الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثالثاً: حرية ممارسة العبادة
ولم يتوقف المسلمون عند المحافظة على دور العبادة وضمان سلامتها، بل طالب الفقهاء المسلمون بتأمين حقوق رعاياهم في العبادة وضمان عدم إشغالهم في أوقاتها، فقرروا أنه "يحرم إحضار يهودي في سبته، وتحريمه باق بالنسبة إليه، فيستثنى شرعاً من عمل في إجازة، لحديث النسائي والترمذي وصححه:«وأنتم يهود عليكم خاصة ألا تعدوا في السبت» (1).
وصوناً لاختيار غير المسلم في فعل ما هو جائز في دينه؛ فإن أمان الذمي في المجتمع المسلم يسري على كل ماله، ولو كان محرَّماً أو مهدر القيمة عند المسلمين وفي شريعتهم، وفي هذا الصدد ينقل الطحاوي إجماع المسلمين على حرية أهل الذمة في أكل الخنازير والخمر وغيره مما يحل في دينهم، فيقول:"وأجمعوا على أنه ليس للإمام منع أهل الذمة من شرب الخمر وأكل لحم الخنازير واتخاذ المساكن التي صالحوا عليها، إذا كان مِصراً ليس فيه أهل إسلام (أي في بلادهم التي هم فيها الكثرة) "(2).
وقال الإمام مالك: "إذا زنى أهل الذمة أو شربوا الخمر فلا يعرض لهم الإمام؛ إلا أن يظهروا ذلك في ديار المسلمين ويُدخلوا عليهم الضرر؛ فيمنعهم السلطان من الإضرار بالمسلمين"(3).
وقال فقيه الأندلس أبو الوليد الباجي: " إن أهل الذمة يقرون على دينهم ويكونون من دينهم على ما كانوا عليه، لا يمنعون من شيءٍ منه في باطن أمرهم، وإنما يمنعون من إظهاره في المحافل والأسواق"(4).
وهذا الذي قرره الفقهاء في زمن عز الدولة الإسلامية وتمكنها؛ امتثله أمراء المسلمين وحكامهم بقدر التزامهم بتعاليم دينهم، فعاش مواطنونا؛ غير المسلمين في كنف الدولة الإسلامية، وهم يتمتعون بحرية العبادة وإقامة شعائرهم الدينية، يقول ول ديورانت:"وكان اليهود في بلاد الشرق الأدنى قد رحبوا بالعرب الذين حرروهم من ظلم حكامهم السابقين .. وأصبحوا يتمتعون بكامل الحرية في حياتهم وممارسة شعائر دينهم .. وكان المسيحيون أحراراً في الاحتفال بأعيادهم علناً، والحجاج المسيحيون يأتون أفواجاً آمنين لزيارة الأضرحة المسيحية في فلسطين .. وأصبح المسيحيون الخارجون على كنيسة الدولة البيزنطية، الذين كانوا يلقون صوراً من الاضطهاد على يد بطاركة القسطنطينية وأورشليم والاسكندرية وإنطاكيا، أصبح هؤلاء الآن أحراراً آمنين تحت حكم المسلمين"(5).
وينقل معرب "حضارة العرب" قول روبرتسن في كتابه "تاريخ شارلكن": "إن المسلمين وحدهم الذين جمعوا بين الغيرة لدينهم وروح التسامح نحو أتباع الأديان
(1) غاية المنتهى وشرحه (2/ 604)، وقد أكد عليه عدد من الفقهاء. انظر: الإنصاف للمرداوي (4/ 248)، وكشاف القناع للبهوتي (3/ 140)، والحديث أخرجه الترمذي ح (2733)، والنسائي ح (4078)، وأحمد ح (17626).
(2)
اختلاف الفقهاء، ص (233).
(3)
التمهيد (14/ 392)، وانظر: أحكام أهل الذمة (1/ 317)، والمحلى (9/ 118).
(4)
المنتقى شرح موطأ مالك (2/ 178).
(5)
قصة الحضارة، ول ديورانت (11/ 132).
الأخرى، وإنهم مع امتشاقهم الحسام نشراً لدينهم، تركوا مَن لم يرغبوا فيه أحراراً في التمسك بتعاليمهم الدينية".
وينقل أيضاً عن الراهب ميشود في كتابه "رحلة دينية في الشرق"(ص 29) قوله: "ومن المؤسف أن تقتبس الشعوب النصرانية من المسلمين التسامح، الذي هو آية الإحسان بين الأمم واحترام عقائد الآخرين وعدم فرض أي معتقد عليهم بالقوة"(1).
وأما المؤرخ الإنجليزي السير توماس أرنولد، فيقول:" لقد عامل المسلمون الظافرون العرب المسيحيين بتسامح عظيم منذ القرن الأول للهجرة، واستمر هذا التسامح في القرون المتعاقبة "(2).
يقول المؤرخ الإسباني الدكتور إغناسيو أولاغي في كتابه المثير للجدل "العرب لم يغزوا إسبانيا": "فخلال النصف الأول من القرن التاسع كانت أقلية مسيحية مهمة تعيش في قرطبة وتمارس عبادتها بحرية كاملة".
ويستشهد بقول القس إيِلُوج: "نعيش بينهم دون أنْ نتعرض إلى أيّ مضايقات فيما يتعلق بمعتقدنا"(3).
ويقول الدكتور فيليب حِتّى: "وقد رحب سكان البلاد الساميون في سوريا وفلسطين والحاميون في مصر بالعرب، واعتبروهم أقرب نسباً إليهم من حكامهم الأغراب الطغاة، وفضلاً عن ذلك فالجزية التي فرضها الفاتحون كانت أقل من التي جباها سابقوهم؛ في حين سمح للمغلوبين على أمرهم بممارسة دينهم بحرية أوسع وطمأنينة أكبر"(4).
ولم يتدخل المسلمون في الشؤون التفصيلية لمواطنيهم من أهل الذمة، ولم يجبروهم على التحاكم أمام المسلمين وإن طلبوا منهم الانصياع للأحكام العامة للشريعة المتعلقة بسلامة المجتمع وأمنه، ونقل العيني عن الزهري قوله:"مضت السنة أن يرد أهل الذمة في حقوقهم ومعاملاتهم ومواريثهم إلى أهل دينهم؛ إلا أن يأتوا راغبين في حكمنا، فنحكم بينهم بكتاب الله تعالى"(5).
كما نقل عن ابن القاسم قوله: " إن تحاكم أهل الذمة إلى حاكم المسلمين ورضي الخصمان به جميعاً؛ فلا يحكم بينهما إلا برضا من أساقفهما، فإن كره ذلك أساقفهم فلا يحكم بينهم، وكذلك إن رضي الأساقفة ولم يرض الخصمان أو أحدهما لم يحكم بينهما"(6).
(1) انظر حاشية الصفحة (128) من كتاب "حضارة العرب" لغوستاف لوبون.
(2)
الدعوة إلى الإسلام، توماس أرنولد، ص (51).
(3)
حوار الثقافات في الغرب الإسلامي، سعد بوفلاقة، ص (14).
(4)
تاريخ العرب، فيليب حتى، ص (62).
(5)
عمدة القاري (16/ 161).
(6)
المصدر السابق (16/ 161).
وقد سجل المؤرخون هذا البُعد الجميل في تسامح المسلمين، وأنهم تركهم لمواطنيهم حق التحاكم إلى شرائعهم وبواسطة قسسهم ورجال دينهم، يقول آدم متز:"ولما كان الشرع الإسلامي خاصاً بالمسلمين، فقد خلَّت الدولة الإسلامية بين أهل الملل الأخرى وبين محاكمهم الخاصة بهم، والذي نعلمه من أمر هذه المحاكم أنها كانت محاكم كنسية، وكان رؤساء المحاكم الروحيون يقومون فيها مقام كبار القضاة أيضاً، وقد كتبوا كثيراً من كتب القانون، ولم تقتصر أحكامهم على مسائل الزواج، بل كانت تشمل إلى جانب ذلك مسائل الميراث وأكثر المنازعات التي تخص المسيحيين وحدهم مما لا شأن للدولة به"(1).
ويقول أيضاً: "أما في الأندلس، فعندنا من مصدر جدير بالثقة أن النصارى كانوا يفصلون في خصوماتهم بأنفسهم، وأنهم لم يكونوا يلجؤون للقاضي إلا في مسائل القتل"(2).
وأما الدكتور فيليب حتِّى فيقول: "وقد تمتع أهل الذمة في هذا الوضع بقسط وافر من الحرية لقاء تأديتهم الجزية والخراج، وكانوا يرجعون في قضاياهم المدنية والجزائية إلى رؤسائهم الروحيين؛ إلا إذا كانت القضية تمس مسلماً"(3).
لكن مما ينبغي ذكره هنا أن الكثيرين من أهل الذمة رغبوا في التحاكم إلى التشريع الإسلامي، ورغبوا أن تكون مواريثهم حسب ما قررته الشريعة الإسلامية (4)، متذرعين بنقصان تشريعاتهم الدينية وعدم شموليتها وعجزها عن تحقيق المطالب الحياتية للمؤمنين بها، وهذا ما حدا بالجاثليق تيموثاوس في حوالي سنة (200هـ، 800م) إلى تأليف كتاب عن الأحكام القضائية المسيحية، وفرض على من يتحاكم إلى محاكم المسلمين طائعاً أن يتوب ويتصدق ويقوم على المسح والرماد (5).
(1) الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، آدم متز (1/ 93).
(2)
المصدر السابق (1/ 95).
(3)
تاريخ العرب، فيليب حتى، ص (104).
(4)
انظر: الإسلام وأهل الذمة، الخربوطلي، ص (119)، وتاريخ العرب، فيليب حتى، ص (104).
(5)
الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري (1/ 93).