الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التربية الإبداعية في منظور التربية الإسلامية
إعداد:
د / خالد بن حامد الحازمي
الأستاذ المشارك بكلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة الإسلامية
ال
مقدّمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم.
أما بعد، فيعتبر الإبداع من الجوانب التربوية المهمة التي تستحق العناية، بالبحث والدراسة والتطبيق، وذلك لما يترتب على الإبداع من التطور العلمي، والتقني والمهني والثقافي والاقتصادي، وفي جميع المجالات.
ومن ناحية أخرى فإن الأمة تحتاج إلى قوة تتقوى بها على حماية معتقداتها، ونشر الحق، وتمكين أصحابها من الأخذ بزمام القيادة والمبادرة، وهذا يتطلب أن تكون الأمة قوية في اقتصادها وتجارتها وصناعتها وزراعتها وطبها وإدارتها، وهذا لا يمكن إلا بتربية الإنسان في جميع جوانبه العقدية والتعبدية والخلقية والجسمية والإبداعية.
وبالرغم من أهمية الإبداع إلا أن له خطورة إذا سار في ظل منهج منحرف، فيحرف المبدعين إلى وجهة غير صحيحة، قد تكون مدمرة للمجتمع، كالإبداع في بعض المجالات التقنية التي تمخض عنها بعض الوسائل المدمرة.
وهذا يؤكد أهمية الاهتمام بالتوجيه الإبداعي نحو الصلاح، كما يؤكد أهمية العناية بعقل الإنسان والمحافظة عليه، فكلما كان العقل مصانا من الانحراف موجهاً توجيهاً صحيحاً، ازداد قوة ونشاطاً، وإدراكاً وسلامة. وكلما انحرف
عن جادة الطريق، تاه وعدل عن الحق، وسخر الإنتاج الإنساني إلى ما يضره، ويضر أفراد المجتمع.
والتربية الإسلامية اهتمت بجانب الإبداع، وحمَّلت الإنسان مسئولية الأعمال التي يقوم بها، كما اهتمت بجانب العقل الذي يعتبر أحد الضروريات الخمس التي حافظت عليها الشريعة الإسلامية.
ولما أن الإبداع الصحيح يعتمد على العقل السليم فلابد من تناول موضوع التربية العقلية التي تمثل فكر الإنسان وما يحمله من مفاهيم صحيحة أو مغلوطة.
وتبرز أهمية هذا الموضوع من أهمية الإبداع، وأهمية حفظ العقل وتنميته، وإبعاده عن الزيغ والضلال، لأن هناك من أفرط في هذا الجانب، وهناك من فرط في الاستفادة منه. والتربية الإسلامية لا تغالي فيه ولا تجافيه، بل ترده في مكانه الذي ينبغي أن يكون فيه.
فالبعض أفرط، فقدمه على الشرع، فحصل الزلل والخلل والضلال، والبعض زهد فيه ولم يهتم به، واعتبر الحديث فيه وعنه من منهج أهل البدع والكلام، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - عن العلوم "منها ما يُعلم إلا بالأدلة العقلية التي بينها القرآن وأرشد إليها الرسول صلى الله عليه وسلم، فينبغي أن يعرف أن أجلّ الأدلّة العقلية وأكملها وأفضلها مأخوذ عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
فإن من الناس من يذهل عن هذا، فمنهم من يقدح في الدلائل العقلية مطلقا، لأنه قد صار في ذهنه أنها هي الكلام المبتدع الذي أحدثه من أحدثه من المتكلمين، ومنهم من يعرض عن تدبر القرآن وطلب الدلائل اليقينية العقلية
منه، لأنه قد صار في ذهنه أن القرآن إنما يدل بطريق الخبر فقط، فلا بد أن يعلم بالعقل قبل ذلك ثبوت النبوة وصدق الخبر، حتى يستدل بعد ذلك بخبر من ثبت بالعقل صدقة"1. وصحيح المنقول لا يخالف صريح المعقول، فالعقل السليم لا يتعارض مع الشرع أبداً، وإنما التعارض يأتي من الزيغ والهوى، ومن الغذاء المعرفي بمناهج المتكلمين والمتفلسفين.
وأما أولو الألباب فهم الذين إذا تأملوا في ملكوت الله ازدادوا إيمانا، قال تعالى:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ} 2.
وقد خاطب القرآن أولي الألباب لتأكد ما فطر عليه الإنسان من الإيمان بالربوبية3 قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} 4.
فإذا كان من المستحيل أن يخلق الإنسان نفسه، ومن المستحيل أن يُخلق من غير خالق، فلم يبق إلا الاعتراف والركون إلى الفطرة السليمة، من أن هناك خالقاً خلق الإنسان والسموات والأرض وقدّر فيها أقواتها.
1 ابن تيمية، الفتاوى 13/137-138.
2 سورة آل عمران: آية رقم 190.
3 حيث جاء قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} .
4 سورة الطور: آية رقم 35-37.
وهذا استدلال وتوجيه ومخاطبة لعقل الإنسان، وهو ما يسمى عند الأصوليين بالسبر والتقسيم، وعندما سمع هذه السورة جُبير بن مطعم قبل إسلامه تأثر بها، وكانت دعوة مؤثرة قوية حملته على الإسراع إلى الإسلام، حيث قال:"سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} كاد قلبي أن يطير للإسلام"1.
قال الخطابي: كأنه انزعج عند سماع هذه الآية لفهمه معناها، ومعرفته بما تضمنته، ففهم الحجة فاستدركها بلطيف طبعه2.
فالاهتمام بحفظ العقل والعناية به أمر هام، وليس هناك ما يمنع من ذلك، بل العناية به آكد، لأن العقل السليم يتأثر بالنقل الصحيح، ولذلك لا بد من المحافظة عليه من المؤثرات الفاسدة.
والتربية الإبداعية هي التي تهتم بحفظ العقل من الزيغ والافتتان باللهو والهوى، كما تجنبه ما يهدم العقل من علوم فلسفية وكلامية. ومن جانب آخر تتطلع التربية الإسلامية إلى تنمية الجانب الإبداعي بما يجعل الفرد يُحسن تدبير أموره، ويبدع في مهنته ويرقى بها، حتى يكون أكثر إنتاجاً وأدق عملاً في أقصر وقت وبأقل تكلفة وجهد، وهذا يتطلب عناية بجانب الابتكار، وهو ما سوف يبينه هذا البحث من خلال عناية التربية الإسلامية بالتربية الإبداعية، وحفظ العقل.
1 البخاري 3/297- 298 برقم 4854.
2 ابن حجر، فتح الباري 8/603.