الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فسبق إيجاد ما له عقل، وليس له شهوة، وهو الملائكة، وما له شهوة ولا عقل له، وهو كل الحيوان خلا الإنسان، وما ليس له شهوة ولا عقل وهو الجماد وبقي من الأقسام الأربعة قسم، وهو الذي له عقل وشهوة فأوجدت القدرة التامة والمشيئة الكاملة، نوع الإنسان وتممت به الأقسام التي كانت في ضمان الإمكان، فإن رجحت شهوته على عقله التحق بالبهائم، وإن رجح عقله على شهوته التحق بالملائكة وقال آخر: جزوى الملائكة روح وعقل، والبهائم نفس هوى، والإنسان بجمع الكل ابتلاء، فإن غلب الروح على النفس والهوى فضلته البهائم.
وذهب بعض الإخباريين في سبب إيجاد الإنسان الأول وهو آدم عليه السلام إن الله تعالى خلق السماوات وعمرها بالملائكة، وخلق الأرض وعمرها بالجن فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء، فبعث الله تعالى لمحاربتهم جنداً من السماء فاجتاحوهم قتلاً وأسراً إلا القليل ممن سكن الجزائر، وأعماق البحر فكان فيمن أسر) عزازيل (، وهو إبليس فلما خلت بقاع الأرض من الجن ولم يبق فيها إلا الدواب، شاء الله تعالى أن يخلق من بعدهم فيها من يعبده ويوحده وذلك لا يتأتى إلا ممن له وعقل فبعث الله تعالى إلى الأرض ملكاً يقال له جبريل عليه السلام ليأخذ من ترابها ما يخلق منه خلقاً يعمرها به فناشدته الله تعالى في ذلك خوفاً أن يخلق منها ما يعصيه، فتركها، وصعد، فانزل الله تعالى ملكاً يقال له عزرائيل، فسألته في ذلك فقال: لا أعصي أمر ربي فأخذ من سهلها وحزنها وطيبها، وخبيثها، وأحمرها، وأسودها، ثم صعد به فخلق الله من ذلك بشرا عجن طينته بيده، وخمرها أربعين سنة، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له الملائكة، وسماه آدم لأجل أنه خلق من أديم الأرض أي من وجهها، وكان خلقه لمضي أحد عشر ساعة من يوم الجمعة وأهبط إلى الأرض عند انقضاء اليوم فكان لبثه في الجنة إلى حين خروجه منها ساعة واحدة من أيام الآخرة، مقدارها ثلاث وثمانون سنة وثلاثة أشهر من سني الدنيا، ويقول الناس في خرافاتهم: إن آدم عليه السلام لما هبط إلى الأرض اجتمعت الطير والهوام، والوحوش، والحشرات، وانطلقت إلى الضب وكان قاضيها حينئذ، فذكرت له حال الإنسان ووصفته بصفته فقال: أراكم تصفون خلقاً ينزل الطير من السماء، ويخرج الحوت من الماء، فمن كان ذا جناح فليطر، ومن كان ذا مخلب فليحتفز، وتزعم اليهود في التوراة: إن الله تعالى فرغ من الخلق يوم الجمعة، واستراح يوم السبت، وقال هذا يوم راحة ودعة، تعالى الله أن يمسه فيما خلق لغوب ونصب، وهل ذلك إلا حالة من جبل جسمه من لحم وعصب، ولم يكفهم كفرهم حتى وصفوا هيئة الاستراحة بصفة هي عين التجسيم وركبوا في حكايتها الخطر العظيم، والهول الجسيم.
فصل
وخلق الإنسان على أربعة أضرب
إنسان من غير أب ولا أم، وإنسان من أب لا غير، وإنسان من أم لا غير، وإنسان من أب وأم.
الضرب الأول:
إنسان من غير أب ولا أم وهو آدم عليه السلام خلقه من تراب، وركب فيه روحا مؤيدا بالعقل ليقارن في العبادة من جعلت السماء مركزاً له وهم الملائكة، ونفسا متسلطة بالشهوة ليقارن في التناسل من جعلت الأرض مركزا له وهم الحيوانات، ومبدأ خلقه أن الله تعالى لما أراد إبرازه من العدم إلى الوجود، وامتحان إبليس له بالسجود قلبه في سنة أطوار، طور التراب وهو قوله تعالى:) ومن آياته أن خلقكم من تراب إذا أنتم بشر تنتشرون (وطور الحمأ وذلك قوله تعالى:) ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون (، وهذا الكلام يقتضي التقديم والتأخير، لأن الطين لا يكون صلصالا إلا بعد أن يكون حمأ، يقتضي ذلك، قال الزمخشري معناه) من صلصال كائن من حمأ (فيكون صفة لصلصال، وطور الطين اللازب وذلك قوله تعالى:) فاستفتهم أهم أشد خلقا من خلقنا، إنا خلقناهم من طين لازب (، وطور الصلصال وذلك قوله تعالى:) خلق الإنسان من صلصال كالفخار (، ولما كان في هذا الطور كان إبليس إذا مر به، وقف ليتأمله، وفي رواية يركذه برجله، ويقول: لقد خلقت لأمر عظيم، ويقال كان يدخل من فيه، ويخرج من دبره لأنه كان أجوف، وطور التسوية وهو جعل الخزفة التي هي الصلصال عظما ولحما ودما، وإنما كانت الأطوار على هذا الترتيب لأن التراب الذي هو المبدأ الأول كان متفرق الأجزاء فجبل بالماء حتى اجتمعت أجزاؤه، فصار حمأ مسنونا أي طينا مائعا متغير الرائحة إذ من عادة الماء إذا خالطه شيء غير لونه وطعمه وريحه لا سيما إذا كان ما خالطه ترابا، ثم ترك الحمأ برهة حتى نقصت رطوبته، واشتد فصار طينا وهو المستقر على حالة من الاعتدال يصلح لقبول الصورة، واللازب الذي يلصق بما لامسه، وهو اللازم أيضا، وفي هذا الطور كان تخطيط الصورة وتشكيلها، وتقدير أعضائها، وتفصيلها، ثم ترك الطين حينا صار صلصالا كالفخار، وهو الطين الذي أصبح خزفا وترك حتى جف وسمعت له صلصلة، أي صوت كما يسمع للفخار إذا طبخ بالنار، ثم كانت التسوية وهي إحالة هذه الخزفة إلى جسم حيواني يصلح مسكنا للروح الروحاني وكل طور من هذه الأطوار على ما حكاه ابن منده، أربعون سنة فيكون مجموع كونه حمأ مسنونا إلى أن صار طينا لازبا، إلى أن صار صلصالا كالفخار ثم إلى سوي مائة وعشرون سنة من سني الدنيا، ثم نفخ فيه الروح فصار حيا ناطقا وقال علي عليه السلام، مشيرا إلى ما أودع جسد آدم عليه السلام من أسرار التخليق: جمع سبحانه من حزن الأرض، وسهلها وعذبها، وسبخها تربة شنها بالماء حتى اختلطت، ولاطها بالبلة حتى لزبت فجبل منها صورة ذات احناء ووصول، وأعضاء وفصول، أجمعها حتى استمسكت، وأجلدها حتى صلصلت لوقت معدود وأجل محدود ثم نفخ فيها من روحه فمثلت إنسانا ذا أذهان يتخيلها وفكر يتصرف فيها، وجوارح يختدمها وأدوات تقلبها، فيعرف بها الأذواق والمشام والألوان، والأنواع والأجناس، وبهذا الاعتبار تكون تمام الحكمة الآلهية في تخليق الإنسان أظهر مما في سائر المخلوقات، لأنه خلقه من ضدين متباينين، وجوهرين متغايرين، وذلك أن الروح علوي، والبدن سفلي والعلوي والسفلي ضدان، والروح نوراني، والجسد ظلماني والنور والظلمة ضدان " والروح لطيف والبدن كثيف واللطافة والكثافة ضدان " والروح سماوي والبدن أرضي، والسماوي والأرضي ضدان، ويستظرف قول أبي إسحاق الصابي في معنى هذا:
جملة الإنسان جيفة
…
وهيولاه سخيفة
فبماذا ليت شعري
…
قبل النفس الشريفة
إنما ذلك فيه
…
حكمة الله اللطيفة
وقال آخر:
من أين للطين القيام بنفسه
…
أو أين للفخار أن يتكلما
لو لم يكن روح الحياة تمده
…
ما كان من أسمائه يتعلما
وقال آخر:
لم يكن الون غير نكر
…
سلافة الكرم عرفته
فآدم أصله تراب
…
ونفخة الروح شرفته
الضرب الثاني
إنسان خلق من أب لا غير وهي حواء عليها السلام، ويذكر الاخباريون في مبدأ خلقها أن آدم عليه السلام نام في الجنة، ثم استيقظ فرأى حواء إلى جانبه فقال: يا رب ما هذه؟ قال: زوجك تسكن إليها خلقتها من ضلعك القصراء التي في جانبك الأيسر، ولهذا يوجد عدد أضلاع الجانب الأيمن في الرجل اثنا عشر وعدد أضلاع الجانب الأيسر أحد عشر، وقد خرج البخاري في صحيحه مصداق ما ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:) استوصوا بالنساء خيرا فإن المرأة خلقت من ضل وإن أعلى الضلع أعوج وإنك إن قومته كسرته، وإن تركته استمتع به على عوج فيه (.
الضرب الثالث: إنسان من أم لا غير وهو عيسى عليه السلام قال الله تعالى) إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب (. ذهب بعض المفسرين للكتاب العزيز أن الله تعالى لما خلق آدم، بقي من التراب الذي خلقه منه جزء، وقال آخرون لما تم خلقه عطس فسقط من أنفه تراب فلما أراد خلق عيسى عليه السلام بعث جبريل إلى مريم عليها السلام فنفخ ذلك التراب في فرجها، وهو جيب درعها أو ذيلها، فحملت بعيسى من ساعتها، وجاءها المخاض إلى جذع النخلة فوضعته عندها، وهذه السرعة في الحمل والوضع نتيجة قوله تعالى:) كن فيكون (، والمستقبل في موضع الحال، وقيل في مدة الحمل ثمانية أشهر ولا يمكن هذا الحمل لغيره لأنه لا يعيش ولد لثمانية، وقيل سبعة أشهر، وقيل ستة أشهر، وقيل ثلاث ساعات حملته في ساعة، وصور في ساعة، ووضعته في ساعة، وقال ابن عباس كانت مدة الحمل ساعة واحدة كما حملته نبذته، وقيل حملته وهي بنت ثلاث عشر سنة وقيل عشر سنين ويؤيد القول الأول قوله تعالى:) إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه (، والكلمة كن، وبهذه الكلمة صار التراب المتفرق الأجزاء جسدا ملتئما ذا عظم ولحم وعصب وعروق ودم، قابلا لنفخ الروح فيه، ومعنى وروح منه أي: من عنده.
الضرب الرابع: