الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اللغة العربية
أمس واليوم
لقد أجمع فطاحل العلماء وفحول الأدباء، على أن اللغة العربية. أفصح اللغات السامية. وأحكمها استعمالاً. وأوسعها مجالا. ً وقد كرت الأجيال وتنكرت الأحوال. فانطمست آثار واندرست أخبار. وطاحت دول. وبادت ملل. فاستسرت آياتها. وعفت نعاتها. وتلك اللغة تدور مع الأحقاب. في غلائل الآداب. وغلواء الشباب. لا يرهقها هرم. ولا يخلقها قدم. تجول بها أسلات الألسنة وأطراف اليراع. في صدور المحافل وبطون الرقاع. فتنظم فرائدها. وتعقل شواردها. قلا تشذ نادرة. ولا تندر بادرة. فكأنها وهي ابنة القرون الخالية. والأمم الماضية. نشأت في اليوم الحاضر. أو أمس الدابر. فجاءت دفعة واحدة مستوفية أقسام جمالها وصحة أبنية أسمائها وأفعالها لا يذهب كر العشي بطلاوتها ولا يعبث مر الغداة بحلاوتها وكان أبناءها طبعوا على الفصاحة. وفطروا على البلاغة. فلا ترتهنهم لكنة. ولا تتحيفهم عجمة. ولا يعترضهم عي ولا تقف بهم حبسة فالبدوي الذي يحوم في الهضبات كالعقبان ويعسل في الفلوات كالسيدان. ويكمن في الوديان كالغزلان. كذلك الحضري الذي يتقلب بين أعطاف الحضارة والعمران. ويتفيأ ظلال العلوم والعرفان. جزل الحصاة. جم الأدب لا تغض خشونة برديه. من عذوبة أصغريه على أن السر كل السر في ذلك تذوق أمراء العرب طعم الأدب. وإقبال الأفراد عليه. وانضواؤهم إليه. فتعهدوه بدرايتهم وحاطوه بعنايتهم. فأحيوا قرائح ذويه. وأرهفوا أقلام بنيه. والناس على دين ملوكهم. هذا هرم بن سنان حلف إلا يمدحه زهير إلا وصله ولا يسلم عليه إلا أعطاه وليده أو فرساً أو عبداً حتى استحيا زهير وكان إذا رآه في ملأ قال: عموا صباحاً غير هرم وخيركم تركت. وكان النابغة يأكل في آنية الذهب والفضة من عطايا النعمان وجده لا يستعمل غير ذلك. ووفد الحارث على عمرو بن هند الملك أنشده معلقته المشهورة وكان بينه وبينه سبعة حجب فمازال يرفعها واحداً فواحداً لحسن ما يسمع من الشعر حتى لم يبق بينهما حجاب ثم أدناه وقربه. وكان بعض العرب يغتسلون لقصيدة المهلهل المعروفة بالداهية كلما أرادوا إنشادها. وقد كان هذا في زمن الفترة والناس همل فلما أشرق نور الإسلام ومد طاقه وضرب رواقه في مشارق الأرض ومغاربها أقبل الناس من كل صوب
على الدأب. في خدمة الأدب فأجزلوا لأهله العطايا وغمروهم بالهبات وطار القوم زرافات ووحدنا يتلمسون الكتب من ثنايا المكامن وزوايا الخزائن ويتوفرون سواد الليل وبياض النهار على الترجمة والتأليف حتى اكتظت أرجاؤهم بالمكاتب وغصت ديارهم بالمدارس. قال أسامه بن معقل كان السفاح راغباً في الخطب والرسائل يصطنع أهلها ويثيبهم فحفظت ألف رسالة وألف خطبة طلباً للحظوة عنده وكان المنصور يرغب في الأسمار والأخبار فما تركت بيتاً نادراً ولا شعراً فاخراً ولا نسيباً سائراً إلا حفظته وأعانني على ذلك الطلب الهمة في علو الحال عنده ولم أر شيئاً ادعى إلى تعلم الآداب من رغبة الملوك في أهلها وصلاتهم عليها. وقد صدق في قوله وأصاب في رأيه فالفضل في نهضة أمراء البيان يعود إلى أرباب السلطان الذين يذكرهم التاريخ فيشكرهم كلما نبض للعلوم عرق وخفق للمعارف برق. وقد بلغ من شغف الدول الأعجمية وافتتانهم باللغة العربية لعلهم أنها واسطة عقد المسلمين وعروة أنصالهم إن اتخذوها لساناً لهم وطرحوا ما عداها مثل دولة المصامدة (البربر) في المغربين الأقصى والأدنى. ودولة الجراكسة في مصر والشام. ودولة آل سلجوق التركية في العراق والجزيرة ودولة بين بويه الفارسية ودولة آل أيوب الكردية في مصر والشام والحجاز واليمن وغيرها. وكانت البلاد بأسرها تموج بالمترجمين عن اللغات الأجنبية كالفارسية والبهلوية والسنسكريتية والسريانية واليونانية فوسعت اللغة العربية علوم المتقدمين والمتأخرين وكانت مبعث هذه الحضارة ومنبت هذه المدينة ولم تغفل الأمة عن ذلك الواجب بل شاركت أمراءها وملوكها فبذلوا قصاراهم في البذل والسخاء على العلماء والشعراء فأحضر بنو شاكر النقلة والتراجمة وأجروا عليهم الأرزاق وتحداهم في ذلك إبراهيم بن موسى فاستخرج علوم اليونان إلى اللغة العربية وفعل مثله محمد بن عبد الملك الزيات حتى كان عطاؤه للنساخ ألفي دينار. وأقام الفتح بن خاقان خزانة كتب لم يكن أعظم منها وجعل داره مثابة فصحاء الأعراب وعلماء البصرة والكوفة. وأنشأ الحاكم بأمر الله الفاطمي دار الحكمة في مصر وجمع إليها الشعراء والمنجمين وأصحاب النحو واللغة وأباح الدخول إليها لسائر الناس ليقرأوا وينسخوا ما شاءوا وجعل فيها المحابر والدفاتر والأقلام وكانت خزانة الكتب في قصر العزيز بالله في مصر تحتوي على مليون وستمائة ألف مجلد بله أدوات الهندسة والفلك وكانت مكتبة الناصر في قرطبة تشتمل على أربعمائة
ألف مجلد وكان في بيت الحكمة في بغداد مجالس للنسخ والدرس والتأليف وأفاض القضاة من آل عمار على العلماء والأدباء سجال نداهم وبحور جداهم. وكانت دارهم تحتوي على ثلاثة ملايين مجلداً في فنون مختلفة يأوى إليها مائة ناسخ تجري عليهم الأرزاق. وأغرب من هذا أن الحثالة التي بقيت من كتب بغداد بعد الحريق والغريق كانت مكتبة حافلة وقفها هولاكو التتري على نصير الدين الطوسي في مراغة. وقيل أن أبا غالب اللغوي القرطبي لما وضع كتابه في اللغة بعث إليه أبو الجيش مجاهد العامري ملك دانية ألف دينار وركوبة وكساء على أن يزيد في آخر كتابه (هذا ما ألف أبو غالب لأبي الجيش مجاهد) فرد الدنانير وأبى ذلك فلم يكن من مجاهد إلا أن ضاعف له العطاء وقال هو في حل من أن يذكرني فيه.
وأكل معاوية الضرير طعاماً مع الرشيد فلما قام ليغسل يديه تناول الرشيد الإبريق وصب عليهما الماء وقال له أتعلم من يصب الماء علي يديك قال لا قال أنا قال أنت يا أمير المؤمنين قال نعم إجلالاً للعلم.
وقيل إن الفراء مؤدب ولدي المأمون نهض مرة لبعض حوائجه فابتدر الأميران إلى نعله ليقدماها له فتنازعا أيهما يقدمها أولاً ثم اصطلحا على أن يقدم كل واحد منهما واحدة فلما بلغ ذلك المأمون استدعى الفراء وقال له من اعز الناس قال لا أعرف أحداً أعز من أمير المؤمنين فقال المأمون بل من إذا نهض تقاتل على تقديم نعليه وليا عهد المسلمين حتى يرضى كل منهما أن يقدم فرداً.
اللهم غفرانك إن أمة يتفانى أمراؤها وأفرادها في إحياء العلوم وإجلال أهلها إلى هذا الحد لجديرة بأن تذل لها أعراق المجد وتعنو لها نواصي الرغائب وينبت فيها أدباء إذا أحس أحدهم من البيان بوجس دبيبه أو تهادى بين بعيده وقريبه أسمعك من ألفاظه نغمات الأوتار ونفحك من معانيه بنسمات الأسحار وصور لك على الطرس حقيقة النفس. فناجتك بأسرارها. وحدثتك بأخبارها فإذا الشوق تكاد تمسه يداك. وإذا الغيب تكاد تراه عيناك. هذا وشل من بحر وثمد من قطر كتبته تذكرة للعاقل. وتبصرة للغافل. لعلنا نرد على هذه اللغة نضرة شبابها ورونق آدابها وكم هتفت. ليت الشباب يعود.
المؤدي
فؤاد الخطيب