المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الحقائق ومكانة الدين من الرقي - مجلة الحقائق - جـ ٧

[عبد القادر الإسكندراني]

الفصل: ‌الحقائق ومكانة الدين من الرقي

‌الحقائق ومكانة الدين من الرقي

من استعمل القوة الفكرية في الوسائط الموصلة إلى إدراك حقائق الأشياء لاحت له بوارقها وبدت له أشعة شموسها لا يذهب بك الوهم ولا يغري بك الخيال أن معرفة الحقائق تحصل بمجرد قراءة ألفاظ الكتاب وسرد العبارة من غير تعقل وإمعان ونظر في المقدمات المنتجة للمطلوب.

كل إنسان مستعد لإدراك الحقائق لأن القلب الذي هو محل العلم كالمرآة بالنسبة إلى صور المتلونات تظهر كل فيها على التعاقب فكل قلب بالفطرة الإلهية صالح لإدراك الحقائق.

العقل إذا لم يتحرك من معقول إلى معقول لم يدرك شيئاً من النظريات تلك الحركة هي المسماة بالفكر فكما أن العين الباصرة لا يمكنها إدراك الأشياء إلا عند ظهور النيرات كالشمس والقمر ونحوهما كذلك العقل لا يقدر على إدراك الحقائق إلا إذا أشرقت عليه أنوار التوفيق والهداية.

فخاصية الإنسان هي معرفة الحقائق على الوجه الذي هي عليه بحيث يرتفع على قلبه حجاب الشك والوهم وبكمال هذه الخاصية ونقصانها يفضل بعض أفراد الإنسان على بعض.

الحقائق سر مصون من ضمائر الكون لا يطلع عليه إلا من أفعم قلبه نوراً وامتلأ صدره إيماناً. ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور.

معرفة الحقائق تتوقف على قوة العقل التي هي إحدى القوى الأربع التي إذا اعتدلت في الإنسان كان إنساناً كاملاً وهي قوة العقل وقوة الشجاعة وقوة العفة وقوة العدل فمن اعتدال هذه القوى الأربع تصدر الأخلاق المحمودة ثم أن العقول متفاوتة في فهم الحقائق على حسب استعدادها ومهما بالغ الإنسان في تعاطي الوسائط لا يتأتى له أن يستقصيها علماً بل لا يحوز إلا على المقدار الذي يناسب حاله مما هو من مقدور البشر فأهم شيء للإنسان الإقبال على طلب كشف حقائق الأشياء والإعراض عما يشغل سره من العوارض التي تحول بينه وبين طلبها ومتى انكشفت له تحقق عنده أن سعادة كل أمة تكون برجوعها إلى أصول الدين القويم والأخذ بأحكامه والتصدي لإرشاد العامة بمواعظ تستدعي تطهير القلوب وتهذيب الأخلاق ولم الشعث وجمع الكلمة.

هل يكابر أحد أن صلاح هذه الأمة لا يكون إلا بالتمسك بقواعد الدين؟ هل ينكر أحد أن

ص: 16

الدواء الناجع لنهضتها هو امتثال أوامر الرب جل وعز واجتناب نواهيه والرضوخ لأحكامه.

فإذا كان التمسك بأصول الدين ينشئ للأمة قوة الاتحاد وائتلاف الشمل ويبعثها على اقتناء الفضائل وتوسيع دائرة المعارف وينتهي بها إلى أقصى غاية في المدنية فلم لا تسارع إلى ما يكون وسيلة لنجاحنا وذريعة لإعادة مجدنا ونتجافى عما يطوح بنا إلى هوة التقهقر.

لو جعلنا تاريخ الأمم مطمح نظرنا ونصب أعيننا لعلمنا أنه ما انقض صرح عز أمة. ولا انقلب عرش مجدها إلا التساهل في الدين واختلاف وشقاق. أو توسيد الأمور لغير أهلها وفي ذلك حيد عن سنن الله تعالى.

لو تأملنا في آيات القرآن واعتبرنا الحوادث التي أملت بالإسلام لوجدنا أن سببها ترك الأوامر والميل عن الصراط السوي واتباع الهوى وخطوات الشيطان ولا يظلم ربك أحداً.

نرجع إلى مداركنا ونصبر أخلاقنا ونلاحظ مسالك سيرنا هل نحن الآن متسربلون بسيرة الأسلاف الذين سبقونا الإيمان؟ هل فينا من يقتفي أثر العلماء ممن جاهدوا بأنفسهم وأموالهم في طاعة الله تعالى؟

كان من سيرتهم لتخلق بآداب الشريعة من استقامة الرأي وصدق القول وسلامة الصدر وصفاء الطوية والعفة عن الشهوات والحمية للحق والشفقة على عباد الله تعالى وهذا هو نتيجة التمدن الحقيقي. وأما سيرتنا الآن فلا يرتاب أحد أنها مباينة لما كان عليه السلف تبايناً جلياً.

هل تنفع حكمة أفلاطون وأرسطو؟ هل يغني طب أبقراط وجالينوس؟ هل تفيد هندسة إقليدس، وهيئة بطليموس مع الانحراف عن الدين والإعراض عن الحق. والأخذ بالصد عن الاقتداء بالقرآن العظيم، والعمل بسنة النبي عليه الصلاة والسلام! لا يتبادر إلى ذهن القارئ أن كلامنا هذا من قبيل التنفير عن الاشتغال بدراسة الطب والهندسة وغيرهما أو من قبيل ذمها وتثبيط الهمم عن تعاطيها كلا ولكن من باب التقريع لمن أقبل بشراشره على تحصيلها ونبذ علوم الدين وراءه ظهرياً، زعماً منه أنه بلغ بذلك نم الترقي في المدنية غاية لا مطلع للرغبة وراءها وأداه الجهل بأحكام الله التي شرعها وحدوده التي حدها إلى انتهاك حرمة الدين وارتكاب ما نهى عنه. وإلا فتلك العلوم في ذاتها لا ينكر عاقل أنها من جملة

ص: 17

الأسباب في ترقي النوع الإنساني ومن البواعث على تنوير عقله واتساع دائرة فكره.

نحن لا نذم علماً من العلوم لذاته لأن كل علم لا يخلو من منفعة أما في المعاد أو المعاش أو في الكمال الإنساني وإنما نذم بعض العلوم لأحد أسباب إما لكره مؤدياً لضرر بصاحبه في دينه وإما يكون المتعلم يقصد بالعلم أمراً فوق غايته.

فينبغي أن يكون للإنسان نظران يرمي بأحدهما إلى الدنيا في انتظام الشؤون وتحسين الأحوال، وبالآخر إلى الآخرة في استعمال الوسائل الموصلة إلى رضاء الله والفوز بما وعد به. خير رجال هذه الأمة من لا تشغله آخرته عن دنياه ولا دنياه عن آخرته.

فمن كان له قلب يفقه وعين تبصر وأذن تسمع وتتبع حوادث العالم يحكم حكماً لا يشوبه الريب بأنه ما حاق السوء بالأمة لا وكانت هي الظالمة لنفسها بما تجاوزت من حدود الله تعالى وانتهكت حرماته وانحرفت عن شرائعه.

لكن هذه الأمة المحمدية ما زال الخير فيها إن شاء الله ولا يزال إلى يوم القيامة كما جاءت الأخبار ودلت الآثار. وهذا الانحراف الذي نشاهده اليوم من بعض الناس والتساهل في الدين نرجو أن يكون من العوارض التي يحكم بسرعة زوالها خصوصاً إذا تداركتهم العناية والتوفيق ورجعوا إلى ما يأمرهم به ربهم وراجعوا علماء الدين المعروفين بالفقه والتقوى والاستقامة والصدق فأخذوا عنهم معالم دينهم وعلى العلماء الأتقياء أن يسارعوا إلى إرشاد الخلق بأداء ما عليهم من النصيحة لله ولرسوله وللمؤمنين ويشمروا عن ساعد الجد بتذكيرهم بالمواعظ وآداب الشريعة المطهرة لعل الله يزحزح عن قلوبهم غيوم الأوهام ويشرح صدروهم لتلقي الأحكام التي لا يرتاب عاقل بأنها السبب الأقوى لترقيهم ذرى المجد وتنسمهم شاهق العزة والله نسأل أن يهدينا إلى سواء السبيل.

ص: 18