المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌مديح القمح نموذج من الأدب التركي. ترجم لنا الأستاذ نافذ الغنام هذا - مجلة «الثقافة» السورية - جـ ٥

[خليل مردم بك]

الفصل: ‌ ‌مديح القمح نموذج من الأدب التركي. ترجم لنا الأستاذ نافذ الغنام هذا

‌مديح القمح

نموذج من الأدب التركي.

ترجم لنا الأستاذ نافذ الغنام هذا المقال بعد أن

كتبنا المقال السابق فأحبنا أن نثبته إلى جانبه

في أواخر القرن التاسع عشر بدأت نهضة حديثة في آداب اللغة التركية أدت إلى نشوب حرب جديلة بين هواة الأدب القديم واتباع الأدب الحديث. انتهت هذه المعركة بفوز المجددين على المحافظين، وأخذت الآداب التركية، من ثم، تتقدم بخطى سريعة نحو الكمال العصري، تجاري آداب الأمم الغربية في كل مضمار. ظهر من هذه الفئة المجددة كتاب أداء وشعراء نابغوا الذكر كعبد الحق حامد، وتوفيق فكرت، وجناب شهاب الدين، وسليمان نظيف، وأحمد جودت، وعاكف، وأحمد هاشم، ورجائي أكرم، وعلي أكرم، وحسين جاهد، ورفيق خالد، وجلال نوري، وخالدة أديب وكثير غيرهم من فطاحل الأدب التركي. وألفوا في الرواية والقصة والتمثيل والوصف والبحث والنقد، ونقلت بعض آثارهم إلى اللغات الأجنبية ولكن لم تلبث أن بارت بضاعة أدبهم، على رونقها، بعد الحرب العامة نظراً لتغير شرائط الحياة الفكرية والسياسية والاجتماعية في تركيا. كان أدب هؤلاء الأفاضل غذاءً كافياً لروح العالم التركي في عهد السلطنة العثمانية ولكن لم يعد في الظروف الحاضرة يفي بأغراض الجمعية التركية الحديثة. فظهر في هذه الأيام أدباء حديثون مثل فالح رفقي، وفاروق نافذ، وناظم حكمت، وأور خان سيفي، وعمر سيف الدين، وصدي أدهم، وياشار نابي، ووالا نور الدين، وصلاح الدين أنيس، وسلامي عزت، ونجيب فاضل وكثير غيرهم من الأفذاذ الذين يحاولون أن ينفخوا في صدر العالم التركي روحاً جديداً، ويرشدوا النشء الحديث إلى أهداف الأمة السامية، ويجرؤون على اقتحام ساح الجد والجدال. غير أن قسماً من أدباء الدور العثماني لا يزالون يتمتعون بالشهرة التي يستحقونها ولا تزال تجد آثارهم عيوناً محملقة لمطالعتها وقلوباً واعية لجمالها. أذكر منهم جلال نوري بك، وحسين جاهد بك، وخالدة أديب خانم، ولاسيما رفيق خالد بك نزيل سورية منذ بضع سنوات واحد محرري جريدة (وحدت) التي تصدر باللغة التركية في حلب، وصاحب المقال المنشور أدناه.

ص: 45

ورفيق خالد بك هو من مشاهير الأدباء الرمزيين له كثير من المؤلفات التي تعد من أمهات الآثار الأدبية مثل (كيربينك ديدكلرى) أي ما قالته القنفذ، و (صاقين آلدانما أينانما قانما) أي إياك أن تنخدع أو تصدق أو تنع، و (برآووج صاجمة) أي قبضة خردق، و (برايجيم صو) أي شربة ماء وكثير غيرها. ترجمت مقالته الآتية (مديح القمح) إلى اللغة العربي، حين ظهورها، في جريدة (وحدت) منذ شهرين على التقريب لما فيها من الحقائق العلمية التي أحصاها لنا الأديب وقرب بين مختلف صورها البهية وألوانها الزاهية بحذاقة ورشاقة نادرتين.

نافذ الغنام

مديح القمح

يسترعي الآن نظري حقل القمح الوسيع متوقداً تحت أشعة الظهر توقد الكؤول الذي لا يظهر لهيبه في واضحة النهار. يدأب ههنا الحاصدون مجدين في بحر من النور والنيران كأنهم حشرات حقيرة سقطت في مياه غالية، تضطرب فيها وتختبط دون أن تستطيع منها خلاصاً. إن ناراً باطنية يذهب دخانها إلى جوف الأرض، لا إلى عنان السماء، صقلت الزرع صقلاً جميلاً بعد ما أذوته وحمسته، وقد كان أمس غضاً طرياً. تؤذي العين بين آونة وأخرى، إيذاء الأميال الحامية، لمعات من المناجل تلعب بالزرع وتميله أكداساً على الأرض. أنظر إلى هذه البوارق الخلابة تشع في حقول القمح الصفراء وأنا أفكر:

منذ أحقاب بعيدة لم يضبطها التاريخ عاش الناس خدماً وعبيداً من أجل القمح لا أذكر مادة كالقمح تثير بقلتها أو بكثرتها الثورات. القمح هو ثالث حاجات البشر بعد الماء والهواء. القمح هو الأقنوم الثالث الذي لا تتم بدونه معرفة الحياة. إن للقمح أثراً في أسباب الحرب والصلح والفتن والمعاهدات. القمح في حياة الدول كأصابع النساء، تبدو من تحت جميع المسائل والمشاكل، أعتقد أننا لا نعير البحار والموانئ والمخارج والموارد أهمية إلا من أجل القمح. تختبئ حبة القمح تحت أغلفة أكثر الأمور. بحبات القمح تكتب تواريخ الأمم. لا يوجد بين رجال الدولة من يضاهي القمح بأهميته. لو كان في خزائنه قمح لنجا لويس السادس عشر بنفسه وأنقذ عرشه بدون ريب. إن لانبار القمح من ألأهمية ما للثكنات.

إن الزروع تحمي الخيام كما تحميها الجيوش. تحتاج الجيوش إلى أكياس القمح قدر

ص: 46

احتياجها إلى الجند. خلاصة القول: الحرب تعنى القمح كما تعنى البارود. وأزيد على ذلك بأن القمح يعني الثبات والتقهقر والغلبة أو الانكسار.

بنظرة واحدة إلى مختلف الطرق المتبعة في زراعة القمح وحصده وطحنه وخبزه نستطيع أن نحكم بإصابة على استعداد أي أمة وعلى درجة تقدمها في الصناعة والحضارة. ليست الثياب وحدها هي التي تفرق بين القروي والمدني ولكن رغيفه وكيفية قضمه الرغيف أيضاً. إن أول آلة ننشؤها في القرية هي الرحى، وأول معمل نبنيه في المدينة هو الطاحون. إن البلدة تفكر بقمحها قبل كل شيء. تطلب كسرة الخبز قبل الطعام. نعود أولادنا على احترام الخبز. ونصيحتنا إلى شبابنا هي أكسب خبزك. الخبز والقمح مختلطان بكل دين ولهما محل في كل عقيدة وإيمان. فهما أعظم قضية وأهم مسألة اجتماعية تقلب الدنيا رأساً على عقب. يسعى العالم بأسره وراء الحنطة والخبز. فكأن البواخر التي تمخر عباب الماء وتلاطم الأمواج، وكأن القطارات التي تخرق الجبال وتقفز من فوق الهاويات كلها وسائط مسخرة لنقل الحبوب. وكأن الأسلاك والسكك والمراكب التي تربط أطراف القارات ببعضها أنشئت من أجل أسواق القمح وتجارته. أظن أن عدد الناس الذين تشغلهم في الأرض زراعة القمح وحصاده وخبيزه يكادان يساوي عدد سكان الأرض جمعاء. لا يوجد في الأرض عمل أو صناعة تبدل في سبيلها هذه الهمة ويمارسها هذا العدد من الناس. لا يوجد عامل أو زارع أو صانع يحترم قدر الفلاح. حتى زوج الفدان الذي يجر المحراث محترم في نظرنا أكثر من سائر الحيوانات.

القمح يعز الأرض التي يبذر فيها، ويدر البركة على اليد التي تلامسه ويبهج التراب الذي ينبت فيه، ويجعل لعام إقباله شأناً وصيتاً.

قد تنتظم الدنيا بدون ذهب ولا فحم ولا كتاب ولكن لا دنيا بدون قمح. إن في امتداد السهول الخضراء التي تصافح زروعها الآفاق معنى من معاني السلام وإن السنبلة المحمرة الملأى زينة وزخرف وأثر على جانب من الدقة والظرف. وهي كما تدل على البحبوحة والبركة لتدل أيضاً على الثروة والقوة والأمن.

يستطيع الناظر إلى السنبلة أن يتخيل عالماً وسيعاً. إذا تأملنا حياة القمحة انجلت أمام أعيننا صور حقيقية شتى نألفها في هذه الحياة: في أواخر أيام الخريف الصاحية، بعد هطول

ص: 47

الأمطار المدرارة، فلاحة الأرض بين صياح ونداء. تنقل الغربان شتاءً في حقول القمح المغطاة بالثلوج. وأخيراً خضرة الزروع تتموج برياها في الربيع. ثم نضوج الزرع واصفراره تحت أشعة الشمس المحرقة، فالبيادر فالدراس، كل هذه المناظر تعيش في مخيلتنا الواحدة تلو الأخرى. الأفران التي يلعب لهيبها الأحمر في بقعة هادئة. الخبازون بسوقهم وسواعدهم العارية. الأرغفة المصفوفة سخنة طرية إلى الفروش. أما أشد ارتباط هذه الصور بحياة الإنسان وما أكثر تكررها على ناظريه في كل يوم إن طواحين المياه لكثيرة الضوضاء وهي ظليلة وطيئة. وطواحين الهواء لكثيرة الصرير مستنيرة عالية. وإما الطواحين البخارية فكأنها قلوب الأرض التي هاج بها هائج، تحقق في صميمها وهي تدور مولولة صارخة. إن الناس يتأملون المناظر التي لها مساس بالقمح تأملا لا يفوقه تأمل. وتراهم يشغلون ويلهجون بأدوار حياة القمحة في كل عام. حتى الصعلوك الذي لا يملك زراع أرض أو صاع قمح يسألك باهتمام، كيف الزرع؟ فالقمح هو قريبنا جميعاً، وقريب كل مقطوع، ومشغلة تشغل حتى أغبى الأغبياء.

خلاصة القول: لا يجود في الأرض مسألة كمسألة القمح نشبت بشغاف القلوب وكما أن أصل الحضارة في حقل القمح فإن مخلب الحرب الدامية في مخزن القمح. الذين يتخيلون الأرض فوق قرن الثور مصيبون على شرط أن يكون ذلك زوج فدان.

رفيق خالد

ص: 48