المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفلاح وحبات القمح - مجلة «الثقافة» السورية - جـ ٥

[خليل مردم بك]

الفصل: ‌الفلاح وحبات القمح

‌الفلاح وحبات القمح

هل نظرت على الفلاح، عند غروب الشمس، كيف يرفع يده إلى السماء وهو يبذر حبات القمح؟ إن يده لترسل إلى الأفق الأعلى ظلال الأمل، وتطبع على هام الأفلاك صورة العمل. أنظر إليه أنه يطأ بقدميه تراب الأرض، ويغير بأحلامه مجرى الأرض، ويغير بأحلامه مجرى النجوم. لم يدفن حبات القمح في بطن الأرض إلا ليحييها. فكأن الأرض قبر تنبعث منه الحياة وكأن الفلاح حاكم تخضع العناصر لأمره. أنظر إلى الشمس كيف هبطت إلى الأفق. إنها تكاد تغيب من وراء الجبال. ها إن ظل الفلاح صار عظيماً. أنه أعظم من الأرض، لأنه قد ستر السماء. كلما قربت الشمس من الجبل عظمت ظلال الأشياء، وتغيرت ألوانها، وتقرب الناس من نهاية العمل. لقد غمرت الشمس سطح الأرض بموج من الذهب فأصبح الفلاح غنياً، لأن معوله وآلته وكيسه وثيابه قد انقلبت إلى إبريز خالص. ألم تر كيف رفع رأسه وشمخ بأنفه ونظر بعينيه المطمئنتين إلى الأفق؟ أنه شاعر بقيمة العمل الذي أنجزه. إنه عالم أن حياة الملايين من الناس متوقفة على نتيجة جهوده ونجاح أعماله. لم أجد في صورة المساء أجمل من الفلاح، لأنه أجمل من الشمس، أجمل من سنابل الذهب، لا بل أجمل من السماء المظلة والأرض الساكنة ليس الفلاح ابن الطبيعة، بل الطبيعة بنت الفلاح، لأنه قد قلب الأرض، وغير صورة الأشياء. نعم إن الإنسان لم يبدع العناصر ولم يرتب الإكوان ولكنه أثر في تركيبها وتبديها ونقلها من طور إلى آخر حتى كاد كل ما في الطبيعة يحمل أثراً من عمله واختراعه. فكم أرض فقراء قلبها إلى جنة غناء، وكم رابية حولها إلى سهل فحفر فيها الأنفاق والترع، ثم غرس فيها الأشجار فأتت كلها ولم يحفل بالراسيات من الجبل، بل تسنم الأطواد والأعلام وجعلها سهلة المرتقى، فأنشأ فيها المسالك والمجاري وبنى الحصون والمعاقل ثم سخر اليم كما سخر الأرض والجو وتغلب على الطبيعة.

وهذه الأكوام الذهبية من القمح، إلا تدل على قوة الإنسان وسلطانه، ألا تدل على الجهود التي بذلها الفلاح في تسخير الطبيعة؟ تقول الأساطير أن الناس تعلموا زراعة القمح من (أوزير يس) إله المصريين ومن (سيرس) ابنة زحل، لأن هذه الآلهة الشقراء تسهر على حصاد القمح كل أيام السنة. ولو بحثت عن تاريخ القمح لما تبينت له في ظلمات الزمان ابتداءً. فهل زرعته (سيرس) في حقول (الأنا) في سيسيليا، أم هل أنبته (أوزير يس) على

ص: 42

ضفاف النيل لأول مرة. لم ينبت القمح بقوة أوزير يس ولا بعناية سيريس بل نبت بقوة الفلاح. ولست تجد على وجه الأرض قمحاً ينبت بنفسه على الحالة الطبيعية، بل كل حقل من حقول القمح يحتاج إلى جهد إنساني عظيم. ولا تتحسن زراعته إلا إذا كان العمل دائماً. ولعله أحسن النباتات دليلاً على ضرورة استمرار الجهود وسرعة الإنتاج. فمن فلاحة الأرض إلى بذر القمح إلى حصاده ودرسه كل ذلك يقتضي عملاً سريعاً دائماً.

ثم إن الفلاح يرسل القمح على أجنحة البخار السريعة، إلى أقصى مناطق الأرض. فيملا به المخازن والمعامل. إن اختلاف الأقاليم، وتنوع صناعات البشر وحاجة بعض البلدان إلى القمح قربت المناطق بعضها من بعض فتولد من ذلك كله تجارة دولية ومصالح مشتركة عديدة. وربما كانت هذه المصالح أساس السلام العالمي لأنها وحدت عواطف الأمم. إلا أن القواد لا يزالون يتطاحنون في سبيل الأسواق التجارية ويحولون أكوام الذهب إلى رماد، والفلاح غير عالم بمصير القمح الذهبي الذي باعه لعملائه. ولو بعث اليوم أهل العصر الزراعي لتحيروا مما وصل إليه الفلاح في عصر الصناعة الكبرى من الرفاه والراحة. لماذا هجر الفلاح حقله واستبدل به المعمل؟ لم يأت إلى المدينة باحثاً عن مصير حبات القمح، بل جاء يطلب الرفاه هارباً من الجوع والفقر والألم. ولو وجد الرفاه في القرية بالقرب من أكوام الذهب لما ترك الحقل. فإذا أردت أن يبقى الفلاح في حقله فاقلب قريته إلى مدينة، وابنِ في حقله معملاً وجهزه بكل وسائل الرفاه، واستبدل جمال الطبيعة الساذج بجمال الفن الساحر. إن الفلاح الذي يسير الآلة أعظم من الفلاح الذي يبذر القمح بيده. والقمح في المعمل لا يقل جمالَا عنه في الحقل لأن الجمال الحقيقي هو جمال الإنسان لا جمال الطبيعة. أن الجنة لا تدخل بطن الأرض ألا بقوة الإنسان وإيمانه. ولم تكس أكوام القمح بهذا اللون الذهبي إلا لانتقال آثار الحضارة من جيل إلى جيل. كل حبة من حبات القمح تدل على عمل الإنسان وجهوده وإيمانه بالحياة والقوة والتقدم. فهو يثق بصناعته ويؤمن بنفسه وبالمستقبل ويعتقد أن الأرض التي قلب ترابها ستخضع للقيود التي قيدها بها. فالقمح لا ينبت بقوة الطبيعة، بل ينبت بقوة الفلاح. والفلاح لا يستفيد من قوة الأرض، بل من قوة الصناعة الإنسانية التي خبأتها الأجيال في التراب فكأن المخترع الذي أخترع المحراث لات يزال اليوم إلى جانب الفلاح يحرث الأرض معه. وكأن المدينة كلها موجودة

ص: 43

في كل حبة من حبات القمح.

جميل صليبا

ص: 44