المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب ما يحرم من النكاح - كفاية النبيه في شرح التنبيه - جـ ١٣

[ابن الرفعة]

الفصل: ‌باب ما يحرم من النكاح

‌باب ما يحرم من النكاح

المراد بالتحريم هنا: عدم الصحة.

قال: لا يصح نكاح المُحْرِم؛ لقوله- صلى الله عليه وسلم: "المُحْرِمُ لَا يَنْكِحُ ولا يُنْكِحُ".

فرع: نكاح رسول الله صلى الله عليه وسلم هل كان يجوز في حال إحرامه؟ فيه وجهان؟

أصحهما في "البحر": نعم؛ لأن المنع خشية إفضاء الأمر إلى الوطء المفسد للحج، وهو مأمون منه، صلى الله عليه وسلم.

قال: والمرتد؛ لقوله تعالى: {وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البقرة: 221]، ولأن طرآن الردة يقطع دوام النكاح؛ فَمَنَعَ ابتداءه من طريق الأولى، وعلله بعضهم بأن النكاح يراد للدوام، والمرتد مقتول عن قربٍ، ويَرِدُ عليه صحة نكاح الزاني المحصن، مع وجود ما ذكره من العلة فيه.

قال: "والخنثى المشكل"؛ لأنه لو تزوج امرأة احتمل أن يكون امرأة، ولو تزوج رجلاً احتمل أن يكون رجلاً، وإن تزوج خنثى احتمل أن يكونا رجلين أو امرأتين، والشرط في النكاح تحقق الشرائط حالة العقد، حتى لو ظهر بعد العقد أنه امرأة، وكان العاقد عليه رجلاً، أو بالعكس- لم يصح، كما لو قال الولي لرجلٍ: زوجتك ابنتي هذه، وكان له ابنتان: إحداهما محرمة عليه، ولم يعرف أن المعقود عليها هي الحلال أم لا، فقبل- لم يصح.

وقد [ذكر] في "الوسيط" فيما لو اقتدى رجل بخنثى، ثم ظهر بعد الصلاة: أنه رجلٌ- في صحة الصلاة وجهين، وإن كانت النية معتبرة فيها فما الفرق؟ ولو

ص: 95

قيل بالعكس لكان الفرق ظاهراً؛ من حيث إن النكاح عقد، فهو إلى الوقف أقرب؛ ألا ترى أنه لو باع مال أبيه على ظن أنه حي، فإذا هو ميت، كان في صحته وجهان، ولا كذلك في الصلاة!

وقد يفرق بينهما بأن الحظر في النكاح في نظر الشرع آكد من الحظر في أمر الصلاة؛ من حيث إن أثر النكاح غير قاصر على الزوجين، وأثر الصلاة قاصر على المصلى؛ فاحتاط الشرع في النكاح بما لم يحتط به في الصلاة؛ ألا ترى أنه لم يجوز الإقدام على النكاح [بالاجتهاد] عند اشتباه من يحل له نكاحها بمن لا يحل، [له نكاحها] وجوّز ذلك فيما يتعلق بالصلاة من طهارة، [وستارة]، واستقبال القبلة!

قال: "وهو الذي له فرج الرجل وفرج المرأة، ويبول منهما دفعةً واحدةً"- أي: [وكذلك [الانقطاع منهما، ويميل [طبعه] إلى الرجال والنساء ميلاً واحداً]، أي: ولم يوجد مع ذلك ما يرجح أحد] الجانبين.

وسُمِّي بهذا الاسم؛ لاشتراك الشبهين فيه، مأخوذ من قولهم: تخنث الطعام [والشراب]، إذا اشتبه أمره فمل يخلص طعمه المقصود وشارك طعم غيره.

قال الماوردي في باب رضاع الخنثى.

أمّا لو سبق بوله من أحدهما، اعتبرنا الأسبق على الصحيح من المذهب، وكذا لو استويا في الابتداء، وانقطع من أحدهما قبل الآخر- اعتبرنا المتأخر على الأصح.

فعلى هذا: لو كان أحدهما أسبق خروجاً، والآخر أبطأ انقطاعاً- فالحكم للأسبق خروجاً، وقيل: هو مشكل.

ولو كان يبول من هذا تارةً، ومن الآخر أخرى، أو كان يسبق [من]

ص: 96

أحدهما تارة، [والآخر يسبق تارة]- اعتبر [أكثر] الحالين منهما، فإن استويا فهو مشكل، حكاه الماوردي في كتاب الرضاع، ولا ترجيح بالكثرة مع الاستواء في الخروج والانقطاع [ولا بالترشيش والتزريق]، ولا بزيادة عدد الأضلاع، ولا نبات اللحية ونهود الثدى الأصح.

ويرجح بالمني والحيض إذا تكرر في زمن إمكانه، وفي "الحاوي" حكاية وجهٍ: أنه لا يرجح بالحيض.

فإن أمنى منهما فقد قيل: هو مشكل، والأصح: أنه يعتبر صفة المني: فإن كان بصفة مني الرجال فرجل، أو بصفة مني النساء فامرأة، وإن كان بصفتهما فهو مشكل.

وإن أمنى بفرج الرجال، وحاض بفرج النساء على الوجه المعتبر- ففيه [ثلاثة] أوجه:

قيل: امرأة.

وقيل: رجل.

وقيل: [وهو] مشكل، وهو أعدلها.

ولو تعارض البول مع المني أو الحيض، فوجهان محكيان في "الرافعي" في كتاب الطهارة:

أحدهما: أنه يحكم بمقتضى البول.

وأصحهما: أنه يستمر الإشكال.

ورؤية اللبن هل يرجح بها؟

قال أبو إسحاق: يعرض على القوابل، فإن قلن: إنه لا يكون هذا اللبن إلا لامرأة، حكم بأنوثته.

وعن ابن أبي هريرة: أنه يستدل باللبن على الأنوثة عند فقد سائر الأمارات.

وظاهر المذهب: أن اللبن لا يقتضي الأنوثة، ذكر ذلك الرافعي في كتاب الرضاع.

ص: 97

ولو كان له آلة لا تشبه آلة الرجال ولا [آلة] النساء، بل مجرد ثقبة- فهو مشكل أيضاً.

ولا حكم لاختياره الذكورة و [لا] الأنوثة مع وجود الدلائل الظاهرة، كالمولود إذا تنازع فيه رجلان، فألحقه القائف بأحدهما- فلا حكم لانتسابه بعد قول القائف.

ويزول باختياره الإشكالُ عند فقد العلامات على المشهور.

وفي "الحاوي" في باب الحضانة: أنه لو أخبر عن اختياره بأنه رجل أو امرأة، عمل على قوله في سقوط الحضانة، وهل يعمل على قوله في استحقاقها؟ فيه وجهان.

[ووجه] عدم القبول: التهمة.

قلت: ومقتضى هذا الوجه: أن يجري هذا الوجه في جميع ما يترتب له على اختيار الذكورة أو الأنوثة، إلا أن يختار ذلك، ثم يطرأ سبب الاستحقاق؛ لانتفاء علة عدم القبول.

ثم الاختيار يناط بميل الطبع.

وإذا اختار أحدهما ترتب عليه جميع الأحكام المنوطة به، ولا رجوع عنه إلا أن يختار الرجولة، فيحبل، هذا قول الرافعي هنا.

وقال في كتاب الطهارة: إنه لو اختار شيئاً، ثم ظهرت الأمارات من بعد-

ص: 98

يجوز أن يقال: لا يبالي بها، ويستصحب الحكم الأول، ويجوز أن يقال: يعدل إلى الأمارات الظاهرة.

وهذا الاحتمال الثاني هو ما حكاه الماوردي في باب رضاع الخنثى.

ووقت الاختيار: بعد الحكم ببلوغه؛ لأنه لازم كما في لحوق النسب، بخلاف الحضانة؛ لأنه ليس بلازم.

ومن الأصحاب من قال: يكفي وقوعه في سن التمييز؛ كالحضانة يخيّر فيها الصبي بين الأبوين.

وإذا أخر الاختيار بعد البلوغ وميل الطبع، أثم، والله أعلم.

قال: "ويحرم على الرجل نكاح الأم والجدات" أي: من قبل الأب [أو الأم]، والبنات، وبنات الأولاد وإن سفلوا، [والأخوات] أي: من الأبوين أو من أحدهما، وبنات الأخوات وبنات أولاد الأخوات وإن سفلوا، وبنات الإخوة، أي: من الأبوين أو من أحدهما، وبنات أولاد الإخوة وإن سفلوا، والعمات والخالات وإن علون، أي: كأخت الجد للأب أو الأم، وأخت الجدة للأم أو للأب؛ لقوله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ} [النساء: 23].

وأمك: كل أنثى انتهيت إليها بالولادة بواسطةٍ أو غير واسطةٍ، سواء كانت الواسطة ذكراً أو أنثى.

وبنتك: كل أنثى تنتهي إليك بالولادة، بواسطةٍ أو غير واسطةٍ.

وأختك: كل أنثى ولدها أبواك الأدنيان أو أحدهما.

وبنات الأخ وبنات الأخت كبناتك منك.

والعمة: كل أنثى [هي] أخت ذكرٍ ولدك بواسطةٍ أو بغير واسطةٍ، وقد تكون من جهة الأم كأخت أبي الأم.

وخالتك: كل أنثى هي أخت أنثى ولدتك بواسطة أو بغير واسطة، وقد تكون من جهة الأب] كأخت أم الأب، وقد ضبط ذلك بعبارتين:

ص: 99

أحدهما- ما قاله الأستاذ أبو منصور البغدادي-: أن نساء القرابات محرمات إلا ما دخل في اسم ولد العمومة، وكذا الخئولة.

والثانية- قالها الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني-: أنه يحرم على الرجل أصوله وفصوله، وفصول أول أصوله، وول فصل من كل أصل بعده، أي: بعد أول الأصول [، والأصول: الآباء والأمهات، والفصول: البنات، وفصول أول الأصول]: الأخوات وبنات الأخ وبنات الأخت، وأول فصلٍ من كل أصل بعده: العمات والخالات.

وأبدى الرافعي في هذا الموضع فائدةً، فقال: ذكرنا في الوقف [خلافاً] في دخول بنات الأولاد في اسم البنات، وفي الوصيّة خلافاً في دخول جميع الجدات في اسم الأمهات، فإن قلنا بالدخول فالذي ذكرناه الآن في تفسير الأمهات والبنات حقيقة اللفظين، وإن لم نقل بالدخول، وهو الذي جرى عليه العراقيون، فقالوا: تحرم البنات بالحقيقة والمجاز، وكذلك سائر المذكورات إلا الأخت فلا مجاز فيها- فيمكن أن يقال: المراد بالآية التقييد المذكور، ويمكن أن يقال: المراد الحقيقة، وصور المجاز مقيسة بها؛ لأن الجد حكمه حكم الأب، وابن الابن حكمه حكم الابن في الميراث والولاية والعتق بالملك ورد الشهادة؛ فَلَأَنْ يكون كالأب والابن في التحريم- ومبناه على التغليظ- أولى، وقد ادعى ابن يونس أن دليل التحريم في ذلك الإجماع.

فروع:

أحدها: إذا زنى بامرأة، فأتت بابنةٍ- كره له نكاحها، فإن تحقق أنها منه فهل تحرم عليه؟ فيه وجهان، أصحهما: لا، وعن ابن القاصِّ وجهٌ مطلق: أنه لا يجوز للزاني نكاحها.

قال في "الشامل": [وادعى] أنه مذهب الشافعي، وإنما كره للزاني نكاح من

ص: 100

أرضعته المزني بها، والأول هو المشهور.

الثاني: المنفية باللعان لا يجوز للملاعن نكاحها، إن كان قد دخل بالملاعنة.

وإن لم يدخل بها فوجهان، أصحهما: المنع.

قال في "التتمة": وعلى هذا، ففي وجوب القصاص بقتلها، والحد بقذفها، والقطع بسرقة مالها، وقبول شهادته [لها]- وجهان.

والفرق: أن سقوط العقوبة عن الأب إنما كان لأن العقوبة مشروعة للزجر، وفي طبع الآباء شفقة تمنع الجناية على الأولاد؛ فلا تقع الحاجة إلى الزجر [بالعقوبة]، وعلة الولاية والشهادة: الشفقةُ، ولا شفقة بين النافي والمنفي، بل العداوة، والعتق بالملك؛ للمنع من الاستذلال حتى لا يؤدي إلى قطيعة الرحم، والرحم بينهما مقطوعة، فنفينا هذه الأحكام.

وأمَّا النكاح فيراد للنسب؛ ولهذا اختص بالذكر والأنثى؛ لأن الاستمتاع بينهما سبب التناسل، واكتساب سبب النسب في محل النسب لا يجوز، وفي المنفية شبهة النسب قائمة؛ فمنعنا العقد الذي يقصد به اكتساب النسب.

الثالث: إذا أقرّ أحد الابنين بنسب أخت، [وكذبه الآخر]- فهل يحرم عليه نكاحها؟ قال القاضي: إن كانت مجهولة النسب ثبتت الحرمة، وإن كانت مشهورة النسب لغير من نسبها إليه هذا المُقِر، ففي ثبوت الحرمة وجهان حكاهما الإمام في كتاب الإقرار.

قال: "ويحرم عليه أم المرأة وجداتها"- أي: بمجرد العقد، [سواء] كانت من جهة الأب أو الأم؛ لقوله تعالى:{وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23]، [وفيه وجه: أنها لا تحرم إلا بالدخول كالربيبة، واستدل هذا القائل بقوله تعالى:{اللَاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] وأعاده على النساء في قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23]، وهو قول الكوفيين، وهذا لا يصح؛ لاختلاف

ص: 101

العوامل، ذكره [مكي] في [شرح] الهداية، ولما روى عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"مَنْ نَكَحَ امْرَأَةً ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، حُرِّمَتْ عَلَيْهِ أُمَّهَاتُهَا، وَلَمْ تُحَرَّمْ عَلَيْهِ بِنْتُهَا". ولما روي عن زيد بن ثابتٍ أنه سئل عن رجلٍ تزوج امرأة، ففارقها قبل أن يصيبها: هل تحل له أمها؟ فقال: لا الأم مبهم ليس فيها شرط، إنما الشرط في الربيبات. وروى عن ابن عباس أنه قال:"الأم مبهم؛ فأَبهِموا من أبهم الله"، وليس المراد إبهام الأم، وإنما المراد: تحريمها مطلقاً؛ فإنها لا تحل بوجه كالبهم من الخيل الذي لا يخالط لونَه لونٌ آخر. هكذا قاله المتولي؛ فتكون هذه الرواية كالمفسرة للآية.

قال: "وبنت المرأة وبنات أولادها"- أي: تحريم جمع؛ لأنه إذا حرم الجمع بين المرأة وأختها، مع جواز نكاحهما على الترتيب-[فَلَأَنْ تحرم بينها وبين بنتها [ولا يجوز نكاحهما] على الترتيب] كان أولى.

قال: "فإن بانت الأم منه قبل الدخول بها حَلَلَن له، فإن دخل بها حَرُمْن على التأبيد"؛ لقوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمْ اللَاّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللَاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 23].

قال الجوهري: الربيب: ابن امرأة الرجل من غيره، وهو بمعنى: مربوب،

ص: 102

والأنثى: ربيبة، والرابُّ: زوج الأم، والرابة: امرأة الأب.

وذكر "الحجور" جرياً على الغالب [وما خرج مخرج الغالب لا مفهوم له]، كقوله تعالى:{فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]، ولما تقدم من الحديث، والفرق بين الأم والبنت ما قاله المتولي أن الرجل يبتلى في العادة بمكالمة أم الزوجة عقيب النكاح؛ لأنها هي التي ترتب الأمور، فحرمها الشرع بنفس العقد؛ حتى يتمكن من الخلوة بها، ويسهل عليها ترتيب أمرها، وما لابدّ لها في أمر الزفاف منه، بخلاف البنت؛ فإنها لا تسعى في مصالح الأم؛ فانتفى هذا الغرض.

ولا يحرم على الرجل بنت زوج الأم ولا أمه، ولا بنت زوج البنت [ولا أمه، ولا أم زوجة الأب ولا بنتها، ولا أم زوجة الابن ولا بنتها، ولا زوجة الربيب]، ولا زوجة الراب.

قال: ويحرم عليه أم من وطئها بملك أو شبهة وأمهاتها، [وبنت من وطئها بملك أو شبهة]، وبنات أولادها؛ لأنه معنى تصير به المرأة فراشاً يثبت النسب، ويوجب العدة، فيتعلق به تحريم المصاهرة كالنكاح.

وفي "شرح فروع" ابن الحداد وغيره حكاية قول ضعيف: أن الوطء بالشبهة لا يثبت حرمة المصاهرة كالزنى.

والمذهب الأول؛ لأن الله تعالى قرن به النسب فقال- عزّ من قائل-: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنْ الْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً} [الفرقان: 54]، والنسب يثبت به؛ فكذلك حرمة المصاهرة.

ثم ذلك إذا شملت الشبهة الواطئ والموطوءة، فإن اختصت الشبهة بأحدهما والآخر زانٍ، مثل: أن يأتي الرجل فراش غير زوجته غالطاً، فيظن أنها زوجته، وهي عالمة، أو: أتت غير زوجها غالطة، وهو عالم، أو كانت جاهلة أو نائمة أو مكرهة، وهو عالم، أو مكنت العاقلة البالغة مجنوناً أو مراهقاً- فثلاثة أوجه:

ص: 103

أصحها: أن الاعتبار بالرجل.

والثاني: بهما.

والثالث: أن الشبهة بأيّهما كانت تُثبت حرمةَ المصاهرة، وعلى هذا فوجهان:

أحدهما: أنها تختص بمن اختص به الشبهة، حتى لو كان الاشتباه عليه حرم عليه أمها وبنتها، ولا يحرم عليها أبوه وابنه، وكذلك العكس.

والثاني: أنها تعمهما.

واعلم أن وطء الشبهة من ثلاثة أوجه [كما حكاها الإمام عن شيخه في باب حد الزنى:].

أحدها: أن تكون في الفاعل بأن يجد على فراشه امرأة فيظنها زوجته أو أمته.

الثاني: أن تكون الشبهة في المحل بأن يكون له [في الموطوءة] ملك، أو شبهة ملك كالجارية المشتركة يطؤها أحد الشريكين، أو وطئ جارية أبيه، أو مكاتبته.

الثالث: الشبهة في الطريق بأن يكون حلالاً له عند بعض أهل الاجتهاد، مثل: النكاح بلا ولي، ونكاح المتعة، ونظائرهما.

ومتى وجدت إحدى هذه الشبهة أسقطت الحد، وقال الصيرفي: الوطء في النكاح المختلف فيه يوجب الحد على من يعتقد تحريمه، [كما سنذكره إن شاء الله تعالى].

وأمَّا الزنى على صورة الجهل إذا كان الزاني قريب عهد بالإسلام فلا حدّ فيه، وهل يثبت النسب ويوجب المهر، ويكون الولد به حرّاً إن كان الفعل بأمةٍ؟ فيه وجهان، أصحهما: الثبوت.

والمجنون إذا وطئ هل يثبت النسب؟ فيه وجهان، الأصح الثبوت. هكذا نقله

ص: 104

البغوي في المتعة، ونقله الإمام والغزالي [في غير المجنون] في كتاب الرهن، ونقلا الكلام في المجنون، وأن حكمه حكم الجاهل من تخريج القاضي:[والظاهر من كلام الأصحاب فيه: عدم تعلق الأحكام وإن انتفى فيه الحد؛ لأنهم جعلوا وطأه زنى في باب حد الزنى، واحترزوا عن إدخال المجنون فيمن يجب عليه حد الزنى بقولهم: العاقل].

ثم الأحكام التي تتعلق بالوطء وتختلف بالشبهة وعدمها خمسة: النسب، والعدة، وهما معتبران بالرجل، فإن ثبتت الشبهة في حقه [ثبتا، وإلا لم يثبتا. والمهر يعتبر بالمرأة، وسقوط الحد يعتبر بمن وجدت الشبهة في حقه،] وحرمة المصاهرة، وفيها ما ذكرناه من الخلاف.

ثم لتعلم أن الوطء في النكاح وملك اليمين كما يوجب الحرمة يوجب المحرميَّة حتى يجوز للواطئ المسافرة بأم الموطوءة وابنتها، ولابنه الخلوة والمسافرة بها. وفي وطء الشبهة وجهان- ويقال: قولان-:

أحدهما: أن الحكم كذلك، وهو الأصح عند الإمام.

والثاني: المنع، وهو الأصح عند عامة الأصحاب. وحكوه عن نصه في "الإملاء"؛ لأنه لا يجوِّز الخلوة بالموطوءة والمسافرة بها فبأمها وابنتها أولى، وليس كالوطء في النكاح وملك اليمين؛ [لأن أم الموطوءة وابنتها يدخلان عليها، ويشق عليهما الاحتجاب عن زوجها،] ومثل هذه الحاجة مفقودة هنا، والله أعلم.

فائدة: أطلق الشيخ في "المهذب" قوله بأن وطء الشبهة [حرام، وحمله بعض مشايخنا على الشبهة في الموطوءة كما ذكرناه، وجزم القول بأن الشبهة] في الفاعل لا تحرم الوطء؛ فإن التحريم يلازمه الإثم، ولا إثم على من وطئ امرأةً وجدها في فراشه على ظن أنها زوجته، والذي دلّ عليه كلام الأئمة: أن هذا النوع حرام، وقد صرح به القاضي الحسين في "التعليق" عند الكلام فيما إذا قال

ص: 105

لزوجته: أنت طالق للسُّنَّة، ثم قال: ولا يأثم به؛ لأنه لم يقصد ذلك. وصرح به أيضاً [كذلك البندنيجي عند الكلام في قتل الخطأ، وكذا] المحاملي في "المجموع" في كتاب "اللعان" عند الكلام فيما يسقط الحضانة، وإيراد ابن الصباغ في ذلك الموضع يدلُّ عليه؛ حيث قال: الثالث: أن يطأ في غير ملكٍ وطأً حراماً ليس بزنى، مثل: أن يطأ بشبهة، أو عقد فاسد، أو جارية ولده. وحكى أيضاً في ضمن مسألة من كتاب اللعان، وهي إذا قال: هذا الحمل ليس مني، عن القاضي أبي الطيب: أنه حكى عن أبي إسحاق وأبي علي الطبري أنهما قالا: إذا قذفها بالزنى، أو بوطء شبهةٍ، أو إكراه تلاعنا، ويجوز أن يسمى ذلك قذفاً؛ لأنه وطء حرام.

وفي "النهاية" في فصل أوّله: "اللعان لا يجري إلا بعد أن تُنسب المرأة إلى وطءٍ محرم في النكاح"-: وإن أحببنا قلنا: إلى وطءٍ لا يحكم بتحليله، حتى لا يمنع وطء الشبهة عن الدخول، والله أعلم.

قال: "فإن لمسها بشهوةٍ فيما دون الفرج ففيه قولان:"

أحدهما: أنه لا يحرم؛ لمفهوم قوله تعالى: {دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] فشرط الدخول في التحريم، ولأنه لا يوجب العدة؛ فلذلك لا يثبت تحريم المصاهرة، وهذا هو الأصح عند الإمام واختيار ابن أبي هريرة وابن القطان وغيرهما.

والثاني: أنه يحرم، وهو اختيار صاحب "التهذيب" والقاضي الروياني؛ لأنها مباشرة [لا تستباح إلا بالملك، فثبتت حرمة المصاهرة كالوطء، ولأنه تلذذ بمباشرة] فأشبه الوطء، ولأنه استمتاع يوجب الفدية على المُحْرِم فكان كالوطء.

واعلم أن محل القولين عند معظم الأصحاب ما إذا كان ذلك [بشهوةٍ]، كما ذكره الشيخ، فأمَّا اللمس بغير شهوة فلا أثر له في التحريم.

قال الإمام: ومنهم من أرسل ذكر الملامسة ولم يقيده بالشهوة؛ فيجوز أن يقال: تكفي صورة الملامسة [كما تكفي في نقض الطهارة.

وحكم المفاخذة والتقبيل حكم الملامسة]، والوطء في الدبر [حكمه]

ص: 106

حكم الوطء في القبل، قاله في "الذخائر".

وقال في "التتمة": إن وطئها في الدبر ظانّاً أنه القبل فيوجب التحريم، وإن كان عالماً به فوجهان، وقد تقدم حكاية وجهٍ فيه فيحمل على هذه الصورة، وأمَّا النظر بشهوة فلا يقتضي حرمة المصاهرة، ونهم من حكى فيه قولاً ضعيفاً عن العراقيين، ثم خصصه بعضهم بالنظر إلى الفرج، [وهو ذكر الرجل] وقبل المرأة، ومنهم من لم يفرق بين الفرج وغيره، ومنهم من خصصه بما يحرم النظر إليه من الرجل والمرأة على ما حكاه في "الذخائر".

وتثبت حرمة المصاهرة [بما] إذا استدخلت المرأة ماء زوجها، أو ماء أجنبي بالشبهة، كما يثبت [به] النسب وتجب [به] العدة، وإن كان في تقرير المهر ووجوبه للمفوّضة وثبوت الرجعة ووجوب الغسل ووجوب المهر في صورة الشبهة- وجهان، أصحهما: المنع.

وإن أنزل الأجنبي بزنى لم يثبت النسب باستدخاله، [ولا حرمة للمصاهرة كالوطء، وإن أنزل الزوج بالزنى حكى صاحب "التهذيب": أنه لا يثبت النسب]، ولا حرمة المصاهرة ولا تجب [به] العدّة وقال من عند نفسه: وجب أن تثبت هذه الأحكام؛ كما لو وطئ زوجته على ظن أنه زنى.

قال: "ويحرم عليه زوجة أبيه وأزواج آبائه" أي: من قِبَل الأب أو الأم؛ لقوله تعالى: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ} [النساء: 22] على ما ذهب إليه أكثر المفسرين.

قال: وزوجة ابنه وأزواج أبنائه؛ لقوله تعالى: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء: 23]، وقوله:{مِنْ أَصْلابِكُمْ} بيان لعدم تحريم زوجة [ولد] التبنِّي. وكذلك يحرم عليه نكاح زوجات أولاد البنات، وهذا التحريم

ص: 107

يحصل بالعقد، وفي "تعليق" القاضي الحسين في كتاب الرجعة: أن الرجل إذا طلق زوجته، ثم اختلفا، فقالت الزوجة: دخل بي، وأنكر الزوج أنها تحرم على أبيه وابنه، وإن ادعى الزوج الدخول وأنكرت المرأة فلا تحرم على أبيه وابنه. ولم أَرَ ذلك في غير هذا الكتاب، فلعله سهوٌ من الناسخ.

قال: ومن دخل بها الأب بملكٍ أو شبهةٍ، أو دخل بها آباؤه، أو دخل بها الابن بملك أو شبهةٍ، أو دخل بها أولاده؛ لما سبق".

قال: فإن تزوج امرأةً [ووطئها] أبوه أو ابنه بشبهة، أو وطئ هو أمَّها أو بنتها بشبهة- انفسخ نكاحها"؛ لأنه معنى يوجب تحريماً مؤبداً، فإذا طرأ على النكاح أبطله كالرضاع.

ويجب للموطوءة على الواطئ مهر مثلها، وهل يجب لها على زوجها شيء مع ذلك؟ قال ابن الحداد: لا يجب، وعلله ابن الصباغ بأنّ الفسخ جاء من قِبَلها دونه، وهي مطاوعة على الوطء.

وقال آخرون: يجب عليه نصف ما سمّى لها.

وتوسط الشيخ أبو علي، فقال: إن كانت نائمة أو مكرهةً، أو صغيرةً لا تعقل فلها نصف المسمّى على الزوج. وإن كانت عاقلةً وطاوعت؛ ظانَّةً أن الواطئ زوجها فلا مهر لها.

نعم، لو اشتبه الحال في هذه الصورة فيتجه التردد هنا على ما قاله ابن الحداد والأصحاب.

وإذا أوجبنا على الزوج نصف المسمّى، فهل يطالب الواطئ بشيء؟

قال الرافعي وغيره هنا: نعم؛ لأنه قد أفسد عليه النكاح. وفي قدر ما يرجع به ثلاثة أقوال كما في الرضاع:

أحدها: مهر المثل.

والثاني: نصفه.

ص: 108

والثالث: ما غرمه.

وقال ابن الصباغ في كتاب الرضاع حكاية عن المذهب: إنه لا يجب عليه مهرٌ [للزوج].

والفرق بينه وبين الرضاع: أن الأب إذا وطئ وجب لها عليه المهر؛ فلا يجب عليه شيء آخر، بخلاف الرضاع.

وقال أبو حامدٍ: إنه يجب كما في الرضاع.

وفي "التتمة" حكاية وجهين في هذه المسألة، وصحح وجه الوجوب.

ثم هذا كله إذا لم يكن الزوج قد دخل بها، فإن [كان قد] دخل بها، فهل يجب على الواطئ للزوج شيء؟ يتجه تخريجه على نظير المسألة في الرضاع، والمذهب فيها: أنه يجب على المفسد للزوج مهر المثل.

وقيل: لا يجب عليه [شيء].

قال: "ويحرم عليه أن يجمع بين المرأة وأختها" أي: من الأبوين أو من أحدهما، ابتداءً أو دواماً؛ لقوله تعالى:{وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلَاّ مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23]، ولقوله صلى الله عليه وسلم:"مَلْعُونٌ مَنْ جَمَعَ مَاءَهُ فِي رَحِمِ أُخْتَيْنِ".

قال: "وبين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها"، أي: ابتداءً أو دواماً؛ لقوله- صلى الله عليه وسلم: "لَا يَجْمَعُ الرَّجُلُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ [وَعَمَّتِهَا]، وَلا بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا".

ص: 109

وكذا لا يجمع الرجل بين المرأة وخالة أحد أبويها، أو عمة أحد أبويها، والمعنى فيه: أن ذلك يؤدي إلى قطع الرحم؛ لما في الطباع في التباين والغَيْرة من الضرات.

وجملة من يحرم الجمع بينهما: كل شخصين لا يجوز لأحدهما أن يتزوج بالآخر لو كان ذكراً لأجل القرابة، [وقولنا:"لأجل القرابة"]، يحترز به عن المرأة وأم زوجها، وإن شئت قلت: وزوجة ابنها. [وعن المرأة وابنة زوجها]؛ فإنه يجوز أن يجمع بينهما، وإن كان لا يجوز لأحدهما أن ينكح الأخرى [لو كان ذكراً].

قال الرافعي: [ولو] قلت يحرم الجمع بين امرأتين أيتهما قُدِّرت ذكراً حرمت الأخرى عليه، لاكتفيت به؛ لأن الصورتين المحترز عنهما لا يطرد التحريم في كل واحدة لو قدرناها ذكراً. إذا تقرر ذلك، فلو نكح من يحرم الجمع بينهما [معاً] بطل نكاحهما، وإن نكح واحدة، ثم نكح الأخرى قبل أن أبان الأولى- فنكاح الثانية باطل، فإن وطئ الثانية بشبهة لم ينفسخ نكاح الأولى، لكن يستحب ألا [يطأ الأولى] حتى تنقضي عدة الموطوءة، فإن أبان الأولى صح نكاح الثانية.

فرع: لو ادعى الزوج أن الأولى أخبرته بانقضاء عدتها في زمن الإمكان، وأراد نكح الأخرى، فكذبته الأولى وقالت: لم تنقضِ عدتي بعدُ- فله نكاح أختها؛ لزعمه انقضاء عدتها، ومؤاخذته بمقتضى قوله في تحريمها عليه، ولو طلقها لا يقع طلاقه، ولو وطئها وجب عليه الحد.

وقال القفال والحليمي: ليس له نكاح أختها، ولو طلقها وقع، ولو وطئها لا يحدُّ.

والأول أظهر، وهو المحكي عن نصه في "الإملاء"، وتجب لها النفقة.

ص: 110

قال: "وما حرم من ذلك بالنسب حرم بالرضاع"؛ لقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23]، فنصّ على الأم والأخت، وقسنا الباقي عليه، ولقوله- صلى الله عليه وسلم:"يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ الوِلَادَةِ"، وَيُرْوَى:"مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ".

قال في "التهذيب": أربع من النسوان يُتَصَوَّرْنَ حلالاً في الرضاع، ولا يتصور وجود ذلك في النسب: أم أختك، وأم نافلتك، وجدّة ولدك، وأخت ولدك.

فهؤلاء في النسب حرام؛ لأن أم أختك: إمّا أمك أو زوجة أبيك، وأم نافلتك إمَّا بنتك أو زوجة ابنك، وجدة ولدك: إما أمك أو أم زوجتك، وأخت ولدك إما [بنتك أو ربيبة]. وفي الرضاع يتصور أن يكنَّ حلالاً إذا كانت المرضعة لهن أجنبية، وزاد غيره: أم العم والعمة، وأم الخال والخالة. وهذه الصور غير واردة على من أطلق ولم يستثنها؛ لأن التحريم فيها جاء من قبل المصاهرة، لا من قبل النسب، وقد ذكر الرافعي هذا في كتاب الرضاع، وإن كان قد قال في هذا الباب- كما قاله البغوي-: لكن يلزم على ذلك ألا يكون في كلام الشيخ ما يدل على [تحريم] المصاهرة عند فقد النسب وثبوت الرضاع، [وقد قال الأئمة: إن ما يحرم بسبب المصاهرة عند ثبوت النسب، يحرم عند ثبوت الرضاع]، ولا يستثنى من ذلك إلا ما ذكرناه. وأمَّا قوله تعالى:{وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء: 23]، فقد ذكرنا أن ذلك [ذكر]؛ ليخرج ولد التبنِّي، وإلا فالوالد من الرضاع تحرم موطوءته كما تحرم موطوءة الابن من النسب، والله أعلم.

ص: 111

فرع: إذا اختلطت من لا يحل له نكاحها بسبب الرضاع بعددٍ من النساء، هل يحل له أن ينكح واحدة منهن؟ ينظر:

إن كان العدد لا ينحصر لآحاد الناس: كنسوةِ بلدٍ أو قريةٍ كبيرة، فله نكاح واحدة منهن، قال الإمام: وهذا ظاهر إذا عم الالتباس، أمَّا إذا أمكنه نكاح امرأةٍ لا يرتاب فيها، فيحتمل أن يقال: لا ينكح اللواتي يرتاب فيهن، والظاهر: أنه لا حجر [عليه].

وإن كان الاختلاط بنسوةٍ معدودات يتمكن آحاد الناس من عددهن، فيتجنبهن.

وحكى في "الوسيط" وجهاً: أن له أن ينكح واحدة منهن بالهجوم، وهو ضعيفٌ، وهذا يؤخذ من كتاب "التنبيه" من كتاب الرضاع حيث قال: وإن وطئ رجلان امرأة فأتت بولدِ، فارتضع طفل بلبنه .. إلى آخره، فعلى المذهب: لو خالف ونكح إحداهن، حكى الشيخ أبو عليه فيه وجهين، والأصح منهما: المنع.

آخر: إذا نكحت المرأة، ثم ادعت أن بينها وبين الزوج رضاعاً محرماً.

قال: ومن حرم نكاحها [ممن ذكرناهن] حرم بالرضاع ومن حرم نكاحها ممن ذكرناه حرم وطؤها بملك اليمين؛ لأنه إذا حرم النكاح فَلَأَنْ يحرم الوطء- وهو المقصود- بطريق الأولى. وإذا ملك أختين أو جارية وعمتها أو خالتها، كان له أن يطأ أيتهما شاء، فإذا وطئها لم يحل له وطء الأخرى حتى يحرم على نفسه الموطوءة ببيع كلها أو بعضها وينقضي بالخيار، أو بالهبة مع الإقباض، أو العتق، أو التزويج، أو الكتابة، وإلا كان جامعاً بين الأختين، فلو خالف ووطئها قبل ذلك لم يعد إلى وطئها حتى يحرم الأولى بأحد ما ذكرناه.

ولا يكفي الحيض والإحرام والعدة عن وطء الشبهة وعروض الردة. وفي الرهن وجهان، أصحهما المنع. ولو باع بشرط الخيار بحيث يجوز للبائع الوطء لا تحل به الثانية، وحيث لا يجوز فوجهان، قال الإمام: والوجه عندي القطع بحل الأخرى؛ لثبوت الملك للمشتري ونفوذ تصرفاته؛ ولذلك لا يكفي لحل وطء الثانية استبراء الأولى. وعن القاضي الحسين: أن القياس يقتضي الاكتفاء به.

وذكر القاضي ابن كجٍّ أن القاضي أبا حامدٍ قال: غلط بعض أصحابنا فقال: إذا

ص: 112

قال: حرّمتها على نفسي، حرمت عليه، وحلت له الأخرى.

فرع: لو ملك أمة، فادّعت أنها أخته من الرضاع، نظر: إن كان ذلك قبل أن يملكها حرمت عليه، ولا تحل له، وإن ادعت ذلك بعد أن مكنته من الوطء فلا تحرم.

وإن كان بعد [أن ملكها] وقبل أن تمكنه، فهل تحرم؟ فيه وجهان، وهما يجريان فيما لو ادعت أنها موطوءة الأب، بخلاف ما لو ادعت أنها أخته من النسب، وهي مجهولة النسب؛ فإنها لا تحرم.

وفُرِّق بينهما بأن التحريم بالنسب إنما يثبت إذا ثبت النسب، والنسب لا يثبت بقول النساء، وأمَّا الرضاع فيثبت بقولهن؛ فكذلك التحريم مثله، قاله القاضي الحسين في "التعليق" في كتاب الطلاق.

آخر: الوطء في الموضع المكروه كالوطء في الفرج في تحريم الأخرى، وفي اللمس، والقبلة، [والنظر] بشهوة مثل الخلاف المذكور في حرمة المصاهرة.

تنبيه: قول الشيخ: ممن ذكرناهن، فيه فائدة حسنة؛ فإنه لو قال: ومن حرم نكاحها حرم وطؤها بملك اليمين، اندرج فيه الأمة الكتابية؛ فإنه لا يحل للمسلم نكاحها، ويحل له وطؤها بملك اليمين.

قال: "وإن وطئ أمته بملك اليمين، ثم تزوج أختها أو عمتها أو خالتها- حلت المنكوحة، وحرمت المملوكة"؛ لأن فراش النكاح أقوى في استباحة الوطء؛ لأنه يملك به حقوقاً لا تملك بفراش المملوكة: كالطلاق، والظهار، والإيلاء، واللعان، وسائر الأحكام، ولأن ولد المنكوحة لا ينتفي إلا باللعان ويلحق بالإمكان، وولد المملوكة ينتفي بدعوى الاستبراء، ولا يلحق بالإمكان، وذلك دليل القوة والضعف، وإذا كان فراش النكاح أقوى لم يندفع بالأضعف؛ كما أن ملك اليمين لمَّا كان أقوى في ملك الرقبة؛ من حيث إنه يملك به الرقبة

ص: 113

والمنفعة إذا طرأ على النكاح- ثبت، وسقط [به] به النكاح، وكذلك لو كان في نكاحه إحدى الأختين مثلاً، فملك الأخرى فالمنكوحة حلال كما كانت، والتي ملكها حرام عليه.

قال: "ويحرم على المسلم نكاح المجوسية"؛ لأن الأصل في الكفار تحريمهن؛ لقوله تعالى: {وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221]، ثم خصص الله- سبحانه وتعالى منهن أهل الكتاب بقوله:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5]، ولم يثبت للمجوس كتاب، وإذا كان الأصل التحريم فلا يباح بالشك.

وقال أبو ثور: إنه يجوز نكاحها؛ لأنها تُقَرُّ على دينها بالجزية، فيجوز نكاحها كاليهودية. وقد نُقِلَ عن الشافعي قولٌ مثله.

وقال أبو إسحاق وأبو عبيد بن حربويه: جواز نكاحها مبني على أن المجوس هل كان لهم كتاب أم لا؟ وفيه قولان، أشبههما: نعم، فعلى هذا يجوز نكاحها، [على القولين] وعلى مقابله لا يجوز، والمذهب: أنه لا يجوز نكاحها على القولين جميعاً؛ لما روى عن عبد الرحمن بن عوف أنه- عليه الصلاة والسلام قال: "سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ، غَيْرَ نَاكِحِي نِسَائِهِمْ وَلا آكِلِي ذَبَائِحِهِمْ"، وأمّا

ص: 114

[حقن الدم]؛ فلأن لهم شبهة كتاب، والشبهة في الدم تقتضي الحقن، وفي البضع تقتضي الحظر، والكتاب إنما يفيد الحل إذا قال من أثبته: إنه كان متلوّاً [ومتضمناً] للأحكام، فإن قنع من قال [به] بأصل الكتاب لزمه مثله في صحف إبراهيم- عليه السلام وما في معناه، والله أعلم.

قال: والوثنيّة؛ لقوله تعالى: {وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221]، وكذلك الحكم في عَبَدَة الأصنام، والبقر، والشمس، والقمر، والمُعَطِّلة، والدهرية. وهل تحل الوثنية لمن هو من أهل الكتاب؟ فيه وجهان.

قال: "والمرتدة"؛ للآية؛ ولأنها أسوأ حالاً من الوثنيّة؛ لأن الوثنية تقر على دينها بالرق، بخلاف المرتدة، كذا علله المتولي، وكذلك الحكم في الزنديقة.

قال: "والمتولدة [بين] المجوسي والكتابيَّة"؛ لأن الولد ينسب إلى الأب، ويشرف بشرفه؛ فأُعطى حكمه.

قال: "وهل تحرم المتولدة بين الكتابي والمجوسيّة؟ فيه قولان:"

أحدهما: لا؛ لما مرَّ أن الولد ينسب إلى أبيه، والأب كتابي فيحلّ؛ لقوله تعالى:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5].

والثاني: المنع، وهو الأصح في "التهذيب"، والمذهب في "التتمة"؛ تغليباً للتحريم؛ كما أن المتولد بين المأكول وغير المأكول حرام، وليس كما لو كان أحد الأبوين مسلماً؛ فإنه يجعل مسلماً؛ لأن الإسلام لا يَشْرَكُ الشركَ؛ فغلب لعلوه، والشرك يَشْرَكُ الشرك؛ فاستويا.

وعلى هذا: إذا بلغت المتولدة بين الكتابي والمجوسية، وتدينت بدين الكتابي- فالمهذب أنها لا تحل [كالمجوسيّة إذا دانت اليهوديَّةَ بعد البلوغ.

وقيل: تحل]؛ لأن فيها شهبة من كل واحد منهما، إلا أنَّا غلبنا جانب

ص: 115

الحظر ما دامت محكوماً عليها بحكم الأبوين، فإذا بلغت فلها حكم نفسها، [ولها أن تدين بدين أي الأبوين شاءت]، هكذا قاله في "التهذيب"، [ومثله حكاه عن رواية الإمام في باب الصيد والذبائح].

ولو تدينت بدين المجوس، فالحكاية عن القفال: أنها تمكن منه، ويجري عليها حكم المجوس.

وقال الإمام: لا يمتنع أن يقال: إذا أثبتا لها حكم اليهودية بالمناكحة فنمنعها من التمجُّس إذا منعنا الكافر [من] الانتقال من دينٍ إلى دين.

وتحل مناكحة اليهود والنصارى إن كان آباؤهم من بني إسرائيل وقوم عيسى؛ لأنه [اجتمع لهم] شرف النسب والتعلُّق بالكتب، أمَّا من لم تكن منهم، ودخل [أول آبائها] في دينهم فله خمس أحوال:

إحداها: أن يدخل بعد بعثته- عليه السلام ونسخ شريعتهم، فلا تحل مناكحتهم.

والثانية: أن يدخل قبل بعثته- عليه السلام وقبل التحريف أو بعده، ولكن عرف المحرّف فاجتنبه- فقد قال العراقيون: تحل مناكحتهم، وحكى الخراسانيون قولاً: أنها لا تحل؛ رعاية لشرف النسب.

والثالثة: أن يدخل بعد التبديل، وآمن بالمبدَّل، فقد قطع بعضهم بالبطلان، وهو اختيار العراقيين، وقيل: فيه قولان.

والرابعة: أشكل: هل دخل قبل التبديل أو بعده؟ جزم العراقيون بالتحريم، وحكى المراوزة فيه قولين.

والخامسة: أشكل: [هل دخل قبل] النسخ أو بعده؟ فلا تحلُّ [مناكحتهم].

وقال في "التتمة": حكمه حكم اليهوديّة إذا تنصرت في زماننا، والحكم فيها ينبني

ص: 116

على أنَّها هل تُقَرُّ على النصرانية أم لا؟ إن قلنا: تقرُّ، جاز، وإلا فلا، ومن دان بدين اليهود بعد مبعث عيسى- عليه السلام كمن دان به بعد مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقيل: كمن دان بعد التحريف.

وأمَّا السامرة فهل هم من اليهود، والصابئة من النصارى؟ فيهم أربعة طرق:

القطع بأنهم منهم.

القطع بأنهم ليسوا منهم، وهو اختيار الإصطخري.

طَرْدُ القولين، نقلهما أبو علي عن الخراسانيين.

والمذهب الذي ذهب إليه [جمهور الأصحاب]: أنهم إن كانوا يخالفون اليهود والنصارى في أصول الأديان فليسوا منهم، وإن وافقوهم في أصول الدين وخالفوهم في فروعهم، فهم منهم.

وقطع العراقيون بحل مناكحتهم إذا قلنا: إنهم منهم، وكذلك القاضي الحسين في باب [عقد الذمة]، وتردد فيه الخراسانيون.

ووجه المنع: أنهم كالمبتدعة في ديننا، ومبتدعة ديننا تحل مناكحتهم؛ لأمور سمعيّة [منعتنا من] ذلك وهي مفقودة في حقهم.

وأمَّا غير اليهود والنصارى من أهل الكتب: كمن يؤمن بصحف إبراهيم وشيث، وزَبُور داود، فلا يحلُّ للمسلم مناكحتهم؛ لأن ما فيه مواعظُ، وليس بحُكْم.

وقال في "التتمة": "حكمهم حكم المجوس".

[وحكى القاضي أبو الطيب في "تعليقه" في باب "عقد الذمة" عن أبي إسحاق: أنه تحل مناكحتهم، وتحل ذبائحهم].

إذا تقرر ذلك فيكره نكاح من قلنا: يحل نكاحها، حربيّة كانت أو ذميّة، والكراهة في الحربيّة أشد؛ خشية من أن تسبى فيُسترَق ولده ولا يصدَّق بأنه مسلم.

وقيل في الذمية: إنه لا يكره نكاحها، وهو ما حكاه الغزالي.

ص: 117

وحكى الإمام تردداً في [كراهة] نكاح الحربيّة عن الأصحاب، ونقل في "الحلية" للشاشي وجهاً عن بعض العراقيين: أنه لا يصح نكاح المسلم الحربية.

وحكم حل ذبيحةِ من ذكر، ووطئه بملك اليمين إذا كان امرأة- حُكْمُ نكاحِهِ، والله أعلم.

قال: "ويحرم على المسلم نكاح الأمة الكتابيّة"، أي: حرّاً كان أو عبداً؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمْ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25].

ولأنه اجتمع فيها نقصانان لكل منهما أثر في المنع من النكاح، فلا يجوز للحرّ المسلم نكاحها كالمجوسية الحرة، والنقصان في الفرع: الكفر والرق، وفي الأصل: الكفر؛ ولأنها إن كانت لكافرٍ استُرِقَّ ولده، وإن كانت لمسلم لا يأمن أن ينقلها لكافر فيسترق ولده.

ونقل في "الذخائر": أن بعض الأصحاب خرّج وجهاً في جواز نكاح الأمة الكتابية إذا كانت مملوكة لمسلم، وضعفه.

وقيل: إن كان عبداً هل له نكاحها، وهل يحرم على الحرّ الذمي؟ فيه وجهان، أصحهما: الجواز، والصحيح: حلها للعبد الذمي.

والمجوسيّة والوثنيّة هل تحل لأهل دينها؟ فيه وجهان محكيان في "الشامل".

فرع: لو تزوج مسلم بحربيّة، فاسترقت وجوزناه على أحد الوجهين- فهل ينفسخ النكاح؟ [المذهب: أنّه ينفسخ،] وذُكر وجه غريب: أن النكاح لا ينقطع؛ [فإن] ذلك محتمل في الدوام.

قال الغزالي في كتاب "السير": وهذا إن أُريد به أن يتوقف إلى إسلامها [قبل انقضاء] العدة فله وجه [ما]، وإلا فلا وجه له.

ص: 118

قال: "ولا يحرم وطؤها بملك اليمين"؛ لأنه يباح له وطء حرائرهن بملك اليمين، فيباح له وطء الإماء بملك اليمين، وللأمن [من] المحذور المانع من نكاحها، ولأن الاستباحة به أوسع؛ فإنه غير محصور. نعم، لو كانت الأمة مجوسية انبنى حلُّ وطئها على جواز نكاحها، وهل يملك السيّد إجبار [أمته] المجوسيّة والوثنية على الإسلام؟ فيه خلاف تقدّم ذكره عند الكلام في إجبار الذميّة على الغسل.

قال: ويحرم على الحرّ نكاح الأمة المسلمة إلا أن يخاف العنت- أي: الزنى- ولا يجد، [أي] في الموضع الذي هو [فيه]، صداق حرّة، أي: مسلمة يمكنه وطؤها؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً} [النساء: 25] إلى قوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} [النساء: 25]، ولما روى عن جابر أنّه قال: من وجد صداق حرةٍ لا ينكح الأمة.

وروي مثل ذلك عن ابن عباس، رضي الله عنهما.

[والطَّوْل: السَّعة في الفضل، قاله ابن عباس].

والعنت: المشقة [الشديدة.

ويقال: إنه الهلاك، والمراد به في الآية: الزنى، وسمي به؛ لأنه سبب المشقة] والهلاك بالحد في الدنيا، والهلاك في الآخرة بالعقوبة.

وليس المراد بخوف الزنى: أن يغلب على ظنه الوقوع فيه، بل المراد: الذي يتوقعه لا على سبيل الندور.

وليس غير الخائف: هو الذي يعلم الاجتناب عنه، لكن غلبة الظن بالتقوى والاجتناب تنافي الخوف؛ فمن غلبت شهوته ورقّ تقواه فهو خائف، [ومن ضعفت شهوته، وهو يستبعد الوقوع في الزنى لدينٍ أو مروءةٍ أو حياءٍ- فهو غير

ص: 119

خائفٍ]. وإن غلبت شهوته وتقواه، ففيه احتمالان للإمام:

أظهرهما: أنه لا يجوز له نكاح الأمة.

[والثاني: إن كان ترك الوقاع يجر ضرراً عظيماً أو مرضاً، فله نكاح الأمة]، وإلا فلا.

قال مجلي حكاية عن الغزالي: وفي هذا التفصيل نظرٌ؛ إذ فرّق فيه بين الفاجر والتقي، [وسلط] الفاجر على الرخصة؛ [لسبب فجوره]، وقد ساواه التقي في الحاجة، وذلك بعيد.

قال مجلي: ويمكن أن يجاب عنه بأن سبب الرخصة موجود في الفاجر، مأمون في التقى؛ فاختصّ الفاجر بها؛ فإن المعنى إذا عُقِلَ، ووقف الحكم عليه، تبعه في الثبوت والانتفاء.

تنبيه: القيد الأول من كلام الشيخ يخرج المجبوب عن أن يجوز له نكاح الأمة؛ إذ لا يتصور منه الوطء مباحاً ولا حراماً، قاله الإمام والمتولي، وفي البحريّة للقاضي الروياني:[أنّ] للخصى والمجبوب نكاح الأمة عند خوف الوقوع في الفعل المأثوم به.

ومن في ملكه أمة تحل له فلا يحل له نكاح الأمَة؛ لأنه مستغنٍ عن إرقاق ولده. وفي كتاب الحناطي [ذكر] خلاف فيه، ويمكن أن يكون مخرجاً [على] ما إذا قدر على شراء أمةٍ: هل يحل له نكاح الأمة؟ وفيه خلاف، والأصح- ولم يذكر في "التهذيب" سواه-: أنه لا يجوز.

ومن تحته منكوحة يمكنه الاستمتاع بها فلا يحل له نكاح الأمة، وسواء كانت المنكوحة مسلمة أو كتابية، حرّة أو رقيقة؛ لأنه غير خائف للعنت، وحكى ابن كجٍّ وجهين في أن وجود الحرة الكتابيّة هل يمنع نكاح الأمة، [كالوجهين الآتي

ص: 120

ذكرهما في أن القدرة على نكاحها هل تمنع [نكاح] الأمة، أمَّا إذا لم يتيسر الاستمتاع بها كما إذا كانت: صغيرة، أو غائبة، [أو مجنونة]، أو مجذومة، أوب رصاء، أو رتقاء، أو قرناء، أو مفضاة لا تحتمل الجماع، فهل يجوز له نكاح الأمة؟ فيه وجهان:

أحدهما- وهو الأصح في "المهذب"، وبه أجاب ابن الصباغ وطائفة من العراقيين، واختاره القاضي الحسين على ما حكاه الرافعيّ-: أن له نكاح الأمة؛ [لأنه] لا غَنَاء في الحرة التي تحته ولا استغناء.

والثاني- وهو الذي ذكره الإمام والغزالي والبغوي، واختاره القاضي الحسين على ما حكاه المتولي-: المنع؛ لأن نكاح الصغيرة والغائبة كنكاح البالغة والحاضرة في منع نكاح الأخت، فكذلك في منع نكاح الأمة، فعلى هذا: لا تُنْكح الأمة حتى تبين الحرة، وعلى الأول ليس له أن ينكح [أمة] مثل هذه الحرة.

فرع: المجنون هل يجوز لوليه أن يزوجه أمةً؟

قال في "التهذيب": إن كان معسراً، ويخاف العنت جاز.

وقال في "التتمة": فيه وجهان.

ووجه المنع: أن فعل المجنون ليس بزنى، فهو لا يخاف العنت. ذكر ذلك عند الكلام في تزويج المجنون.

قلت: ويتجه أن يكون مادة الخلاف: أن وطأه كوطء الشبهة حتى يلتحق به [النسب] أو لا؟ وفيه خلاف قدّمناه، والأصح الأول، ومقتضاه: عدم الجواز هنا.

والقيد الثاني إن أجرى على عمومه دخل فيه:

ما لو قدر على صداق حرّة كتابية، فلا يجوز له نكاح الأمة. وهو أصح

ص: 121

الوجهين، وقائله قال: لفظ "الإسلام" في الآية جرى على الأعم؛ فإن الغالب أن المؤمن إنما يرغب في المؤمنات، كما [جاء] في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ} إلى آخرها [الأحزاب: 49]؛ فإن المسلمة والكتابية في حكمهم سواء، ولأن الكتابية لا ترغب في نكاح المسلم إلا بأكثر من مهر المسلمة؛ فيكون من لا يقدر على مهر المسلمة لا يقدر على مهر الكتابية.

وعن أبي الطيب: أن أبا إسحاق قطع به، وجعل في "الوسيط" الوجه المقابل له [أحسن أو] أظهر على حسب اختلاف النسخ.

وما إذا قدر على مهر حرة قرناء أو رتقاء، وفيه وجهان بناهما المتولي. على أن وجودها في نكاحه هل يمنع من نكاح الأمة؟ فإن قلنا: يمنع، منع، وإلا فلا، وجزم الغزالي والبغوي بأن ذلك لا يمنع، وإن كان جوابهما المنع عند الوجود في النكاح.

ويجري الخلاف في الرضيعة، وأولى بجواز نكاح الأمة، ويجري في المجنونة والمجذومة وأولى بالمنع؛ لإمكان الاستمتاع.

وما إذا وجد صداق حرة، ولم يجد من ترضى به أصلاً؛ لنقصه، أو لم يكن في البلد من هي خالية من زوج، ولا نزاع بين الأئمة في أنه يجوز له نكاح الأمة.

نعم: لو كانت توجد في بلد أخرى، أطلق بعضهم جوابه بجواز نكاح الأمة، وفصل أكثر الأصحاب فقالوا: إن كان يخاف العنت في مدة قطع المسافة، أو تلحقه مشقة ظاهرة بالخروج إليها- فله نكاح الأمة، وإلا فلا، وضبط الإمام المشقة المحتملة بأن ينسب محتملها في طلب الزوجة إلى الإسراف ومجاوزة الحد.

ويخرج ما إذا كان يقدر على صداق حرة في بلد، وهو فاقد له في موضع إقامته؛ فإنه يجوز له نكاح الأمة؛ لأنه يصدق عليه أنه غير واجد كما في

ص: 122

التيمم، وكما يجوز صرف سهم ابن السبيل إليه ويخالف ما لو كان له زوجة غائبة؛ حيث لا يجوز له نكاح الأمة على أحد الوجهين؛ لأن فراق الزوجة الغائبة ممكن، ووصول المال الغائب في الحال غير ممكن؛ فشابهت غيبة ماله غيبة الرقبة المعروفة الوجود؛ فإنه لا يعدل إلى الصوم في الكفارة، بل يعتقها؛ [لأنه متمكن] منه.

[وما لو] وجد حرة ترضى بدون مهر المثل، وهو واجد لذلك لا غير، أو بمهر مؤجل يغلب على ظنه قدرته عليه عند المحل، أو بيع منه بنسيئة ما يفي بصداقها، أو وجد من يستأجره بأجرة حالة، وقد حكى غيره في ذلك وجهين، أظهرهما: جواز نكاح الأمة كما اقتضاه لفظ الشيخ، إلا في الأولى؛ فإن الأصح [فيها] عدم الجواز؛ كما لو بذل له الماء بدون ثمن المثل، وقد أجرى مجرون الخلاف فيما [لو وجد من يقرضه] المهر، وقطع في التتمة بجواز نكاح الأمة؛ لأن القرض لا يلحقه الأجل، وما إذا رضيت بأن ينكحها بلا مهر؛ لأنها تطالبه بالقرض، وفي "شرح" أبي علي وجه: أنه يمتنع عليه نكاح الأمة، والله أعلم.

فروع:

القدرة بمال الابن- عند وجوب الإعفاف عليه- كقدرته بماله على أصح الوجهين.

ولو كان في ملكه مسكن وخادم يحتاج غليهما، هل يجوز له نكاح الأمة أو عليه بيعهما، وصرفهما إلى طَوْل حرة إن كان يفي به؟ فيه وجهان حكاهما ابن كج، وإطلاق المتولي والبغوي يقتضي بيع الخادم؛ حيث قالا: ولو كان في ملكه محرمة عليه، وجب عليه بيعها. ولم يفصلا بين أن يحتاج إليها للخدمة أو لا.

ولو وجد من بعضها حر وبعضها رقيق: فهل لو نكاح الأمة فيه احتمالان للإمام: ولا يجوز له نكاحها إلا حيث يجوز له نكاح الأمة.

ص: 123

ولو لم ترض الحرة التي وجدها إلا بأكثر من مهر المثل وهو يجده.

قال في "الإبانة" حكاية عن القفال، وفي "الزوائد" حكاية عن الطبري، وفي ["الرافعي" عن] "التهذيب"-: إنه لا ينكح الأمة، وطردوا ذلك عنهم فيما إذا وجد الرقبة في الكفارة بثمن غالٍ؛ فإنه لا يجوز [له] أن يكفر بالصوم.

وقال في "التتمة": له أن ينكح الأمة كما في المتيمم إذا لم يجد الماء إلا بأكثر من ثمن المثل؛ فإنه يجوز له أن يتيمم.

وتوسط الإمام والغزالي فقالا: إن كانت المغالاة بقدر كبير [يعد] بذله إسرافاً، فله نكاح الأمة، وإلا فلا.

والفرق بينه وبين مسألة التيمم: أن الحاجة إلى الماء تتكرر؛ فيحصل الضرر، بخلاف النكاح، ولأن النكاح يتعلق به أغراض كلية؛ فلا يعد باذل المال في مثلها مغبوناً.

قال الغزالي في "البسيط": وهذا منشؤه أمر، وهو: أن نقصان الولي من مهر المثل في حق الطفلة والزيادة في حق الطفل مهما كان إلى حد يقدر غرض خاص في المواصلة، ويجعله الولي وسيلة إليها- فهو محتمل، وما انتهى إلى حد الإسراف فهو ممنوع.

واعلم أن ما ذكره الرافعي عن صاحب "التهذيب" لم أَرَ كلامه في "التهذيب" مصرحاً به ولا مشيراً إليه؛ لأنه فرض المسألة فيما إذا كان في بلد وصداق الحرائر ببلد أخرى أرخص، وهو واجد لذلك، فإن لم تلحقه مشقة في الخروج، ولا يجوز له نكاح الأمة، وكذلك رقبة الكفارة إذا بيعت بثمنٍ غالٍ وهو واجد لا ينتقل إلى الصوم، فيحمل- أيضاً- على ما إذا كان ببلد آخر [أرخص]؛ لسياق ما تقدم من كلامه.

وإذا كانت الصورة كذلك فليست الزيادة على بلد آخر زيادة على مهر المثل

ص: 124

وثمن المثل؛ فإن المعتبر في المتقومات ببلد التقويم لا غيره.

ثم كلام الرافعي يدل على أنه نقل ذلك عن "التهذيب" في هذا الموضع؛ لأنه قال ها هنا: لا يعدل؛ و [قالي في الكفارات: يعدل.

وذكر ما أورده هنا ذكر من ينقل وجهاً بعيداً أو تخريجاً غريباً، وأفهم أن بين الكلامين تناقضاً، [ولا تناقض] بينهما.

ص: 125

تنبيه: عدول الشيخ عن قوله: لا يقدر على نكاح حرة، إلى قوله:"ألا يجد صداق حرة"، وإن كان لا يشمل الصور [كلها]؛ لأن القدرة على نكاح [الحرة] تارة يكون في صورة لا يجوز له نكاح الأمة: كما إذا رضيت بمهر مؤجل، أو بغير مهر، ونظائر ذلك؛ فلذلك لم يذكره؛ حتى لا يشمل غير المقصود.

واعلم أن بعض الأصحاب شرط شرطاً آخر: وهو أن تكون الأمة مملوكة لمسلم؛ خشية من أن يرق ولده المسلم للكافر، ولم يذكر الشيخ- رضي الله عنه هذا: لأمرين:

أحدهما: أن الأصح خلافه.

والثاني: أن ذلك ليس لكونها أمته؛ بل لأمر خارج عن ذلك، ولو عد ذلك من شرائط نكاح الأمة للزم أن يُعد ألا تكون مملوكة لولده إذا جوزنا للأب نكاح الأمة، ولم يعد ذلك من جملة الشروط.

وقد أبدى الشيخ مجلي في صورة المسألة إذا كانت الأمة مملوكة لكافر- نظيراً؛ فإن الكافر لا يجوز إقرار يده على المسلمة، والتزويج لا يغني في إزالة يده عنها؛ فكيف يتصور تزويجها من مسلم؟! ثم لو قدرنا التزويج فإنه يبيعها

ص: 126

بعد ذلك من مسلم؛ إذ لا يجوز بيعها إلا منه، أو عِتْقها فلا يسترق ولدها كافر.

وهذه الشروط إنما تعتبر في ابتداء النكاح، أما في دوامه فلا، خلافاً للمزني في طرآن اليسار، وإذا نكح حرة بعد ما نكح أمة خاصة.

فإن قيل: فما الفرق بين ذلك وبين إباحة أكل الميتة للمضطر؛ فإنه إذا وجد الحلال في أثناء الأكل حرمت الاستدامة؟

قلنا: لأن الأكل في كل وقت مبتدأ للأكل فلا يجوز مع وجود الحلال [في أثناء الأكل]، بخلاف النكاح؛ فإنه مستدام وصار هذا كالعدة، والردة، والإحرام تمنع الابتداء، ولا تمنع الدوام.

فائدة: إذا جوزنا نكاح الأمة، فأتت بولد فهو رقيق، سواء كان الناكِح عربيّاً أو غير عربي.

وفي "التهذيب" حكاية قول عن القديم: أن ولد العربي لا ينعقد رقيقاً، فعلى هذا: هل يغرم الناكح قيمته لسيد الأمة أم لا؟ فيه وجهان.

قال: وإن جمع بين حرة، وأمة- أي: الحر- في عقد واحد، وهو ممن [يحل] له نكاح الأمة ففيه قولان:

أحدهما: [أنه] يبطل العقد فيهما.

والثاني: [لا يصح وهو الأصح في الحرة]، ويبطل في الأمة؛ لما عرف من قاعدة تفريق الصفقة.

ص: 127

وحكى الخراسانيون طريقة قاطعة: أن نكاح الحرة لا يبطل قولاً واحداً؛ لأن النكاح لا يفسد بفساد الصداق، وهو أحد جزأي العقد، فكيف [فسادٍ في] قرينِهِ؟!

أما إذا كان ممن يحل له نكاح الأمة؛ بأن وجد حرة تسمح بمهر مؤجل أو بما دون مهر المثل وغيره، وقلنا: إن ذلك لا يمنع نكاح الأمة- فلا يصح أيضاً نكاح الأمة؛ لأنه لو صح لصح نكاح الحرة، والأمة لا تقارن الحرة كما لا تدخل عليها، وفي نكاح الحرة طرقان:

أظهرهما عند الإمام- وبه قال صاحب "التلخيص"-: أنه على قولين، كما في الصورة الأولى.

والطريق الثاني- وبه قال ابن الحداد، وأبو زيد، وآخرون-: يبطل جزماً؛ لأنه [لو] جمع بين امرأتين لا يجوز الجمع بينهما، ويجوز له نكاح كل واحدة منهما على الانفراد- بطل النكاحان؛ كما لو جمع بين أختين.

قال الغزالي: وهو بعيد؛ لأن إحدى الأختين ليست أولى بالدفع، وها هنا الأمة أولى بالدفع؛ لأن نكاح الحرة يجوز أن يتقدم ويتأخر، ونكاح الأمة لا يجوز مع التأخر؛ فدل على ضعفه.

وحكى في "الذخائر" طريقة ثالثة: أنه لا يبطل قولاً واحداً، وجزم الجرجاني بصحة نكاح الحرة والأمة في "المعاياة"، ولم أَرَهُ لغيره.

ص: 128

ولو جمع بين مسلمة ووثنية، أو أجنبية ومحرم، أو خَلِيَّة ومعتدة [أو منكوحة]- فهو كما لو جمع بين حرة وأمة، وإذا صححنا نكاح من تحل له فهل تستحق جميع المسمى، [أو مهر] المثل، أو ما يخص مهر مثلها من المسمى؟ فيه ثلاثة أوجه، أضعفها: الأول.

فإن قلنا: إنها تستحق المسمى، فللزوج الخيار في فسخ النكاح والرجوع إلى مهر المثل؛ دفعاً للضرر عنه.

قال الإمام: وهذا لا يخلص من إشكال؛ فإن مهر المثل قد يكون مثل المسمى أو أكثر منه، حكاه في باب تفريق الصفقة، فإن قلنا: مهر المثل، فلا خيار له.

وإن قلنا: تستحق حصة مهر المثل من المسمى.

فعن الشيخ أبي علي: أنه إن كان المسمى مما يمكن قسمته كالحبوب، فلا خيار له، وإن كان مما لا يمكن قسمته- كالعبد- فله الخيار؛ لتضرره بالتشقيص، فإن فسخ فعليه مهر المثل.

تنبيه: محل القولين فيما إذا زوج منه ابنته وأمته، ووليه موكل في التزويج، فقال: زوجتك بنتي هذه وأمتي هذه بكذا، فقال: قبلت نكاحهما، أما لو قال: زوجتك هذه، فقال: قبلت نكاح هذه، وقبلت نكاح هذه، أو اقتصر على نكاح البنت- فنكاح البنت صحيح [لا محالة]، ونكاح الأمة صحيح في المسألة الأولى إن تقدم، فإن تأخر [فلا]، وفي المسألة الثانية لا يصح؛ لعدم القبول.

ولو فصل المزوِّج، فقال الخاطب: قبلت نكاحهما- فالحكم كما لو

ص: 129

فصلا جميعاً، أو [كما لو] جمَعَا جميعاً. فيه خلاف، والأولى عند الإمام: الأول، وكذا الخلاف فيما لو جمع الموجب وفصل القابل.

ولو جمع بين أختين وأمة، وهو ممن يحل له نكاح الأمة- فنكاح الأختين باطل، وفي نكاح الأمة الخلاف.

ولو كان الناكح عبداً فلا يشترط في حقه شيء من الشرائط المذكورة، ويجوز له الجمع بين الحرة والأمة، ونكاح الأمة على الحرة؛ لأنه لا يتضرر برق ولده.

ومن بعضه حر وبعضه رقيق، كالقن.

قال: ويحرم على الرجل- أي: الحر- نكاح جارية ابنه؛ لأن له فيها شبهة يسقط الحد بوطئها، فلم يحل له نكاحها؛ كالأمة المشتركة بينه وبين غيره، وهذا سواء قلنا بعدم وجوب الإعفاف على الابن، أو قلنا به، وكان الأب لا يجب إعفافه في تلك الحالة؛ لقدرته على الشراء، وجوزنا له نكاح الأمة، أو [لو كان الابن] معسراً وله جارية [وهو] محتاج إليها للخدمة، أو كان يجب على الابن إعفافه.

[ونقل] المزني في "المختصر" جوازه، قال بعض الأصحاب: ذلك مبني على عدم [وجوب] الإعفاف، وحمله بعضهم على ما إذا لم يجب الإعفاف؛ لإعسار الابن وغيره.

قال الرافعي: والصحيح في هاتين المسألتين: أن ينبني جواز النكاح على أنه إذا أولد جارية ابنِه: هل تصير مستولدة [له]؟ إن قلنا: نعم، لم يجز له نكاحها؛ كما لا يجوز أن ينكح جارية نفسه، وإن قلنا: لا تصير أمَّ ولد جاز.

[فتحرر بذلك] في المسألة ثلاثة أقوال:

المذهب منها: عدم الجواز المطلق.

والثاني: الجواز المطلق.

ص: 130

والثالث: إن كان الأب لا يجب إعفافه، ولم يجعلها أم ولد [له] جاز، وإلا فلا. أما الأب الرقيق فيجوز له نكاحها قولاً واحداً؛ ولذلك يجوز للولد نكاح جارية [أبيه] إذا وجدت بقية الشرائط.

فرع: إذا جوزنا له نكاح جارية ابنه، فأولدها- قال الشيخ أبو حامد والعراقيون، وتابعهم [الشيخ] أبو علي، وصاحب "التهذيب" وغيرهما: إنها لا تصير أم ولد [له]؛ لأنه رضي برق ولده حين نكحها، ولأن النكاح حاصل محقق؛ فيكون واطئاً بالنكاح لا بشبهة الملك، بخلاف ما إذا لم يكن نكاح.

وعن الشيخ أبي محمد- وإليه ميل الإمام-: أنه يثبت الاستيلاد وينفسخ النكاح.

ويحرم عليه نكاح جارية مكاتبه؛ لما له في ماله من شبهة الملك، وكذلك لو أحبلها صارت أم ولد له.

قال: ونكاح جاريته، أي: وجارية يملك بعضها؛ لتناقض أحكام الملك، [والنكاح والملك لا يوجب القَسْم، ولا يصح فيه حكم من أحكام النكاح] من طلاق ولا ظهار ولا إيلاء ولا غير ذلك، والنكاح يقتضي ذلك؛ ولأن نفقة الزوجة تقتضي التمليك، فلو ملكها النفقة لملك نفسه؛ إذ الأمَةُ لا تملك، وإذا تناقضت الأحكام [لم يمكن الجمع بينهما؛ فيثبت] الأقوى، ويسقط الأضعف، وملك اليمين أقوى؛ لأنه يملك [به] الرقبة والمنفعة، والنكاح لا يُمْلك به إلا ضرب من المنفعة.

قال: ويحرم على العبد نكاح مولاته؛ لتضاد الأحكام أيضاً؛ لأن النكاح يوجب للمرأة على الزوج المهر والنفقة والكسوة، والملك يدفع ذلك ويوجبه للعبد، ولأنه يطالبها بالسفر معه إلى المشرق؛ لأنها زوجته، وهي تطالبه بالسفر إلى

ص: 131

المغرب؛ لأنه عبدها، وإذا دعاها إلى فراشه بحق النكاح [بعثته في أشغالها] بحق الملك، وإذا تعذر الجمع بينهما بطل الأضعف، وثبت الأقوى.

قال: وإن تزوج جارية أجنبي، ثم اشتراها، [أي: أو بعضها]- انفسخ النكاح؛ لما تقرر أن ملك اليمين والنكاح لا يجتمعان، ويقدم ملك اليمين؛ لقوته، وهذا بخلاف ما إذا استأجر عيناً ثم اشتراها؛ فإنه لا تنفسخ الإجارة على الأصح؛ لأنه لا مناقضة بين ملك العين والمنفعة.

فرع: لو فسخ البيع في زمن الخيار، قال في "الحاوي" في كتاب البيع: إن قلنا: إنّ الملك للبائع، أو موقوف- فالنكاح بحاله، وإن قلنا: إنّ الملك للمشتري، فوجهان، أحدهما: أنه لا ينفسخ، وهو ظاهر النص، وإذا قلنا: لا ينفسخ، فهل يحل له وطؤها في زمن الخيار؟ فيه وجهان، ظاهر النص: أنه لا يجوز، وفي "الوسيط" في كتاب الإقرار: أنا إن قلنا: إن الملك للبائع، حل له الوطء، وإن قلنا: إنه للمشتري، فلا؛ لأنه ملك ضعيف، فيمنع من الوطء لبقاء خيار البائع، وإن قلنا: إنه موقوف، فلا يحل [له]؛ لأنه لا يدري أيطأ زوجته فيحل، أو مملوكته بملك ضعيف فلا يحل.

وقد ظهر بمجموع ما ذكرناه أن النكاح لا ينفسخ بمجرد الشراء، على الظاهر من النص عند الماوردي؛ إذ المبيع ينتقل إلى المشتري بنفس العقد على الصحيح، وعند الغزالي ينفسخ بنفس العقد؛ [تفريعاً على أن المبيع ينتقل بنفس العقد] وهو ما ادعى الإمام أنه المشهور؛ تفريعاً على هذا القول في الفروع المسلة في كتاب الطلاق.

وحكم العبد إذا مَلَّكه السيدُ مالاً، وقلنا: إنه يملك، وأذن له في ابتياع زوجته، فابتاعها- في انفساخ النكاح- حكم الحر، صرح به ابن الصباغ عند الكلام في تزويج العبد.

ص: 132

قال: وإن اشتراها ابنه، [أي]: والأب لا يجوز له نكاح الأمة ابتداءً- فقد قيل: ينفسخ؛ لأن ملكه كملكه في [إسقاط الحد، وثبوت الاستيلاد، والمنع من الابتداء، وكان كملكه في] إبطال النكاح إذا طرأ. وقيل: لا ينفسخ، وهو الأصح، واختيار ابن الحداد، وبه أجاب الغزالي؛ لأنَّ الأصل في النكاح الثابت الدوام، وللدوام من القوة ما ليس للابتداء، وصار هذا كالعدة تمنع الابتداء ولا تقطع الدوام، وليس كطرآن الملك على الزوجة؛ لأنه [لا] تناقض في الأحكام ها هنا.

والوجهان جاريان فيما لو نكح جارية ابنه وهو رقيق، ثم عتق: هل ينفسخ النكاح؟ فإن قلنا: لا ينفسخ، فأتت بولد، فحكمه حكم ما إذا جوزنا النكاح في الابتداء. ويجري الوجهان فيما لو ملك الأمة مكاتب الزوج، قاله في "التتمة"، وقضية هذا الإطلاق ترجيح عدم الانفساخ، [وبه قال أبو سعد الهروي، ومنهم من رجح الانفساخ] هنا، وهو الأشبه؛ لأن المال الذي في يد المكاتب إما ملك للسيد- كما سنذكره عن بعضهم في كتاب الأيمان- أو مملوك للمكاتب، وتعلقه به فوق تعلق الأب بمال الابن.

قال: وإن تزوجت الحرة بعبد، ثم اشترته- انفسخ النكاح؛ [لما تقدم].

وذكر الشراء في هذه [المسائل جرى] على الأعم الغالب، وإن كان حصول الملك في المنكوحة بأي سبب كان، كالشراء في انفساخ النكاح.

قال: وتحرم الملاعنة على من لاعنها، أي: سواء كانت صادقة أو كاذبة في الظاهر والباطن؛ لما روى [عن] ابن عباس- رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الْمُتَلَاعِنَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَداً"، وحكى أبو الفرج: أن الفرقة لا

ص: 133

تحصل باطناً إذا كانت هي صادقة.

قال: والمطلقة ثلاثاً على من طلقها، أي: قبل أن تنكح زوجاً غيره سواء كان الطلاق في نكاح واحد أو أكثر، بلفظ واحد أو أكثر، قبل الدخول أو بعده؛ لقوله تعالى:{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230]، والمراد: الطلقة الثالثة، على ما سنذكره من بعد إن شاء الله تعالى.

والعبد إذا طلق زوجته طلقتين، كالحر إذا طلق ثلاثاً؛ لأنه استوفى ما ملكه من الطلاق، فلو عرضت الحرية بعد ذلك لم تؤثر على الأصح، وفي "الوسيط" وغيره حكاية وجه: أن له أن ينكحها.

قال: ويحرم على الرجل نكاح المُحْرِمة، أي: وإن كان هو والمزوِّج حلالَيْن؛ لقوله- صلى الله عليه وسلم: "الْمُحْرِمُ لَا يَنْكِحُ وَلَا يُنْكِحُ"، وكل من الزوجين يسمى ناكحاً.

قال في الذخائر: فإن قيل: فهلا جوزتموه كتزويج الحائض؛ لأن أكثر ما فيه أنه ممنوع من وطئها، وذلك لا يمنع صحة العقد.

قلنا: لم نمنعه في حق المحرمة لكونها ممنوعة الوطء بل للإحرام، [والإحرام] اقتضى المنع من الوطء؛ لكونه مفسداً له، والنكاح لمّا كان سبباً [إليه] منع منه؛ [إذ لا يتم] الوطء المفسد إلا به، بخلاف الحائض؛ فإن وطْأَها غيرُ مفسد للحيض، وإنما مُنِعَ للأذى؛ فلم ينتصب مانعاً من سبب الوطء.

قال: والمعتدة من غيره؛ لقوله تعالى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235]، ولأن العدة وجبت لحفظ النسب؛ فلو جوزنا فيها النكاح لأعقبه حِلُّ الوطء؛ إذ لا يتأخر عنه؛ فيؤدي إلى اختلاط النسب، ويبطل المقصود، ثمّ إذا كان نكاح من هي في عدة الغير حراماً، فنكاح من هي زوجة الغير أولى، ولم يذكر الشيخ ذلك؛ لاستغنائه بمسألة العدة.

[فرع: حكاه الإمام في كتاب الإقرار: إذا ادعت المرأة أنها زوجة فلان، فقال

ص: 134

الزوج: ما نكحتك قط، ففي حرمة النكاح لها وجهان، حتى يجوز لها- في وجه- أن تنكح].

قال: ويكره له نكاح المرتابة بالحمل، أي: التي اعتدت بالأقراء أو الأشهر، ثم رأت أماراتِ الحمل، مثل: ارتفاع البطن، أو حركته مع وجود الدم، وشككنا هل هو حمل أم لا؟ وكانت الريبة حاصلة بعد الحكم بانقضاء العدة ظاهراً؛ لأنه لا يؤمن أن يكون حملاً؛ فيكون النكاح باطلاً.

قال: فإن نكحها فقد قيل: يصح، وهو قول الإصطخري وأبي إسحاق، والصحيح في "المهذب"؛ لأنا حكمنا بانقضاء العدة فلا ننقضه بالشك؛ كما لو حصلت الريبة بعد النكاح، فعلى هذا: لو أتت بولد لدون ستة أشهر من حين العقد، تبين بطلان النكاح، وقيل: لا يصح وهو قول ابن سريج؛ لأنها لا تدري أَعِدَّتُها بالأقراء أو الأشهر، وقد حلت بمضيِّهما، أو بوضع الحمل ولم تحل بعد؛ فلا تنكح إلا بيقين، كما لو كان ذلك في أثناء العدة.

ومن الأصحاب من نقل في المسألة قولين، فاختلف الصائرون إلى ذلك:

فمنهم من قال: هما مبنيان على القولين في وقف العقود، فإن قلنا: لا توقف، فالنكاح باطل، وإلا [كان] العقد موقوفاً. قال الشيخ أبو علي: وهذا فاسد؛ لأن العقود لا توقف على الجديد، والقول بالوقف هنا منقول عن الجديد.

ومنهم من بناهما على الخلاف فيما إذا باع مال أبيه على ظن حياته، فبان موته، أو على القولين فيمن شك في عدد الركعات بعد الفراغ من الصلاة: هل يؤمر بالتدارك؟ ويحكي هذا عن القفال.

قال الفوراني: فعلى هذا: لا فرق بين أن يرتاب بعد الأقراء أو في خلالها.

فيحصل في المسألة ثلاثة طرق: القطع بالجواز، القطع بالمنع، طرد قولين.

قال: ويحرم على الحر أن يجمع بين أكثر من أربع نسوة؛ لما روى عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما أن غيلانَ أسلم على عشر نسوة، فقال له

ص: 135

النبي- صلى الله عليه وسلم: "أَمْسِكْ أَرْبَعاً، وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ"، وروى أن نوفل بن معاوية أسلم وتحته خمس نسوة، فقال له النبي- صلى الله عليه وسلم:" أَمْسِكْ أَرْبَعاً، وَفَارِقِ الْأُخْرَى". ويجوز أن يجمع بين امرأتين أو ثلاث أو أربع من الحرائر؛ لقوله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3]، ولم يُرِدِ الجمع، بل التخيير؛ ألا ترى قوله تعالى:{أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [فاطر: 1]؟! فلو جمع بين خمس فصاعداً نظر:

فإن جمع بينهن في عقد واحد بطل الكل، وقال في "الذخائر": بطل نكاح الخامسة، وفي نكاح الأربع قولان؛ بناءً على القولين في تفريق الصفقة، فإن قلنا بالصحة فإن الخامسة لا تتعين؛ فيكون له أن يعين الفسخ في واحدة منهن، فإذا عين في واحدة بقي من سواها على الزوجية؛ كما لو طلق إحدى نسائه، والحكم قبل التعيين على ما يذكر في المطلقة المبهمة.

وهذا الذي ذكره في غاية الضعف؛ فإن الشهادة في النكاح شرط، ومع الإبهام لا تُتصور، ولأن الرجعة أسهل من ابتداء النكاح، وهي لا تقبل الإبهام على الأصح؛ فالنكاح أولى، والخلاف الذي في تفريق الصفقة مفروض فيما إذا تميز ما يجوز العقد عليه من غيره، وهنا بخلافه.

وإن نكحهن على الترتيب بطل نكاح الزائدات على الأربع الأوليات. ولو نكح واحدة في عقد، واثنتين في عقد، وثلاثاً في عقد- قال ابن الحداد: يصح نكاح الواحدة، ويبطل [نكاح] الباقيات. وقال الشيخ أبو علي [في "الشرح"]: ما ذكره ابن الحداد غلط عند عامة الأصحاب؛ بل يصح مع نكاح الواحدة نكاح الاثنتين أو الثلاث، لكن لا يعرف الصحيح [منهما]؛ فيوقف الأمر ويسأل

ص: 136

الزوج: فإن ادعى سبق الاثنتين وصدَّقَتاه، ثبت نكاحهما مع الواحدة، وإن ادعى سبق الثلاث وصدقْنَهُ، فكذلك، ولو قال الزوج: لا أدري- ولم يبين- فلهن طلب الفسخ، وإن رضين بالصبر لم ينفسخ، وعلى الزوج نفقة جميعهن في مدة التوقف.

وقال مجلي: هذه المسألة تنبني على المسألة قبلها:

فإن قلنا في المسألة الأولى: يبطل نكاح الخامسة دون الأربع، فلا نستيقن في هذه الصورة أيضاً نكاح الواحدة؛ لاحتمال سبق نكاح الخمس قبلها؛ فيبطل في واحدة منهن، ويصح نكاح الأربع.

وإن قلنا: لا يصح في الخمس، فقد تحقق صحة نكاح المفردة.

ولو نكح خمساً في عقد، وفيهن أختان بطل نكاحهما، وفي [نكاح] الثلاث قولاً تفريقِ الصفقة. وإذا أبان الأربع جاز له أن ينكح بدلهن إن كن في العدة، وكذلك الواحدة، أما إذا كان [الطلاق] رجعيّاً لم يَجزْ حتى تنقضي عدة الرجعية، فلو ادعى انقضاء عدتها، وأنكرت [هي] فعلى ما تقدم في نكاح الأخت على الأخت.

قال: وله أن يطأ بملك اليمين ما شاء؛ لأن الله تعالى أطلق فقال: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] ولم يحصره في عدد، ويفارق الزوجات؛ لأن مقصود النكاح الاستمتاع والألفة والمؤانسة، بدليل أنها لو وجدته مجبوباً أو مجنوناً ثبت لها الخيار. وإذا بات عند واحدة من الزوجات ليلة وجب قضاؤها للبواقي، والزيادة على أربع زوجات تفوِّت الألفة والمؤانسة المقصودة؛ فلذلك منع منها، وجوز له الشرع [نكاح] الأربع؛ لأنه إذا بات عند واحدة ليلة غاب عنها ثلاث ليالٍ، والثلاث مدة قريبة.

قال: ويحرم على العبد أن يجمع بين أكثر من امرأتين؛ لما روى أنه- صلى الله عليه وسلم-

ص: 137

قال: "لَا يَتَزَوَّجِ الْعَبْدُ فَوْقَ اثْنَتَيْنِ"، رواه عبد الحق، ولما روى الحكم بن عتيبة قال: أجمع أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم[على] ألا ينكح العبد أكثر من امرأتين.

وأما الآية [فإنها] تدل على إرادة الأحرار، وأيد ذلك قوله تعالى:{أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3]، وقوله تعالى:{فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} [النساء: 4] وكل ذلك يليق بالأحرار.

فإن قيل: [هذا طريقه] الشهوة واللذة؛ فيجب أن يستوي فيه الحر والعبد كالمأكول.

قيل: المأكول لم يبن على التفضيل؛ فاستوى فيه الحر والعبد، والنكاح مبني على التفضيل؛ ولهذا فارق النبي صلى الله عليه وسلم أُمَّتَه؛ فأشبه الطلاق.

فرع: هل [يجوز] له أن يطأ بملك اليمين إذا ملَّكه السيد جارية، وقلنا: إنه يملكها؟ الذي حكاه ابن الصباغ في كتاب البيع: أنه يجوز، وحكى [في كتاب النكاح: جوازه بإذن السيد؛ لأنه وإن كان العبد قد ملكها، فقد تعلق بها حق السيد، ولأن له أن ينتزعها من يده لا بفسخ عقد، وحكى] الإمام ثَمَّ: أنه إن أذن له السيد في التسرِّي [فالذي ذهب إليه الجمهور أنه يجوز، وذهب الأستاذ أبو إسحاق إلى أنه لا يتسرى]، أما إذا لم يأذن له في التسري فلا يتسري، وفيه وجه [ضعيف]: أنه يجوز.

ص: 138

ثم إذا وطئها فأتت بولد، فالولد ملك له، ولا يعتق عليه؛ لضعف ملكه، فإن عتق عتق الولد.

وهذا في الرقيق كله، أما من بعضه حر وبعضه رقيق إذا اشترى بما يملكه ببعضه الحر جاريةً، فهل له أن يطأها؟

[قال في "التتمة": ظاهر المذهب- كما نص عليه- أنه لا يجوز؛ فإنه قال: ولا يشتري العبد، ولا من لم تكمل فيه الحرية.

وفيه قول آخر: أنه يباح له أن يطأ؛ وذلك مبني على أصلٍ، وهو أنه إذا مات: هل يورث عنه ما ملكه أم لا؟

إن قلنا: لا ينصرف إلى سيده، أو بعضه لسيده وبعضه لورثته- فقد علقنا حقَّ السيد بماله، وذلك علامة نقصان ملكه؛ فلا يباح له الوطء.

وإن قلنا: يصرف ماله إلى ورثته أو إلى بيت المال- فلا نجعل للسيد في ماله حقّاً، فيباح له الوطء.

إلا أن من أصحابنا من قال: لابد من إذن السيد.

قلت: وكذلك قال غيره]: [إنه ينظر: فإن] لم يأذن له مالك بعضِهِ الرقيقِ- لم يجز؛ لأن الوطء يقع بجميع بدنه، ولا يختص ببعض الحر، وقال ابن الصباغ: إلا أنه لا حاجة إلى إذن السيد، كما أنه يأكل كسبه ويتصرف فيه، فإن أذن السيد وفرعنا على أنه لابد من إذنه: فعلى القديم يجوز، وعلى الجديد لا يجوز؛ لأن ما فيه من الملك يمنع [من] التسري، والمكاتب لا يتسري بغير إذن السيد، وبإذنه قولان؛ بناءً على الخلاف في تبرعاته، حكاه الرافعي في آخر الفصل الخامس من الفصول بعد النكاح.

قال: ولا يصح نكاح الشغار، وهو أن يزوج الرجل وليته من رجل على أن يزوجه ذلك وليته، ويكون بضع كل واحدة منهما صداقاً للأخرى، أي: وقَبِلَ الآخر، أو قال مثله.

الشِّغار- بكسر الشين- مأخوذ من قولهم: شَغَرَ البلدُ عن السلطان؛ إذا خلا؛

ص: 139

فسمى هذا النكاح به؛ لخلوه عن المهر؛ أو لخلوه عن بعض الشرائط.

وقيل: من قولهم: شغر الكلب برِجْله، إذا رفعها ليبول، وسمي هذا النكاح به؛ لأنه رفع عن المهر، أو لأن كل واحد منهما رفع رجله للآخر عما أراد.

وفي بعض الشروح: أن الكلب إذا كان يبول حيث يصلُ من غير مبالاة، قيل: شغر الكلب برجله؛ فسمى هذا شغاراً؛ لعدم المبالاة فيه بالمهر، وقيل: سمي شغاراً لقبحه؛ تشبيهاً له برفع الكلب رجله.

والأصل فيه ما روى عن ابن عمر- رضي الله عنهما أن النبي- صلى الله عليه وسلم نهى عن الشغار، وفسره بأن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته، وليس بينهما صداق.

ويروي: "وَبُضْعُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا صَدَاقُ الْأُخْرَى"، ويروى عن [ابن] أبي هريرة مثل الأول، وأنه ذكر التفصيل موصولاً بالحديث.

قال الأئمة: وهذا التفسير يجوز أن يكون مرفوعاً، ويجوز أن يكون من تفسير الراوي، وهو أعلم بتفسير الخبر من غيره.

وذكر في [طريق] المعنى أن قوله: زوجتك ابنتي، يقتضي تمليك الزوج بُضعها، فإذا قال: وبضع كل واحدة [منهما] صداق الأخرى، تضمن تمليك المرأة بضعها، وليس يملك تمليكها إلا بعد الاسترجاع من الأول؛ فكأنه رجع عما أوجب قبل القبول، وهو يملك ذلك؛ فبطل العقد، ولأن فيه تشريكاً في البضع، لأن كل واحد منهما جعل بضع مُوَلِّيَتَهُ مَوْرِداً للنكاح، وصداقاً للأخرى؛ فأشبه ما لو زوج امرأة من رجلين.

ص: 140

وربما شبه ذلك بما إذا نكحت الحرة عبداً؛ على أن تكون رقبته صداقها؛ فإنه لا يصح النكاح، وكما لا يجوز أن يكون الرجل ناكحاً وصداقاً، لا يجوز أن تكون المرأة منكوحة وصداقاً.

وقد يعترض على ذلك، فيقال: المفسد هو التشريك من جهة واحدة، إذا زوجها من رجلين، وهذا التشريك بجهتين مختلفتين؛ فيشبه أن يلتحق بما إذا زوج أمته ثم باعها، أو أصدقها امرأة. وأما المسألة الأخرى، فسبب البطلان فيها: ملكُ الزوجةِ الزوجَ، وهذا المعنى لو عَرَضَ رُفع النكاح؛ فإذا قارن ابتداءه منع الانعقاد.

وقال القفال: إن سبب البطلان التعليق والتوقيف؛ فلا يبطل ما لم يضم إليه: ومهما انعقد نكاح [ابنتي، فقد انعقد لي نكاح] ابنتك؛ إذ هو المراد من الشغار، مأخوذ من قولهم: شغر الكلب رجله، أي: لا ترفع رجل ابنتي حتى أرفع رجل ابنتك، وكان ذلك [من] عادة العرب؛ لأَنَفَتها من التزويج.

هكذا حكاه ابن يونس عنه، وفي كلام الغزالي في "الوسيط"[ما يدل] عليه، ثم قال: لو اقتصر على شرط التزويج في العقد وعلى إصداق البضع صح العقد؛ لأن عقد النكاح لا يفسد بالشرائط الفاسدة، وما ذكره القفال أقيس، وما ذكره الجمهور إلى الخبر أقرب، وظاهر كلام الرافعي أن القفال استنبط ذلك من قوله: على أن تزوجني ابنتك؛ إذ من عادة العرب ذلك؛ لأجل أنفتها، وإلا فتفسير الشغار في الخبر ليس فيه تعليق.

وقال في "التتمة": إِنْ قَصَدَ بذلك تعليق الانعقاد بالانعقاد، ووجد ما يدل صريحاً أو كناية- فالعقد باطل، وإن قصد به المواصلة، أو قصد [به] إخلاء النكاح من الصداق؛ حتى لا يُلْزَم بَذْلَ مَالٍ- فالنكاح صحيح، ولكل واحدة مهر المثل، فلو قال: زوجتك ابنتي على أن تزوجني [ابنتك]، وقَبِلَ الآخر، ولم يجعل البضع صداقاً- فأصح الوجهين: الصحة؛ إذ لم يوجد تفسير الشغار في

ص: 141

الخبر، ولم يتحقق التشريك؛ فعلى هذا: لكل واحدة مهر المثل.

قال في "التتمة": وقال القفال: إن قصد تعليق العقد بالعقد لا يصح، وإن لم يقصد ذلك صح.

وخصص الإمام الوجهين الأولين بما إذا كانت الصيغة هذه، ولم يذكر مهراً. وقطع بالصحة فيما إذا قال: زوجتك ابنتي بألف على أن تزوجني ابنتك، وقال: ليس الفرق لذكر المهر، لكنه جاء في بعض الروايات أنه- عليه السلام نهى عن نكاح الشغار، وهو أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه صاحبه ابنته؛ ففسر بهذا القدر من غير مزيد.

قال الرافعي: ولك أن تقول: هذا التفسير حاصل، سواء ذكر المهر أو لم يذكره؛ إذ ليس فيه تعرض [لترك المهر، كما ليس فيه تعرض] لذكره، فلا يصلح مستنَداً للفرق.

ولو قال: زوجتك ابنتي على أن تزوجني ابنتك، وبضعُ ابنتك صداقُ ابنتي، فَقَبِلَ- صح الأول، وبطل الثاني. ولو قال: وبضع ابنتي صداق ابنتك، صح الثاني، وبطل الأول؛ نظراً لمعنى التشريك. ولو قال: زوجتك ابنتي بألف على أن تزوجني ابنتك بألف، وبضع كل واحدة منهما صداق للأخرى وألف درهم- فوجهان:

[أحدهما]- وهو ظاهر [لفظ]"المختصر"-: أنه صحيح؛ لأنه ليس على تفسير لفظ "الشغار".

وأصحهما: البطلان؛ لقيام معنى التشريك والتوقيف، ويحكى هذا عن نصه في "الإملاء".

ولو قال: زوجتك جاريتي على أن تزوجني ابنتك، وتكون رقبة جاريتي صداقاً لابنتك- قال في "الشامل": صح النكاحان؛ لأنه لا تشريك فيما يَرِدُ عليه عقد النكاح، ويفسد الصداق، ولكل واحدة مهر مثلها.

ص: 142

وقال في "التتمة": تملك البنت رقبة الجارية عن صداقها، ويجب على الأب مهر الجارية لسيد الجارية؛ لأنه هو العاقد عليها في حال قيام الملك في الرقبة. وفرّع [على] ذلك فقال: لو قال: تزوجت ابنتك على رقبة جاريتي، وزوَّجتك جاريتي، فقال في الجواب: زوجتك بنتي وتزوجت جاريتك- فنكاح الجارية لا يصح؛ لأن الملك في الجارية بالتزويج انتقل إلى البنت؛ فلا يجوز أن يقبل نكاح الجارية؛ لأن الإيجاب بطل فيها بنقل الملك، قال الرافعي: ويجيء على معنى التعليق والتوقيف أن يحكم ببطلان النكاحين.

ولو طلق امرأته على أن يزوجه صاحبه ابنته، ويكون بضع امرأته صداقاً لها، وزوجه صاحبه على ذلك- حكى ابن كج فيه وجهين:

أحدهما: يفسد النكاح؛ لخلوه عن الصداق.

والثاني: أنه يقتصر الفساد على الصداق.

ولو قال: زوجتك ابنتي على أن [يكون] بضعك صداقها- يعني: بضع الزوج- قال [في "التتمة"]: من أصحابنا من قال: يصح النكاح؛ لأنه ليس فيه تشريك ولا رجوع عما أوجب للزوج قبل قبوله، ومنهم من قال: العقد باطل؛ لأنه يتضمن حجراً عليه في الاستمتاع لو ملكته؛ إذ لا يجوز الانتفاع بملك الغير إلا بإذنه.

قال: ولا يصح نكاح العبد- أي: لحرة- على أن تكون رقبته صداقاً للمرأة؛ لأنه لا طريق لإبطال التسمية وحدها؛ لأن السيد من أهل التمليك، والرقبة قابلة لنقل الملك، وهي من أهل التمليك، وسبب التمليك قد صح؛ فلا وجه لبطلان الملك، ولو صححنا التسمية لصارت مالكة لزوجها، وملك رقبة الزوج في الدوام يقطع النكاح؛ فملك الابتداء أولى.

وقال في "النهاية" في فصل الضيافة في ضمن فرع: وكنت أود لو ذهب ذاهب

ص: 143

إلى صحة النكاح وفساد الصداق، ثم إن كان فالرجوع إلى مهر المثل أو إلى القيمة، [ولكن] لم يَصِرْ إلى هذا صائر، والتعويل في المذهب على النقل.

وقال في "التتمة]: وعن بعض أصحابنا بالعراق- وهو ما ذكره ابن الصباغ بدليل الشغار-: أنه يصح النكاح، ويفسد الصداق، ويجب مهر المثل كما لو أصدقها خمراً، أما إذا كانت الزوجة امة فالنكاح والصداق صحيحان؛ إذ لا تضادَّ.

[وقول] الشيخ: "للمرأة"، يخرج ذلك؛ إذ الصداق في هذه الصورة للسيد.

قال: ولا نكاح المتعة، وهو أن يتزوجها إلى مدة، أي: سواء كانت المدة معلومة بأن ينكحها إلى شهر، أو مجهولة بأن ينكحها إلى قدوم زيد، وإذا انقضت المدة بانت منه، وسمي بذلك؛ لانتفاعها بما يعطيها وانتفاعه بها بقضاء شهوته [دون قصد التوالد وسائر أغراض النكاح]، وكل ما انتفع به فهو متاع ومتعة.

وقد كان هذا العقد جائزاً في ابتداء [الإسلام] ثم نسخ، وروى عن ابن عباس جوازه، وتابعه السبعةُ وابن جريج، وقيل: إن ابن عباس رجع عنه، ودليلنا قوله تعالى:{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ* إِلَاّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 5، 6]، وهذه خارجة عن القسمين؛ فوجب حفظ الفرج [عنها]، وما روى الربيع بن سبرة الجهني عن أبيه أنه- عليه السلام قام بين الركن والباب في حجة الوداع، فقال في كلام: "كُنْتُ [قَدْ] أَذِنْتُ [لَكُمْ] فِي الاسْتِمْتَاعِ مِنْ هَذِهِ النِّسْوةِ، أَلَا وَإِنَّ اللهَ [قَدْ] حَرَّمَ ذَلِكّ إِلَى يَوْم الْقِيَامَةِ؛ فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهُنَّ شَيْءٌ فَلْيُخَلِّ سَبِيلَهَا، وَلَا تَاخُذُوا مِمَّا آتيْتُمُوهُنَّ

ص: 144

شَيْئاً" رواه البخاري ومسلم، قاله في "التتمة". وقد روي عن علي- كرم الله وجهه- أن النبي- صلى الله عليه وسلم: "نَهَى عَامَ خَيْبَرَ عَنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ".

وإذا وطئ في نكاح المتعة جاهلاً بفساده فلا حد، وإن كان عالماً انبنى على أنه لو اختلف أهل عصر في مسألة، ثم اتفق من بعدهم على أحد القولين فيها- هل يصير ذلك مجمعاً عليه؟ وفيه خلاف في الأصول: إن قلنا: نعم، وجب، وإلا فلا يجب على الأصح، كما في سائر الأنكحة المختلَفِ فيها، وحيث لا يجب الحد يجب المهر والعدة، ويثبت النسب.

فرع: لو قال: نكحتها متعة، ولم يزد على هذا- حكى الحناطي [في صحته] وجهين.

قال: ولا نكاح المحلِّل، وهو أن ينكحها ليُحِلَّها للزوج الأول، أي: مع شرط ذلك في العقد، وكذا لو شرط أنه إذا وطئها فلا نكاح بينهما؛ لقوله- صلى الله عليه وسلم:"لَعَنَ اللهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ"، وروي أنه قال:"هُوَ التَّيْسُ الْمُسْتَعَارُ"، ولا يقول هذا لمن

ص: 145

صح نكاحه، ولأنه نكاحٌ شُرِطَ قَطْعُهُ دون غايته، فبطل كنكاح المتعة.

وإن وجد الشرط قبل العقد، فالأصح الصحة.

ومأخذ الخلاف في مهر السر والعلانية، وسنذكره إن شاء الله تعالى.

فإن عقد لذلك، ولم يشترط في العقد، ولا قبله- كره ولم يفسد العقد.

فائدة: تشبيه المحلل بالتيس المستعار دون غيره من الحيوانات؛ لأن التيس فيه منفعة سوى منفعة الإنزاء، بخلاف غيره.

قال: وإن تزوجها على أنه إذا حللها طلقها، ففيه قولان:

أحدهما: أنه يبطل؛ لأنه شَرْطٌ يمنع صحة دوام النكاح؛ فأشبه التأقيت، وهذا

ص: 146

هو الأصح في "الرافعي"، وظاهرُ المذهب في "النهاية"، والجديد في "التهذيب"، وقال في "التتمة" و"الشامل" و"الذخائر": إنه القديم، ومقابله هو المنصوص عليه في عامة كتبه.

قال: والثاني: لا يبطل؛ لأنه شرط فاسد قارن العقد؛ فلا يبطل به، كما لو نكحها بشرط ألا يتزوج عليها أو لا يسافر بها، وعلى الأول [هل] يحصل به التحليل؟ فيه قولان، وموضع استقصاء ذلك باب الرجعة.

قال: وإن تزوج بشرط الخيار، أي: في النكاح- فالعقد باطل؛ لأنه عقد معاوضة لا يثبت فيه خيار الشرط فيفسد بشرطه كالصرف، وإنما قلنا: إنه لا يثبت فيه الخيار؛ لأن الأصل في عقود المعاملات اللزوم، وإنما جوز في البيع؛ رخصة للحديث المشهور؛ لأنه يقع في الغالب بغتةً؛ فاحتيج فيه لإثبات الخيار حتى ينظر هل يصلح له أم لا؟ فيدفع عن نفسه الغَبِينة، والغالب في الأنكحة أنها تقع بعد تَرَوٍّ وتأمل؛ فاستغنى عن اشتراط الخيار فيها، وقد صرح الإمام بهذه العلة قبل باب: الأمة تعتق بورقتين.

أما إذا شرط الخيار في الصداق دون النكاح فهل يصحان ويثبت في الصداقِ الخيارُ، أو لا يصحان، أو يصح النكاح دون الصداق؟ فيه خلاف، والأصح الأخير، ووجهه: أن الصداق لا يتمحض عوضاً، بل فيه معنى النِّحْلة؛ فلا يليق به الخيار، والمرأة لم تَرْضَ بالمسمى إلا بشرط الخيار؛ فبطل الصداق، والنكاح لا يفسد بعدم الصداق؛ فبشرطٍ فاسد [فيه] أولى، وإذا قلنا بثبوت الخيار فهل يثبت فيه خيار المجلس؟ فيه وجهان نقلهما الشيخ أبو الفرج.

قال: وإن تزوج وشرط عليه ألا يطأها، بطل العقد، هذا نصه، وكذلك لو شرط ألا يطأها في السنة إلا مرة، أو على ألا يطأها بالنهار؛ لأنه شرط يخل بمقصود العقد؛ فأبطله؛ كما لو باع بشرط ألا يسلم المبيع.

وفيه قول آخر منصوص عليه: أنه لا يبطل، ويلغو الشرط؛ لقوله- صلى الله عليه وسلم:

ص: 147

"الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ، إِلَّا شَرْطاً أَحَلَّ حَرَاماً، أَوْ حَرَّمَ حَلَالاً"، وكما إذا شرط ألا يتزوج عليها، [أو لا] يسافر بها.

وقال الربيع: إن النصين محمولان على حالين: فحيث قال: يبطل، أراد: ما إذا شرطت الزوجة ألا يطأها، وحيث قال: يصح، أراد: ما إذا شرط الزوج ألا يطأها، والفرق: أن الوطء حق له فله تركه، والتمكين حق عليها فليس لها تركه، وصار هذا كما لو كان على فقير دَيْنٌ، فقال الفقير لرب المال: ادفع لي من الزكاة ديناراً لأؤدي دينك منه، فدفع إليه- أجزأه عن الزكاة، والفقير مخير في الأداء منه ومن غيره، ولو قال رب الدين: خذ هذا الدينار من الزكاة؛ بشرط أن ترد على من دَيْني- لا يجزئ عن الزكاة، وهو ما جزم به في "الشامل" و"المهذب"، وصححه الرافعي، وهو معنى قول الشيخ من بعدُ:"وقيل: إن شرط ترك الوطء أهلُ الزوجة بطل العقد"، وعدول الشيخ عن "الزوجة" إلى "أهل الزوجة"- ومراده: الولي- لأن الشرط إنما يؤثِّر في حالة العقد من العاقد كما تقدم، والعاقد هو الولي.

قال الرافعي: ولك أن تقول: إذا شرط أحد المتعاقدين شرطاً، فإن لم يساعده صاحبه لم يتم العقد، وإن ساعده فالزوج بالمساعدة تارك لحقه، فهلا كانت مساعدته كاشتراطه؟! وهي بالمساعدة مانعة حقه، فهلا كانت مساعدتها كاشتراطها؟!

ولو تزوج امرأة على ألا تحل له، ففي "النهاية": أنه يجب أن يلتحق ذلك بالخلاف في شرط الامتناع عن الوطء. وقال في "الوسيط": ينبغي أن يفسد؛ لما فيه من التناقض.

قال: وإن تزوج على ألا ينفق عليها، أو: لا يبيت عندها، أو: لا يقسم لها، أو: لا يتسَّرى عليها [أو: لا يسافر بها، وكذا لو شرط: ألا يتزوج عليها، أو: لا يطلقها، أو: تخرج متى شاءت]، أو: يطلق ضرائرها- بطل الشرط؛ لقوله- صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ"، وللحديث السابق.

ص: 148

قال: والمسمى؛ لبطلان ما شرطه مما يقتضي زيادة في المهر، أو ما شرط لها مما يقتضي تنقيصاً في المهر، وبطلان ذلك يقتضي سقوط ما يقابله، وهو مجهول، والمجهول إذا سقط من المعلوم صَيَّر الباقي مجهولاً، وفيه وجه: أن الشرط لا يؤثر فيه كما لا يؤثر في النكاح.

قال: وصح العقد؛ لأنه لا يمنع مقصود النكاح وهو الوطء، والنكاح لا يفسد بفساد العوض؛ فأولى ألا يفسد بفساد الشرط.

وحكى الجيلي قولاً أو وجهاً: أنه يبطل.

قال: ووجب مهر المثل؛ لفساد الصداق، ولا فرق بين أن يزيد على ما شرط في العقد أو ينقص، أو لا يزيد ولا ينقص.

وعن ابن خيران: أنه إن زاد والشرط لها فالواجب المسمى، وكذا إن نقص والشرط عليها، ومنهم من جعل ذلك قولاً مخرجاً.

وقيل: الواجب أقل الأمرين من مهر المثل أو المسمى.

واعلم أن حكم المهر في صورة شرط ترك الوطء والطلاق بعد التحليل، حكم ما ذكرناه.

قال: وقيل: إن شرط ترك الوطء أهلُ الزوجة بطل العقد، [وقد] مضى تقريره.

قال ابن يونس: وذِكْر هذا القول هنا سهو من الناسخ.

ولو نكحها على ألا [يرث منها، أو: على ألا] يتوارثا، أو: على [أن]

ص: 149

النفقة على غير الزوج- بطل العقد.

وقيل: يصح، ويبطل الشرط.

ولو زوج أمته من عبد غيره، بشرط أن يكون الأولاد بين السَّيِّدَيْنِ، يصح النكاح، ويبطل الشرط، ذكره في "الإملاء"، وقيل: يبطل النكاح.

قال: وإذا طلقت المرأة ثلاثاً، أو توفي عنها زوجها، فاعتدت منه- حرم التصريح بخِطْبتها- أي: في العدة- للإجماع، على ما نقله ابن عطية في تفسيره، ولمفهوم الآية. ولا يحرم التعريض؛ لقوله تعالى:{وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [البقرة: 235]، ولما روى أن فاطمة بنت قيس طلقها زوجها وبَتَّ طلاقها، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم:"إِذَا حَلَلْتِ، فَآذِنِينِي".

وفُرِّق بين التصريح والتعريض بأنه إذا صرح بخِطبتها تحققت رغبته فيها؛ فربما تكذب في انقضاء العدة؛ لغلبة شهوةٍ أو غيرها، وإذا عرّض لم تتحقق الرغبة.

وحكى الخراسانيون قولاً: أن المطلقة ثلاثاً لا يجوز التعريض بخطبتها، وفي بعض الشروح حكاية وجه: أن المتوفى عنها زوجها، إن كانت تعتد بالحمل لم تخطب؛ خوفاً من أن تتكلف إلقاء ولدها.

وحكم المفارقة باللعان والرضاع حكم المطلقة ثلاثاً، وحكم زوجة العبد بعد الطلقتين كحكم زوجة الحر بعد الثلاث.

ولا فرق على المشهور بين أن تكون معتدة بالأقراء أو الشهور، وقيل بتخصيص الخلاف بذوات الأشهر، وبالقطع بالمنع في ذوات الأقراء؛ لأنها قد تكذب في انقضاء العدة.

ص: 150

والتصريح في الخطبة- بكسر الخاء-: كل نص صريح في تزويجها كقوله: أريد أن أنكحك، و: إذا انقضت عدتك نكحتك.

والتعريض ما يحتمل الرغبة في النكاح وغيره كقوله: ربّ راغب فيك أو في نكاحك- كما حكاه ابن الصباغ- و: أنت جميلة، و: إذا حللت فآذنيني، وما أشبه ذلك.

قال: "وإن خالعها زوجها فاعتدت منه لم يحرم على زوجها التصريح بخطبتها"؛ لانتفاء التهمة في حقه؛ إذ له نكاحها في العدة. ويحرم على غيره، أي: التصريح؛ لأنه إذا حرم في عدة الوفاة رعايةً لحقه، فَلَأَنْ يحرم [عليه] لحق الحي أولى.

قال: وفي التعريض قولان:

أحدهما: يحرم؛ لأنها مستوحشة بالطلاق، وربما كذبت في انقضاء العدة؛ مسارعةً إلى مكافأة الزوج، ولأن لصاحب العدة أن يستنكحها؛ فأشبهت الرجعيّة.

والثاني- وهو نصه في "البويطي"، والأصح-: أنه لا يحرم؛ لانقطاع سلطنة الزوج عنها، فأشبهت المطلقة ثلاثاً.

والمفسوخ نكاحُها كالمختلعة، وقيل: إن فسخ الزوج فعلى الخلاف، وإن فسخت هي لم يجز التعريض بخطبتها قولاً واحداً، وهذا ما أجاب به في "التتمة".

[والموطوءة بالشبهة كالمختلعة، وقيل: كالمتوفى عنها، وهو الأصح في "التهذيب"]، والجواب من جهة المرأة-[تصريحاً أو تعريضاً]- حكمه حكم الخطبة.

واعلم أن قول الشيخ: "وإن خالعها زوجها فاعتدت منه"، لفظة "فاعتدت [منه] " يحترز بها عمَّا إذا جرى الخلع قبل الدخول؛ فإن التصريح بخطبتها لغيره جائز كما بعد انقضاء العدة، وذكر هذه اللفظة في المسألة الأولى يشمل المتوفى عنها زوجها والمطلقة ثلاثاً، ولا فائدة [لها] في المتوفى عنها؛ إذ لا نقل عن العدة.

ص: 151

قال: "ويحرم على الرجل أن يخطُب على خِطبة أخيه [إذا صرّح له؛ بالإجابة" أي: ولم يأذن الخاطب ولم يترك]؛ لما روى عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَا يَخْطُبْ أَحَدُكُمْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ"، وروى:"حَتَّى يَتْرُكَ الْخَاطِبُ قَبْلَهُ، أَوْ يَاذَنَ لَهُ الْخَاطِبُ"، ولأن فيه إفساداً لما تقرر بينهما؛ فيورث [ذلك] إيغار الصدور؛ فحرم، كما في البيع على بيع أخيه.

والمعتبر إجابة الولي إن كانت مجبرة دون إجابتها.

قلت: ويمكن أن تكون إجابتها معتبرة إذا قلنا: إن من عينته من الأكفاء أولى ممن عينه الولي.

وإجابة المرأة إن لم تكن مجبرة دون الولي، وفي المجنونة إجابة السلطان، وفي الأمة إجابة السيد.

والتصريح أن تقول: أجبتك إلى ذلك، أو تأذن لوليها في التزويج منه إن كان إذنها معتبراً.

قال: "فإن خالف وتزوج صحّ العقد"؛ لأن المنع من ذلك لمعنى في غير العقد؛ فلا يمنع صحته، كما لو عقد في وقت تضيَّقت [عليه] فيه الصلاة.

قال: "وإن عرَّض له بالإجابة" أي: مثل أن يقول: ما أنت إلا رِضاً؛ وما بك من عيب، و: لا رغبة عنك- ففيه قولان:

أصحهما: أنه لا يحرم خطبتها؛ لما روى أن فاطمة بنت قيس [لما] انقضت عدتها قالت: يا رسول الله، خطبني معاوية وأبو جهم؟ فقال:"أَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لا مَالَ لَهُ، وَأَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَلا يَضَعُ العَصَا عَنْ عَاتِقِهِ، انْكِحِي أُسَامَةَ"، والظاهر من كلامها: أنها كانت ركنت إلى نكاح أحدهما؛ ولهذا ذكرتهما، ولأنه

ص: 152

ليس فيه [إبطال شيء] تقرر بينهما؛ فأشبه ما لو سكتت.

ومعاوية المذكور في الحديث: ابن أبي سفيان على المشهور، وقيل: بل غيره.

وقوله: "لا يَضَعُ العَصَا عَنْ عَاتِقِهِ"، قيل: كني به عن كثرة الضرب وسوء الخلق، وقيل: عن كثرة السفر، وقيل: عن كثرة الجماع، وهو بعيدٌ.

والقول الثاني-[وهو القديم]-: أنها تحرم؛ لإطلاق خبر ابن عمر.

ولو قالت: حتى أتدبر في نفسي أو أراجع غيري، فعلى وجهين [محكيين] في "التتمة".

ولا يمنع السكوت الخطبة عند العراقيين، وطرد الخراسانيون فيه القولين.

وقال الرافعي: ويمكن [ألا يجعل] هذا اختلافاً، ويحمل الأول على سكوت لم يقترن به ما يشعر بالرضا.

واعلم أن السابق إلى الفهم من إطلاق الأكثرين: أن سكوت الولي عن الجواب، على الجواب الذي مرّ، وذكر بعضهم أن سكوت الولي لا يمنع الخطبة قطعاً؛ كما أن السكوت لا يمنع السَّوْمَ على السوم، بخلاف سكوت المرأة؛ لأنها مجبولة على الحياء، فلولا الرضا عند السكوت لبادرت إلى الرد.

وعن الداركي: أن الخلاف في سكوت البكر، [وأمَّا] الثيب فإن سكوتها لا يمنع الخطبة بحالٍ.

ولاشك أنه لو وجد الرد ممن له الإجابة لم تحرم الخطبة.

ولا فرق في جميع ما ذكرناه بين أن تكون المخطوبة ذميّة، [أو الخاطبان] مسلمين، أو مسلماً وذمياً.

وعن أبي عبيد بن حربويه: أن المنع مخصوص بما إذا كان الخاطب الأول مسلماً، أما الذمي فتجوز الخطبة على خِطْبته.

فرع: يجوز الهجوم على الخِطْبة للذي لم يّدْرِ أنها خُطِبَتْ أم لا، ولمن لم

ص: 153

يَدْرِ أن الخاطب أُجيب أم لا.

آخر: يجوز الصِّدْقُ في ذكر مَساوي الخاطب؛ ليُحذَرَ؛ لخبر فاطمة بنت قيس، وليس هذا من الغِيبة المحرَّمة، وإنما الغِيبة المحرمة: التفكُّه بذكر مَثَالِمَ لناسٍ، وإضحاك الناس بها، وهتك أسرارهم بين يدي أعدائهم؛ تقرُّباً إليهم، والله- عز وجل أعلم.

***

ص: 154