الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كيف ينظر إلينا الغربيون
للأستاذ نافذ الغنام
اعتدنا نحن الشرقيين أن نسيء الظن بالغربيين وننظر إلى جميع أعمالهم نظر الحذر والارتياب. لا أريد أن ابحث في هذا المقال عما إذا كنا محقين في ارتيابنا المطلق من الغربيين أو إذا كنا مخطئين. فلربما كنا محقين ولربما كنا مخطئين.
إنما أريد أن أتناول ناحية أخرى من البحث وهي: هل ينظر إلينا الغربيون كما نتوهم نحن؟ وهل نحن بهذا التوهم مصيبون؟ فلأجل اصطياد الحقيقة التي نتوخاها لا بد لنا من تقسيم الغربيين الذين يحتكون بنا، حسب ماهيتهم ومآربهم، إلى عدة أقسام.
1 -
أصحاب المصالح السياسية والاقتصادية
هذا القسم من الغربيين مقيد في نظره إلينا بمصالحه، فهو معذور إذا صورنا كما تشاء له مصالحه. على أن ذلك لا يعني أنه يجهل حقيقتنا. فلربما كان أعرف منا بمزايانا ونقائصنا، وأكثر إطلاعاً على مواطن الضعف القوة من نفوسنا ومن أوضاعنا. غير أن مهمته تقضي عليه بنهج الطريق المؤدية إلى تحقيق أمانيه، أكان ذلك بإنكار ملا يسعه أنكران أم كانً بإثبات ما ليس له وجه من الصحة. فانا أستغرب من بعض الشرقيين كيف يطلبون إلى هذه الفئة من الغربيين أن تخالف مبادئها وتسير على عكس الخطة التي خطتها لها سياستها. فإذا كان لنا ما ندعيه فعلينا نحن - لا عليهم - إثبات ذلك وبرهانه. ولا أعتقد أن الحيلة تعوز الفتى أن نجيب أو الشعب المنظم.
2 -
العلماء والمدققون
هذه الفئة من الغربيين أقرب من الأولى إلى معالجة الحقائق الراهنة. غير أن نظرها إلينا يختلف أيضاً باختلاف غايتها. فإذا كانت غايتها سياسية فهي أقدر العناصر الغربية على تسخير العلم لخدمتها. ون عادتها أن تقول كلمتها بصراحة غربية وجرأة تقشعر ها الأبدان. وأما إذا لم تكن غايتها سياسية لكانت خالصة لوجه العلم والحقيقة رمقتنا عندئذٍ بعين الصدق والإنصاف.
فإذا شكت كانت شكايتها صادقة وإذا نقدت كان نقيضها، على مرارته صحيحاً وإذا هفت أو أخطأت فإنها أحسن ما تكون إصغاء إلى النقد والاعتراض وأسرع ما تكون مبادرة إلى
تصحيح خطأها مع الاعتذار. هؤلاء ينبغي علينا أن نحيطهم بالتجلة والاحترام، وأن نزوده بكل ما نستطيع من المعلومات الصادقة دون زيادة أو نقصان لا كما تشاء مبالغتنا للأمور. إلا إذا كانت غايتنا الدعاية على شرط أن تكون هذه مرتبة أحسن ترتيب. هذا النفر من العلماء والمدققين يتخذون من المعلومات التي نزودهم بها أثناء مكوثهم أو مرورهم ببلادنا أساساً يبنون عليه آرائهم وأفكارهم. فإذا كان ثمة شيء من النقد الجارح فأغلب ما يعود ذنبه علينا من جراء المبالغة وتشويهنا الحقائق. أتى قبل مدة إلى دمشق بحاثة غربي درس أحوال المدينة من أكثر وجوهها ثم أراد أن يختم درسه ببحثه عن منازل دمشق. فاعتمد في تنفيذ خطته هذه على بعض الدمشقيين الذين طافوا به على أجمل وأعظم منازل المدينة فحسب. ثم طلب بعد مدة من أحد سكان الصالحية مساعدته على زيارة بعض منازلها فأراه هذا نماذج من بيوت الفقراء ومتوسطي الحال والأغنياء. فسر الرجل لذلك وقال لصاحبنا: أشكرك على أمانتك وسلامة طويتك. لقد أردت أن تعطيني صورة صادقة عن أحوال بلادك ولكن أتدري ما الذي فهمت من زيارتي منازل دمشق؟ - لا - فهمت أنه لا يوجد في دمشق فقراء. لأن جميع المنازل التي زرتها كانت على جانب من الأبهة والزينة، يعيش سكانها في بحبوحة زائدة.
أراد البحاثة أن يشير بهذه الكلمة الأخيرة إلى أن الشبان الذين قادوه إلى زيارة منازل دمشق خدعوه مع أن مثل هذه الخديعة لا تنطلي على أبسط الناس. تلك هي إحدى النقائص المستحكمة في نفوسنا. نخدع في غالب الأحيان أنفسنا من حيث نحاول خدع الآخرين. والأغرب من ذلك أننا نكابر بالمحسوس ونعتقد أن هذه المكابرة التي شفت أنفسنا ستشفي نفوس الغربيين وتستدل الستار على ما نتصف به من الجهل والضعف. إننا لا نحتمل أن يقال لنا: أنكم جاهلون متأخرون. يغيظنا ذلك فننشط في الحال لنفي هذه التهمة بأسلوب خاص بنا ومنطق غريب فنقول: لا فرق عظيم بيننا وبين أرقى الأمم الأوربية ولكن شاء الحظ أن نكون محكومين.
هذه جامعتنا تخرج لنا في كل سنة عدداً من خيرة الأطباء والمحامين والأدباء. وهذا مجمعنا العلمي يضم بين أعضائه أكبر أدمغة العالم العربي. وه نحن أصبحنا لا نختلف بأزيائنا وملابسنا عن الغربيين. ونضيف على ذلك: إن السوري أذكى من الغربي حتماً فقد شهد
بذلك أكبر العلماء ويعجب بنبوغنا الأميركيون. بعد وصوله بمدة قليلة إلى أمريكا يبز السوري أقرانه من سائر الأمم الأوربية حتى الأميركيون أنفسهم إلى ما هنالك من الأقوال التي يقولها السواد الأعظم من المتعلمين. لقد اعتدنا أن ننحي باللائمة على هذه الزمرة من علماء الغرب ونتهمهم بالتعصب لأننا ننفر من النقد ولا نحب مجابهة الحقيقة. يكفينا أن نرى في أحد الكتب الباحثة عن سورية صورة جمل شد إلى الصمد مع بقرة هزيلة حتى نقول: أن صاحب هذا الكتاب يريد إهانتنا وتشهيرنا في بلاده. ألم ير في كل سورية صمداً كدن عليه زوج من البقر المعلوف؟. لا أرى في هذه الصورة قصداً للحط من كرامتنا إنما أراد صاحب الكتاب أن يشير إلى درجة فقر الفلاح السوري الذي لا يقوى في أغلب الأحيان على شراء زوج من البقر. إن أمثال هؤلاء الغربيون لا ينظرون إلينا في بعض الأحيان كما نريد ولكن ينظرون إلينا في غالب الأحيان أحسن مما نريد. إن السوري لا يزال أعجز من أن يدرك حقيقة نفسه.
3 -
الأدباء والفنانون
هؤلاء الغربيون ولاسيما المصورون منهم والرسامون الموسيقيون والأثريون والفلاسفة والمؤرخون والاجتماعيون ودققوا خصائص البلاد ومزاياها هم حملت الروح الجميلة والنفوس البسامة والقلوب النقية هؤلاء هم القوم الذين لا يحق لنا أن نسيء بهم الظن بوجه من الوجوه. بل ينبغي لنا أن نبادر إلى خدمتهم ونتقرب منهم لاقتطاف أعظم الفوائد الممكنة. إنهم أشبه شيء بأشعة الشمس الوضاءة لا يهمها إلى كساء البدائع المستترة ثوباً من البهجة والألوان القزحية والأنغام. نعم قد يسوؤنا أن يضمن أحد الأدباء الحياديين كتابه شيئا من النكات أو الصور الجميلة التي لا ظل لها من الحقيقة في بلادنا أو التي لا تنطبق على الواقع. ولكن هل الذنب ذنبه إذا كانت جمعيتنا موصدة الأبواب وإذا كانت أجمل صفحات حياتنا محتجبة وراء أسوار بيوتنا العالية، وكانت أسرار حياتنا المنزلية الساخطة على العالم الخارجي تخشى أن يلامسها شعاع من أشعة البحث والتدقيق. أما المصورون والرسامون وسائر الفنانين فسأل السوريين أن لا يظنوا بهم إلا أجمل الظنون. يرى هؤلاء الفنانون في بلادنا من الجمال ما لا نستطيع أن نراه. فقد تكامل ذوقهم إلى درجة لا يستطيع أن يدركها المجتمع السوري. فهم أشبه شيء بمن قال:
من كل معنى جميل اجتلى قدحاً
وكل ناطقة في الحي تطربني
لا تسيؤوا الظن برسام جالس على كرسيه الوطيء في زاوية من زوايا الأزقة المظلمة يرسم على صحيفة النسيج قوساً متهدماً مهشماً أو داراً بالية من دور أحيائنا القديمة. فالرسام الغربي لا يريد تزييفنا ولا يريد أن يشير بهذه الصورة إلى درجة تأخرنا في الحضارة ولكته ينشد البديع الغريب الذي يحسن تصويره، من شأن هذه الحضارة العصرية أن تسوي بين جميع الأشكال من بناء وملبس ومنظر. فهي بهذه الصورة تقودنا إلى وحد النسق التي تزهق أرواحنا باطراد ألوانها وتشابه أشكالها. فأعذروا الرسام الغربي الذي يلجأ إلى هذه المغاني التي يرفرف فوقها ورح البلى ممزوجاً بمعاني الشعر والخيال. ولا تستريبوا من مصور غربي يصور بآلته السائلين، يتجولون في الطرق بثيابهم الممزقة والفلاحين، والفلاحات، بملابسهن التي تظنونها غير مدنية. فهم لا يريدون أن يشهروها ف بلادهم للتنديد بنا والإشارة إلى تأخرنا، ولكن ليثبتوا على الشريط صوراً حيةً يبتهج لرؤيا ها أرباب الذوق الغربي. ولربما كانت مدعاةً لزيارة كثير من ثراة الغرب بلادنا وإنفاقهم أموالاً طائلة على التجول في أنحائها الغنية بالآثار.
وهؤلاء الفنانون يتكبدون عناء عظيماً في بلادهم للعثور على المناظر الغيبة والأماكن التي أعفت رسومها يد البلى وجار عليها الزمان وألبستها الفاقة ثوباً من التواضع والخشوع والهجران. وهل نستطيع أن ننكر فضل هذه الفئة علينا، وأثرها في تطور ذوقنا الفني. منذ عهد قريب بدأ السوريون في أكثر مدن سورية الداخلية والساحلية يبنون أبنيتهم على أحدث الأطرزة الغربية التي تلاءم شرائط بلادنا الطبيعية، أو على الطراز العربي - لاسيما الفاطمي ولمملوكي منه - بعدما أدخلوا عليه شيئاً من التعديل الموافق لشرائط الذوق والترتيب العصريين. ناهيك عن اهتمامنا في الوقت الحاضر بالأثاث والتحف والأدوات الشرقية التي كنا نجهل قيمة ودقة صنعها لولا أن مسح عليها هؤلاء الغربيون بآية من شعاع عبقريتهم ودقة التفكير. أخذت أكثر هذه الصناعات الشرقية وأخص منها الشامية تعود إلى الحياة بأشكال مأنوسة ووجوه باسمة يألفها الذوق العربي ويتعشقها الغربي.
نافذ الغنام