الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خامساً: العدل في معاملتهم ورفع الظلم عنهم
بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق» (1)، وهو كما يرى ابن عبد البر «حديث مدني صحيح، ويدخل في هذا المعنى الصلاح والخير كله، والدين والفضل والمروءة والإحسان والعدل؛ فبذلك بعث ليتممه صلى الله عليه وسلم» (2).
وإن من أهم المُثل ومكارم الأخلاق التي جاء محمد صلى الله عليه وسلم لحمايتها وتتميمها؛ العدل، وهو غاية قريبة ميسورة إذا كان الأمر متعلقاً بإخوة الدين أو النسب، وغيرها مما يتعاطف له البشر.
لكن صدق هذه الخُلة إنما يظهر إذا تباينت الأديان وتعارضت المصالح، وهو ما يعنينا في هذا المبحث، فما هو حكم الإسلام في العدل مع غير المسلمين، وهل حقق المسلمون ما دعاهم إليه دينهم أم خالفوه؟
لقد أمر القرآن الكريم بالعدل، وخصَّ - بمزيد تأكيده - على العدل مع المخالفين الذين قد يظلمهم المرء بسبب الاختلاف والنفرة، قال تعالى:{يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى} (المائدة: 8).
قال القرطبي: "ودلت الآية أيضاً على أن كفر الكافر لا يمنع من العدل عليه، وأن يُقتصر بهم على المستحق من القتال والاسترقاق، وأن المُثلة بهم غير جائزة، وإن قتلوا نساءنا وأطفالنا، وغمّونا بذلك؛ فليس لنا أن نقتلهم بمثله قصداً لإيصال الغم والحزن إليهم"(3).
وقال البيضاوي: "لا يحملنكم شدة بغضكم للمشركين على ترك العدل فيهم، فتعتدوا عليهم بارتكاب ما لا يحل، كمُثلة وقذف وقتل نساء وصِبية ونقض عهد، تشفياً مما في قلوبكم {اعدلوا هو أقرب للتقوى} أي: العدل أقرب للتقوى "(4).
وتمضي الآيات القرآنية لترسم للمؤمنين طريقة التعامل مع أعدائهم من الكافرين الذين يحاربونهم في دينهم ويصدونهم عن قبلتهم، فتأمر بالعدل مرة أخرى، وتحذر من الاعتداء الذي قد يستدعيه الشنآن {ولا يجرمنكم شنآن قومٍ أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا
(1) أخرجه أحمد ح (8729) واللفظ له، والبخاري في الأدب المفرد ح (273)، وصححه الألباني في الصحيحة (45).
(2)
التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (24/ 334).
(3)
الجامع لأحكام القرآن (6/ 110).
(4)
مواهب الجليل، ص (137).
الله إن الله شديد العقاب} (المائدة: 2).
وأعلم الله تعالى المؤمنين بمحبته للذين يعدلون في معاملتهم مع مخالفيهم في الدين الذين لم يتعرضوا لهم بالأذى والقتال، فقال:{لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين} (الممتحنة: 8). فالعدل مع الآخرين موجب لمحبة الله.
وحذر النبي صلى الله عليه وسلم من ظلم أهل الذمة وانتقاص حقوقهم، وجعل نفسه الشريفة خصماً للمعتدي عليهم، فقال:«من ظلم معاهداً أو انتقصه حقه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس؛ فأنا حجيجه يوم القيامة» (1).
وأكد أن ظلم غير المسلم موجب لانتقام الله الذي يقبل شكاته ودعوته على ظالمه المسلم، فقال صلى الله عليه وسلم:«اتقوا دعوة المظلوم - وإن كان كافرًا - فإنه ليس دونها حجاب» (2).
ولمزيد التأكيد يوصي رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين بعدم التعرض للمستضعفين من غير المسلمين بالظلم والتسلط، فيقول:«لعلكم تقاتلون قوماً فتظهرون عليهم، فيتقوكم بأموالهم دون أنفسهم وذراريهم، فيصالحونكم على صلح، فلا تصيبوا منهم فوق ذلك، فإنه لا يصلح لكم» (3).
لذا لما سأل رجل ابن عباس فقال: إنا نمر بأهل الذمة، فنصيب من الشعير أو الشيء؟ فقال الحبر ترجمان القرآن:(لا يحل لكم من ذمتكم إلا ما صالحتموهم عليه)(4).
ولما كتب النبي كتاب صلحه لأهل نجران قال فيه: «ولا يغير حق من حقوقهم، ولا سلطانهم ولا شيء مما كانوا عليه، ما نصحوا وأصلحوا فيما عليهم غير مثقلين بظلم ولا ظالمين» (5).
أما منتهى الظلم وأشنعه، فهو قتل النفس بغير حق، لهذا جاء فيه أشد الوعيد وأعظمه، يقول صلى الله عليه وسلم:«من قتل معاهَداً لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً» (6).
قال ابن حجر: "المراد به من له عهد مع المسلمين، سواء كان بعقد جزية أو هدنة من سلطان أو أمان من مسلم"(7).
ومن الطريف أن الخوارج الذين استباحوا دماء المسلمين وأوغلوا فيها توقفوا عن قتل أهل الذمة خشية نقض عهدهم. قال ابن حجر: "الخوارج لما حكموا بكفر من خالفهم استباحوا دماءهم، وتركوا أهل الذمة فقالوا: نفي لهم بعهدهم"(8).
(1) أخرجه أبو داود ح (3052)، ونحوه في سنن النسائي ح (2749)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود ح (2626).
(2)
أخرجه أحمد ح (12140).
(3)
أخرجه أبو داود ح (3051)، وأخرجه سعيد بن منصور في سننه ح (2603) وضعفه الألباني لإبهام في إسناده في ضعيف أبي داود ح (665).
(4)
أخرجه أبو عبيد في الأموال، ص (219).
(5)
الطبقات الكبرى لابن سعد (1/ 266).
(6)
أخرجه البخاري ح (3166).
(7)
فتح الباري، ابن حجر (12/ 259).
(8)
المصدر السابق (12/ 302).
وقال صلى الله عليه وسلم: «أيما رجل أمّن رجلاً على دمه، ثم قتله، فأنا من القاتل بريء، وإن كان المقتول كافراً» (1).
قال ابن القيم: " المستأمن يحرم قتله، وتضمن نفسه، ويقطع بسرقة ماله"(2).
ويقول القرطبي: "الذمي محقون الدم على التأبيد، والمسلم كذلك، وكلاهما قد صار من أهل دار الإسلام، والذي يحقِق ذلك: أنّ المسلم يقطع بسرقة مال الذمي، وهذا يدل على أنّ مال الذمي قد ساوى مال المسلم، فدل على مساواته لدمه، إذ المال إنّما يحرم بحرمة مالكه"(3).
وقد ذهب جمع من العلماء على أن المسلم يقتل بقتله النفس المعصومة من غير المسلمين، وتأولوا الحديث الوارد في النهي عن ذلك.
ويروي عبد الرزاق عن إبراهيم النخعي أن رجلاً مسلماً قتل رجلاً من أهل الذمة من أهل الحيرة على عهد عمر، فأقاد منه عمر (4).
ويروي الشافعي في مسنده أن رجلاً من المسلمين أُخذ على عهد علي رضي الله عنه وقد قتل رجلاً من أهل الذمة، فحكم عليه بالقصاص، فجاء أخوه، واختار الدية بدلاً عن القود، فقال له علي رضي الله عنه:"لعلهم فرقوك أو فزّعوك أو هددوك؟ " فقال: لا، بل قد أخذت الدية، ولا أظن أخي يعود إلي بقتل هذا الرجل، فأطلق علي القاتل، وقال:"أنت أعلم، من كانت له ذمتنا، فدمه كدمنا، وديته كديتنا"(5).
ويحدث ميمون بن مهران أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى بعض أمرائه في مسلم قتل ذميّاً، فأمره أن يدفعه إلى وليه، فإن شاء قتله، وإن شاء عفا عنه. يقول ميمون: فدفع إليه، فضرب عنقه، وأنا أنظر (6).
ولئن اختلف الفقهاء في مسألة قتل المسلم بالذمي؛ فإنهم لم يختلفوا في عظم الجناية وشناعة الفعل، كما لم يختلفوا في وجوب العدل مع مخالفيهم في الدين ووجوب كف الأذى والظلم عنهم.
قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل لم يُحِلَّ لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن، ولا ضَرْبَ نسائهم، ولا أكلَ ثمارهم، إذا أعطوكم الذي عليهم» (7).
ويرى ابن عابدين في حاشية الدر المختار وجوب " كف الأذى عن الذمي، وتحرم غيبته كالمسلم"(8).
ويفسر ابن عابدين ذلك بقوله: "لأنه بعقد الذمة وجب له ما لنا، فإذا حرمت غيبة المسلم حرمت غيبته، بل قالوا: إن ظلم الذمي أشد"(9).
(1) أخرجه ابن حبان ح (5982)، والبيهقي في السنن ح (9/ 142)، والطبراني في معجمه الأوسط ح (4252).
(2)
أحكام أهل الذمة (2/ 737).
(3)
الجامع لأحكام القرآن (2/ 246).
(4)
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (10/ 101).
(5)
أخرجه الشافعي في مسنده (1/ 344)، والبيهقي في السنن (8/ 34).
(6)
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (10/ 101).
(7)
أخرجه أبو داود ح (3050)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة ح (882).
(8)
الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه (6/ 410).
(9)
المصدر السابق (4/ 171).
قال القرافي: "عقد الذمة يوجب حقوقاً علينا لهم، لأنهم في جوارنا وفي خفارتنا وذمة الله تعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم ودين الإسلام، فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء أو غيبة في عِرْض أحدهم، أو نوع من أنواع الأذية، أو أعان على ذلك؛ فقد ضيع ذمة الله تعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم وذمة دين الإسلام"(1).
وشواهد عدل المسلمين مع أهل ذمتهم كثيرة، منها العدل معهم في خصومتهم مع الخلفاء والأمراء، ومنه خصومة الخليفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه مع يهودي في درعه التي فقدها ثم وجدها عند يهودي، فاحتكما إلى شريح القاضي، فحكم بها لليهودي، فأسلم اليهودي وقال:"أما إني أشهد أن هذه أحكام أنبياء! أمير المؤمنين يدينني إلى قاضيه، فيقضي لي عليه! أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، الدرع درعك يا أمير المؤمنين، اتبعت الجيش وأنت منطلق من صفين، فخرجت من بعيرك الأورق". فقال علي رضي الله عنه: أما إذ أسلمت فهي لك (2).
ومنه أيضاً قصة القبطي مع عمرو بن العاص والي مصر وابنه، وقد اقتص الخليفة للقبطي في مظلمته، وقال مقولته التي أضحت مثلاً:"يا عمرو، متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟ "(3).
ولما كان ابن رواحة رضي الله عنه يخرص ليهود خيبر حاولوا رشوته فأبى، وقال:(وليس يحملني بغضي إياكم على أن أحيف عليكم، قد خرصت عشرين ألف وسق من تمر، فإن شئتم فلكم، وإن أبيتم فلي). فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض، قد أخذنا، فاخرجوا عنا (4).
ومن عجيب الأخبار، أخبار عدل الخلفاء مع أهل ذمة الله ورسوله والمؤمنين؛ أن عمير بن سعد رضي الله عنه ترك ولاية حمص لإساءته إلى ذمي، فقد قال للخليفة مستعتباً عن الرجوع إلى الإمارة:(إن ذلك لسيء، لا عملت لك، ولا لأحد بعدك، والله ما سلِمت، بل لم أسلم، قلت لنصراني: أخزاك الله، فهذا ما عرضتني به يا عمر، وإن أشقى أيامي يوماً خلفت معك يا عمر)، ولم يجد الخليفة بُداً من قبول هذه الاستقالة، فتقبلها على مضض وهو يقول:(وددت أن لي رجلاً مثل عمير بن سعد استعين به على أعمال المسلمين)(5).
وفي تاريخ دمشق أن عميراً رضي الله عنه قال للخليفة عمر: " فما يؤمنني أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم خصمي يوم القيامة، ومن خاصمه خصمه"(6).
ولما ولي أمير العدل عمر بن عبد العزيز أمر مناديه أن ينادي: ألا من كانت له مظلمة فليرفعها، فقام إليه رجل ذمي يشكو الأمير العباس بن الوليد بن عبد الملك في ضيعة له أقطعها الوليد لحفيده العباس، فحكم له الخليفة بالضيعة، فردها عليه (7).
(1) الفروق، ص (3/ 20).
(2)
أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (4/ 141)، بإسناد ضعيف، وانظر: البداية والنهاية (8/ 4 - 5).
(3)
انظر: تاريخ عمر، ابن الجوزي، ص (129 - 130)، وانظر فتوح مصر، لابن الحكم، ص (195).
(4)
أخرجه أحمد ح (14526).
(5)
القصة رواها الطبراني في معجمه الكبير (17/ 52)، وأبو نعيم في الحلية (1/ 248)، قال الهيثمي:"أخرجه الطبراني، وفيه عبد الملك بن إبراهيم بن عنترة، وهو متروك ". مجمع الزوائد (9/ 383)، ويشهد له خبر ابن عساكر الذي بعده.
(6)
ذكره ابن عساكر في تاريخ دمشق (46/ 493)، والمتقي الهندي في كنز العمال ح (37446).
(7)
انظر: صفة الصفوة (2/ 115 - 116)، والبداية والنهاية (9/ 213 - 214).
وفي أحيان أخرى لم يأخذ المسلمون العدل من خصومهم، بل عفوا وتجاوزوا كما جرى زمن معاوية بن أبي سفيان حين نقض أهل بعلبك عهدهم مع المسلمين، وفي أيدي المسلمين رهائن من الروم، فامتنع المسلمون من قتلهم، ورأوا جميعاً تخلية سبيلهم، وقالوا:"وفاء بغدر خير من غدر بغدر". قال هشام: وهو قول العلماء، الأوزاعي وغيره (1).
ولم يخلُ تاريخنا - على وضاءته - من بعض المظالم التي وقعت لغير المسلمين، وقد وقع مثلها للمسلمين من قبل بعض أمراء الجور وغيرهم، فمثل هذا لا يخلو منه مجتمع ما، لكنه لم يكن في تاريخنا ممنهجاً، ولم يزعم فاعلوه أن الدين أمرهم به، ولم يرض به فقهاء الإسلام، بل استنكروه، ورأوا فيها جوراً وخروجاً عن رسوم الشريعة، ومنه أن هشام بن حكيم بن حزام رضي الله عنه مرّ على أناس من الأنباط بالشام قد أقيموا في الشمس، فقال: ما شأنهم؟ قالوا: حبسوا في الجزية، فقال هشام: أشهد لسمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا» . قال: وأميرهم يومئذ عمير بن سعد على فلسطين، فدخل عليه، فحدثه، فأمر بهم فخُلوا (2).
ولما خاف الخليفة الوليد بن يزيد من نصارى قبرص؛ أجلاهم من بلادهم، فاستفظع المسلمون ذلك، واعتبروه من الظلم والإخلاف لعهد الذمة، يقول إسماعيل بن عياش:"فاستفظع ذلك المسلمون، واستعظمه الفقهاء، فلما ولي يزيد بن الوليد ردهم إلى قبرص، فاستحسن المسلمون ذلك من فعله، ورأوه عدلاً"(3).
كما حطَّ الخليفة عمر بن عبد العزيز عن أهل قبرص ألف دينار زادها عبد الملك عما في عهد معاوية رضي الله عنه لهم، ثم ردها عليهم هشام بن عبد الملك، فلما كانت خلافة أبي جعفر المنصور أسقطها عنهم، وقال:"نحن أحق من أنصفهم، ولم نتكثر بظلمهم"(4).
ومثله صنع الأوزاعي فقيه الشام حين أجلى الأمير صالح بن علي بن عبد الله بن عباس أهل ذمة من جبل لبنان، فكتب إليه الأوزاعي: "فكيف تؤخذ عامة بذنوب خاصة، حتى يُخرَجوا من ديارهم وأموالهم؟ وحكم الله تعالى:{ألا تزر وازرة وزر أخرى} (النجم: 38)، وهو أحق ما وقف عنده واقتدي به، وأحق الوصايا أن تحفظ وترعى وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه قال:«من ظلم ذميًا أو كلَّفه فوق طاقته فأنا حجيجه»
…
فإنهم ليسوا بعبيد، فتكونَ في حِلٍ من تحويلهم من بلد إلى بلد، ولكنهم أحرار أهلُ ذمة" (5).
كما وقعت بين المسلمين ومواطنيهم فتن قليلة ما كان لها أن تشوه صفحة التعايش الجميل الذي أرساه الإسلام طوال قرون متعاقبة، فمثل هذه الوقائع القليلة حصلت بين المسلمين أنفسهم، لكن آدم متز ينبهنا إلى براءة المسلمين في كثير مما وقع من فتن بينهم وبين مواطنيهم من أهل الذمة، إذ «أكثر الفتن التي وقعت بين النصارى
(1) أخرجه أبو عبيد في الأموال، ص (236)، والبلاذري في فتوح البلدان، ص (217).
(2)
أخرجه مسلم ح (2613).
(3)
فتوح البلدان، ص (213 - 214)، وانظر الأموال، ابن زنجويه (1/ 425).
(4)
فتوح البلدان، ص (211).
(5)
أخرجه أبو عبيد في الأموال، ص) 247 - 248)، انظر: فتوح البلدان للبلاذري (222).
والمسلمين بمصر نشأت عن تجبر المتصرفين الأقباط» (1)، والمتصرفون الذين يعنيهم آدم متز هم نصارى أوكل إليهم المسلمون رعاية شؤون أهل دينهم من النصارى، فأساؤوا التصرف، وكانوا سبباً للوقيعة بين المسلمين والنصارى في «أكثر الفتن» .
ويمضي متز ليقول بتعجب بالغ بأن المسلمين نالهم الأذى من بعض هؤلاء المسؤولين من أهل الذمة: «من الأمور التي نعجب لها كثرة عدد العمال [أي المسؤولين] والمتصرفين غير المسلمين في الدولة الإسلامية، فكان النصارى هم الذين يحكمون المسلمين في بلاد الإسلام، والشكوى من تحكيم أهل الذمة في أبشار المسلمين وأموالهم شكوى قديمة
…
وكانت الحركات التي يقصد بها مقاومة النصارى موجهة أولاً إلى محاربة تسلط أهل الذمة على المسلمين» (2).
وحتى نستفيد من إخفاقات التعايش في تاريخنا فإنه ينبغي علينا الوقوف بصدق مع أسباب تلك المشكلات ومسبباتها؛ فإن التاريخ كثيراً ما يعيد نفسه، والعاقل يتعظ من غيره، ولا يقبل أن يكون عبرة لغيره.
عندما اجتاح التتار بلاد المسلمين سنة 658هـ فعل هولاكو الأفاعيل ببغداد وحلب وغيرها من مدائن المسلمين، ثم دخلوا دمشق فعاثوا فيها، وسلموها إلى أمير منهم نصراني يدعى (إبل سيان)، فركن إليه نصارى دمشق، وأحدثوا خيانة جرت إلى ويلات يذكرها ابن كثير في تاريخه:«فاجتمع به أساقفتهم وقسوسهم، فعظمهم جداً، وزار كنائسهم، فصارت لهم دولة وصولة بسببه، وذهب طائفة من النصارى إلى هولاكو وأخذوا معهم هدايا وتحفاً، وقدموا من عنده ومعهم أمان فرمان من جهته، ودخلوا من باب توما، ومعهم صليب منصوب يحملونه على رؤوس الناس، هم ينادون بشعارهم، ويقولون: ظهر الدين الصحيح؛ دين المسيح، ويذمون دين الإسلام وأهله، ومعهم أواني فيها خمر، لا يمرون على باب مسجد إلا رشوا عنده خمراً، وقماقم ملآنة خمراً يرشون منها على وجوه الناس وثيابهم، ويأمرون كل من يجتازون به في الأزقة والأسواق أن يقوم لصليبهم، ودخلوا من درب الحجر، فوقفوا عند رباط الشيخ أبي البيان، ورشوا عنده خمراً، وكذلك على باب مسجد درب الحجر الصغير والكبير .. فوقف خطيبهم إلى دكة دكان في عطفة السوق، فمدح دين النصارى، وذم دين الإسلام وأهله، ثم دخلوا بعد ذلك إلى كنيسة مريم وكانت عامرة، ولكن هذا سبب خرابها» ، ثم يحكي ابن كثير عن شكوى المسلمين للوالي (إبل سيان) ما فعله النصارى، فأهانهم وطردهم.
وما هي إلا شهور معدودات حتى انتصر المسلمون في عين جالوت، فجرى منهم ما لا يحسن ذكره من الانتقام «وفرح المؤمنون بنصر الله فرحاً شديداً، وأيد الله الإسلام وأهله تأييداً، وكبت الله النصارى واليهود والمنافقين، وظهر دين الله وهم كارهون، فتبادر عند ذلك المسلمون إلى كنيسة النصارى التي خرج منها الصليب، فانتهبوا ما فيها، وأحرقوها، وألقوا النار فيما حولها، فاحترق دور كثيرة للنصارى،
(1) الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، آدم متز (1/ 112).
(2)
المصدر السابق (1/ 105 - 106).
وملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً، وأُحرق بعض كنيسة اليعاقبة»، وهكذا فإن ما وقع من أحداث مؤسفة كان ردة فعل من المسلمين لما حصل قبل من النصارى، ولم يكن موقفاً دينياً، سببه اختلاف الأديان؛ بدليل ما يقوله ابن كثير في تتمة الخبر:«وهمت طائفة بنهب اليهود، فقيل لهم: إنه لم يكن منهم من الطغيان كما كان من عبدة الصلبان» (1).
وفي أحداث سنة 740هـ يحكي ابن كثير عن حريق كبير وقع في دمشق أتى على سوقها ومئذنة مسجدها والكثير من المساكن والمدارس، وسببه «أن جماعة من رؤس النصارى اجتمعوا في كنيستهم وجمعوا من بينهم مالاً جزيلاً، فدفعوه إلى راهبين قدما عليها من بلاد الروم، يحسنان صنعة النفط .. ولما تحقق نائب السلطنة أن هذا من فعلهم؛ أمر بمسك رؤوس النصارى، فأمسك منهم نحواً من ستين رجلاً، فأخذوا بالمصادرات والضرب والعقوبات وأنواع المثلات، ثم بعد ذلك صلب منهم أزيد من عشرة على الجمال» (2) ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ولا يرتضي الإنصاف أن نقارن أمثال تلك المشكلات العارضة بملابساتها الظرفية مع ما يحكيه تاريخ النصارى في معاملتهم لإخوانهم في الدين والمعتقد حين خالفوهم في بعض القضايا، ومن ذلك ما حكاه المؤرخ النصراني ساويرس ابن المقفع، فقد ذكر بأن هرقل أوصى جيشه فقال:«إن قال أحد: إن مجمع خليقدونية حق؛ فخلوه، ومن قال: إنه ضلال وكذب؛ أغرقوه في البحر .. ثم إن هرقل أقام أساقفة في بلاد مصر كلها إلى أنصنا، وكان يبلي أهل مصر بلايا صعبة، وكمثل الذئب الخاطف كان يأكل القطيع الناطق ولا يشبع» (3) وحكى ابن المقفع صورة من هذا العذاب بما تعرض له الأب مينا أخو البابا بنيامين، فقد "نزل عليه بلايا عظيمة، وأشعل في جنبيه المشاعل؛ حتى خرج شحم كِلاه من جنبه، وقلع أضراسه وأسنانه باللكم لاعترافه بالأمانة"، وذلك كله قبل إغراقه في البحر (4).
وبمثل هذه الفظائع تحدث التاريخ عن قرار المجمع الكاثوليكي المقدس عام 1568م بإعدام جميع سكان هولندا، ولم يستثنِ القرار من الثلاثة ملايين الساكنين في هولندا إلا بعض الموافقين للكنيسة، والذين ذكرهم القرار بأسمائهم (5).
وكان هذا المجمع قد أصدر قراراً عام (1486م) باسم البابا أنوسنت الثاني يبيح اغتصاب الهراطقة المسيحيين وقتلهم (6).
وقد تم تنفيذ مجازر تشيب لهولها الوِلدان، كمذبحة قرية بيزيريس (1209م)، حيث عزم البابا أنوسنت على تطهير جنوب فرنسا من الهراطقة، ولما كان سكان القرية مزيجاً بين الكاثوليك والكاثريين، ولم يمكن للقائد التفريق بينهم؛ فقد اقترح رئيس الدير
(1) البداية والنهاية (13/ 254 - 256).
(2)
المصدر السابق (14/ 216 - 217).
(3)
تاريخ البطاركة، ساويرس ابن المقفع (1/ 572 - 574).
(4)
المصدر السابق (1/ 572)، وقد دفع هذا كله الأقباط إلى تأييد المسلمين والترحيب بهم للخلاص من إخوانهم الرومان. انظر موسوعة الأنبا غريغوريوس (اللاهوت المقارن)، ص (267)، بل ذكر ابن المقفع إلى أن البابا بنيامين دعا لعمرو بن العاص بالغلبة والنصر. تاريخ البطاركة (1/ 575).
(5)
مختصر تاريخ الكنيسة، أندرو ملر، ص (611).
(6)
المصدر السابق، ص (382).
أرنود قتل جميع سكان القرية، قائلاً:«اقتلوهم جميعاً لأن الرب يعرف جماعته» (1)، فقتل ما يربو على 20 ألفاً، وأوصلته بعض التقديرات إلى مائة ألف.
لكن مذبحة سان بارثليمبو عام 1572م في باريس كانت أكبر منها، فقد راح ضحيتها سبعون ألف برتستنتي بمباركة من الكنيسة الكاثوليكية (2).
وحتى لا أطيل على قارئي الكريم فإني أختصر بنقل مقالة البابا إنوسنت الثالث، فهي تجسد روح تلك الفترة:«إن أي إنسان سوف يحاول بناء رأي شخصي عن الرب يتعارض مع عقيدة الكنيسة ينبغي حرقه من دون شفقة» (3).
وبالعود إلى المجتمع المسلم وعلاقته بغير المسلمين المقيمين فيه؛ فإن العلماء والخلفاء المسلمون ما زالوا يتواصون بحقوق أهل الذمة، كلٌ يحذر أن تخفر ذمة الله وذمة نبيه صلى الله عليه وسلم وهو شاهد، لأجل ذلك حرصوا على تفقد أحوالهم ومعرفة أمورهم، ومن ذلك أن وفداً من أهل الذمة جاء إلى عمر، قال عمر للوفد:(لعل المسلمين يفضون إلى أهل الذمة بأذى وبأمور لها ما ينتقضون بكم؟) فقالوا: ما نعلم إلا وفاء وحسن ملكة (4).
ويرسل عمر كتاباً إلى عامله أبي عبيدة، فيقول موصياً بأهل الذمة:"وامنع المسلمين من ظلمهم والإضرار بهم، وأكل أموالهم إلا بحلها، ووفِ لهم بشرطهم الذي شرطت لهم في جميع ما أعطيتهم"(5).
ولما جاءه مال الجباية سأل رضي الله عنه عن مصدره مخافة العنت والمشقة على أهل الذمة، ففي الأثر عنه رضي الله عنه "أنه أتي بمال كثير، أحسبه قال: من الجزية. فقال: إني لأظنكم قد أهلكتم الناس؟ قالوا: لا، والله ما أخذنا إلا عفواً صفواً. قال: بلا سوط ولا نوط؟ قالوا: نعم. قال: الحمد لله الذي لم يجعل ذلك على يدي ولا في سلطاني "(6).
ولما جاء عمر رضي الله عنه الشام تلقاه المقلسون من أهل أذرعات بالسيوف والريحان يلعبون بين يديه. فكره عمر لعبهم، وأمر بمنعهم. فقال له أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين هذه سُنتهم، وإنك إن منعتهم منها يروا أن في نفسك نقضاً لعهدهم. فقال عمر: دعوهم.
وفي رواية ابن زنجويه أنه قال: (دعوهم، عمرُ وآلُ عمر في طاعة أبي عبيدة)(7) فقد كره رضي الله عنه مساءتهم، وأن يظنوا به النقض، فأذعن لقول أبي عبيدة.
ولما تدانى الأجل به رضي الله عنه لم يفُته أن يوصي المسلمين برعاية أهل الذمة الذين قتله واحد منهم (أبو لؤلؤة المجوسي)، فقال:(أوصي الخليفة من بعدي بأهل الذمة خيراً، وأن يوفي لهم بعهدهم، وأن يقاتلوا من ورائهم، وألا يكلفوا فوق طاقتهم)(8) فكأنهم رضي الله عنه خشي أن يؤدي مقتله على يد واحد منهم إلى إجحاف في حق إخوانه من أهل الذمة.
وكتب إلى واليه في مصر: "واعلم يا عمرو أن الله يراك ويرى عملك، فإنه قال تبارك وتعالى في كتابه:{واجعلنا للمتقين إماماً} (الفرقان: 74) يريد [أي من
(1) المصدر السابق (332)، وانظر: الجانب المظلم في التاريخ المسيحي، هيلين إيليربي، ص (89).
(2)
مختصر تاريخ الكنيسة، أندرو ملر (648 - 650).
(3)
الجانب المظلم في التاريخ المسيحي، هيلين إيليربي، ص (92).
(4)
تاريخ الطبري (2/ 503).
(5)
أخرجه البلاذري في فتوح البلدان ح (144).
(6)
أخرجه أبو عبيد في الأموال ح) 91).
(7)
أخرجه أبو عبيد في الأموال (223)، وابن زنجويه في الأموال (1/ 386)، والبلاذري في فتوح البلدان (179).
(8)
أخرجه البخاري ح (1392).
المؤمن] أن يُقتدى به، وأن معك أهل ذمة وعهد، وقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم، وأوصى بالقبط فقال:«استوصوا بالقبط خيراً، فإن لهم ذمة ورحماً» ، ورحِمُهم أن أم إسماعيل منهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«من ظلم معاهداً أو كلفه فوق طاقته؛ فأنا خصمه يوم القيامة» احذر يا عمرو أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم لك خصماً، فإنه من خاصمه خَصَمه" (1).
وكتب علي بن أبي طالب رضي الله عنه بلسان الوجِل من ربه إلى عماله على الخراج: "إذا قدمت عليهم فلا تبيعن لهم كسوة، شتاءً ولا صيفاً، ولا رزقاً يأكلونه، ولا دابة يعملون عليها، ولا تضربن أحداً منهم سوطاً واحداً في درهم، ولا تقمه على رجله في طلب درهم، ولا تبع لأحد منهم عَرَضاً في شيء من الخراج، فإنا إنما أمرنا الله أن نأخذ منهم العفو، فإن أنت خالفت ما أمرتك به يأخذك الله به دوني، وإن بلغني عنك خلاف ذلك عزلتُك"(2).
ولما فتح المسلمون دمشق ولي قسم منازلها بين المسلمين سبرة بن فاتك الأسدي، فكان ينزل الرومي في العلو، وينزل المسلم في السفل؛ لأنْ لا يضر المسلم بالذمي (3).
ويدخل فقيه عصره أبو يوسف تلميذ أبي حنيفة على الخليفة هارون الرشيد يذكره برعاية أهل الذمة وتفقد أحوالهم، ويستميل قلبه بذكر قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحب ذمتهم، فيقول:"وقد ينبغي يا أمير المؤمنين - أيدك الله - أن تتقدم بالرفق بأهل ذمة نبيك وابن عمك محمد صلى الله عليه وسلم، والتفقد لهم حتى لا يظلموا، ولا يؤذوا، ولا يكلفوا فوق طاقتهم، ولا يؤخذ من أموالهم إلا بحق يجب عليهم"(4).
وقد شهد المؤرخون بسمو حضارتنا في هذا الباب، فقد اعترف بريادتنا له نصارى حمص حين كتبوا إلى أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه:" لولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والغشم، ولندفعن جند هرقل عن المدينة مع عاملكم"، ثم أغلقوا أبواب المدينة في وجه الروم إخوانهم في العقيدة (5).
وتنقل المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه في كتابها الماتع " شمس العرب تسطع على الغرب" شهادة مهمة من بطريك بيت المقدس، فتقول:" فبطريرك بيت المقدس يكتب في القرن التاسع لأخيه بطريرك القسطنطينية عن العرب: إنهم يمتازون بالعدل، ولا يظلموننا البتة، وهم لا يستخدمون معنا أي عنف"(6).
(1) ذكره المتقي الهندي في كنز العمال ح (14304).
(2)
أخرجه أبو يوسف في الخراج ح (18).
(3)
تاريخ ابن عساكر (20/ 28).
(4)
أخرجه أبو يوسف في الخراج ح (149).
(5)
أخرجه البلاذري في فتوح البلدان ح (187).
(6)
شمس العرب تسطع على الغرب، ص (364).