المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌المعارف حالتنا تقضي أن لانغفل هذا الموضوع من العناية بالبحث فيه - مجلة الحقائق - جـ ٦

[عبد القادر الإسكندراني]

الفصل: ‌ ‌المعارف حالتنا تقضي أن لانغفل هذا الموضوع من العناية بالبحث فيه

‌المعارف

حالتنا تقضي أن لانغفل هذا الموضوع من العناية بالبحث فيه وفي برنامجه من حيث كونه ممهداً لنشر العلم الصحيح ومفضياً إلى توفير وسائله وتسهيل طرق تحصيله للتمسية ونحن نضم صوتنا إلى أصوات الصحافيين الذين لا يفتؤُن يصرحون بأن بث روح العلم هو أقوى سبب يكفل سلامة المملكة العثمانية ويضمن لها مستقبلاً زاهياً ويعيد لها نضارة العصر الذهبي المأموني الذي لم يزل يضرب به المثل حيث بلغ من مراتب الكمالات العلمية درجة تقطعت دون نيلها إذ ذاك أعناق سائر الأمم شاخصة الأبصار مع قياصرتها وأكاسرتها وعباهلتها تنظر نظر غبطة إلى ذلك الرقي الباهر ولسان حالها يقول (وأين الثريا من يد المتناول) ولا غرو فقد كان المأمون (3) يستهين بالنفس والنفيس في سبيل العلم ويبذل لأجله كل مرتخص وغال_ولو كان يؤثر على ذلك شحن خزائنه بالأموال واحتجان المسجد والرقة (4) لما خلدت له في بطون التواريخ ذكرى أياديه البيضاء في سبيل العلم ولا كان الدهر يردد ذكر آثاره الغراء مقرونة بالإجلال والتبجيل ولكان انطوى خبره مع أخبار ملوك اللهو واللعب ولله در القائل:

أنا غدا ملك باللهو مشتغلاً

فأحكم على ملكه بالويل والحرب

أما ترى الشمس في الميزان هابطة

لما غدا وهو برج اللهو واللعب

قد ثبت عند جميع الأمم أن نشر المعارف هو مدار الترقي ومناط النجاح ومن استقصى النظر في مجالس جميع الممالك ودوائرها وجد أن المختص منها بالعلوم والفنون هو أكثر انتظاماً وأقوى نهضة وأسرع ترقياً من غيره حتى أن الرجال الذين ينتخبون للمشاريع العلمية أعظم اقتداراً وحزماً وغيرة من سائر رجال الحكومة من حيث المجموع وقد أصبح فلاسفة الغربيين اليوم يقولون من أراد أن يقف على حقيقة أحوال كل مملكة فلينظر إلى معارفها بعد أن كانوا يقولون فلينظر إلى مقدار ما تستعمله من أنواع الجيد لأسلحة الجنود وبناء الأساطيل وسائر أدوات الكر والفر وآلات الهجوم والدفاع ومعدات المعارك والحروب ولا يخفى أنه ليس المراد من هذا إن الدول بأجمعها قد خضعت لكلمة الحق واستسلمت لأحكام العقلاء فلم يبق لها احتياج إلى اعداد ما تستطيعه من القوى لسحق بني أبيهم آدم بدليل أن حكومات الاستعمار لم تبرح تطحن البشر وتحصدهم حصداً في سبيل تمديد نفوذها إلى بلادهم وإدخالهم تحت سلطتها مع الضغط عليهم ضغطاً لا يسوغ العقل

ص: 38

الراجح وقوع مثله على العجماوات وإنما المراد أن المعارف إذا تم انتشارها بين أفراد الأمة وسائر طبقاتها قضى عليها بالاتحاد والوئام وبرهن لها على وجوب السعي في سبيل الاستعداد بإكفاء الرجال وخزائن الأموال وروائع العدد الحربية حيث يمكنها حينئذ أن تحتفظ بكيانها وتصون أوطانها وتقف في أرقى مستوى يتاح للدول الوصول إليه وهانحن ندرك بجميع حواسنا أن كل حكومة تذرعت بوسائل التقدم الدستوري والترقي وأخذت بالحيطة في شؤونها من جميع أطرافها لا تلبث عشية أو ضحاها حتى تثور من مرابضها وتنظر إلى غيرها نظر الساخط الساخر ولسان حالها يملأ الفضاء بمثل قول الشاعر:

وترعى حمى الأقوام غير محرم

علينا ولا يرعى حمانا الذي تحمى

كما أن الأمم القاصرة المقصرة التي لاتعنى بالمعارف لاتزال إزاء غيرها من الدول القوية خافضة الجناح استكانة ومذلة خافتة الصوت بمثل وقول الشاعر:

إذا مرضنا أتيناكم تعودكمو

وتذنبون فنأتيكم وتعتذر

وصفوة المقال أن النهضة العلمية هي برهان النجاح وحجة الترقي فما الذي عملناه نحن وحكومتنا الشوروية إزاء هذه النهضة منذ الانقلاب إلى اليوم هذا سؤال يردده كل عثماني يغار على الحكومة والوطن ويعنى بالفحص عن أسرار انحطاط هذه المملكة العثمانية التي قاس سكانها من العناء والبلاء ما لا يعلم به إلا الذي يحيط علماً بالجزئيات والكليات.

ونحن كنا نود أن نصرح هنا بما نشأ عن أعمال نظارة المعارف من التقدم العلمي في هذا الدور الجديد وماذا تجدد فيه من المدارس والمكاتب ودور المعلمين وماالحكمة التي روعيت في تنظيم برنامجاتها وانتخاب أساتذتها ومعلميها مع بيان الكيفية في إلقاء الدروس وإملاء التقريرات كل ذلك كنا نرغب في بسط إيضاحه بسطاً يتمكن المطلع عليه من الوقوف على مقدار الحركة العلمية والإشراف على سير المعارف في المملكة العثمانية بيد أننا نرى عنان القلم ينكمش منقبضاً عن الجري في مضمار هذه التصريحات ويقصر عن بلوغ المدى في ميدان تلك الإيضاحات مع أن في هذا المقام متسعاً للباحثين وكأن اليراع توقع إذا هو استقصى البحث واسترسل في الكلام وخاض هذا الموضوع غير هياب ولا وكل أن يقع في مضيق قانون المطبوعات الذي يصعب التقصي (3) منه كما يسهل التورط فيه على حد قول الشاعر:

ص: 39

دخولك من باب الهوى إن أردته

يسير ولكن الخروج عسير

وعلى تقدير السلامة فهل يؤثر مقالنا هذا التأثير الذي تتطال إليه الأعناق وتشرئب نحوه النفوس فيعود علينا بالجدوى (4) المرغوبة ونجتني من ثمراته ماينسينا مرارة الجهالة التي تجرعتها سكان المملكة العثمانية كارهة مكرهة وتوجرتها (5) مقهورة مضطهدة (6) حتى وصلنا إلى زمن تقلصت (7) فيه عن بلادنا ظلال العلوم الوارفة (8) وأصبح المستحق لاسم العالم والحاوي لشرف العرفان أعز من الكبريت الأحمر (9) وقل العلم والعلماء قلة يتضاءل (10) لها الإنسان وجلاً وخجلاً من خالقه الذي وهبه ميزة (11) الاستعداد لنيل مناصب العلوم ومراتب المعارف وطفق مبتغي اقتباس نور العلم يضرب آباط الإبل (12) ويجوب فيا في الأقطار العثمانية وهو ينشد ذلك الرجل الذي يقال له على سبيل الحقيقة عالم أخصائي بله المتضلع من جميع العلوم الدينية الشرعية أو الدنيوية العصرية ولو أردنا تعداد العلماء الحقيقيين عندنا في دمشق ذات التاريخ المجيد لما جاوزوا عدد نجوم الثريا على أنها في مقدمة البلاد السورية عناية بالعلوم والمعارف. فحتى متى ونحن نقضي على الجهل وهو الداء الدفين الذي يقتل من كتمه ولم يستطب له والأنكى أن الخطباء والكتاب الذين بحت أصواتهم وكلت أقلامهم وهم يقولون (إلى العلم إلى العلم) قد سهل على المحاولين جوابهم لأنهم إذا أسندوا القصور والاقصار إلى الحكومة وأرادوها على إسعاف الشعب في سبيل التقدم العلمي قيل لهم دعوها وشأنها فهي من أمرها في شغل شاغل ولا ينبغي للشعب أن يتكئ أو يتكل عليها في كل شيئ_وأن أسندوا ذلك إلى الشعب وقصروا الملامة والتبعة عليه قيل لهم أن الشعب ليس عليه إلا أن يقوم بأداء ما تكلفه به الحكومة من الضرائب والرسوم التي تحيي منه باسم المعارف ومن أين للشعب أن يستسهل المصاعب والمتاعب ويقتحم عقبات المشاق الحائلة دون العلم وهو حديث عهد بالنقة من أمراضه الاجتماعية وبالخلاص من أعباء القيود الفادحة (3) التي ظل يرزح (4) تحتها ردحاً طويلاً وفي الحقيقة هذه كلها مماحكات ومواربات لاتغني من الحق شيئاً ولئن كانت زخرفة المعاذير الملفقة تفيد في دفع احتجاجات المطالبين بالإصلاح المعنوي وتسكين ضجيج المتبرمين من فشو الجهل فهي ليست تفيد نقيراً ولاقطميراً أمام الخطاب الشرعي القاضي بسؤال كل راع عن رعيته وبفرضية العلم على كل أحد وبأعداد ما في الوسع

ص: 40

والطاقة من القوى وبوجوب التحرز والاحتياط من الأخطار والمهالك ونحو ذلك مما لايتوصل إليه إلا من طريق العلم فالعلم هو سبيل السعادة التي هي الضالة المنشودة لكل فرد من أفراد البشر ولسنا نعني علماً مخصوصاً بل نريد جميع العلوم سواء كانت دينية أو دنيوية_أما الدينية فوجوبها على كل إنسان لايحتاج إلى بيان_وأما الدنيوية أو العصرية فقد أصبحت اليوم من قبيل القوى التي أمرنا باعدادها وليس في المملكة العثمانية من مدارس الفنون العصرية ما يفي بالغرض ويكفي الناشئة ويكون فيه سداد من عوز يقوم بمطالب الشعب_اللهم إلا ما تأسس وافتتح قديماً وحديثاً من المدارس الأجنبية والمكاتب الافرنجية التي لا أثر فيها لغير أيدي الأجانب وهذه لاثقة لنا ولا لحكومتنا بإخلاصها في خدمة ناشئتنا الذين يطلق عليهم بالنسبة إلى أصحاب تلك المدارس الأجنبية أنهم أولاد الأجانب كما يقال لهم أبناء العثمانيين ولا ندري بعد ذلك كيف يرجى سلامة عقيدتهم ووطنيتهم من الفساد إن لم ينقلبوا أعداء مبغضين لنا ولحكومتنا بعد أم كانوا أبناءنا وأخواننا المحبين لنا والمحبوبين عندنا والمنضوين (3) معنا تحت ظل الهلال العثماني فلا نشعر إلا وقد خرجوا من تلك المدارس وقلبوا لنا ظهر المحن ويصبح أحدنا وهو يقول بلسان حاله لابنه أو أخيه أو غيرهما.

وأنت امرؤ منا خلقت لغيرنا

حياتك لا نفع وموتك لا ضر

وإذا كان مثل ملك الجبل الأسود يقول لأولاده اذهبوا إلى أوروبا واجتهدوا على تحصيل العلوم وبلوغ الغاية منها لكن بشرط أنكم تتعهدون أن تعودوا إلينا بعد انتهاء تحصيلكم وأنتم في ذلك الحين على ماأنتم عليه الآن من الإخلاص لبني قومكم وصدقكم في حب وطنكم هذا (الجبل الأسود) وبقاء غيرتكم الليلة فإن رجعتم هكذا فعلى الرحب والسعة حيث نحتفل باستقبالكم ونكرم ملقاكم ويكون قدومكم علينا حينئذ بمنزلة أجمل مواسم الأفراح والمسرات وأما إذا رجعتم على العكس من ذلك فليس لكم عندنا جزاء إلا القتل والإعدام هكذا قال ملك الجبل الأسود لأولاده حين أرسلهم إلى مدارس الأجانب فنحن ماذا قلنا وماذا نقول لمواطنينا الذين لم يزالوا حتى الآن يهاجرون من بلاد سورية وغيرها إلى أمير كاوسواها من بلاد الغربيين ألا يحق لنا أن نعتبر بما نسمعه من صدى تصريحات بعض المنسلخين عنا بعد أن شبوا وترعرعوا في حجر البلاد العثمانية أليس لنا عبرة في هذه القاعدة الجديدة التي

ص: 41

اخترعت في أوروبا وأصبحوا يبثون روحها الخبيثة في أجسام مواطنينا الذين هم بين ظهرانيهم فيقولون لهم (وطن المرء حيث يعيش لا حيث ينشأ) ويدعمونها لهم * * * * * * * * * *

والأضاليل التي لا يغتر بها إلا البله والصبيان إلا أن الاستهانة بها وعدم الاحتياط لها ليسا من الحزم (فمعظم النار من مستصغر الشرر) ولاشك في اهتمام حكومتنا بدوام المحافظة على تقوية علائق الجامعة الإسلامية والرابطة العثمانية وإذا كان كذلك فيتحتم عليها مؤازرة المدارس الدينية والوطنية والمبادرة إلى تسهيل وسائل التحصيل فيها بحيث يؤمن على المتخرجين فيها من فساد العقيدة والوطنية فهل لنظارة المعارف ورجالها أن يبرهنوا لنا على القيام بالتدابير الفعالة إزاء هذا الخطر الذي يهددنا بخسران ناشئتنا ورجالنا خسراناً يؤدي إلى نقص مادي ومعنوي.

وإذا تأملنا في سر تخصيص شؤون المعارف بدوائر ومجالس رسمية وجعل إرادتها منوطة برجال لهم الصلاحية نقضاً وإبراماً في كل مايتعلق بالمعارف عرفنا أن للحكومة دخلاً وتأثيراً في تنوير الأفكار وتوسيع المدارك أو طمسها وحصرها في دائرة ضيقة وإلا فما معنى وزير نظارة المعارف ورجاله في القسطنطينية ومامعنى مدير مجلس المعارف وأعضائه في كل ولاية عثمانية وهلم جرا إلى آخر الشؤون العلمية الرسمية وسائر رجالها الرسميين وإذا كانوا يعتذرون لفشوا الجهل في الدور الغابر بضغط المابين فيما يعتذرون في هذه المادة الجديدة التي لم تشاهد فيها من النهضة العلمية غير الأقوال والمواعيد والأعمال التي يشهد العقل بعقمها وسقمها أو قلة نتائجها فإن كانوا يعتذرون بارتباك الدولة وكثرة مشاغلها ومشاكلها فهم لا دخل لهم بشيء من ذلك * * * * * * * بغير وظائفهم التي إذا قاموا بحقوقها ظهرت نتائجها لإلجام كل معترض عليهم وإفحام كل من يدعي عجزهم أو تهاونهم_فالواجبات الملية تقضي على ناظر المعارف ثم على بقية رجالها أن يبرهنوا للملأ على رؤوس الاشهاد فعلاً لا قولاً بأن زمن الشورى هو زمن النور والعلم والعدالة وبأن رجال الشورى يحرصون على تثقيف أبناء المملكة وتهذيبهم وتعليمهم ويريدون لهم الخير بكل معنى الكلمة لا كالحكومات الغاشمة التي تحرص على بقاء الجهل فاشياً بين جميع طبقات شعوبهم ليصطادوا في الماء الرنق الكدر ومما لم نفهم معناه في هذا

ص: 42

الزمان النوراني أن تصرف في العاصمة بعض الرسوم التي تجبى من الولايات وغيرها باسم المعارف وتنفق على ناشئة العاصمة مع غناهم وثروتهم وفقرنا وإملاقنا بالنظر إلى المجموع وإذا كان ناظر المعارف مضطراً إلى سلوك هذه الخطة فلماذا لم يحتج كما احتج غيره من النظار أو لماذا لم يعلن استعفاءه مصرحاً بعدم استحسان هذه العادة القديمة كما فعل غيره من الوزراء فلم يقبل استعفاؤه فخرج فائزاً بالظفر ونجح في كل ما طلب ولعل مبعوثينا يتعقبون كل هذه الدقائق ويكشفون لنا عنها حجاب الخفاء فإن الشورى مبنية على حكم الشعب الذي ينبغي أن يقف على تفصيل كل شيء من أحوال المملكة_وأما البقاء على إهمال شؤون المدارس الدينية وعدم تنظيمها وقلة العناية بها فقد استاء منه كل محب لخير بلاده ولاسيما أهل العلم والمنتمين إليه ولا يمكن لرجال الدين وسائر العلماء أن يتنصلوا من التقصير في هذا الصدد وإلا فأين المتصدون منهم لأداء واجب الأمة من إرشادهم إلى قرار الدين وحكمه ومواعظه وسائر ما يتعلق به مما يكفل لنا المراد به سعادة الدارسين وخص هنا بالذكر علماء الكلام الذي هو أساس الدين وأصله فما كان يجب على شيوخنا وأساتذتنا أن يتخولوا الناس بالنصائح الحسنة ولاسيما فيما يتعلق بالعقائد التي لم تزل تكثر طرق الفساد المتطرق إليها والشبهات الطارئة عليها أما كان عليهم أن يثمروا المساجد والمدارس بمثل هذه الدروس التي هي في المقام الأول بالنسبة إلى غيرها_أما كان على كل رئيس مدرسة أن يكون لديه نظام وقانون يحملان مرؤوسيه على حسن السلوك والاستقامة والمحافظة على أوقات الدروس والمطالعة والمذاكرة أما كان على رجال المدارس وكبار العلماء أن يتفاوضوا فيما يعود على الوطن بالنجاح العلمي ويحملوا الحكومة على وضع مقرراتهما موضع الاعتبار_ما كان عليهم أن يحثوا الأهالي على مواساة المتقين الذين يطلبون العلوم أناء الليل وأطراف النهار وليس لهم من المال إلا ما يطالونه من الصدقات والتبرعات التي تأتيهم على سبيل المصادفة وهكذا الواجبات التي لامجال لاستيفائها وختام المقال،

إن دام هذا ولم يحدث له غير

لم يبك ميت ولم يفرح بمولود

دمشق. ع

ص: 43