الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثقافة الأثرية
للدكتور سليم عادل عبد الحق
محافظ دار الآثار الوطنية في دمشق
متحف اللوفر من أحب الأماكن إلى باريس. وقد زرته للمرة الأخيرة لما رحلت منذ شهرين إلى هذه المدينة. فلفت نظري كثيرة الزحام وتدفق الناس في قاعدته وأبهائه وجلهم من الرجال التعليم والطلاب، وأدهشني الجهد الكبير الذي يبذلونه والانتباه العميق الذي يصرفونه في تفهم آثار الحضارات الماضية ومخلفات القرون الخالية. ففي الآثار الأشورية رأيت أستاذاً يشرح لطلابه خصائص النحت في عصر صارغون وبالقرب من المصطبة المصرية شاهدت مربية مسنة تحدث طالبتها عن طريقة التحنيط والدفن لدى المصريين القدماء، أمام الدرج الكبير المنتصب وسط القاعات الإغريقية_الرومانية التقيت بفئة من الأحداث قد أحاطوا بتمثال ربة النصر المعروف باسم ساموتراس يرسمونه على دفاترهم ليبقى وضعه الجميل مائلاً دوماً في خيالهم. وكذلك كان الأمر في قاعات التصوير الحديث، فهنا سمعت ملاحظة من أحد المحضرين وهم كثر، عن فنرفائيل، وأفدت نادرة عن الحياة ليونار دوفيس، وهناك طرقت مسامعي قصة أعرفها عن روبنس والتقطت المعلومات عن رامبرانت ذكرتني بما كان يحدثنا به أحد أساتذتنا عن تصوير الهولندي، في معهد الفن والآثار الباريسي منذ سنوات مضت. ولم تنته الزيارة حتى شعرت أن المتحف كبير ينبع لثقافة أثرية وفنية كبيرة وأنه مدرسة دائمة يجد فيها المثقفون لذة فكرية لا تعادلها لذة أثناء تفرجهم على نفائس الماضي.
ذكرت بأسف مرير عجز متاحفنا السورية عن مجارات المتاحف الأوربية لضعف وسائلها المادية، وخلوها في أكثر أيام الأسبوع إلا من موظفيها ومن محتوياتها. يطلع علينا في كل بضعة أيام زائر أجنبي، وفي كل شهرين تلاميذ صف من صفوف الثانوية أو الابتدائية يملئون المتحف بضجيجهم وضوضائهم. ولا يكادون يصغون إلى الدليل الوحيد المكلف بتعريفهم ما لدينا من ماديات. واهتمامنا بآثارنا غير النقولة لا يفوق اهتمامنا بما في متاحفنا، فينذر أن يسمع عن شخوص أعضاء نوادينا وجمعياتنا الثقافية إلى مناطقنا الأثرية عن عمد وعلى غبر نية النزهة وقد حدثني أحد زملائي وهو مكلف بالعناية بآثار بصرى
أن طلاب مدرسة عالية من دمشق قصدوا مدينتنا للتفرج على آثارها النبطية والعربية وغيرها. فلم يكن لهم في برنامجنا رحلتهم إلا دقائق معدودة يقضونها داخل القلعة.
ويعلل زهد الناس في زيارة متحفنا وعدم اندفاعهم إلى رؤية أبنيتنا الأثرية التي تملأ مدننا وقرانا، بنقص الثقافة الأثرية في بلادنا وقلة شيوع النتائج العلمية التي وصلت إليها الباحثون والمنقبون بين الطبقات المتعلمين، وأنصرف عامتنا حتى يومنا هذا عن دراسة مخلفات أجدادنا المادية فإذا كان لنا عذر في تقصيرنا هذا أثناء العهد السياسي الذي سبق عهدنا الاستقلالي والذي صرفنا معتمداً عن الاهتمام بهذه الناحية، فلزام علينا وقد أصبحنا نسير دفة سفينتنا بأنفسنا أن نسعى بأقرب ما يمكن لتدارك النقص فنولي الآثار شطراً كبيراً من عنايتنا، لأن بلادنا غنية جداً بها فأطلال تدمر وبعلبك ومخلفات المدينة البيزنطية وقصور الأمويين ومساجد وقلعت الحصن والأوابد الأيوبية والجوامع التركية مضاف إلى الآثار التي تحويها متاحف دمشق وحلب والسويد وغيرها تؤلف مجموعا كبيرة يندر وجودها في بلد أخر. ومن الضروري أن ينشر باللغة العربية جميع ما عرف عنها وأن تعرف جميع خصائصها وميزاتها.
وفي الحقيقة أن الثقافة الأثرية من مقومات المدينة الحديثة وأن الفوائد المرتجاة من تعميمها بين أفراد الشعب من جانب كبير على أهمية. فهي تقدم إلى الفنانين والصناع المعاصرين مجموعة من الأشكال والنماذج جديرة بأن توحي إلى خيالهم وأن تحسن إنتاجهم بما تحتويه من دروس وعظات بالغة. ورجوع أصحاب الفن إلى الماضي لاستنطاق مألوف لدى كل الشعوب وفي كل العصور نسرد للتذكر أمثلة يعرفها كل الناس. فقد استلهم فنانو النهضة الأوربية من آثار المدينة الإغريقية_الرومانية في إيجاد فنهم العظيم الذي عاشت عليه أوربا قروناً عديدة، واستوحى إبداعيو القرن التاسع عشر في تكوين فنهم الرومانطيقي من مخلفات القرون المتوسطة، ونستفيد نحن الآن في فن بنائنا المعاصر من الآثار الأيوبية والأندلسية والتركية. وأخيراً فإن تقليد صناع الزجاج والفخار والمجوهرات والحلي والثياب وغيرهم ما أنتجه من تقدمهم في الماضي القريب والبعيد معروف شائع منذ القديم الزمان وحتى يومنا هذا.
على أن الغاية من الثقافة الأثرية ليست فحسب اجتباء نفع مادي مباشر. لأن الاشتمال
والاهتمام بالآثار فاعلية غير مادية من أهم خصائصها أنها تشبع في النفس الرجل المثقف حب الاطلاع والخيال والرغبة الملحة في معرفة ما كانت عليه حياة الأمم في الأزمنة الماضية، وما قدمه المصريين القدماء والكلدانيون والإغريق والرومان والعرب وغيرهم إلى المدنية التي تنعم اليوم بثمراتها. وفي الواقع إن حياتنا الحاضرة ما هي إلا خاتمة للعهود التي سبقتنا. فالمخترعات الحديثة التي تقوم عليها مدنية العصر الحاضر نتيجة لمحاولات قام بها البشر من أنفع الأشياء لنا. لأن ذكائنا وأحاسيسنا وإراداتنا كلها قد تأثرت بذكاء وأحاسيس وإرادة آبائنا وأجدادنا. ونحن نحتفظ بفكرنا بآثار أفكارهم ولزام علينا إذا أردنا أن نعرف أنفسنا وأن نلقي نوراً على أشكال فاعليتنا المادية والمعنوية أن نرجع دوماً إلى الماضي. ويقول (ديونا) العالم الأثري السويسري: إن البشرية مؤلفة من أموات وأحياء، والأموات أكثر بكثير من الأحياء. وهم أقوى منا لذلك فأنهم يوجهوننا دوماً. ونحن نعيش في ظل المبادئ الحقوقية والقوانين التي أوجدها ونسكن المنازل التي بنوها أو التي اهتدوا إلى نظريات بنائها، ونستعمل الأدوات التي ابتكروها. لقد كانوا أحياءً مثلنا وكان لهم نفس الحاجات التي تعتلج في نفوسنا، وقد خضعوا لنفس الضرورات الجسمية والروحية التي نخضع لها. وفي الحقيقة إِن جيلاً واحداً من الأحياء لا يعد شيئاً بالنسبة إلى الأجيال التي سبقته إذا فكرنا أن الإنسان ظهر في حوض البحر التوسط وبدأ يصنع مدينته منذ 100،. . . سنة قبل المسيح وربما أكثر. فما هي إرادتنا اليومية بالنسبة إلى الإرادة العالمية البشرية التي عمرها آلاف القرون؟
ويقول برغسون متكلماً عن التطورات الطارئة على حياة البشر والبادئة بالمبتكرات الفنية التي يهتم بها علم الآثار: بعد آلاف السنين عندما لا تترك أنقاض عصرنا إلا خطوطاً عامة في تاريخ الإنسان فإن حروبنا وثوراتنا سوف تنسى ولن يحسب لها إلا حساب ضئيل، ولكن الآلة البخارية مع ما يؤلف موكبها من المخترعات الجديدة سوف تجعل الأجيال الجديدة تتكلم عنصرنا كما نتكلم نحن عن العصر الحجري أو النحاسي أنها ستؤلف عصراً جديداً. . ولو عاش برغسون حتى يومنا هذا وسمع بالقنبلة الذرية لأبدل وأعلن انبثاق عصر الذرة الجديدة.
ومهما يكن فأن علم الآثار وتاريخ الفن لا ينفصلان عن التاريخ الإنساني الواسع، وهما
الأساس الضروري الذي يبنى عليه. فليس إبطال التاريخ الحقيقي، السياسيون والملوك ورجال الحروب. أنهم مبتكرون والمبدعون في كل المرافق الفنية الذين يستطيعون بعبقرية تفكيرهم أن يجعلوا الفنون الإنسانية تتقدم وتتطور. ومنهم رجال العلوم المصرفون لذكاء الإنسان الذي ساعد الرجل الابتدائي أن يرتفع فوق مستوى الحيوان ومنهم الذين يكتشفون نظريات في العمل جديدة أو يطبقون نظريات غيرهم فيتوصلون إلى طريق جديدة للسيطرة على المادة ويستطيعون أن ينقلوها بآثارهم إلى غيرهم.
وعلى هذا فأن العالم يوقظه المشتغلون بالآثار هو عالم حي فالمعابد آلهتها والقصور المتهدمة التي يسعى، في الاحتفاظ بها أو إعادة تشييدها كما نفعل في إعادة تشييد جناح من قصر الحير في متحف دمشق، والتماثيل المحطمة والمجبورة والتي لم يبقى إلا جزء منها، والأدوات القديمة المختلفة التي تجمع في المتاحف، تحوي كلها وراء موتها الظاهري حياة الماضي الذي أوجدها في مظاهر المختلفة الفردية والاجتماعية، وفي حاجاتها المتواضعة والمرتفعة. فإن كان التعليم بشكله الحالي عندما يمجد العمل الإنساني ويمنحه عناية فائقة، فكم تزداد الفائدة منه عندما تمجد برامجه ورجاله الماضي أوسع مما هي عليه الآن، فيوضح إلى التلاميذ المراحل التي اجتازها الإنسان منذ الآفة السنين في تطور منتجات عمله من منشآت وفنون وأشكال وأدوات وما إلى ذلك.
فالثقافة الثرية تصبح بتماسها مع التربية ذات دور اجتماعي خطير ويزداد بل الغاية المتوخاة منها. فهي ليست دراسة سلسلة من الأعمال الخاصة من الحجر والفخار والمرمر والبرونز والعاج وغيرها. إنها تمجيد العمل الإنساني في كل العصور والأزمنة عندما ينعكس في المادة الصماء ويجعلها حية ملائمة لانفعالات نفسه ولحاجاته العملية.
أضف إلى كل ما تقدم أن من شأن الثقافة الأثرية تغذيه الشعور الوطني. فحي الوطن يبدأ بحب المنزل وكما يقول (فيستل دو كولانج): إن الوطنية تقدس الماضي وتعلم احترام الأجيال التي سبقتنا والأشياء المادية المتوارثة من عصر إلى عصر بما فيها من أحجار منحوتة وأبنية قديمة وأوابد من جميع الأصناف تتكلم بإفصاح أمام النضر الذي يعرف كيف يرى وكيف يقدر، وتبعث ماضي الأمة فتجعله جزأً من أنفسنا. وليس من بلاد تتراكم فيها أثار الماضي كسورية. فكم من مدنيات نشأت في ربوعها منذ ما سكنها البشر في
العصر الحجري القديم وكم من عهود زاهرة مرت عليها كانت فيهالا متزعمةً حركات التطور العالمي، بل كم كان حظها، وافراً وإنتاجها رائعاً، خلال العهود الهلنستية والرومانية والبيزنطية والأموية والأيوبية. إن في تربتها غريزة الخلق والإبداع التي أنتجت مدنيات على مواسم متوالية بحصاد رائع وافر. وهل غير علم الآثار ما يعرفنا بميراث هذا الإبداع ويصل شخصيتنا الحاضرة بالشخصيات أجدادنا الذين عاشوا في عصور ما قبل التاريخ.
لقد أعارت الجنة الثقافية في الجامعة العربية، الناحية الأثرية ما تستحقه من عناية فاقترحت لإكمال ثقافة الرجل العربي المعاصر وللمحافظة على الآثار جملة اقتراحات منها إتباع نظام تكون أسسه العامة واجدة في قوانين الحكومة العربية المشتركة في الجامعة العربية، وتعميم الثقافة الأثرية عن طريق الدعاية بالأفلام السينمائية والمحاضرات والمجلات والنشرات والإذاعات وتنظيم الرحلات وتبادل البعثات والعلماء الأثريين وإصلاح الدراسات الأثرية والتاريخية، وتبادل واستعارة الآثار. وقد أقرتها لجنتنا الثقافية وأضافت إليها مقترحات أخرى ولا بد أن كل ذلك قد أصبح من جملة مواد المعاهدة الثقافية التي وقعها ممثلو الأقطار العربية والتي لم تنصلنا نصوصها بعد.
فلكي لا تبقى هذه المقترحات حبراً على ورق نتمنى أن توضع في القريب العاجل موضع التنفيذ، ويرجو كل المشتغلين في مصلحة الآثار القديمة السورية من كل المثقفين ولا سيما رجال التربية والتعليم منهم أن يساعدوهم على تطبيق هذا البرنامج الكبير الذي يرجى منه خير عميم.
سليم عادل عبد الحق