الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خلاصة الرحلة الشرقية
ثم قررنا عند قوله (قومهم) أن إضافة القوم هنا للعموم ومعلوم أن الجمع المضاف من صيغ العموم فتفيد الآية أنهم ينذرون بما تعلمون من الفقه كل فرد من أفراد قومهم فيبطل ما يزعمه بعضهم من أن لأهل التصوف أحكاماً خاصة يتلقونها بطريق الباطن قال أبو إسحاق الشاطبي لم يشرع الله تعالى إلا ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وتلقاه منه الصحابة ثم العلماء.
والتصريح بإبطال أن يكون للعارفين بالله أحكام تخصهم في سد لباب الخروج عن تقاليد الشريعة زيادة عن كشفه عن الحقيقة فإن فتح هذا الباب يفضي إلى أن ينبذ كثير من الناس الجادة بدعوى أنهم بلغوا درجة الولاية وأنهم متعبدون بأحكام باطنة وأهل التصوف الخالص أنفسهم يصرحون بهذا قال الإمام الجنيد حسبما نقله الزركشي في شرح جمع الجوامع من لم يحفظ القرآن ويكتب الحديث لن يقتدى به في هذا الأمر لأن علمنا مقيد بالكتاب والسنة.
ذكرنا استدلالهم على أن خبر الآحاد حجة. ثم قلنا اشتهر بين الأصوليين أن خبر الآحاد حجة في العمليات وأما المسائل العلمية فلا يتمسك فيها إلا بقاطع قال الإمام في المحصول إن ورد خبر الآحاد في مسألة علمية وليس في الأدلة القاطعة ما يعضده رد وإلا قبل. واختار الشيخ ابن عرفة أن المسائل العلمية التي لا ترجع إلى العقائد يكتفى فيها بالأدلة الظنية كخبر الآحاد إنما يشترط القطع في العمليات الراجعة إلى العقائد الإيمانية.
واستطردنا هنا مسألة اعتراض خبر الآحاد لقاعدة كلية وأوردنا في مساقها ما ذكره أبو بكر بن العربي في تفصيل مذاهب الأئمة الثلاثة وهو قوله إذا جاء خبر الآحاد معارضاً لقاعدة من قواعد الشرع هل يجوز العمل به أو لا فقال أبو حنيفة لا يجوز العمل به وقال الشافعي يجوز وتردد مالك في المسألة ومشهور قوله والذي عليه المعول أن الحديث إن عضدته قاعدة أخرى قال به وإن كان وحده تركه كحديث العرايا فإنه صادمته قاعدة الرب وعاضدته قاعدة المعروف.
وأتى بنا سؤال من أحد الحاضرين إلى معنى القاعدة ومأخذها فقلنا هي قضية تنتزع من دلائل متفرقة في الشريعة حتى تكون قطعية في نفس من استقراها من المجتهدين كقاعدة ارتكاب أخف الضررين فمن مأخذها قوله تعالى: (فأردت أن أعيبها) فإن إعابة السفينة
ضرر ولكنه أخف من أخذ الملك لها بسلطة غاصبة ومن منازعها حديث الأعرابي الذي جعل يبول فغي المسجد وزجره بعض الصحابة فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تزرموه فإن بوله في المسجد ضرر إلا أنه أخف من الضرر الذي ينشأ من إمساكه عن البول قبل فراغه.
وجئنا في تفسير (لعلهم يحذرون على اختلافهم في حرف الترجي الواقع في كلام الله تعالى فإن منهم من يخرجه على معنى التعليل كما ذكره ابن هشام في مغني اللبيب ومنهم من يصرفه إلى المخاطبين كما نقله صاحب الإتقان عن سيبويه حيث قال في معنى قوله تعالى (لعله يتذكر) اذهبا على رجائكما وطمعكما ويجري على هذا كل ما فيه حرف ترج نحو قوله تعالى (لعلكم تفلحون) وكان بعض التلامذة حين شرعت في إقراء الدرس قائمين على أقدامهم من ورائي يريدون أسئلة ويطلبون إعادة بعض التقارير وما لبثوا أن انقلبوا إلى السكينة والأصغياء وكانوا يلهجون عند الاستحسان بكلمة (كويس) تصغير كيس.
رافقني بعد انفصالنا عن الدرس طائفة من التلامذة فمررنا بمنزل كان أحد الجلساء به الأستاذ الشيخ الزنتاني فوقف موقف التحية وحدثه أحد الرفقاء بما كنا بصدده من قراءة التفسير فتوجه لي وقال قد أحييت سنة الشيخ ابن عرفة فذكر له الرفيق أن الدرس أيضاً يحتوي على مباحث متعددة منقولة عن الشيخ ابن عرفة.
تفضل علي بالزيارة في هذا المساء السيد شرف أحد الأعيان في عائلة أشراف مكة المحترمة فمقل لنا بعلو همته وسلاسة أخلاقه كيف تكون همم بني هاشم وآدابهم ثم أخذ بيدي حتى امتطينا عربة سارت بنا لإجابة دعوة السيد الشريف بن حمودة ولما انقضت المسافة ضرب كل منا بيده إلى كيسه ليتولى خلاص أجر الركوب عن سائر الجماعة فكانت يد الشريف أسرع في فتح الكيس ومناولة الدراهم لسائق العربة وأكد علينا أن نرد إلى الأكياس بضائعها فقال له الشيخ محمد صالح الشواش على وجه الدعابة لا تقسم علينا أيها الشريف متطاولاً فنحن أشرف أيضاً فتبسم منبسطاً لهذه الجسارة المشعرة بسلامة الضمير وحريته وقد تذكرت بهذه المداعبة ما كتبه الشريف الرضي إلى الإمام القادر بالله وهو:
عطفاً أمير المؤمنين فإننا
…
في دوحة العلياء لا نتفرق
ما بيننا يوم الفخار تفاوت
…
أبداً كلانا في المعالي معرق
إلا الخلافة قلدتك فإنني
…
أنا عاطل عنها وأنت مطوق
مضى لنا مع الشرف والشريف مجلس أنس يحاكي نسيم الأسحار إذا جاءت متضمخة بنفحات الأزهار ولكننا مررنا عند إيابنا بامرأة جالسة بقارعة الطريق والناس ملتفة حولها وهي تتلو القرآن بصوت رخيم.
أخذ مني الأسف مأخذه لما قدمت على المعهد الأزهري حين طويت منه محاضر الدروس وبرز أساتذته العظام لقضاء أمد الراحة الصيفية في أماكن الرياضة ومهاب النسيم ولم يتفق لي أن أشاهد محضرة درس بهذا الجامع العظيم وأنبأني التلامذة بأن سائر دروس الجامع معطلة ولا يقرأ به في هذه الأيام ولو درساً واحداً.
سافرت صباح يوم الأحد إلى برت سعيد ومررنا على جانب من فتحة السويس التي وصلت البحر الأحمر بالبحر الأبيض وحق لي عنهدما بلغت إلى مجمع هذين البحرين أن أذكر بيتين كان العلامة البليغ صاحبنا الشيخ السيد محمد الطاهر بن عاشور قد أرسلهما إلي في بطاقة يدعوني بها إلى زيارته حيث حل بحضرته إثنان من أولي العلم والأدب وهما:
تألقت الآداب كالبدر في السحر
…
وقد لفظ البحران من موجها لدرر
فما لي أرى منطيقها الآن غائباً
…
وفي مجمع البحرين لا يفقد الخضر
شأن القرآن في سرد القصص وضربها أمثلة الاكتفاء لماله مدخل في الموعظة والاعتبار فتجده في الغالب لا يصرح بأسماء الأماكن التي تجري فيها الوقائع كقصة ملاقاة موسى للخضر عليهما السلام فإنه لم يعين المراد بمجمع البحرين حيث لا ينبني على التعيين فائدة في الإرشاد لأن الحكمة من مساق هذه القصة التذكير بما اشتملت عليه من المحامد والآداب كسفر العالم للازدياد من العلم وتكبده المشاق في السير له ولو بعدت المسافة سنين فإن موسى عليه السلام يقول (أو أمضي حقباً) والإيماء إلى أن التوكل اعتماد القلب على الله لا في نكث اليد من الأسباب فإنه عليه السلام حمل معه الزاد ودل على هذا بقوله (آتنا غدائنا) إلى غير هذا من الفوائد ولكن بعض المفسرين كثيراً ما يسردون أقوالاً في أسماء ما جاء مبهماً في القرآن كاختلافهم هنا في المراد من البحرين فقيل هو بحر فارس والروم وقيل بحر القلزم وبحر الأردن ومجمع البحرين عند طنجة أو بأفريقيا وقيل هو بحر الأندلس
والبحر المحيط والتعيين في مثل هذا لا يعول عليه إلا إذا جاء به حديث صحيح ومن العجائب قول بعضهم كما نقله الأبي في التفسير أنه يقع في نفسي أن مجمع البحرين هو مجتمع المالح ووادي مجردة عند الدرسة وهو الذي يقال له حرق الجسرين والصخرة صخرة أبي ربيعة والجدار في ا (المحمدية).
امتطينا الباخرة الخديوية مساء هذا اليوم وتعارفنا فيها بالشيخ عبد القادر بن شيخ زادة أحد علماء طرسوس فأرانا السكينة في أحسن تقويم وما برحنا نروح الخاطر بمحادثته إلى أن رست الباخرة أمام بلد (يافا) فغرب عنا بدر فضله بعد أن أعطانا ملء صدورنا أنساً.
(لها تابع)