المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ثانيا: ضمان سلامة دور العبادة - التعايش مع غير المسلمين في المجتمع المسلم

[منقذ السقار]

الفصل: ‌ثانيا: ضمان سلامة دور العبادة

‌ثانياً: ضمان سلامة دور العبادة

وإذا لم يجبر الإسلام من تحت ولايته على الدخول فيه؛ فإنه يكون بذلك قد ترك للناس حرية البقاء على أديانهم، وأول مقتضياته الإعراض عن ممارسة الآخرين لعباداتهم والسماح بها، وضمان سلامة دور العبادة.

وهذا - بالفعل - ما ضمنه المسلمون في عهودهم التي أعطوها للأمم التي دخلت في ولايتهم أو عهدهم، فقد كتب النبي صلى الله عليه وسلم لأهل نجران أماناً شمل سلامة كنائسهم وعدم التدخل في شؤونهم وعباداتهم، وأعطاهم على ذلك ذمة الله ورسوله، يقول ابن سعد:"وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسقف بني الحارث بن كعب وأساقفة نجران وكهنتهم ومن تبعهم ورهبانهم: أن لهم ما تحت أيديهم من قليل وكثير، من بيعهم وصلواتهم ورهبانهم، وجوار الله ورسوله، لا يغير أسقف عن أسقفيته، ولا راهب عن رهبانيته، ولا كاهن عن كهانته"(1).

ووفق هذا الهدي السمح سار الخلفاء الراشدون من بعده صلى الله عليه وسلم، فقد ضمن الخليفة عمر بن الخطاب نحوه في العهدة العمرية التي كتبها لأهل القدس، وفيها:"بسم الله الرحمن الرحيم؛ هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبريئها وسائر ملتها، أن لا تُسكن كنائسهم، ولا تُهدم، ولا يُنتقص منها ولا من حيزها، ولا من صليبهم، ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يُضار أحد منهم .. وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين "(2).

ولما خاف عمر بن الخطاب رضي الله عنه من انتقاض عهده لأهل القدس لم يصل في كنيسة القمامة (3) حين أتاها، وجلس في صحنها، فلما حان وقت الصلاة قال للبترك: أريد الصلاة. فقال له البترك: صل موضعك. فامتنع عمر رضي الله عنه وصلى على الدرجة التي على باب الكنيسة منفرداً، فلما قضى صلاته قال للبترك:(لو صليتُ داخل الكنيسة أخذها المسلمون بعدي، وقالوا: هنا صلى عمر).

وكتب لهم أن لا يجمع على الدرجة للصلاة، ولا يؤذن عليها، ثم قال للبترك: أرني موضعاً أبني فيه مسجداً فقال: على الصخرة التي كلم الله عليها يعقوب، ووجد عليها دماً كثيراً، فشرع في إزالته" (4).

وقد نقل هذه الحادثة بإعجاب المستشرق درمنغم في كتابه " The live of Mohamet" فقال: "وفاض القرآن والحديث بالتوجيهات إلى التسامح، ولقد طبق الفاتحون المسلمون الأولون هذه التوجيهات بدقة، عندما دخل عمر القدس أصدر أمره للمسلمين أن لا يسببوا أي إزعاج للمسيحيين أو لكنائسهم، وعندما دعاه البطريق للصلاة في كنيسة

(1) الطبقات الكبرى (1/ 266)، وانظر كتاب الأموال، ابن زنجويه (2/ 449).

(2)

تاريخ الطبري (4/ 449)، ويجدر هنا التنبيه إلى أن الصيغة التي أوردها ابن القيم رحمه الله في كتابه "أحكام أهل الذمة" للعهدة العمرية لا تصح، وقد نبه العلماء على ضعف سندها، فقال الألباني:" وإسناده ضعيف جداً من أجل يحيى بن عقبة، فقد قال ابن معين: ليس بشيء. وفي رواية: كذاب خبيث عدو الله. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال أبو حاتم: يفتعل الحديث ". إرواء الغليل (5/ 104).

(3)

سميت كذلك لأن اليهود كانوا يلقون في مكانها القذر قبل أن تطهره هيلانة أم الامبرطور قسطنطين، وتتخذه كنيسة. انظر: تاريخ ابن خلدون (1/ 435).

(4)

تاريخ ابن خلدون (2/ 266)، وانظر: الخريدة النفيسة في تاريخ الكنيسة، الأنبا ايسذورس (2/ 97).

ص: 17

القيامة امتنع، وعلل امتناعه بخشيته أن يتخذ المسلمون من صلاته في الكنيسة سابقة، فيغلبوا النصارى على الكنيسة"، ومثله فعل ب سميث في كتابه: "محمد والمحمدية" (1).

وبمثل كتاب عمر لأهل أورشليم كتب رضي الله عنه لأهل اللُد في فلسطين.

وبمثله أيضاً كتب عياض بن غنم رضي الله عنه لأهل الرقة، ولأسقف الرها (2).

وحين فتح خالد بن الوليد دمشق كتب لأهلها: "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى خالد بن الوليد أهل دمشق إذا دخلها أماناً على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وسور مدينتهم لا يهدم، ولا يسكن شيء من دورهم، لهم بذلك عهد الله وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء والمؤمنين"(3).

وتضمن كتابه رضي الله عنه لأهل عانات عدم التعرض لهم في ممارسة شعائرهم وإظهارها: "ولهم أن يضربوا نواقيسهم في أي ساعة شاءوا من ليل أو نهار، إلا في أوقات الصلاة، وأن يخرجوا الصلبان في أيام عيدهم"(4).

وفي عهد التابعين أكد أمراء المسلمين وفقهاؤهم على ضمان دور العبادة لمواطنيهم من غير المسلمين، فكتب الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز إلى عماله:"لا تهدموا كنيسة ولا بيعة ولا بيت نار"(5).

وحين أخل بعض حكام المسلمين بهذه الحقوق؛ اعتبر المسلمون ذلك ظلماً محرماً، وأمر أئمة العدل بإزالته، وسعوا في إبطاله، ومن ذلك أن الوليد بن عبد الملك أخذ كنيسة يوحنا من النصارى قهراً، وأدخلها في المسجد، فاعتبر المسلمون ذلك من الغصب المحرم، فلما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة؛ شكا إليه النصارى ذلك، فكتب إلى عامله يأمره برد ما زاد في المسجد عليهم، فاسترضاهم المسلمون، وصالحوهم، فرضوا (6).

كما شكا النصارى إلى الخليفة عمر بن عبد العزيز في شأن كنيسة أخرى في دمشق أقطعها بعض أمراء بني أمية لبني نصر، فردها إليهم (7).

وفي القرن الهجري الرابع وقعت فتنة بين المسلمين والنصارى فهدم المسلمون ونهبوا أربع كنائس «فرفع النصارى الأمر إلى المقتدر فوقَّع لهم ببنيان هذه الكنائس» (8).

وفي سرده لأحداث سنة 767هـ ذكر ابن كثير أن الأفرنج دخلوا الإسكندرية، وففعلوا بأهلها الأفاعيل «وعاثوا في أهلها فساداً، يقتلون الرجال، ويأخذون الأموال ويأسرون النساء والأطفال .. وقد أسروا خلقاً كثيراً يقاومون [أي يزيدون على] الأربعة آلاف، وأخذوا من الأموال ذهباً وحريراً وبهاراً وغير ذلك ما لا يحدُّ ولا يوصف ..

(1) نقلاً عن التسامح والعدوانية، صالح الحصين، ص (120 - 121).

(2)

انظر: فتوح البلدان، ص (205).

(3)

أخرجه البلاذري في فتوح البلدان، ص (166)، وانظر كتاب الأموال، ابن زنجويه (2/ 473).

(4)

أخرجه أبو يوسف في الخراج، ص (175).

(5)

أخرجه أبو عبيد في الأموال، ص (138).

(6)

أخرجه أبو عبيد في الأموال، ص (223)، وانظره في فتوح البلدان، ص (171 - 172).

(7)

أخرجه أبو عبيد في الأموال، ص (223)، وانظر الأموال، ابن زنجويه (1/ 388)، وفتوح البلدان، ص (169).

(8)

الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، آدم متز (1/ 109)، وذكر مواضع أخرى، ولم يذكر انتصاف الأمراء لمواطنيهم من أهل الذمة، لكنه عقب عليها بالقول:«وهذه الحوادث قليلة جداً بالقياس إلى بلاد المشرق كلها على سعتها» انظر (1/ 111).

ص: 18

فسمع للأسارى [وهم في سفن الإفرنج] من العويل والبكاء والشكوى والجأر إلى الله والاستغاثة به وبالمسلمين ما قطع الاكباد، وذرفت له العيون وأصم الاسماع، فإنا لله وإنا إليه راجعون».

وأما هذا الحدث الجلل فقد صدرت مراسيم إلى نائب السلطان في الشام «بمسك النصارى من الشام جملة واحدة، وأن يأخذ منهم ربع أموالهم لعمارة ما خرب من الإسكندرية، ولعمارة مراكب تغزو الفرنج، فأهانوا النصارى وطلبوا من بيوتهم بعنف وخافوا أن يقتلوا، ولم يفهموا ما يراد بهم، فهربوا كل مهرب» .

فماهو موقف العلماء وما هو حكم الشريعة في مثل هذا؟ الإفرنج يعتدون على المسلمين في الإسكندرية، والمسلمون يأخذون ربع أموال النصارى ويهينونهم، فهل هذا جائز في شريعة الإسلام؟

يقول ابن كثير: «ولم تكن هذه الحركة شرعية، ولا يجوز اعتمادها شرعاً» ، ثم يحكي عن زيارته لنائب السلطان، وأنه قال له:«هذا لا يجوز اعتماده في النصارى .. هذا مما لا يسوغ شرعاً، ولا يجوز لاحد أن يفتي بهذا، ومتى كانوا باقين على الذمة يؤدون إلينا الجزية ملتزمين بالذلة والصغار، وأحكام الملة قائمة، لا يجوز أن يؤخذ منهم الدرهم الواحد - الفرد - فوق ما يبذلونه من الجزية» ، ثم ذكر ورود الأمر من السلطان برد الأموال لنساء النصارى دون الرجال، فعقب عليه ابن كثير بما يدل على فرحه المنقوص لعدم إرجاع الكل، فقال:«وإن كان الجميع [أي ما أُخذ من الرجال والنساء] ظلماً، ولكن الأخذ من النساء أفحش وأبلغ في الظلم» (1).

لقد كان التاريخ خير شاهد على التزام المسلمين بالجملة بالمحافظة على دور عبادة أهل الكتاب المبادئ، ويمكننا الاطلاع على شهادته بتقليب بعض الصفحات التي سجلها مؤرخو الغرب والشرق عن سماحة المسلمين مع مواطنيهم، وبخاصة فيما يتعلق بسلامة دور العبادة ومن فيها.

يقول ول ديورانت: "لقد كان أهل الذمة: المسيحيون والزرادشتيون واليهود والصابئون يستمتعون في عهد الخلافة الأموية بدرجة من التسامح، لا نجد لها نظيراً في البلاد المسيحية في هذه الأيام، فلقد كانوا أحراراً في ممارسة شعائر دينهم، واحتفظوا بكنائسهم ومعابدهم"(2).

وينقل ترتون وأرنولد شهادة مهمة للبطريك النسطوري يشوع ياف الثالث (عيشو يابه)، سجلها في رسالته إلى سمعان مطران ريفارشير ورئيس أساقفة فارس:" وإِن العرب الذين منحهم الله سلطان الدنيا .. ومع ذلك فهم لا يحاربون العقيدة المسيحية، بل على العكس، يعطفون على ديننا، ويكرمون قسسنا وقديسي الرب، ويجودن بالفضل على الكنائس والأديار"(3).

(1) البداية والنهاية (14/ 358 - 361).

(2)

قصة الحضارة، ول ديورانت (11/ 131).

(3)

الدعوة إلى الإسلام، توماس أرنولد، ص (79)، وأهل الذمة في الإسلام، ترتون، ص (159).

ص: 19

ويتحدث السير أرنولد عن فتح مصر وما قدمه المسلمون للأقباط: «وقد جلب الفتح الإِسلامي إِلى هؤلاء القبط حياة تقوم على الحرية الدينية التي لم ينعموا بها قبل ذلك بقرن من الزمان، وقد تركهم عمرو أحراراً على أن يدفعوا الجزية، وكفل لهم الحرية في إِقامة شعائرهم الدينية، وخلصهم بذلك من هذا التدخل المستمر الذي أنُّوا من عبئه الثقيل في ظل الحكم الروماني، ولم يضع عمرو يده على شيء من ممتلكات الكنائس، ولم يرتكب عملاً من أعمال السلب والنهب .. وليس هناك شاهد من الشواهد يدل على أن ارتدادهم عن دينهم القديم ودُخولهم في الإِسلام على نطاق واسع كان راجعاً إِلى اضطهاد أو ضغط يقوم على عدم التسامح من جانب حكامهم الحديثين، بل لقد تحول كثير من هؤلاء القبط إِلى الإِسلام قبل أن يتم الفتح» (1).

ويقول المفكر الأسباني بلاسكوا أبانيز في كتابه "ظلال الكنيسة"(ص 64) متحدثاً عن الفتح الإسلامي للأندلس: "لقد أحسنت أسبانيا استقبال أولئك الرجال الذين قدموا إليها من القارة الإفريقية، وأسلمتهم القرى أزمتها بغير مقاومة ولا عداء، فما هو إلا أن تقترب كوكبة من فرسان العرب من إحدى القرى؛ حتى تفتح لها الأبواب وتتلقاها بالترحاب .. كانت غزوة تمدين، ولم تكن غزوة فتح وقهر .. ولم يتخل أبناء تلك الحضارة زمناً عن فضيلة حرية الضمير، وهي الدعامة التي تقوم عليها كل عظمة حقة للشعوب، فقبلوا في المدن التي ملكوها كنائس النصارى وبِيَع اليهود، ولم يخشَ المسجدُ معابدَ الأديان التي سبقته، فعرف لها حقها، واستقر إلى جانبها، غير حاسد لها، ولا راغب في السيادة عليها"(2).

وتقول المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه: " المسيحيون والزرادشتية واليهود الذين لاقوا قبل الإسلام أبشع أمثلة للتعصب الديني وأفظعها؛ سمح لهم جميعاً دون أي عائق يمنعهم بممارسة شعائر دينهم، وترك المسلمون لهم بيوت عبادتهم وأديرتهم وكهنتهم وأحبارهم دون أن يمسوهم بأدنى أذى، أو ليس هذا منتهى التسامح؟ أين روى التاريخ مثل تلك الأعمال؟ ومتى؟ "(3).

(1) الدعوة إلى الإسلام، توماس أرنولد، ص (96).

(2)

فن الحكم في الإسلام، مصطفى أبو زيد فهمي، ص (387).

(3)

شمس العرب تسطع على الغرب، زيغرد هونكة، ص (364).

ص: 20