المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مع الزمن في القرآن الكريم - لطائف قرآنية للشيخ محمود غريب

[محمود محمد غريب]

الفصل: ‌مع الزمن في القرآن الكريم

حتى لا نخطئ فهم القرآن

‌مع الزمن في القرآن الكريم

للشيخ محمود غريب مركز السلطان قابوس للثقافة الإسلامية

تعلمنا من القرآن أن لقدرة الله مجالين. الأول قدرة الله، والثاني سنّة الله.

والآن نأتي إلى قانون (قدرة الله) الذي يقول للشيء كن فيكون، وقانون (سنّة الله) الذي جعلت الزمن جزءا من الخلق والإيجاد.

قال تعالى: [إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ]{النحل 40}

وفي قوله تعالى: [هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ]{غافر 68} وقوله تعالى: "كن فيكون" تقريبا لعقلنا لأن الله لا يخاطب المعدوم قبل أن يوجد وإن كان موجودًا عند خطابه - سبحانه - فكيف يطلب منه أن يكون؟ فهي تقريب لعقلنا وكلمة "كن" قال العلامة ابن عاشور فعل ميسّر بل هو أيسر فعل لأنّه مكوّن من متحرك والثاني ساكن.

فهو تمثيل لتعلّق القدرة بالمقدور بلا تأخير ولا عدّة. فالله إذا أراد شيئا يكون.

أمّا (سنّة الله) فقد شاء أن يجعل الزمن جزءا من الإيجاد. فالجنين يتكوّن (بكن فيكون) ولكنّ سنّة الله أن يتمّ تكوينه في عدّة أشهر. والنخلة كذلك [مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا]{النمل 60} فالله إذا أراد شيئا يكون. هذه قدرة الله، والزمن جزء من الخلق هذه سنّة الله.

مرّة ثانية. قدرة الله بين إعمال الزمن وإيقاف الزمن.

وأسأل: هل قانون الزمن يلزم الخالق سبحانه. كما نقول في سنّة الله.

قدرة الله مطلقة. لأن الله - سبحانه - يُعمل الزمن، ويُوقف الزمن. كما يقول العلامة الشعراوي.

جاء هذا في آية واحدة من سورة البقرة في قصة الرجل الذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها.

ص: 28

[قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]{البقرة 259}

فالطعام والشراب لم (يتسنّه) أي لم تُغيّره السنون. فالحليب لم يزل حليبًا بعد مائة سنة، لأنّ الله أوقف الزمن.

وقد أعمل الزمن في الحمار فأصبح ترابا ثم أوقف الزمن فأصبح التراب حمارًا. فالزمن بقدرته وقد يوقف الزمن قليلا لبعض الناس وهو ما نسميه (البركة) في الوقت. إن ما تم على يد النبي صلى الله عليه وسلم في ربع قرن لم يتم مثله على يد نوح في عمره الطويل وقد يشعر الناس به في آخر الزمن العام كالشهرٍ، والشهر كالأسبوع. رفع البركة من الزمن.

لقد شهد التاريخ حياة بعض العلماء عاش بعضهم سنوات قلائل وتركوا علما لو وزّعناه على أيام عمره لعجزنا. ابو حامد الغزالي كم عمرْ؟ وماذا ترك؟ بينما رفع الله البركة من أعمار بعض الناس فبلغ من العمر ما بلغ ومع ذلك كانت حصيلته كفقراء اليهود لا دنيا ولا دين. ومما أذكره ولا أنساه هذه القصة.

قلت في خطبة الجمعة بجامع البنية ببغداد

أما تدري؟ أما آن الحداد؟ وهل لبياض لحيتك اسوداد؟ وهل بعد المشيب يلذّ لهوا؟ وهل يبقى مع الشيب الفساد؟

وبعد صلاة الجمعة جاءني صبيّ في العاشرة يطلب هذه الأبيات. قلت له: هل تحبّ الشعر؟ قال: لا ولكنّ أحبّ أبي لقد بلغ السبعين وما جمعه بالمسلمين مسجد ولا مجلس، إلا مجالس العزاء وأريد أن أطلب منه أن يصحّح لي هذه الأبيات لعله ينتفع بها. أقول له صحح لي هذه الأبيات. وأنا أريد منه أن يقرأها.

فسرني أدبه: أريد أن يصحّح له هذه الأبيات. ولم يقل أريد وعظه بها.

ص: 29

ذكرني أدب هذا الصبيّ بأدب الخليل إبراهيم مع أن الصبيّ لم يحفظ الآيات [يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً {43} يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً {44} يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً]{مريم 45}

علمت من الصبيّ أن والده استمتع بكلمته أريد أن تصحّح لي، فقال: بل أنت يا ولدي الذي تريد أن تصحّح لي حياتي.

وفي صورة الصمد

قدّم - سبحانه - لم يلد. على قوله - سبحانه - (لم يُولد) وترتيب الزمن أن يقدّم لم يُولد. الأصل أن يقدّم لم يولد لأنّ الإنسان يولد أولا ثم يلد.

ولكن الله قدّم نفى ما ضلّ به ملايين الخلق وهو نسبة الولد لله. ولا نعرف أحدًا قال لله (والد) فقدم ما يصحح به اعتقاد الملايين وهو أنه لم يلد، وأخّر ما دونه وهو أنّه لم يولد، من باب تقديم الأهم.

اليقين في المستقبل يُعبّر عنه بالماضي

ومنه (أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه) عبّر عن المستقبل بالماضي لتيقن الوقوع. كأنه وقع.

(فأمر الله) هنا يعني يوم القيامة. كقول الأستاذ لتلميذه النابغ: مبروك النجاح. فلمّا علم أن النتيجة بعد لم تظهر قال مثلك لا ينتظر إعلان النتيجة.

ونلاحظ أن كلّ ما يخبر به - سبحانه - هو يقين. ولكن حديثه عن القيامة تحتاج تأكيدًا كبيرًا لأنّه أمر كان صعبًا على العقل البشري منذ عهد قريب من عهد نوح قال الله عنهم [ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ]{المؤمنون 31}

فقالوا لنبيهم [أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ]{المؤمنون 36}

ومنذ عهد نوح إلى يوم الناس هذا والدنيا بين إيمان وكفر بقضية البعث.

ص: 30

والعلم في عصرنا يومن بأنّ للعالم نهاية عندما تفقد الدنيا الحرارة بقانون (الفقد المنتظم)، ويفقد الكون حركته فلا حياة.

وقالوا: أن الليل والنهار كان يتم في 6 ساعات وبدأ يتأخّر ساعة كل 432مليون سنة فلا بد أنه يفقد الحرارة والسرعة وتنتهي الدنيا (عبد الرزاق نوفل) ولكن العلم لم يتكلم عن إعادة الخلق.

مرّة ثانية

ولكننا نؤمن بأنّ القيامة تأتي فجأة [لَا تَأْتِيكُمْ إِلَاّ بَغْتَةً]{الأعراف 187}

وناقشت هذا الموضوع في كتابي سورة الواقعة ومنهجها في العقائد.

فالبعث يقين، وكل غيب القرآن يقين. [وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً]{النساء 122}

القرآن يذكر طرفي الموضوع ويحذف وسطه وقد يذكر طرفي الزمن ويحذف ما بينهما كقوله [خَلَقَ الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ]{النحل 4} ذكر النطفة وعطف عليها مرحلة الكمال العقلي وهي مرحلة القدرة على الخصومة.

الفاء في قوله تعالى [فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ] ليست للتعقيب هنا. ولكنها (مجاز مرسل). يعني أنه يؤول إلى كبر السنّ، والدراسة، وإتقان فنّ الجدل، فيصبح خصيما أي مخاصما يستطيع أن يدافع عن رأيه ومصلحته بالحق فهي نعمة، أو بالباطل فهو قبيح

فالخصيم المبين قدرة بعد أن كان نطفة لا يدري ماهي الحياة. والوسط بين النطفة والخصيم محذوف.

وهو مشوار الحياة، وإعداده لنفسه بالدراسة لعلوم الجدل والمنطق، والرأي والرأي الآخر، ومُسلّمات الخصم. لأنها قد تصبح حجّة على من يسلّم بها. فعندما قال اليهود (ما أنزل الله على بشر من شيء) يريدون انكار نزول القرآن قال الله لهم [قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ]{الأنعام 91} . واحتج عليهم بمسلماتهم. وهو نزول التوراة.

التعبير بالماضي عن المطلوب

ص: 31

وفي الجملة الدعائية يأتي الماضي بدلا من صيغة الطلب نقول مرض فُلان شفاه الله. أي اللهم أشفه. ثقة في قبول الله. ومنه قال صلى الله عليه وسلم، أي اللهم صل عليه فنحن نعبر بالماضي عما نطلبه.

صحابة النبي صلى الله عليه وسلم يلبّون الأمر قبل أن يصدر إليهم.

سرعة تلبية الصحابة لأوامر الله كأنه لا زمن ويُعبّر عن سرعة الإجابة للجملة الطلبية كقوله تعالى [وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]{الإسراء 53} ومعنى الآية الكريمة قل لعبادي (قولوا التي هي أحسن) تراهم (يقولون التي هي أحسن) فجملة مقول القول محذوفة وهذا دليل على سرعة إجابتهم لأمره - سبحانه - حبّا لها [إنّهم كانوا يسارعون في الخيرات فليستحي الذين يسبّون صحابة النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن مدحهم في كثير من آياته]

وهل بعد مدح الله مدحا؟ وهل بعد رضاه - سبحانه - منال؟

الشيخ محمود غريب

سلطنة عمان صلاله

23295179

ص: 32