المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌سادسا: التكافل الاجتماعي - التعايش مع غير المسلمين في المجتمع المسلم

[منقذ السقار]

الفصل: ‌سادسا: التكافل الاجتماعي

‌سادساً: التكافل الاجتماعي

لعل من أهم الضمانات التي يقدمها الإسلام لغير المسلمين - الذين يقيمون في المجتمع المسلم - كفالتهم ضمن نظام التكافل الإسلامي.

فإن الله عز وجل بعث نبيه صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} (الأنبياء: 107)، وقد أمر صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يتصفوا بصفة الرحمة، في تعاملهم فيما بينهم ومع غيرهم، بل وحتى مع الحيوان، فقال صلى الله عليه وسلم:«لا يرحم الله من لا يرحم الناس» (1)، وكلمة الناس لفظة عامة تشمل كل أحد، دون اعتبار لجنس أو دين.

قال ابن بطال: "فيه الحض على استعمال الرحمة لجميع الخلق ، فيدخل المؤمن والكافر والبهائم والمملوك منها وغير المملوك"(2).

ومن صور رحمة المسلمين بالحيوان ما يحكيه لنا الأنبا ايسذورس عن رحمة عمرو بن العاص بحمامة بنت عشها على فسطاطه بين المقطم وحصن بابليون، فلما أراد الجند التوجه للإسكندرية وشرعوا في هدم الخيام لحظوا الحمامة وعشها، فقال عمرو:"لقد احتمت بجوارنا، حرام علينا أن نخون بها، وقد استجارت وتحصنت بِحمانا، اتركوا فسطاطي منصوبة لها إلى أن يطير فراخها"، وترك عمرو رجلاً يحرس الحمامة وفراخها، ثم لما رجع من الاسكندرية بنى في محله مدينة الفسطاط (3).

وحث الإسلام أيضاً المؤمنين وألزمهم بالإحسان والبر في معاملة من لا يعتدي على المسلمين، فقال تبارك وتعالى:{وأحسنوا إن الله يحب المحسنين} (البقرة: 195).

وقد جعل الإسلام دفع الزكاة إلى مستحقيها من المسلمين وغيرهم ركناً من أركان الإسلام، فقال تعالى:{إنما الصدقات للفقراء والمساكين} (التوبة: 60) قال القرطبي: " ومطلق لفظ الفقراء لا يقتضي الاختصاص بالمسلمين دون أهل الذمة .. وقال عكرمة: الفقراء فقراء المسلمين، والمساكين فقراء أهل الكتاب"(4).

ويقول السرخسي: "لنا أن المقصود سد خلة المحتاج ودفع حاجته بفعل هو قربة من المؤدي، وهذا المقصود حاصل بالصرف إلى أهل الذمة، فإن التصديق عليهم قربة

(1) أخرجه البخاري ح (7376).

(2)

تحفة الأحوذي (6/ 42).

(3)

انظر: الخريدة النفيسة في تاريخ الكنيسة، الأنبا ايسذورس (2/ 104).

(4)

الجامع لأحكام القرآن (8/ 174)، وقد منع كثير من الفقهاء إعطاء أهل الذمة من الزكاة المفروضة استدلالاً بقوله صلى الله عليه وسلم:«فتؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم» .

ص: 37

بدليل التطوعات، لأنّا لم ننه عن المبرة لمن لا يقاتلنا، قال الله تعالى:{لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين} (الممتحنة: 8) " (1).

ولئن كان الخلاف بين الفقهاء قوياً في بر أهل الذمة من أموال الزكاة المفروضة، فإنهم أجازوا دفع الكفارة الواجبة إلى أهل الذمة، بل قدمهم الكاساني فيها حتى على المسلم، لأنها "وجبت لدفع المسكنة، والمسكنة موجودة في الكفرة، فيجوز صرف الصدقة إليهم، كما يجوز صرفها إلى المسلم، بل أولى، لأن التصدق عليهم بعض ما يرغبهم إلى الإسلام ويحملهم عليه"(2).

وأمر القرآن الكريم ورغَّب بالصدقة على غير المسلمين، فقد روى أبو عبيد أن بعض المسلمين كان لهم أنسباء وقرابة من قريظة والنضير، وكانوا يتقون أن يتصدقوا عليهم، يريدوهم أن يسلموا، فنزلت:{ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم} (البقرة: 272)(3).

وقد جاء في مراسيل سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تصدق بصدقة على أهل بيت من اليهود، فهي تجري عليهم " (4).

وعليه قد أجاز فقهاء الشريعة التصدق على أهل الذمة، يقول أبي رزين: كنت مع سفيان بن سلمة، فمر عليه أسارى من المشركين، فأمرني أن أتصدق عليهم، ثم تلا هذه الآية:{ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً} (الإنسان: 8).

يقول أبو عزيز بن عمير: كنت في الأسارى يوم بدر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«استوصوا بالأسارى خيراً» ، وكنت في نفر من الأنصار، وكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم أكلوا التمر وأطعموني الخبز، بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم (5).

كما أجاز الفقهاء الوقف لهم، واعتبروه من وجوه البر التي يحبها الله، يقول محمد بن الحسن الشيباني:"ويصح [الوقف] على أهل الذمة؛ لأنهم يملكون ملكاً محترماً، وتجوز الصدقة عليهم .. وإذا جازت الصدقة عليهم جاز الوقف عليهم كالمسلمين، وروي أن صفية زوج النبي صلى الله عليه وسلم وقفت على أخ لها يهودي، ولأن من جاز أن يقف عليه الذمي جاز أن يقف المسلم عليه كالمسلم، ولو وقف على من ينزل كنائسهم وبيعهم من المارة والمجتازين من أهل الذمة وغيرهم؛ صح"(6).

وهذا كما رأينا بعض البر والعدل الذي حثَّ عليه القرآن الكريم، حين ذكر أهل الذمة المسالمين الذين لا يعتدون على المسلمين، فقال: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب

(1) المبسوط (2/ 210).

(2)

بدائع الصنائع (4/ 262).

(3)

أخرجه أبو عبيد في الأموال ح (1321)، وابن زنجويه في الأموال ح (1862) وصححه الألباني في تمام المنة (1/ 389).

(4)

أخرجه أبو عبيد في الأموال ح (1322)، وصحح الألباني إسناده إلى سعيد في تمام المنة (1/ 378).

(5)

أخرجه الطبراني في معجمه الكبير ح (18410)، قال الهيثمي:"إسناده حسن" مجمع الزوائد (6/ 86)، ومثله مروي في تاريخ دمشق لابن عساكر عن الوليد بن الوليد بن المغيرة، وزاد أنهم "كانوا يحملوننا [أي على الدواب] ويمشون". تاريخ دمشق، ابن عساكر (67/ 9).

(6)

الشرح الكبير (6/ 212).

ص: 38

المقسطين} (الممتحنة: 8).

ويفصل الإمام القرافي في شرحه للبر والعدل المأمور به في معاملة غير المسلمين، فيقول: "وأما ما أمر به من برِّهم من غيرمودة باطنية، فالرفق بضعيفهم، وسد خلة فقيرهم، وإطعام جائعهم، وكساء عاريهم .. وصون أموالهم، وعيالهم، وأعراضهم، وجميع حقوقهم ومصالحهم، وأن يعانوا على دفع الظلم عنهم، وإيصالهم لجميع حقوقهم

" (1).

ويقول القرشي المالكي في شرحه على مختصر خليل: "دفع الضرر وكشف الأذى عن المسلمين أو ما في حكمهم من أهل الذمة من فروض الكفايات، من إطعام جائع وستر عورة، حيث لم تفِ الصدقات ولا بيت المال بذلك"(2).

ووفق هذا الهدي سلك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من بعده، فكتب خالد بن الوليد رضي الله عنه لنصارى الحيرة:"وجعلتُ لهم أيما شيخ ضعف عن العمل، أو أصابته آفة من الآفات، أو كان غنياً فافتقر وصار أهل دينه يتصدقون عليه؛ طرحت جزيته، وعيل من بيت مال المسلمين هو وعياله"(3).

وروى ابن زنجويه بإسناده أن عمر بن الخطاب رأى شيخاً كبيراً من أهل الجزية يسأل الناس فقال: (ما أنصفناك إن أكلنا شبيبتك، ثم نأخذ منك الجزية، ثم كتب إلى عماله أن لا يأخذوا الجزية من شيخ كبير)(4).

وفي رواية أن عمر أخذ بيده وذهب به إلى منزله، فرضخ له بشيء من المنزل، ثم أرسل إلى خازن بيت المال فقال:(انظر هذا وضرباءه، فوالله ما أنصفناه أن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم {إنما الصدقات للفقراء والمساكين} (التوبة: 60) والفقراء هم المسلمون، وهذا من المساكين من أهل الكتاب)، ووضع عنه الجزية وعن ضربائه (5).

وكان مما أمر به رضي الله عنه: "من لم يطق الجزية خففوا عنه، ومن عجز فأعينوه"(6).

ومر رضي الله عنه في الجابية على مجذومين من أهل الذمة، فأمر أن يعطوا من صدقات المسلمين، وأن يجرى عليهم القوت من بيت المال (7).

وكتب الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز إلى واليه عدي بن أرطأة: "وانظر من قِبَلك من أهل الذمة قد كبرت سنه وضعفت قوته وولت عنه المكاسب؛ فأجرِ عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه"(8).

وقد سجل هذه الرعاية الفريدة المستشرق بارتولد في كتابه "الحضارة الإسلامية"،

(1) الفروق (3/ 21).

(2)

شرح القرشي على مختصر خليل (3/ 109).

(3)

أخرجه أبو يوسف في كتاب الخراج (151).

(4)

أخرجه أبو يوسف في كتاب الخراج (150 - 151)، وانظر الأموال (1/ 163).

(5)

أخرجه أبو يوسف في كتاب الخراج (151).

(6)

تاريخ مدينة دمشق (1/ 178).

(7)

أخرجه البلاذري في فتوح البلدان ح (177).

(8)

أخرجه أبو عبيد في كتاب الأموال ح (94) وانظر: الأموال، ابن زنجويه (1/ 169).

ص: 39

فقال: "إن النصارى كانوا أحسن حالاً تحت حكم المسلمين، إذ أن المسلمين اتبعوا في معاملاتهم الدينية والاقتصادية لأهل الذمة مبدأ الرعاية والتساهل"(1).

(1) انظر: تاريخ أهل الذمة في العراق، توفيق سلطان، ص (124).

ص: 40