصه أنّها قوالب لصياغة التصورات، ودالات لتمييز الأفكار والمعاني، ومنحوتات تقولب خلالها ابداعات المفاهيم ومستحدثاتها.
ثم أبرزها العلائلي عصريا في مقدمته وخرّج بها الكثير من التفنينات والعلوم العصرية.
كما أنّ ابن رشد الفيلسوف وعاها كنحت اصطلاحي وتفسير وتأويل تصوري، فقال بصحتها: على أن لا تخل بعادة لسان العرب. جاعلا من العادة الضابط التقعيدي، منعا من التفلت. ولعلّ هذا الضابط هو ذاك الجسر بين اللغة العادية واللغة الاصطلاحية.
(1) Ryle ،G .،Ordinary Language ،The Philosophical Review ،V ،LXII ، 3591،. 167.
(2)
نطلق كلمة تبديات على ما بدا للنفس فيوافق ذلك الوظيفة الانفعالية للغة ويماثل الفلسفة الظواهرية والظاهراتية Phenomenologie .
وذهب حديثا مور إلى الدفاع عن اللغة العادية معتبرا إياها الأساس لكل اصطلاح جاعلا اللغة العادية ترتبط بالحس المشترك والحكم الصائب، قائلا إنّ تناقض مذاهب الفلاسفة يعود إلى عبثهم باللغة العادية، وإنّ كل ذلك يحصل عند انتقالهم من استعمال إلى آخر باللفظ ومن غير علم فيقعون بذلك في المحال «1» .
بينما انتقد رسل اللغة العادية لأنّها بنظره عاجزة عن التعبير الدقيق عن المفاهيم العلمية، كما أن نظمها syntax كثير ما يضلّل «2» .
في حين أكّد فتغنشتين على أنّ اللغة العادية هي المعيار الذي نحكم به على صحة أو بطلان ما يقال من عبارات. يضاف إلى ذلك ميله إلى وضع لغة مثالية منطقية.
وخلاصة ما ذهب إليه أنّ اللغات المثالية بالنهاية ما هي إلا مواضعات لا تعدو كونها توضيحات للغة العادية «3» .
كما ذهب شليك إلى أنّ وضع العبارات الجديدة في اللغة يكون عند التعبير عن وقائع في الوجود الخارجي، وهذا يتم على مستوى اللفظ أو الجملة أي الحدّ المتصوّر- المصطلح- أو القضية. وبكلمة أبسط، أي ضرورة وجود (علامات، اشارات، أسماء) بقدر وجود وقائع وأفكار عن وقائع «4» .
فهل ما ذهب إليه، إذا أخذنا به لدراسة العربية، يسائلنا: أتكمن المشكلة في الأسماء الجديدة أم في الوقائع؟ وممّا لا شك فيه أنّ تيار شليك يؤكد على فعل الوقائع، بمثل ما أكد انبناء العربية على الوقائع المجرّبة المحسوسة. وهذا أمر يجعلنا نذهب مع القائلين إلى أنّ تلبية العربية للمعرفة المعاصرة وللكشف يكمن في سر المساهمة في وقائع جديدة، أي الانخراط في علوم العصر والمشاركة في التفنين والكشف والابداع. وإن صح القول إحداث المعاني وفهمها، بهضم الجديد وتمثله وليس بالترجمة الحرفية.
حينئذ تلعب اللغة العادية دورها في صياغة المصطلح والاسم الجديد مستأنسة
(1) Moore ،G .E .،Principia Ethica ،Cambridge ،the university press ، 8491.
White، A. R.، G. E. Moore، A Critical Exposition، Oxford، Basil Black well،
1958،p 43 - 23.
(2)
Russell، B.، Reply to Criticism in shlipp، P. A. ed.; The Philosophy of Bertrand Russell، p
694.
(3)
لودفيغ فتغنشتين، رسالة منطقية فلسفية، ترجمة عزمي اسلام، مراجعة زكي نجيب محمود، القاهرة، الانغلو مصرية، 1968.
(4)
Quoted in Waismann، F، The Principles of Linguistic philosophy، Edited by Hare، R Macmilan، London، Melbourne، Toronto، New York، St. Martin's Press،
1968،pp . 603 - 403.
بالمصطلح السابق كمحطة في سيرورة لا تنقطع.
عندها وبها يكون الكشاف ولغته أداة للتجديد، ويصبّ التهانوي في مصبه التاريخي من عمر العلم واللغة معا عند اللاسنين العرب.
وفي الوقت عينه ذهبت جماعة آكسفورد اللغوية مذهبا بنيويا في عملية الارتباط بين الواقع واللفظة أو الجملة. إذ ترتكز النظرة على محور أساس مؤداه أن هناك تناظرا بين بنية الواقعة وبنية القضية التي تعبر عنها أو الحد المتصوّر المفرد «1» . وهذا التناظر بين الواقع واللغة لعب دورا عند رسل وفتغنشتين وشليك. وجلّ النظرة أنّ التعبير يتوقف على امكانية ترتيب العلامات بطرق مختلفة. فالترتيب Order هذا يمكن جعله كشفا لعملية مهمة في بناء اللغات ومنها العربية. مع الاشارة إلى أنّه تم وضع شيء من هذا القبيل قبل ذلك بقرون طويلة على يد ابن جني وآخرين في دور التفعيلات ودلالتها كترتيب ونظم لتحولات الفعل الثلاثي، وكأدوات اجرائية لاختلاف المعاني التي تحصل في الواقع وتستجد، والأمر عينه عند بقية النحويين والبلاغيين في ترتيب وصياغة الجملة العربية. مع اعتبار للفارق الزماني واختصاص العرب بلغتهم وتعميم المعاصرين النظرة على كل اللغات الخ
…
ولعلّ اتجاه أهل البيان في التجربة العربية والاسلامية الذي توجّه ابن تيمية في توجهه الاسمي، وتشييده منطقا يتأسّس على الاسم في بناء التصورات، قد يلتقي في كثير من الأبعاد مع ما آلت إليه أعمال جماعة الذرية المنطقية وجماعة آكسفورد حديثا، حيث قارن فتغنشتين بين: واقعة ذرية تتشكل في مجموعات موضوعات، موجودات Entities أو أشياء. وعلامات بسيطة مستخدمة في قضايا تدعى أسماء «2» .
أي أن فتغنشتين حلّل العالم أو علم العالم من وقائع مركبة إلى وقائع بسيطة من غير الممكن تجزئتها إلى ما هو أبسط منها- الواقعة الذرية-، وقوامها مجموعة من صغائر الأشياء. ومماثلة مع ذلك يمضي فتغنشتين في تحليل اللغة من قضايا تنحل إلى قضايا أولية تجزّأ هي بدورها إلى أبسط منها فتغدو مجموعة من الأسماء، فالعالم ينتهي إلى صغائر الأشياء واللغة تنتهي إلى أسماء. وهنا خيط مشترك بين الاسمية القديمة وهذا التيار، يتمثل هذا الخيط في أنّ اللغة ترسم الوجود الخارجي والاسم خير معبّر عن الواقعة. والعلاقة علاقة واحد بواحد.
(1) Ibid ،p . 603.
(2)
فتغنشتين، رسالة منطقية فلسفية، ص 63 وص 73.
ولهذا كله ينصب الاهتمام على دراسة الأسماء أي دلالة المصطلحات لتعبيرها عن الوقائع أو فهم الوقائع- المعنى، التصور الذهني-.
ولم يعن العرب والمسلمون كثيرا بدلالة القضية الجملة بل بمعناها، ووضعوا معايير مختلفة للحكم على معناها من حيث السند والصدق والكذب، النظر والتجربة الخ
…
لكن غايتهم انصبت على دلالة الأسماء انصبابا هاما وانقسموا فريقين: فريق أعطى الأولوية للدلالة، علاقة الشكل بالمضمون. وفريق قدّم أولوية المعنى على الدلالة.
بينما رأى فتغنشتين حديثا بأنّ الأسماء ذات دلالة فحسب وليس لها معنى، وأنّ القضايا ذات معنى فحسب وليس لها دلالة «1» . وهذا الاتجاه يقارب مفهوم أهل الاصطلاح عند العرب والمسلمين.
بل اعتبر الغزالي أن الواقعة والمعنى والدلالة مترابطة ترابطا تاما، إذ قال إنّ للأشياء وجودا في الأعيان والأذهان واللسان «2» .
لكن تطور العلوم العصري جعل معنى الاسم يؤخذ على السياقات التي تستعمل فيها الأسماء. وهذا التوجه يخدم تشعب المصطلحات وغزارتها.
بيد أنّ المصطلح العربي والاسلامي ارتكز على وظيفتين مثله مثل وظيفة اللغة عامة: وظيفة معرفية ووظيفة انفعالية. في حين ضؤل دور الوظيفة الانفعالية في المصطلح العصري الغربي لضمور الآداب والفلسفة أمام العلوم والتفنين. ولم تعد المعرفة العصرية تعنى بتبديات النفس وتخيلات الشعور عنايتها بالوقائع المجربة المصغرة والافتتان بها.
ولم يحدث الأمر في اللغة العربية لعدم انسلاك المجتمعات العربية في سلك العلوم والتفنين وانخراطهم كليا في التكنولوجيا وهضم علومها.
ولا عجب إن جاء الكشاف يلبّي الوظيفة المعرفية للغة، ولكن مصطلحاته الملبّية للوظيفة الانفعالية تطفو وتغزر. ولا سيما أن الدلالات الفلسفية والصوفية الدّالة على التّبديات والتمظهرات الفكرية والنفسية تكثر، وتغني القارئ بحقل واسع من
(1)
Picher. G. The Philosophy of Wittgenstein، Inc.، Englewood، Cliffs، N. J.، Prentice- Hall،
1964،p . 54.
(2)
ولا سيما في كتابيه: معيار العلم والمستصفى من علم أصول الفقه.