المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌رأينا في إصلاح المدارس - مجلة الحقائق - جـ ٧

[عبد القادر الإسكندراني]

الفصل: ‌رأينا في إصلاح المدارس

‌رأينا في إصلاح المدارس

الثبات في الأعمال

كثر فينا القائلون، وقل الرجال العاملون، ولو دققت النظر لوجدت أن القسم الأكبر من هؤلاء العاملين لا نتيجة لأعمالهم ولا ثمرة لها يفرح أحدهم ببدائة العمل. ويهتم بإحداث المشاريع ولكن لا ينظر إلى المستقبل نظر من يريد أن يستفاد من عمله نعم قضي علينا معاشر العثمانيين أن لا نثبت في أمر ولا ندأب على عمل فكأنا خلقنا للأقوال لا للأفعال ولأحداث الأعمال لا لإتمامها. أين نحن ممن يداومون الأعمال، وينتهون الفرص لتحقيق المال، لا تزعزعهم الشكوك والاحتمالات، ويوقفهم التردد عن إدراك الغايات، أين نحن من قوله صلى الله عليه وسلم أحب العمل على الله أدومه ألف كثير في حاضرتنا جمعيات لأعمال ومنافع لو ثبت منها عمل واحد لرجونا أن نكون مع الفائزين. وفي مصاف الراقين، عدم الثبات في الأعمال، والتقلب من حال إلى حال، أعظم أمر أتى علينا فنال منا بل كاد يودي بحياتنا المدرسية يبتدئ أحدنا العمل بهمة وعزيمة فما هي الأعشة أو ضحاها حتى يأخذه الخور. ويعتوره الملل. فتذهب تلك الهمة، وتفتر شرة ذلك الاجتهاد كم من مؤلف لم يتم تأليفه، ومصنف لم يكمل تصنيفه. وأمير خلب العقول بكاذب وعوده وصحا في عاهد الله على أن يعمل لأمته. ثم كان عمله لنفسه وشهوته، وكم من جمعية نادت بالإصلاح ثم همدت، وأناس دعوا إلى خير الأعمال ثم كانوا أول المتبرئين منه.

مدارسنا والثبات

مدارس حاضرتنا على اختلاف أنواعها، وتغاير مقاصدها، لا تثبت على عمل. ولا تستقيم على حال، فهي بين التقلب والتحول دائرة. وبين التغير والتبدل سائرة. وها نحن نتكلم عليها بما نرى راجين أن نوافق لإصابة الحق وقول الصدق وأن لا نلام من جانب رؤوساء المدارس بمجاهرتنا بما نعتقد فكلنا ساع للفائدة راغب في الإصلاح.

المدارس الدينية

يدخل الطالب مدرسة دينية فيرى أحد شيوخها يقرئ كتاباً في النحو أوفى الأصول مثلاً فيعزم على الاستفادة يبتدئ لكن لا يكاد يمر عليهما بضعة أيام حتى يمل هو أو يمل الأستاذ وينالهما الضجر. ومن كان في ريب مما قدمنا فليسأل الشيخ أولاً عن ما ابتدأه من الكتب

ص: 7

ولم يتمه والتلميذ ثانياً عن السؤال نفسه. وعن عدد رفقائه أول الكتاب وعددهم بعده هذا ولا تظنن أيها القارئ أن صاحبنا اذلي مل دام ملله بل قد علم من أحد أصدقائه أن الشيخ الفلاني يبتدئ يوم الأحد الكتاب السابق عينه فأعددته للحضور بين يديه مع تلامذته وفي الصباح أسرع حتى لا يفوته شيء من تقرير الشيخ وحضر ولكنه لم يلبث حتى تحول إلى درس آخر وهكذا تذهب حياته بين غدو ورواح ورغبة وملل. وفي ذلك ما فيه من حدوث العداوة بين ذلك الطالب ومطلوبه. إذ يثبت في قلبه بعدئذ أن وصوله إلى الغاية متعسر أو متعذر فيعرض عن العلم ويدعه ظهرياً وبسبب ذلك وغيره مما سنبين كثيرة قل عدد المتعلمين الحقيقيين. (ودخل في القوم من ليس منهم) فانحطت درجة هذا السلك الشريف وبقي إلا قليلاً مظاهر ترضي العين وتحزن القلب.

الدواء لهذا الداء

لا نرى دواءً أنجع لهذا الداء من إلزام المشايخ أنفسهم بالعمل بنظام مخصوص يسيرون عليه ويعملون بمقتضاه وامتناعهم بتاتاً من إهمال كتاب لبدائة آخر ومثلهم في كل ذلك التلامذة أيضاً مع ما يتبع ذلك من حسن المعاملة من الشقين والحض والتبشير من الأستاذ وهذا بلا ريب باعث على النشاط والأمل وقوة العزيمة والثبات والخير كله في الثبات

بقية المدارس

مر بنطرك نحو المدارس الأهلية عندنا فترى فيها التبدل والتقلب على أئمة ترى فهرس دروسها في رجب غيره في شعبان وفي رمضان فيره في شوال ترى عزيمة من بيده أمر شيء منها مصروفة تارة إلى ترقية اللغة التركية. وأخرى إلى تقوية اللغة العربية، ومرة إلى غير ذلك فهو بعد أن يعد عدته الأولى ويدخر لها ما في وسعه يعرض عنها ويستبدل بها الثانية. وهكذا حاله يوم ينتخب الكتب ويختار لها المعلمين، ففي كل شهر يتغير اجتهاده فيهم فيثبت منهم قسماً ويحذف الآخرين وهذا يتبعه تغير الكتب أيضاً لرجوعها في الغالب لرأي المعلم ومثل المدارس الأهلية في ذلك المدارس الأميرية فيبقى التلميذ فيها عرضة لأفكار الرؤوساء يسمعونه في كل شهر صوتاً وفي كل آونة نغماً. وهذا مع مافيه من سوء الصنيع وإضاعة الوقت الثمين بلا فائدة يعود على التلميذ بالضرر في مستقبله حيث يصير التقلب خلقاً ذاتياً له.

ص: 8

كلمة أو رجاء

نقترح عليكم أيها الرؤساء أن تطرحوا هذه العادة جانباً وأن تتقوا الله في أطفال المسلمين وأفلاذاً أكبادهم وأن تحافظوا على أواتهم من الضياع فإن الله محاسيكم عليها.

وعليكم أن تدققوا أول السنة في ترتيب بروغرام الدروس واختيار المعلمين الأكفاء. وفي ذلك ما يكفل لكم الثبات وعدم التقلب أثناء السنة ولا يخفى ما يحصل من ذلك من الانتظام في المدارس. وعدم الفوضى في التعليم، وذلك خير ما يرقي مدارسنا.

أولياء التلامذة وضرر تقلبهم على المدارس

إن في الأهلين قسماً كبيراً درجوا على هذه العادة السيئة، وتخلقوا بهذا الخلق الشائن ألا وهو التقلب يأتي الرجل وله ثلاثة أولاد مثلاً فيرى في أول الأمر أن تفريقهم أولى لما يترتب على اجتماعهم من تضييع الوقت باللهو ونحوه فيجعل كل واحد منهم في مدرسة وهو لا يدري ما حقيقة المدارس التي وضعهم فيها ولا مراده في المستقبل من أولاده يترك الوالد في هذه المدارس أولاده وشأنهم ولا يعلم من أمرهم إلا أن المعلم طلب منهم كتباً ودفاتر وأوراقاً وغير ذلك فينقدهم ثمنها ثم يكتفي منهم بالذهاب في الصباح والإياب في المساء يظل هذا الرجل وحالته هذه بضعة اشهر وفي بعض الأيام يأتيه أحد أولاده قائلاً أي به أنا لا أذهب إلى المدرسة. اجعلني مع أخي في مدرسته فإنها أرقى من مدرستنا وأنفع. وفيها دروس كثيرة، وأنا لم أتعلم من مدرستي شيئاً، وعندنا شيخ لا يحسن التعليم، وربما تحامل علي أكثر من غيري. ولقد يضربني في حين لا أستحق الضرب وهكذا يذم مدرسته ويمدح مدرسة أخيه، ويغضب عليها، بعد أن كان راضياً عنها، ولا يزال يلح على أبيه حتى يجعله مع أخيه، وحينئذٍ يترائى له أن وضع أولاده معاً أحسن وأقرب للنفع والفائدة فيجعلهم في مكان واحد ولكن لا تمضي مدة طويلة حتى يتسامع في البلدة أن إحدى المدارس ستقيم ليلة كذا حفلة تختبر بها تلامذتها فيتسرع صاحبنا في اليوم الثاني إلى وضع أولاده في تلك المدرسة ظناً منه بأنها المدرسة التي تخرج له أولاداً نجباء ولم يدر أنه بذلك أهلك أولاده وأعدمهم نتيجة مستقبلهم إذ أنهم يوم كانوا متفرقين كان كل واحد منهم آخذاً بنصيب من الدروس وحظ من الفائدة ولكن لسوء الطالع لم يكمل لهم ذلك حتى جمعهم والدهم عملاً بنصيحة ولده الصغير في مدرسة واحدةة فابتدأوا بدروس غير تلك الدروس.

ص: 9

ودفاتر غير تلك الدفاتر. وكتب غير تلك الكتب، ورأوا معلمين لم يكونوا رأوهم من قبل، وتناسوا جميع ما علق في أذهانهم من مدرستهم الأولى لأن مدرستهم الجديدة تقرئ الصرف التركي ولكن غير ما كانوا يعلمونه.

وتقرئ أيضاً النحو والفقه والتوحيد والحساب والجغرافيا ولكن بأسلوب يغاير أسلوب الأولى وهذا ما اضطرهم إلى تناسي ما كان ثابتاً في أذهانهم أقبل الأولاد يقتطفون ثمرات جديدة، ويتعلمون أسلوباً حديثاً، ولكن مع الأسف ما أوشكوا أن يتعرفوا هذا الأسلوب الحديث ويأخذوا بأول ثمراته حتى سمع والدهم العزيز صوت حفلة أخرى فعزم على إخراجهم إلى المدرسة الرابعة لينالوا ثمت من العلم أكمله وأوفاه ندع الوالد لفكره ورأيه وننظر الأولاد فإنهم لما دخلوا المدرسة امتحنهم مديرها (وهكذا مديرة المدارس عندنا لا يقبلون أحداً إلا بالامتحان) ووزعهم على حسب استعدادهم وفي المساء جاء الأولاد بيد كل واحد منهم جريدة كتب فيها أسماء الكتب والدفاتر والوالد التي تلزمه فنقدهم الأب كامل وكثيراً ما يضع من رتبتهم بخساً ليوهمهم قلة علم من كانوا عنده ما طلبوه، وأرسل عليهم رحماته الأبوية ودعا لهم بكلمات الرضا والإحسان.

مضى على الأولاد في المدرسة الرابعة مدة أيام نزعوا فيها ما ثبت في أذهانهم من مدرستهم السابقة وابتدروا يأخذون من الجديدة ما فيها أما الوالد فبينا كان مع أصحابه في بعض الأيام إذ رأى بيد أحدهم ورقة فطلبها ليعلم ما فيها فأذاها تقول تدرس مدرستنا العلوم العصرية والعلوم الدينية وتعني عناية تامة باللغات الإفرنسية والتركية والعربية مع ما يلزم الإنسان معرفته من العلوم الرياضية كالجغرافيا والهندسة المسطحة والهندسة المجسمة والحساب بأنواعه إلخ. . إلخ فاعجب بها وبكثرة دروسها وفكر أنه ليس بين أولاده وتحصيلهم هذه الدروس كلها غلا أن ينقلهم إليها ويجعلهم في عداد تلامذتها ومتى أتموا دروسهم فيها ينتخبون مبعوثين أو يختارون ولاة أو مشيرين وما تنفس صبح اليوم التالي حتى أسرع فنادى كبير أولاده ليؤذن أخويه بعدم الذهاب إلى المدرسة ففعل وكان الأخ الصغير يجتهد ليلة كله لوعد سلف منه لمعلمه بحفظ دروس الفقه فلما علم بأمر والده فرح وذهب ما كان يجده من حرارة الوعد وثقله ثم ساروا جميعاً ضحوة النهار إلى المدرسة الجديدة وهي خامسة المدارس وهكذا مضت حياتهم بين قديم وحديث ومدرسة كبيرة وأكبر

ص: 10

وحسنة وأحسن.

إلى أن حان وقت خروجهم من المدارس وليس لديهم من المعارف ما ينفعهم في دينهم أو يرقيهم في دنياهم شأن المتقلبين في الأمور، المبتلين بتقاطع الأعمال أمثال هؤلاء المتهوسين لا يكون ضررهم قاصراً على أنفسهم بل يتناول بني جنسهم أيضاً فقد يرزقون أولاداً فلا يحسنون تربيتهم ويسيئون عشرتهم ولا أقل من أنهم يورثونهمو تلك العادة القبيحة عادة التقلب وعدم حفظ المبدأ فتفسد حالهم، ويختل نظام حياتهم ويعيشون عالة على الناس، وعباء ثقيلاً على الوطن.

إن الوالد يدعي محبة ولده وأنه يتمنى له الخير ولكن لا يعلم الطريق إلى ذلك وربما عاد سعيه بالفائدة له ضرراً وأضراراً يحب على الولدان أن قلب الولد كالمرآة الصافية ينعكس فيها نطلق خيال فذلا كان من أعظم الواجبات عليه أن يسير به السير الحسن. ويخلقه بكامل الأخلاق فإذا رأى منه يوماً عدم الثبات في الأمور والتقلب في الأحوال نصحه وعظه. وردعه وزجره مخافة أن يثبت على التلون وينشأ على التقلب وعدم الصبر فيكون في الأمة العضو العاطل بل الضربة المؤلمة على المجتمع كله هذا في الدنيا وفي الآخرة يشترك الأب وابنه في عذاب الله ومقته. ويستحقان معاً نار الله وحجيمه.

قال الإمام الغزالي في أحيائه (أن الولد أمانة عند والديه وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة خالية عن كل نقش وصورة فإن عود الخير وعلمه نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة وشاركه في ثوابه أبواه وكل معلم ومؤدب وأن عود الشر وأهمل شقي وهلك وكان الوزر في رقبة وليه).

ووزر الولد أيضاً ثابت كما قدمنا لتقصيره في غصلاح نفسه بعد بلوغه وإن كان أنقص من وزر الوالد والوالد تعاظم وزره لتضييعه هذه الجوهرة التي وهبها الله له وأضراره بتلك الوديعة التي لا ذنب لها إلا أنها انقادت لإشارته وصارت طوع كلمته ولولا أن الآباء شعروا بثقل هذا الحمل. وصعوبة هذه الوديعة، وما يترتب على إهمالها من الفساد لسعوا في تأديبها وتهذيبها قبل سعيهم لغذاء أجسامهم (ولو أنهم فعلوا لرأينا من نشئنا ما ينفع ويفيد).

الدواء لهذا الداء

ص: 11

لا نرى دواءً أنجع لداء تقلب الأهلين من تعاضد أرباب المدارس واتفاقهم، وإزالة البغضاء من صدورهم، فيجمعون أمرهم على ما يعود بالنفع لهذه الناشئة وأول ذلك توحيد يورغراماتهم (فهرس الدروس) واعتماد كتب مخصوصة يكون العمل عليها تدرس في سائر المدارس لا تبدل بعد اتفاق أكثرهم عليها ولا تغير ولو وجد ما هو خير من بعضها وأقرب منه تناولاً فلؤجل إلى انتهاء العالم ليعرض على رؤساء المدارس ويكون العمل عليه في السنة التالية وبذلك نأمن مفاسد كبيرة ونوفر للطالب جزأ من عمره كان من قبل فريسة التنافر وعدم الائتلاف.

والثاني اتفاقهم جميعاً على زيادة راتب الأولاد زيادة وسطاً وجعلها في السنة قسطاً أو قسطين تدفع سلفاً لمدير المدرسة وتعيين مادة مخصوصة يرحم بها الفقير والمسكين وبذلك تحصل الفائدة التامة إذ أن زيادة الماديات أكبر مقو للمعنويات، والفوائد لا تقوم إلا بقيام العوائد زيادة هذه الرواتب مما ينشط معلمي المدارس ويزيد في رغبتهم بالتعليم والإفادة وجعل الأجرة في السنة قسطاً أو قسطين هو الحافظ الوحيد لمستقبل الأولاد إذ به يجبر التلميذ على المداومة ريثما تنقضي المدة التي دفع راتبها وبالمداومة يجد حلاوة المدرسة ويذوق لذة العلم والتعلم وتعيين مادة مخصوصة لرحمة الفقير لا يختلف بفائدتها اثنان بل هي أعظم ما يسعى إليه المصلحون وفي رأينا أن استعمال وهذا الدواء مما يقدم المدارس ويعود عليها بالغصلاح التام وليس هو بالأمر الصعب على رؤسائها فهم القدوة في محاسن الصفات ولا صفة تعلو صفة الاتحاد والاتفاق على ما يرقي هذا النشئ الكريم. فإن قال قائل لاشك أن ما ذكرتموه هو الدواء النافع ومدارسنا إليه في أشد الاحتياج ولكن نظن أنه لا يفيد رؤساء المدارس لما نعلمه بينهم من التنافر اذلي يستحيل معه مطلق اتفاق قلنا له ما علمته من رؤساء المدارس غير ما علمناه وعلمه غيرنا منهم فقد عرفوا عندنا بلين العريكة، وقبول النصيحة، وتهذيب الأخلاق، فلا يحتاجون إلا إلى التذكير [والذكرى تنفع المؤمنين].

ص: 12