الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول
الإبداع في منظور التربية الإسلامية
مفهوم الإبداع:
يعرف الإبداع في اللغة بعدة دلالات لغوية1:
بدع الشيء يبدعه بدعاً، وابتداعاً: أنشأه وبدأه.
والبديع: الشيء الذي يكون أولاً.
والمبتدع: الذي يأتي أمراً على شبه لم يكن ابتدأه إياه. وفلان بدع في هذا الأمر أي أول، لم يسبقه أحد.
والبديع: المحدث العجيب. وأبدعت الشيء: اخترعته لا على مثال.
ومن تلك المعاني اللغوية يتضح أن الإبداع هو الاختراع والابتكار على وجه لم يسبق إليه أحد.
وقد ذكر المهتمون بالدراسات التربوية مفاهيم متقاربة لمعنى الإبداع فهي"تنشئة الناشئين وإعدادهم على نحو يستطيعون في مجال تخصصاتهم الإيجاد والابتكار والإتقان والتحسين"2.
ويعرفه آخر بأن الإبداع: عملية إنتاج شيء جديد سواء كان اختراعاً أو فكرة، ويجب أن يكون أصيلا وحديثا3.
1 ابن منظور، لسان العرب 8/6.
2 مقداد يالجن، جوانب التربية الإسلامية، ص 488.
3 حلمي المليجي، جوانب علم النفس المعاصر، ص 235.
ومجالات الإبداع ليست محصورة في الجوانب التقنية فقط، بل إنها قد تكون في الجوانب الإدارية، والجوانب الاقتصادية، أو الجوانب المهنية، أو في مجال البحث العلمي، أو في حل المشكلات والمعضلات العامة والخاصة.
التربية الإسلامية والإبداع:
لقد اهتمت التربية الإسلامية بقضية الإبداع اهتماماً كبيراً، وفي مجالات عديدة، بما يحقق للإسلام والمسلمين والبشرية النفع والتقدم، كما أنها ضبطت عملية الإبداع بأن وجهتها توجيهاً خيراً، بعيداً عن الإفساد والدمار، ونظراً لكثرة مجالات الإبداع وتنوعها بما لا يسع المقام لذكرها، فهذه بعض النماذج الإبداعية في عدد من المجالات العامة
1 -
الإبداع العلمي:
لقد جاء الإسلام والناس في جاهلية جهلاء، في عباداتهم واعتقاداتهم وأخلاقهم، وفي علومهم ومعارفهم، حتى إن عدد الذين يقرؤون ويكتبون في قريش هم سبعة عشر رجلا، منهم: عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي ابن أبي طالب - رضي الله عنهم1.
وجاء الإسلام وفي الأوس والخزرج عدد يكتبون، منهم: سعد بن عبادة، والمنذر بن عمرو، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، فكان يكتب العربية والعبرية - رضي الله عنهم2.
1 البلاذري، فتوح البلدان، ص 660.
2 المرجع السابق، ص 663.
وبعد ما جاء الإسلام تفتقت تلك العقول وأبدعت في تفوقها، وتواصل هذا الإبداع في الأمة، فتولدت علوم ومعارف، ما كان لأحد قبلهم بها معرفة، ومن ذلك: علم أصول الفقه، الذي أول من صنف فيه الإمام الشافعي، وأول من صنف في الفقه الإمام مالك بن أنس، وأول من صنف في غريب القرآن الكريم أبو عبيدة معمر بن المثنى، وأول من عمل العَرُوض هو الخليل بن أحمد، وأول من وضع الإعراب أبو الأسود الدؤلي، وأول من صنف في صنعة الشعر عبد الله بن المعتز1.
ولقد برع المسلمون في العلوم التجريبية، وأسسوا قواعدها ونواتها، ففي مجال الصيدلة: هم أول من اخترع الكحول، والمستحلبات، والخلاصات العطرية، واستخدم الرازي لأول مرة الزئبق في تركيب المراهم، وهم أول من غلف حبات الأدوية المرة بغلاف من السكر، ليتمكن المريض من استساغة الدواء، وهم أول من غلف الأدوية المعمولة على شكل حبوب، كما برعوا وابتكروا تحضير وضع وتركيب الضمادات والمساحيق واللزوق، وقد وقفوا على صنع مراهم تجف مع الوقت، كشماعات أو غطاء للجروح الحديثة، ومن أشهر من برع في علم الأدوية عبد الرحمن بن محمد بن عبد الكريم بن واقد، المتوفى سنة 467? 1074م2.
وفي علم التشريح تم اكتشاف الدورة الدموية الصغرى (الدورة الدموية الرئوية) وكذلك الدورة الشريانية من قبل ابن النفيس، واكتشفوا عدد الأغشية
1 أبو هلال العسكري، الأوائل، ص 253-266 ملخص.
2 حكمت نجيب عبد الرحمن، دراسات في تاريخ العلوم عند العرب، ص 340-342.
القلبية، ووظيفتها، واتجاه فتحاتها لمرور الدم، وبرعوا في تشريح العيون وجراحتها، واكتشفوا أن العضلات المحركة للمقل ست عضلات، وبينوا أن العين آلة للبصر وليست باصرة1.
وفي علم الرياضيات هم أول من أسس (اللوغارتمات) فلقد ولد ونشأ وترعرع علم اللوغارتمات في البلاد الإسلامية، الذي يرجع في تكوينه لجهود سلسلة من الابتكارات على يد عدد من علماء الرياضيات، مثل: سنان بن الفتح الحراني، وابن يونس الصدفي المصري، وأبي الحسن على النسوي، وابن حمزة المغربي2.
فهذه الشواهد تعطي دلالات عميقة بأن الإسلام فتق عن تلك العقول الصامتة لتبدع في جميع المجالات العلمية، بعد أن كانت لا تحسن القراءة والكتابة، مما يؤكد عمق التربية الإسلامية واستيعابها لكل ما يخدم الإنسان والبشرية جمعا، وأنها نور يحرك الأفئدة نحو العطاء، مما يؤكد أن الدور التربوي يقع اليوم على المؤسسات التربوية لتغرس ذلك في الأجيال، بما يشعرها بماضيها المضئ، وعلى أكتافهم يرتقي البحث العلمي في ميادينه المختلفة.
1 المرجع السابق، ص 67-69.
2 المرجع السابق، ص 139-142.
2-
الإبداع في التخطيط الحربي:
إن الإبداع التخطيطي الحربي لا يقل أهمية عن قوة العتاد، بل ربما يفوق قوة الترسانة الحربية من حيث التأثير في مسار المعركة. والرسول صلى الله عليه وسلم لم يهمل هذا الجانب، بل كان يأخذ بما تتفتق عنه عقول المبدعين من الصحابة رضي الله عنهم، ومن ذلك أنه في معركة بدر نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأدنى ماء من بدر، ونزل به، فقال الحُبَاب بن المنذر بن الجموح: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل؟ أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال صلى الله عليه وسلم: بل هو الرأي والحرب والمكيدة، فقال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم، فننزله، ثم نُغَوِّر ما وراءه من القُلُب، ثم نبني عليه حوضاً فنملأه ماء، ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أشرت بالرأي، فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الناس، حتى إذا أتى أدنى ماء من القوم نزل عليه، ثم أمر بالقُلُب فَغُوِّرت، وبنى حوضا على القليب الذي نزل عليه، فملئ ماء ثم قذفوا فيه الآنية 1.
ويلاحظ في هذه المشورة الإبداعية، عناية الصحابة بالحكم الشرعي وتقديمه على العقل، حيث قال حُباب بن المنذر: يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أمنزلا أنزلكه الله تعالى، ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخره، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فَيُفْهَم من ذلك، إن كان الأمر وحياً فالعقل تابع له، وليس للرأي مكان، وأما إن كان الأمر جهداً عقلياً تخطيطياً فعندي في الأمر رأي.
1 ابن هشام، السيرة النبوية 2/272.
ومن اللطائف التي يمكن استنتاجها، أنه لم يبين رأيه إلا بعد أن سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم القول الفصل، بأن الأمر ليس وحياً، بل رأياً، وهكذا نريد أن تكون التربية العقلية الإبداعية تهتم بالجانب التفكيري العقلي، ولكن تجعله يستظل ويسير تحت مظلة الشرع الحنيف، لا في مقدمته.
وأيضا يتجلى الإبداع التخطيطي الحربي في مشورة سلمان الفارسي بحفر الخندق في غزوة الأحزاب (الخندق) 1 فكان حفر الخندق عملاً إبداعياً لم تعرفه العرب من قبل، فكان ذلك أحد الأسباب في صد عساكر المشركين، بتوفيق الله تعالى ونصره.
فهذه الشواهد تؤكد حقيقة مؤداها أن النبي صلى الله عليه وسلم يعطي لذوي العقول المبدعة حقها من النظر والتشجيع البناء، ومن ثم الاستفادة مما يتولد عن أولئك من أفكار تخطيطية تسهم في أسباب النصر، بما يؤكد أن التربية الإسلامية تعطي في مضامينها التربوية معطيات تحقق للبيئات التربوية قواعد وأسساً منهجية عملية للمناهج الدراسية.
كما أن مجال العرض والحوار التربوي يخرج ويكشف عن تلك المواهب، ويبرز مكنونها الإبداعي، وما الأنشطة الصفية وغير الصفية إلا وسيلة تربوية لتحقيق ذلك.
ومن هنا فإن المنهاج الدراسي وطرائق التدريس ينبغي أن تنطلق من مثل هذه الأساليب النبوية التربوية العظيمة.
1 المرجع السابق 3/226-227.
3-
الإبداع المهني:
إن الإبداع المهني لا يعتمد على الخبرة والمهارة اليدوية فقط، بل لا بد من وجود عامل الذكاء، والتفكير والتطلع إلى التحسين والإصلاح والتطوير.
والتربية الإسلامية لا تعارض ذلك بل تحفز العقول على الابتكار والإبداع في المجال العملي والمهني1 ومن الشواهد على ذلك:
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة يخطب إلى جذع في المسجد قائما، فقال: إن القيام قد شق عليّ، فقال له تميم الداري: ألا أعمل لك منبرا، كما رأيت يُصنع بالشام؟ فشاور رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين في ذلك، فرأوا أن يتخذه، فقال العباس بن عبد المطلب: إن لي غلاما يقال له كلاب، أعملُ الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مره أن يعمله، فأرسله إلى أثلة بالغابة فقطعها، ثم عمل منها درجتين ومقعداً2 فظهر الإبداع المشوري من تميم الداري بصنع منبر، ثم ظهر الإبداع المهني من غلام العباس بن عبد المطلب، حيث كان أعملُ الناس، فأخذ صلى الله عليه وسلم من كل شخص ما يُحسن ويُجيد فيه من مشورة وصنعة، وفي هذا تشجيع منه صلى الله عليه وسلم، وتأييد للأعمال الإبداعية المفيدة.
وهذا يرسم للمؤسسات التعليمية قواعد تربوية في المجال المهني، ويؤكد لها أهمية العناية بالدروس المهنية النافعة التي تستثمر العقول، وتزيل حواجز الخجل من الأعمال والصنائع التي يعرض ويعزف عنها كثير ممن لم يرتق في السلم التعليمي.
1 عبد الحميد الصيد الزنتاني، أسس التربية الإسلامية في السنة النبوية، ص 424.
2 ابن سعد، الطبقات الكبرى 1/249-250.
فبعض ممن لم يستطع مواصلة دراسته يأنف من العمل في الصنائع المهنية التي ربما لو عمل فيها لكان مبدعاً، يشار إليه بالتفوق الذي ربما لا يحققه في السلم التعليمي. وقد أشار ابن قيم الجوزية إلى أهمية مراعاة استعدادات الصبي لما هو مهيأ له، فيذكر أنه مما ينبغي أن يعتمد حال الصبي، وما هو مستعد له من الأعمال، ومهيأ له منها، فيعلم أنه مخلوق له، فلا يحمله على غيره، ما كان مأذوناً فيه شرعاً، فإنه إن حمله على غير ما هو مستعد له لم يفلح فيه، وفاته ما هو مهيأ له، فإذا رآه حسن الفهم، صحيح الإدراك، جيد الحفظ واعياً، فهذه من علامات قبول العلم، وإن رآه بخلاف ذلك، ورأى عينه مفتوحة إلى صنعة من الصنائع، مستعداً لها، وهي صناعة مباحة نافعة للناس، فليمكنه منها، وهذا كله بعد تعليمه ما يحتاج إليه في دينه1.
ومن هنا لابد للمنهج التعليمي أن يراعي ويحقق الميول لدى الدارسين بأهمية الأعمال المهنية، من خلال دراسة السيرة النبوية، وسير الأنبياء عليهم السلام، وكذلك الصحابة، وعلماء الأمة، فقد "كان داود زرادا، وكان آدم حراثا، وكان نوح نجارا، وكان إدريس خياطا، وكان موسى راعيا"2. وكان الإمام أبو حنيفة يتجر في الخز، وكان ماهراً فيه3. وكان الإمام أحمد بن حنبل يعمل التكك ويبيعها، ويتقوت بها4.
1 ابن قيم الجوزية، تحفة المودود بأحكام المولود، ص 147-148.
2 ابن حجر، فتح الباري 4/307.
3 شهاب الدين أحمد بن حجر الهيثمي، الخيرات الحسان في مناقب الإمام أبي حنيفة، ص 83.
4 الذهبي، سير أعلام النبلاء 11/193.
فمهمة المؤسسات التعليمية أن تغرس ذلك في أفراد الأمة ليبدع الإنسان فيما هيّء له.
4-
الإبداع الشعري:
لقد اهتمت التربية الإسلامية بعملية الإبداع الشعري، ووجهة القرائح الشعرية التوجيه الصحيح الذي يحقق حُسن الاستفادة منها، ومن ذلك توجيه الرسول صلى الله عليه وسلم حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة، إلى تسليط قرائحهم الإبداعية الشعرية على المشركين، قال ابن سيرين: انتدب لهجو المشركين ثلاثة من الأنصار: حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة، فكان حسان وكعب يعارضانهم، مثل قولهم في الوقائع والأيام والمآثر، ويذكرون مثالبهم، وكان عبد الله بن رواحة يعيرهم بالكفر، وبعبادة مالا يسمع ولا ينفع1.
وهذا يؤكد تفاوت الناس فيما يحسنون ويبدعون، ومنهج التربية الإسلامية يراعي هذه الفوارق، ويشجع أصحابها ليتفوقوا فيما هيئوا له، فالشاعر والكاتب والصحفي المبدع إذا أُحسن توجيهه تفوق وخدم الأمة، وسخر بيانه في توجيه الناس للخير، من خلال الكلمة الجميلة والعبارة اللطيفة، والأسلوب الجذاب المؤثر، فكم من كلمة جمعت شتاتا، وقصيدة أثرت في قلوب، وكم من قلم ضمد جراحا، وكم من بيان ألف بين قلوب، وأثر هذا لا يكون إلا من صاحب البيان المبدع.
1 ابن الأثير، أسد الغاية 2/6.
ولذلك فإن المنهاج الدراسي الجيد هو الذي يعتني بكل الجوانب التربوية، ويوجهها بحسب قدراتها وإمكاناتها، لأن أغلب الناس إذا أخفق في جوانب نبغ وأبدع في جانب أو جوانب أخرى إن وجد التوجيه والرعاية التربوية الصحيحة.