المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الوظائف الدينية والجهلاء - مجلة الحقائق - جـ ٣١

[عبد القادر الإسكندراني]

الفصل: ‌الوظائف الدينية والجهلاء

‌الوظائف الدينية والجهلاء

كل من يدير الفكر ويدقق النظر وينقب عن محيطنا وما تطرق إلى جميع أبوابه من الخلل والفساد يأخذه الأسف الشديد على هذه الحالة وينفطر قلبه كمداً.

سقطت الهمم وخربت الذمم وطمست معالم الحق وحرفت الشرائع وبدلت القوانين ولم يبق إلا هوى يتحكم وشهوات تقضى وخشونة تنفذ تلك سنة الكون والله لا يهدي كيد الخائنين.

ذهب ذوو السلطة وأعمدة الشر بكل شيء مخالف لنواميس الطبيعة ولحكمة التشريع السماوي وفعلوا ما ينبو عنه العقل القويم وينفر الجميع نفرة السليم من الأجرب.

موهوا أفعالهم بمياه السفسطة وغشوها بأغشية من معادة القوة ليذروا الرماد في عيون نقدة أفعالهم الدنيئة من أرباب الغيرة وأنصار الدين والملة.

كل ذلك ليجعلوا الباطل حقاً والجاهل الغر زعماً منهم بأن الحق إذا وضع اسم الباطل صار باطلاً والجاهل الغر إذا لقب بالعالم صار عالماً تلك لعمري مسألة بديهية البطلان ظاهرة الفساد تدل على خسافة عقول أنصارها وضعف ملكات مروجيها.

والحقيقة متى وجدت سبيلاً تسيلك فيه نسفت التل المركوم وانقضت كالصاعقة على البرج الموهوم فلا غرو أن تدكدك شاهق التمويه ولا تبقي له أثراً فعند ذلك يماط عن الحقائق لحجاب فتبدو بصورتها وهيولاها ذكرنا ذلك لنلج إلى موضوع سبب فشو الجهل والجهلاء ونبوض العلم والعلماء بعد انتظام عقدهم وتلألأ شموسهم إلا فلتعلم الأمة أجمع أن جرثومة هذا الفساد والعقبة الكؤد في طريق العلماء (إسناد الوظائف الدينية لمن لم تتحقق فيه الأهلية) تلك قضية لا خلاف فيها ولا مرية بعدما أصبحت شاهدة ولا دليل بعدها.

إسناد الوظائف لغير أهلها جر علينا الويلات الطامة والبلايا العامة والعار والشنار فمنها تزعزع العلوم والمعارف بعدما كانت متينة الوثاق قوية الركان لا تزيلها العواصف الثائرة ولا الأصوات الناعقة. . ومنها اختلاط الحابل بالنابل والحق بالباطل حتى كاد لا يفرق بين المدلسين المموهين الداء العلم وأعداء الإنسانية وبين العلماء الحقيقيين الذين يستهدى بهديهم ويفرغ من مدلهمات الخطوب وكوارث المسائل إليهم.

ومنها نفرة القلوب عن طلب العلوم والسعي وراء تحصيلها لأن العالم الحقيقي الذي أفنى عمره في طلب العلوم وسهر دياجر الليالي لاقتناء المعارف يكون مضطهداً والجاهل المغتر الذي لا يفهم من العلم وتحصيله سوى الثرثرة والسمسرة إلى أولياء نعمته والتفاني في

ص: 9

خدمة مبادئهم السافلة معظماً مكرماً يتوسد الوظائف الدينية ورتب الوعظ لإرشاد الناس ومن يكون عن إرشاد نفسه وردها عن غيها وكبح جماحها عاجزاً فهو عن إرشاد غيره أعجز كيف وقد وجد لذلك أعواناً من حلفاء الدناءة وأعداء الحق فاسدي الأخلاق لا يهمهم خراب الدين وعمرانه إن لم نقل هم معاول تخريبه. . ورضوا لأنفسهم أنهم بفعلهم هذا سجل لهم التاريخ صحيفة سوداء لا يبلي جدتها كر الأيام والليالي.

روى الحاكم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من استعمل رجلاً من عصابة وفيهم من هو أرضى لله فقد خان الله ورسوله وجماعة المؤمنين إلا فليرعوا السعاة سعاة الجهل والجهلاء وليعلموا أن (ليس للإنسان إلا ما سعى) وروى الحاكم أيضاً قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من ولي من أمر المسلمين شيئاً فأمر عليهم أحداً محاباة (بلا استحقاق) فعليه لعنة الله لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً حتى يدخله جهنم.

ومنها تأنيب الأجانب لنا كتب أحد علماء الفرنجة وكتابهم يلزم على أوروبا جمعاء احترام دين الإسلام لأنه أفاد العالم كله ولكن ما العمل وقد ضيعه أهله وأي تضييع للدين الإسلامي والعلم والعلماء أعظم من أن يتولى رآسته الجهلاء ويدخل في عداده هيان بن بيان.

والسادة الفقهاء نددت بذلك العمل وبينت فيه القول الحق وكتبهم التي هي دستور العمل في مثل هذا الخطب طافحة بذلك وهاك بعضها.

قال في الأشباه والنظائر إذا ولى الحاكم مدرساً ليس بأهل للتدريس لم تصح ولايته لما تقرر من أن التولية مقيدة بالمصلحة ولا مصلحة في تولية غير الأهل قال ابن الكمال وعليه الفتوى.

قال في البزازية إذا أعطي غير المستحق فقد وجد ظلم مرتين مرة بمنع المستحق ومرة بإعطاء غيره.

وفي فتاوى قاضيخان أن التولية إذا لم توافق شرط الشارع لا تنفذ ومعلوم أن شرط الواقف كنص الشارع.

وقال التاج السبكي المدرس إذا لم يكن صالحاً للتدريس لا يحل له تناول المعلوم ثم قال وهذا كله مع قطع النظر عن شرط الواقف في التدريس أما إذا علم شرطه ولم يكن المقرر

ص: 10

متصفاً به لم يصح تقريره وإن كان أهلاً للتدريس في الجملة لوجوب اتباع شرطه ثم قال والأهلية للتدريس لا تخفى على من له بصيرة منها المعرفة بمنطوق الكلام ومفهومه عارفاً بالمفاهيم أجمعها متبحراً في علوم الشريعة من تفسير وأصوله وفقه وأصوله وأن يكون بحراً غواصاً في استخراج المسائل من الكتب والنصوص له اليد العليا في سائر العلوم العربية والعلامة ابن عابدين بين مسألة توارث الوظائف عن الأجداد والآباء وذكر فيها القول الحق الذي لا محيد عنه فقال بعد نقول كثيرة ما معناه:

يحرم إعطاء الوظائف الدينية لغير الأهل لما فيه من أخذ وظائف العلماء وتركهم بلا شيء يستعينون به من العلم كما هو واقع في زماننا فإن عامة أوقاف المدارس بأيدي جهلة أكثرهم لا يعلمون شيئاً عن فرائض دينهم بسبب تمسكهم بأن خبز الأب لابنه فيتوارثون الوظائف اياً عن جد كلهم جهلة كالأنعام ويكبرون بذلك فراهم وعمائمهم ويتصدرون في البلدةن حتى أدى ذلك إلى اندراس العلم والعلماء (وذكر حادثة وقعت في زمانه تشبه بعض حوادث زمننا نضرب عنها صفحاً) ثم قال ففي توجيه هذه الوظائف لأبناء هؤلاء الجهلة ضياع العلم والدين وإعانتهم على إضرار المسلمين.

فيجب على ولاة الأمور نزعها من أيدي المختلسين واللصوص المتغلبة وتوجيهها على أهلها لينتظم الأمر وإلا فليبشر البقية الباقية من العلماء بأن العاقبة وخيمة ونعوذ بالله من ذلك أه.

أما إذا كان الواقف شرط لتولية التدريس أعلم عالم مثلاً فهذا يحرم توجيه هذا التدريس على غيره بل لا ينعقد ولو كان عالماً معتبراً إذ شرط الواقف يحرم مخالفته كنص الشارع كما تقدم فكيف إذا لم يكن من العلماء أصلاً هذا لا يكون أبداً. .

وجاء في نظام المدارس والتدريس الذي عرب في العام الماضي لأجل العمل به في مادة إذا كان شرط الواقف بحق توجيه التدريس معلوماً ومعمولاً به أو كان غير معلوم ولكن التعامل القديم فيه معروف يجب اتباعه قطعاً والعمل بموجبه ولذا يعتبر التوجيه الواقع بخلاف شرط الواقف على غير الأهل بل ينزع من عهدته ولو كان موجهاً عليه ببراءة ثم يوجه على مستحقه بمقتضى شرط الواقف. انتهى.

ومن أعظم الأضرارالعظيمة التي سببها هذا الاحتكار والتغلب سقوط هذا السلك الشريف

ص: 11

من بين الطبقات حتى عد هزوءاً وسخرية بعدما كان يقام له ويقعد ولأهله في التاريخ مجد أثيل وعز فخيم.

دخل الخليفة الأموي على عطاء بن أبي رباح وكان مولى من الموالي فلم يعبأ به ولم يأبه لجلالة قدره ورفعة منصبه حتى أنه لم يلتفت إليه ثم قال الملك لابنه وكان معه انظر ذلنا بين يدي هذا العبد وما هو إلا العلم يرفع العبيد على الملوك والصعلوك على العظام.

ودخل الخليفة العباسي هارون الرشيد على الفضيل بن عياض فوعظه الفضيل حتى أبكاه وجرت دموع الخليفة على لحيته ثم قال لهم أنتم الملوك حقاً.

دعي هذا الخليفة العظيم معاوية الضرير لأجل أن يأكل معه على مائدة واحدة فلما فرغا من الطعام قام معاوية يريد أن يغسل يديه فصب عليه هارون الرشيد ولم يدر معاوية ذلك ثم قال له الخليفة أتدري من يصب على يديك؟ قال له لا قال أنا قال أنت يا أمير المؤمنين قال له نعم إجلالاً للعلم ومن سير تاريخ الرشيد وعظمتهخ وفضله علم أنه كان للعلم وأهله في زمنه شأن يذرك.

أي جهابذة العلم صناديد الوغى معدن الفضل الحقيقي مالي أراكم سكوتاً لا تتكلمون ولا تنبثون ببنت شفة كأنكم راضون بهذه الفترة وراضخون لهذا التيار أما علمتم أن الوظائف الدينية والعوائد الخيرية إنما زينت ليرتفع منار العلم والدين لا لعكس القضية أو ما علمتم بأن سكوتكم هذا هو الذي جر علينا الويلات الطامة والعامة وعدم الانتظام: أخرج البخاري في صحيحه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأعرابي إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة قال الأعرابي كيف إضاعتها يا رسول الله قال إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة. . أرى أن الخطب يتفاقم والأمر يتعاظم وأنتم سكوت أتظنون أن القعود في أحلاس بيوتكم والانزواء في حجراتكم من باب العبادة والزهادة ما ظننتم إلا باطلاً فلقد بلغ السيل الزبى وتفرق العلم أيدي سبا فهبوا من سباتكم العميق هبوب الأسد من عرينه وطالبوا بحقوقكم المغصوبة ووظائفكم المنهوبة ولكن بالطرق المشروعة واضربوا بترهات المبطلين عرض الحائط (أن الباطل كان زهوقاً) وانصتوا لصدى شاعر النيل حيث يقول

عليكم حقوق للبلاد أجلها

تعهد روض العلم فالروض مقفر

وقد أعذر من أنذر

ص: 12

(البقية تأتي)

أبو الضيا

ص: 13