الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب النكاح
قال الواحدي: قال الأزهري: أصل النكاح في كلام العرب: الوطء.
وقيل للتزويج: نكاح؛ لأنه سبب الوطء.
يقال: نكح المطر الأرض، ونكح النعاس عينه.
وقال أبو القاسم الزجاجي: النكاح في كلام العرب [بمعنى] الوطء والعقد جميعاً، وموضع (ن ك ح) على هذا الترتيب في كلامهم: للزوم الشيء الشيء راكباً عليه، فإذا قالوا: نكح فلان فلانة، ينكحها، نكْحاً ونكاحاً- أرادوا: تزوَّجها.
قال ابن جني: سألت أبا عليِّ الفارسي عن قولهم: نكحها، فقال: فرقت العرب فرقاً لطيفاً يعرف [به] موضع العقد من الوطء، فإذا [قالوا: نكح] فلان فلانة أو بنت فلان أو أخته، أرادوا: تزوَّجها، وعقد عليها، وإذا قالوا: نكح
امرأته أو زوجته، لم يريدوا إلا المجامعة؛ لأن بذكر [امرأته وزوجته] يستغني عن العقد.
واختلف أصحابنا في حقيقته على ثلاثة أوجه، حكاها القاضي الحسين في "تعليقه":
أصحها: أنه حقيقة في العقد مجاز في الوطء، وهذا الذي صححه القاضي [أبو الطيب]، وأطنب في الاستدلال له، وبه قطع المتولي، وهو الذي جاء به القرآن الكريم والأحاديث.
والثاني: أنه حقيقة في الوطء مجاز في العقد.
والثالث: أنه حقيقة فيهما بالاشتراك، والله أعلم.
والأصل في مشروعيته- قبل الإجماع-[من الكتاب] قوله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3]، وقوله تعالى:{وَأَنكِحُوا الأَيَامَى} [النور: 32]، وغيرهما من الآيات.
ومن السنة قوله- عليه السلام: "تَنَاكَحُوا، تَكْثُرُوا"، وقوله:"النِّكَاحُ سُنَّتِي؛ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي، فَلَيْسَ مِنِّي" وغيرهما من الأخبار.
قال: من جاز له النكاح من الرجال، وهو جائز التصرف: فإن كان غير محتاج إليه- أي: لعلةٍ قامت به من مرضٍ أو عجز، أو لم تكن به علة إلا أنه
غير تائق، وغير قادر على مُؤَنِهِ- كره له أن يتزوج؛ لقوله- عليه السلام:"خَيْرُكُمْ بَعْدَ المِائَتَيْنِ: الْخَفِيفُ الحَاذِ"[قِيلَ: وَمَا الخَفِيفُ الحَاذِ؟ قال: "الَّذِي لا أَهْلَ لَهُ، وَلا وَلَدَ"، يقال: رجل خفيف الحاذ]؛ إذا كان خفيف لحم الفخذين، وكأنه [على] وِزَان قوله القائل: فلان خفيف الظهر، ولأنه يلزم ذمته مغارم قد لا يقوم بها من غير حاجة.
أمَّا إذا كان غير تائق، وهو قادر على مُؤَنه- فال يكره في حقه، ولكن الأفضل [في حقه] التخلِّي لعبادة الله تعالى.
قال ابن الصباغ: ومن أصحابنا من قال: هو مستحب في الجملة تاقت النفس إليه أو لم تَتُقْ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "تَنَاكَحُوا، تَكْثُرُوا"، ونقل الرافعي عن أبي سعد الهروي أنه نقل وجهاً عن الأصحاب مثل مذهب أبي حنيفة- رحمه الله: أن النكاح أفضل من التخلي لعبادة الله تعالى.
ولو لم يكن مشتغلاً [بالعبادة] فوجهان:
أصحهما: أن الأفضل أن ينكح.
وقيل: تركه أفضل.
قال: وإن كان محتاجاً إليه، أي: ووجد أُهْبَتَهُ- استحب له أن يتزوج، أي: سواء كان مقبلاً على العبادة أو لا؛ لقوله- عليه السلام: "يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، [عَلَيْكُمْ بِالْبَاءَةِ]؛ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ"، أي: قاطع لشهوته.
وروى [مسلم]: "يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ .. " إلى آخره، والوجاء- بالمد-: ترضيض الخصية، والباءة- بالمد- هي: القدرة على مؤن النكاح، وبالقصر: هي الوطء.
قال الجيلي عن "شرح السنن": وأصله الموضع الذي يأوي إليه [المتزوج]، [ومنه اشتق مباءة الغنم، وهو الموضع الذي تأوي إليه].
وفي "المستغرب": أن أصله المنزلن وسُمِّي به النكاح؛ لأن من تزوج امرأة بوّأها منزلاً، وأَنَّ الوطء سمي به على طريق التوسُّع.
قال: ولا يجب عليه أن يتزوج؛ لقوله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} فعلقه على اختيار المرء واستطابته، والواجب ليس كذلك، وقال تعالى:{مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3]، وذلك لا يجب أيضاً، وفي "شرح مختصر" الجويني أن بعض الأصحاب، قال: إن خاف الزنى وجب عليه النكاح.
وهو ما حكاه الجرجاني في "المعاياة" في كتاب الحج.
قلت: ويتجه بعضَ اتجاهٍ إذا لم يقدر على التسرِّي، أمَّا إذا قدر على التسري [فلا يتعين] النكاح دافعاً لمفسدة الزنى، ونقل القاضي أبو سعد أن بعض أصحابنا بالعراق ذهب إلى أن النكاح فرض على الكفاية، وأنَّه لو امتنع منه أهل قُطْرٍ أجبروا عليه.
أمَّا إذا لم يجد أهبة النكاح فلا يستحب له أن يتزوج، بل يكسر شهوته بالصوم؛ [للحديث السابق]، فإن لم تنكسر بالصوم لم يكسرها بالكافور وغيره، [ولكن يتزوج].
ثم اعلم أن قول الشيخ: "وهو جائز التصرف"، يخرج من ليس بجائز التصرف من الحَكَمَيْنِ عند الحاجة وعدمها، وهو عند عدم الحاجة ظاهر؛ لأنه لا
يكون مكروهاً في حقه، بل غير جائزٍ؛ لأن الولي إنما يتصرف على وجه النظر والمصلحة، ولا مصلحة [له] في ذلك.
وأمَّا عند الحاجة فلا يطَّرد في كل محجور عليه؛ لأن السفيه يستحب في حقه النكاح في الصور التي يستحب فيها للرشيد، ويجب على الولي إجابته إذا طلب، كذلك العبد إذا خشي على نفسه، ولم تندفع شهوته بالصوم يستحب في حقه، ويجب على المولى إجابته على [رأيٍ]، على ما سيأتي.
قال: "والأولى ألّا يزيد على امرأة واحدة"؛ لقوله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء: 129]، ولأنه يحصل المقصود بها غالباً، وفي "الحاوي" في كتاب النفقات إبداء احتمالٍ لنفسه في أن هذا فيما إذا كانت تكفيه الواحدة، أمَّا من لا يقنع بالواحدة- لقوة شهوته- فالأولى به الزيادة؛ ليكون أغض لطَرْفه.
قال: "وهو مخير"- أي: غير المحجور عليه- بين أن يعقد بنفسه وبين أن يوكِّل من يعقد له؛ لأنه- صلى الله عليه وسلم[قَبِلَ النكاح بنفسه، ووكّل عمرو بن أمية الضَّمْري في قبول نكاح أم حَبِيبة] ووكل في [قبول] نكاح ميمونة.
أمَّا لو وكل العبد أو السفيه من يقبل له النكاح، وجوزنا قبول السفيه بنفسه بإذن وليه-: فإن كان بعد إذن المولى والولي جاز، وإن كان قبل إذنهما لم يجز، قاله في "التهذيب".
وقال ابن كجٍّ: الإذن للسفيه في النكاح [لا يفيد] جواز التوكيل؛ لأنه لم يرفع الحجر إلا عن مباشرته.
تنبيه: يحتاج الموجِب للنكاح إذا كان القابل وكيلاً أن يعين الزوج في الإيجاب، فيقول: زوجت من فلان، ويحتاج الوكيل إلى تعيينه في القبول فيقول: قبلت النكاح لفلان أوله، فلو لم يقل: له، فعلى الوجهين فيما إذا قال الزوج: قبلت، ولم يقل: نكاحها.
قال مجلي: وها هنا أولى بالبطلان؛ لأنه ليس مخاطباً حتى ينعطف قوله: قبلت، على الخطاب، ويكون جواباً، بخلاف الزوج، ولا يحتاج إلى ذكر الوكالة في العقد، لكن الشرط- على ما حكاه المتولي- علم الولي [بها].
فرع: لو قال: زوجت ابنتي منك، فقال: قبلت نكاحها لفلان- لم ينعقد.
وإن قال: قبلت نكاحها، ونوى أن يقبله لموكِّله- وقع العقد للوكيل، ولم ينصرف للموكِّل بالنية.
وفي البيع لو قال: بعت منك، فقال: ابتعت لفلان- لم يصح، على أحد الوجهين في "التهذيب" و"التتمة" كما حكيناه ها هنا.
ولو قال: بعت منك، فقال: اشتريت، ونوى موكِّله- صح، ووقع العقد له.
ولو قال: بعت من فلان، فقال الوكيل: قبلت [له]- لم يصح، على ما حكاه في "التهذيب" هاهنا، وهو ما حكيته في كتاب الوكالة عن الشيخ أبي بكر، وأنه الذي اختاره الإمام، وأن الشيخ أبا محمد حكى فيه وجهين، وأيَّد وجه [الصحة بالنكاح] وفرّق الأصحاب بينه وبين النكاح بوجهين:
أحدهما: أن الزوجين في النكاح بمثابة الثمن والمثمَّن في البيع، بدليل أنَّه يشترط [بقاؤهما لبقاء] العقد، ولابد من تسمية الثمن والمثمن في البيع؛ فلابد من [تسمية الزوجين] في النكاح.
والثاني: أن البيع يَرِدُ على المال، وأنه يقبل النقل من شخصٍ إلى شخصٍ؛ فيجوز [أن يقع] العقد للوكيل، ثم ينتقل إلى الموكِّل، والنكاح يَرِدُ على البُضْع، و [أنه لا] يقبل النقل؛ ولهذا لو قبل النكاحَ وكالةً عن غيره، وأنكر ذلك الغيرُ الوكالةَ- لا يصح النكاح.
ولو اشترى بالوكالة، وأنكر [الموكل] الوكالة- وقع العقد للوكيل.
وهذا كله؛ لأن التزويج يقع من الموكِّل لا من المخاطِب، والبيع يتعلق بالمخاطِب دون من له العقد؛ ولهذا لو قال لوكيله: زوِّجْها من زيد، فقبل النكاح لزيد وكيله [صحّ]، ولو قال: بع من زيد، فباع من وكيل زيد لا يصح.
واعترض الشيخ مجلي على ذلك، فقال: وهذا على إطلاقه لا يصح، بل كان صورة صحّ فيها البيع لزيد- إمَّا بأن نسميه، أو [نقصده]- فإنه يصح، وكل موضع يئول [الأمر] إلى أن يجعل العقد للمشتري ينبغي ألا يصح.
قلت: والوجه حمل ما قاله الأصحاب على ما إذا بدأ وكيل البائع بالإيجاب، فقال: بعت منك، وقال وكيل المشتري: اشتريت لموكلي، وجوزناه، أو قال: اشتريت، ونوى موكله؛ لأن إيجاب وكيل البائع فاسد؛ لأنه لم يأذن [له] في البيع من غير زيدٍ، وقبول وكيل زيد مترتب على إيجاب فاسد؛ [فيكون فاسداً]، وحمل ما قاله مجلي على ما إذا بدأ وكيل المشتري بشِقِّ القبول،
فقال: اشتريت لزيدٍ، فقال وكيل البائع: بعتك؛ إذ لا مانع من الصحة.
قال: "ولا يجوز أن يوكل إلا من يجوز أن يقبل العقد لنفسه؛ لأنه إذا لم يملكه لنفسه ففي حقّ غيره أولى.
تنبيه: قول الشيخ: "يجوز أن يقبل العقد لنفسه":
إن أراد به جواز نكاحه للتي وكل في قبول نكاحها، ورد عليه جواز توكيل أخي المرأة في قبول نكاحها إذا كان الولي الأب، وتوكيل الموسر في قبول نكاح الأمة، كما حكاه الرافعي قبيل كتاب الصداق.
وإن أراد ممن يصح منه أن يتزوج؛ ليحترز به عمن لا يجوز نكاحه كالمحرم وغيره- وَرَدَ عليه أن الكافر الذي يصح منه أن يتزوج لا يصح توكيله في قبول نكاح المسلمة، على ما حكاه ابن الصباغ في كتاب الوكالة، والرافعي قبل كتاب الصداق، على أن الإمام في كتاب الخلع حكى أن المسلم يجوز له أن يوكل الذمي في تزويج المسلمة من مسلم على المذهب الظاهر، وإذا جاز ذلك في الإيجاب ففي القبول أولى.
[وإن أراد] به نوع من وكل في قبول نكاحها [ورد عليه جواز توكيل الموسر في قبول نكاح الأمة].
قال: وإن وكل عبداً فقد قيل: يجوز؛ لأنه صحيح العبارة بدليل صحة قبوله لنفسه بإذن سيده، وإنما الحجر عليه لحق السيد؛ فوجب أن يصح تصرفه فيما لا ضرر على السيد فيه، وقبول النكاح لا ضرر على السيد فيه.
قال: "وقيل: لا يجوز؛ لأنه لا يصح أن يكون وكيلاً في الإيجاب؛ فلا يكون وكيلاً في القبول كالصبي"، واختلف الأصحاب في محل القولين:
فمنهم من قال: محلهما إذا كان بغير إذن السيد، أمَّا إذا أذن السيد فيجوز قولاً واحداً، وإليه أشار في "التهذيب".
ومنهم من قال: محلهما إذا كان بإذن السيد، أمَّا إذا كان بغير إذن السيد فلا يجوز قولاً واحداً، وهو ما حكاه ابن الصباغ في كتاب الوكالة.
ومنهم من أجراهما مع وجود الإذن وعدمه.
وفي "الجيلي": أن منهم من أجراهما في جانب الولي، أمَّا في جانب الزوج فيجوز قولاً واحداً، وأنَّ الأصح الجواز مطلقاً، وكذلك حكاه النووي.
فروع:
يجوز توكيل السفيه بقبول النكاح، وهل يفتقر إلى إذن الولي؟ فيه وجهان، قاله البغوي.
وهذا منه تفريع على أن السفيه يصح أن يقبل لنفسه بإذن وليه.
الفاسق يجوز أن يقبل النكاح لنفسه على الأصح، وفيه وجه حكاه الرافعي عند الكلام في ولاية الفاسق: أنّه لا يجوز أن يقبل لنفسه؛ بناءً على أنّه لا يكون وليّاً، والمشهور الأول، وهل يجوز أن يقبل لغيره؟ قال في "التهذيب": يجوز.
وقد حكيت في باب الوكالة عن المحاملي وغيره أنه لا يجوز، وهو ما حكاه ابن يونس.
ثم لو قال للوكيل: اقبل لي نكاح أي امرأة شئت، ففي صحة ذلك وجهان حكيتهما في باب الوكالة.
قال: "والمستحب ألا يتزوج إلا من يجمع الدين والعقل":
أمَّا اعتبار الدين؛ فلما روى [مسلم] أنه- صلى الله عليه وسلم قال: "تنكح المرأة لأربع: لِمَالِهَا، وَلِجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، وَلِحَسَبِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ" أي: افتقرت إن خالفت أمري في ذلك؛ لأن "ترب" بمعنى: افتقر، و"أترب" بمعنى: استغنى.
وقيل: إنه- عليه السلام تكلم به على عادة العرب على طريق الدعاء.
ونقل الجيلي عن بعضهم أن "تربت يداك" أي: استغنت يداك، وأنه جعل "ترب" و"أترب" بمعنىً واحدٍ.
وأمَّا اعتبار العقل؛ فلأن القصد بالنكاح طول العشرة وطيب العيش، ولا يكمل ذلك إلا مع العاقلة؛ ولهذا المعنى استحب- أيضاً- أن تكون جميلة، وليس استحباب ذلك مأخوذاً من الحديث السابق؛ لأنه- عليه السلام أخبر أن الواقع في الوجود جريان النكاح للأمور الأربعة، وحثّ على مراعاة وصف الدين؛ فلا يكون ذِكْره لما عداه دليلاً على استحباب ذلك.
ويستحب مع ما ذكرناه أن تكون [حسيبة، وأن تكون] بكراً إذا لم يكن به عذر؛ لأن الأبكار أعذب أفواهاً، وأنتق أرحاماً، وأرضى باليسير، ومعنى:"أنتق أرحاماً" أي: أكثر أولاداً. قاله القتبي.
وأن تكون ولوداً، وأن تكون غير قريبةٍ؛ كي لا يخلق الولد ضاوياً، أي: ضعيفاً؛ لأن شهوته لا تتم على قريبته.
وقال ابن الصباغ قبل باب الاختلاف في المهر من كتاب الصداق: لأن الولد يكون الغالب عليه الحمق.
وقد وردت الأخبار دالَّة على جميع ما ذكرناه.
فائدة: يستحب لمن رغب في نكاح امرأة أن ينظر إليها [مكرّراً؛ ليتأملها، بإذنها وبغير إذنها]؛ لما روى عن المغيرة بن شعبة أنه خطب امرأة، فقال له- عليه السلام:"انْظُرْ إِلَيْهَا فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا"، أي: يجعل بينكما المودة والألفة.
وحكى الإمام وجهاً: أنه مباح مجرد، فإن لم يتيسر النظر إليها بعث إليها امرأة تتأملها وتصفها له، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم الذي يباح النظر إليه منها الوجه والكفان ظهراً وبطناً (أ) مع خوف الفتنة ودونها.
وحكى الحناطي في جواز النظر إلى المفصل الذي بين الكف والمعصم وجهين.
وفي "شرح" الجويني وجه: أنهي نظر إليها نظر الرجل إلى الرجل.
وأمَّا وقت النظر فبعد العزم على نكاحها وقبل الخطبة، وفيه وجهان آخران:
أحدهما: ينظر إليها حين تأذن في عقد النكاح.
والثاني: عند ركون أحدهما إلى صاحبه، وذلك حين تحرم الخِطْبة على الخطبة.
قال: "فإن لم يكن جائز التصرف، فإن كان صغيراً، ورأى الأب أو الجد"- أي: أب الأب- عند عدم الأب تزويجَهُ، زوجه؛ لأن ابن عمر- رضي الله عنه زوج ابناً له صغيراً، ولأنّ فيه حظّاً له، وهو أن يألف حفظ الفرج حين بلوغه، ولأنه لمَّا كان لهما ولاية تزويج الصغيرة، مع أنها تبقى في قهر الزوج أبداً- فَلَأَنْ يكون لهما تزويج الصغير مع تمكنه من الخلاص بالطلاق عند البلوغ أولى، وهل يجب [ذلك؟ أبدى] الإمام فيه تردداً، وكذلك في وجوب تزويج الصغيرة عند ظهور الغبطة، وهو في الصغير أظهر.
وهل له أن يزوجه بأكثر من امرأة [واحدة]؟ فيه طريقان:
أحدهما: أنه على قولين، وقيل: وجهين.
والطريق الثاني: أنه يجوز قولاً واحداً، وهو المنصوص، هكذا حكاه مجلي. ثم كيفية القبول له والإيجاب كما ذكرناه في الوكيل.
فرع: لو كان الصغير ممسوحاً، حكى الرافعي عن الشيخ أبي محمد: أنه خرّج جواز إنكاحه على وجهين.
قال: "وإن كان مجنوناً"، [أي: كبيراً]، فإن كان يفيق في وقت لم يزوج إلا بإذنه؛ لأن له حالة استئذان، فلا يجوز تفويتها عليه؛ كالعاقل، وفي قول الشيخ:"لم يزوج [إلا بإذنه"، فائدتان:
إحداهما: عدم ثبوت الولاية عليه في التزويج.
والثانية: أنه لو أذن، ثم جُنَّ قبل التزويج- بطل الإذن؛ فلا يزوج] إلا بإذن جديد؛ لأن الإذن يبطل بالجنون كما تقدّم في الوكالة، وقد صرح بذلك صاحب "التهذيب"، وحكى في "الذخائر" وجهين آخرين:
أحدهما: أنه يزوجه وليه عند الحاجة في زمن جنونه وفي زمن إفاقته بغير إذنه، ويجعل كالمُطْبِق.
والثاني: إن كان زمن إفاقته أقل زوَّجه، وإن كان أكثر لم يزوجه.
ثم على هذا: لو كانا متساويين فمنهم من يقول: يجوز، ومنهم من يقول: لا.
قال: وإن كان لا يفيق- أي: وقد بلغ مجنوناً- وهو محتاج إلى النكاح- زوَّجه الأب أو الجد، أو الحاكم- أي: عند عدمهما- وجوباً عليهم عند مسيس الحاجة؛ لأن [في] ذلك رعاية لمصلحته، وحفظاً لدينه، وهل يحتاج الحاكم إلى مشورة الأقارب؟ فيه وجهان حكاهما البغوي.
وقيل: لا يزوجه إلا الحاكم؛ كما في البنت البالغة المجنونة، حكاه مجلي.
ثم الحاجة تقع من وجهين:
أحدهما: أن تظهر رغبته في النساء؛ بأن يحوم حولهن، ويتعلق بهن، وما أشبه ذلك.
والثاني: أن يحتاج إلى امرأة تتعهَّدُه وتخدمه، ولا يوجد في محارمه من تقوم
بهذا الشغل، وتكون مؤنة النكاح أخفّ من مؤنة شراء أمة ومؤنتها، كذا حكاه البغوي وآخرون.
قال الرافعي: ولك أن تقول: إذا لم يجب على الزوجة خدمة الزوجة وتعهُّدُه، فكيف تزوج منه بهذا الغرض؟! وربما تمتنع [المرأة] وإن تَخَلفَ، ولا تفي إن وعدت، وربما يلتحق بالوجهين ما إذا تُوُقِّعَ شفاؤه.
أمَّا إذا بلغ عاقلاً ثم جُنّ، فهل يزوجه الأب أو الجد، أو الحاكم؟ ينبني على عود الولاية إلى الأب، إن قلنا: تعود، زوجه الأب أو الجد، وإلا زوّجه الحاكم، كذا حكاه مجلي والمتولي.
وأمَّا المجنون الصغير ففي وجهٍ: يُزَوَّج منه كما يزوج من البالغ، وعلى هذا فلا يتولاه [إلا] الأب والجد، والمذهب الظاهر منع التزويج منه؛ لأنه لا حاجة إليه في الحال، وبعد البلوغ لا يُدْرَى كيف يكون الأمر، بخلاف الصغير العاقل؛ فإن الظاهر حاجته إلى النكاح بعد البلوغ، ولا مجال لحاجة التعهد والخدمة؛ فإن الأجنبيات يجوز أن يقدمْنَ [على خدمته]، وفي "الذخائر" طريقان آخران:
أحدهما: ذكر وجهين.
والثاني: أنه يجوز قولاً واحداً.
ومتى جاز التزويج من المجنون فلا يُزَوَّجُ إلا امرأةً واحدة.
قال: وإن كان سفيهاً- أي: محجوراً عليه- وهو محتاج إلى النكاح، زوجه الأب أو الجد، أو الحاكم، كما سبق في المجنون، وهذا إذا بلغ سفيهاً، أمَّا إذا بلغ رشيداً، ثم أُعيد الحجر عليه- فأمر نكاحه متعلق بالسلطان.
وذكر أبو الفرج الزَّارُ فيما إذا بلغ سفيهاً هل يزوجه الأب والجد أو السلطان- وجهين.
وأطلق ابن كجٍّ: أنه يزوجه الحاكم، وأنه إن جعله في حجر إنسان زوجه الذي في حجره.
وقالا لإمام: إن فوض إلى القيِّم التزويج زوج، وإلا فلا.
وهل يعتبر إذن السفيه؟ قال العراقيون: لا يعتبر عند ظهور حاجته، كما في شراء الطعام له.
وقال الخراسانيون: الصحيح أنه يعتبر؛ لأنه حرٌّ مكلف، والعبد لا يملك السيد إجباره على الصحيح، فكيف الحر المكلف؟! قاله المتولي.
ومعنى الحاجة: أن تكون به شهوة أو يحتاج إلى من يخدمه، ولم توجد ذات رحم محرم، وكانت [مؤنة] الزوجة اخف من ثمن جارية ومؤنتها، وقد تقدّم السؤال على ذلك.
قال المتولي والبغوي: ولا نكتفي بقوله: إنه محتاج، حتى يعرف ذلك بطبعه؛ لأنه قدي ريد [به] إفساد المال.
واكتفى الإمام والغزالي بقوله؛ لأنه أعرف بدواعيه.
ولو لم يكن به حاجة لم يزوج للمصلحة، وروى الإمام وجهاً: أنه يجوز التزويج منه بالمصلحة كالصبي؛ لأن العاقل لا يبعد أن تحنِّكه التجارب، بخلاف المجنون.
وهل يزوج بأكثر من [امرأة] واحدة؟ فيه طريقان:
أحدهما: أنه لا يجوز قولاً واحداً، وهو ما حكاه صاحب "التهذيب" و ["التتمة"].
والثاني- قال في "الذخائر": وهو الصحيح-: أنه على قولين كالصبي، والله أعلم.
قال: "فإن أذنوا له، فعقد بنفسه جاز"؛ لأنه مكلف صحيح العبارة، والنكاح غير مقصود بالحجر عليه، وإنما منع من التزويج [بغير الإذن] صيانة لماله؛ لأنه يفتقر إلى مُؤَن مالية، فلا يؤمن الإسهاب فيها، فإذا أذن له الولي زال المانع، كالعبد إذا أذن له السيد، وفيه وجه: أنَّه لا يجوز كالصبي.
وعلى المذهب فلابد أن يُعيّن له امرأة بعينها، أو نوعاً بأن يقول: تزوج من بني فلان، أو إحدى بنات زيدٍ، أو يقدر المهر.
وفي "الحلية" للشاشي حكاية وجهٍ: أن تعيين المرأة لابدّ منه، فلو أطلق الإذن فطريقان:
أحدهما: القطع بأنه يلغو.
والطريق الثاني: أن فيه وجهين، اصحهما- وبه قال ابن القطان-: أنه يكفي، ولا حاجة إلى التقييد؛ كما لو أذن السيد لعبده في النكاح، فإنه يكفي الإطلاق.
وفرق القائل الأول بينه وبين العبد: أن الشريفة تمتنع من نكاح العبد؛ فيؤمن المحذور، وهو كثرة المهر، بخلاف السفيه.
فرع: لو قال: انكِح من شئت بما شئت، قال بعضهم: إنه يبطل الإذن؛ لأنه رفع [للحجر] بالكلية، وإذا عين له امرأة لم يجز له نكاح غيرها، ولينكحها بمهر مثلها أو دونه، فإن زاد ففيه كلام يأتي في كتاب الصداق.
وفيه وجه: أنه يجوز [له] أن ينكح غيرها بمهر مثل المعينة أو دونه، إذا جوّزنا الإذن المطلق.
ولو قال: أنكِح [واحدة] من بني فلان، كان له أن ينكح واحدة منهن بمهر المثل.
ولو قدّر المهر، فقال: أنكح بألفٍ، ولم يعين امرأةً، فنكح امرأة بألفٍ، وهو مهر مثلها أو أقل- صح بالمسمّى، وإن كان أكثر صحب مهر المثل، وسقطت الزيادة.
وإن نكح بألفين: فإن كان مهر مثلها أكثر من ألف لم يصح النكاح، وإن كان ألفاً أو أقل صح على المذهب بمهر المثل، وسقطت الزيادة.
ولو قال: تزوج بألف ولا تزد، فنكح بألفين- قال مجلي: حكى الغزالي عن أبي المعالي: أنه لا يصح النكاح، وقال الغزالي: هذا لا يخلو عن إشكالٍ.
ولو جمع بين تعيين المرأة وتقدير المهر، فقال: أنكِح فلانة بألفٍ-: فإن كان مهر مثلها دون الألف فالإذن باطل، وإن كان ألفاً: فإن نكحها بألف أو بأقل صح النكاح بالمسمى، وإن زاد صح على المذهب بمهر المثل، وسقطت الزيادة، وإن كان مهر مثلها أكثر من ألف: فإن نكح بألف صح المسمّى، وإن زاد لم يصح النكاح، قاله في "التهذيب".
ولو أطلق الإذن، وجوزناه، فتزوج بأكثر من مهر المثل- صح النكاح، وسقطت الزيادة.
وإذا تزوج بمهر المثل أو أقلّ صح بالمسمّى. نعم، لو نكح شريفة يستغرق
مهرها ماله فوجهان، اختيار الإمام منهما: المنع، وانه لا يصح نكاحه إلا إذا وافق المصلحة.
فروع:
إذا التمس السفيه النكاح مع ظهور أمارة الحاجة إن اعتبرناه، أو دونه إن لم نعتبره- فعلى الولي الإجابة كشراء الطعام والشراب.
قال مجلي: وقد ذكر الغزالي أنه نقل عن الشافعي- رضي الله عنه أنه قال: "إذا دعا للنكاح لا يزوجه الولي"، ثم قال:"وهذا محمول على ما إذا كان الولي غير الأب والجد"، [أي]: من وصي أو قيم، ثم قال: وهذا فيه نظرٌ؛ لأن الولاية على السفيه- إذا بلغ سفيهاً- تكون للأب والجد والوصي من جهتهما، [والحاكم]، وكل واحد من هؤلاء إذا ثبتت ولايته، له التزويج، لا نعلم فيه خلافاً على المذهب؛ فالوجه- إن صح النقل- حمله على ما إذا لم يكن به حاجة إلى النكاح، وعلى المذهب لو امتنع من تزويجه]، فتزوج بنفسه- أطلق الأصحاب فيه وجهين: أصحهما عند المتولي: أنه لا يصح، واستدرك الإمام وتابعه الغزالي فقالا: إذا امتنع فيراجع السلطان، فإن خفت الحاجة وتعذرت مراجعة السلطان، فحينئذ في استقلال السفيه الوجهان، ولو تزوج من غير مراجعة الولي لم يصح.
وقال الجيلي: [على الأصح]. وذلك يدل على ذكر خلاف فيه، ولم أره في غيره.
فلو دخل بها فلا حدّ، ولا يجب المهر على الأصح، سواء كانت عالمة أو لم تكن؛ لأنها مفرِّطة بعدم البحث؛ كمن باع من مفلس.
وقيل: يجب؛ لأنه أتلف البضع.
قال مجلي: والوجهان مبنيان [على القولين فيما إذا أذن الراهن للمرتهن في وطء الجارية المرهونة، فوطئ] على ظن الحلّ.
قال المتولي: هما مبنيان على العبد إذا نكح بغير إذن سيده ووطئ، وفيه قولان: فإن قلنا: يتعلق برقبة العبد، فقد جعلناه جنايةً؛ فيلزم في مال السفيه، وإن قلنا: يتعلق بذمة العبد، فالمذهب: أنه لا يلزمه شيء؛ لأنّا جعلناه دَيْناً بالرضا، ودين الرضا لا يثبت في حقّ السفيه.
فإن قلنا: لا يجب المهر في الحال، قال مجلي:"فهل يجب إذا فك الحجر عنه؟ فيه وجهان، فإن قلنا: يجب، فماذا يجب"؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجب مهر المثل.
والثاني: يجب أقل ما يستباح به البضع؛ ليقع التمييز بينه وبين السفاح، قاله في "التهذيب".
وقال مجلي بدل هذا الوجه: [يجب] أقل ما يُتموَّل في العادة.
[قال الغزالي: وفيه إشكال، ولكن أقرب ضابط: [ما له نفع] محسوس في العادة]، ولا يعد مشتريه سفيهاً.
ووجه إشكاله: أن الحبة الواحدة لا تتمول في العادة، ولا يصح إفرادها بالعقد، ويعد مشتريها سفيهاً، ولكن لو أتلفها متلف ضمنها، على المشهور من المذهب.
ولو اشترى صخرةً على رأس جبلٍ، أو جرّة من ماء على بحر- صح العقد، وإن كان سفيهاً.
هذا آخر كلامه، وما قاله من أنه لو أتلفها متلف ضمنها على الشهور، غير مسلَّم؛ فإن المشهور: أنه لا يضمنها.
ولو أقرّ السفيه بالنكاح لم يقبل؛ لأنه ليس ممن [يباشر] بنفسه، قاله البغوي.
وهذا يشكل بإقرار المرأة، وما فيه من التفصيل والخلاف، وسنذكره إن شاء الله تعالى.
قال: وإن [كان يكثر] الطلاق سُرى بجاريةٍ، هكذا يوجد في أكثر النسخ، وحكى النووي: أن الذي ضبطه عن نسخة المصنف: [سُرِّي جاريةً، وهو الصواب، وأنه ضبط عن نسخةٍ للمصنف]: كثير الطلاق، وأن ما ذكرناه مع ما ذكره صحيحان.
و"سُرِّي": بضم السين، وهي مشتقة مِمَّاذا؟ سيأتي الكلام فيه في كتاب الأيمان.
وإنما قلنا: إنه يُسَرَّى جاريةً؛ لأنه أصلح له؛ إذ لا ينفذ إعتاقه، فلو تبرم بها أبدلت [له]. قاله الرافعي في كتاب الحجر.
ومعنى كثرة الطلاق: أن يزوجه ثلاث نسوةٍ على التدريج فيطلقهن، كذا حكاه القاضي الحسين في "التعليق" في باب ما يجوز للوصي أن يفعله في مال اليتيم من كتاب الوصية.
وحكى البندنيجي وصاحب "البحر" في هذا الموضع ما يخالف ذلك:
أمَّا البندنيجي فإنه قال: إذا زوجه واحدة فطلقها، ثم أخرى فطلقها- سرَّاه جاريةً.
وأمَّا صاحب "البحر" فإنه حكى وجهين:
أحدهما: أن يطلق ثلاث مرات.
والثاني: أن يطلق مرتين.
فإن أراد بذلك نفس الطلاق كان مخالفاً لما قالاه، وإن أراد به المطلقات، فهو راجع إلى ما حكيناه، والله أعلم.
قال: "وإن كان [عبداً] صغيراً زوجه المولى"؛ لأنه ليس أهلاً للتصرف فقام مقامه، كما يقوم مقام ولده الصغير.
وقيل: فيه قولان؛ كالبائع، وهذا ما رجحه النووي، وحكم المجنون حكم
الصغير، ذكره المتولي والبغوي.
فرع: لو كان للمرة عبد صغير، فأذنت في تزويجه، فيزوجه من يزوجها، أو من أذنت له [في التزويج]؟ فيه وجهان منقولان في "الذخائر".
قال: "وإن كان كبيراً تزوج بإذن المولى" أي: سواء كان المولى رجلاً أو امرأة، مسلماً أو كافراً، على ما حكاه الإمام؛ لقوله- صلى الله عليه وسلم:"أَيُّمَا مَمْلُوكٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إِذْنِ مَوْلَاهُ فَنِكَاحُهُ بَاطِلٌ"، ويروي:"فَهُوَ عَاهِرٌ"، قال الترمذي وهو حسنٌ.
و"المولى" ينظم: الرجل والمرأة، والمسلم والكافر؛ فدلّ الحديث بمنطوقه على عدم الصحة عند عدم الإذن، وبمفهومه على الصحة عند وجود الإذن.
[و] لأن عبارته صحيحة، وإنما الغرض تحصيل رضا السيد؛ لأن حقوق النكاح تتعلق بمنفعته ورقبته، ومنفعته ملك للسيد؛ ولذلك يصح إذن المرأة لعبدها في التزويج، وإن لم يكن لها عبارة في النكاح.
وقيل: إذا كان لامرأة لا يصح نكاحه إلا بإذن وليها.
ويجوز أن يكون الإذن مقيّداً [بامرأة] بعينها، أو بواحدة من القبيلة أو البلد، ويجوز أن يكون مطلقاً، وإذا قيد فعدل العبد عن النكاح المأذون فيه لم يصح.
وحكى الحنطي وجهاً: أنّه لو كان قد نصّ على المهر، فنكح غير المعينة بذلك المهر أو أقل- صحّ النكاح.
وهذا الوجه مثل الوجه المحكى عن ابن كجّ في الإذن للسفيه، وقد تقدم، وإذا أطلق الإذن فله نكاح حرّة أو أمة في تلك البلد أو غيرها، لكن للسيد منعه
من الخروج إلى تلك البلد.
فرعان:
أحدهما: لو رجع عن الإذن، ولم يعلم العبد به حتى نكح فهو على الخلاف في عزل الوكيل.
الثاني: لو طلق العبد [بعد] ما نكح بإذن السيّد، لم ينكح أخرى إلا بإذنٍ جديد، ولو نكح نكاحاً فاسداً فهل له أن ينكح أخرى؟ فيه خلاف مبني على أن الإذن [هل] يتناول الفاسد أم [لا، و] يختص بالصحيح؟ وهذا أصل سيأتي في الصداق إن شاء الله تعالى.
قال: وهل للمولى- أي: الموافق له في الدين- أن يجبره على النكاح؟ فيه قولان:
أحدهما- وهو القديم-: نعم؛ لأنه مملوك له يملك بيعه وإجارته، فملك تزويجه بغير رضاه كالأمة.
والجديد: المنع؛ لأنه يملك رفع النكاح بالطلاق، فكيف يجبر على ما يملك رفعه؟!
وأيضاً: فإن النكاح يُلزِم ذمّة العبد مالاً فلا يجبر عليه كالكتابة، ويخالف الأمة؛ فإنه يملك منفعة بضعها، فيورد العقد على ما يملكه، وهاهنا [مُسْتَمْتَعُهُ] ليس ملكاً له.
أمَّا إذا كان العبد مسلماً والمولى كافراً، فهل له إجباره؛ إذا رأينا للمسلم إجبار العبد [المسلم]؟ فيه الوجهان الآتي ذكرهما فيما لو كان السيد مسلماً، وله أمة كافرة، هل يملك تزويجها على ما حكاه الإمام؟
ومعنى الإجبار: أن يقبل لعبده البالغ النكاح بغير إذنه، أو يكرهه على القبول، ويصح؛ لأنه غير مبطل [في الإكراه]، قاله في "التهذيب"، وقال في "التتمة": قبول بالقهر لا يصح.
فرع: حيث قلنا: للسيد إجبار العبد، فلو أقر على العبد بالنكاح قبل منه، كما
في [حق] ابنته، قاله المتولي والبغوي.
قال: "وإن طلب العبد النكاح، فهل يجبر المولى عليه؟ فيه قولان:"
أصحهما: أنّه لا يجبر؛ لأنه يشوِّش عليه مقاصد الملك وفوائده، فلا يجبر عليه كنكاح الأمة.
والثاني: يجبر على إنكاحه؛ لأنه مكلف دَعَا إلى نكاحه لحاجته، فكان على وليه إنكاحه كالمحجور عليه بالسفه، ولأن المنع من ذلك يوقعه في الفجور.
فعلى هذا: الحكمُ فيما إذا امتنع السيد كالحكم في السفيه إذا دعا إلى النكاح وامتنع الولي، وحكى الوزير ابن هبيرة في كتابه الذي حكى فيه ما أجمع عليه الأئمة الأربعة، وما اختلفوا [فيه]: أن على قول الإجبار يجبر على أن يزوجه أو يبيعه. وهو حسنٌ.
وقد بنى بعضهم الخلاف في وجوب إجبار [السيد على الخلاف في وجوب إجبار] العبد: إن أجبر العبد لم تجب الإجابة، وإلَّا وجبت، [وعكس ذلك أبو الفرج السرخسي فقال: إن أوجبنا على السيد الإجابة إذا طلب العبد لم يجبر العبد، وإلا أُجبر كالأمة.
وأشار بعضهم إلى تخصيص الخلاف في وجوب الإجابة على السيد، [بقولنا: إن السيد] لا يجبر عبده على النكاح، أمَّا إذا أجبره فيبعد أن يقال: إن العبد أيضاً يجبر السيد.
قال الرافعي: والأصح ترك البناء من الطرفين.
وحكم المدبَّر والمعلق عتقه بصفةٍ حكم القن، ومن بعضه حرٌّ وبعضه رقيق لا يجبر على النكاح، ولا يستقل به، وهل يجاب إذا طلب؟ فيه الخلاف المذكور في القن. والمكاتب لا يستقل بالنكاح، ولا يجبره السيد، لخروجه عن تصرفه، [ولو نكح بإذن السيد فطريقان:
أحدهما: أنّه على الخلاف في تبرعاته بإذن السيد.
وأصحهما: القطع بالصحة، وهو ما حكاه الشيخ في باب الكتابة؛ لأن حقوق النكاح وإن تعلقت بكسبه فلها عوض ينتفع به؛ فصار كالطعام يشتريه
فيأكله]، وعلى هذا: فلو طلب من السيد، فوجوب الإجابة مخرَّج على الخلاف في القن، وأولى بأن يجب؛ لأنه لا يتضرر بنكاحه؛ لانقطاع حقه عن أكسابه في الحال، والعبد المشترك هل لسيده إجباره؟ وهل على سيده إجابته؟ فيه الخلاف المذكور في الطرفين.
ولو دعاه أحدهما إلى النكاح، وامتنع الآخر والعبد، فلا إجبار، ولو طلب أحدهما مع العبد وامتنع الآخر، فمن قال: يجبر- إذا كان كاملاً له- فها هنا أولى، ومن قال: لا يجبر، ثمَّ، فها هنا وجهان كالمكاتب.
هكذا ذكره صاحب "العُدَّة"، وحكاه ابن الصباغ عن الشيخ أبي حامدٍ، ثم قال: وهذا بعيد؛ لأنه يملك نصفه ملكاً تامّاً، بخلاف المكاتب، وأيضاً يبطل بمن نصفه حرٌّ إذا طلب النكاح؛ فإن الحرية فيه أكثر من موافقة الآخر.
فرع: عبد الصبي والمجنون والسفيه [لا] يجبره وليه، وفيه وجه: أنه يجوز؛ لأن المصلحة قد تقتضيه، ولو طلب العبد التزويج فحكمه مع الولي كالحكم مع السيد.
واعلم أن من جملة المحجور عليهم المفلس، ونكاحه صحيح؛ لأنه ليس عليه في النكاح حجرٌ، ولكن لا تعطى الزوجةُ مُؤَنَ النكاح مما في يده؛ لأن حقّ الغرماء قد تعلق به فصار كالمرهون في يد المرتهن، وإنما لم يذكره الشيخ؛ لأنه تكلم [ها هنا] في المحجور عليه الذي [لا] يستقل بالنكاح، لا في مطلق المحجور عليهم، وبهذا يقع الجواب عمن عداه من المحجور عليهم، [والله أعلم].
فصل: ومن جاز لها النكاح من النساء، فإن كانت لا تحتاج [إليه] كره لها أن تتزوج؛ لما ذكرناه في حق الرجل؛ لأنها تتقيد بالزوج، وتشتغل عن العبادة.
قال: "وإن كانت محتاجة إليه"- استحب لها أن تتزوج؛ لما ذكرناه من حيث إن فيه تحصين الدين، وصيانة [الفرج]، والترفُّه عن النفقة وغيرها.
قال: "وإن كانت حرَّةً"- أي: وهي مكلفة- ودعت إلى كفءٍ- وجب على
الولي تزويجها، أي: سواء كانت بكراً أو ثيباً، بمهر المثل أو دونه؛ لقوله تعالى:{فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232]، والعضل هو المنع، وهو يزول بالتزويج، ولقوله صلى الله عليه وسلم لعلي- كرم الله وجهه-:"ثَلَاثٌ لَا تُؤَخِّرْهَا: الصَّلَاة إِذَا دَخَلَ وَقْتُهَا، وَالْجِنَازَة إِذَا حَضَرَتْ، وَالأَيِّم إِذَا وَجَدَتْ كُفْئاً"، وفيه وجه: أنها إذا كانت بكراً لا يجب على الولي الإجابة، ولا يأثم بالامتناع؛ لأن الغرض يحصل بتزويج السلطان، ولأنها [مجبرة] من جهة الأب والجد، فكيف [نجبرهما][على النكاح]؟! هكذا حكاه الرافعي، وحكاه الجيلي على الإطلاق من غير فرق بين البكر والثيب.
فرعان:
أحدهما: البكر إذا عيَّنت كفئاً، وأراد الأب تزويجها من كفءٍ آخر- فأظهر الوجهين: أنه لا يجب تزويجها ممن عينته، وهو ما حكاه في "التهذيب"، وفي كلام الشيخ إشارة إليه حيث قال:"وجب على الولي تزويجها"، [ولم يقل: تزويجها] منه.
الثاني: لو التمست الصغيرة التزويج في أوان إمكان الشهوة، ففي وجوبه وجهان.
قال: "وإن كانت بكراً جاز للأب والجد تزويجها" أي: من كفءٍ بغير إذنها، صغيرة كانت أو كبيرة، بمهر المثل؛ لما روى أنه صلى الله عليه وسلم قال:"الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا، وَالْبِكْرُ يُزَوِّجُهَا أَبُوهَا"، والبكر هي العذراء الباقية على حالتها الأولى، وصاحبة
البكارة، والجمع: أبكار، والمصدر: البَكَارة، بالفتح.
ثم ما ذكرناه فيما إذا لم يكن بين الأب وبينها عداوة ظاهرة، أمَّا إذا كانت فقد قال ابن كجّ في كتابه: ليس له إجبارها على النكاح.
هكذا نقله الحناطي عن ابن المرزبان، ثم قال: ويحتمل جوازه.
وحكى الحناطي فيه وجهين.
وحكى قولاً: أن الجد لا يجبر البكر البالغة كالأخ.
ووجه ظاهر المذهب: أنَّ له ولاية [عصوبة]؛ فأشبه الأب، وأيضاً: فإنه كالأب في ولاية المال، ووجوب النفقة، وحصول العتق؛ فكذلك هاهنا.
فروع:
إذا طلب البكرَ كفئان أحدهما أكفأ، فهل [يجوز] له تزويجها من الآخر؟ الذي حكاه الإمام في أوائل كتاب الصداق: أنه لو زوجها منه صحّ، وهذا يدل على جوازه.
إذا طلب البكرَ كفء غلب على الظن أن تزويجها منه موافق لأقصى
الغِبْطة، [فهل يجب؟] قال الإمام في كتاب الصداق: لا يبعد أن يجب، ولا يبعد [ألا يجب] إن رأى الأب تأخير التزويج لتعلُّقه بالجِبِلَّة، ولكن الأظهر فيه الإعفاف والإتباع. إذا أقرّ الأب أو الجد بالنكاح حيث يملك الإجبار، فإقراره مقبول؛ لقدرته على الإنشاء.
وحكى أبو عبد الله الحناطي وجهاً: أنه لا يقبل حتى تساعده البالغة، وهذا بعيدٌ؛ فإن [من] القواعد المطردة المنعكسة على ما حكاه الإمام في كتاب الإقرار، وفي باب ما على الأولياء، من كتاب النكاح-:"أنَّ مَنْ قدر على الإنشاء، قدر على الإقرار، ومن لا فلا"، ولا يستثنى من هذه القاعدة إلا مسائل:
إحداها: الوكيل بالبيع وقبض الثمن إذا أقرّ بذلك، وكذَّبه الموكِّل- لا يقبل قول الوكيل، وإن كان قادراً على الإنشاء.
الثانية: إذا أقرّ الزوج بالرجعة في زمن العدة، لا يقبل منه على وجهٍ، وإن كان قادراً على الإنشاء.
الثالثة: الشخص يقر على نفسه بالرق فيقبل، ولا يقدر على أن يرق نفسه، قالها الإمام في كتاب الإقرار.
الرابعة- قالها أيضاً فيه-: العبد المأذون إذا أقرّ بعد الحجر عليه يقبل على وجهٍ، وإن لم يقدر على الإنشاء.
الخامسة: المرأة إذا أقرت بالنكاح، وصدقها الزوج- قبل منها على الجديد، وإن كانت لا تملك الإنشاء، وعلى القديم: يقبل إذا كانا غريبين، وإلا فيطالبان بالبينة.
ثم حيث تكلمنا في هذا الفرع فلنتعرض لما قاله الأصحاب فيه؛ تفريعاً على الجديد، فنقول: هل يكفي إطلاق الإقرار أم لابد من التفصيل كما في الدعوى على رأي؟ فيه وجهان، والأصح: الثاني.
ثم إذا كذبها الولي فهل يعمل بإقرارها؟ فيه وجهان:].
أحدهما- ويحكى عن القفال-: لا.
وأظهرهما- وبه أجاب [الشيخ في "المهذب"] وابن الحداد والشيخ أبو عليِّ-: نعم.
ويعضده ما قاله الإمام في [آخر]"النهاية" فيما إذا [حلف الأب] على
عدم التزويج [بعد الدعوى عليه]: أنها إذا أقرّت قُبِل إقرارها على الصحيح.
وعن القاضي الحسين [الفرق] بين العفيفة والفاسقة.
ويجرى هذا الخلاف فيما إذا عينت شهوداً وكذبوها.
وعلى الأول: لو كان الأب غائباً حين الإقرار لم ينتظر حضوره، بل تسلم للزوج في الحال للضرورة، فإن عاد وكذب فيحال بينهما، أو يستدام ما سبق؟ فيه وجهان:[فرجح] في "الوسيط" الأول، و [رجح] غيره الثاني، وإذا فرعنا على القديم، فأقرّا في الغربة، ثم رجعا إلى الوطن، فهل يحال بينهما؟ فيه هذا الخلاف.
فرع: على القول بقبول إقرارها وإن كذبها الولي، إذا أقرّ الولي المجبر لشخص، وأقرّت هي لآخر؟ فالمقبول [إقراره أو] إقرارها؟
حكى [أبو العباس] العبادي فيه وجهين عن الحليمي عن القفال الشاي والأودي.
وحكى الإمام قبل كتاب الصداق بست في ضمن فرع [أوله]: "إذا زوج الرجل إحدى بنتيه [ومات]
…
"- تردداً ظاهراً عن الأصحاب في قبول إقرار البكر، ومعها من يجبرها.
قال: ويظهر في وجه القياس ألّا يقبل إقرارها، ومن أصحابنا من قال: يقبل إقرارها إذا استقلت بالنكاح، وفي تفريع هذا عُسْرٌ؛ فإنها لو أقرّت بأنها زوجة فلانٍ، [و] أقرّ الأب بأنه زوّجها من غيره، فإذا فرعنا على قبول إقرارها فكيف نقول؟! وما الوجه؟! يجوز أن يقال: الحكم للإقرار السابق، ويجوز أن يحكم ببطلان الإقرارين إذا اجتمعا، ولو رددنا إقرارها، لتخلصنا من هذا الخبط؛ فتحصلنا على أربعة احتمالات.
قال: والمستحب أن يستأذنها إن كانت بالغة، وإذنها السكوت؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"وَالْبِكْرُ تُسْتَامَرُ فِي نَفْسِهَا، وَإِذْنُهَا] صُمَاتُهَا"، ولا يجعل إذناً فيما يرجع إلى
التزويج بدون مهر المثل، وهل يصح العقد به إذا كان الزوج غير كفءٍ؟ قال ابن يونس: لا يصح.
وحكى المتولي فيه وجهين، وأن الصحيح من المذهب: الصحة؛ للحديث.
وإن زوجها غير الأب والجد فلابدّ من رضاها وإذنها بعد البلوغ [؛لقوله- عليه السلام: "لَا تَنْكِحُوا الْيَتَامَى حَتَّى تَسْتَامِرُوهُنَّ"، والأمر إنما يكون بعد البلوغ،] وهل يشترط صريح النطق، أم نكتفي بالسكوت؟ فيه وجهان:
أصحهما: أنه يكفي السكوت؛ للحديث [السابق]، [و] جعله الإمام أظهر على ما حكاه في باب الإحصان من كتاب النكاح.
وفيه وجهٌ: أنه لا حاجة إلى الاستئذان، بل لو جرى التزويج بين يديها ولم تنكر [كان ذلك] رضاً، كما إذا جرى [فِعْلٌ] بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكره، وإذا اكتفينا بالسكوت فيحصل الغرض، ضحكت أو بكت، إلا إذا بكت مع الصياح وضرب الخد؛ فلا يكون ذلك رضاً.
فرع: لو قالت: وكلته بتزويجي.
قال الرافعي: فالذين لقيناهم من الأئمة لا يعتدون به إذناً؛ لأن توكيل المرأة في النكاح باطل، ويجوز أن يعتد به إذناً؛ لما ذكرنا في باب الوكالة: أنها إذا
فسدت فالأصح أنه ينفذ التصرف بحكم الإذن.
قال: وإن كانت ثيّباً" [أي] عاقلةً] لم يجز لأحد تزويجها إلا بإذنها بعد البلوغ، [وإذنها بالنطق؛ لقوله- صلى الله عليه وسلم: "الثَّيِّبُ تُسْتَنْطَقُ"، ولا استنطاق إلا بعد البلوغ] بالإجماع.
ولا فرق بين أن تحصل الثيابة بوطءٍ حلال أو بوطء شبهة أو بزنى.
وفي "شرح مختصر" الجويني: أن أبا إسحاق حكى عن القديم: أن المصابة بالفجور حكمها حكم الأبكار، واختاره.
ولو زالت البكارة بالسقطة أو الإصبع، أو حدّة الطمث، أو [طول] التعنيس- فظاهر المذهب: أنها كالأبكار، وعن ابن خيران وابن أبي هريرة: أنها كالثيب.
وحكى عن القاضي أبي حامد سماعاً: أن التي وطئت مجنونةً [أو مكرهة] أو نائمة حكمها حكم الأبكار؛ [لبقاء الحياء، وهذا خلاف ظاهر المذهب.
وفي المصابة في غير المَاتَى وجهان، أصحهما: أن حكمها حكم الأبكار].
فرع: لو ذكرت المرأة للولى أنّها ثيبٌ قبل قولها، فإن لم يُعْلم لها زوج فهل يسألها عن سبب الثيوبة؟ قال الماوردي: لا يسألها.
وقال الشاشي: عندي أنه يسألها: هل وُطِئت أم لا؟ فإن ذكرت أنها وطئت فاتهمها حلّفها.
قال مجلي: والذي اختاره الشاشي إنما يجيء على قولنا: [لا تأثير] لذهاب البكارة بغير الوطء.
قال: "وإن كانت مجنونة: فإن كانت صغيرة جاز للأب والجد تزويجها"؛ لأن الجنون إذا انضم إلى [الصِّغَر تأكدت] الولاية، وهي ليس لها حال تستأذن فيه، ولهما ولاية الإجبار على الجملة؛ فاقتضت المصلحة تزويجها.
وقال بعض الخراسانيين: لا [تزوّج] الثيب الصغيرة المجنونة.
وقال بعض البصريين: لا تزوج الصغيرة المجنونة، [و] حيث تزوج فلا يشترط في حقها وجود الحاجة؛ بل يكفي ظهور المصلحة.
قال الإمام: اتفق عليه الأصحاب، بخلاف المجنون؛ لأن النكاح يفيدها المهر والنفقة، ويغرم المجنون، ولا خلاف أنه لا يزوجها غير الأب والجد.
قال: "وإن كانت كبيرة"- أي: المجنونة- جاز للأب والجد؛ لما سبق، وللحاكم- أي: عند عدمهما- مع وجود القريب؛ لأن له الولاية العامة، ويرجى
أن يكون شفاؤها فيه، مع تضمنه مصلحة المهر والنفقة، وثبوت الولاية على مالها، وبهذا فارق باقي العصبات، وفارق ما لو كانت صغيرة.
وإذا زوج الحاكم راجع أقاربها، وهذه المراجعة، واجبة أو مستحبة؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنها واجبة، فعلى هذا: لا يراجع إلا من تكون له الولاية عليها لو كانت عاقلة؛ قاله المتولي، فإن شاورهم فلم يشيروا بشيء استقل الحاكم، وهذا الوجه استضعفه الإمام، وذكر في "التهذيب" أنّه الأصح.
وإذا قلنا: إنها مستحبة، شاور عصباتها، فإن لم تكن شاور أقاربها؛ كالأخ والعم من الأم والخال، قاله المتولي.
وقيل: يزوجها القريب من الأخ والعم؛ لأن النسيب أشفق وأولى من الحاكم، فعلى هذا لا ينفرد القريب، ولكنه يحتاج إلى مراجعة الحاكم؛ فيقوم إذن الحاكم مقام إذنها، فإن امتنع القريب زوج الحاكمُ كما في العضل.
ثم الحاكم أو القريب إنما يزوج عند ظهور الحاجة، وذلك بأن تَبِين مَخَايِلُ الشهوة، أو يشير أرباب الطب بأن في تزويجها توقع الشفاء، ويكون إذ ذاك واجباً عليه.
وقال ابن الصباغ: لا يزوجها الحاكم إلا إذا قال أهل الطب: إن شفاءها في ذلك، فلو انتفى ذلك، وأراد التزويج لكفاية النفقة أو لمصلحة أخرى، ففيه وجهان:
أحدهما: أنه يجوز؛ كما أن [الأب يزوج بمجرد المصلحة.
وأصحهما: المنع؛ لأن تزويجها يقع إجباراً، وغير] الأب والجد لا يملك الإجبار، وإنما يصار إليه للحاجة النازلة منزلة الضرورة.
وإذا جمعت ما ذكرناه واختصرت قلت: في تفسير الحاجة ثلاثة أوجه:
أحدها: توقع الشفاء ليس إلا.
الثاني: ذلك، أو تبين مخايل الشهوة.
الثالث: ذلك، أو كفاية النفقة.
ثم هذا كله فيما إذا بلغت مجنونة، فلو بلغت عاقلة ثم جُنَّت فهل يزوجها الأب [و] الجد؟
قال مجلي-[وهو في "الوسيط"]-: فيه وجهان مرتبان على قولنا: إن ولاية المال لا تعود:
منهم من قال: لا تعود ولاية النكاح كولاية المال.
ومنهم من قال: [إنها] تعود، وهو الأظهر؛ لأنهما كاملا الشفقةِ فكانا أولى من غيرهما.
وقال في "التتمة": يزوجها الأب بلا خلاف، ولكن إذا قلنا بعدم ولاية المال، فهل ينفرد أو يحتاج إلى إذن السلطان؟ فيه وجهان.
فرع: قال في "التهذيب": لو كانت تجن يوماً وتفيق يوماً، لا تزوج حتى تفيق وتأذن، [وتبقى على الإفاقة حتى يفرغ الولي من التزويج.
وقيل: هو كالجنون المُطْبِق] حتى لو زوجها في يوم جنونها جاز.
قلت: وينبغي أن [يجيء] فيه ما حكيناه في الرجل.
قال: وإن كانت أمة وأراد المولى- أي: المطلق [التصرف- تزويجها] بغير إذنها جاز، أي: سواء كانت كبيرة أو صغيرة، بكراً كانت أو ثيباً، مجنونةً كانت أو عاقلة، قِنّةً أو مدبَّرةً أو معلقاً عِتْقُها على صفةٍ؛ لأن النكاح يَرِدُ على منافع البضع، وهي مملوكة [له]، وبهذا [فارق] العبد.
وأيضاً: فإنه ينتفع بنكاح الأمة باكتساب المهر والنفقة.
فإن قيل: إذا قلتم: إن السيد يزوج بحكم الولاية، فكيف يزوج الثيب بغير إذنها، وولاية الأب أقوى الولايات، وهو لا [يملك تزويج] الثيب بدون الإذن؟
فالجواب: أن ولاية المال أقوى؛ بدليل أنه يزوج مع [حضور] الأب، والأب لمَّا كانت ولايته أقوى من ولاية غيره انفرد بتزويج البكر بغير إذنها؛ فكذلك [ولاية] السيد لما كانت أقوى ظهر له مزية على الأب، حتى يجبر البنت دون غيره، كذا أشار إليه المتولي.
قال: وإن دعت [المولى] إلى تزويجها، [لم يلزمه تزويجها]؛ لأنه يشوِّش عليه مقاصد الملك، وينقص قيمتها.
قال: وقيل: إن كانت محرمة عليه- أي: تحريماً مؤبداً- لزمه تزويجها؛ لقوله تعالى: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32]، ولأنها لا تتوقع منه قضاء الشهوة؛ فلابد من [إعفافها]، وهذا هو الأصح في "المعاياة" للجرجاني، وحكى في "الوسيط" الوجهين من غير تقييد بكونها محرمة عليه.
والمعتق بعضها [لا يجب تزويجها]، [قاله] مجلي.
وقال ابن الصباغ: يحتمل أن يخرج [على الوجهين] فيما إذا كانت محرمة عليه.
فرع: إذا كان لعبده المأذون [له] في التجارة أمة:
إن لم يكن عليه دين جاز للسيد تزويجها بغير إذن العبد على أصح الوجهين.
والثاني: لا، إلا أن يأذن [العبد]، أو يعيد السيد الحجر عليه.
وإن كان عليه دين: فإن زوجها بإذن العبد والغرماء صحّ، وإن زوجها بإذن العبد دون الغرماء أو بالعكس لم يصح، على أصح الوجهين.
قال: "وإن كانت مكاتبة لم يجز للمولى تزويجها بغير إذنها"؛ لأنها كالخارجة عن ملكه.
وقيل: لا تزوج أصلاً؛ لأن ملك المولى مُخْتَلٌّ، وهي غير مالكة لأمرها.
قال: وإن دعت هي إلى تزويجها؛ فقد قيل: "يجب"؛ لأنها تنتفع بذلك، وتستعين به في أداء مال الكتابة.
وقيل: "لا يجب"؛ لأنها ربما عَجَّزت نَفْسَها، فتعود إليه ناقصة، والأول أصح، ورجح النووي مقابله، وقد ذكر الشيخ- رضي الله عنه[حكم] تزويج الموقوفة وأم الولد في موضعه، [وذلك يغني عن الإعادة].
فصل: ولا يصح النكاح إلا بولي ذكر، أي: ليس بخنثى مشكل؛ لقوله تعالى: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232]، نزلت في شأن معقل بن يسارٍ حين حلف ألّا يزوج أخته من مطلِقها، فلو كانت تستقل [بعقد النكاح] لما نهى عن عضلها، ولقوله- عليه السلام:"لا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ مُرْشِدٍ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ"، وقوله:"لَا تُنْكِحُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ وَلَا نَفْسَهَا؛ إِنَّمَا الزَّانِيَةُ هِيَ الَّتِي تُنْكِحُ نَفْسَهَا".
وقال أبو ثور: إن عقدت بإذن الولي صحّ.
وحجتنا عليه: ما تقدم.
ولو رفع النكاح بلا ولي إلى حاكم يرى صحته، فحكم به- لم يُنقض حكمه فيه، خلافاً للإصطخري، ولو طلق ثلاثاً لم يقع طلاقه، ولا يحتاج إلى المحلِّل، خلافاً لأبي إسحاق.
قال في "الحلية": كان الشيخ أبو نصرٍ يعلل ذلك بأن الزوج عقد النكاح على رأي من التزم مذهبه فيه، فأوجب عليه حكم اعتقاده، وهو وقوع الطلاق، وهذا فيه نظر؛ فإن الزوج قد لا يعرف مذهباً، وهل للولي أن يزوجها قبل تفريق القاضي بينهما؟ فيه وجهان، اختيار القفال الشاشي منهما: المنع، وهو تخريج ابن سريج.
[فروع]:
[إذا زال إشكال الخنثى، فهل يملك التزويج؟ قال في "البحر": ينظر: إن زال بقوله: أنا أميل إلى النساء، فلا؛ لأنه وإن قُبِلَ في حق نفسه حتى يتزوج امرأة لا يقبل على غيره.
وإن زال الإشكال بأمارات لا يرتاب فهيا، فله الولاية].
نكاح رسول الله- صلى الله عليه وسلم هل كان ينعقد بغير ولي وشهود؟ [وفيه] وجهان:
أصحهما في "البحر": نعم؛ لأن اعتبار الولي لأجل الكفاءة، وهو أكفأ الناس، واعتبار الشهود خشية الجحود، وهو مأمون منه، صلى الله عليه وسلم.
[الثاني] حكى في "الذخائر": أن المرأة إذا لم يكن لها ولي، وكانت في موضع لا حاكم فيه- ففيه وجهان:
أحدهما: تزوج نفسها؛ للضرورة.
والثاني: يرد أمرها على رجل يزوجها.
[وفي "البحر": حكاية وجه: أنها تصبر إلى أن تجد وليّاً كما لو فقدت الشهود].
قال الشاشي: وكان الشيخ أبو إسحاق- يعني الشيرازي- يختار في مثل هذا أن يحكِّم فقيهاً من أهل الاجتهاد في ذلك؛ بناءً على التحكيم في النكاح، وقد كان شيخنا يرى ذلك ويفتى به.
وقال الشيخ أبو المعالي الجويني: هذا البناء لا يصح؛ لأن هناك جعلاه حكماً فيما يتنازعان فيه من أمر النكاح وغيره، فيصير النظر إليه فيما حكاه فيه خاصة، وهذه ولاية ممن لا يستحقها؛ فافترقا.
قال: "وإن كانت أمة زوَّجها السيد"؛ لما سبق، وهل ذلك بالملك أو بالولاية؟
فيه وجهان؟ أظهرهما: أنه بالملك، وعليه فروع ستأتي.
فرع: لا يزوج السيد أمة مكاتبه، ولا يزوجها المكاتب بغير إذن السيد، فإن توافقا، فقولان؛ كما في تبرعاته.
وقال في "التتمة": المكاتب يزوجها إن قلنا: إنه تصرُّفٌ بالملك، وإن قلنا بالولاية فلا؛ لأن الرق يمنع الولاية.
قال: إن كانت لامرأة- أي رشيدة- زوَّجها من يزوج المرأة- لأن المرأة ليست من أهل الولاية على البُضْع كما [قررنا] في حقّ نفسها؛ فكان التزويج إلى وليها لنفسها.
ونقل الإمام عن صاحب "التلخيص": أنه لا يزوجها إلا السلطان؛ لأن من عداه من الأولياء ليس بينه وبينها سبب ولا نسب، وحكاه في البسيط أيضاً، ثم قال: و [هذا] غلَّطه كل الأصحاب، وإن كان ما قاله لا يخلو عن احتمالٍ ظاهرٍ.
[ثم] قال الرافعي: وهذا غير مشهور عنه، ولا مذكور في "التلخيص"، وإنما المذكور والمشهور: أن معتقة المرأة يزوجها السلطان.
وقيل: لابد من اجتماع الحاكم والولي، حكاه ابن يونس، والله أعلم.
قال: "بإذنها- أي: بالنطق- سواء كانت بكراً أو ثيباً؛ لأنه تصرف في مالها، فلم يجز من غير إذنها".
قال مجلي: وحكى الغزالي وجهاً: أنه لا يحتاج إلى إذنها في تزويج أمتهان وهو خطأ.
قال: فإن كانت المرأة، [أي: السيدة]، غير رشيدة، أي: لصغر أو جنون أو سفهٍ- فقد قيل: لا تزوج، [لفقد إذن] السيدة شرعاً، ولا حظ فيه لها حتى يزوجها الولي؛ لأنه ينقص القيمة، وقد تحبل؛ فتهلك.
قال: وقيل: يزوجها أبو المرأة أو وجدها أي: إذا ظهرت الغبطة؛ لأن لهما ولاية الإجبار في الجملة، ويحصل به اكتساب المهر والنفقة، وتسقط عنها
النفقة، وهذا هو الأظهر، واختيار أبي إسحاق.
تنبيه: حكم أمة الصبي والمجنون والسفيه كذلك، وفي بعض الشروح وجه: أن أمة الصبية تزوج، وأمة الصبي لا تزوج؛ لأنه قد يحتاج إليها بعد البلوغ.
فإن جوزنا، قال الإمام: يجوز تزويج [أمة] البنت الصغيرة، وإن [لم] يجز تزويجها، ويجوز للسلطان تزويج أمة الصغير إذا ولى ماله.
قال الرافعي: وهذا يوافق وجهاً للأصحاب في أن ولي المال يزوج أمة الصغير [والمجنون]، نسيباً كان أو وصيّاً كسائر التصرفات المالية، والأظهر وجه آخر، وهو أن الذي يزوجها ولي النكاح الذي يلي المال، وعلى هذا غير الأب والجد لا يزوجها؛ لأنه لا يزوج الصغيرة والصغير، والأب [والجد] لا يزوج أمة البنت الصغيرة، فإن كانت مجنونة تزوج، وإن كانت لسفيه فلابد من إذنه.
فرع: من بعضها حرٌّ وبعضها رقيق، قيل: لا تزوج أصلاً؛ لضعف المالك والولاية؛ بسبب تبعُّض الرق والحرية، وهذا ما قال القاضي الحسين في كتاب العتق: إنه ظاهر المذهب.
وقيل: تزوج، وهو الصحيح.
وعلى هذا: فمن يزوجها؟ فيه أربعة أوجه:
أحدها: يزوجها [مالك] البعض استقلالاً، وهو مفرَّع على أنه لا يورث، وأن ما خلفه يكون لمالك بعضه الرقيق.
والثاني: يوافقه القريب، وهو الأصح، واختيار ابن الحداد؛ بناءً على أنه يورث، فإن عدم القريب فالمعتق، فإن عدم فالسلطان، كما سيأتي.
والثالث: يوافقه معتق البعض؛ لأن القرابة لا يجوز أن تثبت مع بعض الشخص دون بعض؛ فكذلك الولاية المرتبة عليها، والولاء قد ثبت على بعض الشخص؛ فجاز أن تتبعض الولاية الثابتة [به]، وهذا أظهر عند الإمام.
والرابع: يوافقه السلطان؛ لأن القريب يمنع المعتق من التزويج، كما يحجبه عن الميراث، والسلطان يزوج بالولاية العامة إذا تعذرت الأسباب الخاصة.
فرع: إذا صححنا نكاحها، فأتت بولدٍ: ما حكمه؟ فيه وجهان في "تعليق" القاضي الحسين في كتاب العتق:
أحدهما: أن جميع الولد يكون حرّاً.
والثاني: أن حكمه حكم أمه.
وقد ذكرتهما في [باب] عتق أم الولد.
قال: "وإن كانت حرّة زوجها عصباتها"؛ لأن الولاية تثبت لدفع العار عن النسب، وهو إلى العصبات.
قال: "وأولاهم الأب؛ لأن من عداه يدلى به، ثم الجد"، [أي]: وإن علا؛ لأن له ولادة وعصوبة، فقدم على من ليس له إلا عصوبة، ثم الأخ؛ لأنه يدلى بالأب؛ فكان أقرب، ثم ابن الأخ، ثم العم، ثم ابن العم.
واعلم أن الترتيب في التزويج كالترتيب في الميراث، إلا في ثلاث مسائل:
إحداها: الأخ والجد يستويان في استحقاق الإرث، وها هنا يقدم الجد؛ لاختصاصه بولاية المال.
والثانية: الأخ من الأبوين يقدم في الإرث على الأخ من الأب، وهاهنا قولان، كما سيأتي.
والثالثة: الابن في الميراث أولى العصبات، وفي التزويج لا ولاية [له] بالبنوة؛ لأنه لا مشاركة بين الابن والأم في النسب؛ فلا يعتني بدفع العار عن النسب؛ ولهذا لم تثبت الولاية للأخ من الأم.
قال: "ثم المولى"-[أي:] إذا كان رجلاً- ثم عصبة المولى- أي: رجلاً كان المولى أو امرأة- ثم مولى المولى، ثم عصبته، أي: وهكذا على ترتيبهم في الميراث؛ لقوله- عليه السلام: "الْوَلاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ".
أمَّا إذا كان المعتق امرأة فعن صاحب "التلخيص": أن السلطان يزوجها؛ لأن
من له الولاء ليس له التزويج، فكيف يزوج من يدلى به؟!
والمذهب المشهور: أنه يزوجها في حياة المعتقة من يزوج [المعتقة] برضا المعتقة، وفي رضا المعتقة وجهان:
أصحهما: أنه لا حاجة إليه.
والثاني: يشترط، فعلى هذا: لو عُضِلَتْ ناب السلطان عنها في الإذن، والتزويج إلى أوليائها، وفيه وجه حكاه الإمام عن رواية الشيخ أبي علي: أنه يزوجها ابن المعتقة.
وأمَّا بعد موت المعتقة فيزوجها من له الولاء على العتيقة كما ذكرناه، ويقدم الابن على الأب عند الاجتماع، وقيل باستمرار ولاية الأب، [وهو بعيد].
فروع:
لو كن المعتق خنثى مشكلاً، قال في "التهذيب" في فصل الخناثى، من [كتاب] النكاح: لا تثبت [له] ولاية التزويج.
وقال الرافعي: ينبغي أن يزوجها أبوه بإذنه؛ ليكون قد زوجها وكيله بتقدير الذكورة، ووليها بتقدير الأنوثة.
الثاني: لو مات المعتق، وخلف ابنين زوَّجها كل [واحد] منهما على الانفراد كما في النسب. حكاه في "الزوائد" عن ابن الحداد.
الثالث: المعتق إذا تزوج بحرّة الأصل، وأتت بابنةٍ- زوَّجها بعد العصبات الحاكم.
وقال الأستاذ أبو طاهر: التزويج إلى موالي الأب، حكاه صاحب "الإشراف".
قال: "ثم الحاكم؛ لقوله- عليه السلام: "السُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لا وَلِيَّ لَهُ".
[تنبيه]: المراد بالحاكم هاهنا: حاكم الموضع الذي [هو] فيه، فلو كانت ببلدٍ، وأذنت لحاكم بلدٍ آخر في تزويجها- لم يصح، قاله الغزالي في [آخر] كتاب الأقضية.
قال: ولا يزوج أحد منهم، وهناك من هو أقرب منه؛ لأنه حقٌّ مستحق بالتعصيب، فقدم فيه الأقرب فالأقرب؛ كالميراث.
قال: إن استوى اثنان في الدرجة، وأحدهما يدلي بجهة والآخر يدلي بجهتين أي: كالأخ من الأب والأخ من الأبوين، وابني الأخ والعمين، [وابني] العم إذا كان أحدهما من الأب والآخر من الأبوين، وابني العم إذا كان أحدهما ابنها أو أخاها لأمها، وامتنع الإمام من إلحاق الصورتين الأخيرتين بما تقدم.
قال: فالولي [من يدلي بجهتين] في أصح القولين، وهو الجديد كما في الميراث.
قال: "وفيه قول آخر: أنهما سواء"، وهو القديم؛ لأنه لا مدخل للنساء في ولاية النكاح بحال، فلا يرجح بهن؛ كما لو كان لهما عَمَّان أحدهما خال. [ولمن نصر] الأول أن يقول: ليس كل ما [لا] يفيد لا يرجح؛ ألَا ترى أن العم من الأبوين [يقدم] على العم من الأب في الميراث، وإن كان العم من الأم لا يرث أصلاً.
[فروع] على الجديد:
لو كان [لها] ابنا عم أحدهما من الأبوين، والآخر من الأب، لكنه أخوها من
الأم- فالثاني أولى؛ لأنه يدلي بالجد [والأم، والأول يدلي بالجد والجدة].
ولو كان لها ابنا عمٍّ: أحدهما ابنها، والآخر أخوها من الأم- فالابن أولى؛ لأنه أقرب من الأخ، ولو كان لها ابنا [عَمٍّ] معتِق: أحدهما ابنها، [فيقدم على] الآخر، وبه أجابه ابن الحداد، لكنه ذكر في التفريع: أنه لو أراد المعتق نكاح عتيقته، وله ابن منها وابن من غيرها- يزوجها منه ابنه منها دون ابنه من غيرها، وهذا غلط عند معظم الأصحاب؛ من جهة أن ابن المعتِق لا يزوج المعتَقة في حياة المعتِق؛ لأنه يدلي به؛ كما لا يزوج ابن الأخ مع الأخ؛ فإذن يزوجها منه السلطان.
قال: فإن استوى اثنان في الدرجة والإدلاء فالأولى أن يقدم أسنهما وأعلمهما وأفضلهما- أي: في الديانة؛ لأن الأسن أكثر تجربة، فهو أخير. والأعلم أعرف بشروط العقد، والأفضل أحرص على طلب الحظ.
واعلم أن تقدير الكلام: فإن استويا [في الدرجة والإدلاء فالأولى أن يقدم أسنهما، فإن استويا] في ذلك قدم أعلمهما، فإن استويا في ذلك قدم أفضلهما.
وقال الرافعي: إذا تعارضت هذه الخصال فيقدم الأفقه، ثم الأورع، ثم الأسن.
قال: فإن سبق [أحدهما] صحّ [العقد]؛ لأن ولايته ثابتة، ولو أوجب كل واحد منهما النكاح معاً والخاطب واحد، فأظهر الوجهين الصحة".
قال: إفن تشاحا أُقرع بينهما؛ لتساويهما في الحق، فإن خرجت القرعة لأحدهما، فزوج الآخر- فقد قيل: يصح، وهو الأصح؛ لأن القرعة لا تسلب الولاية، [وإنما شرعت لقطع المشاجرة، وجعل من خرجت له القرعة [أولى]، فإذا زوجها غيره، فقد زوجها وليها؛ فوجب أن يصح.
قال: "وقيل: لا يصح"؛ لأنّا لو صححنا النكاح لأبطلنا فائدة القرعة. ثم
هذا الوجه يختص بما إذا أخرجوا القرعة [من أنفسهم] أم يختص بقرعة يُنشِئها السلطان؟ فيه تردد للإمام، وهذا الخلاف فيما إذا أذنت لكلٍ واحد منهما [في التزويج]، أمَّ إذا أذنت لأحدهما، فزوَّج الآخر لم يصح قولاً واحداً.
تنبيه: الإذن للأولياء تارة يكون بأن تقول: أذنت لكل منكم أن يزوجني من فلان، أو تُطلِق على ما سنذكره، وتارة تقول:[أذنت] من فلان، فمن شاء من أَوْليائي زوجني [منه]، ولو قالت: رضيت أن أزوج، أو رضيت بفلانٍ زوجاً- فأحد الوجهين: أنه ليس لأحد تزويجها، وأظهرهما: أنه يكتفي به، ولكل واحدٍ منهم تزويجها كالقسمين الأولين.
وعلى هذا: لو عينت واحداً هل ينعزل الآخر؟ فيه وجهان: أصحهما في "الحلية": أنه عَزْلٌ.
قال: "ولا يجوز أن يكون الولي عبداً ولا صغيراً ولا سفيهاً"، أي: محجوراً عليه بسبب تبذيره؛ لأنه ممنوع من التصرف لنفسه، فكذلك لغيره، وفي السفيه وجهٌ: أنه يلي؛ لأن الحجر عليه للخوف على المال، وقد أمن ذلك في تزويج ابنته.
أمَّا إذا لم يكن السفيه محجوراً عليه، ففي "الحاوي" وجهان: أصحهما على ما حكاه مجلي: أنه لا يكون وليّاً أيضاً.
وقال الرافعي: ينبغي ألا تزول الولاية.
والمحجور عليه بالإفلاس فيه طريقان:
أصحهما: أنه يزوج كالمريض.
والثاني: فيه وجهان، أصحهما: أن له التزويج، قاله مجلي.
قال: "ولا ضعيفاً": الضعيف- هنا- ضعيف العقل: إمّا لِهرم، أو لِخبل جِبِلِّي أو عارض، وإنما منع الولاية؛ لعجزه عن اختيار الأزواج، وعدم العلم بمواضع الحظ، ويلتحق به من ألهاه السقم والألم الشديد عن النظر ومعرفة المصلحة في منع الولاية، ومع ذلك ينقلها إلى الأبعد.
قال الرافعي: لكن سكون الألم ليس بأبعد من إفاقة المغمى عليه؛ فوجب أن
ينتظر حيث ينتظر المغمى عليه، وبتقدير عدم الانتظار يجوز أن يقال: يزوجها السلطان، لا الأبعد كما في صورة الغيبة؛ لأن الأهليّة باقية، وشدة الألم مانعة من النظر كالغيبة.
ثم إذا مُنِعَ من ذكرناه من الولاية عُلم أن المجنون المطبق بذلك أولى، وقد صرح به الأصحاب، وأمَّا المجنون المنقطع ففي سلبه الولاية وجهان:
أصحهما عند الإمام وابن كجٍّ: أنه سالبٌ، وهو ما حكاه في "البحر" عن القاضي أبي الطيب حيث قال: لو كان يُجنّ يوماً ويفيق يوماً، زوَّج المرأة في يوم جنونه مَنْ دونه.
والثاني- وهو الأصح في "التهذيب"-: أنه غير سالب؛ لأنه يطرأ ويزول فهو كالإغماء؛ فعلى هذا ينتظر حتى يفيق.
وحكى الحناطي وغيره وجهاً: أنه يزوجها الحاكم في حال جنونه كما في الغيبة، ثم هذا فيما إذا طال زمن إفاقته، أما لو قصر جدّاً لم يكن حال تقطُّعِ الجنون.
والمغمى عليه بسبب لا يدوم غالباً: كهيجان المِرَّة الصفراء أو الصرع، ينتظر إفاقته كالنائم.
وإن كان بسبب يدوم يوماً أو يومين فأكثر، ففيه وجهان:
أحدهما: أنه كالمجنون؛ فتنتقل الولاية إلى الأبعد.
والأظهر: أن الولاية لا تنتقل؛ لأن ذلك قريب الزوال، وعلى هذا ففي "التهذيب" وغيره: أنه ينتظر إفاقته كالنائم.
وقال الإمام: ينبغي أن تعتبر مدة السفر، فإن كانت مدته مدة ينتظر فيها مراجعة الولي الغائب ذهاباً وإياباً فينتظر إفاقته، وإن كانت مدة لا يؤخر التزويج فيها لمراجعة الغائب، بل يزوجها السلطان، فكذلك هاهنا، والرجوع في ذلك إلى أهل الخبرة، فإن قالوا: إنه من القسم الثاني، جاز تزويجها في الحال.
والسكران إن حصل سكره بسبب يفسق [به]، وقلنا: إن الفسق غير سالب للولاية، أو كان بسبب لا يفسق به؛ بأن كان مُكرهاً أو غالطاً-: فإن لم ينفذ
تصرف السكران فهو كالمغمى عليه، وإن جعلنا تصرفه كتصرف الصاحي فمنهم من صحح تزويجه، ومنهم من منع؛ لاختلال نظره، والظاهر أنه لا يزوج، وأنه ينتظر إفاقته، وبه أجاب في "التهذيب".
ثم الخلاف فيما إذا بقي له تمييزٌ ونظرٌ، أمَّا الطافح الذي سقط تمييزه بالكلية فكلامه لغو.
قال: "ولا يجوز أن يكون الولي فاسقاً"؛ لقوله- صلى الله عليه وسلم: "لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ مُرْشِدٍ"، [و"مرشد" هنا] بمعنى "رشيد]، [و] بالقياس على ولاية المال، [و] لأنه يقدح في الشهادة؛ فمنع الولاية كالرق.
قال: إلا السيد في الأمة؛ بناءً على أنه يزوج بحكم الملك.
وقال الإمام: إنّه أصح، أمَّا إذا قلنا: يزوج بالولاية، فلا.
قال: "وقيل: إن كان غير الأب والجد"- أي: ولي الحرة- جاز أن يكون فاسقاً، والفرق: انهما مُجْبِران، فربما وضعاها تحت فاسقٍ مثلهما، وغيرهما يزوِّج بالإذن، فإن لم ينظر لها نظرت هي لنفسها، فعلى هذا: إن كانت المرأة ثيّباً يجوز للأب والجد أيضاً تزويجها؛ لأنهما لا يقدران على الإجبار [فهما] كغيرهما من الأولياء.
وإذا كانت بكراً قال الإمام: قياس ذلك أن يزوجاها برضاها، ولا يجبراها.
ووراء ما ذكره الشيخ- رضي الله عنه طرق أخر:
أحدها: أن غير الأب والجد لا يزوج، والأب والجد يزوج؛ لكمال شفقتهما، وقوة ولايتهما.
الثاني: أن فسقه إن كان بشرب الخمر فلا يلي، وإن كان بسبب آخر فيلي.
الثالث: إن كان مُعْلِناً بالفسق فلا يلي، وغيره يلي.
الرابع: إن كان غيوراً فيلي، وإن لم يكن غيوراً فلا يلي، وهذا منقول في "الهادي".
الخامس: أنه يلي قولاً واحداً، وهو اختيار القفال والروياني؛ لأن الفَسَقة لم يُمْنَعوا من التزويج في عصر الأولين مع وجود الاحتياط منهم في الأبضاع. والمشهور من الطرق إثبات قولين، وقيل: الخلاف في غير الإمام الأعظم، أما الإمام الأعظم فيجوز أن يكون وليّاً للأَيَامَى من المسلمين، ولكن لا يزوج ابنته إذا قلنا:[إن] الفسق سالبٌ للولاية، قاله المتولي، وفي "التهذيب": أنه يجوز أن يزوج بناته وبنات غيره.
وقد اختلف الناقلون في محل الخلاف في أصل المسألة: فقيده في "التتمة" بما إذا كان الفاسق غير محجور عليه، أمَّا إذا كان محجوراً عليه فلا، وأطلق بعضهم الخلاف ثم قال: وقيل: إن كان محجوراً عليه [فلا، وإن لم يكن محجوراً عليه] زوَّج، حكاه مجلي وابن الصباغ.
فرعان:
أحدهما: إذا تاب الفاسق، ذكر صاحب "التهذيب": أن له التزويج في الحال.
وقال الرافعي: [القياس الظاهرُ]، وهو المذكور في الشهادات: أنه يعتبر الاستبراء لعود الولاية، حيث يعتبر لقبول الشهادة.
الثاني: ذكر أبو الحسن العبادي وصاحبا "التتمة" و"التهذيب" وجهين في أنَّا هل نثبت الولاية لذوي الحرف [الدنيَّة] إذا لم نثبتها للفاسق؟
قال في "التهذيب": والمذهب أنه يكون وليّاً وجهاً واحداً.
قال: "وهل يجوز أن يكون [الولي] أعمى؟ قيل: يجوز"، وهو الصحيح؛ لأن شعيباً- عليه السلام زوّج ابنته من موسى- صلى الله عليه وعلى نبينا- وكان أعمى، وأيضاً: فإن طريق العلم في باب "النكاح" الوصفُ
والخبر؛ ولذلك لا يشترط رؤية المنكوحة، والأعمى يملك أن يعرف ما فيه الحظ والمصلحة بالوصف والخبر.
فعلى هذا: إن كان الصداق عيناً لم يثبت المسمّى إن منعنا شراء الغائب.
قال: "وقيل: لا يجوز"؛ لأنه لا يتم نظره من حيث إن من المقاصد ما يدرك بالمشاهدة، ولأنه نَقْصٌ يؤثِّر في الشهادة؛ فأشبه الصِّغَر.
قال الجيلي: وعلى هذا فتنتقل الولاية إلى الأبعد؛ قاله الإمام.
وقال في "البحر": للأعمى أن يوكِّل على وجهٍ، وإن لم يوكل فالقاضي يزوج عنه. وهذه الزيادة حكاها الجيلي عنه.
والأخرس إذا كانت له كتابة أو إشارة مُفْهِمة فيه مثل هذين الوجهين، ومنهم من قطع بأنه يلي، وفي "تعليق" القاضي الحسين في كتاب اللعان: أن الخلاف في ولاية النكاح هو الخلاف في قبول شهادته، ومقتضى ذلك أن يكون الظاهر منه: أنه لا يلي؛ كما أن الظاهر أن شهادته لا تُسْمَع.
قال: "ولا يجوز أن يكون ولي المسلمة كافراً"؛ لقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71].
قال: "ولا ولي الكافرة مسلماً"؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة: 51]، فقطع الموالاة بين المسلمين والكفار.
وحكى مجلي أن الشيخ أبا حامد حكى في "التعليق" وجهاً: أنه يجوز للمسلم تزويج الكافرة بالولاية الخاصة.
قال: إلا السيد في تزويج الأمة أي: المخالفة له في الدين بأن كانت مسلمة وهو كافر، أو كتابية، أو مجوسية، [وقلنا بجواز] نكاح الأمة الكتابية والمجوسية، وهو مسلم. وهذا بناءً على أنَّه يزوج بالملك، أمَّا إذا قلنا بالولاية فلا.
وفي تزويج الكافر الأمةَ المسلمةَ وجه: أنه لا يجوز، وإن قلنا: تُزَوَّج بالملك، نقله في "التتمة"، وكذلك في تزويج المسلم الأمة المجوسية وجه: أنه
لا يجوز، وإن قلنا: يُزَوَّج الأمةَ الكتابية.
قال الإمام: وعللوه بأن السيد لا يستحل وطأها، ولا حاصل للتعليل بتحريمها عليه؛ فإن شيخي كان يقول: من ملك أخته من الرضاع أو النسب، ملك تزويجها وجهاً واحداً، وإن كان لا يستحل وطأها. وهذا حسنٌ، وقد رأيت لبعض الأصحاب تشبثاً بمنع ذلك. [قال]: وهذا لا يعتد به.
قال: والسلطان في نساء أهل الذمة أي: الذين لا مناسب لهم؛ لعموم ولايته، أمَّا إذا كان لهم مناسب فيزوج كل امرأة [وليها] إذا كان خاطبها ذمّيّاً بلا خلاف. قاله في "التتمة"، وإن كان مسلماً، فالذي ذهب إليه الجمهور أن الحكم كذلك.
وقال الحليمي: يزوجها الحاكم منه، ولا يزوجها وليها الكافر إذا قلنا: إن الفاسق لا يلي، وقال ابن يونس: إنه أصح الوجهين.
فرع: إذا أراد المسلم نكاح ذميَّة، ولا ولي لها، ولا حاكم للمسلمين في ذلك الموضع- فلا يقبل نكاحها من قاضي الكفار، وحكى الإمام عن إشارة صاحب "التقريب" أنه يجوز قبول نكاحها من قاضيهم، والظاهر المنع.
ومن موانع الولاية: الإحرامُ، وهو مذكور في بابه.
قال: فإن خرج الولي عن أن يكون وليّاً- أي: بما ذكره- انتقلت الولاية إلى من بعده من الأولياء؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم بعث عمرو بن أمية الضَّمْري إلى الحبشة، فَزَوَّج له أم حبيبةَ بنت [أبي] سفيان، زوَّجها الوليد بن سعيد بن العاص، وكان ابن عمها؛ لأن أباها كان كافراً حيّاً. قاله البغوي.
وإذا ثبت ذلك في الكفر قسنا عليه الباقي، وبالقياس على ما لو مات، فلو عاد إلى صفة الولاية عاد وليّاً، وحكى الحناطي وجهاً: أن الفسق ينقل الولاية إلى السلطان.
قال: وإن عضلها- أي: منعها- وقد دعت إلى كفءٍ [أي]: ولو بدون مهر المثل، أو غاب [عنها]، أي: سواء كانت الغيبة بعيدة أو قريبة- كما ذكر في المختصر- زوجها الحاكم؛ لأن التزويج حقٌّ عليه، فإذا امتنع من وفائه، أو غاب وفّاه الحاكم كما لو كان عليه دين [، وهل هذا التزويج من الحاكم بطريق الولاية أو النيابة؟ فيه خلاف حكاه الإمام، ولم يتعرض أحد من الأصحاب لذكر ثمرة هذا الخلاف فيما وقفت عليه، وقد تظهر ثمرته:
عند العضل في أن المرأة لو كانت ببلدٍ، فاذنت لحاكمِ بلدٍ آخر في تزويجها، [والولي فيه]: فهل يجوز [له] ذلك؟ إن قلنا: إنه يزوج بالولاية، فلا يزوجها؛ كما لو لم يكن لها ولي [حاضر].
وإن قلنا: [إنه] يزوج بالنيابة، فسببها وفاء ما عليه من حقٍّ؛ كما لو كان عليه دينٌ فامتنع من وفائه أو غاب [عند العضل]، ووفاء الحقوق المتوجهة على الغائب، [أو الممتنعَ] من أدائها لا يختص بحاكم بلد [صاحب] الحق؛ فيشبه أني كون التزويج هنا كذلك.
وعند الغيبة في أن الولاية هل تنتقل إلى الأبعد إذا كان موجوداً؟
فإن قلنا: إنه إذا لم يكن لها إلا ولي واحد، إن الحاكم يزوج عند غيبته بطريق
الولاية، فإذا غاب وكان لها ولي أبعد منه انتقلت إليه- كما سنذكره- لأن ولاية الحاكم تكون بعد ولاية القريب.
وإن قلنا فيما إذا لم يكن إلا ولي واحد وغاب: إن الحاكم يزوج بالنيابة- فلا تنقل عند غيبة القريب إلى الأبعد [لو كان له] وكيل، والله أعلم.
وحكى في أصل المسألة عن القاضي أبي حامدٍ أنه يفرق في الغيبة بين الملوك وأكابر الناس فتعتبر مراجعتهم، وبين أوساط الناس والتجار فلا تعتبر. وظاهر المذهب الأول.
قال: ولم تنتقل الولاية إلى من [بعده من الأولياء]؛ لأن ولايته باقية بدليل أنه لو زوجها حيث هو صحّ، ولو كان له وكيل لم ينعزل، وفيه وجه عن ابن سريج: أن الغيبة تنقل الولاية إلى الأبعد كالجنون، وعلى الأول يستحب للحاكم أن يحضر عصباتها ويستأذنهم، أو يرد العقد إليهم؛ ليخرج عن الخلاف.
فائدة:
العاضل هل يفسّق؟ أطلق الأصحاب القول بالعصيان، وهو ما يقتضيه قول الشيخ حيث قال:"وإن كانت حرّة، ودعت إلى كفءٍ، وجب على الولي تزويجها"؛ إذ ترك الواجب يقتضي العصيان.
وقال الإمام: إن كان في الخِطَّة حاكم فلا إثم، وإلا فيعصي.
ثم على القول بالعصيان إذا عضل مرّةً واحدةً لا يفسق، وإنما يفسق [إذا عضل] مرات أقلها ثلاث، كذا حكى عن بعضهم، [على ما حكاه الرافعي عند الكلام في أن الفسق هل يسلب الولاية؟].
قال: "وقيل: إن كانت الغيبة إلى مسافة [لا] تقصر فيها الصلاة، لم يزوِّج حتى يُستأذن؛ لأنه كالحاضر".
قال الرافعي والنووي: وهو الأظهر، ويحكى عن نصّه في "الإملاء". ولفظ "المختصر" محمول على بُعْد الغيبة وقربها دون المسافة.
هكذا ذكر العراقيون من أصحابنا الوجهين وآخرون، وفصّل مفصِّلون
فقالوا: إن كانت الغيبة إلى مسافةٍ تقصر فيها الصلاة فيزوجها السلطان، وإن كانت بحيث يتمكن المبكِّر [إليه] من الرجوع إلى [منزله] قبل مجيء الليل، فلابدّ من مراجعته قطعاً، وفيما بين ذلك وجهان.
ثم هذا كله إذا عُرِفَ مكانه، وأمكن الوصول إليه، فإن كان مفقوداً لا تعرف حياته ولا موته- فيزوجها السلطان؛ لأن [نكاحها] قد تعذر من جهته، فأشبه ما إذا عضل، وإذا انتهى الأمر إلى غايةٍ، فحكم فيها بالموت، وقسم ماله على ورثته- فلابدّ من نقل الولاية إلى الأبعد، فإن عرف مكانه، وتعذر الوصول إليه للفتنة والخوف في الطريق، ففي "الجيلي" عن "الحلية": أنه يجوز له التزويج بدون المراجعة في أصح الوجهين، وهذا يعضده ما حكيته عن الأصحاب في باب الوديعة: أن تعذُّرَ الوصول إلى مالك الوديعة بمثل هذا التسبب عند إرادة المودَع السفر بمنزلة ما لو كان مالك الوديعة مسافراً.
فرع: هل يجب على الحاكم طلب البينة بعدم حضور الولي، وخلوها عن النكاح والعدة، أم يستحب؟ فيه وجهان في "الجيلي":[الأصح منهما:] الأول، ويكون حكم ذلك حكم الشهادة في الإفلاس في جواز الشهادة على النفي، وكونه لا يسمع إلا من أهل الخبرة الباطنة [بذلك].
وهذا إذا كان الولي الغائب ممن يزوج بغير الإذن، أمَّا إذا كان لا يزوج إلا بالإذن، فقالت: ما أذنت، فللقاضي تحليفها على نفي الإذن، وفي الحالة الأولى [على] عدم التزويج في الغيبة إن رأى ذلك، كذا حكاه الإمام.
قال الغزالي: ومثل هذه اليمين التي لا تتعلق بدعوى، استحبابٌ أو إيجاب؟ فيه خلاف.
وعلى القول بعدم وجوب البيِّنة: [لو ألحت] في المطالبة، ورأى السلطان [التأخير، هل له ذلك]؟
[حكى الإمام] فيه وجهين عن الأصوليين، والله أعلم.
فرع آخر: إذا زوج الحاكم في حال غيبة الولي، ثم قدم الولي وقال: كنت زوجتها في الغيبة- قال أصحابنا: نكاح [الحاكم] مقدّم. وهذا بخلاف ما لو غاب مالك العبد فباعه السلطان في وفاء دين الغائب، فعاد وادّعى أنه كان قد باعه في الغيبة؛ فإنّ الشافعي- رضي الله عنه نصّ على أن بيع المالك أولى.
وقال الربيع: فيه قول: أن بيع السلطان أولى كالتزويج.
والفرق على الأول: أن السلطان في النكاح قائم مقام ولي آخر في غيبة الولي الأقرب. ولو كان لها وليّان، فزوجها أحدهما في غيبة الآخر، ثم قدم وقال: كنت زوجتها قبل ذلك- لم يقبل إلا بيّنة، فكذلك هنا، بخلاف السلطان في البيع؛ فإنه نائبٌ عن المالك؛ فأشبه الوكيل مع الموكل، ولو أن الوكيل باع، وجاء الموكل، وقال: قد كنت بعت- القول قول الموكل مع يمينه، كذا حكاه ابن أبي الدم في كتابه الملقب بـ "أدب القضاء".
وفي "النهاية" في ضمن فرع بعد باب الإحصان، حكاية القولين في مسألة البيع، وحكاية أن أظهرهما: أنه لا يقبل قوله، [والخلاف][يجري] فيما إذا
ادّعى أنه أعتقه أو حبسه، لكن الأظهر في دعوى العتق قبول قوله، على ما حكاه الرافعي في اللقطة.
تنبيه: العضل لا يحصل إلا إذا دعت البالغة العاقلة إلى تزويجها من كفءٍ [وامتنع]، ولابدّ من ثبوته عند الحاكم ليزوجها.
وفي "التهذيب": أنّه لا يتحقق حتى يمتنع بين يدي القاضي، وذلك بأن يحضر الخاطب، والمرأة، والولي، ويأمره الحاكم بالتزويج فيقول: لا أفعل، أو يسكت، فحينئذٍ يزوجها القاضي.
قال الرافعي: وهذا فيما إذا تيسّر إحضاره عند القاضي، فأمّا إذا [تعذّر بتعزُّز] أو توارٍ، وجب أن يكون الإثبات بالبينة كما في سائر الحقوق.
وفي "تعليق" الشيخ أبي حامدٍ ما يدلُّ عليه، ونقل- أيضاً- مثل هذا البحث في آخر كتاب "الإيلاء" عن فتاوى صاحب "التهذيب"، ثم قال عنه: ومحتمل أن يحكم بالعضل بشهادة الشهود مع إمكان الإحضار.
قال: "ويجوز للولي أن يوكل من يزوج"- أي: سواءً كان مجبِراً أو غير مجبِر، بإذنها وبدونه؛ لأنه حقٌّ إليه، فجاز له الاستنابة فيه، كتوكيل الزوج في قبول النكاح.
قال: وقيل: لا يجوز لغير الأب والجد- أي: المجبِر إلا بإذنها- لأنه متصرف بالإذن، فلا يوكل إلا بالإذن كالوكيل.
والمذهب الأول؛ لأنه متصرف بالولاية، فأشبه الوصي والقيم، وهما يتمكنان من التوكيل من غير إذنٍ. أمَّا إذا كنا الأب غير مجبِرٍ فهو كغيره من الأولياء، وفي المجبِر وجهٌ: أنه لابدّ من إذنها أيضاً، فلو كانت صغيرة امتنع التوكيل بتزويجها.
ثم اعلم أن صورة الإذن في التوكيل أن تقول: أذنت لك في التزويج، وفي التوكيل في التزويج، فلو قالت: وكِّل بتزويجي ولا تزوجني بنفسك، قال الإمام: الذي ذهب إليه الأئمة: أنه لا يصح الإذن على هذا الوجه؛ لأنها منعت الولي، وردت التزويج إلى الوكيل الأجنبي؛ فأشبه التفويض إليه ابتداءً.
ولو قالت: وكّل بتزويجي، واقتصرت عليه، فله التوكيل، وهل يزوج بنفسه؟ فيه وجهان في "التهذيب".
ووجه الجواز: أنه يبعد منعه مما له التوكيل فيه.
ولا خلاف أنّها إذا نهت غير المجبِر عن التوكيل، لم يكن له التوكيل؛ لأنه إنما يُزوج بالإذن، ولم تأذن في تزويج الوكيل، قاله البغوي، رحمه الله.
فرع: على المذهب: لو وكّل الولي قبل إذن المرأة له في التزويج، هل يصح؟ فيه وجهان، أصحهما: أنه لا يصح، ووجه الصحة: أن له التزويج بشرط الإذن؛ فله تفويض ما له إلى غيره.
وعلى هذا فيستأذن الولي أو الوكيلُ للولي، ثم يزوج، ولا يجوز أن يستأذن الوكيل لنفسه.
قال: "ويجب أن يعين الزوج في التوكيل في أحد القولين" أي: إذا أطلقت الإذن للولي، أو كان الولي مجبِراً؛ لاختلاف الأغراض باختلاف الأزواج، وليس للوكيل شفقة داعية إلى حسن الاختيار.
قال: "ولا يجب في الآخر"، وهو الأصح [عند] النووي؛ لأنه يملك التعيين في التوكيل، فيملك الإطلاق كما في البيع وسائر التصرفات، وشفقته تدعوه إلى ألا يوكل إلا من يثق بنظره واختياره، وقد أجرى هذا الخلاف في إذن غير المُجْبَرة لوليها في التزويج، وقطع بعضهم بعدم اشتراطه؛ لأنه يصادف من يعتني بدفع العار عن النسب، والوكيل بخلافه.
قال الإمام: وظاهر كلام الأصحاب يقتضي طرد الخلاف، وإن رضيت المرأة بترك الكفاءة، لكن القياس تخصيص الخلاف بما إذا لم تَرْضَ، أمَّا إذا أسقطت الكفاءة، ولم تطلب الحظّ، فلا معنى لاعتبار التعيين، وأمَّا إذا كانت قد عينت الزوج لغير المجبِر، فليعينه الولي للوكيل، فإن لم يفعل، وزوج من غيره- لم يصح، وإن اتفق التزويج منه فالأظهر: أنه لا يصح أيضاً.
ثم اعلم أنَّا إذا جوّزنا التوكيل المطلق، فعلى الوكيل رعاية النظر في الأزواج، فلو زوج من غير كفءٍ، لم يصح على الأصح.
وقيل: يصح ولها الخيار، فإن كانت صغيرة، خُيِّرت عند البلوغ.
ولو خطب كفئان وأحدهما أشرف، فزوج من الآخر- لم يصح، وهذا بخلاف الولي كما حكيناه من قبل، ولو قالت: زوجني ممن شئت، فهل له تزويجها من غير كفءٍ؟ فيه وجهان.
فرع: إذا أراد الوكيل أن يزوج. فيكفي أن يقول: زوجت بنت فلان منك، ولا يحتاج أن يصرح في العقد بالوكالة ولا الشهادة عليها، ولكن يشترط- على ما حكاه [المتولي]- علم الزوج بالوكالة.
قال: ولا يجوز أن يوكل- أي: من يزوج- إلا من يجوز أن يكون وليّاً؛ لأنه موجب للنكاح فأشبه الولي.
وفي "النهاية" في فصل التوكيل في الخلع: أنه يجوز أن يوكل الذمي في تزويج المسلمة من مسلم على المذهب الظاهر.
قال: وقيل: يجوز أن يوكل الفاسق- أي: وإن قلنا: إن الفاسق لا يلي- لأنه موكل من جهة الولي، والولي عدلٌ، وهذا ما ادعى الإمام في ضمن توكيل المرأة بالطلاق أنّه الرأي الأصح، وطرده في توكيل العبد، وبنى الجيلي الخلاف على وجوب تعيين الزوج في التوكيل، فإن قلنا: يجب، فيجوز أن يوكل الفاسق لدفع التهمة، وإلا فلا.
ومقتضى ذلك: أنه لو عين الزوج على القول بأنه لا يجب، يصح التوكيل؛ لأنه لا [يجوز] مع التعيين أن يزوج من غيره.
ولو وكّل وكيلاً في أن يوكِّل في التزويج، فيجوز أن يكون امرأةً، خلافاً للمزني على ما حكاه المتولي، ويجوز أن يكون مُحْرِماً على الأصح كما حكاه الرافعي.
وفي "التهذيب": أنه إذا وكل امرأة، إن قال: وكلي عن نفسك، لم يصح، وإن قال:[وكلي] عني، [أو أطلق]- فوجهان.
قال: "وليس للولي ولا للوكيل"-[أي]: إذا كان الولي ممن يحل له نكاحها: كابن العم، والمعتِق، والقاضي، والإمام الأعظم- أن يوجب النكاح لنفسه، أي: سواء أطلقت الإذن و [عينته] فيه؛ لقوله- صلى الله عليه وسلم: "لَا نِكَاحَ إِلَّا
بِأَرْبَعَةٍ: خَاطِبٍ، وَوَلِيٍّ [مرشد]، وَشَاهِدَيْنِ"، ولأن خطاب الإنسان مع نفسه لا [ينتظم]. نعم، يزوجها منه [من في درجته، كما إذا كان هناك ابن عم آخر، وإن لم يكن في درجته غيره، زوجها منه] القاضي، وإذا كان الراغب القاضي زوجها منه مَنْ فوقه من الولاة، أو يخرج إلى قاضي بلد آخر ليزوجها منه، أو يستخلف خليفة إن كان له الاستخلاف، كذا قاله الغزالي.
وفي "الشامل" في جواز قبوله من خليفته وجهان، والمذهب منهما: أنه لا يجوز.
قال: وقيل: يجوز للسلطان أي: الإمام الأعظم ممن هو في ولايته؛ لأنه ليس فوقه من يزوجها منه، ولو فوض إلى غيره كان وكيلاً له؛ فكان إيجابه كإيجابه.
وفي القاضي أيضاً وجه بعيدٌ، ويقال: إنّ أبا يحيى البلخي ذهب إليه، وإِنَّه كان- حين كان قاضياً بـ "دمشق"- تزوج امرأة ولي أمرها من نفسه.
وفي ابن العم وجه ذكره الغزالي في كتاب "الوكالة": أنه يزوج من نفسه.
قال الرافعي: ويجيء مثله في المعتِق.
تنبيه: حيث يجوز لأحد هؤلاء التزويج من نفسه، فذاك إذا سمّته في إذنها، أمَّا إذا أطلقت الإذن وجوزناه ففيه وجهان حكاهما الحناطي.
فرع: لو أراد أحد هؤلاء أن يزوجها من ابنه الصغير، فهو كما لو أراد تزويجها من نفسه، ولو أراد أن يزوجها من ابنه البالغ عند إطلاق الإذن- إذا جوزناه- فهل يجوز؟ فيه وجهان، ومنهم من قطع بالجواز.
قال: "ولا يجوز لأحدٍ أن يتولى الإيجاب والقبول"[، أي:] لغيره كالولي [أو الوكيل] في الإيجاب إذا توكل عن الزوج في القبول، أو كان له ولاية التزويج عليه كالجد- أب الأب- في نكاح واحدٍ؛ لما تقدم.
قال: "وقيل: يجوز [للجد] أن يوجب [ويقبل] في تزويج بنت ابنه بابن ابنه"، أي: إذا كان له ولاية الإجبار عليهما؛ لأنه يتولى طرفي العقد بغير توليةٍ، فتولاه بنفسه كبيع [مال] ابنه من نفسه، وهذا هو الصحيح، واختاره ابن الحداد والقفال وابن الصباغ، والأول اختاره صاحب "التلخيص" وجماعة من المتأخرين. فإن قلنا: يتولى الطرفين، فهل يحتاج إلى القبول لفظاً؟ فيه خلاف مرتب على الخلاف في البيع، وأولى باعتباره في النكاح؛ لما خصّ به من التعبدات، وإن قلنا: لا يتولاهما، فإن كانت بالغة فيزوجها السلطان بإذنها، ويقبل الجد النكاح، وإن كانت صغيرة، وجب الصبر إلى أن تبلغ، فتأذن، أو يبلغ الصغير فيقبل، كذلك حكاه الشيخ أبو علي وغيره، وفي الوكيل [من الجانبين] أيضاً وجه: أنه يصح.
فرعان:
أحدهما: السيد إذا قلنا: له إجبار عبده الصغير، فأراد تزويجه من أمته- فهو كتولي الجد الطرفين.
الثاني: من منعناه من تولي الطرفين، لو وكل في أحد الطرفين، أو وكل شخصين بالطرفين حيث يسوغ التوكيل- فيه وجهان:
أحدهما: يجوز؛ لأن المقصود رعاية التعبُّد في صورة العقد، وقد حصل.
وأصحهما: المنع؛ لأن فعل الوكيل فعلُ الموكِّل، وليس ذلك كتزويج القاضي
من القاضي عند من رآه، والقاضي من الإمام الأعظم؛ فإنهما يتصرفان بالولاية لا بالوكالة.
ومنهم من جوّز للجد التوكيل، ولم يجوزه لابن العم [ومن في معناه]؛ لأن الجد ولي تام الولاية من الطرفين، وابن العم ولي من طرف وخاطب من طرف.
قال: "ولا يزوج أحد من الأولياء المرأة من غير كفءٍ إلا برضاها ورِضَا سائر الأولياء"، أي: باقي الأولياء الذين لهم ولاية حال العقد؛ لما فيه من لحوق العار، فإن رضوا جاز؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس:"انْكِحِي أُسَامَةَ" وهو مَوْلى.
وقيل: إن البكر لا يجوز تزويجها من غير كفءٍ وإن رضيت.
قال: وإن دعت إلى غير كفءٍ- لم يلزم الولي تزويجها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "ثَلَاثَةٌ لَا تُؤَخَّرُ
…
" وعدّ منها: "الْأَيِّمُ إِذَا وَجَدَتْ كُفْئاً"، وقوله: "إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَأَمَانَتَهُ فَأَنْكِحُوهُ"، فأوجب التزويج عند وجود الكفاءة؛ فوجب ألا يجب
عند عدمها؛ عملاً بالأصل.
تنبيه: حيث قلنا: يجوز التزويج من غير كفءٍ، فذاك إذا كان الولي خاصّاً، أمَّا إذا كان [الولي] حاكماً فهل يجوز؟ فيه وجهان:
اختيار الإمام والغزالي: الجواز؛ إذ لا حظ [للمسلمين] في طلب الكفاءة.
واختيار البغوي والمتولي: المنع؛ لأنه نائبٌ عن المسلمين، وتصرف النائب إنما يصح بشرط النظر، وليس في التزويج من غير الكفءِ نظرٌ.
قالا لمتولي: وأصل المسألة: أن السلطان هل يُجعل كالوارث المعين، حتى إذا [قُتِل] من لا وارث له [، له] العفو عن القصاص؟ وفيه خلاف سنذكره، فإن جعلناه كالوارث المعين صح، وإلا فلا.
فصل: والكفاءة في: النسب، والدين، والصنعة، والحرية؛ فلا تزوج عربيةٌ بأعجمي.
الكفء: المثل، والعجمي: كل من لم يكن [أبوه عربيّاً]، سواء فيه [جميع] الطوائف، [وإنما] لم يكن العجمي كفئاً للعربية؛ لمفهوم قوله صلى الله عليه وسلم:"الْعَرَبُ بَعْضُهَا لِبَعْضٍ أَكْفَاءٌ، وَالْمَوَالِي بَعْضُهَا لِبَعْضٍ أَكْفَاءٌ"، واستدل بعضهم
على ذلك بمفهوم ما روى أنه- عليه السلام قال: "الَعَرَبُ [أَكْفَاءٌ] بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: قَبِيلَةٌ لِقَبِيلَةٍ، وَحَيٌّ لِحَيٍّ، وَرَجُلٌ لِرَجُلٍ، إِلَّا حَائِك أَوْ حَجَّام".
وقال عبد الحق في "أحكامه الكبرى": إنه حديث منكر موضوع.
قال: "ولا قرشيّة بغير قرشي، ولا هاشميّة"[أي]: ولا مطَّلِبِيَّة بغير هاشميٍّ، و [من] في معناه كالمطلبي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ اللهَ اخْتَارَ الْعَرَبَ مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ، وَاخْتَارَ مِنَ الْعَرَبِ قُرَيْشاً، وَاخْتَارَ مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ"، وقال- عليه السلام:"نَحْنُ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ هَكَذَا" وشَبَّكَ بين أصابعه.
وقيل: قريش بعضهم لبعض أكفاء، كما أنهم يستوون في الأهلية للإمامة.
واعلم أن الاعتبار في النسب بالأب؛ فالذي أبوه أعجمي وأمه عربيّة ليس بكفءٍ للتي أبوها عربي وأمها أعجمية، وقد أشرنا إلى ذلك من قبل.
فرع: موالي قريش، قال مجلي: اختلف أصحابنا في أنهم: هل يكونون أكفاءً لقريش؟ على وجهين.
تنبيه: كما يعتبر النسب في العرب يعتبر في العجم أيضاً، وعن القفال والشيخ أبي عاصم: أنه لا يعتبر [النسب] في العجم؛ لأنهم لا يعتنون بحفظ الأنساب.
[قال]: "ولا عفيفة بفاجرٍ".
العفيفة هنا: المصونة عن الفواحش، والفاجر: مرتكبها، ومعناه: أن الفاسق ليس كفئاً للمرأة العَدْلِ؛ لقوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، وقوله صلى الله عليه وسلم:"إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَأَمَانَتَهُ فَأَنْكِحُوهُ"، ولا اعتبار بالشهرة، بل الذي [لم] يشتهر بالصّلاح كفءٌ للمشهورة به، ومن هذا القبيل:[من أسلم بنفسه ليس بكفءٍ] لمن لها أبوان أو ثلاثة في الإسلام، كما جزم به [في "التهذيب".
وعن القاضي أبي الطيب وغيره رواية وجهٍ: أنه] كفء لها. واختاره القاضي الروياني، ولم يَحْكِ في "الذخائر" سواه، وعلله بأن الولد لا يكون عند الاستقلال كافراً بكفر أجداده، بخلاف النسب.
وذكر بعض المتأخرين أنه لا ينظر إلا إلى إسلام الأب الأول والثاني؛ فمن له أبوان في الإسلام كفء للتي لها عشرة آباء في الإسلام؛ لأن الثالث لا يذكر في التعريف.
والظاهر الأول، وهو المحكي عن الشافعي، كما حكاه الغزالي؛ حيث قال: كيف كان [على كفءَ فاطمة][وأبوه كافر] وأبوها سيد البشر؟! ولو يكفي النسب في الكفاءة فالناس كلهم أولاد آدم.
قال: "ولا حرّة بعبد"؛ لقوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} إلى قوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوُونَ} [النحل: 75]، [أي: لا يستوون]، ولأنها تتعيَّر بكونها فراشاً للعبد، وكذلك عشيرتها، وتتضرر بأنه لا ينفق [عليها] إلا نفقة المعسرين؛ ولهذا أثبت لها الشرع الخيار إذا عتقت تحت عبد.
ومن مسَّه الرق ثم عتق ليس بكفء [للحرّة [الأصلية].
ومن مسَّ الرق [أحد آبائه، ووُلِدَ هو في زمان الحرية ليس بكفءٍ] للتي لم يمس الرق] أحداً من آبائها، وفيه وجه حكاه مجلي: أنه كفءٌ لها.
وكذلك من مس الرق أباً أقرب في نسبه ليس بكفءٍ للتي مسّ الرق أباً أبعد في نسبها.
ومن بعضها حرٌّ، هل يكون العبد كفئاً لها؟ فيه وجهان، أصحهما- على ما حكاه مجلي-: لا.
وجريان الرق في الأمهات، قال الرافعي: يشبه أن يكون- أيضاً- مؤثراً؛ ولذلك تعلق به الولاء، والله أعلم.
قال: "ولا بنت تاجر أو تانئٍ بحائك أو حجام".
التانئ، قيل: هو الدِّهقان.
وقيل: هو رئيس البلد وساكنه، قاله الجيلي.
وقال النووي: إنه صاحب العقار، وهو مهموز، وهو مأخوذ-[على ما قاله ابن فارس والجوهري- من]: تنأت [بالبلد]، بالهمز: إذا قطنته [قاله ابن فارس والجوهري].
قال الجوهري: [وجمع]"التانئ": تُنّاء؛ [كفاجرٍ وفُجَّار]، والاسم منه: التناءة.
قال النووي: وقد وقع في نسخ التنبيه: [بنت] تاجر أو تانٍ- بالنون المنونة- كقاضٍ، وهو لحن بلا خلاف، وصوابه:[تانئ]، بالهمز، ويكتب بالياء.
وإنما لم يكن الحائك والحجام كفئاً لبنت التاجر والتانئ؛ لأنهما يُسْتَرْذلان عرفاً بالنسبة إليهما.
والكناس [والحجام] وقيِّم الحمام والحارس والراعي لا يكافئون ابنة الخياط، والخياط لا يكافئ ابنة التاجر والبزاز، والمحترفُ [لا يكافئ] ابنةَ القاضي والعالم.
وذكر في "الحلية": أنه تراعى العادة في الحرف والصناعات؛ لأن في بعض البلاد التجارة أولى من الزراعة، وفي بعضها الأمر بالعكس.
قال الرافعي: واعلم أن الحرف الدنيّة في الآباء، والاشتهار بالفسق مما يتعيَّر به الولد؛ فيشبه أن يون حال الذي كان أبوه صاحب حرفة دنيَّة أو مشهوراً بالفسق مع التي أبوها عدل، كما ذكرنا في حق من أسلم بنفسه مع التي أبوها مسلم، والحق: أن يجعل النظر في حال الآباء ديناً وسيرةً وحرفة من حيز النسب؛ لأن مفاخر الآباء في حالهم [هي] التي يدور عليها أمر [الكفاءة]. هذا هو المشهور، ووراءه أمور أُخر:
أحدها: حكى ابن الصباغ عن البويطي قولاً [أن] الكفاءة في الدين وحده، وليس بشيء؛ لما ذكرناه.
والثاني: اليسار، [وهل هو] من خصال الكفاءة؟ فيه وجهان:
أظهرهما: لا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اختار الفقر.
والثاني: نعم؛ لأنه إذا كان معسراً لم ينفق على الولد، وينفق [على الزوجة] نفقة المعسرين؛ فتتضرر به، وعلى هذا فوجهان:
أحدهما: أن المعتبر اليسار بقدر النفقة والمهر؛ فإذا أيسر بهما فهو كفء لصاحب الألوف.
وأظهرها: أنه لا يكفي ذلك، ولكن الناس أصناف: غني، وفقير، ومتوسط، وكل صنف أكفاءٌ وإن اختلفت المراتب.
وقيل: [إن اليسار يعتبر] في أهل الأمصار وجهاً واحداً، وأمَّا أهل البوادي والقرى ففيهم الوجهان، حكاه مجلي.
الثالث: الشيخ هل يكون كفئاً للشابة؟ ذكر القاضي الروياني أنه لا يكون كفئاً على المختار من الوجهين، وذكر أيضاً أن الجاهل لا يكون كفئاً للعالمة، وفي "الحلية" ترجيح القول بأن الشيخ كفء للشابة.
الرابع: التنقِّي من العيوب، عدّه الجمهور من خصال الكفاءة، وقد حصر البغوي العيوب في أربعة: الجنون، والجذام، والبرص، [والجب، أو العُنَّة].
وصاحب "التتمة" وابن يونس قالا: العيب الذي يعتبر التنقي منه هو الجنون، وكذلك الجذام والبرص على أحد الوجهين.
وقيّده الرافعي بالعيوب المثبتة للخيار، ثم قال: واستثنى صاحب التهذيب" من العيوب: العنة، وقال: إنها لا تتحقق؛ فلا نظر إليها في الكفاءة.
وفي "تعليق" الشيخ أبي حامد وغيره التسوية بين العنة وغيرها صريحاً، وإطلاق الأكثرين يوافقه، ثم قال: وزاد القاضي على العيوب المثبتة للخيار، فقال: والعيوب التي تنفر النفس عنها: كالعمى، والقطع، وتشوُّه الصورة- تمنع الكفاءة عندي، وبه قال بعض أصحابنا، واختاره الصيمري. هذا آخر كلامه.
واعلم أن ما قالوه غير مُجْرىً على ظاهره؛ لما تقرر أن الكفاءة حقٌّ للمرأة، وحقٌّ للأولياء، ولما سنوضحه، بل الوجه أن يقال: إن كانت الكفاءة مطلوبة رعاية [لحق] المرأة؛ بأن تكون مُجْبَرة، وأراد الولي تزويجها، أو أطلقت الإذن لغير المجبِر، وجوزناه- فالمعتبر: التنقِّي من كل عيب يثبت [لها] الخيار من جنون، أو جذام، أوب رص، [أو جب] أو عُنة، وغير ذلك من العيوب إن أثبتنا لها به
الخيار، وعليه يحمل قول البغوي والرافعي.
وإن كانت مطلوبةً رعاية لحق الأولياء؛ بأن تكون المرأة طالبةً للتزويج، راضية بالزوج المعيب، وامتنع الأولياء أو بعضهم- فالمعتبر: التنقي من كل عيب يثبت لهم الخيار، وهو عند العراقيين: الجنون- بلا خلاف- وكذلك الجذام والبرص على أحد الوجهين، لا الجب والعنة وغيرهما.
وألحق الشيخ أبو حامدٍ الجذام بالجنون، وعلى ذلك يحمل ما قاله المتولي وابن يونس، وكلام الغزالي وافٍ بالمقصود في الطرفين؛ لأنه قال: العيوب المثبتة للخيار. ومراده من ذلك: إن كانت الكفاءة لحق المرأة فالعيوب التي تثبت الخيار لها، وإن كانت [مطلوبة] لحق الأولياء فالعيوب المثبتة لهم الخيار.
وقد ذكر الشيخ هذا الشرط في باب الخيار في النكاح، وله مناسبة ثّمَّ؛ لأنه [لما] اشتمل على أمر زائدٍ أفرده بالذكر في موضع الزيادة.
ووجه الزيادة: أن الأصحاب أطبقوا على أن المرأة لو أذنت لوليها في أن يزوجها من معين فزوجها منه، ثم ظهر أنه غير كفء، فلا خيار لهما، ولو خرج مَعِيباً ثبت الخيار، وقد حكى ذلك الإمام قبل باب الأمة تعتق وزوجها مملوك.
فائدة: [هذه] الخصال [هل] ينجبر بعضها ببعضٍ؟
قضية كلام الأكثرين: المنع، وقد صرح به صاحب "التهذيب" و"التتمة"، وأبو الفرج السرخسي، حتى لا تزوج سليمة من العيوب دنيِّة من معيب [شريف]، ولا حرةٌ فاسقة من عبدٍ عفيف، [ولا عربية فاسقة من عجمي عفيف]، ولا رقيقة عفيفة من فاسق حرٍّ، وتبقى صفة [النقص] مانعة من الكفاءة.
وفصل الإمام فقال: السّلامة عن العيوب لا تقابل بسائر فضائل الزوج؛ ولذلك
ثبت بها حقُّ الفسخ، وإن كانت في المعيب فضائل جمة، وكذا الحرية لا تقابل بفضيلة أخرى، وكذا النسب.
نعم، العفة الظاهرة في الزوج هل تَجْبُرُ دناءة [نسبه]؟ فيه وجهان.
أظهرهما: المنع، وبَقْىُ الحرفة الدنيّة يعارضه الصلاح وفاقاً، واليسار [إن] اعتبرناه يعارض بكل خصلةٍ من خصال الكفاءة.
قال: فإن زوجها من غير كفء، أي: الأب أو الجد إذا كان مجبِراً، [أو غيرُ] المُجْبِر إذا أذنت له من غير تعيين الزوج، وجوزناه.
قال: بغير رضاها، أي: بترك الكفاءة، أو بغير رضا بقية الأولياء- أي: برضاها- فالنكاح باطلٌ.
أمَّا إذا [كانت مجبَرة]؛ فلأنه تصرف على خلاف الغِبطة، وإذا لم يصح التصرف في المال على خلاف الغبطة، فالتصرف في البُضع أولى.
وأمَّا إذا كانت غير مجبَرة؛ فلأنه عقد في حق الغير بغير إذنه فلم يصح كبيع مال الغير [بغير] بإذنه.
قال: وقيل: فيه قولان:
أحدهما: [أنَّ النكاح] باطل؛ لما ذكرناه.
والثاني: أنه صحيح، ويثبت ولها الخيار، أي: في المسألة الأولى، [وللأولياء] في الثانية؛ لأن النقصان يقتضي الخيار لا البطلان؛ كما لو اشترى معيباً.
وروى القاضي ابن كجٍّ طريقة ً أخرى فيما إذا كانت مجبرةً، وهي تنزيل القولين على حالين: إن علم الولي عدم الكفاءة فالنكاح باطل، وإلا فصحيح.
فرع: لو كانت صغيرة عند العقد تخيرت إذا بلغت، وحكى الإمام وجهاً: أنها لا تتخير، وعليها أن ترضى بعقد الأب، وهل للولي الخيار [في صغرها]؟ فيه وجهان:
أحدهما: نعم؛ كما لو اشترى للصغير معيباً.
والثاني: لا؛ لأنه يتعلق بالشهوة والطبع، فلا تجري فيه النيابة.
وهذا الخلاف مخصوص بما إذا جهل الولي حال الزوج، فإن علم فلا خيار له. كذا قاله الحناطي وصاحب "التهذيب" والإمام، وطرده القاضي ابن كجٍّ وآخرون في حالتي الجهل والعلم، وقالوا: إنه ليس عاقداً لنفسه حتى يلزم حكم علمه.
وذكر مجلي عند العراقيين القولين في أن الولي هل يختار في حال الصغر أم لا؟
أحدهما: أنّ له ذلك، ولم يفرقوا بين العلم والجهل.
والثاني: التفرقة بين حالتي العلم والجهل؛ فيثبت في حال الجهل دون حال العلم.
قال: ولا يصح النكاح إلا بحضرة شاهدين، أي: مكلفين ذكرين، حرين [عدلين] مسلمين، أي: وإن كانت الزوجة ذميّة، عدلين، أي: في الظاهر، ويكونان ممن تقبل شهادتهما لكل واحدٍ من الزوجين وعليه.
وإنما اعتبرنا حضور الشاهدين؛ لقوله- صلى الله عليه وسلم: "لا نِكَاحَ إِلا بِوَلِيٍّ مُرْشِدٍ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ"، والمعنى فيه: الاحتياط للأبضاع، وصيانة للنكاح عن الجحود، ولأن القصد من النكاح الاستمتاع وطلب النسل؛ فشرع فيه الإشهاد وجوباً؛ لحفظ النسب وزوال التهمة.
وإنما اعتبرنا الذكورة؛ لظاهر الخبر؛ لأن لفظ "الشاهدين" يقع على ذكرين، وعلى ذكر وأنثى، والثاني غير مراد؛ لأن الخصم يوافق عليه؛ فتعين الأول.
ولأنه ليس بمال، ولا المقصود منه المال، ويطلع عليه الرجال؛ فلا يستقل به النساء، ولا يستتبع الرجال فيه النساء؛ قياساً على القصاص.
وإنما اعتبرنا الحرية [والتكليف] والإسلام؛ لأن المقصود بحضور الشاهدين لا يحصل بدون ذلك.
وإنما اعتبرنا العدالة، وهي ترك الفسق؛ لظاهر الخبر، ولأن النكاح لا يثبت بشهادة الفاسقَيْنِ؛ [فلا ينعقد بحضورهما كالعبدين.
ونقل الجيلي قولاً: [أنه ينعقد بشهادة الفاسقين].
فإن قيل: ما الفرق بين تحمل الشهادة في النكاح وبين سائر التحملات؛ حيث لا تعتبر فيها الصفة المعتبرة حال أداء الشهادة؟
فالجواب: أن سائر التحملات ليست بواجبة، بخلاف التحمل هنا؛ فإنه واجبٌ، فأشبه حالة الأداء في غيره.
ويشترط في كل من الشاهدين: أن يكون سميعاً ولو كان بعد مشقةً.
وفي الأصم وجه: أنه ينعقد بحضوره، حكاه الجيلي. وهل يشترط أن يكون ناطقاً وبصيراً، وغير ملابسٍ لحرفة دنيَّة كالصّبّاغ والصائغ وغيره؟ فيه وجهان، والأصح في الأعمى: عدم الانعقاد [وعليه ينطبق قول الشيخ، فإن كان عقداً أو إقراراً فلابد من مشاهدة العاقد]، وقيل في "التتمة": الخلاف في الأخرس بما إذا كانت [له إشارة] مفهمة، وقلنا: لا تقبل [شهادته].
وهل ينعقد بحضور ابني الزوجين أو أحدهما؟ فيه أربعة أوجه:
أحدها: ينعقد؛ لأنهما من أهل الشهادة في النكاح على الجملة.
والثاني: لا يصح؛ إذ لا يحصل المقصود منهما من إثبات النكاح عند التناكر.
والثالث: إن كانا ابني أحدهما صحّ؛ لأن إثباته ممكن من الجانب [الآخر، وإن كان] أحدهما للزوج، والآخر للزوجة، [أو كانا ابنيهما]- لم يصح؛ لأنه لا يمكن إثباته من كل جانب.
والرابع: إن كانا ابني الزوج لم يصح؛ لأنه لا يقدر على إثبات النكاح بشهادتهما عند إنكارها، وإن كانا ابني الزوجة صح؛ لأن الزوج يقدر على الإثبات بشهادتهما عند إنكارها، والمرأة لا تحتاج إلى الشهادة؛ لإثبات الحِلِّ؛ فإنه يندفع بإنكار الزوج، ثم إن احتاجت إلى إثبات المهر والنفقة، فالمقصود الأصلي من النكاح الحِلُّ، والشهادة شرط لإثباته.
والوجه الأول والثالث حكاهما العراقيون لا غير، ولا خلاف بين الأصحاب أنه لو حضر أربعة:[ابنان للزوج، وابنان للزوجة] صح.
ويجري الخلاف فيما لو حضر الزوج وجد الزوجة، [أو أبوه] وجدها.
ولو حضر أخو المرأة والمزوِّج أخ ثالث، فهل يصح النكاح؟ فيه جوابان حكاهما الرافعي عن "فتاوى" الفراء قبل كتاب الصداق، ووجه المنع: أن الشرع جعل المباشر نائباً عن الباقين فيما توجه عليهم.
ويعتبر- أيضاً- أن يكون الشاهد خالصاً من العداوة بينه وبين الزوجين، والتفصيل في العداوة كالتفصيل في البنوة حرفاً بحرفٍ، ومنهم من قطع بالانعقاد؛ لأن العداوة قد تزول.
فرع: العجمي الذي لا يعرف لسان المتعاقدين، إذا كان لا يضبط اللفظ لا ينعقد بحضوره، وكذلك المُغَفَّل، وإن كنا العجمي يضبطه فوجهان.
ولو كان الشاهد يحفظ ثم ينسى عن قريب انعقد بحضوره.
قال: فإن عقد بشهادة مجهولين- أي: جهل حالهما في الفسق والعدالة الباطنة دون العدالة الظاهرة- جاز على المنصوص، وهو الصحيح من المذهب، ولم يحك ابن الصباغ سواه، وادعى البغوي فيه الوفاء؛ لأن النكاح يجري فيما بين أوساط الناس والعوام، ولو كلفوا بمعرفة العدالة الباطنة لطال الأمر وشقّ.
وقيل: لا يجوز؛ لظاهر الخبر، ولأن الفسق يؤثر، والعدالة شرط في صحة النكاح؛ فالجهل به يقتضي التوقف كالإثبات عند الحاكم، وكذلك الخلاف جارٍ فيمن جُهلت حريته أو رقه، لكن على العكس من ذلك. هذا قول الجمهور.
[وحكى] المتولي عن القاضي الحسين: أنه كان يقول: مثل هذين المستورين لا ينعقد النكاح بشهادتهما؛ إذ ليس الأصل اجتماع الشرائط، بل الأصل عدمها، ولكن صورة المستورين أن يكون قد عُرفت عدالتهما مرة وخُبِرَ حالهما، ومضى على ذلك مدة، ولا يعلم هل هما على ما كانا عليه، أو قد تغير حالهما، فالعقد ينعقد بشهادتهما؛ لأن الأصل بقاؤهما على العدالة.
فروع:
لو أراد الحاكم أن يزوج امرأة، قال الرافعي: من أصحابنا من قال: ليس له أن
يعقد إلا بشهادة شاهدين باطنهما العدالة؛ لأن الحاكم من أهل الاجتهاد؛ فلا يشق عليه البحث عن العدالة الباطنة.
وفي "التتمة": أن الصحيح انعقاد العقد بشهادة المستورين؛ لأن الحاكم فيما طريقه المعاملة مثل غيره: لو بان أنهما كانا فاسقين عند العقد ببينة، أو بإقرار الزوجين- حكم ببطلان النكاح، كما لو بانا أنهما [كانا] رقيقين، أو كافرين. وقيل: على قولين، ووجه الصحة: الاكتفاء بالستر يومئذٍ، والأصح: البطلان، ولو اعترف الشاهدان بالفسق، وأنكره الزوجان، فلا [تأثير لإقرارهما].
لو أخبر عدل واحد عن فسق المستور، فهل يزيل إخباره الستر حتى لا ينعقد النكاح بحضوره؟ وإن زال فيُنْحَى بإخباره نحو الرواية، أو نقول: هو شهادة فلا نعتبر إلا قول من تحرَّج عند القاضي؟ تردد في ذلك الإمام.
قال: ولا يصح إلا على زوجين معينين؛ لأن أعيانهما مقصودة بالنكاح، فوجب تعيينهما؛ كالثمن والمثمَّن في البيع.
والتعيين في الزوجة:
تارة يكون بالإشارة: كهذه، وهي مسفرة عن وجهها.
وتارة بذكر النسب فقط: [كبنتي]، ولا ابنة له سواها.
وتارة بالاسم والنسب: كفاطمة بنت زيدٍ، ويرفع في نسبها، [أو: ابنتي].
وتارة بالنسبة والصفة: كابنتي الصغرى، أو: الكبرى، أو: الوسطى، إن كنّ ثلاثاً.
وتارة بالنسبة والنية؛ كما حكاه العراقيون وصاحب "التهذيب": كابنتي، وله بنتان فأكثر، مع نيتهما واحدةً بعينها.
واعترض الشيخ مجلي على ذلك، فقال: النكاح عقد يفتقر إلى الشهادة، ولا مُطَّلَع للشهود على النية؛ [ولذلك] حكمنا بأن النكاح لا ينعقد بالكناية مع النية.
أمَّا لو قال: زوجتك هذه، واقتصر عليه، وهي منقبة- قال في "التتمة": لا يصح
العقد؛ لأنها مجهولة؛ كما لا يتحمل الشهادة عليها إلا بعد مشاهدتها، أو معرفته لاسمها ونسبها.
وقال في "الشامل": يصح، لكنه لم يفرض الصورة فيما إذا كانت منقبة، بل أطلق [الصورة]، وهكذا الرافعي، ثم قال: وفي معناه ما إذا كانت في الدار، فقال: زوجتك [التي في الدار، وليس فيها غيرها.
ولو كانت له ابنة اسمها فاطمة، ولا ابنة له سواها، فقال: زوجتك] فاطمة- لم يصح إلا أن ينوياها، واعترض ابن الصباغ على ذلك بمثل ما اعترض به مجلي [من قبل.
قال مجلي]: وهذا إنما يتجه فيما ذكرناه؛ لأن اللفظ مجمل، أمَّا في هذه المسألة فلا إجمال مع التسمية، وقد قصد من له العقد عليها.
ولو قال قائلٌ: لا يفتقر إلى القصد من جهتها، لكان محتملاً؛ إذ القرينة تحمل العقد عند الإطلاق على من يصح العقد عليها وهي ابنته؛ فإن العادة أن الإنسان لا يتصرف إلا في محل [يملك التصرف] فيه.
قلت: ويؤيده ما إذا قال: زينب طالق، وكان اسم زوجته زينب؛ فإنه ينصرف الطلاق إليها على المذهب.
ولو قال: زوجتك ابنتي فلانة- وسمّاها [بغير اسمها]- فالأصح الصحة؛ لأن البنتيَّة صفة لازمة.
حكاه المتولي والبغوي، وهذا الخلاف مبني على الخلاف فيما إذا قال: بعتك هذا الفرس، وإذا هو بغل. قال مجلي: والبناء لا يصح؛ لأن الأوصاف في البيوع مقصودة؛ ولهذا تختلف الأيمان بها فهي المقصودة بالبيع، [ويثبت] بالحلف فيها الخيار للمشتري، والنكاح بخلافه.
ولو قال: زوجتك هذه فلانة- وسمَّاها بغير اسمها- فالأصح في "التتمة": الصحة، والمحكي في "الإبانة" عن المذهب خلافه، وهو الذي جزم به في "التهذيب" و"الشامل".
وفي "المهذب" جزم بالصحة فيما إذا قال: زوجتك هذه فلانة.
ولو قال: زوجتك هذا الغلام، وأشار إلى ابنته- حكى القاضي الروياني عن الأصحاب: أنه يصح النكاح؛ تعويلاً على الإشارة.
والتعيين في [الزوج] أن يشافهه، أو يقول: زوجت هذا- إن كان حاضراً- أو يسميه ويرفع في نسبه إن كان غائباً.
قال: "والمستحب أن يخطُب قبل العقد"[أي: عند الخِطبة]؛ لما روى أبو هريرة- رضي الله عنه أن النبي- صلى الله عليه وسلم قال: "كُلُّ كَلَامٍ لَمْ يُبْدَا فِيهِ بِالْحَمْدِ فَهُوَ أَجْذَمُ"، ويستحب أن يأتي بالخطبة التي رواها ابن مسعود عن
النبي صلى الله عليه وسلم وهي:
"الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء: 1]، {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، {اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} [الأحزاب: 70] إلى قوله: {فَوْزاً عَظِيماً} "[الأحزاب: 73]، هكذا قال ابن الصباغ والمتولي عن ابن مسعود، ثم قالا: ويستحب أن يقول في آخرها: والنكاح مما أمر الله به، وندب إليه. ويقرأ ما يناسب ذلك من الآيات، ويذكر ما في ذلك من الأخبار، ويستحب أيضاً أن يخطب خطبةً ثانية عند عقد النكاح، فيقول الولي: بسم الله، والحمد لله، وصلى الله على رسول الله، أوصيكم بتقوى الله: زوجتك فلانة، [ويقول] الزوج: قبلت هذا النكاح. أو يخطب الزوج ابتداءً، ثم يقول: تزوجت منك فلانة، فيقول الولي: زوجتك.
ولو خطب الزوج والولي فهل يصح النكاح؟ فيه وجهان، أصحهما الصحة؛ لأنها من مقدمات القبول، فلا تقطع الموالاة بين الإيجاب [والقبول] كالإقامة بين صلاتي الجَمْع.
قال [الإمام]: وهذا تكلف عندنا؛ فإنه لو تخلل بين صلاتي الجمع بمقدار الإقامة- ما لم يكن لمصلحة الصلاة- لم يضر أصلاً، [وموضع]
الوجهين ما إذا لم يَطُلِ الذكر بينهما، فإن طال قطعنا ببطلان العقد، قاله الإمام والبغوي والمتولي.
قال الرافعي: وكان يجوز أن يقال: إذا كان الذكر مقدمة القبول وجب ألَّا تضر إطالته؛ لأنها لا تشعر بالإعراض.
قال: وأن يقول قبل العقد: أزوجك على ما أمر الله به من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، روى ذلك عن [ابن] عمر، رضي الله عنهما.
ومعناه: أن كل زوج مؤاخذ في أدب الدين بأن يمسك حليلته بمعروف أو [يسرِّح] بإحسان، وإنما استحب ذلك قبل العقد؛ حتى لا يقع شرطاً في العقد، ولو قيد الولي كلامه بذلك فقال: زوجتكها على أن تمسكها بمعروف أو تسرحها بإحسان، فقبل الزوج النكاح مطلقاً، أو صرح بالتزام ما شرط عليه- قال الإمام: فلأصحابنا وجهان في صحة النكاح، والذي أراه أنهما إن أجرياه شرطاً مُلتزَماً فالوجه البطلان، وإن قصدا الوعظ دون الالتزام لم يضر، وإن أطلقا احتمل أن يحمل على الشرط، و [إن] احتمل أن يحمل على [الوعد].
قال: ولا يصح إلا بلفظ "التزويج" أو "الإنكاح"؛ لقوله- صلى الله عليه وسلم في خطبة الحج: "اتَّقُوا اللهَ فِي النِّسَاءِ؛ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللهِ، وَاستَحْلَلْتُمْ فُزُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ"، وليس في القرآن والسنة كلمة مستعملة في العقد إلا هاتين الكلمتين.
ولأن من شرط صحته الإشهاد، والشهود لا مُطَّلَعَ لهم على أكثر من الألفاظ الصادرة من المتعاقدين، وغير هذين اللفظين لا يشعر بمقصودهما بمجرده، وانضمام النية إلى اللفظ لا يطلع الشهود عليها؛ فلم يصح.
ولأنه لفظ ينعقد به غير النكاح؛ فلا ينعقد به النكاح؛ كلفظ الإباحة والتحليل.
ولأن النكاح ينزع إلى العبادات؛ لورود الندب فيه، والأذكار في العبادات تتلقى من الشرع، والوارد من الشرع هذان اللفظان، ولا يشترط توافق اللفظين حتى لو قال: زوجتك فقال الزوج: قبلت نكاحها- صح العقد.
ولو قال: أنكحتك، فقال: رضيت نكاحها- حكى الوزير ابن هبيرة أنه يصح. ولم أره لغيره.
فرع: نكاح رسول الله- صلى الله عليه وسلم هل كان ينعقد بلفظ الهبة؟ فيه وجهان محكيان في "الشامل":
أحدهما: لا ينعقد كنكاح غيره.
والثاني: نعم؛ لقوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً} [الأحزاب: 50] إلى قوله: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50].
وفي هذا دليل على الخصم في كونه يُجَوِّز النكاح بلفظ الهبة لغيره، عليه السلام.
والقائل الأول حمل الهبة في الآية على هبة المهر.
وعلى هذا فقد اختلف الأصحاب في كيفية العقد على وجهين في "البحر":
أصحهما: [أن تقول: وهبت نفسي،] فيقول- صلى الله عليه وسلم: اتهبت، أو: قبلت.
والثاني: لابد في جانبه من لفظ النكاح. وعلى الوجهين لا مهر.
تنبيه: قول الشيخ: إلا بلفظ "الإنكاح" أو "التزويج"، يعرفك أنه لا ينعقد بكتابة ذلك، وقد حكى الهروي فيه وجهين في حق النائب، وقطع بالمنع فيما إذا كانا حاضرين.
وفي "الوسيط" في كتاب الطلاق حكاية الخلاف فيه.
ويشترط على قول الصحة: أن يقبل الزوج في مجلس بلوغ الخبر.
قال الغزالي: أو يكتب على الفور، [وأن يقع] القبول بمحضر شاهدي الإيجاب، فلو حضر غيرهما فوجهان، [وأنه] لو كان الزوج غائباً، فخاطبه الولي [بالنكاح] بلسانه، فقال: زوجتك ابنتي فبلغه الخبر، فقال: قبلت نكاحها- أنه يصح؛ لوجود لفظ "التزويج".
وفي "التهذيب" حكاية وجهين فيه، وان الأصح عدم الصحة.
قال الرافعي: وقد يستبعد خطاب الغائب بقوله: زوجتك ابنتي؛ لأن مكالمة الغائب بخطاب الحاضر ضربُ سَفَهٍ، وبهذا يُعْتَذَرُ عن الشيخ لمن ادعى تناول كلام الشيخ لهذه الصورة، والله أعلم.
قال: "فإن قال: زوجتك [أو أنكحتك]، فقال: قبلت- ولم يقل: نكاحها، ولا: تزويجها- فقد قيل: يصح"، وهو المحكي في "الإملاء"؛ لأن الخطاب يصير معاداً في كلامه، فانعقد به كما في البيع وسائر العقود؛ بجامع ما اشتركا فيه من افتقار كل منهما إلى إيجاب وقبول.
قال: وقيل: لا يصح، وهو الأصح والمنصوص في "الأم"، وظاهر كلامه في "المختصر"؛ لأنه لم يوجد منه التصريح بواحدٍ من لفظي النكاح والتزويج فلم ينعقد؛ كما لو قال رجلٌ للولي: زوجتها من هذا، فقل: نعم. ويخالف البيع؛ فإنه يراعى فيه اللفظ الصريح؛ لأن الشهادة على التحمل فيه شرط، وما يقدَّر من كون الخطاب معاداً في الجواب فكأنه كناية، والنكاح لا ينعقد بالكنايات.
ولو قال: قبلت النكاح، ولم يضف "النكاح" إليها، أو قال: قبلتها، ولم يذكر النكاح- ففيه خلاف مرتبٌ على الخلاف في المسألة قبلها، وها هنا أولى بالصحة؛ للتصريح بالنكاح في الصورة الأولى، والإضافة إلى المنكوحة في الثانية.
وأجرى مُجرون الخلاف فيما إذا قال: [زوجني، أو: أنكحني، فقال الولي: قد فعلت ذلك، أو: نعم، وفيما إذا قال] الولي: زوجتكها، أو: أنكحتها أفقبلت؟ قال: نعم، وكذا لو قال: نعم، من غير قول الولي: أفقبلت؟ ومنهم من قطع بالمنع.
وفي نظائر هذه الصور من البيع ينعقد على الأصح كما حكيناه ثَمَّ.
ولو قال الزوج: زوجت نفسي من بنتك، فقال الولي: قبلت النكاح [أو قال: أبو الطفل: زوجت ابني من بنتك، فقال الولي: قبلت النكاح]- فهل ينعقد؟ قال في "التتمة": ذلك ينبني على أن الزوج في النكاح: هل [هو] معقود عليه أم لا؟ وفيه طريقان: فإن قلنا: إنه غير معقود عليه، فالعقد باطل، وإن قلنا: إنه معقود عليه، فعن الشيخ [أبي] سهل الأبيوردي: أن العقد صحيح، وساعده عليه الشيخ أبو عاصم.
وذكر القاضي الحسين: أن العقد لا يصح.
ويشترط في الصور كلها:
أن يصر العاقد على الإيجاب حتى [يوجد] القبول؛ فلو رجع قبله لغا. وكذا لو أوجب، ثم زال عقله بجنون [أو إغماء- لغا]، وامتنع القبول.
وأن يقع القبول عقيب الإيجاب على وجه الجزم؛ فلو كان هازلاً أو الموجبَ ففي انعقاده خلاف، والراجح عند الغزالي: عدم الانعقاد، وإن كان الحديث يقتضي إلحاقه بالطلاق، وطلاقه واقع.
ولو تخلل بينهما [كلام كثير]، أو سكوت طويل بحيث يعد القائل مُعْرِضاً عن الإيجاب- لم يصح.
وحكى القاضي أبو سعد الهروي: أن العراقيين من أصحابنا اكتفوا بوقوع
القبول في مجلس الإيجاب، وقالوا: حكم نهاية المجلس [حكم] بدايته، كذا حكاه الرافعي.
فإن كان السكوت [يسيراً] بحيث لا يعد معرضاً عن الإيجاب، لم [يضر].
وإن كان الكلام يسيراً أجنبيّاً عن العقد، فهل يمنع ذلك صحة العقد؟ فيه وجهان منقولان في "النهاية" عند الكلام في الخطبة.
وقال الرافعي عند الكلام في الاستثناء [في الطلاق]: إن الأصح أنه لا يقطع الاتصال.
قال: فإن عقد بالعجمية- أي: بلفظ ليس بعربيٍّ- وأتى بالمعنى الخاص من التزويج أو الإنكاح- لم يصح؛ لأنه [ترك] اللفظ المشروع مع القدرة عليه؛ فصار كما لو عدل إلى لفظ "التمليك"[أو "الإباحة"].
قال: وإن لم يحسن صحّ على ظاهر المذهب؛ لأنه لفظٌ لا إعجاز فيه، فصح بالعجميّة عند العجز كتكبيرة الإحرام.
قال: "وقيل لا يصح"، وهذا قول أبي سعيد الإصطخري؛ لأن ما كانت العربية شرطاً فيه عند القدرة لا يصح بغيرها عند العجز كالقراءة، فعلى هذا: يصبر إلى أن يتعلم، أو يوكِّل. هذه طريقة الشيخ أبي حامدٍ وآخرين، وهي التي نقلها الإمام عن العراقيين.
وطريقة القاضي أبي الطيب المنقولة عن ابن أبي هريرة: أنه إن كان [لا] يحسن العربية انعقد وجهاً واحداً، ولا يُكلَّف التعلم والعقدَ بغير لغته، كما في سائر العقود، وإن كان يحسنها فوجهان، أصحهما: الانعقاد- أيضاً- اعتباراً بالمعنى،
وليس كلفظ "التمليك" و"الإباحة"، وهذه الطريقة أصح عند ابن الصباغ وغيره.
وإذا أطلقت الكلام واختصرت قلت: في المسألة ثلاثة أوجه، كما ذكر في "المهذب".
ثالثها: الفرق بين أن يحسن فلا يصح، أو لا يحسن فيصح، ونسب هذا إلى الإصطخري، ونقل الإمام عنه المنع مطلقاً.
وأصح الوجوه: الصحة مطلقاً، وحكم من يقدر على التعلم حكم من يحسن.
وقال الشيخ أبو حامدٍ: لا يجب التعلم وإن كان [له مهلة].
فرع: إذا [جوزناه بالعجمية]، فكان أحدهما يحسن العربية، والآخر لا يحسنها، فتكلم كل منهما بما يحسنه-[صح] إذا فهم كل منهما كلام الآخر، فإن لم يفهم ولكن أخبره ثقة عن معنى لفظ الآخر: فإن تعلمه صح، وإن لم يتعلمه لكنه صار بحيث لو سمعه مرة أخرى عرف معناه، ففيه وجهان.
وقيل: يشترط أن يكون الإيجاب والقبول بلغة واحدة.
ويشترط- أيضاً- فهم الشهود معنى اللفظين، والله تعالى أعلم.
فصل: ويجب تسلمي المرأة في منزل الزوج إن كانت ممن يمكن الاستمتاع بها- أي: إذا طلب- وكان الصداق مؤجلاً أو حالّاً مقبوضاً؛ لأنه ملك الاستمتاع بها بالعقد، فوجب تمكينه من استيفائه حيث شاء كما في العين المستأجرة. وفي الأمة وجهٌ: أنه لا يجب تسليمها إلى الزوج في منزله إذا بوأها السيد بيتاً في داره.
والمخاطب بالتسليم الزوجة إن كانت حرّةً مكلفة، والسيد إن كانت أمة، والولي إن كانت غير مكلفة، أمَّا إذا لم يمكن الاستمتاع بها لصغرها أو مرضها، أو نِضْو خَلْقها، بحيث يُضِرُّ بها الوطء [إضراراً بيّناً] ولا تطيقه- فلا يجب تسليمها، ويكره لولي الصغيرة أني سلمها إليه في هذه الحالة.
ولو قال: سلّموها إلي لأستمتع بها فيما عدا الفرج، قال مجلي: لا تسلم إليه؛ لأنه لا يؤمن من تَوَقان النفس.
وقال في "التهذيب": تسلم إليه المريضة دون الصغيرة.
[وقال في "التتمة": تسلم إليه نضوة الخلق دون المريضة والصغيرة]؛ لأن
للصِّغَر غاية، [وليس لنضو الخلق غاية]. ووافقه صاحب "الشامل" في الحكم في المريضة ونضوة الخلق.
ولا خلاف في الحائض والنفساء: أنه يجب تسليمها؛ لأنها لا تخاف على نفسها ضرراً، كما في الرتقاء والقرناء، ويكتفي في منعه عن الوطء في الفرج بوازع الشرع، ونفرة الطبع. نعم، لو علمت الحائض أنها إذا ضاجعته لم تمن على نفسها فلها الامتناع؛ إذ يجب عليها ذلك. ومن أصحابنا من تردد فيه.
ولو كانت محرَّمة عليه بسبب إحرامه أو ظهاره، فهل يحرم عليها تمكينه؟ فيه وجهان محكيان في كتب العراقيين في كتاب الإيلاء.
فروع: مؤنة التسليم على الزوجة إذا دعاها إلى البلد الذي وقع فيه العقد، بخلاف تسليم المبيع المنقول؛ فإن فيه كلاماً ذكرته في البيع، ولو دعاها إلى غير بلد العقد: فإن كانت فوقها، كما إذا تزوجها ببغداد، وهي بالكوفة، واستدعاها إلى البصرة- فالنفقة عليها من الكوفة إلى بغداد، ومن بغداد إلى البصرة على الزوج.
وإذا اختلف الزوج والولي في بقاء الزوجة حيث يجب عليه التسليم، فقال الولي: ماتت، وقال الزوج: بل هي باقية- فالقول قول الزوج.
ولو اختلفا في صلاحيتها للتسليم، فقال أحدهما: لا تحتمله، وقال الآخر: بل تحتمله- فالقول قول من ينكر الاحتمال.
وفيه وجه: أنها [تُرى] لأربع نسوةٍ، أو رجلين من المحارم، ونقل في "الذخائر" في كتاب النفقات: أنه يكتفي بامرأةٍ واحدة، وأصل الاختلاف أن ذلك يسلك به مسلك الرواية أو الشهادة؟
قال: "فإن سألت إنظار ثلاثة أيام أُنظرت" أي: واجباً، وهذا هو المنقول في "المختصر"؛ [لما روى عن جابر بن عبد الله قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفرٍ، فلمَّا ذهبنا لندخل قال:"أَمْهِلُوا حَتَّى نَدْخُلَ لَيْلاً لِكَيْ تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ، وَتَسْتَحِدَّ الْمُغِيبَةُ"
[وخرجه] البخاري ومسلم بمعناه. فإذا منعَ الزوج أن يطرق [زوجته] مغافصة، وأمره بإمهالها مع تقدم صحبته لها- فها هنا أولى.
وأمَّا اعتبار الثلاث؛ فلأنها مدة قريبة، قال الله تعالى:{وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَاخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ* فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود: 64، 65]، [ولها] اعتبار في الشرع في [الانتظارات]: في انتظارات المُولِي إذا طولب بالوطء بعد المدة، [وفيما] إذا ادعى أن له بينة قريبة بالقضاء أو الإبراء، وفي خيار الفسخ بسبب الإعسار بالنفقة، وغير ذلك.
وحكى القاضي أبو حامد عن "الإملاء" قولاً: أنها لا تمهل؛ لأنه قد سلَّم العِوضَ، فوجب تسليم المعوَّض كالمتبايعين، فعلى هذا يكون مستحقّاً، والأول أصح، ومنهم من قطع به؛ لأن تسليم المعقود عليه يرجع فيه إلى العرف والعادة، والعادة لا تقتضي ذلك، ويخالف البيع؛ فإنه ليس للبائع في تأخير تسلم المبيع غرض صحيح، وقضية لفظ "الوسيط" إثبات خلاف في أنها تمهل [بقدر ما تتهيأ، أو ثلاثة أيام.
قال الرافعي: والأشبه خلافه.
ولا خلاف أنها لا تمهل]؛ لتجهيز الشّوار وحصول السِّمَنِ.
قال: "وإن كانت أمةً لم يجب تسليمها إلا بالليل"؛ لأن السيد يملك منفعتين من أمته: منفعة الاستمتاع، ومنفعة الاستخدام، فإذا زوجها عقد على إحدى المنفعتين وبقيت الأخرى، فيستوفيها في وقتها وهو النهار؛ كما أنه إذا أجّر أمته يسلمها للمستأجر نهاراً، ويمسكها لاستيفاء المنفعة الأخرى في وقتها وهو الليل.
ويتبين من هذا: أنه لو أراد السيد أن يسلمها نهاراً بدلاً من الليل لا يجوز؛ لأن الليل وقت الاستمتاع والاستراحة، وعليه التعويل في القَسْم في الغالب.
وفيه وجهٌ: أنها إذا كانت محترفةً بحرفة يمكن الإتيان بها في يد الزوج وجب تسليمها إليه ليلاً ونهاراً، وبه قال أبو إسحاق المروزي. والأول أظهر؛ لأن السيد قد يبدو له في الحرفة ويريد أن يستخدمها. وللسيد أن يسافر بها، وللزوج أن يسافر معها، ويستمتع بها.
والمكاتبة هل يجب عليها أن تسلم نفسها نهاراً مع الليل؟ فيه وجهان عبّر عنهما القاضي الحسين في كتاب النفقات بأنها هل تتبوأ مع الزوج بيتاً:
أحدهما: نعم؛ لأنها مالكة لمنافعها، فأشبهت الحرة، وهذا ما جزم به الماوردي عند الكلام فيما إذا كان زوجها عبداً.
[والذي ذكره الغزالي في كتاب الكتابة]: [أنه لا يجب تسليمها نهاراً؛ كالأمة].
قال: "والمستحب إذا سُلِّمت إلى الزوج أن يأخذ بناصيتها أولَ ما يلقاها، ويقول: بارك الله لكل منّا في صاحبه".
[والناصية]: مقدم الرأس، وإنما استحب ذلك؛ لما روى أبو داود عن عبد الله ابن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إِذَا تَزَوَّجَ أَحَدُكُمُ [امْرَأَةً] أَوِ اشْتَرَى جَارِيَةً، فَلْيَقُل: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا وَخَيْرَ مَا جَبَلْتَهَا عَلَيْهِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ مَا جَبَلْتَهَا عَلَيْهِ، وَلْيَاخُذْ بِنَاصِيَتِهَا، وَلْيَدْعُ بِالْبَرَكَةِ". قاله عبد الحق، والجبْل: هو الخلق، ولأن هذا ابتداء الوُصْلة؛ فاستحب أن يدعو بالبركة.
قال: "ويملك الاستمتاع بها من غير إضرار"؛ لأنه المعقود عليه، وفي "التتمة" في كتاب الأيمان رمز إلى أن النكاح لا يفيد ملكاً على رأي، وإنما هو عقدٌ على الحل؛ فإنه قال: لو حلف: لا ملك له، وله حقٌّ في منفعة ملك إنسان- حنث، وإن كان له زوجة فلنا أصل: وهو أنّ النكاح فيه ملك [أو هو عقد] على
الحل؟ فإن أثبتنا فيه ملكاً حنث في يمينه.
وفي "المحيط" عند الكلام فيما إذا وطئت في الدبر هل يتقرر المهر به؟ حكاية وجهين في أن المعقود عليه منافع البضع أم ذات المرأة؟ ويلزم من قال بأن المعقود عليه منافع البضع [ألا] يملك الاستمتاع بغيره، إلا أن يقول بحصول ذلك بطريق التبع، ولو أضرّ بها الاستمتاع في الفرج ضرراً لا تطيقه فلها منعه؛ كما إذا كان كبير الآلة، أو كانت مريضة، أو نِضْوة الخَلْق؛ لقوله- صلى الله عليه وسلم:"لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ".
قال: "وله أن يسافر بها إن شاء"- أي: إذا كانت حرّةً- لأنه- صلى الله عليه وسلم كان يسافر بنسائه، ولأنه يملك الاستمتاع بها من غير تعلق حقٍّ بها؛ فوجب تمكينه من استيفائه حيث شاء كما في العين المستأجرة. أمَّا لو كانت أمة فليس له السفر بها إلا بإذن السيد.
قال: "وله أن ينظر إلى جميع بدنها؛ لأنه محل استمتاعه، والنظر مما يستمتع به".
قال: وقيل: لا [يجوز النظر] إلى الفرج؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّهُ يُوَرِّثُ الطَّمْسَ"، وهو العمى.
قال في "العُدَّة": يريد أن الولد يولد أعمى، وفي بعض الطرق الفصل بين ظاهر الفرج وباطنه.
قال الإمام: ولست أرى لهذا معنى، والأول أصح؛ لأن [له] الاستمتاع به؛
فجاز [له] النظر إليه كالفخذ، والخبر- إن صح- محمول على الكراهة كاستعمال الماء المُشَمَّس.
والنظر إلى باطن الفرج أشد، وكذلك يكره للإنسان أن ينظر إلى فرج نفسه من غير حاجةٍ.
ونظر السيد إلى أمته التي يجوز له الاستمتاع بها كنظره إلى زوجته، ونظر الزوجة إلى الزوج كنظره إليها، وقطع بعضهم بجواز نظرها إلى ذكر الزوج وقال: الخبر ورد في الفرج وهو الشَّقُّ.
قال: ولا يجوز [له] وطؤها في الحيض؛ لقوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222]، وقوله صلى الله عليه وسلم:"افْعَلُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا الْجِمَاعَ"، وللإجماع: قال الإمام: ومما يجب التَّفَطُّنُ له أن [تحريم] وطء الحائض ليس لملابسة الأذى القائم بالفرج؛ فإن التضمُّخ بذلك الأذى بعد الانفصال غير محرم، وتحريم وقاع الحائض- وإن طهرت عن الأذى وغسلت المنفذ- قائم؛ فليفهم.
قلت: وما قاله يعارض ما [قاله] الشافعي؛ حيث قال في الوطء في الدبر: "إذا كان يحرم إتيان الحائض؛ لما بها من الأذى، فيجب أن يحرم الإتيان في غير المَاتَى؛ لأن الأذى دائم".
[ثم قوله]: "إن التضمخ به جائز"، قد يمنع؛ فإن الغزالي في "البسيط" في آخر صلاة الخوف حكى عن الصيدلاني أن التضمخ بالنجاسة من غير حاجة- ممتنعٌ، وفي استعمال جلد الميتة وجهان مشهوران، ووجه المنع: وجود النجاسة، فإذا كان الجلد لا يجوز لبسه مع وجود الانتفاع؛ للنجاسة، فدم الحيض أولى بالاجتناب، وفي "الرافعي" أن ابن كجٍّ نقل وجهاً: أنه يتجنب الحائض في جميع بدنها؛ لظاهر الآية.
قال: [ولا يجوز وطؤها] في الدبر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم وقد سُئِلَ عن ذلك وأيهم
السائل: "إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ؛ لَا تَاتُوا النِّسَاءَ فِي أَدْبَارِهِنَّ"، وقوله:"لَا يَسْتَحْيِي [مِنَ الْحَقِّ] " أي: لا يترك شيئاً منه؛ لأن من استحيا من شيء تركه.
وقيل: لا يستبقى؛ مأخوذ من قوله: {وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} [البقرة: 49]، أي: يستبقونهن، ولقوله صلى الله عليه وسلم:"مَلْعُونٌ مَنْ أَتَى امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا"، [ولما] تقدم من قول الشافعي.
وقال صاحب "التقريب": من الناس من يضيف على الشافعي قولاً في القديم: أنه لم يقطع بتحريمه، وتوقف فيه، وقال:"ليس عندي دلالة في تحريمه".
وقال محمد بن عبد الحكم: قال الشافعي: في تحريم ذلك حديث غير صحيح، والقياس عندي أنه حلال. فحُكِيَ ذلك للربيع فقال: كذب، والذي لا إله إلا هو، وقد نصّ على تحريمه في ستة مواضع من كتبه.
وفي شرح "مختصر الجويني" أن بعضهم أقام ما رواه قولاً، فلو وطئها في الدبر تعلقت به أحكام الوطء في القُبل إلا في الإحصان والتحليل، وأبدى الإمام في التحليل [احتمالاً]، والفيئة وزوال العنة، وتعتبر صفة الإذن على الصحيح فيها، واستقرار المهر وثبوت العدة والرجعة والنسب إذا جرى في النكاح الفاسد،
أو في أمته، وحرمة المصاهرة على وجهٍ في الجميع.
وإن كان في غير الزوجة لا يبطل به إحصان المفعول به رجلاً كان أو امرأةً. وقيل: إن كانت امرأة يبطل إحصانها، قاله في "التهذيب"، وأبدى فيه احتمالاً لنفسه، وهو موافق لما أطلقه الأصحاب من أنَّ قول الرجل لزوجته: وطئك فلان في دبرك، يوجب الحد عليه؛ فألحقوه بالوطء في القبل، وقد قال المزني لمَّا حكى ذلك:"لا أدري على ماذا أقيسه؟! " وكأنه أنكر هذا المذهب.
ويجوز التلذذ فيما بين الإليتين.
قال: "وإن كانت أمةً"- أي: الزوجة- فله أن يعزل عنها.
العزل: أن يجامع، فإذا قارب الإنزال نزع ولا يُنزل في الفرج.
وإنما قلنا [له] ذلك في الأمة؛ لقوله- صلى الله عليه وسلم حين سئل عن العزل في غزوة بني المصطلق: "مَا عَلَيْكُمْ أَلَّا تَفْعَلُوا [ذَلِكَ]، مَا مِنْ نَسَمَةٍ كَائِنَةٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلَّا وَهِيَ كَائِنَةٌ" رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري.
وعن جابر قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنَ لي جاريةً قد أطوف عليها، وأنا أكره أن تحمل؟ قال:"اعْزِلْ عَنْهَا إِنْ شِئْتَ؛ فَإِنَّهُ سَيَاتِيهَا مَا قُدِّرَ لَهَا"[قال]: فلَبِثَ الرجلُ ثم أتاه وقال: إن الجارية [قد] حملت، فقال- عليه السلام:"قَدْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّهُ سَيَاتِيهَا مَا قُدِّرَ لَهَا" أخرجه مسلم.
فالأول دلّ بعمومه، والثاني بخصوصه، ولأن له غرضاً في ألا يَرُقَّ ولده، وفيه وجهٌ: أنها كالحرة.
قال: "والأولى ألّا يعزل"، أراد بعدم الأولوية ثبوت الكراهة كما أطلقه في "المهذب"؛ لما روت جدامة بنت وهب أخت عكاشة قالت: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه عن العزل، فقال: "هو الوَادُ الْخَفِيُّ، {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ
سُئِلَتْ} [التكوير: 8] "، أخرجه مسلم.
وقطع الخراسانيون بنفي الكراهة، ولم يحكِ الشاشي سواه.
قال: وإن كانت حرّة لم يجز إلا بإذنها؛ لما روى عن ابن عباس وابن مسعود- رضي الله عنهما أنهما قالا: "تستأذن الحرة في العزل"، ولما يلحقها من الضرر بتبعيض الاستمتاع، وتهييج دواعيها، ولا غرض صحيح له.
قال في "التتمة": وهو ظاهر المذهب.
وقال الرافعي: إنه أظهر الطريقين.
وقال في "الذخائر": قال أصحابنا [وغيرهم]: وهذا غير صحيح؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يفرق بين حالتيها، وحقها ساقط عن الزوج في هذا المعنى، بدليل أنه لو غيب الحشفة في الفرج فأنزل على قرب.
قال: وقيل: يجوز من غير إذنها، وهو الأشبه عند مجلي، والأصح في "النواوي"، لظاهر الخبر، [ولأن] حقَّها في الوطء لا في الإنزال، بدليل
انقطاع طلبها في الإيلاء والعنة بتغييب الحشفة، فعلى هذا: هل يكره؟ فيه وجهان.
وقيل: [لا] يجوز وإن رضيت؛ لظاهر خبر جدامة.
وإذا اختصرت في الحرة والأمة قلت: فيه أربعة أوجه:
الجواز المطلق، وهو الأصح في "الوسيط".
المنع المطلق.
الجواز [في الأمة].
تخصيص الجواز بالرضا.
ولا خلاف- على المشهور- في جوازه في أمته، والأولى تركه، والمستولدة رتبها مرتبون على الأمة المنكوحة، وهذه أولى بالمنع، وآخرون على الحرة، [وهي] أولى بالجواز؛ لأنها ليست رأساً في الفراش؛ ولهذا لا تستحق القسم، وهذا أظهر.
ثم حيث قلنا بتحريم العزل، فذاك إذا نزع على قصد أن يقع الإنزال خارجاً خشية من الولد، أمَّا إذا عنَّ له أن ينزل لا على هذا القصد، فيجب القطع بأنه لا يحرم، كذا قاله الإمام.
قال: وله أن يجبرها على ما يقف عليه الاستمتاع، كالغسل [من الحيض] وترك السُّكر أي: وإن كانت ذميّة.
أمَّا الغسل؛ فلأن التمكين من الوطء واجبٌ عليها، وهو لا يحل بدونه، فإن لم
تفعل غسلها الزوج، واستفاد الحل، وإن لم يوجد منها النية؛ للضرورة، كما تجبر المجنونة المسلمة، وحكى الجيلي وجهاً: أنه ينوي عنها، ويمكن أن تخرج نيته على الوجهين فيما إذا امتنع رب المال من إخراج الزكاة فأخذها الإمام قهراً، هل ينوي عنه؟ وعن الحليمي- تخريجاً على الإجبار على الغسل- أن للسيد إجبار أمته المجوسيّة أو الوثنية على الإسلام؛ لتحلّ له، [وهو ما حكاه القاضي الحسين في باب كفارة يمين العبد بعد أن يعتق]، والمذهب خلافه؛ لأن الرق أفادها الأمان من القتل؛ فلا تجبر كالمستأمنة، ولأن غسلها غسل تنظيف لا غسل عبادة، والتنظيف حقٌّ للزوج، فجاز أن يجبرها عليه، والإسلام ليس حقّاً له.
وأمَّا السّكر؛ فلأنها لا ترد يد لامس، وتلتحق بالمجنونة، فلا يأمن أن تجني عليه، فيختل الاستمتاع، وهل له منع الذميّة من القدر الذي لا يسكر؟ فيه قولان، وأطلق المراوزة قولين في أنه: هل يمنعها من الشرب من غير تفصيل بين القليل والكثير؟ ويجري الوجهان في منع المسلمة من القدر الذي لا يُسكر من النبيذ إذا كانت تعتقد إباحته.
ومنهم من قطع في أصل المسألة بجواز المنع مطلقاً؛ لأن القدر الذي [لا] يسكر لا ينضبط.
قال: وأمَّا ما يكمل به الاستمتاع كالغسل من الجنابة- أي: إذا كانت ذميّةً، أمَّا المسلمة فقد جزم في "المهذب" بالإجبار عليه.
قال: واجتناب النجاسة، وإزالة الوسخ، والاستحداد، وهو إزالة شعر العانة، وهو الذي حول الفرج، مأخوذ من الحديد، وهو الموسى التي يحلق بها.
قال: فيه قولان [أي]: في المسلمة والكتابيّة.
أحدهما- وهو الأصح-: أن له إجبارها؛ لتوقف كمال الاستمتاع- الذي هو حقّه-[عليه].
والثاني: لا؛ لأنه لا يمنع الاستمتاع، ولا يتعدى، وهذا كما قلنا فيما يكمل به انتفاع المستأجر: إنه لا يجب على المؤجر.
وحمل بعضهم الإجبار في الغسل على ما إذا طالت المدة، وكانت النفس تعافها، والمنعَ: على قِصَرِها، وعدم العيافة، ولم يثبت فيه قولين.
ولو تفاحش طول الأظفار وشعر العانة والإبط والأوساخ حتى خرج ذلك عن العادة، ونفرت منه النفس- أجبرها على إزالته قولاً واحداً، وأطلق في "التتمة" جواز الإجبار له من غير فرق بين حالةٍ وحالةٍ.
ويخرج على الخلاف ما إذا أكلت ما يتأذّى بريحه أو لُبْسه كالجلود الطاهرة، أمَّا جلود الميتات قبل الدبغ فله المنع. وهذا يوافق ما حكيناه عن البغوي في إجبار المسلمة على الغسل [من الجنابة] لوجوبه عليها.
ومنهم من قطع بجواز المنع.
وفي منع الكتابية من أكل لحم الخنزير طرق:
أحدها: ليس له المنع قولاً واحداً.
والثاني: له قولاً واحداً.
والثالث: إثبات قولين.
والرابع: إن كانت نفسه تعافه كان له منعها، وإلا فلا.
قيل: وهذا ظاهر النص، ومهما تنجَّس فمها أو عضو آخر، قال الرافعي: فلا خلاف أنه يجبرها على غسله؛ لتمكنه من الاستمتاع، والله أعلم.
***