الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إلى علماء العالم الإسلامي ورؤسائه
(قرآن كريم)
لما كان من الحقائق المؤيدة بالشواهد والقضايا المسلمة لدى ذوي الفكر الثاقب والنظر الدقيق أن من ترأس قوماً وتولى إدارة شؤونهم وزمام سياستهم وهو لا ينفك عن مخالطتهم ومعاشرتهم يوماً من الأيام يجب عليه أن يتوخى الأسباب التامة لاستجلاب قلوبهم ويستعمل الوسائل اللازمة لاستمالة نفوسهم وينهج المناهج التي ينهجونها ويرد المشارب التي ينهلونها ويميلون إليها بحيث لا يمس بذلك شرفه ودينه ليكون محبوباً مصاناً مكرماً عند الجميع ومعززاً مهاباً عند الرفيع والوضيع.
كان من اللازم اللازب على من بيدهم زمام الحل والعقد من حكامنا كرؤساء الدوائر وقواد الجيوش ومن لهم الإمرة عليهم وعلى أرباب الصحافة الذين هم لسان حال الأمة أن يكونوا عنوان العدل ونبراس الهدى وعلم السعادة ونموذج الفضيلة يهجرون الخمرة التي يتجاذبون أقداحها باسم المدنية كما هجرتها عقلاء أوروبا ويكفون عن الزنا واللواط والجلوس في نوادي السفاهة والسفالة والتردد إلى المواخير ومراسح اللهو والعار والشنار باسم الحرية ويرجعون إلى دينهم فيتخلقون بأخلاقه الشريفة وآدابه المنيفة وينبذون الأخلاق البذيئة الساقطة ويعتاضون عن تلك المراسح بالمساجد ويتعشقون الصلوات الخمس ويدأبون على الطاعات (سياسة وديناً).
أما سياسة فلحوزهم على إرضاء الأمة واستجلاب قلوبها وأما ديناً فلنيلهم رضاء الله تعالى ومن البديهيات أن الأمة متى رأت مأموراً محافظاً على دينه متمسكاً بالشرع الشريف متظاهراً بمكارم الأخلاق فإنها تحبه وتتودد إليه وتمدحه وتثني عليه حتى أنها تنخدع له وتضع ثقتها به وإن كان مرائياً مداهناً.
بل تخضع له وتنقاد لجميع ما يأمر به وينهى عنه ولو كان مؤدياً لهلاكها وخراب ديارها والعكس بالعكس فإنها تنفر من المارق من الدين والمتنصل من الأخلاق الشريفة وتمقته وتنظر إليه بعين التحقير والازدراء وتسلقه بالسنة حداد فتمزق عرضه وتلوث شرفه حتى أنه ليكون كالقذى في أعينها.
ولاسيما ببلادنا التي أغلب سكانها من المسلمين فوسيلة الدين هي الوحدة الوحيدة التي تؤلف بين الشعب والحكومة وهي المشار إليها بقوله تعالى خطاباً لنبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم {وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ، وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} . وهي التي تؤلف بين أفراد الأمة فتجعلها كالجسم الواحد تشترك في السراء والضراء وفي السعي وراء جلب المنافع ودرء المفاسد وفي المدافعة والمناضلة عن أوطانها عند طروء طارئ يتهددها أو حدوث نائب ينتابها هذه هي الجامعة الدينية والرابطة الحقيقية التي تمتاز عن سواها من الجامعات كالجنسية والوطنية واللغة.
لأن الدين أقوى أساس تشاد عليه دعائم الروابط الاجتماعية بين أفراد النوع البشري مهما تباينت مشاربهم وتناءت أقطارهم وشطت ديارهم واختلفت أغراضهم وتبادلت أهواؤهم وتعددت لغاتهم فرابطة الدين عندهم أعظم مؤثر في النفوس لأنها أحرزت شرفين عظيمين وفضلين جليلين أحدهما - اتصال حبلها بحبل فاطر السماء والأرض والثاني دوامها إلى نهاية الأجل وأما الرابطة الجنسية وإن دامت فهي أضعف من الأولى لأن الإنسان قد يقطع أقاربه ويلحق بالأباعد بواسطة الدين وهذا معلوم واضح كالشمس في رابعة النهار لدى من له أدنى إلمام بعلم تواريخ الأمم وكم في الحوادث من شواهد؟
وأما رابطة الوطن واللغة فهما أضعف من الرابطة الجنسية لأنهما تابعان لها وكثيراً ما نرى من الناس من يبارح أوطانه مهاجراً إلى غير بلاده فيحل ربوعاً لم يعرفها ويشاهد سكاناً لم يألفها ويقيم بها إلى أن يدركه الأجل المحتوم كما نشاهده من الذين يهاجرون إلى بلاد أمريكا فإنهم ذهبوا عشرات من الألوف وما رجع منهم إلى وطنه إلا القليل.
فرابطة الدين متى غرست في القلوب وأينعت ثمارها الجنية على أغصان أدواحها كانت الكهف الذي يؤوى إليه والملاذ الذي يعول عليه والحصن الحصين الذي يلجأ إليه الخائفون عند الدفاع عن أوطانهم والذب عن حياضهم والذود عن أعراضهم وأموالهم هي الوطن هي الحرية هي الإخاء هي المساواة.
وبها أرهب سيدنا معاوية رضي الله عنه قيصر الروم لما كتب إليه يهدده بالحرب أو دفع الجزية حين تشاجره مع سيدنا علي رضي الله عنه فكتب له الجواب إن لم تكف عن طلبك
وترجع عن بغيك سلمت الأمر لصاحبي وكنت أول سهم من سهامه يرمي به إليك وحينما وصله الجواب أرعبه وأرهبه وأدرك الحقيقة وفهم السر الذي بين الملمين وتبين له الرشد من الغي.
كيف ينكر فضل الرابطة الدينية وقد كانت السبب الوحيد في الفتوحات الإسلامية وانتشارها في سائر الأنحاء والأرجاء ومن المقرر المسلم أن دين الإسلام لم يدع أصلاً من الفضائل إلا أتى عليه ولا قادة من قواعد النظام الشريف إلا قررها ولا مزية من مكارم الأخلاق إلا دعا لها وحث عليها وأباح لكل أحد أن يتناول من الطيبات ما شاء أكلاً وشرباً ولباساً إلا ما كان ضاراً بنفسه أو بمن يدخل في ولايته أو ما تعدى ضرره إلى غيره.
الإسلام هو الذي جعل الإنسان حراً في أفكاره متى بلغ رشده وأدرك هداه خول للإنسان استقلال العقل في الأمور النظرية وما به صلاح السجايا واستقامة الطبع وإنهاض العزائم هو الذي حمل على المتنفذين حملة الأسد الهصور فبدد فيالقه المتغلبين على النفوس ونسف ما كان لهم من دعائم وأركان في عقائد الأمم وصاح بالعقل صيحة أزعجته من سباته وأفهم الإنسان بأنه لم يخلق ليقاد بالزمام لكنه فطر على أن يهتدي بالعلم فيتخلص من ظلمات ليل الجهل الدامس الحالك ولما كان مفتاح هذه الوسيلة ومصباح هذه الطريقة هو علماء الأمة كان من الواجب المحتم على علماء الإسلام الأطباء النطساء الذين يشخصون الداء والدواء أن يبارحوا أوطانهم وينتشروا في الأرض لبث الدعوة الدينية بين أفراد الأمة ونفخ روح الشريعة في الأجسام الخالية لإحياء الأرواح الخامدة وتحريك النفوس الهامدة يؤلفون بين القلوب ويحذرون من التحزب والتفرق لأنهما في الحقيقة معاول الخراب وينذرون الأمة بسوء عاقبة اختلاف الكلمة وشق عصا الاجتماع ووخامة النتيجة ويبشرون بالفوز والنجاح عند التعاون والتعاضد واتفاق الآراء ويشقون إلى التمسك بعرش الخلافة الإسلامية وحفظ كيان دولة الإسلام والمسلمين ويحرضون الناس على شد أزرها بالمال والرجال ومفاداتها بما عز وهان ويبذل النفس والنفيس في سبيل ترقيها ونجاحها يغادرون أوطانهم ويفارقون أولادهم وخلانهم لنيل هذا المطلب الأسمى الذي جعله الله وظيفة الأنبياء والرسل الذين هم أشرف مخلوقاته وأورثه لعلماء الأمة فمن الواجب على الوارث أن يحفظ ما ورث ويعمل به خوف الضياع ومقت الله تعالى ولو لاقى الشدائد والمصاعب لأن له قدوة بمورثه قال
جل شأنه {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} . ومن اللازب اللازم على الحكومة أن تؤمنهم وعيالهم على معيشتهم وتكفل لهم بما يقوم بأودهم وتمد لهم ساعد المعاضدة على إدراك هذه الضالة المنشودة والغاية المفقودة لاسيما في هذه الأوقات الحرجة والظروف المشؤومة.
فإذا فعلوا ذلك كان سعيهم هو قطب دائرة الحياة الدنيا ومدارج مرقاة العلا إلى المراتب السامية به تدرك الغايات وتملك النهايات وبالجملة علو الهمة من الإيمان ولما كانت القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد جعل الله من عظيم فضله وجليل كرمه الوعظ والإرشاد جلاء لصدأها ولهذه الغاية فرض على المسلمين صلاة الجمعة في كل أسبوع مرة وقيدها بالجماعة فلا تصح من الفرد وفرض الحج على المستطيع ليجتمع المسلمون كل عام.
تراهم يأتون من سائر الأقطار والممالك ييممون البيت الحرام من كل فج عميق بقلوب ملؤها البشر والفرح لا يبالون بما يتحملونه من الآلام والمشاق يقف فيه الحقير والجليل والرفيع والوضيع ويقومون في صعيد واحد لا امتياز لابن أعاظم العظماء عن ابن أفقر الفقراء فيا لله ما أحلى هذه المساواة وما أبهاها وما هي الفائدة يا ترى من اجتماع المسلمين في اليوم خمس مرات وفي كل أسبوع وعام؟
فائدة اجتماعهم في اليوم والأسبوع والعام استماع المواعظ والإرشادات العمومية التي تلقيها الخطباء والوعاظ حسبما يقتضيه الحال والزمان بالتوصية بالمحافظة على الخلافة الإسلامية وبوجوب الانقياد لخليفة الوقت والتحابب والتعاون والتناصر والتعاضد والاعتصام بحبل الله جميعاً والسعي وراء المنافع العامة والنهي عن الانشقاق وتفرقة القلوب والحث على طلب العلوم الدينية والفنية وإحداث الفبارك والصنائع لتجاري أمتهم الأمم الحية في مضمار الرقي والتقدم ومعترك الحياة.
فباجتماعاتهم العمومية السالفة الذكر ينظر الغني إلى الفقير فيحنو عليه ويشكر الله على ما أولاه من جلائل النعم والظالم يرى المظلوم فيرق ويرجمه والقوي يشاهد الضعيف فيعينه على ضعفه شفقة ورحمة ويقفون على أحوال بعضهم فيتأثرون متى سمعوا بمصيبة حلت ببلاد قوم دون آخرين ويهرعون لمؤازرتهم وإنقاذهم من مخالب الأعداء.
كيف لا وهم كالجسم الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى:
ناشدتكم الله والوجدان والشرف أية سياسة أعظم من هذه السياسة أم أي قائد أعظم من قائد الدين، ألا فليتق الله المفكرون والمدبرون وليرجعوا إلى ما كان عليه أسلافهم أرباب الحزم والعزم والدراية أولئك قوم كانت ترتعد فرائص الجبابرة عند ذكر اسمهم من التألف والتحابب والتعاون والتعاضد والتضافر وجمع الكلمة والسير على المنهج القويم والصراط المستقيم.
ويا للأسف أصبحنا في زمان لا يحضر فيه المواعظ سوى المريض والشيخ الهرم الفاني والفقير المعدم هؤلاء العجزة الذين لا يقدرون على ردع فاسق ولا على إصلاح فاسد ولا على تقويم أود والذين يجب عليهم استماع المواعظ والخطب وبيدهم زمام الحل والعقد غافلون ومتغافلون صفتهم اليوم كصفة من أخبرنا الله عنهم بقوله:
{فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ، كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ، فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ، بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً} . والعجب منهم ومن أعوانهم يتساءلون في هذه الأيام عن عدم النصر في هذه الحرب الحاضرة ويقولون إن الله وعد المؤمنين بالنصر فلم لم ينصرنا؟
ويتجاهلون عن أنهم ليسوا من الذين وعدهم الله بالنصر لأن الله وعد المؤمنين بالنصر ووصفهم لنا بقوله: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} . فهؤلاء الذين وعدهم بالنصر فقال: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} .
ونحن نقول لهم كما قال الله تعالى لأمثالهم {فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} ، {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} ، {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} . ونقول مهما حاول السياسيون والمفكرون في نهوض الأمة ورقي الوطن إن لم يعضدوا سياستهم بالشرع الشريف فلا تقدم ولا رقي ولا حياة ولا نجاح.
يبرود
أحمد الباشا