الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصف الفني
لعز الدين التنوخي
الوصف لغة ذكر الشيء بحيلته ونعته، فالوصف والنعت لدى علماء اللغة مترادفان، وعند علماء الكلام متباينان، وبلغة المجاز يدل الوصف على الكشف والبيان. ومنه حديث عمر، رضي الله تعالى عنه، في الثواب الرقيق تلبسه الغانية وإن لا يشفّ، فأنه يصف إي أن ثوبها يصف برقته جسمها فيظهر منه حجم الأعضاء فشبه ذلك بالصفة كما يصف التاجر سلعته، والزارع غلته، والخاطب مخطوبته، والمفارق محبوبته.
والوصف الأدبي قديماً لا يختلف عن الوصف اللغوي كثيراً، فكان في النثر يجتزأ بذكر الموصوف ببعض حلاه ونعوته، وكان في الشعر يقتصر - كما سنورده على التشبيه غالباً، وإن كان هذا لم يمنع بعض أئمة الأدب من أشباه الجاحظ من الاهتداء أو المقاربة مما ينبغي أن يكون عليه الوصف، وهذا أبو هلال العسكري يقول في الصناعتين: أن أجود الوصف ما يستوعب معاني الموصوف حتى كأنه يصور الموصوف لك فتراه نصب عينيك.
ولكن السواد الأعظم من أدبائنا وشعرائنا لم يهتدوا لأصول الوصف، ومن ترك الأصول، حرم الوصول، ولذلك كان ما يستهوي القلب ويمتع العين من آثارنا القديمة قليلاً لا يروي غليلاً، ولو نضج فن الوصف على عهد استبحار حضارتنا، نضجه في الأدب الغربي اليوم، لعرفنا من تلك الحضارة السامية الفخمة ما لم نعرف ولرأينا من الصور الفتانة والمشاهد ما لم نشاهد، لأن الوصف الصادق من عوامل التبيين، لا من وسائل التزيين. أجل كان الوصف في الشعر والنثر من وسائل التزيين، وكان قوامه التشبيه ولو كان المشبه أوضح من المشبه به حين لا تدعو حاجة إلى محاكاة وتمثيل، ولم ينجم في عصرنا هذا من الوصافين البارعين نظير الأديب الكبير عبد العزيز البشري إلا باطلاعهم على أدب الغرب وآيات النابغين الناهبين فيه، ولو لم يطلع أديبنا البشري على أوصاف لابرويار فيسجاياهلما كتب له التوفيق بإتقان ووصفه البالغ فيمراياه.
ولولا بعض من أجاد الوصف من رجال الصحافة لضاعت على تاريخنا القومي والوطني حقائق جمة، ولخفيت صور مشاهد خطيرة ومع ذلك فنحن مقصرون كل التقصير في
وصف كثير من مشاهد التاريخ في دمشقنا المحبوبة، ومنبض فؤاد العروبة فمن ذا الذي وصف لنا نثراً خرائب حمام القاضي والميدان، وصفاً صادقاً يثير كوامن الأسى والأشجان، ومن الذي صورنا نحن الدماشقة في مرابع لهونا من الفوطتين، ومجامع أنسنا في النيربين، أو في مقاصف مصائفنا من الفيجة والزبداني ومضايا وبقين وبلودان؟ وأية لوحة وصفية خالدة لنا تصور جامع أمية قديماً، أو قصر أمية أخيراً أو تصور لنا هذه المدرسة العادلية الكبرى التي تضم ضلوعها على الملك العادل على المجمع العلمي وردهة محاضراته، وعلى دار الآثار وروائع طرفها. إن الوصف في لغتنا العربية لا يزال معظمها بعيداً عن التخصيص والتمييز فهو لا يصور لك الموصوف تصويراً يميزه عن سائر أشباهه ونظائره فتراه كما يقول صاحب الصناعتين نصب عينيك، ما بين يديك، فماذا سمعت شاعراً يصف لك دمشق مثلاً، ولم يذكر لك اسمها، تحار في الموصوف فتحسبه يصف لك القاهرة أو بغداد أو طهران، لجواز اتصاف المعزية، أو مدينة السلام أو طهران العجمية، بأوصاف دمشق العربية، كذلك إذا سمعت من ضروب الوصف مديحا أو رثاء أو هجاء ولم يذكر لك الممدوح أو المجروح، لم تعرفه مهما حذقت الكهانة، لأنه لم يوصف بالأوصاف الخاصة، والفوارق المميزة، التي تخرجه من زمرة أشكاله وأمثاله وهلم جراً من الموصوفات في لغتنا التي لا يخصصها ما اختصت به من سمات، ولا يميزها عن أشباهها ما امتازت به من صفات، وإنك لترى الشاعر أو الناثر إذا أكثر من الأوصاف المزوقة لا المحققة جمح به الوصف إلى الغلو والإحالة، مما يذهب ببهجة القول، ويطفأ نور الحق، ويبطل سحر البيان، خذلك مثلاً على ذلك قول الطغرائي يصف محمد بن ملكشاه السلجوقي، وقد عثرت على هذا القول اتفاقاً:
لجلال قدرك تخضع الأقدار
…
وبيمن جدك يحكم المقدار
ولك البسيطة حيث مدَّ غطاءه
…
ليلٌ وما كشف الغطاء نهار
. . . . . إلى أن يقول:
عم البرية والبسيطة عدله
…
فالخلق شخص والبسيطة دار
شكراً فقد أتاك ما لم يؤته
…
أحد سواك الواحد القهار
أصحيح ذلك؟ وهل يقول الحق إذ يقول:
تعظي وتمنع من تشاء بإذنه
…
فبكفك الأرزاق والأعمار
تتفاوت الأقدار ما بين الورى
…
فإذا ذكرت تساوت الأقدار
وأسوت جرح الحادثات وطالما
…
كنا وجرح الحادثات جبار
فهل صدق ليت شعري الطغرائي بهذه الصفات التي من جملتها أسو جرح الحادثات أم أن أعذاب الشعر أكذبه، وأعجبه أغربه؟
وإذا خطر لكاتب أن يصف بلدة قال مثلاً: بلدة ترابها عبير وحصباؤها عقيق وهواؤها نسيم وماؤها رحيق، كوكبها يقظان، وجوها عريان، يومها غداة وليلها سحر، وما أشبه ذلك من التفاهة والهذر، وتراه في وصف الحصن يقول: حصن كأنه على مرقب النجم، ومجير من القدر الحتم، يحسر دونه الناظر، ويقصر عنه العقاب الكاسر، يكاد من علوه يغرف من حوض الغمام، انتطق بالجوزاء وناجت يرجوه أبراج السماء، ونحو ذلك من الخرطوالهراء، هذا والحصن طبقة أو طبقتان من البناء، فكيف وماذا ليت شعري نقول لو أردنا أن نصف نواطح السحاب من الأبنية الأمر بكية وهي طبق، وقد تبلغ أو تتجاوز حد الأربعين من الطبقات فتنطح بالفعل الغيوم، وتكاد تصعد لتتحلى بالنجوم! ثم إذاهم بوصف دار سرية لم يستعمل من التعابير إلا ما لا معنى له مما يخصص دارا، ولا يصور منها شرفه ولا جدارا ولا يذكرها حيا ولا جوارا، كقوله مثلا: دار تخجل منها الدور، وتتقاصر لها القصور، هي دائرة الميامن ودارة المحاسن قد أخذت أداة الخنان وضحكت عن العبقري الحسان، يخدمها الدهر، وياويها البدر، ويكتفها النصر وهلم جرا.
وإذا أخذ في وصف روضة صورت فيها يد المطر أبهج الصور قال: روضة كالعقود المنظمة، على البرود المنمنمة، نشرت طرائف مطارفها، ولطائف زخارفها، فطوي لها الديباج الخسرواني، ونفي معها الوشي الأسكندراني كأنما احتفلت لوفد، أو هي من حبيب على وعد: كلام طلي مزخرف معسل، ولكنه لا يبلغنا من الوصف المأمول! هذه هي تعابير الوصف قديماً في النثر، وأما في الشعر فاسمع مثلاً ما يقول أبو الحسن اللامي تلبية لطلب عضد الدولة بن بويه في وصف شعب بوان، وانظر كيف ينطبق قوله هذا على غوطتنا الفيحاء وأشجارها وأطيارها وأنهارها:
أمرر على الشعب وأنزل روضة الانفا
…
قد زاد في حسنه فازدد به شغفا
إذ ألبس الهيف من أغصانه حللا
…
ولقن العجم من أطياره نتفا
وانظر إليه ترَ الأغصان مثمرة
…
من نازع قرطا أو لابس شنفا
والماد يثني على أعطافها أزراً
…
والريح تعقد في أطرافها شرفا
ويقول شاعر آخر في شيراز ما ينطبق على دمشق وبغداد، وبرلين ولينينغراد:
إن شيراز بلدة لا يكاد ال
…
طرف يأتي - وان تناهى - عليها
ليس تدري سكانها أسرور ال
…
نفس يأتي من خلفها أم يديها
لو رآها امرؤ وأدخل عدنا=سأل الله أن يرد إليها
وبما أن في دمشق ودمشقنا هذه الفيحاء مهوى أفئدة الشعراء، وفيهم من يقول فيها:
الشام شامة وجنة الدنيا كما
…
إنسان مقلتها الغضيضة جلق
وبما أن المتقدمين كانوا يعدون نزه الدنيا وجناتها أربعا وهي: غوطة دمشق ونهر الأبلة وصغد سمرقند وشعب بوان، ويضربون بكل منها المثل في الحسن والطيب وجمال المنظر، ويقول أبو بكر الخوارزمي: قد رأيتها كلها، فكانت غوطة دمشق أطيبها وأحسنها، ولم أميز بين رياضها المزخرفة بالأنوار والأزهار وغدرانها المغمورة بطيور الماء التي هي أحسن من الدراريج والطواويس، لذلك كله وبعد أن سمعنا ما قيل في وصف شعب بوان، المعدود من نزه الدنيا الأربع، وما سمعناه في مدينة شيراز المجاورة تغزل شعرائنا بالفيحاء، كقول ابن حمدان التغلبي فيها، ولولا ذكر أسمها في آخر مدينة ذات أشجار تجري من الأنهار:
جمعت مآرب كل ذي أرب
…
فيها ونخبة كل منتخب
فهواؤها تحيا النفوس به
…
وترابها كالمسك في الترب
تجري بها الأمواه فوق حصى
…
كرضاب ثغر بارد شنب
من كل عين كالمرأة صفا
…
أو جدول كمهند القضب
يشتق أخضر كالمساء له
…
زهر كمثل الأنجم الشهب
هذا ومن شجر تعطفه
…
يحكي الغطاف الجرد العرب
في فتية فطنوا لدهرهم
…
فتناولوا اللذات عن كثب
ماشئت من جود ومن كرم
…
فيهم ومن ظرف ومن أدب
متواصلين على مناسبة
…
بالفضل تغنيهم عن النسب
فالوصف على ذلك عندنا لا يقصد من أكثره على الغالب إلا الثناء والإطراء أو الإزراء والهجاء، لا تخصيص الأشياء وتميزها عن أشباهها تمييزاً يزيل كل لبس، ويرد الراحة إلى النفس، على أن لكثير من نوابغنا من الوصف الدقيق الروائع ما يكاد يستوفي شرائطه فيمثل الموصوف لعين القارئ فيصدق عليه انه أحدى الرؤيتين، وسنأتي من مثل هذا الوصف بأروع الوصف العربي معززة بروائع الصف الغربي من فرنسي وايطالي وإنكليزي وألماني وأمريكي، فان في المقابلة بين نماذج الوصف الفني في الأدبين العربي والغربي، وفي أنعام النظر في خصائص كل منها، ما يجلو لنا الفرق بينهما إي جلاء، وبضدها تتميز الأشياء.
عز الدين التنوخي