الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أمة واحدة
للشيخ محمود غريب
مركز السلطان قابوس للثقافة الإسلامية
الوحدة حصن بناه الإسلام ليجمع فيه كلمة الأمّة ومشاعرها، وعلى هذه الأمّة أن تحافظ على صرحها الشامخ.
والإسلام هو أوّل عمل أقام لهذه الأمّة نظاماً واحداً يجمعهم تحت حاكم واحد. فقد نقلها الإسلام من نظام العشيرة والقبيلة إلى نظام الدولة الواحدة والأمّة الواحدة. يقول الشيخ محمد الغزالي: إنّ هذه الأمّة توحّدت في الأرض يوم وحّدت ربّها في السماء. (وإنّ هذه أمتكم أمّة واحدة وأنا ربّكم فاعبدون) الأنبياء 92.
أقام الاسلام أوّل نظام للحاكم الواحد. فالنبي r أوّل حاكم عربيّ قاد الأمّة. وآمنت الأمّة بهذه القيادة إلى درجة أنّ الأمّة انشغلت باختيار (الخليفة) لهذا الحاكم الواحد قبل أن تنتهي من دفن الحاكم الأول - رسول الله - r- حتى لا تعيش الأمّة ساعة واحدة بدون حاكم واحد.
والقرآن الكريم قد أعطى قضية الوحدة حقهّا (ولا تكونوا كالذين تفرّقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البّينات) آل عمران 105
وقال تعالى: (وأنّ هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتّبعوا السبل فتفرّق بكم عن سبيله) الأنعام 153
(واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرّقوا). آل عمران
وقال تعالى (إن الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء) الأنعام 109
لقد جاء الإسلام ليجمع، فأيّ فرقت فليست منه في شيء. (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا) الشورى 52
والروح لا تحلّ في جسد ممزّق. (آخر الشورى)
الإسلام جمعُ كلمة وَوِدّ (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وُدّاً) مريم. هذا وعد من الله - سبحانه فإذا وجدت مجتمعاً لا وُدّ فيه فهو مجتمع لا إيمان فيه. وأي مجتمع لا إيمان فيه لا وُدّ فيه. ولا يخدعك مظهرهم فهي أخلاق المنفعة، قال تعالى:(تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتىّ) الحشر14
السنة المطهرة تدعوا إلى وحدة الكلم
وتحذر من البدع المفرقة لها " قال r ( يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ إلى النار)(الترمذي كتاب الفتن)
ويقول: إنه من فارق الجماعة شبراً فمات مات ميتة جاهلية " حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم (عليكم بالجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية)
وعندما جمع الأمة على حاكم واحد دعّم هذا الحكم فجعل للأمة قبلة واحدة، وكتاباً واحداً، ومُشرّعاً واحداً هو النبي صلى الله عليه وسلم جمعهم على هدف واحد، وتفكير واحد، وآداب وأخلاق واحدة، وسياسة واحدة، جعلهم على أمر واحد لا يختلف عليه اثنان) (الإسلام وأوضاعنا السياسية ص 247 للشيخ عبدالقادر عودة).
والمسألة لم تكتف بتوثيق هذه الوحدة في دستور الدولة بل أصبحت حقيقة قرآنية. أصبحوا أخلاقاً (إنما المؤمنون إخوة) الحجرات 10 وجعلها نعمة من الله أن كانوا (أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها) الحجرات 10
فالمؤمنون إخوة كما قال سبحانه. وكما قال r يا أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمى على عربيّ ولا لأحمر على أسودّ، ولا لأسود على أحمر إلاّ بالتقوى) رواه أحمد في
المسند 5/ 411
وأسباب الاختلاف كثيرة منها
التعصب لرأى أو مذهب. وترى غيره باطلاً، كنت محاضراً بجامعة القاهرة 1973واستضفنا داعياً كبيراً فنناقشنا قضيّة فقهيّة كثر فيها اختلاف العلماء، وأجاد التعليل لما يراه حقاً حسب مذهبة، ثم ضغط على ظهر المقعد الذي يجلس عليه، وقال (فماذا بعد الحقّ إلا الضلال) يونس 32 فسألته وأنا ابتسم: ما هو الحق الذي ليس بعده إلا الضلال؟
ففهم الشيخ ما وقع فيه من خطأ بسبب غروره.
وأسأل: ما هو الحق الذي ليس بعده إلاّ الضلال؟
جاءت كلمة (الحق) بمعاني كثيرة في القرآن يمكن أن يقال عن كلّ واحدة من هذه المعاني (ليس بعد الحق إلاّ الضلال) والآية نفسها جاء في أوّلها
(فذالكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنىّ تصرفون)
(إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً) البقرة 119
(ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق) البقرة 176
(وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدى لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربّنا بالحق) الأعراف 43 هذه نماذج للحق الذي ليس بعده إلا الضلال.
وقد جمعت سورة (الحج) بعض صفات (الحق) التي ليس بعدها إلا الضلال
(ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحي الموتى وأنه على كل شيء قدير. وأن الساعة آتيه لا ريب فيها. وأن الله يبعث من في القبور) الحج 7
هذه بعض آيات الحق الذي ليس بعده إلا الضلال. أمّا أن يتحدّث بعض العلماء عن شيء يحتمل الوجه والوجه الآخر ممّا اجتهد فيه الأئمة ثم يقول: (فماذا بعد الحق إلا الضلال) فهذا خطأ في فهم الإسلام. فالنصوص الإسلامية حاملة لعديد من المعاني، وكلها حقّ.
ويعلم كلّ دراسي لهذا الموضوع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرّ الاجتهادين في مسائل الفروع في فهم قوله صلى الله عليه وسلم (لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة) فصلت طائفة العصر إيماناً واحتساباً وواصلت طائفة السير إيماناً واحتساباً. وأحد الصحابة أصابته الجناية.
فاجتهد فتيمم وصلّى، فلمّا وجد الماء اغتسل وأعاد الصلاة، واغتسل آخر ولم يُعد الصلاة. فأقرهما النبي صلى الله عليه وسلم وقد كتبت فصلاً كاملاً في مثل هذا في كتابي (شريعة الله يا ولدى) وبينت الأسباب العمليّة لاختلاف الأئمة.
من هذه الأسباب طبيعة اللغة العربية كاختلاف معاني كلمة (قرْء) التي تقال للحيض وللطهر على الحقيقة اللغوية، ممّا سبّب اختلاف الأئمة في تحديد مدّة العدة عند المطلقة.
ودلالة القراءات المتعددة للقرآن الكريم وضربت لذلك المثل بقراءة
(النصب) لقولة تعالى (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم) نصب الأرجل عطفاً على أغسلوا وجوهكم. فأخذت مذاهب السنة بغسل الرجلين. أي اغسلوا أرجلكم. بينما أخذت مذاهب الشيعة بقراءة الجرّ في الأرجل عطفاً على (وامسحوا برءوسكم وأرجلكم) فهم يمسحون على أرجلهم في الوضوء ولا يغسلونها وحديث (ويل للأعقاب من النار لم يثبت عند علماء الشيعة.
ثم حاولت تخرج قراءة الجرّ عند مذاهب السنة في كتابي " شريعة الله يا ولدى "
" فاللغة العربية في ألفاظ القرآن لها دخل في اختلاف الأئمة.
" وقراءات القرآن لها دخل في اختلاف الأئمّة في اجتهادهم.
والحديث الشريف قد يثبت لإمام ولا يثبت عند إمام آخر أو لا يصل عنده.
وقد يرزق الله إماماً فهماً في آية أو حديث ويرزق الآخر، غيره من الفهم
وقد ذكرت هذا بتوسع في (شريعة الله يا ولدى)
التشريع الإلهى والتشريع الاجتهادي
القرآن قطعىّ الثبوت ظنىّ الدلالة. وآيات الأحكام قسمان.
قسم قطعىّ الثبوت وقطعى الدلالة ليس له سوى معنى واحداً. وهو ما يأخذ حكم العقيدة من آيات الأحكام، لا يجوز فيه الاجتهاد، وهو قليل في القرآن. وذلك
مثل قوله تعالى (حرّمت عليكم أمهاتكم وبناتكم) آية المحرمات في سورة النساء آية 23 وما بعدها تأخذكم العقائد.
ومنه قوله تعالى في سورة الأنعام المكيّة.
(قل لا أجد فيما أوحى إلىّ محرّماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس. أو فسقاً أهلّ لغير الله به. فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم) الأنعام 145
آيات معدودات في القرآن لا يجوز فيها اجتهاد العلماء، وتأخذ حكم الاعتقاد، فيكفر منكرها. أمّا بقيّت آيات القرآن فاجتهادية النصّ، من هنا اتسعت معاني القرآن فوسعت مشكلات الأمم ذات الحضارات المتباينة. وقد كتبت فصلاً عن هذا الجانب من الآيات في كتابي (شريعة الله يا ولدى) فلا داعي للإعادة.
زميل من السودان الشقيق.
كنّا نودّ أن نحصل على مقعد في الجامعة لنحقق بعض آمالنا. وفوجئنا بزميل من السودان الشقيق يزيد عمره على الستين. عشنا سنوات الدراسة أبناء له. نحترم حرصه على العلم، وكبر سنه.
وعند احتفالنا بيوم الوداع سألته ماذا جنيت من السنوات الأربع والغُربة؟ فقال: دخلت كلية أصول الدين وأنا اعتقد أن الحق ما يقوله شيخي ومذهبي. وأنا اليوم أرجع إلى السودان وأنا اعتقد أن الحق ما يصحبه الدليل الأقوى.
فقلت له: لمثل هذا فليعمل العاملون) الصافات 61
الأنبياء اجتهدوا واختلفوا ..
كتبت في هذه السلسلة مقالاً تحت هذا العنوان قلت فيه: إن الله إذا بعث نبيين في بلد واحد وزمن واحد اختلفا. وأكبر مثال لهذا هو اختلاف هارون وموسى عليهما السلام في أمر بني إسرائيل عندما عبدوا العجل.
إنه ليس اختلافاً في (القنوت) في صلاة الصبح، ولا في لمس المرأة ينقض الوضوء أولاً. إنه اختلاف بين نبيين مرسلين في مسألة عبادة أمّة أو أكثرها
للعجل خلاف في شيء كبير.
ومع ذلك خاف هارون أن يتخذ قراراً يفرق كلمة الأمّة، وانتظر موسى (إنّى خشيت أن تقول فرّقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي) طه 94
إلى هذه الدرجة حرص هارون على وحدة الكلمة. وإلى هذه الدرجة يختلف الأنبياء. فكيف لا يختلف الأئمة؟
كتبت فصلاً كبيراً في كتابي (شريعة الله يا ولدى) عن حرص الأئمة رضي الله عنهم على عدم الفرقة بسبب الاختلافات الفقية.
ومن يقرأ الحوار الذي كان بين الإمامين - الإمام الليث بن سعد - إمام مصر والإمام مالك رضي الله عنهما يرى صورة من ودّ العلماء وحرصهم على وحدة الأمة مع اختلافهم في الرأي، ثم كلّ إمام كان يقول: قولي صواب يحتمل الخطأ وقول غيرى خطأ يحتمل الصواب.
وسألوا أبا يوسف - صاحب أبي حنيفة - سئل: هل تصلّي خلف الإمام مالك وقد نزل منه دم ولم يتوضأ؟
قال: كيف لا أصلى خلف الإمام مالك؟
والإمام الشافعي في بغداد ترك القنوت في صلاة الصبح ولما سئل قال: احتراما لقبر أبي حنيفة. رضي الله عنهما أي احتراما لاجتهاده.
والعلماء يقولون: اختلاف الرأي رحمة
لأنه يعطى صاحب المشكلة أكثر من حل ّ.
أليس ذلك أرحم من حتميّة الحلّ الواحد الذي يطلبه بعض الشباب في هذه الأيام؟
لقد عاصر سيدنا إبراهيم النبي لوط فاختلفا في التعبير عن إكرام ضيف إبراهيم من الملائكة.
إبراهيم عبّر عن الكرم بذبح عجل سمين. ولوط عبّر عن الكرم بما جاء في قوله تعالى " ولما جاءت رسلنا لوطاً سيء بهم وضاق بهم ذرعاً وقال هذا يوم عصيب " سورة هود 77
إن قمّة الكرم أن يقف الإنسان مع الحقّ ويقول للباطل (أليس منكم رجل رشيد) سورة هود 78
* وأرسل الله داود وسليمان ولده في عصر واحد في سورة الأنبياء آية 78
(وداود وسليمان إذا يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين. ففهمناها سليمان)
حدث الاختلاف بين داود وبين ابنه.
فإذا اختلف الأنبياء فكيف لا يختلف الأئمة؟
حادثة في حياتي ..
كنت على سفر من صلالة للقاهرة وكانت معي ابنتي. وفي مسقط وعلى بعد ألف وثلاثين كيلو. تبين أنني نسيت أن آخذ بصماتها للداخلية العمانية فقال مسؤول الجوازات لا بد من رجوعكم إلى مسقط لأخذ البصمات هناك.
فقال موظف آخر يذهب الشيخ إلى مكتب البصمات في مسقط على بعد كيلو مترات.
فقال رئيسهم في العمل: نحن نكرّم علماء الإسلام فعلى الشيخ أن يسافر وعند عودته تحضر (تيسير) وتعمل البصمات.
قلت لهم: اختلاف الشرطة رحمة.
ثم ارتفع تفكيري إلى قضيتي الكبيرة وقلت واختلاف الأئمة رحمة من باب أولى.
إن الاسلام وضع أمام المسلم عدّة حلول للمشكلة يتخير الرأي الذي يتفق مع الدليل الأكثر اقناعاً، أليس هذا خير من حتيمية الحلّ الواحد؟ أو الرأى الواحد؟