الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تحقيق الكلام في وجوب القيام
وجاءنا من العلامة الأوحد الأستاذ صاحب الإمضاء هذه
الرسالة ننشرها بحروفها لما فيها من
الفائدة قال حفظه الله تعالى
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه وتابعيه ومن أحبه وبعد فيقول أضعف الخلق على الإطلاق محمد ابن العلامة المرحوم الشيخ قاسم الحلاق الدمشقي الشهير بالقاسمي قد التمس مني بعض الأحبة، الصادق في المحبة، أن أحرر رسالة صغيرة الحجم؛ قريبة إلى الفهم، أكشف فيها اللثام، عما توهمه عبارة العلامة ابن حجر من بدعة القيام عند ذكر ولادته عليه الصلاة والسلام فأجبته لمطلوبه، وحررتها طبق مرغوبه مع قلة البضاعة، وعدم كوني من فرسان هذه الصناعة، وسميتها تحقيق الكلام في وجوب القيام أثناء تلاوة قصة مولده حين وضعه عليه الصلاة والسلام (ثم إني) اطلعت في هذه الأيام على مقالة في الجزء السادس من المجلد الثاني من مجلة (الحقائق) الغراء عنوانها (استحباب القيام عند ذكر ولادته عليه الصلاة والسلام لصديقنا الفاضل ووطنينا العالم الكامل الشيخ محمود العطار فألفيته قد أجاد بكتابه وأفاد، وحصل بها غاية المراد بيد أنه قد شطح قلمه فحكم على عبارة العلامة ابن حجر بأنها هفوة منه ولم يدقق النظر في مرماها وقد قالوا أن لعبارات العلماء في كتبهم غوامض لا يكشفها إلا التلقي من أفواه الشيوخ أو إمعان النظر في مسلكها فإن من سننهم ذكر لفظ مطلقاً في محل ومقيّداً في آخر ومجملاً في محل ومبيناً في آخر تأسيّاً بالكتاب العزيز واعتماداً على القيود المخصصة فربما يسهو القارئ عن تلك فيأخذ الحكم من المطلق غافلاً عن قيده وكذلك المجمل فيأخذه بإجماله ساهياً عن بيانه وهناك الخطأ ومنه يؤتى. ولذا ورد عن بعض السلف (الفهم الفهم فيما أدلى إليك الخ فقصدت أن أزيد شيئاً نزراً في المقام وأحذف بعضاً بقدر الإمكان ليتبين الحال والشأن وبحوله تعالى وقوته المستعان وعليه التكلان آمين (أقول) حاصل ما ذكره العلامة في فتاواه الحديثية أنه سئل فيها عما صورته (روي في التفسير أنه لما نزل أتى أمر الله وثب النبي صلى الله عليه وسلم فهل لنا إذا قرأناه أن نقوم أولاً الخ (فأجاب) بما
حاصله أنه صلى الله عليه وسلم لم يثب إلا فزعاً من سماع قول أتى أمر الله وأنه لم يثب تشريعاً لأمته ليفعلوا مثل ما فعله وإن ذلك السبب زال بنزول فلا تستعجلوه وإن الوقوف بعد قراءَتها غير سنة إلى أن قال ففعل ذلك الآن بدعة لا ينبغي فعلها أو ارتكابها لإيهام العامة ندبها ونظير ذلك فعل كثير عند ذكر ولادته ومولده صلى الله عليه وسلم ووضع أمه له من القيام وهو أيضاً بدعة لم يرد فيها شيء على أن الناس إنما يفعلون ذلك تعظيماً له صلى الله عليه وسلم فالعوام معذورون لذلك بخلاف الخواص والله تعالى أعلم بالصواب) أهـ المراد منه.
والكلام في ذلك في فصول الفصل الأول في بيان البدعة وبيان المراد منها هنا على سبيل الاختصار ليزيل الوهم والإبهام حيث أنه قد ظهر قوم ممن لا خلاق لهم يكرهون القيام عند ذكر الوضع المتقدم ويتمسكون بظاهر ما ذكره العلامة المذكور من بدعة القيام فقلت لا يغتر بذلك الظاهر لأن لفظ البدعة لفظ مجمل وهو لغة المبهم واصطلاحاً له حدود منها قولهم ما دل دلالة لا يتعين المراد منها إلا بمعين ومنها قولهم ما ازدحمت فيه المعاني واشتبه المراد اشتباهاً لا يدرك بنفس العبارة بل بالرجوع إلى الاستفسار الخ ومنها قولهم مالم تتضح دلالته وكلها لا تخلو عن إيراد عليها وأولاها أولها وحكم التوقف فيه فلا يعمل به ولا يستفاد منه حكم مالم يأت البيان وهو لغة الإيضاح ورفع الاشتباه واصطلاحاً إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي وقد رفع الاشتباه رحمه الله ببيانه وإن تأخر لأن تأخير البيان إلى وقت الحاجة أو إلى وقت الفعل جائز واقع عند الجمهور كما في الجوامع فلا لوم على العلامة المذكور في ذكر الإجمال هنا لنقله إياه أي البيان بعد ورقات من فتاواه المذكورة عن العز ابن عبد السلام رحمهما الله تعالى قال هناك ما حاصله بدعة فعل مالم يعهد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وتنقسم إلى خمسة أحكام يعني الوجوب والندب الخ أي والحرام والمكروه والمباح قال وطريق معرفة ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشرع الشريف فأي حكم دخلت فيه فهي منه فمن البدع الواجبة تعلم النحو الذي يفهم به القرآن والسنة وذكر هناك بقية الأمثلة فليراجعها من أراد إلى أن قال وفي الحديث كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار وهو محمول على المحرمة لا غير أهـ وفي شرح القاموس تحت مادة بدع مالفظه وقال ابن السكيت البدعة كل محدثة وفي حديث قيام
رمضان نعمت البدعة هذه وقال ابن الأثير البدعة بدعتان بدعة هدى وبدعة ضلال فما كان في خلاف ما أمر الله بهِ ورسوله فهو في حيز الذم والإنكار وما كان واقعاً تحت عموم ما ندب الله إليه وحض عليه أو رسوله فهو في حيز المدح وما لم يكن له مثال موجود كنوع من الجود والسخاء وفعل المعروف فهو من الأمثال المحمودة ولا يجوز أن يكون ذلك في خلاف ما ورد الشرع به لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل له في ذلك ثواباً فقال من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها وقال في ضده ومن سن سنة سيئة كان عليهِ وزرها ووزر من عمل بها وذلك إذا كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله قال ومن هذا النوع قول عمر رضي الله عنه نعمت البدعة هذه ولما كانت من أفعال الخير وداخلة في حيز المدح سماها بدعة ومدحها لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسنها لهم وإنما صلاها ليالي ثم تركها ولم يحافظ عليها ولا جمع الناس لها ولا كانت في زمن أبي بكر رضي الله عنه وإنما عمر جمع الناس عليها وندبهم إليها فبهذا سماها بدعة وهي على الحقيقة سنة لقوله صلى الله عليه وسلم عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي وقوله صلى الله عليه وسلم اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر وعلي هذا التأويل يحمل الحديث الآخر كل محدثة بدعة إنما يريد ما خالف أصل الشريعة ولم يوافق السنة وأكثر ما يستعمل المبتدع عرفاً في الذم أهـ فتبين من الحديث المذكور أن لفظ سنة حسنة فيه عام يتناول الواجب والمستحب كما أن لفظ سنة سيئة كذلك يتناول الحرام والمكروه كل ذلك ما لم تقم قرينة على التخصيص كما هو معلوم إذا عرف هذا فالبدعة المبحوث عنها لا تخلو إما أن تكون حسنة أو سيئة أما الثانية فلا سبيل إليها هنا بل لا تكاد تخطر في مخيلة أحد ممن قلبه مثقال حبة من خردل من محبته صلى الله عليه وسلم وأما الأولى فهي وإن كان لفظها عاماً كما تقدم فقد قامت قرينة معينة دالة على الوجوب وهي العلة التي هي التعظيم الذي هو مناط الحكم فيتأمل. ولا يذهب عليك قولهم بدعة حسنة أو مستحسنة أو بدعة هدى أو نحو ذلك أنه خاص بالمستحب كما قد توهم بل يشمله والواجب أيضاً لأن كلاً منهما متصف بالاستحسان كما أن قولهم بدعة سيئة أو غير مستحسنة يشمل الحرام والمكروه لأن كلا منهما لا استحسان فيه البتة فلينتبه له. وبه تعلم أن الاستحسان الواقع في كلام الشيخ البرزنجي في مولده الشهير (هذا وقد استحسن القيام) الخ خاص بالوجوب لتعينه بالقرينة
التي ذكرها فيه من التعظيم وهي العلة المتقدمة بعينها فليتأمل. وإذا ركب دليل مما تقدم من الشكل الأول ينتج المدعى ونظمه أن يقال إن القيام عند ذكر وضعه الشريف مشعر بتعظيمه ومحبته وحفظ الأدب معه وكل ما كان كذلك فهو واجب فالقيام حينئذ واجب وهو المطلوب لأنه يلزم من صحة الملزوم صحة اللازم هذا وقد وافقنا صديقنا المذكور في صغرى الشكل المتقدم وفي كبراه أي في أن القيام للتعظيم وأن التعظيم واجب بل قال أنه فرض في مواضع من مقالته منها عند قوله تعالى (لتؤمنن به الآية) فقال ما لفظه فقد فرض علينا تعظيمه الخ ومنها بعد كلمات ومن أراد بسط الكلام على وجوب تعظيمه) الخ وفي أواخرها مثل ذلك. ومنها أثناء كلام لهُ ما نصهُ (على أنا نجعلهُ أي القيام فرداً من أفراد التعظيم الذي كلفنا به عموماً فحينئذ يدخل تحت الأمر فيكون من باب دلالة (النص) الخ قلت أو يقال أن الأخذ بالعلة المنصوصة من الأخذ بالنص فليتأمل. فتبين من قوله كلفنا الخ أن التكليف لا يكون إلا بالواجبات ومن قوله من باب دلالة النص الخ أن العام يوجب الحكم فيما يتناوله قطعاً عند السادة الحنفية وظناً عند السادة الشافعية لاحتمال التخصيص فليتأمل وخالفنا في النتيجة حيث أثبت هناك استحباب القيام كما مر وأنت تعلم أن من جزم بأن القيام للتعظيم وأنه واجب لزمه القول بوجوب القيام من حيث لا يدري لأنهم أجمعوا على أنه متى سلمت الصغرى والكبرى عند الخصم سلمت النتيجة لزوماً شاء أو أبى وحينئذ ينتج الوجوب لا غير كما لا يخفى على من له أدنى تدرب في فني النظر والمناظرة.
(فصل في الإيرادات التي وردت على هذا الشكل من بعض أهل العلم حفظهم الله تعالى)
الأول ما لفظه فإن قيل لا نسلم الصغرى فإن القيم ليس من شعائر التعظيم في الشرع ولذا لم يثبت عن الصحابة أنهم كانوا يقومون لمجيئه صلى الله عليه وسلم ولو سلم أنه من شعائر التعظيم فلا نسلم أنه عند الوضع فقط بل عند ذكر اسمه الشريف وعند قراءَة حديثه وعند سيرته وهلم جرا فيلزم القيام في سائر هذه الأحوال واللازم باطل أهـ والجواب إن القيام في المولد بالقيود الآتية قد صار في هذه الأزمان من شعار التعظيم بكفر من لم يقم عند قيام الناس كما سيأتي وكذلك صديقنا نقل في مقالته عن الدر وغيره بأنه يجب إلحاق الاستهزاء والاستخفاف به (أي الشتم) أي في كون كل منهما يوجب الكفر والقتل حداً
فلينظر. لا سيما وقد اعتاد الناس فيها أي في هذه الأزمان قيام بعضهم لبعض تعظيماً لهم واحتراماً لشأنهم فإذا تركوا القيام له صلى الله عليه وسلم حينئذ وهو أحق بالقيام حيث يجب من احترامه وتعظيمه ملا يجب لغيره فليتأمل. بخلاف القيام عند ذكر اسمه الشريف وعند ذكر حديثه وسيرته وهلم جرا فلا يجب ولا يستحب فعل ذلك لأنه لم يستحسن عند الناس ولا اعتادوه لا في هذه الأزمان ولا في الأزمان السابقة كما هو معلوم فلم يصر من شعار التعظيم إلى الآن ولو فرضنا أنه صار من الشعار المذكور كما في المولد الذي نحن بصدده لأوجبناه أيضاً حيث أن الحكم يدور مع علته كما لا يخفى على من له أدنى إحاطة من العلم في مدارك الأحكام المشروعة إذا تقرر هذا لديك علمت أن القيام في المولد مع كونه صار من شعار التعظيم كما سلف قد صار من الأفعال المشروعة المحمودة المستحسنة أيضاً بل هو من أحمدها وأحسنها وحينئذ فلا يجوز أن يكون خلاف ما ورد الشرع به وإن لم يثبت عن الصحابة بل وإن لم يوجد في القرون الفاضلة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل له في ذلك ثواباً في الحديث المار حيث أنهُ من السنة الحسنة كما تقدم وبالجملة فمن تأمل هذا الخبر بلب صحيح ووجدان صادق وجده بعمومه وافياً بكل حادثة تحدث وقائماً ببيان كل نازلة تنزل إن حسنة فحسنة وإن سيئة فسيئة فهو أذن من جوامع الكلم التي أُوتيها صلى الله عليه وسلم أي الكلمات الجامعة للمعاني الكثيرة في المباني اليسيرة فلم يشذ عن شرعه الشريف ولفظه المنيف شيٌ مما كان وسيكون مصداقهُ قوله تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم) ولا معنى للإكمال كما في حصول المأمول إلا وفاء نصوص الكتاب بما يحتاج إليه الشرع أما بالنص على كل فرد فرد أو باندراج ما يحتاج إليه تحت العمومات الشاملة من الكتاب والسنة يؤيد ذلك قوله تعالى (مافرطنا في الكتاب من شيء) وقله تعالى (ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين) عرفذلك من عرفه وجهله من جهله.
(فائدة)
الاستدلال بالعمومات جائز ومحتج بها عن الأكثر قبل التخصيص وبعده عن الأكثروني وفي جمع الجوامع وشرحه والعام المخصص قال الأكثر حجة مطلقاً لاستدلال الصحابة به من غير نكير أهـ.
وفي حصول المأمول ما لفظه ونحن نعلم بالضرورة أن نسبة اللفظ إلى كل الأقسام على
السوية وإخراج البعض منها بمخصص لا يقتضي إهمال دلالة اللفظ على ما بقي ولا يرفع التعبد به وقد ثبت عن سلف هذه الأمة ومن بعدهم الاستدلال بالعمومات المخصوصة وشاع ذلك وذاع وقد قيل أنه ما من عموم إلا وقد خص وأنه لايوجد عام غير مخصص فلو قلنا أنه غير حجة في مابقي للزم إبطال كل عموم ونحن نعلم أن غالب هذه الشريعة المطهرة إنما تثبت بعمومات أهـ ولنرجع إلى ما نحن بصدده فنقول ويمكن أن يستأنس له بحديث قوموا لسيدكم أو إلى سيدكم فإن فيه الأمر للمخاطبين بأن يقوموا إلى سيدهم فسيد الكل سيد ولد آدم ولا فخر أولى وأحق من هذا. فإن قيل لم استأنست به ولم تجعله دليلاً لمدعاك قلت أنه لم يصلح للاستدلال به بسبب ما طرقه من الاحتمال فلم ينهض حجة لذلك يعلم ذلك من له أدنى إلمام في هذا الشأن.
(الإيراد الثاني) ما مؤداه أن الكبرى غير مسلمة لأن القيام المذكور وإن سلم أنه فيها مشعر بالتعظيم كما تقدم لكن لا نسلم أن كل ما أشعر بالتعظيم يكون فعله واجباً لم لا يجوز أن يكون مستحباً (وجوابه) أن الوجوب هنا مبني على شيئين كما تقدم كونه مشعراً بالتعظيم وكون تركه الآن يعد تهاوناً واستخفافاً به لا بمجرد الإشعار بالتعظيم كما توهم فليتأمل ووجوب القيام هنا مقيد بما إذ تلي المولد على الوجه المعتاد في جميع القرى والبلاد واجتمع الخاص والعام وقاموا لقدومه صلى الله عليه وسلم بذكر ولادته وإظهاراً لتعظيمه فحينئذٍ يجب على كل من حضر القيام لا مطلقاً فلينتبه له وفهم من قوله بالوجوب لذلك أن من تخلف وقتئذٍ فهو آثم بل نقل في مواكب ربيع في مولد النبي الشفيع كفره قال هناك ما لفظه ولعمري إذا لم يقم لقدومه صلى الله عليه وسلم وله التخيل بذكر ولادته فلمن يقام فينبغي تأكده بل أفتى المولى أبو السعود العمادي الحنفي بكفر من يتركه حين يقوم الناس لأشعاره بضد ذلك أهـ أي ضد إظهار التعظيم والفرح به والسرور ثم قال بعد ورقات من كلامه جرت العادة بالعناية بأمر المولد ليلته أو يومه بحيث يقع الاجتماع وإظهار الفرح وإطعام الطعام والإحسان للفقراء وقراءة القرآن والذكر وإنشاد القصائد النبوية والصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم وقراءة قصة المولد وما اشتمل عليه من كرامته ومعجزاته وذلك وإن لم يفعله أحد من السلف في القرون الثلاثة من أحسن ما ابتدع كما قاله الإمام أبو شامه والسيوطي والسخاوي وابنا حجر وكثيرون وأول من أحدثه الملك المظفر
صاحب إربل (بكسر الهمزة والموحدة وسكون الراء بينهما) قلعة على مرحلتين من الموصل المتوفى سنة ثلاثين وستمائة فأقره عليه أفاضل العلماء وعامة الصلحاء وكان يطلق عليهم فيه العطايا والخلع السنية ويبالغ فيما يفعله فيه من الخيرات إلى أن قال وأما خبر إياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة فالمراد بها فيه ما أحدث وخالف كتاباً أو سنة أو إجماعاً أو أثراً لا ما أحدث من الخير ولم يخالف شيئاً من ذلك كما قاله الشافعي رضي الله عنه ولا مرية أن هذا من الخير الذي لم يخالف ذلك فإنه مع ما فيه من الإحسان للفقراء وتعاهد الجيران والأخوان وأنواع الذكر مشعر بمحبته صلى الله عليه وسلم وتعظيمه وشكر الله على ما من به من إيجاده رحمة للعالمين وقد سئل الإمام أبو زرعة عن فعل المولد أمستحب أو مكروه وهل ورد فيه شيء أو فعله من يقتدى به فقال إطعام الطعام مستحب في كل وقت فكيف إن انضم لذلك السرور بظهور نور النبوة في هذا الشهر الشريف ولا نعلم ذلك عن السلف ولا يلزم من كونه بدعة كونه مكروهاً فكم من بدعة مستحبة بل واجبة أهـ فتبين من قوله فأقره عليه الخ إلى أن ذلك إجماع منهم قال في حصول المأمول (الإجماع المعتبر في فنون العلم إنما هو إجماع أهل ذلك الفن العارفين به دون من عداهم فالمعتبر في الإجماع في المسائل الفقهية قول جميع الفقهاء وفي المسائل الأصولية قول جميع الأصوليين وفي المسائل النحوية قول جميع النحويين ونحو ذلك ومن عدا أهل ذلك الفن هو في حكم العوام فمن اعتبرهم في الإجماع اعتبر غير أهل الفن ومن لا فلا أهـ وتبين أيضاً أن فعل ذلك صار من اتباع سبيل المؤمنين الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر المعصومين من اجتماعهم على ضلالة المفروض اتباعهم المحرم مخالفتهم. هذا ومقتضى الاعتبار هو دلالة السنة عليه كما (الإيراد الثالث) ما نصه أن استنباط الأحكام الشرعية من وجوب وغيره لا يصدر إلا عن مجتهد وقد علم مما ذكره المحققون أن الاجتهاد قد انقطع من أعصر لعدم توفر شروطه على أحد فمن أين هذا الوجوب (الجواب) إن المراد به الوجوب البدعي وإن كان شرعياً من طريق آخر كما ستراه لما تقدم أنها أي البدعة تعتريها الأحكام الخمسة فكما أن تعلم النحو وإن لم يرد واجب على كلام العز المتقدم لفهم الكتاب والسنة به كذلك القيام هنا واجب وإن لم يرد لإشعاره بما تقدم من التعظيم والمحبة له عليه الصلاة والسلام وكلاهما بدعة كما علمت
وكونه بدعة لا ينافي كونه شرعياً لانفكاك الجهة فإنه من حيث كونه لم يعهد في عصره عليه الصلاة والسلام ولاعصر الصحابة رضي الله عنهم يسمى بدعة ومن حيث دخوله تحت الأمر كما تقدم عن صديقنا أو من حيث دلالة الخبر السابق عليه وتخصيصه بواسطة القرينة له المارة كما قاله هذا العاجز يقال له شرعي فاندفع الإيراد ببيان المراد وثبت المدعى.
(الفصل الثاني)
في توجيه عبارة العلامة المذكور وأخذ الحكم منها بحسب فحواها لأنها بظاهرها توهم أن القيام في المولد مثل القيام في الآية من جميع الوجوه والواقع بخلافه كما سيوافيك فقوله (ونظير ذلك) أي قيام المولد نظير قيام الآية في تسمية كل منهما بدعة فقط بدليل قوله وهو أيضاً بدعة الخ فالجامع بينهما مجرد التسمية المذكورة لا إنه نظيره من كل وجه كما ظن بدليل أنه رحمه الله تعالى منع القيام في الآية بتاتاً بقوله (ففعل ذلك الآن بدعة لا ينبغي) الخ وقال في قيام المولد بعد تسميته بدعة (على أن الناس) الخ فاستدرك بهذه العلاوة الدالة على إضراب وإبطال ماقد يتوهم مما سبق من تسمية هذا القيام بدعة أنه محظور أو مكروه فدفعه بها حذراً من ذلك فلينتبه له أي والتحقيق جار على أن فعلهم المذكور ليس إلا للتعظيم ولو لم يكن بين القيامين من الفرق إلا قوله تعظيماً لكفى وقد تقدم أنه واجب فيكون فعلهم واجباً كما علمت ولا أخال أحداً يأباه لأن الحكم في العلة أشد إسترابة إذ يثبت حيثما ثبتت ويوجد أينما وجدت فهي الوصف المؤثر في الحكم كما هو ظاهر فيجب تعليق الحكم به وإليك مثالاً يوضح جميع ما تقدم وذلك كالإسكار في الخمر فإن وجوده فيها علة دالة على تحريمها فإذا زالت بحيث صارت خلاً زال التحريم وحرم تناوله إجماعاً وكذلك ما نحن فيه من التعظيم فإنه علة دالة على وجوب القيام حينئذٍ فتبين بهذا أن العلامة المذكور قائل بالوجوب البتة كصديقنا لا سيما وقد أتى بإنما المفيدة لتقوية الحكم والحصر كما أفاد ذلك في شرحه على الأربعين النووية تحت حديث (إنما الأعمال الخ) فقال هناك ما نصه (إنما) هي لتقوية الحكم الذي في حيزها اتفاقاً ومن ثم وجب أن يكون معلوماً للمخاطب أو منزلاً منزلته ولإفادة الحصر وضعاً على الأصح فيها أهـ وفي حاشية المدابغي عليه ما لفظه (قوله لتقوية الحكم الذي في حيزها) أي لتأكيد الحكم الواقع بعدها وهو هنا حصر
الأعمال الشرعية بالنيات وكمالها أهـ قلت والحكم فيما نحن فيه هنا وجوب الفعل وتأكيده تعظيماً كما مر غير مرة ولما كان هذا الواجب مما يخفى على العوام عذروا فيه لعدم علمهم به لاسيما وهم لم يتفقهوا في الدين أدنى تفقه بل هم يجهلون كثيراً من أصناف الواجبات كبعض شروط الصلاة وأركانها مع كونهم مواظبين على فعلها كثيراً وكذلك غيرها من الشرائع فجهلهم بما هو أخفى من ذلك وأدق أولى وأحرى بل قد خفي على بعض أهل الفضل فضلاً عن المذكورين فمن أين يكون معلوماً لأولئك بخلاف الخواص فلا يقبل عذرهم بعدم علمهم به لأن شأنه مما لا يخفى عليهم حيث يعلمون أن الحكم حاصل عند ثبوت العلة لأجلها إذا تبين هذا علمت أن قوله بل الخواص أحق بتعظيمه الخ غلط على ابن حجر فإن منطوق عبارته يدل على أن التعظيم قد حصل من الجميع بسبب قيامهم وذلك لأن لفظ الناس فيها عام بتناول العوام والخواص معافهم فيه سواء لا إنه حصل من العوام فقط حتى يقال بل الخواص أحق الخ فليتأمل (فائدة) الواجب إذا كان معلوماً بالضرورة أنه من الإسلام لا يقبل عذر العوام بجهله فضلاً عن الخواص إلا إذا كانوا قريبي عهد بالدين أو نشئوا بمحل بعيد عن أهله أما إذا عدم العلم بالشيء عدمه في نفس الأمر كالمدلول إذ لا يلزم من عدم الدليل عدمه للقطع بأن الله تعالى لو لم يخلق العالم الدال على وجوده لم ينتف وجوده وإنما ينتفي العلم به والألزم أن يكون كل ماهو مجهول لنا من الأمور الموجودة في الخارج معدوماً فيه وهو باطل والله تعالى أعلم هذا وقد أوجب الله علينا تعظيمه صلى الله عليه وسلم في غير ما آية قال تعالى (إن الله وملائكته يصلون على النبي) في البيضاوي ما لفظه يصلون على النبي يعتنون بإظهار شرفه وتعظيم شأنه) (يا آيها الذين آمنوا صلوا عليه) اعتنوا أنتم أيضاً فإنكم أولى بذلك وقولوا اللهم صل على محمد أهـ وفي حاشية الخفاجي عليه ما نصه ومعنى الاعتناء بما ذكر أعلاه وإبقاء شريعته وإشاعة جلالته في الدنيا والآخرة وقال الفخر الرازي تحت هذه الآية أيضاً إثناء كلام له ما لفظه (المسألة الرابعة) إذا صلى الله وملائكته عليه فأي حاجة إلى صلاتنا (نقول) الصلاة عليه ليس لحاجته إليها وإلا فلا حاجة إلى صلاة الله عليه وإنما هو لإظهار تعظيمه منا شفقة علينا ليثيبنا على ذلك أهـ وهذه قطرة من بحر وإلا فلا سبيل لنا أن نستوعب الآيات الدالة على ذلك فليتصفح الشفاء ونحوه. ومما يستدل به على وجوب محبته صلى الله عليه
وسلم ما أخرجاه في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله أو النبي صلى الله عليه وسلم (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين) قال القاضي هنا إثناء كلام له ما لفظه ومثله القسطلاني ولا يصح الإيمان إلا بتحقيق إعلاء قدر النبي صلى الله عليه وسلم ومنزلته على كل والد وولد وعشيرة ومن لم يعتقد هذا واعتقد ما سواه فليس بمؤمن فلينتبه له.
(خاتمة نسئل الله أحسنها)
في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والأمر بها قال الله تعالى (إن الله وملائكته يصلون على النبي) الآية قال النووي في أذكاره والأحاديث في فضلها والأمر بها أكثر من أن تحصى ولكن نشير إلى أحرف من ذلك تنبيهاً على ما سواها وتبركاً بذكرها روينا في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من صلى عليَّ صلاة الله عليه بها عشراً وروينا في صحيح مسلم أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من صلى عليَّ واحدة صلى الله عليه عشراً وروينا في كتاب الترمذي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليَّ صلاة قال الترمذي حديث حسن قال وفي الباب عن عيد الرحمن بن عوف وعامر بنم ربيعة وعمار وأبي طلحة وأنس وأبي ابن كعب رضي الله عنهم ورورينا في سنن أبي داود والنسائي وابن ماجه بالأسانيد الصحيحة عن أوس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أم من أفضل أيامكم يوم الجمعة فأكثروا عليَّ من الصلاة فإن صلاتكم معروضة علي فقالوا يارسول الله وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت قال يقول بليت قال إن الله حرم على الأرض أجساد الأنبياء قلت أرمت بفتح الراء وإسكان الميم وفتح المثناة قال الخطابي أصله أرممت فحذفوا إحدى الميمين وهي لغة بعض العرب كما قالوا أظلت أفعل كذا أي أظللت في نظائره لذلك وقال غيره إنما هو أرمت بفتح الراء والميم المشددة وإسكان التاء أي أرمت العظام وقيل فيه أقوال أخر والله ألم وروينا في سنن أبي داود في آخر كتاب الحج في باب زيارة القبور بالإسناد الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تجعلوا قبري عيداً وصلوا عليَّ فإن
صلاتكم تبلغني حيث كنتم وروينا فيه أيضاً بإسناد صحيح عن أبي هريرة أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما من أحد يسلم عليَّ إلا رد الله عليَّ روحي حتى أرد عليه السلام وروينا في كتاب الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل عليَّ قال الترمذي حديث حسن أهـ قلت وفي حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى قال لقيني كعب بن عجرة فقال ألا أهدي لك هدية خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا قد عرفنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك قال قولوا اللهم ثلِ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد اللهم بارك وفي لفظ وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد رواه أهل الصحاح والسنن والمسانيد والإمام أحمد في مسنده وغيرهم وفي الصحيحين والسنن الثلاثة عن أبي حميد الساعدي إنهم قالوا يا رسول الله كيف نصلي عليك قال قولوا اللهم صلِ على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وعلى أزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد هذا هو اللفظ المشهور وفي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري قال قلنا يا رسول الله هذا السلام عليك فكيف الصلاة عليك قال قولوا اللهم صلِ على محمد عبدك ورسولك كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من أراد أن يكتال بالمكيال إلا وفي إذا صلى علينا أهل البيت فليقل اللهم صلِ على محمد النبي وعلى أزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد رواه الشافعي في مسنده وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين آمين.
دمشق
محمد القاسمي