المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الدين الإسلامي والتوحيد - مجلة الحقائق - جـ ٣١

[عبد القادر الإسكندراني]

الفصل: ‌الدين الإسلامي والتوحيد

‌الدين الإسلامي والتوحيد

النشر والحشر

قدمنا أن أرباب الملل والشرائع كافة وجمهور المحققين من الفلاسفة متفقون على حقيقة المعاد وإن اختلفوا في كيفيته إلا شرذمة الطبيعيين الذين تولاهم الغرور وغشيهم الضلال وزعموا أن لا بعث ولا حشر وأن الإنسان مثل نبات الأرض ينبت ثم يزول لا إلى رجعة وليس له حظ في وجوده إلا لذاته الحيوانية التي ينالها مدة حياته وهو قول باطل لا يعتد به من وجوه أنه قد ثبت بالبراهين القاطعة وجود إله العالم واتصافه بالصفات الكاملة وسمو حكمته وعدله في خلقه ورحمته لهم ولا مرية في أن كل معتقد لذلك يظهر له أنه من حكمته تعالى وعدله بعد أن خلق الخلق ومنحهم عقولاً يميزون بها بين الحسن والقبيح وقدراً بها يقدرون على الخير والشر أن يربط عمل الخير بالثواب وعمل الشر بالعقاب وكل من الثواب والعقاب غير حاصل في دار الدنيا فلا بد من دار أخرى يحصل فيها ذلك (أيحسب الإنسان أن يترك سدى) ولا يكفي في ذينك الردع والترغيب ما أودع الله من العقل من تحسين المحسنات وتقبيح المنكرات لما عرفت أن العقل لا يستقل في معرفة كثير من الأمور ولأن العقل وإن كان داعياً للإنسان في فعل الخير وترك الشر إلا أن الهوى والنفس يدعوانه إلى الانهماك في الشهوات واللذات فإذا حصل التعارض فلا بد من مرجح قوي آخر وما ذاك إلا ترتيب الوعد والوعيد والثواب والعقاب على الفعل والترك.

إن صريح العقل يقضي أن من حكمة الحكيم أن يفرق بين المحسن والمسيء وحصول هذه التفرقة ليس في هذه الدار لأنا نرى كثيراً من أهل الإساءة في أعظم الراحة وكثيراً من أهل الإحسان بالضد من ذلك فلا بد أن يكون بعد هذه الدار دار أخرى تحصل فيها تلك الفرقة.

إن السلطان إذا كان قادراً حكيماً مشفقاً على الرعية والخدام وجب عليه أن ينتصف للمظلوم الضعيف من الظالم القوي وإن ترك ذلك كان راضياً بالظلم والرضا بالظلم لا يليق بمثل هذا السلطان ولا شك أن الله تعالى كامل في صفة القدرة والرحمة والشفقة منزه عن الظلم والعبث فلزم أن ينتصف لعباده المظلومين من الظالمين وهذا الانتصاف لا يحصل غالباً في هذه الدار لأن الظالم يبقى في غاية العزة والقدرة والمظلوم في مزيد من الإهانة والمذلة

ص: 1

فلا بد من دار أخرى يظهر فيها العدل والانتصاف.

إن الفطرة الإنسانية قاضية على بطلان ما ذهب إليه الماديون بدليل أنك ترى جميع فرق الدنيا من الهند والروم والعرب والعجم وجميع أرباب الملل والنحل يتصدقون عن موتاهم ويدعون لهم بالخير فلو كان الإنسان يفنى بالكلية بعد موته كما يزعم الماديون لكان التصدق عنه والدعاء له عبثاً فاتفاق طوائف العالم يدل على أن فطرتهم شاهدة بأن رأي الماديين باطل فإذ ثبت ذلك وجب الإيمان باليوم الآخر والاعتقاد بالحشر والنشر.

ثم إن الذي يحشر إنما هو الأرواح والأجسام معاً وبيان ذلك أن النفس جوهر باق بعد فساد البدن فإذا أراد الله حشر الخلائق يتعلق بالبدن مرة ثانية ويتصرف كما كان في الدنيا وقد دل العقلب على أن سعادة الرواح بمعرفة الله سبحانه وتعالى ومحبته وأن سعادة الأجسام في إدراك المحسوسات والجمع بين هاتين السعادتين لا يمكن في هذه الحياة لأن الإنسان إذا استغرق في تجلي أنوار عالم الغيب لا يمكن أن يلتفت إلى اللذات الروحانية وإنما تعذر الجمع لكون الأرواح البشرية ضعيفة في هذا العالم فإذا فارقت بالموت واستمدت من عالم القدس قويت وكملت فإذا أعيدت إلى الأبدان مرة ثانية كانت قادرة قوية على الجمع بين الأمرين ولا شك أن هذه الحالة أقصى مراتب السعادة وأنكرت الفلاسفة الحشر الجسماني وزعمت أنه لا تحشر إلا الأرواح وهو زعم باطل لوجوه:

أولاً: إن من تدبر في هذا العالم تدبراً صحيحاً وجد أموراً كثيرة تشبه الحشر وتدل على إمكانه أولها المني فإنه فضلة الهضم الرابع ومادته إنما تولدت من الأغذية المأكولة وهذه الأغذية تولدت من الأجزاء العنصرية وهذه الأجزاء كانت متفرقة في أطراف العالم ثم جمعها الله تعالى فتولد منها حيوان أو نبات فأكله الإنسان فتولد منه دم فتوزع ذلك الدم على أعضائه فتولد منها أجزاء لطيفة فكانت هذه الأجزاء متفرقة في أطراف الأعضاء كالظل المنبث ولهذا تشترك الأعضاء كلها في الالتذاذ بالوقاع ويحصل الضعف والفتور في جميع البدن عند انفصالها ثم سلط الله تعالى قوة الشهوة حتى جمعت مقداراً معيناً من تلك الأجزاء الطلية في أوعية المني ثم أخرجها ماء دفقاً إلى قرار الرحم فتولد منه إنسان فالأجزاء التي تولد منها بدن الإنسان كانت أولاً متفرقة في البحار والجبال وأوج الهواء ثم اجتمعت بالطريق المذكور فتولد منها هذا البدن فإذا مات تتفرق على مثال التفرق الأول فالقادر

ص: 2

العالم الذي لا يعجز عن شيء ممكن لا يغيب عن علمه مثقال ذرة كما جمع تلك الأجزاء المتفرقة أولاً ثم جعلها منياً ثم كون الشخص الذي تختلف صور أعضائه مع كون المني متشابه الأجزاء وأودع فيه القوة الناطقة والفاهمة اللتين لا يقتضيهما المني يقدر أن يجمعها مرة ثانية إذا افترقت بالموت ويكون منها شخصاً ويعيد النطق والفهم إلى محل كانا فيه فالأول عند المنكرين ليس مستبعداً فلا يكون الثاني مستبعد أيضاً.

الثاني الحب فإنه مع اختلاف أقسامه وأشكاله إذا وقع في الأرض الندية واستولى عليه الماء والتراب فالنظر العقلي يقتضي أن يتعفن ويفسد لأن أحدهما يكفي في حصول العفونة أو الفساد ثم إذا ازدادت الرطوبة ينفلق فلقتين فيخرج منهما ورقتان أما النوى فإنه يظهر في أعلاه شق وغي أسفله شف مع ما فيه من الصلابة العظيمة فيخرج من الأعلى الجزء الصاعد ومن الأسفل الجزء الهابط الذي يغوص في أعماق الأرض مع اتحاد العنصر واتحاد طبع النواة والماء والأرض فالقادر الذي يفعل هذه الأمور كيف يعجز عن جمع الأجزاء بعد افتراقها بالموت وعن تركيب الأعضاء.

ومن الأدلة المحسوسة ما يجده الإنسان منا في نفسه من الزيادة والنمو وقت السمن ومن النقصان والذبول وقت الهزال ثم أنه قد يعود إلى حالته الأولى بالسمن وإذا جاز تكون بعض البدن جاز تكون كله فظهر أن الإعادة ليست بممتنعة.

رابعاً حصول اليقظة بعد النوم فإن النوم صنو الموت واليقظة شبيهة الحياة بعد الموت ومن أراد زيادة الاستطلاع على الأدلة فليراجع المطولات فإن فيها مزيد من الإيضاح.

إذا تقرر هذا فاعلم أن مدار القول بإثبات الحشر على أصول ثلاثة أحدها أنه تعالى قادر على كل ممكن وثانيا أنه تعالى عالم بجميع المعلومات من الكليات والجزئيات وثالثها أن ما يمكن حصوله في بعض الأوقات فهو ممكن الحصول في سائر الأوقات وقد ثبت بالبراهين القطعية حقيقة هذه الأصول الثلاثة فإمكان الحشر يكون ممكناً لأن الله تعالى يمكنه تمييز أجزاء بدن كل واحد من المكلفين عن أجزاء بدن غيره وإعادة التركيب والحياة إليه كما كانا أولاً (والله على كل شيء قدير) لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء (إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون).

ص: 3