الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة التحقيق
الحمدُ لله منزلِ الشرائع والأحكام، وجاعلِ سنةِ نبيِّهِ صلى الله عليه وسلم مبينةً للحلال والحرام، والهادي من اتبعَ رضوانَه سبلَ السلام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةَ تحقيق على الدوام، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسوله، أرسلَه رحمةً للأنام، وعلى آله وصحبه الكرام.
أما بعد:
فإن الله عز وجل قد أنزل كتابه الكريم، وتكفَّل لهذه الأمة بحفظه، فقال:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].
وندب رسولَه الأمين محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى الأخذ به، والتبليغ عنه، وبيانِ ما أشكلَ منه بقوله تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44]، "والذكر: اسم واقع على كل ما أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم من قرآنٍ، أو من سُنَّةٍ وحياً يبيِّنُ بها القرآن، فصحَّ أنه عليه الصلاة والسلام مأمور ببيان القرآن للناس" (1).
وما قَبَضَ اللهُ رسولَه صلى الله عليه وسلم حتى أكملَ له ولأمته الدين، قال تعالى:
(1)"الإحكام" لابن حزم (1/ 115).
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].
قال عمه العباس رضي الله عنه: "والله ما مات رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتى ترك السبيلَ نهجاً واضحاً، وأحلَّ الحلال، وحرَّمَ الحرام، ونكح وطَلَّق، وحارب وسالَم، وما كان راعي غنم يتبع بها رؤوس الجبال، يخبط عليها العِضاه بمخبطته، ويَمْدُر حوضَها بيده، بأنصبَ ولا أدأبَ من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فيكم"(1).
ولما كان طريقُ معرفة سنة النبي صلى الله عليه وسلم النقلَ والرواية، وجب أن يكون السبيلُ إلى معرفة صحَّتهما محفوظاً أيضًا، ولهذا اختار الله عز وجل رجالاً جعلهم حَفَظَةَ الدينِ وخَزَنتَهُ، وأوعيةَ العلمِ وحَمَلَتَهُ، "أمعنوا في الحفظ، وأكثروا في الكتابة، وأفرطوا في الرحلة، وواظبوا على السنن والمذاكرة، والتصنيف والدراسة، حتى إن أحدهم لو سُئلَ عن عدد الأحرف في السنن لكل سُنَّةٍ منها، عدَّها عدّاً، ولو زيد فيها ألف أو واو، لأخرجها طوعاً، ولأظهرها ديانة"(2)، "سلكوا محجَّةَ الصالحين، واتبعوا آثار السلف من الماضين، ودفعوا أهلَ البدع والمخالِفين بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله أجمعين، آثروا قطعَ المفاوزِ والقِفار، على التنعُّم في الدِّمَنِ والأوطار، فعقولهم بلذاذة السنة غامرة، وقلوبهم بالرضاء في الأحوال عامرة، تعلُّمُ السنن سرورُهم، ومجالسُ العلم حُبورُهم"(3). فلله
(1) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى"(2/ 267)، والدارمي في "سننه"(83)، من حديث عكرمة، مرسلاً.
(2)
"مقدمة المجروحين" لابن حبان (ص: 57 - 58).
(3)
"معرفة علوم الحديث" للحاكم (ص: 2 - 3).
درُّهم، كم ذَبُّوا عن هذا الدين تحريفَ الجاهلين، وحفظوه من تأويل الغالين، ولولاهم لَدَرَسَتِ الآثار" واضمحلَّت الأخبار.
وقد اعتنوا رحمهم الله بحفظ أصولها، وجمع مفرداتها، وبيان حال رجالاتها، وشرحِ غريب مفرداتها، وقرَّبوا حفظها لكل مسلم، واختلفت مقاصدُهم في جمعها وتأليفها وترتيبها، فمنهم من اعتمد على ذكر أحاديث الترغيب والترهيب، ومنهم من قصد جمع أحاديث الأحكام، وغير ذلك.
وكان كتاب: "العمدة في الأحكام، في معالم الحلال والحرام، عن خير الأنام محمَّد عليه الصلاة والسلام "، مما اتفق عليه الشيخان، للإمام الحافظِ الكبير تقيِّ الدين أبي محمدٍ عبدِ الغنيِّ بنِ عبدِ الواحدِ بنِ عليِّ بنِ سرورٍ المقدسيِّ رحمه الله من بين تلك الكتب المعتمدة في الإِسلام، التي اشتملت على جملة من الأحاديث النبوية التي ترجع أصول الأحكام إليها، ويعتمد علماء أهل الإِسلام عليها، "وقد طار -كتابه- في الخافِقَين ذكرُه، وذاع بين الأئمة نشرُه، واعتنى الناس بحفظه وتفهمه، وأكبوا على تعليمه وتعلمه، لا جرم اعتنى الأئمة بشرحه، وانتدبوا لإبراز معانيه عن سهام قَدْحِه"(1).
وكان من أولئك العلماء الذي عكفوا على شرحه، وبيان أحكامه ومسائله: الإمامُ، العلامةُ، بقيةُ السلف، وقدوةُ الخلف، الشيخُ محمدُ بنُ أحمدَ السَّفارينيُّ الحنبليُّ، الذي يعتبر كتابه هو الأولَ من بين شروح العمدة الذي تناول فقه الحنابلة، والذي جاء كتاب "العمدة" لتقويته واعتماده، وهو الأول من بين شروح العمدة الذي اعتمد كلام محققي علماء الإِسلام
(1)"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 2).
الأماثل؛ كشيخ الإِسلام ابن تيمية، والإمام ابن القيم، والإمام ابن دقيق العيد، والحافظ ابن حجر العسقلاني، وغيرهم.
وقد بذل جهده رحمه الله في تنقيح مسائله، وتوضيح دلائله، ولم يَأْلُ جهداً في زيادة تبينيه وتمكينه، وجمعه وتأليفه، وتحريره وتصنيفه، وقد عزا -غالبًا- كلَّ قول لقائله، جامعاً مادةَ كتابه هذا من أكثر من مئة كتاب نقل منها، وبحسب مواد أصلها تزيد على الألوف.
ومن تأمل هذا الشرح بالإنصافِ، ظهر له أنه نسيجُ وحدِه في معناه، وفريدُ عِقْدِه في مبناه.
فإن شاء المُطالع، تناولَ منه أحاديثَ نبويةً، وآثاراً سلفيةً.
وإن شاء، اقتبس منه أحكاما فقهيةً وآداباً شرعيةً.
وإن شاء معرفةَ أخبارِ الصحابةِ وغيرهم، ظفر فيه بشذرة عليَّة.
وإن شاء تقويم لغته، وجد فيه جمهرة من المواد اللغوية والنكاتِ الأدبية.
وإن شاء الوقوف على كلام العلماء المحققين وجده مجموعًا في حُلَّةٍ ذَهبية.
ولله درُّ الإِمام السفارينيِّ حيث يقول: [من الطويل]
جزى الله خيراً مَنْ تأملَ تأليفي
…
وقابلَ بالإغضاء وضَعْي وتصنيفي
فما ليَ شيء غيرَ أني جمعتُه
…
وحَرَّرته من غير شَيْنٍ وتحريفِ
وضمَّنتُه علماً نفيسًا وكنتُ في
…
مناقشتي كشَّافًا عن كلِّ ذي زيفِ
وقمتُ على ساقِ التقشُّفِ ضارعاً
…
إلى الله في الأسحار بالذل والخوفِ
عسى خالقي يمحو ذنوبي بمنِّهِ
…
ويمنحُني الرضوانَ من غيرِ تَعْنيف (1)
وقد تمَّ -بفضل الله وتوفيقه- التقديمُ لهذا السفر الجليل بفصلين هامين، تضمن الأول منهما ترجمةً حافلة للإمام السفاريني، وكان الآخر لدراسة الكتاب، وبيان ما فيه، وفي كل منهما مباحثُ متعددة، وبالله التأييد.
وفي الختام: لا بد لي من أن أتوجه بالشكر الجزيل والتقدير الأثيل لكل من ساهم في إخراج هذا الكتاب إلى حيز الوجود -بعد شكري وتذللي لله تعالى الذي أعان عليه، ويَسَّرَ أسباب العمل فيه-، وهم:
أولًا -وزارة الأوقاف والشؤون الإِسلامية في دولة الكويت- قطاع المساجد: والتي قامت بتبني طبع هذا الكتاب وتوزيعِه على طلبة العلم مجاناً لوجه الله تعالى، فلكل من ساهم بذلك أجرُه وثوابُه عند الله تعالى.
ثانيًا: فضيلة الشيخ المحبوب: أبو الحارث فيصلُ بنُ يوسفَ العلي -حفظه الله تعالى-: والذي تفضل أولًا -كعادته- بإرسال النسخ الخطية للكتاب، حاثًّا ومشجعاً على تحقيقه، وذلك في أثناء زيارته لنا بالشام سنة 1425 هـ، ثم لسعيه المبارك الحثيث لنشر هذا الكتاب لدى وزراة الأوقاف والشؤون الإِسلامية بدولة الكويت، ضمن إدارته المباركة في مكتب الشؤون الفنية بقطاع المساجد، فالله وحده يجزيه أجره.
ثالثًا: فضيلة الشيخ المبارك محمدُ بنُ ناصرٍ العجمي -حفظه الله تعالى-: الذي تابع وشجع تحقيق الكتاب، ووفر بعضَ مصادرِه ومراجِعِه، وحثَّ وأثنى على العمل، وزكّى نشرَه وتوزيعَه، فالله يجزيه خير الجزاء.
(1)"البحور الزاخرة في علوم الآخرة" للسفاريني (2/ 614).
رابعاً: اللجنة العلمية التي شاركت معي في تحقيق هذا الكتاب، وهم من خيرة طلبة العلم وحملته في بلاد الشام، وأخص بالذكر منهم:
1 -
أ. زكريا عبد العزيز الجاسم - من قسم الإدارة والتنفيذ.
2 -
أ. محمد خلوف العبد الله - من قسم التحقيق والدراسات.
3 -
أ. عبد الرحمن بن محمد الكشك - من قسم الضبط اللغوي.
كما أشكر جميع الإخوة الأفاضل، والأخوات الفاضلات من المتعاونين مع مكتب التحقيق والدراسات بدار النوادر الذين كان لهم دور موفَّق في مجال النسخ والمراقبة والمقابلة والتنضيد والتصحيح والفهرسة لهذا الكتاب.
خامساً: كما أشكر آخراً، وحقَّهم عليَّ أن يُذكروا أولًا:
* والديَّ الكريمين على رضاهما ودعائهما الدائم الذي لا ينقطع.
* وزوجتي الفاضلة، على تحمُّلها معي أعباءَ القيام بهذا العمل، وصبرِها، ورعايتها للمنزل والأسرة.
* وإخوتي وأخواتي الأفاضل على دعائهم وتشجيعهم الدائم.
هذا وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وقدوتنا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
وكتبه
نور الدين طالب