الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تمهيد: إنزال الناس منازلهم:
الداعية الحكيم هو الذي يدرس الواقع، وأحوال الناس، ومعتقداتهم، وينزل الناس منازلهم، ثم يدعوهم على قدر عقولهم وأفهامهم وطبائعهم وأخلاقهم ومستواهم العلمي والاجتماعي، والوسائل التي يؤتون من جهتها، ولهذا قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:((حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب اللَّه ورسوله)) (1).
وذُكر عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ((أمرنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن نُنزل الناس منازلهم)) (2).
وقال عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه: ((ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة)) (3).
وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك للدعاة إلى اللَّه عز وجل فقال لمعاذ بن جبل حينما بعثه إلى اليمن - داعياً ومعلماً وقاضياً -: ((إنك تأتي قوماً أهل كتاب
…
)) الحديث (4).
(1) البخاري مع الفتح، كتاب العلم، باب من خص بالعلم قوماً دون قوم كراهية أن لا يفهموا، 1/ 225، (رقم 127).
(2)
مسلم، في المقدمة، مع شرح النووي، 1/ 55، وسنن أبي داود مع العون، 13/ 191.
(3)
مسلم، المقدمة، باب النهي عن الحديث بكل ما سمع، 1/ 11.
(4)
البخاري مع الفتح، باب الزكاة، باب: لا تؤخذ كرائم أموال الناس في الصدقة، 3/ 322، (رقم 1458)، واللفظ له، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله وشرائع الإسلام، 1/ 50، (رقم 19).
فبيَّن صلى الله عليه وسلم لمعاذ عقيدة القوم الذين سوف يقدم عليهم حتى يعرف حالهم، ويستعد لهم، ويقدم لهم ما يناسبهم، وما يصلح أحوالهم.
وقال صلى الله عليه وسلم لعائشة ’: ((يا عائشة، لولا قومك حديثٌ عهدهم بكفر لنقضت الكعبة وجعلت لها بابين: باب يدخل الناس، وباب يخرجون)) (1).
فترك صلى الله عليه وسلم هذه المصلحة؛ لأمن الوقوع في المفاسد (2).
فدراسة البيئة والمكان الذي تبلغ فيه الدعوة أمر مهمٌّ جداً، فإن الداعية يحتاج في دعوته إلى معرفة أحوال المدعوين: الاعتقادية، والنفسية، والاجتماعية، والاقتصادية، ومعرفة مراكز الضلال ومواطن الانحراف معرفة جيدة، ويحتاج إلى معرفة لغتهم، ولهجتهم، وعاداتهم، والإحاطة بمشكلاتهم ونزعاتهم الخلقية، وثقافتهم، ومستواهم الجدلي، والشبه التي انتشرت في مجتمعهم، ومذاهبهم (3).
(1) البخاري مع الفتح، كتاب العلم، باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشد منه، 1/ 224، (126)، ومسلم، كتاب الحج، باب نقض الكعبة وبنائها، (رقم 1333)، (401، 402).
(2)
قال ابن حجر ‘: >يستفاد منه ترك المصلحة؛ لأمن الوقوع في المفسدة، وترك إنكار المنكر خشية الوقوع في أنكر منه<. انظر: فتح الباري 1/ 225.
(3)
انظر: شرح الإمام النووي على مسلم،1/ 76، 197،وفتح الباري،1/ 225،وكيف يدعو الداعية لعبد الله ناصح العلوان، ص 7، 37، 47، 155،وزاد الداعية إلى الله للشيخ محمد بن صالح العثيمين، ص7.
والداعية الحكيم يكون مدركاً لما حوله، مقدراً للظروف التي يدعو فيها، مراعياً لحاجات الناس ومشاعرهم، وكل أحوالهم.
والداعية إلى اللَّه – تعالى – لا ينجح في دعوته، ولا يكون موفقاً في تبليغه ولا مسدداً في قوله وفعله حتى يعرف من يدعوهم، وهل هذا المجتمع من المسلمين العُصاة، أو من المسلمين الذين انتشرت فيهم البدع والخرافات؟ هل هذا المجتمع من أهل الكتاب؟ فإذا كانوا منهم، فهل هم من اليهود أم من النصارى؟ هل هذا المجتمع من الملحدين الطبيعيين والماديين والدهريين؟ أم من الوثنيين المشركين؟
فإذا عرف الداعية هذا كله، فكيف يدعو كل فئة من هذه الفئات بالحكمة؟ وماذا يقدم معهم؟ وماذا يؤخر؟ وما القضايا التي يعطيها أهمية وأولوية قبل غيرها؟ وما الأفكار الضرورية التي يطرحها ويبدأ بها؟
وهكذا، فالداعية الحكيم كالطبيب الحكيم الذي يشخص المرض، ويعرف الداء ويحدده، ثم يعطي الدواء المناسب على حسب حال المريض ومرضه، مراعياً في ذلك: قوة المريض وضعفه، وتحمله للعلاج، وقد يحتاج المريض إلى عملية جراحية فيشق بطنه، أو يقطع شيئاً من أعضائه، من أجل استئصال المرض