الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فوائد التربية الإبداعية:
إن للتربية الإبداعية أهمية كبيرة في مسيرة التفوق العلمي والصناعي والصحي والاقتصادي، وغير ذلك من المجالات، التي من أبرز فوائدها على وجه العموم ما يلي:
1-
الابتكار:
يعتبر الابتكار من أبرز ثمار التربية الإبداعية، لما فيه من الاختراع غير المسبوق، الذي يتولد عنه تقدماً في المجال الذي كان الابتكار في دائرته، سواء كان في الطب أو الصيدلة، أو في الهندسة، أو في الأنظمة، أو في أي مجال نافع آخر.
والابتكار لا يأتي في أغلب الأحوال وأظهرها إلا من أولئك الذين تلقوا تربية نموذجية متفوقة، أو أُتيحت لهم الفرصة للتعلم والتفكير، سيما إذا كان ذلك في إطار توجيه تربوي متألق فاعل.
لذلك فإن الدراسات النفسية تقرر أن الأطفال أفضل ما يتعلمون عندما يُعْطَون الفرصة للتعلم بطرائق تتناسب مع قابليتهم وحوافزهم، وبالتالي فإنه حين يغير المعلمون من طرقهم في التعليم إلى طرق ذات معنى يتوافق مع قابلية الطلاب، فإنما يحققون فيهم التربية الإبداعية المتألقة1.
فيتحقق للأمة الفئة المبدعة المبتكرة في جميع الفنون، بما يخدم جميع المجالات التي تحقق لها قدراً من القوة والرفعة والسبق التربوي.
1 فاخر عاقل، الإبداع، وتربيته، ص 152.
2-
التطوير:
التطوير هو: إدخال التحسين على الأشياء، بما يحقق فيها الانتفاع الأمثل.
وهذا التطوير من سمات التربية الإبداعية التي تحقق في أفرادها الميل إلى التطوير والتحسين والبحث عن ذلك مع عدم الوقوف عند المألوف والمعتاد، سيما في المجالات التي يخضع التقدم فيها لتطوير أدواتها، وإجراءاتها، وليس ذلك التطور محصوراً في الآليات الصناعية والكيميائية والفيزيائية والهندسية كما هو اعتقاد كثير من الناس، بل إن مجالات التطور أرحب من ذلك، فهي في الإدارة، وفي اللوائح والأنظمة، وفي طرق وأساليب البحث العلمي، وأدواته، ومنهجيته، وغير ذلك.
والنزعة التطويرية هي من ثمار التربية، إذا أحسنت المؤسسات التربوية استخدام الأساليب التدريسية والمعرفية التي تحقق ذلك.
3-
ترتيب الأولويات:
يعد ترتيب الأولويات حسب أهميتها، وحسب قوة تأثيرها، وحسب الحاجة إليها من الدلائل والإشارات الإبداعية عند الفرد، أو عند المجموعة، فالشخص الذي يُحسن ترتيب مفردات أقواله عند التحدث حسب تدرجها المنطقي، أو المؤثر، يعتبر شخصية مبدعة في عرض الآراء، فالتربية الإبداعية هي التي تُكَوِّنُ من الأفراد شخصيات تُحسن ترتيب الأشياء أو القضايا حسب الأولويات، حتى ينتج عن ذلك قوة التأثير وحسن الاستثمار للمتاح، وتوفير الوقت والجهد والتكلفة.
لأن المرء يلمح الكثير من الناس في شؤون الإدارة، أو حتى في المذاكرة والدراسة من يرتب قضاياه المتعلقة بذلك ترتيباً لا يشعر فيه بحسن تحديد الأوائل والأواخر والأواسط، وهذا نتيجة التربية التي لم تولد عند المتربي الاهتمام بالتصنيف التصاعدي حسب الأهمية، وحسب الارتباط، مما قد يولد عند الفرد التشتت الذهني، وعدم الاكتراث بحسن التدبير.
ولذلك فإن من جملة التعامل مع الحقائق ترتيب الأولويات في القضايا التي تحتاج إلى معالجة، وهذا الترتيب لا ينبع إلا من إدراك عميق لطبيعة القضايا والظرف العام الذي تجري فيه المعالجة1 ففي مجال الدعوة التي تحتاج إلى فقه ترتيب الأولويات إذا فقدها الشخص، قد لا ينجح في التأثير على المدعوين.
ومنهج التربية الإسلامية مبني على ترتيب الأولويات، كما قالت أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – في نزول القرآن الكريم: "
…
إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبداً. ولو نزل لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبداً
…
"2.
وقد سُئل صلى الله عليه وسلم: "أي الإسلام أفضل؟ قال: من سلم المسلمون من لسانه ويده"3. وسأله رجل: "أي الإسلام خير؟ قال: أن تطعم
1 عبد الكريم بكار، فصول في التفكير الموضوعي، ص 99.
2 البخاري 3/340 برقم 4993.
3 المرجع السابق 1/21 برقم 11.
الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف" 1. فتأمل الترتيب حسب حاجة الأشخاص.
فترتيب الأولويات باب واسع، وللتربية أثر فاعل في تحقيقه لدى المتربي، من خلال الأساليب التعليمية المتنوعة التي إذا أُحسن استخدامها أفرزت النتائج المرجوة.
4-
حسن الاختيار:
اختيار الفاضل على المفضول في زمن أو مكان تكتنفه عوامل من الغموض أو التشابه، أو مغبة أمر غير ظاهرة، دليل حذق الفرد ونباهته وعلو إبداعه الاختياري للأشياء.
وهذا الأمر يمكن أن ينطبق على الكثير من معاملاتنا وتعاملنا مع الأحداث، وفي قراراتنا المتتالية، فكم من الطلاب يتخرجون من المرحلة الثانوية، ويقتدون ببعضهم في الالتحاق بالدراسات الجامعية، ثم يكتشف كثير منهم بعد مضي سنتين أو أكثر أنه أساء الاختيار لمجاراة الأتباع والخلان. وهنا يأتي عمق التربية المدرسية في توليد وتحقيق الإبداع في حسن الاختيار، الذي يحفظ وقت وجهد الإنسان من الضياع والتبديد.
ومنهج التربية الإسلامية يحث أتباعه على حسن الاختيار، وتَحَمُّل تَبِعَات إساءة الاختيار، قال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا
1 المرجع السابق 1/21 برقم 12.
تَشَاءُونَ إِلَاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 1. وقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} 2.
ويقول صلى الله عليه وسلم في الحث على اختيار الخير للنفس: "احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز"3. ويقول صلى الله عليه وسلم في جانب اختيار الزوجة، بعد بيان مجالات الاختيار: "تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، وجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك" 4.
5 -
تحقيق المنهج العلمي:
تحقق التربية الإبداعية في المنهج الإسلامي البعد عن الأهواء، مع الاعتماد على الأدلة وتقريرها، مما يبعد المرء المسلم عن الانجراف وراء التيارات، وبريق المزيفات، من الأعمال والأقوال والمنتجات، فيحفظ ذلك عليه وقته وماله وجهده، ومن جانب آخر يربي فيه المنهجية العلمية.
والنصوص الشرعية التي تأمر باتباع البراهين والأدلة كثيرة جداً، منها قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً} 5. وقال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ
1 التكوير: آية رقم 28-29.
2 سورة الشمس: آية رقم 9-10.
3 مسلم 4/2052 برقم 34-2664.
4 البخاري 4/360، برقم 509، ومسلم 2/1086، برقم 56-1466 واللفظ له.
5 سورة النساء: آية رقم 174.
لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} 1. وقال تعالى: {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 2.
وقد جاء لنبي الله سليمان عليه السلام الهدهد يخبره بأخبار بلقيس، ملكة سبأ، ولكن نبي الله سليمان عليه السلام لم يقتنع حتى يتأكد من ذلك ببرهان مبين، فقال: كما جاء في القرآن الكريم: {قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} 3.
فالتأكد والاعتماد على الدليل والبرهان الصادق من منهج التربية الإسلامية، ولذلك ظهر المنهج الاستدلالي عند المسلمين، الذي يسار فيه من مبدأ إلى قضايا تنتج عنه بالضرورة دون الصيرورة إلى تجربة4.
ولذلك اعتمد المسلمون منهج القياس، بمد سلطان النص بعد إدراك علة الحكم المستفادة منه، ليشمل بحكمه كل ما توفرت فيه علة النص الأصلي، وظروف تطبيقه5 كما ظهر عندهم المنهج التجريبي، ومنهج علم الرجال، للتثبت من نقولاتهم ورواياتهم، مما جعل المسلمين منفردين بدراسة الرجال، فأبدعوا ابتكاراً وتطبيقاً وتقعيداً بشروط وضعوها للرواة، فظهر عندهم علم مصطلح الحديث،"وهو علم وضع لحفظ الحديث النبوي من الخلط والدس
1 سورة المؤمنون: آية رقم 117.
2 سورة البقرة: آية رقم 111.
3 سورة النمل: آية رقم 27.
4 عبد الكريم، بكار، فصول في التفكير الموضوعي، ص 108.
5 المرجع السابق، ص 113.
والافتراء عليه، وهو منقسم إلى رواية ودراية، وكل منهما ينقسم إلى عشرات الأقسام"1.
6 -
الاستنارة بالشرع والسير في هديه:
مما يُعَرِّجُ بالإبداع إلى التدمير والخسران المبين عدم وجود المرجعية الشرعية للجهد البشري، أو تجاهل لتلك المرجعية، والسير خارج محيط دائرتها، مما يجعل المبدع ينحو بفكره واختراعه وابتكاره منحى تنزلق به الأقدام، وتكثر فيه الويلات، ولا أدل على ذلك من الاختراعات المعاصرة التي عمل أصحابها في بعد عن المرجعية الشرعية، فخرجوا بمخترعات كانت دماراً وهلاكاً على البشرية، كالقنبلة البيولوجية والذرية والنووية، والهندسة الوراثية، وغير ذلك من الابتكارات المنكرة.
في حين نجد أن المنهج الإسلامي يحث المرء على أن يعمل جهده، وفق الدلالات والتوجيهات الشرعية التي تربي في المسلم بذل الجهد لفعل الخير، ودفع الشر، قال تعالى:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} 2. وقال تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً} 3. وقال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} 4.
1 محمد ضياء الرحمن الأعظمي، معجم مصطلحات الحديث الأسانيد، ص 424.
2 سورة الزلزلة: آية رقم 7-8.
3 سورة المزمل: آية رقم 20.
4 سورة المدثر: آية رقم 38.
فهذه الآيات وأمثالها تربي في المسلم استشعار مسؤولية الأعمال والأقوال، مما يُنَشِّئ فيه الاستهداء والاستنارة بالشرع الحنيف، والسير في هديه، خشية المسؤولية التي يُحاسب عليها ممن لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
7-
البعد عن التقليد غير البصير:
التقليد على ضربين: تقليد على بصيرة وهدى، من معرفة التابع للمتبوع، ومعرفة منهجه ودليله، فيسلك سلوكه، ويتبع منهجه، قال تعالى:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 1.
وتقليد على ضلال وجهل، دون معرفة من التابع للمتبوع، وصحة منهجه، فهذا التقليد مرفوض باطل لأنه لا يأتي إلا بالشر، قال عليه الصلاة والسلام:"لا تكونوا إمعة، تقولون إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤا فلا تظلموا"2.
ومنهج التربية الإسلامية يربي أتباعه على البعد عن التقليد الأعمى الذي يئد الإبداع، ويزج بالإنسان في مهاوي الجهل والضلال، بل يربي فيهم الوعي في مسلكهم وسلوكهم وأقوالهم وأفعالهم وعباداتهم، وفي كل شؤونهم.
1 سورة يوسف: آية رقم 108.
2 الترمذي 4/320 برقم 2007.
فإذا وعت المؤسسات التربوية هذه الخاصية وربت المتربين على ذلك غرست فيهم هذه الجوانب التي تعتبر ثمرة وفائدة إبداعية تربوية.
ومن خلال بيان تلك الفقرات يتضح عناية الإسلام بمنهجية الإبداع التربوي، الذي يحقق تلك الفوائد التي تنعكس على نتاج الأعمال الإبداعية، فتحقق فيها فوائد عظيمة تعود بالنفع المبين على الفرد والمجتمع، بل والبشرية أجمع. وهذا ما تفقده وتفتقر إليه التربيات الأخرى.