الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قصة هذا الجيل
للأستاذ عزة النص
مدير التعليم الإبتائي
في الرياضة الفكر على النقاش والجدل متعة وفائدة. وإذا لم نجن منها فائدة قريبة فنحن نستمتع بعض الوقت بما تتركه في نفوسنا من نشوة ولذة، فتعالوا نتناقش. . .
ولعل خير أسلوب للمناقشة أن نسوق المقدمات ونتفق على صحتها ثم نتدرج منها إلى النتائج، فهلم نسلك معاً هذا الطريق، طريق السادة المناطق. . .
ومن أوليات المنطق أن يكون هنالكقضيةتوضع موضع البحث، وقد فرض علينا القائمون على هذه المجلة موضوعاً معيناً وهوالمدرسة والمجتمع. وهي_كما ترى_قضية لا يبت فيها برأي قاطع بل تحتمل ألجدل والحجاج، فليس في المسألة هنا قولان. . . بل أقول وأقول.
ولعل في حصر الموضوع وتحديده ما يعين على بحثه ومعالجته، فلا أراني بحاجة لأن آتيك بالبينات التواضع على أثر المدرسة في المجتمع. . .
فهذا أمر مفروغ منه وقد اتفق عليه جلة أهل الفكر وإنما المهم أن نعمل الرأي في أمور ثلاثة هي:
1_
هل كل شيء في مجتمعناً يجريعلى أحسن ما يرام في أحسن عالم ممكن؟!
أم يبدو لك أنه يحتاج إلى قدر يسير أو كبير من هذه المادة العجيبة التي يسمونها الإصلاح؟!
2_
هل تقوم مدارسنا بأداء نصيبهم_ولو قليلاً_من هذا الإصلاح؟
3_
كيف تستطيع مدارسنا الاضطلاع برسالتهم في المجتمع على وجه أكمل؟
وشرطنا في البحث حرية معقولة في الرأي، فلك أن تدلوا بدلوك في عدد ثان من هذه المجلة وتزعم أن مجتمعنا مثل فذ في المجتمعات، وجيلنا آية فريدة في الأجيال. . . ووردت لو استطع تصدقك ولكن الحقيقة المائلة تجذبني بعنف من علياء القمر إلى سطح الأرض، أن لم يكن تحت سطحها بأمتار. . .
أنا أزعم أن مجتمعنا سديمي لم يتكتل وتبرز عناصره ويستقر على فلك معلوم. فلست أرى فيه صخرة ثم تكوينها بل لا أشاهد فيه بعد مظهراً من مظاهر التضاريس الثابتة. . . ولا
يعكس المنظار إلا هواء وأهواء. . .
وما يكون حالة مجتمع قضى قروناً أربعة في ليل برم؟! ولما غمرته موجة النور كانت نواظره قد الفت الظلمات فغدا يفتح الجفن على خوف وحذر ثم يغلقه وينعم بالظلام المألوف!
أربعة قرون ظالمة مظلمة تمخضت فولدت أبناء هذا الجيل. . . وحسبي أن أقص عليك سيرة واحدة منهم لتعرف قصتهم جميعاً. فهم سواسية كأسنان المشط، خلقهم الله من فصيلة واحدة على نموذج موحد، أن لم يتشابهوا في الخلقة وبنية الجسم فهم متشابهون في الخلق وبنية العقل، وأن تفاوتوا في السن فأعمارهم العقلية متقاربة على كل حال.
أنا أزعم أن مجتمعنا يتميز_أكثر مما يتميز_بالنزعة التجارية. .
فنحن مضرب المثل في معرفة مأتي الربح والغنيمة مما كان السبيل إليها. .
ولو وقف الأمر هنا لهان الخطب، ولكن غريزتنا التجارية النامية تسيطر على ألبابنا ومشاعرنا فأصبحت لنا أخلاق تجارية عريقة وعقلية تجارية مهنية.
أنا أزعم أن إنسان هذا الجيل تاجر مراب في كل شيء. . . في حبه وبغضه، ووده، وكرهه، وتدينه، وإلحاده، وحزبيته، وحياده وعلمه_وكدت أقول وجهله أيضاً. . . فالمدرسة والبيت والوظيفة والحانوت والحياة كلها. . عند الإنسان هذا الجيل، تجارة ترتكز إلى أساس صلد مكين من الأثرة وحب الذات. وصاحبنا_إنسان هذا الجيل_مولع بالغزو والسطو فأن لم يستطع بيده فبقلبه ولسانه، ونحمد الله على أن القوانين الوضيعة قد حدث الغزو باليد وبقي الغزو باللسان والقلب.
هذا الكائن الحي لا تستسيغ نفسه فضيلة التعاون. . وهو حسود كنود سباب عياب مغتاب شتام هدام. . وما شئت أن تضيف إلى ذلك. . .
وكان إلى عهد قريب يعيش مع ذويه ضمن إطار الأسرة فكان له من فضائل التعاون الاجتماعي نصيب العصبية القبلية على الأقل. . . فلما أخذ بالمدينة الحديثة وتحلل من قيود الأسرة أضاف إلى الأسرة التجارية الموروئة ميزة الانفرادي، فكان يقولنحنويريد أسرته وذويه فأصبح ألان لا يعرف إلاأنا. . .
هذا الكائن الحي يسألك بلهفة أين كنت؟ وماذا أكلت؟ إلى أين أنت ذاهب؟ وكيف حالك؟ فلا
تحسبن ذلك منه دليلاً على الود والولاء. . . وإنما هو يتحرى في قرار نفسه أن يعرف إذا كنت أحسن منه وأوفر مالاً وهو يألم غي قرار نفسه أن تكون أحسن منه حالاً وأوفر مالاً.
ووليد هذا المجتمع يتحدر من قوم آلفوا_في عهد بني عثمان_إظهار الفقر وارتاحوا إلى الشكوى، لئلا يتهموا بجريمة الثروة أو يظن بهم اليسار فيعرف ذلك الجابي والوالي. . . رحم الله بني عثمان، ما أشد مذاجتهم، فلقد كان أجدادنا يتملصون من دفع الإتاوة بلبس الرث من الثياب، ودنانيرهم الابريزية مدفونة في التراب أو في حنايا الجدران: أين بنو عثمان من الملك الغربي الذي كان يقول لمن ينفق عن سعة: أنك تصرف فأنت إذن غني، فيجب أن تدفع، ويقول لمن لا ينفق: إنك لا تصرف فأنت إذن تدخر فيجب إذن أن تدفع، فما كان ينجو منه غني فقير!
وصاحبنا من قوم أولعوا بالإمارة ولو على الحجارة. . . صغيرهم ككبيرهم زعيم حاكم يأمره يأبي ويطلب أن يطاع.
وهو بعد من أمة لا تعرف التوسط في الحب والخصام ولا تقف بعنفها عند حد معقول مقبول، الحب عندها كالبغض يرغي ويزيد وينقم ويهدد ويشتم ويهدم. ولا تسلني كيف ولد صاحبنا_إِنسان هذا الجيل_ومتى ولد؟ فقد حملت به أمه في جو محموم مسموم وقذفت به لهذا العالم في جو محموم مسموم: ضيق يد ومجاعة وخوف وهلع وحروب وثورات على الترك والإفرنج. وجو مثل هذا حليق بأن يخرج جيلاً عصيباً سوداوياً مضطرباً مكتئباً مهموماً. . إِنه جيل زئبقي ينتقل بسرعة الكهرباء من قطب الخير إلى قطب الشر، وهو إلى الشر أسرع.
جرب مرة أن تحصي عناصر الخير والشر فيما يدور حديث بين أبناء هذا الجيل واعمل (نسبة مئوية) ثم احكم. .
لقد خرج هؤلاء الأبناء إلى عالم الكون والفساد وهو في بحران مد لهم: أجنبي أحمق يدعي انه جاء ليعلم الكياسة، أجنبي لص يزعم انه جاء لينشر الحضارة ويفرض الكرامة. . إنه نشر الجهل والفقر والمرض.
ومهما يكن من أمر فلقد كان من لهذا الأجنبي البغيض فضل على الأبناء هذا الجيل لم يقصد إليه عن طوع فقد جمعهم على عداوته ووحد بين قلوبهم على كرهه فتعاونوا على
طرده وخذلانه، تسلقه ألسنتهم تدمير حجارتهم وتصم آذانه أصوات حناجرهم: وآل التعاون إلى ما يؤول إليه كل تعاون على البر، فزال الأجنبي ولكن الغرائز المكبوتة لم تزل والعضلات الضامرة لا تنفك بحاجة إلى رياضة، والحناجر الغضة لا بد لها من الاستمرار في المران. . .
لقد تمرد هؤلاء الأبناء على آبائهم وتحللوا من طاعتهم، ومن آباؤهم؟ جهلة لا يعرفون العلوم العصرية ولا يوطنون بالغة الأجنبية، وهم بعد في شغل عنهم: الآباء في المقاهي والأمهات في الحفلات، والجو المنزلي لا حب فيه ولا تعاون. وبعد أتحسب أنني استعرضت لك جميع عيوب الجيل؟ لا، أنا لم أذكر إلا أهونها.
قيل أن (روسو) فكر في خير السبل لتحقيق مبادئه في الإصلاح الاجتماعي والسياسي فوجد أنجحها تهيئة جيل مستعد لهذا الإصلاح عن طريق التربية، فهل مدارسنا تعمل على ذلك؟
لقد ذهب أبن الجيل إلى المدرسة_وقد رأيت تراثه الضخم بالعلل الخفية والظاهرة_فماذا وجد فيها؟
وجد فيها الحساب والهندسة والجبر والفلك والمثلثات والفيزياء والتاريخ الطبيعي والتاريخ والجغرافية الخ. . . . لكنه لم يجد لم يجد ما يقوم نقائصه ويسدد خطاه. أن كل شيء يسير في مدارسنا كما لو كان التلميذ فيها سوياًً حلوقا بريئاً معتدل المزاج. . . . يحتاج فقط إلى كمية لا بأس بها من المعلومات، وكأن مشاكل المجتمع لا وجود لها وكأن جميع تلك العلل لا أثر لها.
أنا أفهم المدرسة بأنها (تأخذ الطفل كما هو وترده كما يجب أن يكون).
أنا أفهم المدرسة بأنها مكان يصلح فيه ما أفسده المجتمع فتدرس فيه أخلاق كل تلميذ ومواهبه وميوله وعواطفه وتوجه الوجهة الحسنة.
مجتمعنا بعوزه التعاون ونحن نعود الأبناء في المدارس على التنافس والتزاحم وكان بوسعنا أن نعلمهم التضامن المبدع في الألعاب الرياضية والأشغال والمشاريع المشتركة.
مجتمعنا يعوزه الحب الصحيح فهل في مدارسنا آثر لهذه الحب بين التلميذ ورفاقه وبين المعلم وتلاميذه؟
إن مدارسنا تحوي على مقاعد وألواح ومناضد وخزن وكتب ودفاتر. . . . وفيها معلم يتكلم ويسمع وتلامذته يتكلمون ويسمعون، وأي شيء من ذلك يمت إلى الحياة بصلة؟ إننا اليوم نعلم (بالجملة) لا (بالمفرق)، نسوق تلامذتنا كالقطيع بعصا واحدة، مدارسنا_في وضعها الراهن_معامل لإخراج أصحاب شهادات أي تجار علم لكنها لا تخرج علماء ومفكرين، لم تعجب لعقمنا في الإنتاج الأدبي والعلمي؟ هل يكون الإنتاج إلا بالمطالعة المستمرة وهل أساليبنا في التعليم تعود على ذلك؟ من المقبول أن تكون الجامعات مركزاً (لتعليم البحث) ومن المقبول أيضاً أن يكون (نصيب التعليم) أكبر من (نصيب التربية) في المدارس الثانوية أما في المدارس الابتدائية فيحسن أن يكون رائدنا فيها قليلاً من التعليم مع كثير من التربية)، بل يمكن أن نكتفي بالمدارس الابتدائية بالمهنتين الأساسيتين: القضاء على (الأمية الأخلاقية).
نحن نبالغ جداً في فائدة التعليم في المرحلة الابتدائية فنفرض على الطفل أن يتعلم فيها الأسس الأولى لجميع العلوم، فمت إذن نتفرغ لمراقبة نمو ملكاته ونزعاته وتكون عاداته وأخلاقه؟ لقد أخذنا أمداً طويلاً بالحكمة القائلة (العلم في الصغر كالنقش على الحجر)، فهل أنت معي قي زيادة كلمة واحدة على هذه الحكمة فنقول (العلم في الصغر كالنقش بالماء على الحجر)!؟
لست أميل إلى التربية_روسو_السلبية فأرغب في ترك الطفل للطبيعة حتى سن الثانية العشر، وإنما أحسب إننا نحسن صنعاً في إهمال التعليم المحض إهمالا كبيراً حتى سن التاسعة على الأقل. . . .
أيها السادة المعلمون أنا أعرف حق المعرفة صفوفكم المكتظة بمئات الكتل البشرية التي نسمها الأطفال. وأعرف حق المعرفة تعزر القيام بعمل تربوي في صفوف كهذه يمكن أن نسميها كل شيء إلا أنها صفوف مدرسة. وهذا موضوع المناقشة، فهل تستمر على سياسة (الكم) في التعليم أم نجنح إلى سياسة (الكي_ف)؟
يزيد أطفال سورية سنوياً خمسة وأربعين ألفاً، وتعليمهم يقتضي كل عام زيادة ألف معلم وفتح مائة مدرسة على الأقل، فكيف السبيل إلى تعميم التعليم مع تطبيق الأساليب التربوية الحديثة؟
لكل مشكلة حل أو عدة حلول، فهل ترى فرض ضرائب غير مباشرة جديدة باسم التعليم أم عندك حل أخر؟
المهم أن نعرف ما نريد ثم نحاول معرفة السبل الموصلة إليه، إننا نريد مدارس حية تعد التلميذ لحياة أمثل ومدارسنا اليوم لا تفي بهذه الغاية.
يقول (ديوي) في كتاب (التربية والاجتماع): أن مركز الجاذبية في التعليم الحاضر هو خارج الولد أي في المعلم والكتاب وأن شئت وفي أي شيء شئت، عدا كونه في غرائز الولد وقواه وحياته، فيجدر بنا تحويل مركز تلك الجاذبية، وعلينا أن نقوم بالانقلاب الذي قام به (كوبر نيكوس) بنقله مركز العالم الفلكي من الأرض إلى الشمس، فيصبح التلميذ شمساً تدور عليه عوامل التهذيب.
عزة النص