الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التاريخ
15
ننشر في هذا الباب سيرة كبار الرجال في الإسلام وشيئاً من فضائلهم وأخلاقهم وأعمالهم وسياستهم لما في ذلك من تحريك بواعث الهم للاقتداء بهم في جلائل الأعمال وكرائم الخصال وليكون زاجراً لأولئك الذين يتغاضون عن مآثر رجال المسلمين ويفتخرون بحفظ تاريخ فلاسفة الغربيين.
سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه
6
أخبار القادسية
وصل رستم إلى القادسية بجيش ملأ تلك النواحي وكان معه ثلاثة وثلاثون فيلاً فنزل على العتيق بجانب عسكر المسلمين وركب رستم صبيحة تلك الليلة ونظر عسكر المسلمين حتى انتهى إلى آخرهم. فوقع الرعب في قلبه واستولى عليه الفزع فوقف على القنطرة ثم أرسل إلى زهرة وهو في مقدمة جيش المسلمين فأتى إليه فعرض رستم له بالصلح وقال له كنتم جيراننا وكنا نحسن إليكم ونحفظكم وجعل يذكر جميل صنيعهم مع العرب. فقال له زهرة إنا لم نأتكم لطلب الدنيا إنما رغبتنا في الآخرة. وقد كنا كما ذكرت إلى أن بعث الله فينا رسولاً فدعانا إلى ربه فأجبناه ثم أمرنا أن ندعو الناس إلى دينه الحق. فقال رستم وما هو دين الحق؟ قال: الشهادتان وإخراج الناس من عبادة الخلق إلى عبادة الله عز وجل والكل إخوان في ذلك. فقال رستم إن أجبنا إلى هذا هل ترجعون؟ فقال زهرة: أي والله. فانصرف عنه رستم ودعا رجال فارس وذكر لهم ذلك فما قبلوا فأرسل إلى سعد أن أبعث إلينا رجلاً نكلمه فبعث إليهم ربعي بن عامر فجاء على فرسه وسيفه في خرقة ورمحه مشدود بعصب فانتهى إلى رستم وهو على سرير من ذهب وبين يديه النمارق والوسائد المنسوجة. فقال الترجمان لربعي ما جاء بكم فقال إن الله أمرنا أن نخرج عباده من ضيق الدنيا إلى سعتها ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام وأرسلنا بدينه إلى خلته فمن انقاد له تركناه وأرضه ومن أبى قاتلناه حتى نفوز بالجنة أو الظفر. فقال رستم هل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه. فقال نعم ولكن مما سن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا نمكن الأعداء
أكثر من ثلاث فانظر في الأمر ثم اختر إما الإسلام وندعك وأرضك. أو الجزية فنقبل ونكف عنك ونحميك إن اعتدى أحد عليك. أو القتال في اليوم الرابع. وأنا كفيل بهذا عن أصحابي فخلا رستم برؤساء قومه وقال هل رأيتم كلاماً قط مثل كلام هذا فأروه الاستخفاف بشأنه وثيابه فقال ويحكم إنما انظر إلى الرأي والكلام
(والعرب تستخف باللباس وتصون الأحساب)
ثم أرسل رستم في اليوم الثاني إلى سعد ليبعث إليه ربعي بن عامر مرة ثانية فبعث إليهم حذيفة بن محصن فأجاب بما أجاب به ربعي بن عامر ثم قال له رستم ولماذا لم يأتنا الأول فقال حذيفة (أميرنا يعدل بيننا في الشدة والرخاء وهذه نوبتي).
فقال رستم والمواعدة إلى متى فقال إلى ثلاث من أمس وانصرف. فخاض رستم بأصحابه يعجبهم من شأن القوم وطلب في اليوم الثالث رجلاً آخر فجاءه المغيرة بن شعبة فتكلم رستم وعظم أمر فارس وقوتهم وصغر أمر العرب وقال للمغيرة ما حملكم على هذا إلا ما بكم من الجهد فانصرفوا ونحن نعطي أميركم كسوة وبغلاً وألف درهم وكل رجل منكم حمل تمر فقال المغيرة أما الذي وصفتنا به من سوء الحال والضيق فنعرفه ولا ننكره - والدنيا دول - والشدة بعدها الرخاء - وإن الله بعث فينا رسولاً أنقذنا من ذلك ثم ذكر مثل ما تقدم من التخيير بين الإسلام أو الجزية أو القتال فقال رستم إذاً تموتون دونها فقال المغيرة: من قتل منا دخل الجنة ومن بقي ظفر بكم.
فاستشاط رستم غضباً وحلف أن لا يقع الصلح أبداً وانصرف المغيرة. فخلا رستم بأهل فارس وعرض عليه مصالحة القوم وحذرهم عاقبة حربهم فما قبلوا كلامه.
ثم أرسل سعد بن مالك رضي الله عنه إلى رستم ثلاثة من ذوي الرأي فلما انتهوا إليه قالوا له إن أميرنا يدعوك إلى ما هو خير لنا ولك فاتق الله ولا يكونن هلاك قومك على يدك فقال لهم رستم إن الأمثال أوضح من كثير من الكلام. إنكم كنتم أهل جهد وفقر وكنا نحسن إليكم فلما أكلتم طعامنا أتيتمونا وإنما مثلكم ومثلنا كمثل رجل له كرم فرأى فيه ثعلباً فأغضى عنه وقال وماذا يأخذ ثعلب فانطلق الثعلب فدعا الثعالب إلى ذلك الكرم فلما اجتمعوا إليه سد صاحب الكرم النقب الذي دخلن منه ثم قتلهن. وإني أعلم أن الحرص والجهد قد حملاكم على ما صنعتم وإنا لا اشتهي قتلكم فارجعوا ونحن نميركم. فقال له القوم
قد كنا على ما وصفت من الضيق وسوء الحال فأرسل الله إلينا رسولاً نظم شملنا وهذبنا بآداب دينه. وأما ما ضربت من المثل فليس كذلك. ولكن إنما مثلكم كمثل رجل غرس أرضاً واختار لها الشجر وأجرى إليها الأنهار وزينها بالقصور وأقام فيها فلاحين يسكنون قصورها ويقومون على جناتها فخلا الفلاحون في القصور على ما لا يحب. فأطال إمهالهم فلم يستحيوا. فدعا إليها غيرهم وأخرجهم منها. فقال رستم أتعبرون إلينا أم نعبر إليكم فقالوا بل اعبروا إلينا ورجعوا من عنده عشياً. وأرسل سعد إلى أصحابه أن يقفوا مواقفهم. وأرسل إلى رستم أن يعبروا إليه. فأراد رستم العبور على القنطرة فمنعهم سعد وقال أما شيء غلبناكم عليه فلن نرده عليكم. فباتوا يسكرون (العتيق) بالتراب والقصب والبرادع حتى جعلوا جسراً. فعبر رستم ونصب له سريره فجلس عليه. وجعل الفيلة في قلب جيشه ومجنبتيه وجعل الجالينوس بينه وبينه الميمنة والفيرزان بينه وبين الميسرة.
ورتب يزدجرد الرجال بين المدائن والقادسية وهو ملك الفرس يومئذ فجعل أول الرجال على باب إيوانه وآخرهم مع رستم فكلما فعل رستم شيئاً قال الذي معه للذي يليه قد حصل كذا وكذا ثم يقول الثاني ذلك للذي يليه وهكذا إلى أن ينتهي إلى يزدجرد في أسرع وقت. وأخذ المسلمون مصافهم. وكان أميرهم سعد رضي الله عنه قد أصابته دماميل منعته من النزول إلى الحرب بنفسه فاستخلف خالد بن عرفطة على الناس وحثهم على الجهاد وكان ذلك في المحرم سنة أربع عشرة من الهجرة وأرسل جماعة من أهل الرأي لتحريض الناس على القتال ففعلوا. ثم أمر بقراءة سورة الأنفال فهشت قلوب المؤمنين وعيونهم عند سماعها وازدادوا بقراءتها سكينة ويقيناً. وكان مع الفرس يومئذ ثلاثون ألف مسلسل.
ثم قال سعد لأصحابه الزموا مواقفكم فإذا صليتم الظهر فإني مكبر تكبيرة فكبروا واستعدوا. فإذا سمعتم الثانية فكبروا وأتموا عدتكم. فإذا سمعتم الثالثة فكبروا ونشطوا الناس. فإذا سمعتم الرابعة فازحفوا حتى تخالطوا عدوكم وقولوا لا حول ولا قوة إلا بالله.
فلما كبر الثالثة برز أهل النجدات فأشبوا القتال وخرج أمثالهم من الفرس اعتوروا الطعن والضرب وارتجزوا الشعر وأدول من أسر في ذلك اليوم هرمز وكان من ملوك الباب وهو متوج يومئذ. أسره غالب بن عبد الله الأسدي فدفعه إلى سعد ورجع إلى الحرب ثم خرج فارسي وطلب البراز فبرز إليه عمرو بن معدي كرب فأخذه وجلد به الأرض فذبحه وأخذ
سواريه ومنطقته ثم حمل الفرس بالفيلة على المسلمين حملة واحدة. وكبر الرابعة فزحف المسلمون ودارت رحى الحرب ونفرت خيول المسلمين من الفيلة. فخرج الرماة يرشقون الفيلة بالنبل. واشتد لردها آخرون وحمل المسلمون على الفيلة ومن معها من الفرس حملة زلزلت أركانهم. فاشتد عواء الفيلة ووقت الصناديق فهلك أصحابها ثم اقتتلوا إلى الليل وكان هذا اليوم يوم الرماة.
ولما أصبحوا إذا هم بخيل طالعة من الشام كان عمر رضي الله عنه أرسلها مدداً لهم بعد أن فتح دمشق. فإنه عزل خالد بن الوليد عن جند العراق وأمر أبا عبيدة أن يؤمر عليهم هاشم بن عتبة يردهم إلى العراق. فخرج بهم هاشم وعلى مقدمته القعقاع بن عمرو فتعجل القعقاع فقدم على الناس صبيحة ذلك اليوم وهو يوم أغواث. وقد عهد إلى أصحابه أن يلحقوا به ألفاً ألفاً كما بلغ ألف منهم مد البصر تبعه ألف آخر. فسلم القعقاع على الناس وبشرهم بالجنود ثم تقدم للقتال وطلب البراز. فخرج إليه ذر الحاجب فقتله القعقاع وسر المسلمون بذلك ووهنت الأعاجم. ثم طلب البراز أيضاً فخرج إليه الفيرزان والبندوان فقتل الأول ثم نادى يا معشر المسلمين باشروهم بالسيوف فحمل المسلمون على الفرس وأكثروا القتل فيهم ودام القتال أياماً متتابعة حتى هربت الفيلة وانتهوا إلى رستم وهو القائد لجيش الفرس فقتلوه ثم انهزم المشركون وتبعهم المسلمون فوصلوا إلى الجالينوس وهو يجمع المنهزمين فقتلوه أيضاً وجمعوا من الأسلاب والأموال ما لم يجمع مثله قبله ولا بعده. وأخذ ضرار بن الخطاب راية الفرس العظيمة وكانت قيمتها ألف ألف ومائة ألف ألف واستولى المسلمون على تلك البلاد. وكتب سعد إلى سيدنا عمر رضي الله عنه بالفتح وأقام بالقادسية ينتظر كتاب عمر فوصل الكتاب يأمره أن يقيم بالقادسية.
(يتبع)