الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني
أخلاقه وصفاته
قال تلميذه الزَّبيديُّ: وكان المترجمُ شيخاً ذا شيبة منورة، مهاباً، جميلَ الشكل، ناصراً للسنة، قامعاً للبدعة، قوالاً بالحق، مقبلاً على شأنه، مداوماً على قيام الليل في المسجد، ملازماً على نشر علوم الحديث، محباً في أهله (1).
وكان يُدعى للملمَّات، ويُقصد لتفريج المهمَّات، ذا رأي صائب، وفهم ثاقب، جسوراً على ردع الظالمين، وزجر المغترين، إذا رأى منكراً، أخذته رعدة، وعلا صوته من شدة الحدة، وإذا سكن غيظه، وبرد قيظه، يقطر رقَّةً ولطافة، وحلاوة وظَرافة (2).
وقال الغزي: وكان رحمه الله جليلاً جميلاً، صاحبَ سَمْتٍ ووقار، ومهابة واعتبار، وكان كثيرَ العبادة والأوراد، ملازماً على قيام الليل، ودائماً يحث الناس عليه، وكانت مجالسه لا تخلو من فائدة، ولا تعرو عن عائدة، وكان مُشْغِلاً جميعَ أوقاته بالإفادة والاستفادة، يطرح المسائل على الطلاب والأقران، ويدور بينه وبينهم المحاورةُ في التحرير والإتقان، وكان صادعاً بالحق، لا يماري فيه، ولا يهاب أحدًا، والجميع من أعيان بلده وأمرائها
(1) انظر: "المعجم المختص" للزبيدي (ص: 646).
(2)
انظر: "سلك الدرر" للمرادي (ص: 4/ 32).
يهابونه، يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، وكان خيراً جواداً، لا يقتني شيئاً من الأمتعة والأسباب الدنيوية سوى كتب العلم، فإنه كان حريصاً على جمعها، ويقول دائماً: أنا فقير من الكتب العلمية، وكان كل ما يدخل إلى يده من الدنيا ينفقه، وعاش مدة عمره في بلده عزيزاً موقراً محتشماً (1).
ومن تواضعه رحمه الله ما قاله عن نفسه لما استجازه الشيخُ عبدُ القادر بنُ خليل، فقال:"ولو رأى من استجازه وحقق حلاه، لقال: تسمعَ بالمعيديِّ خيرٌ من أن تراه، ولو استنصحني عن نفسي، واستفسرني عن رأيي وحدسي، لقلت له عن حالي: لقد استسمَنْتَ ذا ورم، ونَفَخْتْ من غير ذي ضَرَم .. ، بضاعتي مُزجاة، وصناعتي مقلاة، ما حل من التضلع من معادن العلوم الدقيقة"(2).
ومن عجيب ما جرى للإمام السفاريني رحمه الله مما يدل على حسن أدبه وتواضعه، ما ساقه في "إجازته للزبيدي"، فقال: ومن مشايخي الذين أخذتُ عنهم: الشيخُ موسى المحاسني
…
، ولكني لم أستجزه، لأمر حدث منه، وهو أن بعض الوُشاة أنهى إليه أني سُئلت: من أفضل: الشيخ المنيني، أو الشيخ المحاسني؟ فزعم الواشون أني فضَّلتُ المنيني عليه، فكتب لي بهذه الأبيات:[من الكامل]
لا تَزْدَرِ العلماءَ بالأشعارِ
…
وتَحُطَّ قَدراً من أُولي المِقْدارِ
أتظنُّ سَفَّارينَ تُخرجُ عالِماً
…
يُنْشِي القريضَ بدقَّةِ الأنظارِ
هلَّا أخذتَ على الشيوخ تَأَدُّباً
…
كي ترتَقي دَرَج العُلا بفَخارِ
واللِّينُ منك لاحَ في مرآتِه
…
لا زِلْتَ تكشِفُ مُشْكِلَ الأخبارِ
(1) انظر: "النعت الأكمل" للغزي (ص: 302).
(2)
انظر: "إجازة عبد القادر بن خليل"(ص: 214).
فأجبته:
قُلْ للإمامِ مهذِّبِ الأشعارِ
…
مُنْشِي القَريضِ ومُسْنِدِ الأخبارِ
تفديكَ نفسي يا أديبَ زمانِنا
…
يا ذا الحِجَى يا عالِيَ المقدارِ
مَنْ قال عَنِّي يا همامُ بأنني
…
أُزْري بأهلِ الفضل والآثارِ
عَجَباً لمن أضحى فريداً في الورى
…
يُصْغي لقولِ مُفَنِّدٍ مكَّار
مقصودُه وَشْيُ الحديثِ ووضعُهُ
…
فقبِلْتَهُ من غيرِ ما إنكارِ
وغدوتَ مفتخراً على صَبٍّ إذا
…
جَنَّ الظلامُ بَكى منَ الأكدارِ
ورشقتَهُ بسهامِ نظمِك مُزْدَرٍ
…
للناس بالتحقيرِ والإصغارِ
هَبْ أن سَفَّارينَ لم تُخْرِجْ فَتًى
…
ذا فطنةٍ بنتائج الأفكارِ
أيُباحُ عُجْبُ المرءِ يا مولايَ في
…
شرعِ النبيِّ المصطفى المُختارِ
لا زلتَ في أَوْجِ المكارِم راقياً
…
تُنشي القريضَ بهيبةٍ ووَقارِ
ما حَرَّكَ الشوقَ التليد صبابةً
…
صَدْحُ الحَمام ونغمةُ الهَزَّارِ
فجاء واعتذر، ولكني لم أقبل عذره، فجاء يوماً بابنه، وقال له: قم قَبِّل يدَ عمك ليسمحَ لأبيك عما بدر منه، فقلت له: أنا أرجو منك السماح (1).
وبالجملة: فقد جمع هذا الإمامُ بين الأمانة والفقه، والديانة والصيانة، وفنون العلم والصدق، وحسن السَّمْتِ والخلق والتعبُّد، وطولِ الصمت عَمّا لا يعني، وكان محمودَ السيرة، نافذَ الكلمة، رفيعَ المنزلة عندَ الخاصِّ والعام، سخيَّ النفس، كريماً بما يملك، مُهابًا مُعظماً، عليه أنوارُ العلم بادية (2).
* * *
(1) انظر: "إجازة الزبيدي"(ص: 189 - 190).
(2)
انظر: "السحب الوابلة" لابن حميد (2/ 841).