الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولما أغار أمير التتار قطلوشاه على دمشق في أوائل القرن الثامن الهجري، وأسر من المسلمين والذميين من النصارى واليهود عدداً، ذهب إليه الإمام ابن تيمية ومعه جمع من العلماء، وطلبوا فك الأسرى، فسمح له بالمسلمين، ولم يطلق الأسرى الذميين، فقال له شيخ الإسلام:"بل جميع من معك من اليهود والنصارى، الذين هم أهل ذمتنا، فإنا نفتكهم، ولا ندع أسيراً، لا من أهل الملة، ولا من أهل الذمة"، فأطلقهم الأمير التتري جميعاً (1).
وهذه الأحكام الشرعية لا تختص بأهل الذمة، بل تسري على كل من كان ببلاد المسلمين من المعاهدين والمستأمنين، فإنهم جميعاً أهل ذمة كما سبق بيانه، يقول السرخسي: "قد بيَّنا أنّ المستأمنين فينا إذا لم يكونوا أهل منعة؛ فحالهم كحالِ أهل الذمّة في وجوب نصرتِهم على أمير المسلمين، ودفع الظلم عنهم؛ لأنّهم تحت ولايته.
ألا ترى أنّه كان يجب على الإمام والمسلمين اتّباعهم لاستنقاذهم من أيدي المشركين الذين قهروهم ما لم يدخلوا حصونَهم ومدائنهم، كما يجب عليهم ذلك إذا وقع الظهور على المسلمين، أو على أهل الذمّة؟ وكذلك لو أنّ هؤلاء المستأمنين كانوا من أهل دار الموادعة، دخلوا إلينا بتلك الموادعة" (2).
وليست الحماية السبب الوحيد الذي لأجله شرعت الجزية، بل ذكر العلماء أموراً، منها أن الجزية والصغار وسيلة ضغط محدودة تدفع الذمي إلى التفكر في الإسلام والاطلاع على محاسنه والاهتداء إليه والفوز بالجنة.
قال ابن حجر: "قال العلماء: الحكمة في وضع الجزية أن الذل الذي يلحقهم ويحملهم على الدخول في الإسلام مع ما في مخالطة المسلمين من الاطلاع على محاسن الإسلام"(3).
د. متى تسقط الجزية عن أهل الذمة
؟
وحين عجز المسلمون عن حماية أهل الذمة ردوا إليهم ما أخذوه من الجزية لفوات شرطها، وهو الحماية، فقد روى القاضي أبو يوسف في كتاب الخراج وغيره من أصحاب السير عن مكحول أن الأخبار تتابعت على أبي عبيدة بجموع الروم، فاشتد ذلك عليه وعلى المسلمين، فكتب أبو عبيدة لكل والٍ ممن خلَّفه في المدن التي صالح أهلها يأمرهم أن يردوا عليهم ما جُبي منهم من الجزية والخراج، كتب إليهم أن يقولوا لهم: إنما رددنا عليكم أموالكم، لأنه قد بلغنا ما جمع لنا من الجموع، وإنكم قد اشترطتم علينا أن نمنعكم، وإنا لا نقدر على ذلك، وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم، ونحن لكم على الشرط وما كان بيننا وبينكم؛ إن نصرنا الله عليهم" (4).
وحين قام أهل الذمة بالمشاركة بالذود عن بلادهم أسقط عنهم المسلمون الجزية، كما صنع معاوية رضي الله عنه مع الأرمن، يقول لوران المؤرخ الفرنسي في كتابه "أرمينية بين بيزنطة والإسلام": "إن الأرمن أحسنوا استقبال المسلمين ليتحرروا من ربقة بيزنطة، وتحالفوا معهم ليستعينوا بهم على مقاتلة الخزر، وترك العرب لهم أوضاعهم التي
(1) مجموع الفتاوى (28/ 617 - 618).
(2)
السير الكبير وشرحه (5/ 1892 - 1891).
(3)
فتح الباري (6/ 259).
(4)
أخرجه أبو يوسف في الخراج، ص (166)، وانظره في: فتوح البلدان للبلاذري، ص (187).
ألفوها وساروا عليها، والعهد أعطاه معاوية سنة 653م، إلى القائد تيودور رختوني ولجميع أبناء جنسه ماداموا راغبين فيه، وفي جملته: (أن لا يأخذ منهم جزية ثلاث سنين، ثم يبذلون بعدها ما شاؤوا، كما عاهدوه وأوثقوه على أن يقوموا بحاجة خمسة عشر ألف مقاتل من الفرسان منهم بدلاً من الجزية، وأن لا يرسل الخليفة إلى معاقل أرمينيا أمراء ولا قادة ولا خيلاً ولا قضاة
…
وإذا أغار عليهم الروم أمدهم بكل ما يريدونه من نجدات. وأشهد معاويةُ الله على ذلك) (1).
ولما تعهد الجراجمة (قريباً من أنطاكيا) بالقيام بالدفاع عن ثغرهم مع المسلمين، وأن يكونوا عيوناً للمسلمين وأعواناً لهم؛ أسقط عنهم أبو عبيدة رضي الله عنه الجزية، بل صالحهم على أن ينفلوا مع المسلمين إذا غنموا في حربهم إلى جانب المسلمين (2).
وبمثله صالح رضي الله عنه أهل السامرة فأسقط عنهم الجزية، يقول البلاذري:"كانوا عيوناً وأدلاء للمسلمين على جزية رؤوسهم"(3).
وأما أهل جرجان، فقد نقل الطبري أن سويد بن مقرن رفع الجزية عمن يقوم بحمايتها منهم، وكتب لهم بذلك كتاباً جاء فيه:" إن لكم الذمة، وعلينا المنعة، على أن عليكم من الجزاء (أي الجزية) في كل سنة على قدر طاقتكم، على كل حالم، ومن استعنا به منكم فله جزاؤه (جزيته) في معونته عوضاً من جزائه، ولهم الأمان على أنفسهم وأموالهم ومللهم وشرائعهم، ولا يغير شيء من ذلك هو إليهم؛ ما أدوا وأرشدوا ابن السبيل ونصحوا وقروا المسلمين، ولم يبد منهم سل ولا غل "(4).
ومثله ما كتبه عتبة بن فرقد عامل عمر بن الخطاب لأهل أذربيجان، فقد أعطاهم "كلهم الأمان على أنفسهم وأموالهم ومللهم وشرائعهم، على أن يؤدوا الجزية، على قدر طاقتهم ليس على صبي ولا امرأة، ولا زمِن ليس في يديه شيء من الدنيا، ولا متعبد متخل ليس في يديه من الدنيا شيء
…
ومن حشر منهم في سنة (أي دعي للمشاركة في الدفاع) وضع عنه جزاء تلك السنة".
ثم يضيف الطبري بأن عتبة قدم بالكتاب على الخليفة عمر " وذلك أن عمر كان يأخذ عماله بموافاة الموسم في كل سنة، يحجر عليهم بذلك الظلم، ويحجزهم به عنه"(5).
ومثله أيضاً كتب سراقة بن عمرو لأهل أرمينيا، فقد تضمن عهدهم:" أن ينفروا لكل غارة، وينفذوا لكل أمر ناب أو لم ينب؛ رآه الوالي صلاحاً؛ على أن توضع الجزاء عمن أجاب إلى ذلك .. والحشر عوض من جزائهم، ومن استغنى عنه منهم وقعد فعليه مثل ما على أهل أذربيجان من الجزاء .. فإن حشروا وضع ذلك عنهم "(6).
(1) انظر: مقال علي بن علي منصور بعنوان: "بين الشريعة الإسلامية والقانون الدولي"، مجلة "رسالة الإسلام"، العدد (54)، وانظر: فتوح البلدان، ص (210 - 211).
(2)
أخرجه البلاذري في فتوح البلدان، ص (217).
(3)
أخرجه البلاذري في فتوح البلدان، ص (215 - 216).
(4)
تاريخ الطبري (2/ 538).
(5)
المصدر السابق (2/ 540).
(6)
المصدر السابق (2/ 541).