المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌تذوق الجمال للأستاذ نعيم الحمصي لا بد من تربية الذوق الفني العام - مجلة «المعرفة» السورية - جـ ١

[عادل العوا]

الفصل: ‌ ‌تذوق الجمال للأستاذ نعيم الحمصي لا بد من تربية الذوق الفني العام

‌تذوق الجمال

للأستاذ نعيم الحمصي

لا بد من تربية الذوق الفني العام لدا الطفل صغيراً ليتذوق الأدب وينتجه كبيراً،

إذا كان الأدب هو القول الجميل، فمهمة مدرس الأدب هي أن يأخذ بيد طلابه فيجعلهم يتلمسون مواطن الجمال في القول، وأسبابها بما عندهم من استعداد فطري وذوق فني، حتى يشعروا في أعماق نفوسهم بهذا الجمال المؤثر، تمهيداً لأن يخطو بعد ذلك الخطوة التالية، فينشئوا هم أنفسهم أدباً قوياً، يستطيعون به أن ينقلوا تجاربهم النفسية ويعبروا عن خلجات ضمائرهم، وهذا يكون برياضة أقلامهم على الكتابة في الموضوع الذي يروق لهم اعتمادهم على تجاربهم النفسية خاصة منذ سني الدراسة.

ولكن مدرس الأدب الآن لا يحاول أن يطلعهم على مواطن الحسن في الكلام، حتى يصطدم بما يشعره بالحيرة والعجز. وذلك لأنه يدرك بأن الطلاب لا يستجيبون له استجابة فنية تتسم بالصحة والقوة وبالعمق والصدق، وإنما يقفون أمامه مشبوهين، حائرين، فإن استجاب له نفر منهم بعض الاستجابة، فاستجابة سطحية، ضعيفة، مريضة، كاذبة، وهي من النوع التقليدي الذي لا يقوم على شخصية أصبح فيها التذوق الفني العميق طبعاً ودياً.

وعبثا يحاول المدرس أن يبين لهم ما في الأثر الفني من دقة في التصوير، وجمال في التعبير، وخيال رائع، وموسيقى أخاذة، ومهارة فائقة في وضع الكلمات والجمل والفقرات مواضعها، فهم لا يستجيبون له إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه، وما هو ببالغه، وقد يغرر كثير من المدرسين بأنفسهم، فيزعمون بأن الطلاب قد شاركوا الأديب في أثره الفني المشاركة الضرورية الكافية لأنهم يسمعون الطلاب يعيدون جملهم أو جمل المؤلفين الذين كتبوا عن الأديب كما هي، بما تحمل من أعجاب وتقدير أو نقد لاذع أو تهكم أو لأنهم فهموا ما في أثر الأديب من أفكار رئيسية أو جزئية هي العنصر العقلي في أثر الأديب وليست كل ما فيه من عناصر يجب مشاركته فيها، وأوجه الطلاب تنطق في غالب الأحيان بأنهم فهموا النص، ولكنهم لم يتذوقوه ولم تترنم روحهم به ترنما يدل أنه أصبح قطعة من أنفسهم، وإذا كان الطلاب عاجزين عن تزوق الأثر الفني، فهم عن فقده أعجز، والنقد مرحلة تأتي بعد المشاركة والتذوق، أما الإنتاج الأدبي فلا ينتظر منهم على أية حال لان

ص: 37

أول سمات المفتش المنتج هو عمق الإحساس الفني عمقاً يصل به غالباً على الذهول عن ما حوله والاستغراق في سكرته الفنية الخصبة وحلمه المنتج.

فلا ينتظر من المدرسة الثانوية والحالة كما ترى أن تؤتي أكلا وتكون أدباء بفضل مناهجها وأصول التدريس فيها والفضل في ظهور أدباء فينا لا يرجع إلى حالة تدريس الأدب بل إلى قوة موهبتهم الفنية وإلى بيئتهم الخاصة التي لا دخل للمدرسة بها، والتي توفر لهم فيها نمو ذوق فني كاف في مظاهره المختلفة من ذوق تصويري أو موسيقي وغالباً لا يبلغ هذا الذوق الذروة التي كان يمكن أن يبلغها لو أن مدارسنا كانت أكثر عناية بتنمية الأذواق الفنية وغرس حب الفنون في نفوسنا.

وضعف التذوق الفني والإدراك البديعي لدى الطلاب لا يرجع إلى أنهم لا يفهمون معاني المفردات أو الجمل أو المعنى العام، وإنما يرجع_في نظري_أولاً وقبل كل شيء إلى ضعف الطلاب في تذوق الفنون الجميلة الأخرى من رسم وموسيقى ورياضة، وقد يعجب القارئ من وضعي الرياضة في زمرة الفنون الجميلة، ولكن لا داعي إلى هذا العجب إذا أدركنا أهمية الرياضة البدنية الصالحة في تكوين الذوق البديعي الصحيح وسأوضح هذا بعد قليل، ونحن لا نستطيع أن نثير في نفس الطالب نفس الإحساس الفني الذي كان يخضع له الأديب حين إنتاجه أو نثير صورة مصغرة عنه إلى إذا كان الطالب بذور القوى والمؤهلات التي أجمعت، فساعدت الأديب على تصوير تجربته النفسية ودقائق حسه بعناصر كثيرة كلها تتصل بالأذواق الفنية من موسيقية وتصويرية وغيرها.

وليس عند الطالب هذه القوى والمؤهلات لتذوق الأدب والمشاركة فيه، وهم لا يستطيعون بعث تجربة الأديب جديدة في نفوسهم، لأنه لم تتح لهم التربية الذوقية الفنية الضرورية منذ صغرهم، ولم يسبق لهم أن يستشفوا بعيونهم الجمال العميق الكامن في تناسب أقسام الزهرة، وتناسق ألوانها بصورة عميقة، كما لم يوجهوا لأن يتغلغلوا بعيونهم، فيستجلوا بها ما وراء الجمال السذج السطحي الذي يدركه رجل عادي لم ينل أي نصيب بين تهذيب الذوق العام، ولو أن الطالب كان يحسن التصوير والرسم، ونميت ملكته فيها لكان له شأن آخر في إدراك الجمال، وما تقول في الجمال المدرك بالعين، والذي يمكنه أن يراضي الذوق فيه وينميه بممارسة الرسم، تقوله أيضاً في الجمال المدرك بالأذن الذي تتخذ

ص: 38

الموسيقى طريقاً لتنمية الذوق فيه، فالطالب قد يقطع البيت من الشعر، ويعرف وزنه، ولكنك لا تشعر أنه متأثر بموسيقاه، وأنه أدرك الصلة الموسيقية بين المعاني بين الألفاظ، ومقدار توفيق الشاعر في انتخاب الألفاظ ذات الجرس الملائم للمعنى المقصود، ونحن لا نريد منه من أن يدرك هذا إدراكاً عقلياً، وأن يبرهن عليه، وإنما نريد أن يستطيع إدراكه بحدس الفني المكتسب بالمران، وأن تظهر عليه المشاركة العاطفية والفنية للأديب.

وما ندركه من ضعف في الذوقين التصويري والموسيقي، ندركه أيضاً في تصوير الجمال البديعي المتعلق بجسم الإنسان، فالطالب لا يزال عنده بعض التأثر بمقاييس الجمال القديمة في العهد التركي التي رضعها مع لبن أمه، فترى الطالب_أو الطالبة_ميالاً لأن يكون ممتلئ الجسم امتلاء يبعد عن الرشاقة والتناسق في الحركات وإن كان قد حصل في هذه الناحية بعض التحسن فلم تعد الأجسام الممتلئة كثير مما يجمل في الأعين، إلا أن ما يعده الطالب من الأجسام رشيقاً ويعد وسطنا الاجتماعي معه، كذلك، ل يعد رشيقاً في نظر غيرنا ممن سما ذوقهم ونما أكثر منا.

ول تخفى الرابطة القوية بين نمو الذوق العام لدى الإنسان مبين ذوقه في الحسن الجسماني، فكلاهما يؤثر في الآخر وليس من سبيل إلى تحسين ذوقنا البديعي المتعلق بالجمال الجسماني إلا الرياضة العلمية التي تقضي على مخلفات الذوق المريض القديم الذي أكتسبنا إياه عصور الاستعباد الماضية، بما كان سودها من كسل، ويفشو فسها من ترهل في الأجسام.

وأنا مع القائلين بأن الذوق في الإنسان يؤلف وحده عامة منسجمة، وأن ضعف الذوق أو مرضه في ناحية ما مدعاة للضعف في الناحية الثانية، وأن السبيل إلى تقويم الذوق العام وتحسينه، هو العناية بالفنون الجميلة جميعها، وحمل الطالب منذ دور الحضانة على تذوق الجمال، والعمل على تنمية ميوله البديعة، وتقوية إحساسه بالألوان، والتفريق بينها، وإدراك المؤتلف منها، والمتنافر، وعلى تغذية ميله الموسيقي بإسماعه القطع الرائعة، وتعلميه العزف على الآلات الموسيقية، وبدون هذه التربية الذوقية المنظمة لا يمكن أن يكون لدى الطالب أحساس بالجمال، وإدراك لجمال القول في نص أدبي لم ينتجه إحساساً عميقاً جعله يستشف بعينه، ويشمع بأذنه ما لا تراه عين الرجل العادي ولا تسمعه أذنه.

ص: 39

ولا يجب أن نرجع باللوم عل الطلاب إذا لم يستطيعوا تذوق جمال القول تذوقاً كافياً، طالما أنهم لم ينالوا قسطهم من العناية بأذواقهم الأخرى حينما كانوا صغاراً، وقد أدرك القدماء هذا الاتصال الموجود بين الفنون الجميلة، فأفلاطون يرى أن الأدب تصوير يقلد به الأديب الطبيعية، وأرسطو يرى أنه ليس مجرد تقليد، ولكنه تصوير فيه تحسين الطبيعة، ثم لا يسهو أرسطو على الرابطة القوية الموجودة بين الأدب والموسيقى فيعنى بالكلام عليها.

والطالب في بيئتنا لا يمكنه أن يستفيد ذوقاً فنياً كافياً صحيحاً من عائلته، ويكفينا لندرك هذا أن نرى كيف تقضي عائلته سورية وقتها في نزهة أو وقت راحة لها، وكيف تقضي نفس هذا الوقت عائلته عن أمة أخرى يهتم جماعاتها وأفرادها بتنمية الذوق الفني في صغارهم. فنحن نقضي أغلب وقتنا هذا في الطبخ وفي أكل الموالح (من حمص ولب) والأفراد الذين ل يشتركون في إعداد الطعام يجتمعون قعوداً قريباً من الماء ليلعبوا بالورق أو بالنرد حتى إذا نضج الطعام، أنضم إليهم من كانوا يعدونه فإذا انتهوا منه اشتغلوا في تنظيف الأواني، وهكذا يمضي اليوم أوجله في الأكل وملحقاته، فالذوق ذوق معده لا أكثر من هذا ولا أقل، ولن يقتبس الطفل عن أهله غيره. أما غيرنا فينصرفون في هذا اليوم عن إعداد الطعام الكثير، ويكتفون بالقليل منه الذي يسهل إعداده، لينصرفوا إلى مزاولة بعض الألعاب الرياضية الخفيفة وسماع الموسيقى أو الرقص على أنغامها فأن شذ على ذلك واحد منهم فليقف أمام لوحة وبيده ريشته ليصور مشهداً راعه، ولهذا لا نعجب إذا رأينا أكثر الغربيين يحسنون الرسم والتصوير، ويتذوقون الموسيقى بل قل أن يجهل واحد منهم العزف على آلة الموسيقى عن لم يحسن العزف على أكثر من آلة ويتذوقون_جلهم إن لم نقل كلهم_آدابهم القومية تذوقاً يشاركون به الفتن في فنه، أما عندنا فقل أن ترى ذلك، وهذا الذوق الفني البديع النامي عند غيرنا يساعد على وحدة الشعور في البلد الواحد، ويشارك في طبعه بطابع واحد، ويساعد عندنا الذوق المريض على اختلاف الأهواء وتمزيق البلد الواحد.

إن ذوقنا المريض هذا يظهر في كثير من الصور التي نعلقها على جدراننا، أو يعلقها الباعة في حوانيتهم، وتمثل القيح والسقم بكل معانيهما، ويظهر في كثير من القطع الموسيقية أو الأغاني التي نسمعها، فأكثر الناس لا يعجب بالقطعة إلا لأنها شاعت بين

ص: 40

الناس، وقسم كبير منها لا يشيع إلا لأنه يرضي فئة كبيرة من ذوي الذوق المريض.

ويظهر ذوقنا المريض أيضاً في كثير من الشذوذ الاجتماعية التي نراها تقع كل يوم والتي يشمئز منها كل فكر.

وإذا كنا عن تذوق الجمال المدرك بالحواس عاجزين وإذ كنا لا نميز بين الخبيث والطيب فنحن عن تزوق لا الجمال الروحي والمعنوي أعجز وإذا كانت عائلة الطفل وبيئته لا تساعدنه في ظروفنا الحاضرة على خلق الذوق الفني لدى الطفل أو تنميته فواجب المدرسة مزدوج وعليها تعهد ذوق الطفل بالتربية وبدون هذا الذوق العام المتعدد النواحي لا يمكن للفرد أن يتذوق الأدب تذوقاً صادقاً سليماً وقبل أن أتكلم عن العناصر الأخرى التي بدونها لا يتذوق الأدب والتي تتصل بفن القول والبيان كالدقة في فهم الألفاظ واختلاف معانيها باختلاف وضعها بالجملة، وقوة إيحائها، وغيرها من عناصر الجمال في القول، أذد أن أتكلم عن الفنون التي تشترك في تكوين الذوق العام، كالموسيقى والرسم والرياضة البدنية وهل أدت مدارس الحكومة واجبها حتى الآن؟ وما نواحي العجز والقصور في وضعها الحالي؟ وماذا يجب أن نعمل لنقوي هذه الأذواق لدى الطلاب لأهمية هذه الأذواق والميول في نفسها من جهة، ولأنها حلقات متصلة بحلقة الأدب الذي لا يعيش قوياً إلا بذوق عام قوي من جهة؟ وأترك الكلام على هذا إلى الأعداد القادمة من هذه المجلة.

تجهيز حماه

نعيم الحمصي

ص: 41