الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفونغراف
رأينا في مجلة مكارم الأخلاق التي كانت تصدر بمصر جواباً على سؤال ورد للمجلة المذكورة من مكة المشرفة ملخصه:
ما قولكم فيما وقع كثيراً الآن من حبس صوت قراءة أيات من القرآن الكريم مع غيره من أصوات الغناء في الآلة الإفرنجية المعروفة بالفونغراف فهل يحرم على صاحب الصوت إلقاء صوت قراءته للقرآن فيها فإن قلتم بالحرمة فهل يحرم أيضاً استماعه صوت قراءة القرآن نمنها من بين أدوار الغناء مثلاً وما حكم لأأخذ الدراهم على ذلك وإذا سمع آية سجدة فهل يسن السجود لها أفتونا مأجورين_ولما تضمنه من الفائدة والنصيحة أحببنا نشره ليطلع عليه قراء مجلتنا الكرام.
(الجواب عن حبس صوت قراءة القرآن الكريم في الفونغراف)
الحمد لولي الحمد والصلاة والسلام على الموفي بالعهد وعلى آله وأصحابه سور الشريعة ودور المجد أما بعد فإن صاحب الصوت بإلقائه صوت قراءته للقرآن في هذه الآلة واضع كلام رب العالمين موضعاً لا يليق بجلالته وتسامي منزلاته إذ حبسه فيها ينقله من إنزاله للتدبر في آياته والخوف من وعيده والاعتبار بقصده والاستبصار بمصباح هدايته والتفهم لمعانيه والإذعان لمعجزه إلى ضحك الضاحكين من جماد يتكلم وذي عجمة يترنم بل إلى منزلة الزامر يحيط به الرعاع وينساب إليه أهل البطالة وعشاق الملاهي بل بعد إن كان قرئ لدى الصحابة تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم صارت منزلته والحالة هذه منزلة آلة مطربة يطاف بها في الأسواق وتتخذ في البيوت ملهاة للشبان ومدعاة للشيطان بل الشأن في هذا أنه أفظع وأشنع مما قالوه من أنه إذا فأفرط القارئ في المد وفي إشباع الحركات حتى يتولد من الفتحة ألف ومن الضمة واو ومن الكسرة ياء أو يدغم في غير موضعه كان حراماً يفسق به القارئ ويأثم المستمع لأنه عدل به عن منهجه القويم إذ القراءة على هذا الوجه خارجة إلى اللهو والطرب خارجة عن عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم أجمعين إلى شيء جديد غير محمود ونمط مستحدث مردود وقد قال صلى الله عليه وسلم (كل مستحدث بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار) بل هذا نفسه بعض من إشارات ما في حديث أنه صلى الله عليه وسلم عد من أشراط الساعة أن يتخذ القرآن مزامير يقدمون أحدهم ليس بأقرئهم ولا أفضلهم إلا ليغنيهم به غناء
بل ماذا يكون الخطب الشديد والكرب المزيد فيمن رضي لنفسه أن يضع كلام الله هذا الموضع وقد قال صلى الله عليه وسلم فيمن إثمه أقل وحمله أخف اقرأوا القرآن بلحون العرب وأصواتها وإياكم ولحون أهل العشق ولحون أهل الكتابين وسيجيء بعدي قوم يرجعون بالقرآن ترجيع الغناء والنوح لا يجاوز حناجرهم مفتونة قلوبهم وقلوب الذين يعجبهم شأنهم بل الحالة في هذه الآلة أشد حرمة من قراءة القرآن على ضرب الدفوف وقرع الطبول وتحريك الأوتار والنقر بالأنامل والنفخ بالأبواق بل إذا كانت العلة في تحريم مس المصحف على المحدث ولو بصدره ولسانه وشعره وظفره أنه إخلال بجلالته وخروج عن تعظيمه وتهجم عل مقامه فكيف لا تكون القراءة في هذه الآلة من أشد أنواع التحقير والإهانة بل إذا كان مس ورقه وجلده ولو منفصلاً حراماً على المحدث فماذا تكون جريمة من ينزل به إلى هذه المنزلة بل إذا كان تعليمه للكافر المعاند وغير المعاند إن لم يرج إسلامه ممنوعاً كما منع السفر به إلى بلاد الكفر إن خيف وقوعه في أيديهم فكيف لا يمنع القارئ من قذفه في هذه الآلة فماً لفم الكافر يحمله والساخر يسمعه إذ أنه إنما دخل فيها الفاظاً ذات مقاطع ومقالع تحملها الأنفاس وتحفظها الآلة وهذا عينه هو القرآن الممنوع قراءته على الجنب إلا بقصد الذكر بل حديث من أحدث في أمرنا ما ليس منه رد كاف في البيان بل نفس هذه الآلة من شعار الفجار والكفار والتشبه بهم حرام وقد قال السند الأعظم صلى الله عليه وسلم (من تشبه بقوم فهو منهم) بل إذا فرضت أنه لا تشبه فيها بهؤلاء ولا هؤلاء فافرض أنها من الشبهات والشبهات حرام عند أكثر العلماء روى البخاري والنسائي (الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهة فمن ترك ما يشتبه عليه من الإثم كان لما استبان أترك ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان والمعاصي حمى الله ومن يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه وبعد هذا كله فاعلم أنه يجب على كل مكلف تمكن من إنكاره بيده أو لسانه أو قلبه أو استعانة بسواه وهنا ننصح القراء أن لا يصلوا بالقرآن إلى هذا الحد فالدنيا زائلة والذنوب حاضرة والحجة قائمة وإنما يقبل النصيحة من وفق.
(الجواب عن سماع القرآن الكريم من الفونغراف)
ما تقدم كله إجمالاً وتفصيلاً ينبئك بشدة الخطر وعظيم الذنب وجراءة القلب وانتهاك
الحرمة بحبس القرآن في هذه الآلة كما ينبئك أنها آلة لهو أولاً وإخلال بتعظيم القرآن ثانياً وتمكين للكافر من آياته ثالثاً وتشبهاً بالكفار رابعاً وضياع للمال فيها خامساً وإعانة لفاعلها بشرائها سادساً وإحداث لما لم يكن من الدين سابعاً فهي على كل وجه وكل حال من المنكر الذي يأثم الساكت عنه والراضي به والحاضر فيه فالوجه الشرعي أن الجلوس مع شارب الخمرة ونحوه من أهل الفسوق والملاهي المحرمة مع القدرة على الإنكار أو المفارقة عند العجز كبيرة من الكبائر ونفس استماع صوت قراءة القرآن منها رضا بالحالة وإعانة عليها وقد أسلفنا أن الإفراط في القراءة إلى الحد الذي يخرجها إلى اللهو والطرب يفسق به القارئ ويأثم المستمع واستماع القراءة من هذه الآلة أشد من استماعها على الوجه المار بكثير وحسبك أنها منكر سماعه إعانة عليه فاعتبر بهذه الحالة ولا تسمع تلك الآلة واعمل بقوله تعالى: (وتعانوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان)
(الجواب عن أخذ الدراهم عليها)
لا أظن بعد أن سمعت في هذه الآلة ما سمعت وعرفت من حقارتها ما عرفت إلا أن تلحق صاحبها في صنف المبتدعين وتعد المعين عليها من أعوان الشياطين وترى كسب الكاسب بها إقراء وإسماعاً من شر وجوه المكاسب وأقبح أنواع الباطل فسواء الكسب بالقراءة فيها والكسب بسقاية الخمر وجلب الحسان للفجور والقيان للأغاني وعمل النائحة وإيكال الربا والسعي إليه والإعانة عليه إلى أمثال هذه الأحوال التي هي في نفسها شنيعة وذريعة إلى المفاسد وللوسائل حكم المقاصد بل هذا المعدود وغيره من مكاسب نحو الخائن والسارق والمقامر والساحر والمنجم والزانية كله داخل في قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينك بالباطل) فإن الباطل يعم هذه الأشياء كلها وما في معناها من كل شيء أخذ بغير وجه شرعي وانظر إلى ما أخرجه مسلم وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً) وقال (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم) وانظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم لا يربو لحم نبت من سحت إلا كانت النار أولى به مع قول العلماء السحت (بضم فسكون) الحرام أو الخبيث من المكاسب ويكفيك أن العلماء على علمهم بحاجة الأمة والدين إلى تعلم القرآن اختلفوا في أخذ الأجرة على تعليمه
وإن كان الأكثرون على الجواز وإذا كان ذلك كذلك فكيف لا يكون أخذها على وضعه في هذه الة حراماً في حرام وسحتاً في سحت اللهم أغننا بحلالك عن حرامك وبطاعتك هن معصيتك وبفضلك عمن سواك آمين.
(الجواب عن السجود عند سماع آية السجدة في الفونغراف)
اعلم أرشدني الله وإياك أن السجود في ذاته ومعناه خضوع لرب الأرباب بلصق الجبهة والأنف بالأرض وبسط اليدين والركبتين وأطراف الأصابع يهيج هذا الخضوع شيء في القلب يتولد من ملامحة عظمة ذي الجلال وطموح البصيرة إلى علو كبريائه عند قراءة أو استماع أية سجدة وأنت تدري أن السامع من هذه الآلة مغلوب على عقله مصروف بكليته عن معالي الجلال والأدب إلى معالي اللهو الطرب يصرف الاستغراب عما يجب لآيات الكتاب على أن سجود التلاوة شرط سنيته حل القراءة وقصدها ولهذا قالوا لا يجود لقراءة جنب لحرمتها كذلك قالوا لا سجود لقراءة الدرة والنائم لعدم القصد فيهما وهذه الآلة قراءتها غير مشروعة فلا سجود وغير مقصودة فلا سجود أيضاً على أنه بحث في الإيعاب عدم السجود لسماع قراءة الجماد مطلقاً على أن مشروعية القراءة لا بد منها في القراءة والسماع وهي هنا غير مشروعة قراءة وسماعاً كما هي كذلك في الجنب وإياك أن تقول حق القياس أن يسجد لسماع القراءة من هذه الآلة مع حرمتها كما يسجد لسماع القراءة في السوق والحمام مع كراهتها فإنه قياس فاسد إذ القراءة هنا محرمة لذاتها وفي السوق لأمر خارج فطهر قلبك ولا تكن من الغاوين وخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين.
(فرع)
شاع بعد تصريحي بحرمة قراءة القرآن في هذه الآلة وسماعه منها أن بعض الناس يبيح السماع بقصد الاتعاظ وهي إشاعة لم تثبت فإن المبيح على فرض وجوده إذا قصد إباحة السمع بقصد الاتعاظ قياساً على إباحة القراءة للجنب بقصد الذكر فقد فاته أن القصد إنما يعتبر إذا كان من جانب القارئ وكان وسيلة لمقصد شرعي كما هو الشأن في الجنب إذ صرف القراءة من القرآنية إلى الذكر تحصيلاً لثواب الذكر ويدل على اعتبار قصده دون السامع أنهم قالوا أن قصد الجنب قراءة القرآن فلا سجود لحرمتها وإن قصد الذكر فلا سجود أيضاً لأنه حينئذ ذكر لا قرآن كذلك قالوا أن كاتب التميمة إن قصد أنها قرآن حرم
على المحدث مسها وحملها وغلا فلا ومن هنا تعلم أن العمدة على قصد القارئ والكاتب كما علمت بل لو قصد القارئ في هذه الآلة الوعظ أو الذكر لم يقبل منه لأنه قصد لأثر له يترتب عليه ثوابه ولم يخرج سامعه عن الحرمة لفساد القصد وأنه حيلة لا تنطلي ولأن الآلة جعلت اللهو كما هو جلي هذا ما عن لي فحرر وادع وفي هذه الآلة كلام طويل ربما ألمعنا إليه في فرصة أخرى ولكننا هنا نحذر المسلمين من رضاهم بإهانة القرآن إلى هذا الحد ومن رضي بهذا فحسبه جهنم وساءت مصيرا.