الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الخيار في النكاح والرد بالعيب
إذا وجد [أحد] الزوجين بالآخر جنوناً، أو جذاماً، أو برصاً ثبت له الخيار؛ لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج بامرأة من بني غفار، فلما دخلت عليه، رأى بكشحها بياضاً، فقال لها:"البَسِي ثِيَابَكِ، والحَقِي بأهلِكِ"، وقال لأهلها:"دَلَّسْتُمْ عليَّ".
والكشح: الجنب.
فثبت الرد في المرض بالخبر، وقيس الباقي عليه؛ [لأنه في معناه في المنع من الاستمتاع، ولما روي عن عمر- رضي الله عنه] أنه قال: "أَيُّمَا رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِهَا جُنُونٌ، أَوْ جُذَامٌ، أَوْ بَرَصٌ، فَمَسَّهَا، فَلَهَا صَدَاقُهَا، وَذَلِكَ لِزَوْجِهَا عَلَى وَلِيِّهَا".
ولأن النكاح عقد معاوضة، قابل للرفع، فجاز رفعه بسبب العيوب المؤثرة في المقصود؛ كالبيع، والإجارة.
ولا فرق في الجنون بين المطبق والمنقطع، ولا [فرق] بين أن يقبل العلاج أو لا.
وحكى في "البيان" عن الصيمري: أنه إذا كان زمن الإفاقة أكثر، هل يثبت الخيار [به]؟ فيه وجهان.
وأبدى الإمام في الذي لم يستحكم، وهو مرجو- احتمالاً من الجذام المستحكم، وهو علة صعبة يحمر منها العضو، ثم يسود، ثم ينقطع، نسأل الله العافية.
وقال الإمام: [يجوز أن] يكتفي باسوداد العضو، وحكم أهل البصائر باستحكام العلة، [وأنه] من المرض المستحكم الذي لا يقبل العلاج دون أوائل الوَضَح، وعلامته أن يعصر فلا يحمر.
قال: وإن وجد أحدهما الآخر خنثى- أي: غير مشكل- ففيه قولان:
أحدهما: أنه يثبت الخيار، وهو القديم؛ لتغيره بالمقام معه، ولنفرة الطبع منه، فأشبه البرص.
والثاني- وهو الأصح عند المحاملي وغيره-: لا؛ لأنه لا يفوت مقصود النكاح، وذلك ثقبة زائدة أو سلعة.
وفي محل القولين طرق:
أصحها: أن القولين فيما إذا اختار الذكورة أو الأنوثة، فنكح؛ لأنه قد يتبين خلاف الاختيار، أما إذا اتضح الحال بالعلامات الدالة على الذكورة أو الأنوثة، فلا خيار.
والثاني: أن القولين جاريان فيما إذا اتضح الحال بعلامة مظنونة كالولادة فلا خيار.
[فإن كان مقطوعاً بها.
والثالث: طرد القولين] وإن كانت [العلامات] مقطوعاً بها؛ لمعنى النفرة.
قال: وإن وجد الزوج بالمرأة رتقاً، أو قرناً، ثبت له الخيار.
وإن وجدت المرأة زوجها عنيناً، أو مجبوباً، ثبت لها الخيار، وكذا لو وجدت به مرضاً مزمناً، لا يتوقع زواله، ولا يمكن الجماع معه؛ لأن ذلك يخل بمقصود النكاح؛ فأشبه البرص بل أولى؛ لأن البرص لا يمنعه بالكلية، بل ينفر منه، وهذا لا يتصور معه.
والرتق- بفتح الراء والتاء-: ارتتاق محل الجماع باللحم، ويخرج البول من ثقبة ضيقة كإحليل الرجل.
والقرن: بفتح الراء وإسكانها، وهو بالإسكان: العفلة: بالعين المهملة والفاء المفتوحة، وهي لحمة تكون في فم فرج المرأة.
وقيل: عظم.
والقرن: بفتح الراء، مصدر قرن يقرن قرناً؛ كبرص يبرص برصاً؛ فيجوز أن يقرأ كلام المصنف بالفتح والإسكان: فالفتح على إرادة المصدر، والإسكان على إرادة الاسم، إلا أن الفتح أرجح؛ لكونه موافقاً لباقي العيوب؛ فإنها كلها مصادر، وعطف مصدر على مصدر أحسن من عطف اسم عليه؛ قاله النواوي.
وفي "الذخائر": أن ذلك إنما يلحق المرأة الثيب إذا ولدت.
والعنة: امتناع الوقاع واحتباسه، وهي في اللغة الحظيرة، ومنه سمي العنان: عناناً؛ لأنه يحبس الدابة عن مرادها.
والجب: القطع، وإنما يثبت الخيار إذا لم يبق ما يمكن الجماع به، أما إذا أمكن؛ بأن بقي قدر الحشفة فلا يثبت.
وفي كتاب القاضي ابن كج: أن أبا الطيب بن سلمة خرجه على قولين؛ كما في الخصي ولا يثبت الخيار بكونها مفضاة، ولا بضيق المحل بحيث لا يمكنه الوطء إلا بالإفضاء، ولا بكبر آلة الزوج بحيث لا يمكن الجماع به.
وقال الغزالي في الديات عند الكلام في الإفضاء: إن الضيق ينزل منزلة الرتق، والكبر منزلة الجب في إثبات الخيار.
فرع: ليس للزوج إجبار المرأة الرتقاء على شق الموضع، ولو فعلت، وأمكن الوطء فلا خيار.
ويمكن أن يجيء فيه الخلاف المذكور، فيما إذا اطلع على عيب المبيع بعد زواله.
قال: وإن وجدته خصيّاً، أو مسلولاً، ففيه قولان:
أصحهما: أنه لا خيار لها، والتعليل ما ذكرناه في الخنثى.
نعم: لو كان لا يقوى على الجماع بسبب ذلك، فحكمه حكم العنين.
والخصي: من رضت أنثياه [مع بقائهما].
والمسلول: من أخذت أنثياه.
وقيل: الخصي الذي قطعت أنثياه. مع وعائهما، [والمسلول من أخرجت أنثياه مع ترك وعائهما].
ولا يثبت الخيار مما لا يقبل العلاج من البخر، والصنان، والعزيوط وهو الذي يتغوط عند الوقاع.
وقال السرخسي: إنه يثبت، قولاً بالقطع، والعور، والعمى، وخرم الأنف، وأشكال ذلك [وحكى في "الذخائر" عن "الوجيز" في ذلك قولين، ثم قال: لم أر ذلك لغيره].
وقال القاضي الحسين وغيره: يثبت الخيار بكل عيب منفر يكسر سورة التوقان؛ فيتعذر الاستمتاع: كالاستحاضة، والقروح السائلة إذ لو اعتبر امتناع الاستمتاع، لاقتصر على الرتق والقرن، وروي أن ذلك قول الشافعي.
والصحيح: أنه لا يثبت الخيار إلا بالعيوب السبعة: الجنون، والجذام، والبرص- ويشترك فيها الزوجان- والرتق، والقرن- وذلك يختص بالزوجة- والجب، والعنة، وذلك يختص بالزوج.
هذا كله إذا كان العيب متقارباً، ولم يعلم به من ليس به، أما إذا علم فلا خيار له [ما لم يزد]، وكذا إن زاد في ذلك الموضع على الأصح، أما إذا حدث في موضع آخر، قال في التتمة: يثبت له الخيار، وكذا إذا كان من جنس آخر.
واعلم: أن بعض الفقهاء يستشكل صورة فسخ المرأة بالعيب، ويقرره بأن المرأة إن علمت بالعيب، فلا خيار، وإن لم تعلم به فالتنقي العيوب من شروط الكفاءة، ولا يصح النكاح إذا عدمت الكفاءة؛ على الأصح، وإذا لم يصح انتفى الخيار.
وهذه غفلة عن [قسم آخر] وهو ما إذا أذنت له في التزويج من مُعَنٍّ أو من غير كفء، وزوجها الولي منه؛ بناءً على أنه [سليم، فإذا] هو معيب- فإن المذهب صحة النكاح في هذه الصورة؛ كما صرح به الإمام في كتاب الوكالة، وباب المرابحة.
فرعان:
أحدهما: لو اختلف الزوجان في وجود ما يثبت الخيار، أو اختلفا في العلم بالعيب، فالقول قول من ينفيه إلى أن يقيم المدعي شاهدين ذكرين على ما يدعيه.
وفي أمالي أبي الفرج: أنه إذا وقع الاختلاف في العلم بعد الدخول، فالقول قول من يدعي العلم.
الثاني: يثبت للولي الخيار في الجنون المقارن، وإن رضيت به المرأة؛ لأنهم يتعيرون به، ولا يثبت في الجب، والعنة.
وفي الجذام والبرص وجهان:
أصحهما: الثبوت؛ كما في الجنون؛ لأنهم يعيرون به، ولأن العلة قد تتعدى إليها وإلى نسلها.
ومن الأصحاب من حكم بثبوت الخيار في الجميع.
وحكى عن القفال أن هذا أظهر الطريقين.
وقال الإمام: إن الأول أحسن وهو طريق العراق.
وحكى وجهاً مطلقاً: أنه لا خيار له.
ووجهاً: أن له الخيار فيما عدا الجب والعنة.
وعلى هذا يخرج منع المرأة من ابتداء التزويج إذا طلبت، وقد تقدم ذكر شيء من ذلك، [وسيأتي طرف منه في الباب، إن شاء الله تعالى].
قال: وإن حدث العيب بالزوج- أي: قبل الدخول- كان لها أن تفسخ؛ دفعاً للضرر؛ إذ تعين ذلك طريقاً.
أما إذا حدث بعد الدخول، فإن كان الحادث الجنون، أو الجذام، أو البرص، فقد حكى صاحب الكتاب فيه وجهين.
قال الرافعي: ولم يُرَ لغيره نقل الوجهين في المسألة، لكن أطلقوا الجواب بثبوت الخيار.
وقالوا: حق الاستمتاع يشبه حق الانتفاع في الإجارة، والعيب الحادث في العين المستأجرة يثبت الخيار، فكذلك ها هنا.
وإن حدثت العنة، فلا خيار؛ إذ قد عرفت [قدرته] ووصلت إلى حظها.
وخالف فيه أبو ثور.
فإن حدث الجب، فوجهان، ويقال: قولان:
أحدهما: أنه كالعنة.
[وأصحهما: أنه يثبت؛ لأن الجب يؤيس الإنسان عن الوطء، والعنة] يرجى زوالها.
وحدوث الخصي بعد الوطء [كالجب]؛ إن قلنا: إنه يثبت الخيار.
فرع: لو جبت المرأة ذكر زوجها [ثبت لها الخيار]؛ على أصح الوجهين، بخلاف المشتري إذا عيب المبيع؛ لأنها بالجب لا تصير قابضة لحقها؛ كالمستأجر، والمشتري بالعيب قابض لحقه.
قال: وإن حدث بالزوجة- أي: قبل الدخول أو بعده- ففيه قولان:
أصحهما: أنه يثبت- وهو الجديد- كالزوجة.
والقديم: المنع؛ لأنه لا تدليس منها، والعقد سلم من العيب أولاً، وهو قادر على الطلاق؛ فلا يحتاج إلى إثبات الخيار؛ ولهذا لو أعتق العبد، وتحته أمة، لا خيار له على المذهب، بخلاف الزوجة.
قال: وإن وجد أحدهما بالآخر عيباً من هذه العيوب، وبه مثله، فقد قيل: يفسخ، وهو الأصح؛ لأن الإنسان يعاف من غيره ما لا يعاف من نفسه؛ فيمنعه ذلك من الاستمتاع، وكما لو باع عبداً بعبد، ووجدا بالعبدين عيباً؛ فإن لكل منهما الخيار.
وقيل: لا يفسخ؛ لتساويهما في القبض.
والفرق على هذا بينه وبين [مسألة] العبدين: أن أحد العيبين قد يكون أرشه أكبر من عيب الآخر وإن تساويا [في أنفسهما]؛ لأن النظر في ذلك إلى قيمة المبيع قد تتفاوت قيمتها؛ فثبت [الخيار] لذلك التفاوت.
وعلى تقدير تساوي القيم، فذاك حدس وتخمين، وقد يظن التساوي، ولا تساوي، ولا كذلك هنا؛ فإن التساوي معلوم؛ إذ هو فرض المسألة.
قال الرافعي: وما ذكر من صورة المسألة في غير الجنون أما إذا كانا مجنونين، فلا يمكن إثبات الخيار لواحد منهما، ثم [قال:] لكن الوجهان فيما إذا تساوى العيبان في القدر والجنس، فإن كان في أحدهما أكثر وأفحش، وجب أن يثبت للآخر من غير خلاف.
قلت: وما قاله من عدم الإمكان ممنوع؛ فإنه قد تقدم أن الجنون المتقطع يثبت الخيار كالمطبق؛ فيثبت له في خلال إفاقته الخيار، فقد أمكن.
أما إذا كان العيب من جنس آخر، فلكل واحد منهما الخيار، إلا إذا كان الرجل مجبوباً والمرأة رتقاء فهما كالجنس الواحد؛ كذا ذكره الإمام، وغيره.
وحكى في التهذيب طريقة قاطعة بأنه لا خيار؛ لأنه وإن فسخ لا يصل إلى مقصود الوطء، وقضية إيراده ترجيح هذه الطريقة؛ وهو يشابه إذا أحصر بالمرض.
قال: ولا يصح الفسخ بهذه العيوب إلا على الفور؛ لأنه خيار عيب، فكان على الفور؛ كما في المبيع، ولا ينافي كونه على الفور ضرب المدة في العنة؛
فإنها حينئذ تتحقق، وإنما يؤمر بالمبادرة إلى الفسخ بعد تحقق العيب.
والمعنى بكونه على الفور: أن المطالبة والرفع إلى الحاكم يكون على الفور؛ هذا هو المشهور من المذهب.
وعن الشيخ أبي علي: أن من الأصحاب من أجرى فيه قولين آخرين؛ كما في خيار العتق، وهو الذي اختاره الإمام عند الكلام في خيار العتق.
والفرق على المشهور: أن الأمة تحتاج إلى النظر والتروي، وهنا تحقق النقصان بالإطلاع على العيب؛ فلا تحتاج إلى مهلة النظر.
فرع: لو قال: علمت عيب صاحبي، ولكني لم أعلم أن العيب يثبت الخيار، ففيه طريقان:
أشبههما: أنه على القولين في نظيره من خيار العتق.
والثاني: القطع بأنه لا يعذر.
والفرق: أن الخيار بالعيب مشهور في جنس العقود، وخيار العتق بخلافه.
[فرع] آخر: إذا عرف الرجل حالة العقد بالعيب، ورضي به، فهل له المخاصمة أم لا؟ خرجه في التتمة على القولين فيما إذا رضيت المرأة بعنة الزوج، ثم أبانها، ثم جدد نكاحها:
القديم: أنه ليس لها المخاصمة.
والجديد: خلافه، والله أعلم.
قال: ولا يجوز إلا بالحاكم؛ لأنه مجتهد فيه، فأشبه الفسخ بالإعسار وفي غير العنة وجه: أنه يجوز لكل واحد منهما الانفراد بالفسخ، إذا اتفقا على العيب؛ كفسخ المبيع بالعيب؛ وهذا ما رجحه الإمام.
فعلى الأول: الحاكم بالخيار بين أن يفسخ بنفسه، وبين أن يأمرها بالفسخ؛ هكذا قاله ابن الصباغ.
وقال القفال: المرأة بعد الرفع إلى الحاكم بالخيار بين أن تفسخ بنفسها وبين أن تفسخ بإذنها.
وفي الذخائر: أن من أصحابنا من قال: لا يتولى ذلك إلا الحاكم.
قال في التهذيب: وعلى الوجهين لو أخر إلى أن يأتي الحاكم، ويفسخ بحضرته، يجوز.
قال: ومتى وقع الفسخ، فإن كان قبل الدخول، سقط المهر، أي: سواء كان العيب مقارناً، أو حادثاً، وسواء كان الزوج هو الفاسخ بعيبها أو الزوجة بعيبه؛ إذ مقتضى الفسخ ترادُّ العوضين.
وفي النهاية في آخر باب العنة: أن صاحب التقريب نقل عن الإصطخري قولين في أن الفسخ بالعنة هل يشطر المهر، أو لا يسقط منه شيئاً؟ قال: وهو مزيف، ولولا أنه نقل ذلك عن إتقان وثبت، لما استجزت حكايته.
فإن قيل: لمَ جعلتم العيب فيها منزلة فسخها؛ لكونها سبب الفسخ، ولم تجعلوا العيب فيه بمنزلة فسخه؟
فالجواب: أنه بذل العوض في مقابلة منافعها، فإذا كانت معيبة، كان الفسخ من مقتضى العقد، إذ لم يسلم له حقه؛ فكان كالبيع، والمرأة لم تبذل شيئاً في مقابلة منافعه، والعوض الذي ملكته سليم؛ فكان مقتضاه أن لا فسخ، لكن الشرع أثبته؛ لأجل ما يلحقها من الضرر بصحبته، فإذا اختارت الفسخ لذلك، لزمها رد البدل؛ إذ ليس هو من مقتضى العقد؛ فأشبه ما إذا ارتدت.
قال: وإن كان بعده، نظرت: فإن كان بعيب حدث بعد الوطء، وجب المسمى؛ لأنه قد استقر [به]؛ فلا نغيره، وإن كان بعيب حدث قبل الوطء سقط المسمى، ووجب مهر المثل؛ لأنه قد استمتع بمعيبة، وهو إنما بذل المسمى على ظن السلامة، ولم تحصل؛ فكأن العقد جرى بلا تسمية، وهذا هو الأصح.
وقيل: يجب المسمى مطلقاً.
وقيل: يجب مهر المثل مطلقاً.
[قال مجلي: وهو الأشبه عندي، ونقل وجهاً رابعاً: أنه لا يجب شيء أصلاً، ثم قال]: وفيه نظر من حيث إنه يخلو الوطء عن بدل.
قلت: وما قاله له وجه إذا كان العيب حادثاً قبل الوطء؛ على قول الرجوع عليها بكمال المهر إذا غرته بنكاحها، وكان عيبها مقروناً بالعقد، فكأنه جعل التمكين من الوطء مع وجود العيب- غروراً، أما إذا كان العيب [حادثاً بعد الوطء فلا وجه له، ثم هذه الوجوه مفرعة على أنه إذا كان العيب] مقارناً للعقد يجب مهر المثل، وهو المنصوص.
أما إذا قلنا في المقارن: إن الواجب المسمى، وهو القول المخرج في الردة، فهنا أولى.
قال الأئمة: والقول المخرج قريب من القياس؛ فإن الفسخ [عندنا] يستند إلى أصل العقد.
وفي التتمة وجه: أنه إن فسخ الزوج بعيبها، فعليه مهر المثل، وإن فسخت هي بعيبه فالواجب المسمى.
والفرق: أنه إذا كان العيب بها، فالزوج يقول: إنما بذلت العوض، ليسلم إلى المعوض على الدوام سليماً، فإذا لم يسلم لا أبذله، وأغرم ما فوت، وإذا كان العيب به، فقد سلمت ما يقابل العوض سليماً، فيسلم لها العوض.
فرعان:
أحدهما: إذا فسخ النكاح بالعيب، ثم بان أنه لم يكن هناك عيب، هل يحكم ببطلان الفسخ، واستمرار النكاح؟ حكى الحناطي فيه وجهين.
الثاني: إذا اطلع أحد الزوجين على عيب الآخر، ومات الآخر قبل الفسخ، حكى الحناطي وجهين في أنه هل يفسخ بعد الموت؟
والظاهر: أنه لا يفسخ، ويتقرر المسمى بالموت، ولو طلق زوجته قبل الدخول،
ثم اطلع على عيب بها، لم يسقط حقها من نصف المهر.
قال: وهل يرجع به- أي: بمهر المثل الذي غرمه- على من غَرَّمَهُ؟ فيه قولان:
أحدهما- وهو القديم-: نعم؛ لما رويناه من قول عمر- رضي الله عنه وكما يرجع بقيمة الولد المغرور بحرية أمه.
والثاني- وهو الجديد-: المنع؛ لأنه شرع في النكاح على أن يتقوم عليه البضع، فإذا استوفى منفعته، تقرر عليه عوضه؛ كما لو كان المبيع معيباً، فأتلفه، ثم فسخ العقد، ورأى الإمام ترتيب القولين [ها هنا على القولين في] الرجوع عند التغرير بالحرية [على ما] سنذكرهما.
فإن قلنا: لا [رجوع][ثَمَّ]، فها هنا أولى.
وإن قلنا بالرجوع هناك، فها هنا قولان.
ووجه الترتيب: أن التغرير هناك بالاشتراط، وها هنا لا اشتراط، بل غاية ما يعرض السكوت، والاشتراط أبلغ في التغرير.
أما إذا كان المغروم المسمى، قال في التتمة: لا رجوع به؛ لأن المسمى بدل ما ملك بالعقد، وسلم له، وهو الوطأة الأولى؛ فإن المسمى تقرر بها.
قال الرافعي: والأشبه ما في التهذيب- وهو التسوية بين أن يكون المغروم مهر المثل أو المسمى.
فإن قلنا بالرجوع، فإن كان التغرير والتدليس منها دون الولي، فالرجوع عليها دون الولي، وفيما يرجع به وجهان، أو قولان:
أحدهما: جميع ما يغرم.
والثاني: أنه يبقى لها أقل ما يصلح صداقاً؛ كي لا يخلو الوطء عن المهر؛ وهذا إذا دفع إليها، أما إذا لم يدفع إليها فلا معنى للأخذ منها، ثم الدفع إليها، لكن [بناء عليه] هل نقول: وجب، ثم سقط؟ أو نقول: ما وجب أصلاً؟ فيه
تردد للأصحاب؛ بناءً على التردد في تزويج [السيد أمته] من عبده، وفيه وجهان؛ هكذا حكاه في الذخائر.
وصور في التتمة التغرير منها بأن خطب الزوج إليها، فلم يتعرض لما بها من العيب والتمست من الولي تزويجها منه، وأظهرت أن الزوج عرف حالها.
وصوره أبو الفرج الزاز بما إذا عقدت بنفسها، وحكم حاكم بصحته.
وإن كان التغرير من الولي، بأن خطب إليه، فأجابه إلى التزويج، وهو مجبر، أو غير مجبر، فاستأذنها، ولم يظهر للخاطب ما بها، فإن كان عالماً بالعيب، رجع عليه بجميع ما غرمه.
ومنهم من قال: فيه قولان، كالرجوع على المرأة، حكاه في الذخائر.
وإن كان جاهلاً، نظر: فإن كان محرماً لها، رجع عليه؛ لتقصيره بترك البحث.
وإن كان لها غير محرم: كابن العم، والمعتوق، والحاكم- فلا رجوع عليه عند العراقيين، وعند الخراسانيين في الرجوع وجهان.
فإن قلنا: لا رجوع عند الجهل، فحينئذٍ يكون الرجوع على المرأة.
وفيه وجه: أنه لا رجوع على الولي إلا إذا كان مجبراً.
وإن غره جماعة من الأولياء، فالرجوع عليهم، فإن جهل بعضهم، وقلنا: لا رجوع على من جهل، رجع على من علم.
وإن وجد التغرير منها ومن الولي فهل يرجع عليها دونه، أو عليهما نصفين؟ فيه وجهان في التتمة.
وإن غرت المرأة الولي، والولي الزوج، رجع كل منهما على من غره.
قال الرافعي: ولم يتعرضوا لما إذا كانت جاهلة بعيب نفسها، ولا يبعد أن يجري الخلاف [فيه].
واعلم أن محل القولين في أصل المسألة ما إذا كان العيب مقارناً للعقد، أما إذا حدث بعد العقد، فلا رجوع [بالمهر] على الولي بحال؛ لأنه [ليس منه
تدليس]، وأما على المرأة، فقد تقدم الكلام فيه [وإطلاق الشيخ] يفهم خلاف ذلك، من حيث إنه لم يذكر العيب المقارن في التفصيل، فليتأمل.
قال: وليس لولي الحرة، ولا لسيد الأمة، ولا لولي الطفل [أن يزوج] المولى عليه ممن به هذه العيوب؛ لأن النفس تعاف صحبته، ويختل بها مقصود النكاح.
واستثنى صاحب التهذيب من العيوب العنة؛ لأنها لا تتحقق.
وهذا إذا لم يكن بالمولى عليه مثلها أو كان به، وقلنا: له الخيار.
أما إذا قلنا: لا خيار [له]، فله التزويج منه.
وفي النهاية: أن بعض أئمة الخلاف قال: الأمة مجبرة على التزويج ممن به هذه العيوب، ولا خيار لها، ثم قال: وهذا لا يعتد به من المذهب.
وحيث قلنا: لا يجوز، فلو خالف وزوج منه، كان الحكم [فيه] كما لو زوج المرأة من غير كفءٍ بغير إذنها، وفي صحته خلاف.
وإذا صح، فالكلام في الخيار كالكلام فيه [ثم].
ولو قبل له نكاح امرأة عمياء، ففي كتاب ابن كج إثبات الخلاف فيه.
ونقل في التهذيب إجراءه فيما لو قبل له نكاح عجوزٍ أو مفقودة بعض الأطراف.
قال الرافعي: ويجب أن يكون في تزويج الصغيرة من الأعمى، والأقطع، والشيخ الهِمِّ مثل هذا الخلاف.
قلت: قد حكى عند الكلام في الكفاءة [عن القاضي]: أن العمى، والقطع، وتشوه الصورة يمنع الكفاءة، وأن بعض الأصحاب قال به، واختاره الصيمري، وإذا كان كذلك فهي عين المسألة؛ إذ الولي ليس له أن يزوج من غير كفء.
فرع: يجوز بيع الأمة ممن به هذه العيوب؛ لأنه لا حق لها في الاستمتاع
بالملك، بخلاف النكاح.
نعم، لها منعه من وطئها على أحد الوجهين.
قال: فإن أرادت الحرة أن تتزوج بمجنون، كان للولي منعها؛ لما فيه من العار.
وإن أرادت أن تتزوج بمجبوب أو عنين، لم يكن له منعها؛ إذ لا ضرر في ذلك يلحق الأولياء.
فإن قيل: العنة لا تثبت إلا بعد العقد، فكيف تكون صورتها؟
قيل: يمكن أن تكون صورتها: ما إذا تزوجها، وعنَّ عنها، ثم طلقها، وأراد تجديد نكاحها.
قال: وإن أرادت أن تتزوج بمجذوم، أو أبرص، فقد قيل: له منعها؛ لأن هذا يتعدى إلى النسل، فيلحقه العار.
وقيل: ليس له منعها؛ كما لو أرادت أن تتزوج بمجنون، وقد تقدم [ذكر ما قيل] في ذلك.
قال: وإن حدث العيب بالزوج، ورضيت به المرأة، لم يجبرها الولي على الفسخ؛ لأن حقه في الكفاءة إنما يراعى في الابتداء دون الدوام، ألا ترى أن المرأة لو رغبت في نكاح عبد، كان للولي [منعها، ولو عتقت تحت عبد، ورضيت بالمقام معه، لم يكن للولي] الفسخ؟!
وفي المحيط: أن للولي حق الاعتراض في مسألة الاستشهاد، ومقتضاه: أن يطرد في المسألة الأخرى.
قال: وإن اختلف الزوجان في التعنين، فادعته المرأة، وأنكر الزوج، فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الظاهر سلامته، وسلامة العقد، فإن حلف لم يطالب بتحقيق ما يقول بالوطء، وامتنع الفسخ إلا أن تقيم بينة على إقراره بالعنة، وهل لها أن تطالبه بوطأة واحدة؟ فيه وجهان:
أصحهما: لا؛ لأن الاستمتاع حقه؛ فلا يجبر على استيفائه.
والثاني: نعم.
وفي مجموع ابن القطان: أن أبا سعيد ذهب إليه، وذُكر في توجيهه معنيان:
أحدهما: استقرار المهر.
والثاني: حصول الاستمتاع؛ لأن النكاح شرع؛ لإعفاف الزوجين، وإليه الإشارة بقوله تعالى:{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228].
وفي سلسلة الشيخ أبي محمد: أن الوجهين مبنيان على القولين فيما إذا تزوج امرأة بشرط ألا يطأها، هل يصح النكاح؟
إن قلنا: لا يصح، وجبت وطأة واحدة.
وإن قلنا: يصح، لم يجب.
وعلى المعنيين يخرج طلب سيد الأمة وطأها وبعد البراءة من الصداق وإذا قلنا بالوجوب فلا إرهاق إلى الوطء، بل يمهل حتى يستعد له على العادة.
قال الإمام: وكان يليق أن يمهل مدة الإيلاء، إذا قلنا: إن الطلب للاستمتاع، [وإن أصر على الامتناع] من غير عذر، حبس، ولم يستبعد الإمام أن يخرج من الإيلاء: أن القاضي يطلق عليه، ولكن لم يخرجوه.
وإن نكل عن اليمين، ردت اليمين على المرأة، ولها أن تحلف إذا بانت لها عنته بقرائن الأحوال، وطول الممارسة، كما إذا ادعت: أنه نوى الطلاق ببعض الكنايات، أو نوى القذف عند وجود الكناية، وأنكر، ونكل.
[فلو لم تحلف]، قال ابن يونس: فيه وجهان:
أحدهما: أن القول قوله.
والثاني: يجعل القول قولها.
وفيما قاله نظر؛ فليتأمل.
وقال أبو إسحاق: لا ترد اليمين عليها، لأن الامتناع قد يكون لعجزه، وقد يكون لغيره، ولا إطلاع لها عليه؛ ولذلك لا تسمع الشهادة على نفس العنة.
وعلى هذا فعن الإصطخري: أنه يقضى عليه بالنكول، وتضرب المدة.
وقيل: لا تثبت العنة إلا بإقراره فحسب.
وحكى أبو الفرج: أن تحليف الزوج لا يشرع أصلاً؛ بناءً على أن اليمين لا ترد عليها.
قال: فإن أقر بالتعنين أجل سنة؛ لما روي أن ابن عمر- رضي الله عنه أجل العنين سنة.
قال الإمام: وأجمع المسلمون على إتباع قضائه في قاعدة العنة.
[ولأن] تعذر الجماع قد يكون لعارض حرارة؛ فتزول في الشتاء، أو برودة؛ فتزول في الصيف، أو يبوسة؛ فتزول في الربيع، أو رطوبة، فتزول في الخريف، فإذا مضت السنة، ولا إصابة، علمنا أنه عجز خلقي.
قلت: وهذا التعليل يتخذ شبه ما إذا عنَّ عن امرأة دون أخرى، أو [عنَّ عن الثاني دون غيره]، فإن الحكم ثابت، فلو كان للفصل أثر، لأثر مطلقاً.
قال: من يوم المرافعة، وضرب القاضي؛ لأنه مختلف فيه، فافتقر إلى حكم الحاكم، بخلاف مدة الإيلاء؛ لأنها منصوص عليها.
وضرب القاضي المدة يكون بعد طلبها، فلو سكتت فلا تُضرَب. نعم، إن حمل القاضي سكوتها على دهش أو جهل، فلا بأس بتنبيهها.
ولا فرق في المدة بين الحر والعبد؛ لأنها مشروعة لأمر يتعلق بالطبع والجبلة، فأشبهت مدة الحيض والرضاع.
قال: فإن جامعها، وأدناه أن يغيب الحشفة في الفرج، أي: سواء كان ذلك بنفسه، أو بيدها، أو بيده- كما حكاه الفوراني- سقطت المدة؛ لأن أحكام الوطء تتعلق بذلك، ولا تتعلق بما دونه: كالتحليل، والتحصين، والحد في محله، ووجوب الكفارة، والغسل، وتحريم المصاهرة، وسقوط المطالبة بالفيئة [في
الإيلاء]، وكذا فساد العبادة؛ على الأصح، أعني: فيما دونه.
قال الإمام: وهذا [أصل لا استثناء] فيه، والأصل فيه بعد الإتباع: أنها الآلة الحساسة، وبها الالتذاذ؛ ولهذا سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم: العسيلة في الحديث.
ومعنى التغييب: أن يشتمل الشفران وملتقاهما على الحشفة.
ولو انعكس الشفران، وانقلبا إلى الباطن، وكانت الحشفة لا [تلقى إلا ما] انعكس من البشرة الظاهرة- فهذا فيه تردد.
وقال في التهذيب: إن أقل ما يزول به حكم العنة إن كانت بكراً: أن يفتضها بآلة الافتضاض، وإن كانت ثيباً: أن يغيب الحشفة.
قال الرافعي: وهذا يدل على أن الافتضاض لا يحصل بتغييب الحشفة.
ومن جب بعض ذكره، فغيب من الباقي قدر الحشفة، فهو كتغييب السليم الحشفة.
ومنهم من اعتبر تغييب الكل، وهو ظاهر لفظ المختصر، وقال في المهذب: إنه المهذب.
قال الرافعي: والأول أظهر.
وإن مضت السنة، ولم يصبها، لم ينفسخ النكاح، ولم يكن لها أن تفسخه، بل ترفعه ثانياً إلى القاضي.
وعن الإصطخري: أن لها الفسخ بعد مضي المدة، ويكفي ضرب المدة من جهة القاضي، والمشهور الأول.
وادعى الإمام فيه عدم الاختلاف.
فإذا رفعت الأمر إلى القاضي، وتبين بإقرار الزوج: أنه لم يصبها في المدة المضروبة، فقد جاز الفسخ، فإن استمهل ثلاثاً، هل يمهل؟ فيه الخلاف المذكور في الإيلاء.
وفي استقلالها بالفسخ وجهان:
أقربهما- وذكر في التتمة أنه المذهب-: الاستقلال؛ كما يستقل بفسخ [المبيع بالعيب] إذا تنازعا فيه وثبت عند الحاكم.
والثاني- وهو مذهب العراقيين-: أن الفسخ على الحاكم؛ لأنه محل النظر والاجتهاد؛ فيفسخ بنفسه أو يأمرها [بالفسخ].
وإذا قلنا: [لها أن] تفسخ بنفسها، فهل يكفي لنفوذ الفسخ إقرار الزوج، أم لابد من قول القاضي: ثبتت العنة؛ أو ثبت حق الفسخ، فاختاري؟ فيه وجهان، أشبههما: الثاني، وهو الحكاية عن القاضي الحسين.
فرع: إذا اختارت الفسخ، [ولم] يقل الحاكم: نفذته، ثم رجعت، هل يصح
الرجوع، ويبطل الفسخ؟ فيه وجهان منقولان في "المجموع" لأبي الحسين بن القطان، والأشبه: المنع.
واعلم: أن المدة إنما تحسب إذا لم تنعزل عنه، فإن انعزلت لم تحسب، وكذا لو مرضت. وحبسها يمنع الاحتساب أيضاً، ومرضه وحبسه لا يمنع، وفي سفره وجهان:
أظهرهما: أنه لا يمنع، وأبداهما الإمام تردداً.
وإذا عرض ما يمنع الاحتساب وزال، قال الرافعي: القياس أن تستأنف السنة، أو ينتظر مضي ذلك الفصل من السنة الأخرى.
وقد تأخر من المباحث التي تتعلق بتغييب الحشفة نبذة، لم نذكرها هنا؛ خشية الإطالة، فلتطلب من باب الرجعة والإيلاء.
قال: فإن ادعى أنه وطئها- أي: [إما بعد المدة]، أو فيها [وهي ثيّب]- فالقول قوله مع يمينه- أي: وإن كان الأصل عدمه- لأنه يتعذر إقامة البينة عليه، والأصل سلامة الشخص، ودوام النكاح، فإن نكل عن اليمين، ردت على المرأة.
قال الرافعي: وفيه الخلاف الذي سبق.
قلت: لا وجه له هنا؛ لأن من قال بعدم الرد ثَمَّ علله بعدم الإطلاع على العنة وخفائها، وهي هنا تعلم عدم الوطء؛ فانتفت علة المنع.
قال: وإن كانت بكراً- أي: بعد دعواه الوطء، بأن شهد بذلك أربع من القوابل- فالقول قولها مع يمينها؛ لأن الظاهر معها.
وقال الجيلي في معرفة البكارة: إنها تدخل بيضة فيها وإحراق الكمون تحتها؛ إذ يتقاطر الماء إن كانت بكراً، ولا يتقاطر إذا كانت ثيباً، وإنما حلفناها؛ لاحتمال الزوال والعود؛ لعدم المبالغة في الوطء، وهذا ما ذهب إليه أبو علي في "الإفصاح"، وأبو الحسين في "المجموع"، والقاضي ابن كج في "شرحه"، والإمام ومن تابعه.
وذهب جماعة من الأصحاب- تعريضاً وتصرحياً-: إلى أنه إذا شهد أربع من
القوابل على أنها بكر يحكم بعدم الإصابة، ولا حاجة إلى تحليفها، وتكفي البكارة دليلاً على تصديقها.
نعم: إن طلب تحليفها لدعواه: أنه لم يبالغ وأن البكارة عادت، فله ذلك.
وهذا ما دل عليه كلام الشيخ في "المهذب".
وإذا حلفت بعد دعواه أو دونها، فتحلف على أنه لم يصبها، أو على أن بكارتها هي البكارة الأصلية [ولها حق الفسخ].
وإن نكلت، حلف الزوج، وبطل الخيار.
فإن نكل- أيضاً- ففيه وجهان:
أصحهما: أن لها الفسخ ويكون نكوله كحلفها؛ لأن الظاهر أن بكارتها هي البكارة الأصلية.
والثاني: المنع؛ لأن مقالها محتمل، والأصل دوام النكاح.
قلت: وعلى ما قاله في "التهذيب" ينبغي أن يبقى طلبها وإن اعترفت بالوطء إذا لم يحصل الافتضاض.
قال: وإن اختارت المقام معه قبل انقضاء الأجل، وكذا قبل ضرب المدة، لم يسقط خيارها على المنصوص؛ لأنها رضيت بإسقاط حقها قبل ثبوته، فلم يسقط، كالعفو عن الشفعة قبل البيع.
وفيه قول آخر- وينسب إلى القديم-: أنه يسقط؛ لأنها تزعم العلم بالعيب.
والمقام: مضموم الميم.
ولو فسخت النكاح، أو طلقها طلاقاً بائناً، ثم جدد نكاحها، ثبت لها حق الفسخ على أصح القولين؛ لأنه نكاح جديد؛ فتوفر عليه حكمه، وتضرب المدة ثانياً.
وبنى [جماعة] القولين على قولي عود الحنث، وضعفه الإمام؛ بأنه لا خلاف أنه لابد من ضرب المدة، ولو كانت مبنية على [عود] الحنث،
لاكتفى بالمدة المضروبة في النكاح الأول.
وأجرى صاحب "الشامل" وغيره القولين فيما إذا نكح امرأة ابتداء، وأعلمها أنه عنين.
وفي "التهذيب" حكاية طريقين فيما إذا نكح امرأة ابتداء، وهي تعلم أنه حكم بعنته في حق امرأة أخرى:
أحدهما: إجراء القولين.
والثاني: القطع بثبوت الخيار؛ لأنه قد يعجز عن امرأة، ويقدر على أخرى، وهذا ما حكاه الماوردي في النفقات عن الشافعي لا غير.
أما إذا اختارت المقام بعد انقضاء المدة والتخيير، سقط حقها، ولا رجوع لها [إليه]، بخلاف الإيلاء، [والإعسار بالنفقة]؛ لأن [الضرر] يتجدد، والعنة عيب واحد، لا يتوقع إزالتها إذا تحققت.
قال: وإن جب بعض ذكره، وبقي ما يمكن الجماع به، فادَّعى أنه يمكنه الجماع، وأنكرت المرأة-[أي]: قالت: به ضعف يمنعه من الوطء- فقد قيل: القول قوله، وهو الذي ذهب إليه أكثر الأصحاب؛ كما لو كان ذكره قصيراً.
وقيل: القول قولها، وهو قول أبي إسحاق المروزي، أي: مع يمينها؛ لأن الذكر إذا جب بعضه ضعف؛ فكان الظاهر معها.
قال الإمام: وهذا ليس بشيء، ولعل المروزي يقول هذا عند استئصال الحشفة، فإذا قطعت قطعة منها فما أراه يقول ما حكى عنه.
والخلاف في الخصي إذا قلنا: [إنه] لا يثبت الخيار [أو قلنا به، ورضيت، ثم ادعت عجزه عن الوطء- كالخلاف في المجبوب.
وإذا ثبت عجزه باعترافه أو بيمينها مع نكوله، فهو كالسليم إذا عجز، تضرب له المدة.
وعن الشيخ أبي حامد: أنه يثبت الخيار في الحال؛ لأن العيب متحقق، والظاهر دوام العجز.
قال: وإن اختلفا في القدر الباقي، هل يمكن الجماع به [أو لا]؟ فالقول قول المرأة، وهو الذي ذكره الأكثرون؛ لزوال أصل السلامة.
وقال ابن الصباغ: ينبغي أن يرى أهل الخبرة؛ ليعرفوا قدره، ويخبروا عن الحال، كما لو ادعت أنه مجبوب، وأنكر.
وقال الرافعي- حكاية عن المتولي-: إنه الصحيح.
فروع:
[الأول:] امرأة الصبي والمجنون إذا ادعت العنة، لم تسمع، ولم تضرب المدة؛ لأن الصبي لا يجامع؛ لصغره غالباً، ولأن [بيان] الفسخ يعتمد إقرار الزوج بالعنة، أو نكوله على الأصح مع يمينها، ولا اعتبار بقولها.
ولأن الصبي ربما يدعي الإصابة بعد البلوغ، والمجنون بعد الإفاقة.
وحكى الحناطي وجهاً: أن المراهق الذي يتأتى منه الجماع تسمع دعوى العنة عليه، وتضرب له المدة، وبه قال المزني، وهو ضعيف.
ولو جن الزوج في أثناء السنة، ومضت السنة وهو مجنون، فطلبت الفرقة- لم تجب إليها؛ لأنه لا يصح منه الإقرار.
قلت: وعلى ما قاله الإصطخري: إنها تفسخ بعد مضي المدة من غير مراجعة الحاكم وإقراره، ينبغي أن تفسخ، اللهم إلا أن يقال: العاقل بصدد أن يبادر إلى دعوى الوطء في المدة، فإذا لم يبادر غلب على الظن عدم وطئه، وهذا المعنى مفقود في المجنون.
الثاني: إذا مضت السنة فقالت: أجلته شهراً، أو سنة أخرى- ذكر بعض الأصحاب، منهم أبو الحسين بن القطان-: أن لها ذلك، ولها أن تعود إلى الفسخ متى شاءت.
والصحيح: أنه يبطل حقها بهذا التأخير؛ لأنه على الفور.
الثالث: لو ادعت عجزه بعد مضي السنة، وادعى الزوج أنها امتنعت ولم تطاوعه، فإن كان لأحدهما بينة قضى بها، وإلا فالقول قول الزوج؛ لأن الأصل دوام النكاح.
فإذا حلف ضرب القاضي المدة ثانياً، وأسكنها في جوار قوم [ثقات] يتفقدون حالها، فإذا مضت السنة، اعتبر القاضي قول الثقات.
قال: وإن تزوج امرأة، وشرط أنه حر، فخرج عبداً- أي: وكان السيد قد أذن له في النكاح-[فهل يصح النكاح]؟ فيه قولان:
أحدهما: أنه باطل؛ لأن النكاح ليس بعقد مشاهدة، وإنما يعتمد على الأسماء والصفات؛ فيكون اختلاف الصفة فيه كاختلاف العين.
ولو اختلفت العين؛ بأن قالت: زوجني من زيد، فزوجها من عمرو- لم يصح، فكذلك ها هنا.
والثاني- وهو الصحيح، واختيار المزني-: يصح؛ لأن الخلف في الشرط لا يوجب فساد [البيع، مع أنه عرضة للفساد، فأولى ألا يوجب فساد] النكاح، وهذا لأن المعقود عليه فيهما جميعاً عين معينة، وأنها لا تبدل بالخلف في الصفة.
قال الإمام: وقد يقال لموجه القول الأول: إنما كان يستقيم التعويل على الصفات لو كان يشترط ذكرها في النكاح، فإذا لم يشترط ذكرها، وكفى التعيين، فيبعد أن يؤثر الخلف في الإفساد.
وغاية الممكن في ذلك: أنا قد لا نشترط في [النكاح] ذكر شيء، وإذا عرض ذكره اشترطناه، وهذا كما أنا لا نشترط في المبيع المشار إليه اسم جنسه، بل يكفي أن يقول: بعتك هذا، ولو وقع التعرُّض لذكر جنسه، فلابد من الإصابة فيه عند بعض الأصحاب.
قلت: ومن هنا أخذ الغزالي وغيره تقريب الخلاف من الخلاف فيما إذا قال: بعتك هذه الرَّمَكة فإذا هي نعجة، وإن كان الإمام قبل أن قال ذلك ذكره، وبعَّده بأن الرمكة لفظ يشعر بموصوف وصفات، وليس تعرضاً لصفة فحسب، فإذا خالف اللفظ بالكلية محل الإشارة، اتجه فيه خلاف على بُعْدٍ.
ويجري القولان في كل وصف شرط، ثم يتبين خلافه، سواء كان المشروط صفة كمالٍ: كالنسب، والطول، والجمال، والبكارة، والشباب؛ أو صفة نقص: كأضداد ذلك، أو كان مما لا يتعلق به كمال ولا نقص؛ هذا هو الظاهر.
وفي "شرح مختصر" الجويني: أنهما لا يجريان إلا في النسب، والحرية، وما يؤثر في الكفاءة، والله أعلم.
قال: ولها [الخيار، أي]: إن كانت حرة، وكذا لوليها؛ لعدم الكفاءة، وإن كانت أمة فوجهان:
أحدهما: ثبوت الخيار؛ للغرور.
والثاني: المنع؛ لأنهما متكافئان.
وحكي عن أبي إسحاق والقاضي أبي الطيب طريقة قاطعة بثبوت الخيار.
ثم ذكر الإمام والمتولي ومجلي: أن الخيار إن ثبت، ثبت للسيد دون الأمة؛ لأن الضرر يرجع إليه في النفقة، بخلاف ما إذا خرج معيباً؛ فإن الخيار لها؛ إذ الضرر يختص بها، ولأن [السيد له] إجبارها على نكاح العبد؛ فثبوت الخيار لها ينافيه.
هذا إذا كان المشروط الحرية، فإن شرط غيرها، نظر:
فإن كان [نسباً، فخرج خيراً مما شرط فلا خيار، وإن بان دون المشروط: فإن كان دون] نسبها يثبت لها الخيار، ولأوليائها إن رضيت؛ لعدم الكفاءة.
وإن كان مثل نسبها أو فوقه، فقولان:
أصحهما- على ما ذكر في "التهذيب"-: أنه لا خيار لها؛ لأنها لا تتعير به.
والثاني: يثبت؛ للغرور، [ولأنها] طمعت في زيادة شرفه، وإن رضيت فلا خيار للأولياء؛ لأن الكفاءة حاصلة، والشرط لا يؤثر في حقهم.
وإن كان المشروط غير النسب، مثل: شرط الملاءة، والملاحة، والشباب، والطول، وأجناس ذلك، فخرج بخلاف ما شرط: فإن كان فوق ما شرط فلا خيار، وإن كان دونه فلها الخيار، وكذا ذكره في "التتمة".
فرع: إذا اختارت الفسخ بعد الدخول، وجب مهر المثل، فإن كان الزوج عبداً، فهل يجب في كسبه، أو يتعلق برقبته، أو بذمته يتبع به إذا عَتَقَ؟ فيه ثلاثة أقوال.
قال: وإن شرط أنها حرة، فخرجت أمة- أي: والمزوج [وكيل] السيد، وهو ممن يحل له نكاح الأمة- ففيه قولان:
أحدهما: أنه باطل.
والثاني: [أنه صحيح.
وتعليلهما ما ذكرنا، وهل له الخيار أم لا؟ فيه قولان:
أصحهما]: أن له الخيار؛ لتضرره برقِّ أولاده ونقصان الاستمتاع؛ لأن السيد يستخدمها، ويسافر بها، وعدم التوارث بتقدير ألا يكون حرّاً.
والثاني: لا خيار له، أي: وإن قلنا: إن المرأة يثبت لها خيار الخلف؛ لإمكان الطلاق، وهذا ضعيف؛ لأنه يستفيد بالفسخ سقوط جميع الصداق إذا كان قبل الدخول.
ولأن هذا المعنى موجود فيها إذا كان بالزوجة عيب مقارن للعقد، ومع ذلك الخيار ثابت له.
وكذا الحكم فيما لو خرجت مكاتبة، أو أم ولد، أو بعضها رقيق.
ويجري القولان في صحة النكاح، والخلاف في ثبوت الخيار بتقدير الصحة- فيما إذا شرط نسبها، فخرجت دون ما شرط، ودون نسبه، وكذا إن كانت فوق نسبه، ودون ما شرط بالترتيب، وفيما إذا شرط أنها بيضاء، فكانت سوداء، أو أنها
مليحة، فكانت قبيحة، أو أنها طويلة، فخرجت قصيرة، أو أنها بكر، فخرجت ثيباً، أو أنها مسلمة، فخرجت كتابية.
قال: وقيل: إن كان الزوج عبداً، فلا خيار له [قولاً واحداً]، وهو قول أبي إسحاق، والصحيح في "التهذيب"؛ [على ما نقله] قبل باب:"الكلام الذي ينعقد به النكاح"؛ لتكافئهما.
قال: والأول أصح- أي: من الطريقين- لما تقدم.
واعلم أن التغرير بالحرية [لا يتصور] من سيد الأمة؛ لأنه متى وجد منه، عتقت، وصح النكاح قولاً واحداً، ويتصور من وكيله- كما فرضناه- ومنها، ولا عبرة بقول من ليس بعاقد ولا معقود عليه.
وما قاله الجيلي من كونه يتصور من الولي بأن يقول: هي أختي- في غاية البعد؛ من حيث إن هذا القدر لا يدل على الحرية [قطعاً]؛ [لجواز كونها رقيقة مع كونها أخته؛ فلا يكون ذلك من قبيل شرط الحرية].
نعم هذا القول إذا وجد، غلب على الظن أنها حرة؛ فيكون من قبيل ما إذا ظن حريتها من غير شرط، وسيأتي الكلام فيه، إن شاء الله تعالى.
فرع: خيار الغرور، هل هو على الفور؟ فيه طريقان:
أشبههما: نعم، كخيار العيب.
والثاني: أنه [على الأقوال في خيار] العتق.
فرع آخر: إذا أثبتنا الخيار، ينفرد بالفسخ من له الخيار، ولا يحتاج إلى الحاكم؛ قاله في "التهذيب".
قال الرافعي: لكن هذا الخيار مختلف فيه مع الاختلاف في فساد العقد، فهو يشبه فسخ النكاح بالعيب، والله- عز وجل أعلم.
قال: وإن كان قد دخل بها- أي: قبل العلم- وقلنا: إن النكاح باطل، أو قلنا: إنه صحيح، وله الخيار، فاختار الفسخ، [لزمه] مهر المثل؛ لأن العقد قد ارتفع بالفسخ، ومقتضى انفساخ العقود ترادّ العوضين، وهو قد استوفى منفعة البضع؛ فوجب بدلها، وهو مهر المثل؛ وهذا هو الأظهر والمنصوص.
وفيه قول مخرج: أن الواجب: المسمى، إذا فرعنا على الصحة.
ووجه نقله أبو الفرج في آماليه: أن الواجب أقل الأمرين من المسمى ومهر المثل.
فرع: إذا كان المغرور عبداً، فحيث يجب المسمى يتعلق بكسبه، ولوجوب المسمى تقديران:
أحدهما: أن يفرع على أن العقد صحيح، ولم يفسخ.
والثاني: أن يفسخ، ونقول بالمخرج، أو بالوجه الآخر إذا كان أقل.
وحيث يجب مهر المثل، فيتعلق بذمته أو بكسبه أو برقبته؟ فيه ثلاثة أقوال.
ولوجوب مهر المثل تقديران:
أحدهما: أن يحكم بفساد العقد، والأقوال- والحالة هذه- مبنية على أن إذن السيد في النكاح يتناول الصحيح والفاسد [منه]، أو يختص بالصحيح؟ إن قلنا بالأول، فالمهر في كسبه، وإن قلنا بالثاني- وهو الأصح- فهذا نكاح جرى بغير إذن [السيد]، جرى فيه دخول، ومهر المثل في هذا النكاح يكون في ذمة
العبد أو يتعلق برقبته؟ فيه قولان:
أظهرهما: [هو] أولهما.
والثاني: أن يحكم بصحة العقد، وثبوت الخيار، ووجوب مهر المثل عند الفسخ؛ لأنا إذا أوجبنا مهر المثل، ألحقنا النكاح المفسوخ [بسبب] مقارن للعقد بالنكاح الفاسد.
وكان الشيخ أبو محمد يقوي في هذا التصوير قول التعلق بالكسب؛ لأنه مهر واجب في نكاح صحيح مأذون فيه.
قال: وهل يرجع به على من غره؟ فيه قولان، توجيههما قد تقدم في العيب، والتفصيل المذكور هناك جارٍ ها هنا؛ كذا قاله الرافعي.
أما إذا قلنا بالصحة، ولم يفسخ العقد، فالواجب المسمى، ولا رجوع فيه.
هذا كله إذا كان الزوج حرّاً، فإن كان عبداً، فإن قلنا: يتعلق بكسبه أو برقبته، كان للسيد الرجوع على الغارِّ.
وإن قلنا: يتعلق بذمته إلى أن يعتق، فالرجوع للعبد.
قال في "الذخائر": كذا ذكره الشيخ أبو حامد الأسفراييني في "التعليق"، ولم يذكر في رجوعه بالمهر خلافاً، وينبغي أن يكون إذا قلنا: يثبت في ذمته، يكون في رجوعه القولان في الحر.
وإن قلنا: برقبته أو بكسبه، فإن قلنا: إذن السيد يتناول الصحيح والفاسد، كان في رجوعه القولان في الحر، وإن قلنا: لا يتعلق بالفاسد، رجع قولاً واحداً. هذا آخر كلامه.
وما قاله الشيخ مجلي من البناء يحتاج إلى تأمل؛ وذلك لأن قول التعلق بالرقبة أو بالذمة مبني على عدم تناول الإذن للنكاح الفاسد، وقول التعلق بالكسب مبني على [عدم] تناوله الفاسد مع الصحيح؛ كما تقدم في الفرع قبله، وإذا كان كذلك لم يحسن البناء.
قال: وإن أتت بولد- أي: لدون ستة أشهر من حين العلم- لزمه قيمته يوم الوضع، أما لزوم قيمته فلأن رق الأم يقتضي رق الأولاد؛ وهذا الولد انعقد حرّاً؛ لظنه الحرية؛ كما لو وطئ الحر أمة الغير ظانّاً أنها أمته، أو زوجته الحرة، فقد فوت رقَه بظنه، وهذا يناظر إيجاب الغرة على الجاني.
وحكى الحناطي قولاً: أنه لا يجب قيمة الولد، وحكاه الإمام في فروع العتق احتمالاً للشيخ أبي علي؛ لأن الولد خلق حرّاً؛ فلم يثبت فيه [رق]، ثم لم ينسب إلى إزالة الرق، وإنما يجب الغرم لمالك الرق إذا فرضت جناية [فيما يثبت] ملكه فيه.
ثم قال الإمام: وهذا لا وقع له، والإجماع بخلافه.
وحكي عن الشيخ أبي علي أيضاً: [أن] من أصحابنا من ذهب إلى أن الولد يمسه الرق، ثم يعتق بسبب الغرور، وأنه غريب جدّاً لم يره لغيره.
وحكي عن الشيخ أبي علي أيضاً: أن الجارية لو كانت لأب المغرور لا يجب على المغرور قيمة الولد؛ فإن تقدير الرق في الولد لا ينتفع به الأب؛ فإنه يعتق عليه لا محالة، فإذا لم يفت نسب المغرور فينتفع به، وأما اعتبار القيمة يوم الوضع فلأنه أول إمكان التقويم.
وقول الشيخ: يوم الوضع يفهم أنها لو وضعته ميتاً، لا يلزمه شيء؛ إذ لا قيمة له، كما صرح بمثله في البيع.
وهذا مفروض فيما إذا كان الوضع بغير جناية جانٍ.
وقد حُكِي فيما إذا وطئ الغاصب أو المشترى منه الجارية المغصوبة عن جهل بالتحريم في مثل هذه الصورة- وجهٌ: أنه تجب قيمته لو كان حيّاً، قال الرافعي: فليجر هنا.
أما إذا انفصل بجناية جان، فإن كان أجنبيّاً، يجب على عاقلة الجاني غرة الجنين، ويغرم المغرور عشر قيمة الأم للسيد، وإن زادت على قيمة الغرة؛ على الأظهر من الوجهين، وهو المنسوب إلى العراقيين في التهذيب، لأنه لو انفصل
رقيقاً، والحالة هذه، لوجب على الجاني عشر قيمة الأم، فإذا فوت على السيد ذلك، فعليه غرمه؛ وهذا كما أنه يستحق قيمته عند انفصاله حيّاً وإن زادت على قدر الدية.
ويغرم على الوجه الثاني أقل الأمرين من عشر قيمة الأم، وما يسلم له بالوراثة من غرة الجنين؛ لأن الغرم إنما ترتب عليه بسبب ما يحصل له من الغرة؛ فلا يزاد عليه.
وفيه وجه: أنه لا يغرم له شيئاً؛ لأنه لا قيمة للميت.
وأي وقت تعتبر فيه قيمة الأم؟ فيه وجهان:
أحدهما: يوم الجناية.
والثاني: يوم الانفصال، حكاهما الرافعي في التفويض.
وإذا قلنا: يغرم [أقل] الأمرين، فإنما يغرم إذا أخذ ما سلم له بالوراثة.
وإن كان الجاني هو المغرور، فعلى عاقلته الغرة، ويجب على المغرور عشر قيمة الأم، إن قلنا: بوجوبه في المسالة الأولى، وإن قلنا: الواجب أقل الأمرين؛ فيتعلق حق السيد بالغرة؛ فيؤدي منها، وما فضل يكون للورثة.
وعلى التقديرين لا يرث المغرور شيئاً منها؛ لأنه قاتل.
وإن كان المغرور عبداً، فالغرة تتعلق برقبته، ثم إن قلنا بالأول، سلمت الغرة للورثة، وحق السيد يتعلق بذمة المغرور.
وإن قلنا بالثاني قبض منها عشر قيمة الأم، فإن فضل شيء، سلم للورثة؛ هكذا قاله الرافعي.
قلت: وهو مفرع على أحد الأقوال في أن قيمة الولد تتعلق بالرقبة، وينبغي أن يكون الحكم كذلك، وإن قلنا: إنها تتعلق بالذمة أو بالكسب، كما سنذكره.
ولا فرق في حرية الولد بين أن يكون المغرور حرّاً أو عبداً.
نعم: إن كان حرّاً، فالقيمة في ذمته، وإن كان عبداً، ففي ذلك ثلاثة أقوال، ذكرها ابن الصباغ وغيره؛ كما قلنا في مهر المثل، والأصح منها التعلق بالذمة.
قال: ويرجع بها على من غره، قال الإمام: إجماعاً، وقد نطق بذلك عمر- رضي الله عنه ولأنه لم يدخل في العقد على أن يضمنها، بخلاف المهر على أحد القولين.
وعن ابن خيران، وابن الوكيل: أن في المسألة قولاً آخر أنه لا يرجع بقيمته؛ كما لا يرجع بالمهر.
وإذا قلنا بالرجوع بالمهر وقيمة الولد، فإن كان التغرير من الوكيل، فالرجوع عليه في الحال، وإن كان من الأمة، فعليها بعد العتق، ولا يتعلق الغرم بالكسب والرقبة.
وفيه وجه: أنه يتعلق بالرقبة.
وإن كان منهما؛ بأن ذكرا الحرية معاً، قال الرافعي: فالرجوع عليها.
فإن قلت: ولم لا يخرج على الوجهين فيما إذا كان الغرور بالعيب من الزوجة والولي، فإن الغرم يختص بها على وجه.
قلت: لأن في مسألة العيب هي مستحقة للمهر؛ فناسب أن يحال الغرور عليها؛ لقوة جانبها؛ بخلاف مسألتنا؛ فإن مستحق [المهر السيد]؛ فهي والوكيل سيان.
ثم في كيفية الرجوع وجهان:
أحدهما- وبه قال أبو إسحاق، وهو الأقرب-: أنه يرجع بالنصف على الوكيل، وبالنصف عليها.
والثاني: أن له أن يرجع [بالكل على من شاء منهما، ويرجع] المأخوذ منه بالنصف على الآخر؛ كذا قاله في التهذيب.
وقال الحناطي وغيره: لا يرجع واحد منهما على الآخر؛ لأن التغرير كامل من كل واحد منهما.
قلت: وينبغي أن يكون ما قيل ها هنا مذكوراً في مسألة الغرور بالعيب.
ولو ذكرت للزوج حريتها، ثم ذكرها الوكيل، فالرجوع عليها.
وإن ذكرت للوكيل حريتها، فذكرها للزوج، رجع الزوج على الوكيل، والوكيل عليها، وفي [الصور كلها يكون] الرجوع بكمال المهر؛ لأنه للسيد وقد أخذه، وخرج الوطء عن صورة الإباحة؛ هذا كله إذا كان التغرير بالحرية.
فإن كان بالنسب، أو الإسلام، أو الملاحة، وغير ذلك مما ذكرناه، والزوجة هي الغارة، فلا مهر لها؛ إذ لا معنى [للدفع] إليها والاسترداد منها، وهل يجب لها أقل ما يصلح مهراً؟ فيه الخلاف المذكور في العيوب.
وإن كان من وليها، فحكمه حكم الوكيل، ولا فرق بين علمه وجهله إن كان التغرير بالنسب.
وحكم غرور المكاتبة بالحرية حكم الحرة في المهر، وأما قيمة الولد منها، فإن قلت: إن ولد المكاتبة قن للسيد، فالقيمة له، ويرجع عليها بما في يدها، فإن عجزت، ثبت في ذمتها.
وإن قلنا: إن حكمه حكمها، فيبنى على أنه إذا قتل، فلمن تكون قيمته؟ وفيه قولان:
أحدهما: للسيد؛ فعلى هذا تكون للسيد.
والثاني: لها؛ تستعين بها في أداء النجوم؛ فعلى هذا لا رجوع لها بقيمة الولد؛ إذ لا معنى للدفع إليها ثم الاسترجاع منها. ثم الرجوع على الغار في الصور المذكورة مشروط بغرم المغرور؛ كما قلنا في الضامن.
قال الإمام: وقد ذكر في الضمان وجه: [أن له] أن يغرِّمه قبل أن يغرم، فيجيء مثله هنا.
والظاهر: المنع، ويبنى على الغار بعد العتق.
أما إذا علقناه برقبته، أو بكسبه، وغرم، فيرجع السيد في الحال.
ولو أبرأته من الصداق أو بعضه، لم يرجع إلا بما غرم؛ على ما حكاه
البغوي، وللمغرور مطالبة الغار بتخليصه؛ كما في الضمان.
واعلم أن الشرط إنما يؤثر إذا كان مقترناً بالعقد، فلو تقدم على العقد، فالأصح أنه لاغ، وقد ذكر مثل [ذلك] في فصل التحليل.
قال الرافعي: وهذا الخلاف في فساد النكاح وثبوت الخيار، فأما في الرجوع على الغار بالمهر إذا قضينا به، فالتغرير السابق كالمقارن؛ هذا نقل صاحب الكتاب، وحققه الإمام، فقال: لا يشترط في تصوير التغرير دخول الشرط بين الإيجاب والقبول، ولا صدوره من العاقد؛ ألا ترى أنا نضمّن المكاتبة والأمة إذا كان التغرير منهما وليستا بعاقدين، ولكن بشرط اتصاله بالعقد من الغرور فهذا تغرير.
ولو لم يقصد بما قاله تغرير السامع، واتفق بعد أيام أنه زوجها ممن سمع، فليس ما جرى بتغرير.
وإن ذكره لا في معرض التحريض، وجرى العقد على الاتصال، أو ذكره في معرض التحريض، ولكن جرى العقد بعد زمان فاصل- ففي كونه تغريراً تردد.
وقال الرافعي: ويشبه ألا يعتبر الاتصال بالعقد؛ على ما يقتضيه إطلاق صاحب الكتاب، وكان سبب الفرق بين التأثير في الفساد، وفي إثبات الخيار وبين التأثير في الرجوع- أن تعلق الضمان بالتغرير أوسع باباً؛ ولذلك يثبت الرجوع على قولٍ بمجرد السكوت عن عيب المنكوحة، وإذا قدم الطعام إلى المالك، فأكله وجب الضمان على المقدم في قول.
هذا آخر كلامه، وما قاله نقلاً وتفقُّهاً يحتاج إلى تأمل، والذي نبه عليه [قولٌ للإمام][رحمه الله] وقد نبهت لينظر في ذلك كل فطن، فمن عثر على مزيد، فليلحقه بحاشية كتابنا مأجوراً، إن شاء الله تعالى.
ووجه التأمل: أن قول الرجوع بالمهر على الغار مفروض فيما إذا قلنا بعدم صحة النكاح، أو قلنا بالصحة، وثبوت الخيار، ففسخ العقد، أما إذا قلنا بالصحة، ولم
يفسخ، فالواجب المسمى، ولا رجوع به على أحد؛ كما تقدم ذكر ذلك، وقد دل عليه كلام الشيخ- رضي الله عنه في المهذب، وصاحب التهذيب، والرافعي، وغيرهم.
وإذا كان التصوير كذلك، لزم أن نقول- إذا وجد الشرط قبل العقد، وقلنا بأنه غير مؤثر-: إن النكاح صحيح ولا خيار، والواجب المسمى، ولا رجوع على أحد، فلا وجه [إذن] للتفرقة بين [فسخ النكاح وبين] الرجوع بالمهر وغيره كما ذكر، والله أعلم.
قال: وإن تزوج امرأة، وشرط أنها أمة، فخرجت حرة، أو على أنها كتابية، فخرجت مسلمة- ففيه قولان:
أحدهما: أن النكاح باطل.
والثاني: أنه صحيح، وتعليلهما ما تقدم.
قال: ولا خيار؛ لأنه ثبت لأجل النقص، ولا نقص.
وفيه قول محكي في الجيلي: أنه يثبت الخيار؛ لفوات غرض مقصود.
والأول هو المشهور، وادعى الإمام أنه لا خلاف في عدم ثبوته في مسألة الكتابية وإن ثبت في البيع فيما إذا شرط: أنه كافر، فخرج مسلماً؛ لأن كل غرض يستباح في النكاح من الكتابية يستباح من المسلمة، والمقصود في الشراء راجع إلى المالية، وقد يكون الكفر في المملوك من الأغراض المالية، ولأن الكافر يطلبه [المسلم] والكافر، والمسلم لا يطلبه غير المسلم، ولو طلبه غيره، لم يستعقب، ولم يبع منه، ورواج الشيء بكثرة الراغبين؛ كما أن وقوفه بقلة الراغبين.
قال: وإن تزوج امرأة- أي: من غير شرط- ثم بان أنها أمة، وهو ممن يحل له نكاح الأمة، أو بان أنها كتابية- فقد قيل: فيها قولان:
أحدهما: أن له الخيار؛ لأن ظاهر الدار الحرية والإسلام، فإذا خالف ذلك، يثبت الخيار.
والثاني: لا خيار له؛ لبعد النكاح عن الخيار، وضعف تأثير الظن؛ ولهذا لو
اشترى عبداً، وظنه كاتباً، فإذا هو غير كاتب- لا خيار.
وقيل: مأخذ القولين: أن الكفر والرق هل يلحقان بالعيوب الخمسة، أو لا؟
وجه الإلحاق أن الكفر يورث النفرة عن الاستمتاع، كما أن البرص والجذام يورثانها، والرق يتعدى إلى الولد تحقيقاً وإن كان البرص والجذام يخاف منهما.
وقيل: مأخذهما أن التغرير بالفعل هل ينزل منزلة التغرير بالقول؛ لأن هذا الظن يثبت غالباً عن فعل وإيهام صادر من الولي، أو من الزوجة؟
ووجه تنزيله منزلته: أن الخيار يثبت بالتصرية، كما يثبت بالخلف في الشرط.
قال: وقيل: في الأمة لا خيار، وفي الكتابية يثبت الخيار؛ وهذا هو النص في الموضعين.
والفرق بينهما من وجهين:
أشهرهما: أن ولي الكافرة يكون كافراً، وللكافر علامات يتميز بها من الخيار وغيره، فخفاء الحال عن الزوج إنما يكون بتلبيس الولي وتغريره؛ فأثبت الخيار لذلك. وولي الرقيقة لا يتميز عن ولي الحرة؛ فلا تغرير، بل الزوج هو المقصر؛ حيث لم يبحث عن الحال.
قال الإمام الغزالي: إن أمكن أن يجعل هذا تغريراً مثبتاً للخيار، فلو نكحها، وظن بكارتها، فإذا هي ثيب، لم يبعد إثبات الخيار؛ لأن النفرة ها هنا أعظم [هذا لفظه].
قال الرافعي: لكن تغير الهيئة في الكتابية أورث ظن الإسلام، ولم [يوجد] هنا ما يورث ظن البكارة.
نعم: قد يجعل السكوت عن بيان حالها تغريراً؛ كما جعل السكوت عن بيان العيب تغريراً.
والوجه الثاني: أن الكفر منفر للمسلم، فألحق بالعيوب، والرق لا ينفر؛ فلا يمنع من الاستمتاع.
والأشبه طرد القولين.
والأصح ما ذكره البغوي وغيره: أنه لا خيار.
ولو ظنت الحرة كفاءة الزوج؛ فأذنت في التزويج منه، فإذا هو غير كفء، فلا خيار لها؛ لأن التقصير منها ومن الولي حيث لم يبحثا، وليس هذا كظن السلامة عن العيب؛ إذ الغالب السلامة، وها هنا لا يمكن أن يقال: الغالب الكفاءة.
قال الرافعي: وينبغي أن يفصل، فيقال: إن كان فوات الكفاءة؛ لدناءة نسبه، أو حرفته، وفسقه- فالجواب كذلك.
[وإن كان فوتها؛ لعيب به، ثبت الخيار].
وإن كان فواتها؛ [لرقه، فليكن الحكم] كما لو نكح امرأة على ظن أنها حرة، فكانت أمة، بل كانت المرأة أولى بإثبات الخيار من جانب الرجل.
وما قاله الرافعي من التفرقة بين العيب والرق وغيرهما ليس من عنده، بل قد صرح به الإمام نقلاً، وقد أشرنا إلى موضع ذكره من قبل.
وفي فتاوى البغوي: أنه إن كان فاسقاً، ثبت لها الخيار كالعيب.
وفي الشامل والتتمة: أن المرأة إذا تزوجت بمن ظنته حرّاً، فخرج عبداً، لها الخيار؛ بخلاف الزوج؛ ذكراه في خيار العتق.
قال: وإن تزوج بأمة، ثم أعتقت الأمة- أي: وبقي الزوج رقيقاً- ثبت لها الخيار؛ لما روي أن بريرة أُعتقت، فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان زوجها- على ما روي عن عائشة وابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم عبداً، وللإجماع.
ولأن عليها عاراً، وضرراً في كونها تحت عبد؛ بسبب النفقة لها ولولدها وغير ذلك.
وحكم المكاتبة إذا عتقت حكم الأمة.
وإن كانت قد تزوجت برضاها وإذنها؛ فإن إذنها محمول على رضاها بالعبد ما دامت مكاتبة.
ومن بعضها حر وبعضها رقيق حكمها حكم الأمة؛ لبقاء الرق.
وفي الزوائد للعمراني حكاية وجه عن صاحب الفروع فيما إذا تبعضت الحرية فيها: أنه ينظر:
إن زادت أجزاء حريتها على أجزاء حريته، ثبت لها الخيار، وإلا فلا؛ وذلك الوجه يجب طرده هنا بطريق الأولى.
ولو دبرت، أو كوتبت، أو علق عتقها بصفة، فلا خيار لها.
ولو عتقت تحت من بعضه رقيق، ثبت لها الخيار، أما إذا أعتق الزوج معها، فلا خيار، ولو أعتق بعدها، فسيأتي الكلام فيه.
واعلم أن [صورة] المسألة فيما إذا كان العتق في الصحة، أو في المرض بعد الدخول أو قبله، وخرجت من ثلث مال المعتق سوى الصداق، أما إذا لم تخرج من ثلث المال إلا بضم الصداق إلى المال، فلا خيار لها؛ إذ لو ثبت، وترتب عليه الفسخ، لسقط الصداق، فيعود بعضها رقيقاً بسبب سقوطه، ومن عاد الرق في بعضها، امتنع الخيار؛ فثبوته يؤدي إلى نفيه؛ فمنع من أصله.
ولو أعتق الزوج وتحته أمة فلا خيار له على المذهب؛ إذ لا عار في استفراش الناقصة، ويمكنه التخلص بالطلاق، وهو الفارق بينه وبين المحل المنصوص عليه.
فرع: لو كانت صغيرة، أو مجنونة، ثبت لها الخيار عند البلوغ والإفاقة، وهل هو على الفور إذ ذاك أو لا؟ فيه الأقوال التي نذكرها من بعد؛ على ما صرَّح به ابن الصباغ.
ولا يمنع الزوج من وطء المجنونة قبل الإفاقة، وهل يمنع من وطء الصغيرة قبل البلوغ؟ فيه وجهان محكيان في ابن يونس.
والمذهب في الذخائر: أنه لا يمنع، ثم قال: ومن أصحابنا من قال: إن قلنا: إن الطلاق لا يقع على المعتقة قبل الفسخ- يُمنع من الوطء؛ لأنها كالخارجة عن ملكه، ثم قال: وكذلك الحكم في المجنونة.
قال: وفي وقته ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه على الفور، وهو الأظهر، كخيار العيب في المبيع، بل أولى؛ لبعد النكاح عن الخيار؛ وعلى هذا يكون الحكم فيه كما في البيع.
والثاني: إلى ثلاثة أيام؛ لما روى ابن عباس أن بريرة قضى لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيار ثلاثاً.
ولأن الخيار بسبب العتق إنما يثبت لتفعل ما فيه المصلحة لها، وذلك يحتاج إلى النظر والتأمل، ومدة الثلاث قريبة، وهي مدة التروي في الشرع.
قال الإمام: ويكون ابتداء الثلاث من وقت علمها بالعتق وتأثيره في الخيار.
والثالث: إلى أن يطأها- أيك باختيارها- أو تصرح بما يبطله؛ لما روت عائشة- رضي الله عنها أن بريرة خيّرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "إِنْ كَانَ قَرَبَكِ فَلَا خِيَارَ لَكِ".
وعن حفصة مثل ذلك.
فعلى هذا إن مكنت ولم يطأها، لم يبطل حقها، قاله الإمام.
وقال في الذخائر: نكتفي به.
ولو طلبها، فامتنعت من تمكينه، فالحاكم يأمرها بعد سؤاله، إما أن تختار فراقه، أو تمكنه من وطئها.
ولو اختلفا في حصول الوطء، فمن المصدق منهما؟ فيه وجهان.
وفي البيان: أن المحاملي نقل قولاً رابعاً: أنها بالخيار إلى أن تسقط حقها، أو تمكن من الوطء، أو يوجد منها ما يدل على الرضا، مثل أني ُقَبِّلَها فتسكت.
وفي الشامل: أن بعض الأصحاب ذهب إلى أن رضاها يتقدر بالمجلس الذي علمت فيه.
أما إذا أصابها الزوج قهراً، ففي سقوط الخيار تردد؛ لأنها كانت متمكنة من الفسخ عند الوطء، وهذا له التفات على ما إذا وطئ امرأته قهراً، هل يبقى لها حق الحبس حتى تقبض المهر؟ وفيه خلاف؛ وهذا مفروض فيما إذا لم يقبض على فيها، أما إذا قبض علي فيها، فلا تردد في بقاء حقه؛ وهذا يناظر تفصيل الأصحاب فيما إذا أخرج أحد المتبايعين من مجلس العقد قهراً.
قال: وإن عَتَقَتْ وهي في عدة من طلاق رجعي، فلم تفسخ، أو اختارت المقام معه- لم يسقط خيارها؛ لأنها جارية إلى البينونة؛ فمل يصح [معها اختيار] ما ينافيها.
قال الإمام: ولم يخرجوا اختيارها المقام على وقف العقود؛ لأن شرط الوقف أن يكون مورد العقد قابلاً لمقصود العقد؛ ألا ترى أن بيع الخمر لا يوقف إلى أن تتخلل وهي على حالتها غير مستحيلة؟
وحكى أنه سمع من شيخه عن طوائف من الأئمة نفوذ إجازتها، وقال: إنه متجه غير بعيد؛ فإن إجازتها إن لم تتضمن إحلالها فهي متضمنة قطع خيارها.
والغزالي نقل عن بعضهم تخريجه على وقف العقود؛ فإن راجعها نفذت، وإلا لغت، ولو فسخت نفذ؛ [لتقطع سلطة] الرجعة وتدفع [مقابل] الانتظار؛ فإنها لو أخرت الفسخ [إلى أن يراجع] كانت العدة من يومئذٍ.
وعن صاحب التقريب: أن الفسخ موقوف؛ فإن راجعها نفذ، وغلا فلا.
وعلى الأول إذا فسخت، هل تستأنف العدة، أو تكتفي ببقية الأولى؟ فيه قولان؛ كما لو طلق الرجعية.
وإذا قلنا بالبناء، فتكمل عدة الحرائر، أو عدة الإماء؟ فيه خلاف يذكر في موضعه.
واعلم أن الشيخ- رضي الله عنه لو اقتصر على ذكر المسألة الثانية، لأغنته عن ذكر الأولى.
قال: فإن ادعت الجهل بالعتق- أي: بعد الوطء، أو مضي الثلاث، أو الفورية- ومثلها يجوز أن يخفي عليها، مثل: إن كانت في بلدة، ومحلة أخرى، قبل قولها؛ إذ الأصل عدم العلم.
قلت: ويتجه أن يكون القول قوله؛ استبقاء للنكاح وإن كان الأصل العدم؛ وكذا في الإيلاء.
أما إذا [كان مثلها] لا يخفي عليها؛ كما إذا كانت مع السيد في دار واحدة، أو محلة واحدة- لم يقبل قولها؛ لأن ما تدعيه خلاف الظاهر؛ إذ العادة جارية: أن من أعتق رقيقه يعلمه إذا كان معه.
ومنهم من أطلق في المسألة قولين، ويحكى ذلك عن أبي إسحاق.
قال الشيخ أبو حامد الأسفراييني في التعليق: سئل الشيخ أبو إسحاق في هذه المسألة، فظن أن القولين فيها، وليس كذلك، بل القولان فيما إذا ادعت الجهل بالخيار.
قلت: ويظهر أن يكون مأخذ القولين تقابل الأصل والظاهر؛ إذ الأصل عدم العلم، والظاهر وجوده إذا كانت معه في بيت أو محلة.
قال: وإن ادعت الجهل بالخيار، ففيه قولان:
أحدهما: يقبل، وهو الأصح؛ لأن الأصل عدم العلم، والظاهر معها؛ إذ لا يعرف ذلك إلا الخواص من الناس.
والثاني: لا يقبل، ويكون القول قول الزوج في علمها؛ كما إذا قال المشتري: لم أعلم بأن العيب يثبت الخيار.
وحكى أبو الفرج الزاز طريقة قاطعة بالقول الثاني؛ وهذا يناظر ما إذا ادعى
الزوج الوطء في مدة العنة؛ فإنه يصدق وإن كان الأصل عدم الوطء؛ محافظة على تبقية النكاح.
فرع: إذا فرعنا على أن الخيار على الفور، فادعت الجهل بأنه على الفور، لم تعذر؛ إذ الغالب أن من علم أصل ثبوت الخيار، يعلم كونه- أيضاً- على الفور.
وقال في الرق: إن كانت قديمة العهد بالإسلام، وخالطت أهله لم تعذر، وإن كانت حديثة العهد به، أو لم تخالط أهله، فقولان، والله أعلم.
قال: وإن أعتقت، فلم تفسخ حتى أعتق الزوج، ففيه قولان:
أحدهما: يبطل خيارها؛ لزوال النقص؛ وهذا هو الأظهر في الرافعي، والمذهب في النهاية، والمنصوص في المختصر.
والثاني: لا يبطل؛ عملاً بالأصل.
وهذا الخلاف كالخلاف في رد المبيع بعد زوال العيب، وفي الأخذ بالشفعة بعد بيع ما يستحق به الشفعة.
قال: ويجوز لها الفسخ بالعتق من غير حاكم؛ لأنه ثابت بالنص والإجماع؛ فأشبه الرد بالعيب والشفعة.
قال: فإن فسخت قبل الدخول، سقط المهر، أي: وإن كان حقّاً للسيد؛ كما لو ارتدت، وليس للسيد منعها من الفسخ؛ لما يلحقها من الضرر مع البقاء.
قال: وإن فسخت بعد الدخول بعتق بعده، وجب المسمى؛ [إذ المهر يستقر] بالدخول، والفسخ يستند إلى حالة العتق [والعتق بعده، ويجب] إذ هو سببه وهو بعد الدخول؛ فلا يؤثر فيما استقر.
قال: وإن فسخت بعد الدخول بعتق قبله، سقط المسمى، ووجب مهر المثل؛ لأن الفسخ يستند إلى حالة العتق، فصار الوطء كأنه في نكاح فاسد؛ كذا علله ابن الصباغ.
وفي التهذيب حكاية وجه: أنه يجب المسمى، وهو المذهب في التتمة.
وقال الإمام: "قطع الأئمة بأن المسمى لا يسقط، ولم يخرجوا فيه القول المنصوص في العيوب؛ وهو أن المسمى يسقط، ويجب مهر المثل؛ والسبب فيه:
أن هذا الفسخ سببٌ ظاهر، وليست هي مستحقة المهر، وإنما المهر لغيرها؛ فيبعد سقوطه؛ فالقطع باستقرار المسمى إذا جرى فسخ العقد بعد المسيس موثوق به نقلاً وتعليلاً"، هذا آخر كلامه، ووافقه الغزالي عليه.
وقال الرافعي: وسواء قلنا: إن الواجب مهر المثل، أو المسمى، فهو للسيد؛ إذا لم تكن مفوضة.
قلت: وفي وجوب مهر المثل له مباحثة؛ لأن من يوجب مهر المثل يوجهه بأن الفسخ يستند إلى وقت وجود سببه، وهو العتق، فالوطء بعده كأنه في نكاح فاسد، ومقتضى هذا التوجيه أن يكون المهر للأمة؛ لأن الوطء الموجب له جرى وهي حرة.
وعلى تقدير: أن يحكم له به ويعلله بأنه محسن؛ فلا يليق حرمانه؛ فينبغي أن يجب له أقل الأمرين من مهر المثل والمسمى؛ لأنه إن كان المهر أقل؛ لم نوجب على الزوج سواه، وإن كان المسمى أقل فالقدر الزائد حصل بسبب الحرية؛ فيكون لها؛ كما قلنا فيما إذا قطعت يد عبد، ثم أعتق، ثم مات- فإنه يجب للسيد أقل الأمرين من كل الدية [وكل القيمة].
ووجه الشبه: أن السراية صيرت القطع قتلاً وهي حاصلة بعد العتق، والقطع سببه، وهو موجود في الرق.
وقال في الذخائر: إذا قلنا بوجوب مهر المثل ينبغي أن يخرج على الوجهين فيما إذا كانت مفوضة، ولم يفوض لها، ولم يدخل بها، وقلنا: إن المهر يجب بالوطء في أنه هل يجب للسيد أو لها؟
قال: فإن طلقها الزوج قبل أن تختار الفسخ- أي: طلاقاً بائناً- ففيه قولان:
أحدهما- وهو الصحيح، والمنقول في الإملاء-: أنه يقع؛ لأنه صادف النكاح.
والثاني- وهو المنصوص في الأم-: أنه موقوف، فإن فسخت، لم يقع؛ لأن إيقاعه يبطل حقها من الفسخ، وإن لم تفسخ، تبينا أنه قد وقع؛ لأنه لا يبطل حقها من الفسخ.
وأيضاً: فإنه إذا طلق في الردة يكون الطلاق موقوفاً، فكذلك ها هنا.
والقائل الأول يفرق بأن الانفساخ بالردة يستند إلى حالة الردة؛ فتبين أن
الطلاق لم يصادف النكاح، والفسخ بالعتق لا يستند إلى ما قبله.
ومنهم من لم يثبت القول الثاني.
أما إذا كان الطلاق رجعيّاً؛ فإنه يقع قولاً واحداً؛ لأنه لا يبطل حقها من الفسخ، ويبقى الحكم كما إذا عتقت في العدة.
وقال في الذخائر: وأطلق العراقيون القولين، ولم يفصلوا، وفصل المراوزة، فذكروا نحواً مما ذكرناه من التفرقة بين الطلاق الرجعي والبائن.
ولو طلق المعيب قبل فسخ الزوجة، ففي نفوذ الطلاق أو وقفه هذا الخلاف؛ كذا حكاه الإمام، والرافعي.
وفي البيان: أن الشيخ أبا حامد قال: لا خلاف أنه ينفذ طلاقه، والله أعلم.