المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ب. مقدار الجزية - التعايش مع غير المسلمين في المجتمع المسلم

[منقذ السقار]

الفصل: ‌ب. مقدار الجزية

قال القرطبي: "قال علماؤنا: الذي دل عليه القرآن أن الجزية تؤخذ من المقاتلين

وهذا إجماع من العلماء على أن الجزية إنما توضع على جماجم الرجال الأحرار البالغين، وهم الذين يقاتلون، دون النساء والذرية والعبيد والمجانين المغلوبين على عقولهم والشيخ الفاني" (1).

وقال مالك: "مضت السنة أن لا جزية على نساء أهل الكتاب ولا على صبيانهم، وأن الجزية لا تؤخذ إلا من الرجال الذين قد بلغوا الحلم، وليس على أهل الذمة ولا على المجوس في نخيلهم ولا كرومهم ولا زروعهم ولا مواشيهم صدقة"(2).

قال ابن حجر: " لا تؤخذ من شيخ فانٍ ولا زمِن ولا امرأة ولا مجنون ولا عاجز عن الكسب ولا أجير ولا من أصحاب الصوامع والديارات في قولٍ، والأصح عند الشافعية الوجوب على من ذكر آخراً [أي أصحاب الصوامع] "(3).

وقد كتب عمر بذلك إلى أمراء الأجناد: (لا تضربوا الجزية على النساء والصبيان، ولا تضربوها إلا على من جرت عليه المواسي)(4) أي ناهز الاحتلام، وهو من يقدر عادة على حمل السلاح.

والتزم بذلك أمراء الإسلام، ومنهم عمرو بن العاص والي مصر، فقد اصطلح مع المقوقس (على أن يفرض على جميع من بمصر أعلاها وأسفلها من القبط ديناران ديناران، عن كل نفس، شريفهم ووضيعهم، من بلغ الحلم منهم، ليس على الشيخ الفاني ولا على الصغير الذي لم يبلغ الحلم ولا النساء شيء)(5).

ويشهد آدم متز بالتزام المسلمين بذلك في البلاد التي تحت سلطانهم، فيقول:"فكان لا يدفعها إلا الرجل القادر على حمل السلاح، فلا يدفعها ذوو العاهات، ولا المترهبون وأهل الصوامع إلا إذا كان لهم يسار"(6).

وبمثله شهد ول ديورانت: "ولم يفرض عليهم أكثر من ارتداء زي ذي لون خاص، وأداء ضريبة عن كل شخص تختلف باختلاف دخله، وتتراوح بين دينار وأربعة دنانير .. ويعفى منها الرهبان، والنساء، والذكور الذين هم دون البلوغ، والأَرِقَّاء، والشيوخ، والعَجَزة، والعُمي، والشديدو الفقر"(7).

‌ب. مقدار الجزية

ومن النص السابق والشهادتين اللتين بعده يبين لنا أن المبلغ المدفوع للجزية لم يكن كبيراً يعجز عن دفعه الرجال، بل كان ميسوراً يطيقه كل أحد.

ففي زمن النبي صلى الله عليه وسلم لم تجاوز جزية الفرد الدينار الواحد في كل سنة، فحين أرسل النبي معاذاً إلى اليمن أخذ من كل حالم منهم ديناراً، يقول معاذ: (بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فأمرني أن آخذ من كل ثلاثين بقرة تبيعاً، أو تبيعة، ومن كل أربعين مسنة [هذه

(1) الجامع لأحكام القرآن (8/ 72).

(2)

الموطأ، كتاب الزكاة، ص (619).

(3)

فتح الباري (6/ 260).

(4)

أخرجه أبو عبيد في كتابه الأموال، ص (51)، وصححه الألباني في إرواء الغليل ح (1255).

(5)

أخرجه ابن عبد الحكم في فتوح مصر وأخبارها (70)، وانظر الخريدة النفيسة في تاريخ الكنيسة، الأنبا ايسذورس (2/ 103).

(6)

الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، آدم متز (1/ 96).

(7)

قصة الحضارة، ول ديورانت (12/ 130 - 131).

ص: 43

زكاة على المسلمين منهم]، ومن كل حالم ديناراً، أو عدله مَعافر [للجزية]) (1). والمعافري: الثياب.

وعلى عهد عمر بن الخطاب صلى الله عليه وسلم كانت الجزية على أهل الذهب: أربعة دنانير، وعلى أهل الورِق: أربعين درهماً؛ مع ذلك أرزاق المسلمين، وضيافة ثلاثة أيام (2).

وقد تفاوت مقدار الجزية في عصور الإسلام، وقد مر معنا أن عمرو بن العاص أوجب على أهل مصر دينارين فقط في كل سنة، تدفع عن الرجال دون النساء والأطفال والشيوخ، فيما لم تتجاوز جزية الشخص الواحد الأربعة دنانير زمن الدولة الأموية.

والذي يظهر من هذا التفاوت أن مقدار الجزية متروك للإمام، قال ابن أبي نجيح: قلت لمجاهد: ما شأن أهل الشام عليهم أربعة دنانير، وأهل اليمن عليهم دينار؟ قال: جعل ذلك من قبل اليسار (3).

لكنه على كل حال لن يجاوز هذه المبالغ البسيطة التي تراعي حالة الناس ويسارهم، ولا تكلفهم فوق طاقتهم، وهو ما نفهمه من وصية عمر للخليفة بعده بأهل الذمة، إذ يقول:(وألا يكلفوا فوق طاقتهم)(4).

قال ابن حجر: "ويستفاد من هذه الزيادة أن لا يؤخذ من أهل الجزية إلا قدر ما يطيق المأخوذ منه "(5).

وفي هذا الصدد ينقل آدم متز عن المؤرخ بنيامين قوله: "إن اليهود في كل بلاد الإسلام يدفعون ديناراً واحداً"(6).

ويقول دربير في كتابه "المنازعة بين العلم والدين": "إن المسلمين ما كانوا يتقاضون من مقهوريهم إلا شيئاً ضئيلاً من المال لا يقارن بما كانت تتقاضاه منهم حكوماتهم الوطنية"(7).

ويقول مونتسكيو في كتابه "روح الشرائع": "إن هذه الأتاوات المفروضة كانت سبباً لهذه السهولة الغريبة التي صادفها المسلمون في فتوحاتهم، فالشعوب رأت - بدل أن تخضع لسلسلة لا تنتهي من المغارم التي تخيلها حرص الأباطرة - أن تخضع لأداء جزية خفيفة يمكن توفيتها بسهولة، وتسلمها بسهولة كذلك"(8).

وأما من عجز عن دفع هذا المبلغ الزهيد، فإن الفقهاء أسقطوها عنه، يقول ابن القيم:" تسقط الجزية بزوال الرقبة أو عجزها عن الأداء "(9).

قال القاضي أبو يعلى: "وتسقط الجزية عن الفقير وعن الشيخ وعن الزَمِن [أي صاحب العاهة] "(10).

(1) أخرجه الترمذي ح (623)، وأبو داود ح (1576)، والنسائي ح (2450)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي ح (509).

(2)

أخرجه مالك في الموطأ ح (618)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح ح (3970).

(3)

ذكره البخاري في عنوان باب الجزية والموادعة مع أهل الحرب، وأخرجه أبو عبيد في الأموال ح (57).

(4)

أخرجه البخاري ح (1392).

(5)

فتح الباري (6/ 267).

(6)

الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري (1/ 96).

(7)

روح الدين الإسلامي، عفيف طبارة، ص (406).

(8)

المصدر السابق، ص (407).

(9)

أحكام أهل الذمة (1/ 250).

(10)

الأحكام السلطانية، ص (160).

ص: 44