المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الخطر الأبيض يقول المؤرخ الألماني الشهيرأوسوالد شبنكلرفي كتابهتدهور الغربالذي أحدث ضجة - مجلة «الثقافة» السورية - جـ ٥

[خليل مردم بك]

الفصل: ‌ ‌الخطر الأبيض يقول المؤرخ الألماني الشهيرأوسوالد شبنكلرفي كتابهتدهور الغربالذي أحدث ضجة

‌الخطر الأبيض

يقول المؤرخ الألماني الشهيرأوسوالد شبنكلرفي كتابهتدهور الغربالذي أحدث ضجة عظيمة في العالم حين صدورهإن الفضل في توحيد حضارة الشرق يرجع إلى انتصار الإسلام الذي خضع له المسيحيون واليهود والعجم دون اختيارهم فتطوعوا في خدمتهوبتأثير الإسلام تطورت الحضارة العربية التي عندما كانت في أوج كمالها الفكري كان برابرة الغرب مدة فترة قصيرة يشنون الغارات وينهالون في قطعان لا تحصى على القدس فكيف كان العرب ينظرون إلى هذه الغارات الهمجية؟ لا شك في أن رجال السياسة العربية لم يكونوا يبحثون في أحوال بلاد الفرنج إلا بكل ازدراء واحتقار.

وظل الأمر كذلك في القرن السابع عشر. فإنه في أيام حرب الثلاثين سنة التي كانت من وجهة نظر الشرق محتدمة في مجاهلالغرب البعيدعندما حاول السفير الإنكليزي في استانبول تحريض المسلمين العثمانيين على آل هابسبورغ لاشك في أن جميع العالم الإسلامي كان يعتقد أن الخلافات بين هذه الدول الهمجية الصغيرة التي يغزو بعضها بعضاً دون انقطاع في أقاصي حدود المملكة الإسلامية لا تستحق شيئاً من الاهتمام في سياسة الإسلام من مراكش إلى الهند. بل من المحقق أن الكثيرين كانوا لا يزالون بعيدين عن التنبؤ بالمستقبل القريب حتى بعد قدوم نابليون إلى مصر. . .

حقاً لم يكن من السهل قبل عصر واحد فقط معرفة مدى التطور الصناعي الذي ساعد الأوروبيين في القرن التاسع عشر على اجتياح كل العالم والاستيلاء على معظم البلاد الإفريقية والآسيوية. ولايمكن المؤرخ المدقق أن يشبه هذه الغارة السريعة الواسعة إلا بفتوحات المغول والتتر في القرنين الثالث عشر والرابع عشر إنما تتضارب الآراء في تقدير نتائج هاتين الغارتين هل تكون الثانية كالأولى أي مقتصرة على زمن محدود يتغير بعده مجرى التطور التاريخي أم أن هناك فروقاً في تأثير كل واحدة منهما في حضارة البشر المستقبلة. فإن الأوروبيون ما برحوا يحاولون تصوير الوضع التاريخي الحاضر كأنه النظام الأبدي للكرة الأرضية ويكاد جميع الناس يعتقدون بأن الغربيين هم الذين وقع عليهم الاصطفاء ليسودوا العالم إلى الأبد دون منازع وهذا ما دفع إليه البشرية وإنه لا حياة لهم إلا بالاندماج في هذه الحضارة والخضوع لنواميسها.

ولكن في الشرق اليوم حركة جديدة أخذت تشعر بما يهدد كيان الحضارات الشرقية من

ص: 35

أخطار إذا هي تجردت عن مقوماتها واندحرت أمام هجمات الدول الغربية ويرى رجال هذه الحركة أن سيادة الغرب الحاضرة وسيطرته على جميع العالم في العصور المتأخرة لا ينبغي أن تكون أكثر من فترة تاريخية تنقضي بعد أجل محدود ربما كان ليس بعيداً. ولا يستبعد هؤلاء انتقال القيادة في خدمة الحضارة البشرية إلى الشرقيين من جديد كما كانت لهم قبلاً مدة عصور طويلة، ثم هنالك كثير من الغربيين والشرقيين يقولون متفقين، أنه ليس في خير البشرية أن تزول الحضارات المختلفة وتقوم مكانها حضارة واحدة وعلى الأخص حضارة مثل الحضارة الغربية التي تتسكع في طريق الرأسمالية القذرة وتتخبط في ظلمات المادية الدنسة والتي لا ينكر حتى أشد أنصارها تعصباً أنه يشوبها كثير من النقائص وأنها تلازمها الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية منذ ولادتها إلى يومنا هذا الذي انتشرت فيه الفوضى وساد الاضطراب وعم البؤس بسبب فساد هذه الحضارة. وأخيراً فإن التطور التاريخي منذ أول القرن التاسع عشر قد زاد في شقة الخلاف بين الشرق والغرب ويمكن أن ندعي أن الأوروبيين هم الذين اختلقوا هذه الفروق بينهم وبين الأمم الأخرى في آسيا وأفريقيا بعد أن عمدوا إلى جميع الوسائل للقضاء على كيان هذه الأمم ومحو آثار حضارتها القديمة فكان من الطبيعي أن يظن بهم الشرقيون أسوأ الظنون ويروا سيطرة الغرب مداهماً يهدد الشرق. . . .

لنستعرض قليلاً أقوال بعض الرجال البارزين في أوروبا عن علاقة الشرق بالغرب. فهذا الشاعر الانكليزي الشهير (رديارد كيبلنغ) يقول في أبيات مشهورة إن الشرق والغرب عالمان متباينان لا يمكن أن يلتقيان.

وهذا اللورد (كرومر) ثم حاول إثبات الاختلاف بين الشرق والغرب بذكر بضع نكات وفكاهات تافهة. فأدعى مثلاً الشرطة الهندية، إذا رأى في الطريق قطعة من الورق ربما يلتقطها ولكن بأصابع رجليه بينما زميله الإنكليزي يقبض عليها بيده وإن الشرقيين يسترون آذانهم قبل كل شيء إذا أشتد البرد بينما يسعى الأوربيون لإخفاء أنوفهم الحمراء. ربما كان في هذين المثالين شيء من الفكاهة تختلف الأذواق في تقديره ولكن الذي يصعب على أكثر العقول معرفة هو كيف يمكن الاستبدال من هذين المثالين وما شابههما على تباين الشرق والغرب في الحضارة. وهناك كاتب آخر يستشهد به اللورد (كرومر) وهو

ص: 36

السير (قورنوال لويس) فقد جمع قائمة من السخافات يعتقد أنها لإثبات وجود هوة سحيقة يستحيل اجتيازها إلى أبد الآبدين بين الغرب المتمدن الكامل والشرق المتوحش المتأخر. إن الإنسان يكاد لا يصدق صدور مثل هذه الأقوال السمجة عن رجال معروفين في الحياة الأوربية العامة فإن (لويس) يدعي أن الشرق يختص بالحكم الاستبدادي المطلق وتعدد الزوجات والرقيق والعقوبات القاسية والثياب الفضفاضة والشعر والتصوف وأما الغرب فيمتاز بالحكومة الحرة والزوجية الواحدة والحرية والفردية والعقوبات الخفيفة والثياب المنطبقة على الجسم وكتابة النثر التوصيفي إن مثل هذا الخليط من السخافات لا يمكن البحث فيه بحثاً جدياً ولا بد أن يتساءل المرء عند قراءة مثل هذه الأفكار الأوربية أليس أقرب إلى الحكمة منها تلك الكلمة الصينية المأثورة التي تقول أن دين البشر واحد في كل محل وإنما شكل العبادة الظاهري يتبدل حسب الظروف والأمكنة. إن الإنسان في حقيقته واحد دائماً وليس من تباين بين أعمق الأفكار والآمال والأماني البشرية سواء في الشرق أو الغرب أما مظاهر الحياة فإنها يجب أن تتبدل حسب تأثير الشروط الخارجية ولكن رغم تبدلها لا يصعب أن نتبين من ورائها عمل الإنسان الذي يبقى دوماً هو نفسه. كثيراً ما نعثر لدى بعض الكتاب على كلمةروح الشرقدون أن نعرف ماذا يقصد منها تماماً فكأنه في استطاعتنا أن نقسم الشعوب إلى طائفتين مختلفتين وأن نميز الشرق عن الغرب في حين أن الخلاف بين الياباني والهندي مثلاً أعظم بكثير منه بين الياباني والفرنسي. وهذا اللورد كرزم الذي عاش مدة طويلة في الشرق يقول أن الاختلاف بين الشعوب الآسيوية نفسها ابلغ منه في أية قارة أخرى فأن التركي مثلاً يختلف عن الألماني والياباني عن الفارسي أكثر من اختلاف البروسي عن الأسباني والهولندي عن اليوناني ونقدر أن ندعي أن الطبيعة البشرية لا يمكن أن تصطبغ بلون القارات بل إن تنوع مظاهرها تابع لظروف كثيرة في كل قارة. ويمكن أن تتفق الشروط والظروف في بقعتين من قارتين مختلفتين فتتشابه الأحوال البشرية فيهما ولذلك لا يجوز أن نستعمل جزافاً اصطلاحات مثل روح الشرق أو الفكرة الآسيوية لأن في ذلك من التعميم والإطلاق السريع ما لا يتفق مع الواقع.

ولكن يظهر أن بعض الكتاب السياسيين يروق لهم لغايات معروفة زيادة شقة الخلاف بين الشرق والغرب ولهذا تراهم لا ينفكون يتكلمون عن تباين الأقوام. ماذا يريد هؤلاء الكتاب

ص: 37

من تأكيد الاختلاف بين ما يسمونهروح الغربوروح الشرق؟ ولماذا لا يلتفون إلى مثل ما كتبه طالب صيني في أحدى المجلات الإنكليزية إذ قال، مخاطباً الغربيين: تذكروا إننا نحن الشرقيين أيضا بشر وإن الفرق بين الشرق والغرب إنما هو فرق في درجة التطور لا في أصل الطبيعة أو الخليقة. ونحن من أهل الشرق لا نفهم لماذا يستحيل علينا أن نقوم بالأعمال التي يقوم بها الأوربيونويكفي أن نذكر اليابان لنتيقن من صدق هذا القول. فإن هذه الأمة الشرقية قد أصبحت في برهة قصيرة جداً في عداد العالم العظمى تزاحم الغربيين ليس في ساحات الحرب والسياسة فقط بل في ميادين الاقتصاد والعلم والفن أيضاً. على أنه مما يدعو إلى التأمل أن يقوم بعض رجال السياسة الغربيون، على أثر انتصار اليابان على الروس وطرد الصينيين لبعض الفضوليين من جماعة المبشرين فيخترعون كلمةالخطر الأصفرلأجل التهويل وتحريض الجماهير. لقد خاف هؤلاء الساسة من بزوغ نهضة شرقية تقضي على مطامعهم في السيطرة على العالم وإخضاع جميع الأمم لسيادتهم فأخذوا يدعون أن توحيد صفوف الدول الغربية للقضاء على آثار الحياة والنشاط التي بدأت تظهر في مختلف أنحاء الشرق وردد كثير من الكتاب كلمةالخطر الأصفر وكان إمبراطور ألمانيا ويلهلم الثاني لا يترك فرصة دون أن يذكر الأوربيين بهذا الخطر العظيم الذي يهدد العالم وهو لا يقصد من وراء ذلك إلا نيل مساعدة الدول في إبقاء (كياتشاو) لألمانيا. حينئذ تنبه الشرقيون، على اختلاف بلادهم، إلى مقاصد الساسة الغربيين الحقيقية وعرفوا أن هذا اللغط المستمر بذكر التباين بين الشرق والغرب لا يقصد منه سوى إثبات فضل الأمم الغربية على غيرها وتفوق حضارتها كما أيقنوا أن ترديد كلمة الخطر الصفرإنما يراد منه تحذير الدول الغربية من نهضة الشعوب الشرقية وتشكيل جبهة واحدة لمناوئة هذه النهضة.

لم يكنالخطر الأصفرفي الحقيقة إلا وهماً وهما اختلقته رجال السياسة. ولكن التمسك به هو الذي دعا بعض المفكرين في الشق إلى المقابلة بالمثل فقاموا يذكرون الجماهير بالأخطار التي تهدد حضارات الشرق من سيطرة الغربيين. ولما أخذ الشرقيون يبحثون في المسألة من وجهة نظرهم ظهر لهم أنهم ما زالوا منذ منتصف القرن التاسع تجاه خطر عظيم يهدد كيان حضاراتهم ويكاد اليوم يقضي عليها وهذا الخطر هو ما يمكن أن نسميهبالخطر الأبيضجرياً على اصطلاح الغربيين أنفسهم الذين يحشرون الأمم الأخرى جميعاً تحت

ص: 38

اسمالأقوام الملونة.

وهذا الخطر حقيقي لم تنتبه إليه الأمم الشرقية في حينه ولم تقم بالوسائل اللازمة لاتقاء شره قبل أن يستفحل أمره فوقعت الآن بين براثينه وأصبحت مهددة بالموت والاضمحلال. إن هذا الخطر مما يقلق راحة جميع الآسيويين إليه كغول مرعب يهدد الشعوب الشرقية في أعز الأشياء لديها: في استقلال بلاد أجدادها وفي عاداتها الموروثة وفي عقائدها وتقاليدها وفي آدابها وفنونها وجميع مظاهر حضاراتها الخاصة. ولاتقاء هذا الخطر قامت حركة الجامعة الآسيوية الجديدة التي يقول عنها الكاتب اليابانيأوتوسوكه وأكاميا) أنها ترمي إلى الوقوف في وجه النفوذ الأمريكي والأوروبي وجعل آسيا للأسيويين فإن الأسيويين يطالبون باستقلال الحضارات الأسيوية وتنميتها لتستطيع الانتصار على الحضارة الغربية التي جميع الظواهر على إفلاسها وتدهورها. وفي برنامج جمعية آسيا جاءت هذه الكلمات: أن آسيا تفوق جميع القارات الأخرى في اتساع مساحتها وكثرة عدد سكانها وغزارة منابع الثروة الطبيعية فيها. ولذلك فإن جميع الحضارات الراقية قد نشأت في آسيا كما أن جميع الحكماء العظام قد ولودوا في هذا القسم من الكرة الأرضية. ويمتاز الآسيويون بالعادات النبيلة والتقاليد الشريفة وسمو العقيدة، إنه في خير البشرية وحضارة العالم أن ينهض الآسيويون ويعلموا يداً واحدة لهذه الغاية. . .

ص: 39