الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ج. التكريم الإلهي للإنسان
خلق الله آدم عليه السلام، وأسجد له ملائكته {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طيناً} (الإسراء: 61)، وندبه وذريته من بعده إلى عمارة الأرض بمنهج الله:{إني جاعل في الأرض خليفة} (البقرة: 30).
ووفق هذه الغاية كرَّم الله الجنس البشري على سائر مخلوقاته {ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثيرٍ ممن خلقنا تفضيلاً} (الإسراء: 70).
وأكد نبينا صلى الله عليه وسلم وصحبه من بعده - احترام النفس الإنسانية ومراعاة كرامتها، ففي الخبر أن سهل بن حنيف وقيس بن سعد كانا قاعدين بالقادسية، فمروا عليهما بجنازة فقاما، فقيل لهما: إنها من أهل الأرض، أي من الفرس. فقالا: إن النبي صلى الله عليه وسلم مرت به جنازة فقام. فقيل له: إنها جنازة يهودي؟! فقال: «أليست نفساً» (1).
ومن تكريم الله للجنس البشري ما وهبه من العقل الذي يميز به بين الحق والباطل {وهديناه النجدين} (البلد: 10)، وبموجبه وهبه الحرية والإرادة الحرة لاختيار ما يشاء {إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً} (الإنسان: 3) {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين} (يونس: 99).
د. لا إكراه في الدين
وبناء على ما تقدم فإن الإنسان يختار ما يشاء من المعتقد {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي} (البقرة: 256)، والله يتولى في الآخرة حسابه {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها} (الكهف: 29).
قال ابن كثير: "أي لا تُكرِهوا أحدًا على الدخول في دين الإسلام، فإنه بَيِّن واضح؛ جليٌ دلائلُه وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه، بل من هداه الله للإسلام وشرح صدره ونور بصيرته؛ دخل فيه على بينة، ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره؛ فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرهاً مقسوراً"(2)؛ إذ الفائدة المرجوة من إسلام المدعو هي نجاته وهدايته ودخوله الجنة، وأما ادعاء الإسلام - إكراهاً وقهراً - فإنه لا يحقق شيئاً من ذلك، فهو عند الله كافر، بل هو من المنافقين {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيراً} (النساء: 145)، ولا قيمة في أحكام الآخرة لتظاهره بالإسلام، فخسارته للجنة والنجاة هي الخسران العظيم، لذلك يقول الله تعالى:{قل الله أعبد مخلصاً له ديني - فاعبدوا ما شئتم من دونه قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين} (الزمر: 14 - 15)، ويقول:{وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون - الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون} (الحج: 68 - 69)، فالإيمان - ابتداء - عمل قلبي،
(1) أخرجه البخاري ح (1313)، ومسلم ح (961).
(2)
تفسير القرآن العظيم (1/ 416).
فليس بمؤمن من لم ينطو قلبه على الإيمان، وتصريحه بلسانه غيرَ ما يعتقد لا يغير في حقيقة قائله ولا حكمه في أحكام الآخرة.
وكذلك لا قيمة في أحكام الدنيا للمكره على الإسلام، فلا تلزمه أحكامه في الدنيا،
قال الإمام محمد بن الحسن الشيباني تلميذ الإمام أبي حنيفة: "لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من خلفائه؛ أنه أجبر أحداً من أهل الذمة على الإسلام
…
وإذا أُكره على الإسلام من لا يجوز إكراهه كالذمي والمستأمن فأسلم؛ لم يثبت له حكم الإسلام حتى يوجد منه ما يدل على إسلامه طوعاً؛ مثل أن يثبت على الإسلام بعد زوال الإكراه عنه، وإن مات قبل ذلك فحكمه حكم الكفار، وإن رجع إلى دين الكفر لم يجز قتله ولا إكراهه على الإسلام .. ولنا أنه أُكره على ما لا يجوز إكراهه عليه، فلم يثبت حكمه في حقه، كالمسلم إذا أكره على الكفر، والدليل على تحريم الإكراه قول الله تعالى:{لا إكراه في الدين} (البقرة: 256) " (1).
وبمثله قال الفقيه الحنبلي ابن قدامة: "وإذا أكره على الإسلام من لا يجوز إكراهه كالذمي والمستأمن فأسلم؛ لم يثبت له حكم الإسلام حتى يوجد منه ما يدل على إسلامه طوعاً"(2).
وهذا ما حصل بالفعل زمن الحاكم بأمر الله الذي يصفه الدكتور ترتون بالخبل والجنون، وقد كان من خبله أن أكره كثيرين من أهل الذمة على الإسلام، فسمح لهم الخليفة الظاهر بالعودة إلى دينهم، فارتد منهم كثير سنة 418هـ (3).
ولما أُجبر على التظاهر بالإسلام موسى بن ميمون فر إلى مصر، وعاد إلى دينه، ولم يعتبره القاضي عبد الرحمن البيساني مرتداً، بل قال:"رجل يكرَه على الإسلام، لا يصح إسلامه شرعاً"، وعلق عليها ترتون بقوله:"وهذه عبارة تنطوي على التسامح الجميل"(4).
وقد امتثل سلفنا هدي الله عز وجل، فلم يلزموا أحداً بالإسلام إكراهاً، ومن ذلك أن عمر بن الخطاب قال لعجوز نصرانية: أسلمي تسلمي، إن الله بعث محمداً بالحق. فلم تقبل العجوز نصحه، وقالت: أنا عجوز كبيرة، والموت أقرب إليّ! فقال عمر: اللهم اشهد، وتلا:{لا إكراه في الدين} (البقرة: 256)(5).
ومثله صنع مع مملوكه أسبق، فقد روى ابن أبي حاتم بإسناده عن أسبق قال كنت في دينهم مملوكاً نصرانياً لعمر بن الخطاب، فكان يعرض علي الإسلام، فآبى، فيقول:{لا إكراه في الدين} ويقول: (يا أسبق، لو أسلمتَ لاستعنّا بك على بعض أمور المسلمين)(6).
وفي الأثرين الأخيرين المنقولين عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ما يدل على إحكام الآية، ورد على من زعم أن آية {لا إكراه في الدين} نزلت في وقت ضعف
(1) السير الكبير (10/ 103).
(2)
المغني (9/ 29)، وانظر كشاف القناع للبهوتي (6/ 180).
(3)
أهل الذمة في الإسلام، د. أس ترتون، ص (214).
(4)
المصدر السابق، ص (214).
(5)
المحلى (11/ 196).
(6)
الطبقات الكبرى (6/ 158)، تفسير القرآن العظيم (1/ 312).