الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فبين هذا أن الناس إذا غفلوا عن هذه الفطرة في حال السراء فلا شك أنهم يلوذون إليها في حال الضراء، لعلمهم الفطري أن اللَّه الذي يكشف الشدائد، ولا ملجأ منه إلا إليه، فيسألونه بلسان المقال ولسان الحال، فهل هذه الأمور تحصل إلا لأن الخليقة مفطورة على الاعتراف بربوبية اللَّه ووحدانيته، وأنه النافع والضار، وملكوت كل شيء بيده، إلا من فسدت فطرته بالعقائد الفاسدة (1).
المبحث الثالث: البراهين والأدلة العقلية
إذا كان الماديون والطبيعيون والدهريون يتظاهرون بإنكار وجود اللَّه - تعالى - فإن من الحكمة في دعوة هؤلاء إلى اللَّه - تعالى - أن تُقدّم لهم البراهين والأدلة العقلية القطعية في المسالك الآتية:
المسلك الأول: التقسيم العقلي الحكيم:
يستدل على كل من أنكر وجود اللَّه - تعالى - وربوبيته بأمر لا يمكنهم إلا التسليم للحق والانقياد له، أو الخروج عن موجب العقل إلى الجنون والفطر المنحرفة، فيقال لكل من أنكر ذلك:
الأمور الممكن تقسيمها في العقل ثلاثة لا رابع لها:
1 -
إما أن تُوجد هذه المخلوقات بنفسها صُدقة من غير مُحدث ولا
(1) انظر: الرياض الناضرة، ص252، وعقيدة المسلمين للبليهي، 1/ 70، وشرح أصول الإيمان للشيخ محمد بن عثيمين، ص15.
خالق خلقَهَها، فهذا مُحالٌ ممتنع تجزم العقول ببطلانه ضرورة، ويُعلم يقيناً أن من ظن ذلك لهو إلى الجنون أقرب منه إلى العقل؛ لأن كل من له عقل يعرف أنه لا يمكن أن يوجد شيء من غير مُوجدٍ ولا مُحدثٍ، فلابد لكل حادث من مُحدث، ولا سبيل إلى إنكار ذلك، فإن وجود الشيء من غير مُوجد مُحالٌ وباطلٌ بالمشاهدة والحسّ والفطرة السليمة.
2 -
وإما أن تكون هذه المخلوقات الباهرة هي المحدثة الخالقة لنفسها، فهذا أيضاً مُحالٌ ممتنع بضرورة العقل، وكل عاقل يجزم أن الشيء لا يُحدثُ نفسه ولا يخلقه؛ لأنه قبل وجوده معدوم فكيف يكون خالقاً؟!
فإذا بطلَ هذان القسمان عقلاً وفطرةً، وبان استحالتهما، تعين القسم الثالث:
3 -
وهو أن هذه المخلوقات بأجمعها: علويها وسفليّها، وهذه الحوادث لابد لها من مُحدث ينتهي إليه الخلق والملك والتدبير، وهو اللَّه العظيم الخالق لكل شيء، المتصرف في كل شيء، المدبر للأمور كلها (1)، ولهذا ذكر اللَّه – تعالى – هذا الدليل العقلي
(1) انظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم، 1/ 66، ودرء تعارض العقل والنقل، 3/ 113، والرياض الناضرة للسعدي، ص247، وتفسير السعدي، 7/ 195، وأضواء البيان للشنقيطي، 4/ 368، وشرح أصول الإيمان لمحمد بن صالح العثيمين، ص15.
والبرهان القطعي، فقال:{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} (1)، ولذلك تأثر جبير بن مطعم بسماعها من النبي صلى الله عليه وسلم تأثراً عظيماً، قال رضي الله عنه:((سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لاّ يُوقِنُونَ * أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} (2) كاد قلبي أن يطير)) (3)، ((وذلك أول ما وقرَ الإيمانُ في قلبي)) (4).
فالمخلوق لابد له من خالق، والمصنوع لابد له من صانع، والمفعول لابد له من فاعل، وهذه قضايا بدهية جلية واضحة، يشترك في العلم بها جميع العُقلاء، وهي أعظم القضايا العقلية، فمن ارتاب فيها أو شكّ في دلالتها فقد برهن على ضلاله، واختلال عقله (5).
(1) سورة الطور، الآية:35.
(2)
سورة الطور، الآيات: 35 – 37.
(3)
البخاري مع الفتح، كتاب التفسير، سورة الطور، باب حدثنا عبد الله بن يوسف، 8/ 603، (رقم 4854).
(4)
البخاري مع الفتح، كتاب المغازي، باب حدثني خليفة، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، 7/ 323، (رقم 4023).
(5)
انظر: الرياض الناضرة لعبد الرحمن بن ناصر السعدي، ص247، ومنهاج الجدل في القرآن الكريم، للدكتور زاهر بن عواض الألمعي، ص138.