الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ربك بظلام للعبيد.
المبحث السادس: الغلو في الصالحين سبب شرك البشر
من أعظم الحكم القولية في دعوة من تعلق بغير اللَّه - تعالى -، أن يبين لهم أن الغلو في الصالحين هو سبب الشرك باللَّه - تعالى - فقد كان الناس منذ أُهبط آدم صلى الله عليه وسلم إلى الأرض على الإسلام، قال ابن عباس رحمه الله:((كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام)) (1).
وبعد ذلك تعلق الناس بالصالحين، ودب الشرك في الأرض، فبعث اللَّه نوحاً صلى الله عليه وسلم يدعو إلى عبادة اللَّه وحده، وينهى عن عبادة ما سواه (2)، وردّ عليه قومه:{وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} (3).
وهذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً، وسموها بأسمائهم، ففعلوا، ولم تُعبد حتى إذا هلك
(1) أخرجه الطبري في تفسيره، (4/ 275، رقم 4048)، والحاكم في المستدرك، كتاب التاريخ، 2/ 546 - 547، وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، وذكره ابن كثير في البداية والنهاية، 1/ 101، وعزاه إلى البخاري، وانظر: فتح الباري، 6/ 372.
(2)
انظر: البداية والنهاية لابن كثير، 1/ 106.
(3)
سورة نوح، الآية:23.
أولئك ونُسِيَ العلم عُبِدت (((1).
وهذا سببه الغلو في الصالحين، فإن الشيطان يدعو إلى الغلو في الصالحين وإلى عبادة القبور، ويُلقي في قلوب الناس أن البناء والعكوف عليها من محبة أهلها من الأنبياء والصالحين، وأن الدعاء عندها مستجاب، ثم ينقلهم من هذه المرتبة إلى الدعاء بها والإقسام على اللَّه بها، وشأن اللَّه أعظم من أن يُسأل بأحد من خلقه، فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم إلى دعاء صاحب القبر وعبادته وسؤاله الشفاعة من دون اللَّه، واتخاذ قبره وثناً تعلق عليه الستور، ويطاف به، ويستلم ويقبل، ويذبح عنده، ثم ينقلهم من ذلك إلى مرتبة رابعة: وهي دعاء الناس إلى عبادته واتخاذه عيداً، ثم ينقلهم إلى أن من نهى عن ذلك فقد تنقَّص أهل هذه الرتب العالية من الأنبياء والصالحين، وعند ذلك يغضبون (2).
ولهذا حذَّر اللَّه عباده من الغلو في الدين، والإفراط بالتعظيم بالقول أو الفعل أو الاعتقاد، ورفع المخلوق عن منزلته التي أنزله اللَّه – تعالى – كما قال تعالى:{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} (3)، ولهذا حذَّر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم
(1) البخاري مع الفتح، كتاب التفسير، سورة نوح، 8/ 667، برقم 4920.
(2)
انظر: تفسير الطبري، 29/ 62، وفتح المجيد شرح كتاب التوحيد، ص246.
(3)
سورة النساء، الآية:171.
عن الإطراء، فقال:((لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد اللَّه ورسوله)) (1)، وقال:((إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين)) (2).
وحذر صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ المساجد على القبور؛ لأن عبادة اللَّه عند قبور الصالحين وسيلة إلى عبادتهم، ولهذا لما ذكرت أم حبيبة وأم سلمة رضي الله عنهما لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كنيسة في الحبشة فيها تصاوير قال:((إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند اللَّه يوم القيامة)).
ومن حرص النبي صلى الله عليه وسلم على أمته أنه عندما نزل به الموت قال: ((لَعْنَةُ اللَّه على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)). قالت عائشة رضي الله عنها: يحذر ما صنعوا (3).
وقال قبل أن يموت بخمس: ((ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور
(1) البخاري مع الفتح، كتاب الأنبياء، باب قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ
…
}، 6/ 478، (رقم 3445)، 12/ 144، وانظر شرحه في الفتح، 12/ 149.
(2)
النسائي، كتاب مناسك الحج، باب التقاط الحصى، 5/ 268، (رقم 3055)، وابن ماجه، كتاب المناسك، باب قدر حصى الرمي، 2/ 1008، (رقم 3029)، وأحمد، 1/ 347.
(3)
البخاري مع الفتح، كتاب الصلاة، باب حدثنا أبو اليمان، 1/ 532، (رقم 435، 436)، 3/ 200، 6/ 494، 7/ 186، 8/ 140، 10/ 277، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها، 1/ 377، (رقم 531).
مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك)) (1).
وحذّر صلى الله عليه وسلم أمته عن اتخاذ قبره وثناً يعبد من دون اللَّه، ومن باب أولى غيره من الخلق، فقال:((اللَّهم لا تجعل قبري وثناً يُعبد، اشتد غضب اللَّه على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) (2).
ولعن صلى الله عليه وسلم من اتخذ المساجد على القبور؛ لينفِّر عن هذا الفعل، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال:((لعن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج)) (3).
ولم يترك صلى الله عليه وسلم باباً من أبواب الشرك التي تُوصّل إليه إلا سدّه (4)، قال صلى الله عليه وسلم:((لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها)) (5).
(1) مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور، 1/ 377، (رقم 532).
(2)
الموطأ للإمام مالك، كتاب قصر الصلاة في السفر، باب جامع الصلاة، 1/ 172، وهو عنده مرسل، ولفظ أحمد، 2/ 246: >اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعبد، ولعن الله قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد<، وأبو نعيم في الحلية، 7/ 317، وانظر: فتح المجيد، ص150.
(3)
النسائي، كتاب الجنائز، باب التغليظ في اتخاذ السرج على القبور، 4/ 94، (رقم 2041)، وأبو داود، كتاب الجنائز، باب في زيارة النساء القبور، 3/ 218، (رقم 3236)، والترمذي، كتاب الصلاة، باب كراهية أن يتخذ على القبر مسجداً، 2/ 136، (رقم 320)، وابن ماجه في الجنائز، باب النهي عن زيارة النساء للقبور، 1/ 502، (رقم 1575)، وأحمد، 1/ 229، 287، 324، 2/ 337، 3/ 442، 443، والحاكم، 1/ 374، وانظر ما نقله صاحب فتح المجيد في تصحيح الحديث عن ابن تيمية، ص276.
(4)
انظر: فتح المجيد، ص281.
(5)
مسلم، كتاب الجنائز، باب النهي عن الجلوس على القبر والصلاة عليه، 2/ 668، (رقم 972).
وقد بيّن صلى الله عليه وسلم أن القبور ليست مواضع للصلاة، وأن من صلى عليه وسلم فستبلغه صلاته، سواء كان بعيداً عن قبره أو قريباً، فلا حاجة لاتخاذ قبره عيداً:((لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا عليّ، فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم)) (1).
وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن للَّه ملائكة سياحين يبلغوني من أمتي السلام)) (2).
وإذا كان قبر النبي صلى الله عليه وسلم أفضل قبر على وجه الأرض وقد نهى عن اتخاذه عيداً، فغيره أولى بالنهي كائناً ما كان (3).
وقد كان صلى الله عليه وسلم يطهر الأرض من وسائل الشرك، فيبعث بعض أصحابه إلى هدم القباب المشرفة على القبور، وطمس الصور، فعن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب: ((ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته)) (4).
وكما سد صلى الله عليه وسلم كل باب يوصّل إلى الشرك، فقد حمى التوحيد عما يقرب منه ويخالطه من الشرك وأسبابه، فقال صلى الله عليه وسلم: ((لا تشدوا
(1) أبو داود، كتاب المناسك، باب زيارة القبور، 2/ 218، (رقم 2042) بإسناد حسن، وأحمد، 2/ 357، وانظر: صحيح سنن أبي داود، 1/ 383.
(2)
النسائي في السهو، باب السلام على النبي صلى الله عليه وسلم، 3/ 43، (رقم 1280)، وأحمد، 1/ 452، وإسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، برقم 21، ص24، وسنده صحيح.
(3)
انظر: الدرر السنية في الأجوبة النجدية لعبد الرحمن بن قاسم، 6/ 165 - 174.
(4)
مسلم، كتاب الجنائز، الأمر بتسوية القبر، 1/ 666، (رقم 969).