الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
و [مثل] وزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شئ، [ثم تلى هذه
الاية: (ونكتب ما قدموا وآثارهم)]، [قال: فقسمه بينهم]).
أخرجه مسلم (3/ 88، 89، 8/ 61، 62) والنسائي (1/ 355، 356) والدارمي (1/ 126، 127) والطحاوي.
في (المشكل)(1/ 93، 97) والبيهقي (4/ 175، 176) والطيالسي (670) وأحمد (4/ 357، 358، 359، 360، 361، 362) وابن أبي حاتم أيضا في (تفسيره)، كما في ابن كثير (3/ 565) والزيادة التي قبل الاخيرة له، وإسنادها صحيح، وللترمذي (3/ 377) وصححه وابن ماجه (1/ 90) الجملتان اللتان قبل الزيادة المشار إليها مع الزيادتين فيهما.
وأما الزيادة الأولى فهي للبيهقي، وما بعدها إلى الرابعة له ولمسلم، والخامسه حتى الثامنة للبيهقي، وعند الطيالسي الخامسة، والتاسعة للدارمي وأحمد، ولمسلم نحوها وكذا الطيالسي وأحمد أيضا، والعاشرة والثانية عشر والخامسة عشر والتاسعة عشر للبيهقي، والحادية عشر والسابعة عشر للطحاوي وأحمد، والرابعة عشر للطيالسي، والسادسة عشر والسابعة عشر لمسلم والترمذي وأحمد وغيرهم.
والرواية الثانية للنسائي والبيهقي: والثالثة للطحاوي وأحمد
زيارة القبور:
118 -
وتشرع زيارة القبور للاتعاظ بها وتذكر الاخرة شريطة أن لا يقول عندها ما يغضب الرب سبجانه وتعالى كدعاء المقبور والاستغاثة به من دون الله تعالى، أو تزكيته والقطع له بالجنة، ونحو ذلك، وفيه أحاديث:
الأول: عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها، [فإنها تذكركم الاخرة]، [ولتزدكم زيارتها خيرا]، [فمن أراد أن يزور فليزر، ولا تقولوا هجرا])(1) أخرجه مسلم (53/ 6، 6/ 82) وأبو داود (2/ 72، 131) ومن طريقه البيهقي (4/ 77) والنسائي (1/ 285، 286، 2/ 329، 330) وأحمد (5/ 350، 355، 356، 361)
والزيادة الأولى والثانية له، ولابي داود الأولى بنحوها وللنسائي الثانية والثالثة.
قال النووي رحمه الله في (المجموع)(5/ 310): والهجر: الكلام الباطل، وكان النهي أولا لقرب عهدهم من الجاهلية فربما كانوا يتكلمون بكلام الجاهلية الباطل، فلما استقرت قواعد الاسلام، وتمهدت أحكامه، واشتهرت معالمه أبيح لهم الزيارة، واحتاط صلى الله عليه وسلم بقوله:(ولا تقولوا هجرا).
قلت: ولا يخفي أن ما يفعله العامة وغيرهم عند الزيارة من دعاء الميت والاستغاثة به وسوال الله بحقه.
لهو من أكبر الهجر والقول الباطل، فعلى العلماء أن يبينوا لهم حكم الله في ذلك، ويفهموهم الزيارة المشروعة والغاية منها.
وقد قال الصنعاني في (سبل السلام)(2/ 162) عقب أحاديث في الزيارة والحكمة منها: (الكل دال على مشروعية زيارة القبور وبيان الحكمه فيها، وأنها للاعتبار -
…
، فإذا خلت من هذه لم تكن مرادة شرعا).
الثاني: عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإن فيها عبرة.
[ولا تقولوا ما يسخط الرب]).
أخرجه أحمد (3/ 38، 63، 66) والحاكم (1/ 374 - 375) وعنه البيهقي (4/ 77) ثم قال: (صحيح على شرط مسلم)، ووافقه الذهبي وهو كما قالا.
ورواه البزار أيضا والزيادة له كما في (مجمع الهيثمي)(3/ 58) وقال: (وإسناده رجاله رجال الصحيح).
قلت: وهي عند أحمد بنحوها من طريق أخرى، وإسنادها لا بأس به في المتابعات، ولها شاهد من حديث عبد الله بن عمرو بلفظ البزار.
أخرجه الطبراني في (المعجم الصغير)(ص 183) ورجاله موثقون.
الثالث: عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(كنت نهتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها ترق القلب، وتدمع العين، وتذكر الاخرة، ولا تقولوا هجرا).
أخرجه الحاكم (1/ 376) بسند حسن، ثم رواه (1/ 375، 376) وأحمد (3/ 237 250) من طريق أخرى عنه بنحوه، وفيه ضعف.
وفي الباب عن أبي هريرة رضي الله عنه، وسيأتي.
119 -
والنساء كالرجال في استحباب زيارة القبور، لوجوه: الأول: عموم قوله صلى الله عليه وسلم ( .. فزوروا القبور) فيدخل فيه النساء.
وبيانه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نهى عن زيارة القبور في أول الامر.
فلا شك أن النهي كان شاملا للرجال والنساء معا، فلما قال (كنت نهيتكم عن زيارة القبور) كان مفهوما أنه كان يعني الجنسين ضرورة أنه يخبرهم عما كان في أول الامر من نهي الجنسين، فإذا كان الامر كذلك، كان لزاما أن الخطاب في الجملة الثانية من الحديث وهو قوله:(فزوروها) إنما أراد به الجنسين أيضا.
ويؤيده أن الخطاب في بقية الافعال المذكورة في زيادة مسلم في حديث بريدة المتقدم آنفا: (ونهيتكم عن لحوم الاضاحي فوق ثلاث فأمسكوا ما بدا لكم، ونهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء فاشربوا في الاسقية كلها ولا تشربوا مسكرا)، أقول: فالخطاب في جميع هذه الافعال موجه إلى الجنسين قطعا، كما هو الشأن في الخطاب الأول:(كنت: نهيتكم)، فإذا قيل بأن الخطاب في قوله (فزوروها) خاص بالرجال، اختل نظام الكلام وذهبت طراوته، الامر الذي لا يليق بمن أوتي جوامع الكلم، ومن هو أفصح من نطق بالضاد، صلى الله عليه وسلم، ويزيده تأييدا الوجوه الاتية:
الثاني: مشاركتهن الرجال في العلة التي من أجلها شرعت زيارة القبور: (فإنها ترق القلب وتدمع العين) وتذكر الاخرة).
الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد رخص لهن في زيارة القبور، في حديثين حفظتهما لنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها:
1 -
عن عبد الله بن أبي مليكة: (أن عائشة أقبلت ذات يوم من المقابر، فقلت لها: يا أم المؤمنين من أين أقبلت؟ قالت: من قبر عبد الرحمن بن أبي بكر، فقلت لها: أليس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن زيارة القبور؟ قالت: نعم: ثم أمر بزيارتها).
وفي رواية عنها (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في زيارة القبور).
أخرجه الحاكم (1/ 376) وعنه البيهقي (4/ 78) من طريق بسطام بن مسلم عن أبي التياح يزيد بن حميد عن عبد الله بن أبي مليكة، والرواية الاخرى لابن ماجه (1/ 475) قلت: سكت عنه الحاكم، وقال الذهبي (صحيح)، وقال البوصيري في (الزوائد) (988/ 1):(إسناده صحيح رجاله ثقات).
وهو كما قالا.
وقال الحافظ العراقي في (تخريج الاحياء)(4/ 418): (رواه ابن أبي الدنيا في (القبور) والحاكم بإسناد جيد) (1) 2 - عن محمد بن قيس بن مخرمة بن المطلب أنه قال يوما: ألا أحدثكم عني وعن أمي؟ فظننا أنه يريد أمه التي ولدته، قال: قالت عائشة: ألا أحدثكم عني وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلنا: بلى: قالت:
(1) قلت: وقد أعله ابن القيم بشئ عجيب، والاخرى بلا شئ! فقال في (تهذيب السنن) (4/ 350):
(وأما رواية البيهقي فهي من رواية بسطام بن مسلم، ولو صح، فعائشة تأولت ما تأول غيرها من دخول النساء)! قلت: وبسطام ثقة بدون خلاف أعلمه، فلا وجه لغمز ابن القيم له، والاسناد صحيج لا شبهة فيه.
ولا يعله ما أخرجه الترمذي (2/ 157) من طريق ابن جريج عن عبد الله ابن أبي مليكة قال: توفي عبد الرحمن بن أبي بكر ب (الحبشي)(مكان بينه وبين مكة اثنا عشر ميلا) فحمل إلى مكة فدفن فيها، فلما قدمت عائشة أتت قبر عبد الرحمن بن أبى بكر فقالت:
وكنا كندماني جذيمة حقبة * من الدهر حتى قيل: لن يتصدعا
فلما تفرقتا كأني ومالكا * لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
ثم قالت: والله لو حضرتك ما دفنت إلا حيث مت، ولو شهدتك ما زرتك) وكذا أخرجه ابن =
(لما كانت ليلتي التي كان النبي صلى الله عليه وسلم فيها عندي، انقلب فوضع رداءه، وخلع نعليه، فوضعهما عند رجليه، وبسط طرف إزاره على فراشه، فاضطجع، فلم يلبث إلا ريثما ظهر أنه قد رقدت، فأخذ رداءه رويدا، وانتعل رويدا، وفتح الباب [رويدا]، فخرج، ثم أجافه رويدا، فجعلت درعي في رأسي واختمرت: وتقنعت إزاري (1)، ثم انطلقت على اثره حتى جاء البقيع، فقام فأطال القيام، ثم رفع يديه ثلاث مرات، ثم انحرف فانحرفت، وأسرع فأسرعت. فهرول فهرولت. فأحضر فأحضرت، فسبقته، فدخلت، فليس إلا أن اضجعت، فدخل فقال، مالك يا عائش (2) حشيا (3) رابية؟ قالت: قلت: لا شئ [يا رسول الله]، قال: لتخبرني أو ليخبرني اللطيف الخبير، قالت: قلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي، فأخبرته [الخبر]، قال: فأنت السواد الذي رأيت أمامي؟ قلت: نعم، فلهزني في صدري لهزة (4) أوجعتي، ثم قال: أظننت أن يحيف الله عليك ورسوله!؟ قالت: مهما يكتم الناس يعلمه الله، [قال]: نعم قال فان جبريل أتاني حين رأيت فناداني - فأخفاه منك، فأجبته، فأخفيته منك، ولم يكن ليدخل عليك، وقد وضعت ثيابك وظننت أن قد رقدت، فكرهت أن أو فظك، وخشيت أن تستوحشي - فقان: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم،
= أبي شيبة في (المصنف)(4/ 140)، واستدركه الهيثمي فأورده في (المجمع) وقال:(3/ 60): (رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح)، فوهم في الاستدراك لاخراج الترمذي له، ورجاله رجال الشيخين لكن ابن جريح مدلس وقد عنعنه.
فهي علة الحديث، ومع ذلك فقد ادعى ابن القيم (4/ 349) أنه (المحفوظ مع ما فيه).
كذا قال، بل هو منكر لما ذكرنا ولانه مخالف لرواية يزيد بن حميد وهو ثقة ثبت عن ابن أبي مليكة، ووجه المخالفة ظاهرة من قوله (ولو شهدتك ما زرتك) فانه صريح في أن سبب الزيارة إنما هو عدم شهودها وفاته، فلو شهدت ما زارت، بينما حديث ابن حميد صريح في أنها زارت لان النبي صلى الله عليه وسلم أمر بزيارة القبور، فحديثه هو المحفوظ خلاف ما ذهب إليه ابن القيم رحمه الله تعالى.
وأما ما ذكره من تأول عائشة فهو محتمل، ولكن الاحتمال الاخر وهو أنها زارت بتوقيف منه صلى الله عليه وسلم أقوى بشهادة حديثها الاتي.
(1)
بغير باء التعدية، بمعنى لبست إزاري فلهذا عدي بنفسه.
(2)
يجوز في (عائش) فتح إلشين وضمها، وهما وجهان جاريان في كل المرخمات.
(3)
بفتح المهملة وإسكان المعجمة معناه وقع عليك الحشا وهو الربو والتهيج الذي يعرض للمسرع في مشيه من ارتفاع النفس وتواتره. وقول: (رابية) أي مرتفعة البطن.
(4)
اللهز: الضرب بجمع الكف في الصدر.
قالت: قلت: كيف أقول لهم يا رسول الله؟ قال: قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون).
أخرجه مسلم (3/ 14) والسياق له والنسائي (1/ 286 /، 2/ 160، 160 - 161) وأحمد (6/ 221) والزيادات له إلا الأولى والثالثة فإنها للنسائي (1)
(1) والحديث استدل به الحافظ في (التلخيص)(5/ 248) على جواز الزيارة للنساء وهو ظاهر الدلالة عليه، وهو يؤيد أن الرخصة شملهن مع الرجال، لان هذه القصة إنما كانت في المدينة، لما هو معلوم أنه صلى الله عليه وسلم بنى بعائشة في المدينة، والنهي إنما كان في أول الامر في مكة، ونحن نجزم بهذا وإن كنا لا نعرف تاريخا يؤيد ذلك، لان الاستنتاج الصحيح يشهد له، وذلك من قوله صل الله عليه وسلم:(كنت نهيتكم) إذ لا يعقل في مثل هذا النهي أن يشرع في العهد المدني، دون العهد المكي الذي كان أكثر ما شرع فيه من الاحكام إنما هو فيما يتعلق بالتوحيد والعقيدة، والنهي عن الزيارة من هذا القبيل لانه من باب سد الذرائع، وتشريعه إنما يناسب العهد المكي لان الناس كانوا فيه، حديتي عهد بالاسلام، وعهدهم بالشرك قريبا، فنهاهم صلى الله عليه وسلم عن إلزيارة لكي لا تكون ذريعة إلى الشرك، حتى إذا استقر التوحيد في قلوبهم، وعرفوا ما ينافيه من أنواع الشرك أذن لهم الزيارة، وأما أن يدعهم طيلة العهد المكي على عادتهم في الزيارة، ثم ينهاهم عنها في المدينة فهو بعيد جدا عن حكمة التشريح، ولهذا جزمنا بأن النهي إنما كان تشريعه في مكة، فإذا كان كذلك فأذنه لعائشة بالزيارة في المدينة دليل واضح على ما ذكرنا، فتأمله فانه شئ انقدح في النفس، ولم أر من شرحه على هذا الوجه، فان أصبت فمن الله، وإن أخطأت فمن نفسي.
وأما استدلال صاحب رسالة (وصية شرعية) على ذلك بقوله (ص 26): (وقد أقر الرسول صلى الله عليه وسلم ابنته فاطمة رضي الله عنها على زيارة قبر عمها حمزة رضي الله عنه.
فهو استدلال باطل، لان الاقرار المذكور لا أصل له في شئ من كتب السنة، وما أظنة إلا وهما من ألمولف، فإن المروي عنها رضي الله عنها إنما هو زيارة فقط ليس في ذكر للاقرار المزعوم أصلا، ومع ذلك فلا يثبت ذلك عنها، فإنه من رواية سليمان بن داود عن جعفر بن محمد عن أبيه على بن الحسين عن أبيه أن فاطمة بنت النبي صلي الله عليه وسلم كانت تزور قبر عمها حمزة كل جمعة فتصلي وتبكي عنده.
هكذا أخرجه الحاكم (1/ 377) ومن طريقه البيهقي (4/ 78) وقال: (كذا قال، وقد قيل عن سليمان بن داود عن أبيه عن جعفر بن محمد عن أبيه دون ذكر على بن الحسين عن أبيه فيه، فهو منقطع).
وقال الحاكم: (رواته عن آخرهم ثقات)! ورده الذهبي بقوله:
(قلت: هذا منكر جدا، وسليمان ضعيف).
قلت: وأنا أظنه سليمان بن داود بن قيس الفراء المدني، قال أبو حاتم (شيخ لا أفهمه فقط كما ينبغي) وقال الازدي:(تكلم فيه) ولهذا أورده الذهبي في (الضعفاه)، وحكى قول الازدي المذكور، فلا تغتر =
الرابع: إقرار النبي صلى الله عليه وسلم المرأة التي رآها عند القبر في حديث أنس رضي الله عنه: (مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بامرأة عند قبر وهي تبكي، فقال لها: اتقي الله واصبري .. ) رواه البخاري وغيره، وقد مضى بتمامه في المسألة (19)(ص 22)، وترجم له (باب زيارة القبور)، قال الحافظ في (الفتح):(وموضع الدلالة منه أنه صلى الله عليه وسلم لم ينكر على المرأة قعودها عند القبر، وتقريره حجة).
وقال العيني في (العمدة)(3/ 76): (وفيه جواز زيارة القبور مطلقا، سواء كان الزائر رجلا أو امرأة: وسواء كان المزور مسلما أو كافرا، لعدم الفصل في ذلك).
وذكر نحوه الحافظ أيضا في آخر كلامه على الحديث فقال عقب قوله (لعدم الاستفصال في ذلك): (قال النووي: وبالجواز قطع الجمهور، وقال صاحب الحاوي: لا تجوز زيارة قبر الكافر وهو غلط (1). انتهى).
وما دل عليه الحديث من جواز زيارة المرأة هو المتبادر من الحديث، ولكن إنما يتم ذلك إذا كانت القصة لم تقع قبل النهي، وهذا هو الظاهر، إذا تذكرنا ما أسلفناه من بيان أن النهي كان في مكة، وأن القصة رواها أنس وهو مدني جاءت به أمه أم سليم إلى النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة، وأنس ابن عشر سنين، فتكون القصة مدنية، فثبت أنها بعد النهي، فتم الاستدلال بها على الجواز، وأما قول ابن القيم في (تهذيب السنن) (4/ 350):
= بسكوت الحافظ على هذا الاثر في (التلخيص)(ص 167)، وإن تابعه عليه الشوكاني كما هي عادته في (نيل الاوطار)(4/ 95)!! على أنه وقع عند الأول (على بن الحسين عن على)، فجعله من مسند علي رضي الله عنه وإنما هو من رواية ابنه الحسين رضي الله عنهما، كما عند الحاكم، أو من رواية جعفر بن محمد عن أبيه كما في رواية البيهقي المعلقة، فلعل ما في (التلخيص) وهو قوله (عن علي) محرف عن (عن أبيه).
وسقط هذا كله عند الصنعاني في (سبل السلام)(2/ 151) فعزاه للحاكم من حديث علي بن الحسين أن فاطمة
…
ثم قال: (قلت: وهو حديث مرسل، فإن علي بن الحسين لم يدرك فاطمة بنت محمد)! والحديث إنما هو من حديث علي بن الحسين عن أبيه على ما سبق بيانه.
(1)
قلت: والدليل عليه في المسألة الآتية.
(وتقوى الله، فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه، ومن جملتها النهي عن الزيارة).
فصحيح لو كان عند المرأة علم بنهي النساء عن الزيارة وأنه استمر ولم ينسخ، فحينئذ يثبت قوله:(ومن جملتها النهي عن الزيارة) أما وهذا غير معروف لدينا فهو استدلال غير صحيح، ويؤيده أنه لو كان النهي لا يزال مستمرا لنهاها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الزيارة صراحة وبين ذلك لها، ولم يكتف بأمرها بتقوى الله بصورة عامة، وهذا ظاهر إن شاء الله تعالى.
120 -
لكن لا يجوز لهن الاكثار من زيارة القبور والتردد عليها، لان ذلك قد يفضي بهن إلى مخالفة الشريعة، من مثل الصياح والتبرج واتخاذ القبور مجالس للنزهة، وتضييع الوقت في الكلام الفارغ، كما هو مشاهد اليوم في بعض، البلاد الاسلامية، وهذا هو المراد - إن شاء الله - بالحديث المشهور:(لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم (وفي لفظ: لعن الله) زوارات القبور).
وقد روي عن جماعة من الصحابة: أبو هريرة، حسان بن ثابت، وعبد الله ابن عباس.
1 -
أما حديث أبي هريرة، فهو من طريق عمر بن أبي سلمة عن أبيه عنه.
أخرجه الترمذي (2/ 156 - تحفة) وابن ماجه (1/ 478) وابن حبان (789) والبيهقي (4/ 78) والطيالسي (1/ 171 - ترتيبه) وأحمد (2/ 337)، واللفظ الاخر للطيالسي والبيهقي، وقال الترمذي: (حديث حسن صحيح، وقد رأى بعض أهل العلم أن هذا كان قبل أن يرخص النبي في زيارة القبور.
فلما رخص دخل في رخصته الرجال والنساء.
وقال بعضهم: إنما كره زيارة القبور في النساء لقلة صبرهن وكثرة جزعهن).
قلت: ورجال إسناد الحديث ثقات كلهم، غير أن في عمر بن أبي سلمة كلاما لعل حديثه لا ينزل به عن مرتبة الحسن، لكن حديثه هذا صحيح لما له من الشواهد الاتية.
2 -
وأما حديث حسان بن ثابت، فهو من طريق عبد الرحمن بن بهمان عن عبد الرحمن بن ثابث عن أبيه به.
أخرجه ابن أبي شيبة (4/ 141) وابن ماجه (1/ 478) والحاكم (1/ 374) والبيهقي وأحمد (2/ 243) وقال البوصيري في (الزوائد)(ق 98/ 2): (إسناده صحيح، رجاله ثقات). كذا قال، وابن بهمان هذا لم يوثقه غير ابن حبان والعجلي، وهما معروفان بالتساهل في التوثيق، وقال ابن المديني فيه:(لا نعرفه)، ولذا قال الحافظ في (التقريب):(مقبول) يعني عند المتابعة، ولم أجد له متابعا، لكن الشاهد الذي قبله وبعده في حكم المتابعة، فالحديث مقبول.
3 -
وأما حديث ابن عباس، فهو من طريق أبي صالح عنه باللفظ الأول إلا أنه قال:(زائرات القبور) وفي رواية (زوارات).
أخرجه ابن أبي شيبة (4/ 140) وأصحاب السنن الاربعة وابن حبان (788) والحاكم والبيهقي والطيالسي والرواية الاخرى لهما، وأحمد (رقم 2030، 2603، 2986، 3118) وقال الترمذي: (حديث حسن، وأبو صالح هذا مولى أم هاني بنت أبي طالب واسمه باذان، ويقال: باذام).
قلت: وهو ضعيف بل اتهمه بعضهم، وقد أوردت حديثه في (سلسلة الاحاديث الضعيفة) لزيادة تفرد بها فيه، وذكرت بعض أقوال الائمة في حاله فيراجع (223).
فقد تبين من تخريج الحديث أن المحفوظ فيه إنما هو بلفظ (زوارات) لاتفاق حديث أبي هريرة وحسان عليه وكذا حديث ابن عباس في رواية الاكثرين، على ما فيه من ضعف فهي إن لم تصلح للشهادة فلا تضر، كما لا يضر في الاتفاق المذكور الرواية الاخرى من حديث ابن عباس كما هو ظاهر، وإذا كان الامر كذلك فهذا اللفظ (زوارات) إنما يدل على لعن النساء اللاتي يكثرن الزيارة.
بخلاف غيرهن فلا يشملهن اللعن، فلا يجوز حينئذ أن يعارض بهذا الحديث ما سبق من الاحاديث الدالة على استحباب الزيارة للنساء، لانه خاص وتلك عامة.
فيعمل بكل منهما في محله، فهذا الجمع أولى من دعوى النسخ، وإلى نحو ما ذكرنا ذهب جماعة من العلماء، فقال القرطبي:
(اللعن المذكور في الحديث إنما هو للمكثرات من الزيارة لما تقتضيه الصيغة من المبالغة، ولعل السبب ما يفضي إليه ذلك من تضييع حق الزوج والتبرج.
وما ينشأ من الصياح ونحو ذلك وقد يقال: إذا أمن جميع ذلك فلا مانع من الاذن لهن، لان تذكر الموت يحتاج إليه الرجال والنساء).
قال الشوكاني في (نيل الاوطار)(4/ 95): (وهذا الكلام هو الذي ينبغي اعتماده في الجمع بين أحاديث الباب المتعارضة في الظاهر)(1).
121 -
ويجوز زيارة قبر من مات على غير الاسلام للعبرة فقط.
وفيه حديثان:
الأول: عن أبي هريرة قال:
(زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه. فبكى: وأبكى من حوله، فقال: استأذنت ربي في أن أستغفر لها، فلم يؤذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت).
(1) وإلى هذا الجمع ذهب الصنعاني أيضا في: (سبل السلام)، ولكنه استدل للجواز بأدلة فيها نظر فأحبت أن أنبه عليها، أولا: حديث الحسين بن علي رضي الله عنهما (أن فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم كانت تزرو قبر عمها حمزة كل جمعة فتصلي وتبكي).
أخرجه الحاكم (1/ 377) وعنه البيهقي (4/ 78) وقال (وهو منقطع، وسكت عليه الحافظ في (التلخيص)(5/ 248) وتبعه الصنعاني! وسكوت هذين واقتصار البيهقي علي إعلاله بالانقطاع قد يوهم أنه سالم من علة أخرى. وليس كذلك كما سبق بيانه قريبا.
ثانيا: حديث البيهقي في (شعب الايمان) مرسلا: (من زار قبر الولدين أو أحدهما في كل جمعة عفو له وكتب بارا).
سكت عليه الصنعاني أيضا. وهو ضعيف جدا بل هو موضوع، وليس هو مرسل فقط كما ذكر الصنعاني، بل هو معضل لان الذي رفعه إنما هو محمد بن النعمان وليس تابعيا، قال إلعراقي في (تخريج الاحياء) (4/ 418):(رواه ابن أبى الدنيا وهو معضل، محمد بن النعمان مجهول). قلت: وهو تلقاه عن يحيى بن العلاء البجلي بسنده عن أبى هريرة أخرجه الطبراني في الصغير (199) ويحيي كذبه وكيع وأحمد، وقال ابن أبى حاتم (2/ 209) عن أبيه:
(الحديث منكرا جدا، كأنه موضوع).
أخرجه مسلم (3/ 65) وأبو داود (2/ 72) والنسائي (1/ 286) وابن ماجه (1/ 476)(1/ 476) والطحاوي (3/ 189) والحاكم (1/ 375 - 376) وعنه البيهقي (4/ 76) وأحمد (2/ 441).
الثاني: عن بريدة رضي الله عنه قال:
(كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم [في سفر، وفي رواية: في غزوة الفتح] فنزل بنا ونحن معه قريب من ألف راكب، فصلى ركعتين، ثم أقبل علينا بوجهه وعيناه تذرفان، فقام إليه عمر بن الخطاب، فقداه بالاب والام، يقول: يا رسول لله مالك؟ قال: إني سألت ربي عز وجل في الاستغفار لامي، فلم يأذن لي، فدمعت عيناي رحمة لها من النار، [واستأذنت ربي في زيارتها فأذن لي]، وإني كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، ولتزدكم زيارتها خيرا).
أخرجه أحمد (5/ 355، 357، 359) وابن أبي شيبة (4/ 139) والرواية الاخرى لهما وإسنادها عند ابن أبي شيبة صحيح، والحاكم (1/ 376) وكذا ابن حبان (791) والبيهقي (4/ 76) والزيادة الأولى لها: والرواية الاخرى فيها لمن سبق ذكره، والزيادة الاخرى للحاكم وقال:(صحيح على شرط الشيخين) ووافقه الذهبي، وهو كما قالا: ورواه الترمذي مختصرا وصححه، وروى مسلم وغيره منه الاذن بالزيارة فقط كما تقدم في المسألة (118 ص 178) الحديث الأول.
(1)
والمقصود من زيارة القبور شيئان:
1 -
انتفاع الزائر بذكر الموت والموتى، وأن مآلهم إما إلى جنة وإما إلى نار وهو الغرض الأول من الزيارة، كما يدل عليه ما سبق من الاحاديث.
(1) قال النووي في شرح حديث أبى هريرة الأول:
(فيه جواز زيارة المشركين في الحياة، وقبورهم بعد الوفاة، لانه إذا جازت زيارتهم بعد الوفاة، ففي الحياة أولى.
وفيه النهي عن الاستغفار للكفار، قال عياض: سبب زيارته صلى الله عليه وسلم قبرها أنه قصد قوة الموعظة والذكرى بمشاهدة قبرها، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم: فزوروا القبور فإنها تذكركم الموت).
2 -
نفع الميت والاحسان إليه بالسلام عليه، والدعاء والاستغفار له، وهذا خاص
بالمسلم، وفيه أحاديث:
الأول: عن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى البقيع، فيدعو لهم، فسألته عائشة عن ذلك؟ فقال: إني أمرت أن أدعو لهم).
أخرجه أحمد (6/ 252) بسند صحيح على شرط الشخين.
ومعناه عند مسلم وغيره من طريق أخرى مطولا، وقد مضى بتمامه في المسألة (119).
الثاني: عنها أيضا قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما كان ليلتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج من آخر الليل فيقول: السلام عليكم [أهل] دار قوم مؤمنين، وإنا وإياكم وما توعدن غدا مؤجلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لاهل بقيع الغرقد).
أخرجه مسلم (3/ 63) والنسائي (1/ 287) وابن السني (585) والبيهقي (4/ 79) وأحمد (6/ 180) وليس عنده الدعاء بالمغفرة (والزيادة له ولابن السني.
الثالث: عنها أيضا في حديثها الطويل المشار إليه قريبا قالت: (كيف أقول لهم يا رسول الله؟ قال: قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين وإنا إن شاء الله بكم للاحقون).
أخرجه مسلم وغبره.
الرابع: عن بريدة قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر، فكان قائلهم يقول:
السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله [بكم] للاحقون، [أنتم لنا فرط، ونحن لكم تبع]، أسأل الله لنا ولكم العافية).
أخرجه مسلم (3/ 65) والنسائي وابن ماجه (1/ 469)، وكذا ابن أبي شيبة) (4/ 138) وابن السني في (582) والبيهقي وأحمد (5/ 353، 359، 360)، والزيادتان لهم جميعا حاشا ابن ماجه ومسلما.
والزيادة الثانية، أخرجها ابن أبي شيج من حديث علي وإسناده صحيح، ومن حديث سلمان (وإسناده حسن) وكلاهما موقوف عليهما.
الخامس: عن أبي هريرة: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنى المقبرة فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لا حقون، وددت أنا قد رأينا إخواننا، قالوا: أو لسنا إخوانك يا رسول الله. قال [بل] أنتم أصحابي، وأخواننا الذين يأتون بعد، [وأنا فرطهم على الحوض]، فقالوا كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله: فقال أرأيتم لو أن رجلا له خيل غر (1) محجلة، بين ظهري خيل دهم بهم (2) ألا يعرف خيله؟ قالوا بلى يا رسول الله. قال: فأنهم يأتون [يوم القيامة] غرا محجلين من الوضوء. [يقولها ثلاثا]، وأنا فرطهم على الحوض. ألا ليذادن رجال [منكم] عن حوضي كما يذاد البعير الضال، أناديهم: ألا هلم [ألا هلم].فيقال: إنهم قد بذلوا بعدك، [ولم يزالوا يرجعون على أعقابهم]، فأقول:[ألا]، سحقا سحقا).
اخرجه مسلم (1/ 150 - 151) ومالك (1/ 49 - 50) والنسائي (1/ 35) وابن ماجه (2/ 580) والبيهقي (4/ 78) وأحمد (2/ 300، 408) والزيادات كلها له إلا الاخيرتين فإنها لابن ماجه، ولمالك الثلاثة الأولى مع السادسة، وللنسائي الأولى والثالثة.
(1) بضم فتشديد جمع الاغر، وهو الابيض الوجه. (محجلين) اسم مفعول من التحجيل، والمحجلل من الدواب التي قوائمها بيض.
(2)
بضمتين أو بسكون الثاني وهو الاشهر للازدواج، وهو تأكيد (دهم) جمع أدهم وهو الاسود.
وفي الباب عن بشير بن الخصاصية، وقد ذكرت لفظه في التعليق على المسألة (88)، (ص 135) وعن ابن عباس، وفيه ضعف كما يأتي التنبيه عليه في خاتمة المسألة الاتية بعد مسألة، وعن عمر وغيره، وفيها ضعف كما بينه الحافظ الهيثمي في (المجمع)(3/ 60).
122 -
وأما قراءة القرآن عند زيارتها، فمما لا أصل له في السنة، بل الاحاديث المذكورة في المسألة السابقة تشعر بعدم مشروعيتها، إذ لو كانت مشروعة، لفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلمها أصحابه، لا سيما وقد سألته عائشة رضي الله عنها وهي من أحب الناس إليه صلى الله عليه وسلم عما تقول إذا زارت القبور؟ فعلمها السلام والدعاء.
ولم يعلمها أن تقرأ الفاتحة أو غيرها من القرآن، فلو أن القراءة كانت مشروعة لما كتم ذلك عنها، كيف وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز كما تقرر في علم الاصول، فكيف بالكتمان، ولو أنه صلى الله عليه وسلم علمهم شيئا من ذلك لنقل إلينا، فإذ لم ينقل بالسند الثابت دل على أنه لم يقع.
ومما يقوي عدم المشروعية قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تجعلوا بيوتكم مقابر، فإن الشيطان يفر من البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة) أخرجه مسلم (2/ 188) والترمذي (4/ 42) وصححه وأحمد (2/ 284، 337، 378، 388) من حديث أبي هريرة.
وله شاهد من حديث الصلصال بن الدلهمس.
رواه البيهقي في (الشعب) كما في (الجامع الصغير).
فقد أشار صلى الله عليه وسلم إلى أن القبور ليست موضعا للقراءة شرعا، فلذلك حض على قراءة القرآن في البيوت ونهي عن جعلها كالمقابر التي لا يقرأ فيها، كما أشار في الحديث الاخر إلى أنها ليست موضعا لصلاة أيضا، وهو قوله:(صلوا في بيوتكم، ولا تتخذوها قبورا).
أخرجه مسلم (2/ 187) وغيره عن ابن عمر، وهو - عند البخاري بنحوه، وترجم له بقوله: ب (باب كراهية الصلاة في المقابر) فأشار به إلى أن حديث ابن عمر يفيد كراهة
الصلاة في المقابر، فكذلك حديث أبي هريرة يفيد كراهة قراءة القرآن في المقابر، ولا فرق (1).
ولذلك كان مذهب جمهور السلف كأبي حنيفة ومالك وغيرهم (2) كراهة للقراءة عند القبور، وهو قول الامام أحمد فقال أبو داود في مسائله (ص 158):
(1) وقد استدل جماعة من العلماء بالحديث على ما استدل به البخاري، وأيده الحافظ في شرحه، وقد ذكرت كلامه في المسألة الاتية (رقم 128 فقره 7)
(2)
ذكره عنهم شيخ الاسلام ابن تيمية في (اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم)(ص 128) وقال:
(ولا يحفظ عن الشافعي نفسه في هذه المسألة كلام، وذلك لان ذلك كان عنده بدعة، وقال مالك: ما عملت أحدا يفعل ذلك، فعلم أن الصحابة، والتابعين ما كانوا يفعلونه).
وقال في (الاختيارات العملية)(ص 53)(والقراءة على الميت بعد موته بدعة، بخلاف القراءة على المحتضر فإنها تستحب ب (ياسين)).
قلت: لكن حديث قراءة ياسين ضعيف كما تقدم (ص 11) والاستحباب حكم شرعي، ولا يثبا بالحديث الضعيف كما هو معلوم من كلام ابن تيمية نفسه في بعض مصناته وغيرها.
وأما جاء في (كتاب الروح) لابن القيم (ص 13): قال الحلال: وأخبرني الحسن بن أحمد الوارق: ثنا علي ابن موسى الحداد - وكان صدوقا - قال: كنت مع أحمد بن جنبل ومحمد بن قدامة الجوهري في جنازة، فلما دفن الميت جلس رجل ضرير يقرأ عند القبر، فقال له أحمد: يا هذا إن القراءة عند القبر بدعة! فلما خرجت من المقابر، قال محمد بن قدامة لاحمد بن حنبل: يا أبا عبد الله ما تقول في مبشر الحلبي؟ قال: ثقة، قال: كتبت عنه شيئا؟ قال: نعم، قال: فأخبرني مبشر عن عبد الرحمن بن العلاء بن اللجلاج، (الاصل: الحلاج وهو خطأ) عن أبيه أنه أوصي إذا دفن أن يقرأ عند رأسه بفاتحة البقرة وخاتمتها، وقال: سمعت ابن عمر يوصي بذلك.
فقال له أحمد: فارجع وقل للرجل: يقراء).
فالجواب عنه من وجوه: الأول: إن في ثبوت هذه القصة عن أحمد نظر، لان شيخ الحلال الحسن بن أحمد الوراق لم أجد ترجمة فيما عندي الان من كتب الرجال، وكذلك شيخه علي بن موسى الحداد لم أعرفه، وإن قيل في هذا السند أنه كان صدوقا، فإن الظاهر أن القائل هو الوارق هذا، وقد عرفت حاله.
الثاني، إنه إن ثبت ذلك عنه فإنه أخص مما رواه أبو داود عنه، وينتج من الجمع بين الروايتين عنه أن مذهبه كراهة القراءة عند القبر إلا عند الدفن.
الثالث: أن السند بهذا الاثر لا يصح عن ابن عمر، ولو فرض ثبوته عن أحمد، وذلك لان عبد الرحمن ابن العلاء بن اللجلاج معدود في المجهولين، كما يشعر بذلك قول الذهبي في ترجمته من (الميزان):(ما روي عنه سوى مبشر هذا)، ومن طريقة رواه ابن عساكر (13/ 399 / 2) وأما توثيق ابن حيان إياه فمما لا يعتد به لما اشهر به من التساهل في التوثيق، ولذلك لم يعرج عليه الحافظ في (التقريب) حين قال في المترجم:(مقبول) يعني عند المتابعة وإلا فلين الحديث كما نص عليه في المقدمة، ومما يؤيد ما ذكرنا أن الترمذي مع تساهله في التحسين لما أخرج له حديثا آخر (2/ 128) وليس له عنده سكت عليه ولم يحسنه! =
(سمعت أحمد سئل عن القراءة عند القبر؟ فقال: لا).
123 -
ويجوز رفع اليد في الدعاء لهما، لحديث عائشة رضي الله عنها قالت:
= الرابع: أنه لو ثبت سنده كل عن ابن عمر، فهو موقوف لم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلا حجة فيه أصلا.
ومثل هذا الاثر ما ذكره ابن القيم أيضا (ص 14): (وذكر الحلال عن الشعبي قال: كانت الانصار إذا مات لهم الميت اختلفوا إلى قبره يقرؤون القرآن).
فنحن في شك من ثبوت ذلك عن الشعبي بهذا اللفظ خاصة، فقد رأيت السيوطي قد أورده في (شرح الصدور) (ص 15) بلفظ:(كانت الانصار يقرؤون عند الميت سورة البقرة).
قال: (رواه ابن أبي شيبة والمروزي) أورده في (باب ما يقول الانسان في مرض الموت، وما يقرأ عنده).
ثم رأيته في (المصنف) لابن أبى شيبة (4/ 74) وترجم له بقوله: (باب ما يقال عند المريض إذا حضر) ".
فتبين أن في سنده مجالدا وهو ابن سعيد قال الحافظ في (التقريب): (ليس بالقوي، وقد تغيير في آخر عمره).
فظهر بهذا أن الاثر ليس في القراءة عند القبر بل عند الاحتضار، ثم هو على ذلك ضعيف الاسناد.
وأما حديث (من مر بالمقابر فقرأ (قل هو الله أحد) إحدى عشر مرة ثم وهب أجره للاموأت أعطي من الاجر بعدد الاموات).
فهو حديث باطل موضوع، رواه أبو محمد الحلال في (القراءة على القبور)(ق 201/ 2) والديلمي عن نسخة عبد الله بن أحمد بن عامر عن أبيه عن علي الرضا عن آبائه، وهي نسخة موضوعة باطلة لا تنفك عن وضع عبد الله هذا أو وضع أبيه، كما قال الذهبي في (الميزان) وتبعه الحافظ ابن حجر في (اللسان) ثم السيوطي في (ذيل الاحاديث الموضوعة)، وذكر له هذا الحديث وتبعه ابن عراق في (تنزيه الشريعة المرفوعة، عن الاحاديث الشيعة الموضوعة).
ثم ذهل السيوطي عن ذلك فأورد الحديث في (شرح الصدور)(ص 130) برواية أبي محمد السمرقندي في (فضائل قل هو الله أحد) وسكت عليه! نعم قد أشار قبل ذلك إلى ضعفه، ولكن هذا لا، يكفي فإن الحديث، موضوع باعترافه فلا يجزي الاقتصار على تضعيفه كما لا يجوز السكوت عنه، كما صنع الشيخ إسماعيل العجلوني في (كشف الخفاء)(2 - 382) فإنه عزاه للرافعي في تاريخه وسكت عليه! مع أنه وضع كتابه المذكرر للكشف (عما اشتهر من الاحاديث على ألسنة الناس)! ثم إن سكوت أهل الاختصاص عن الحديث قد يوهم من لا علم عنده به أن الحديث مما يصلح للاحتجاج به أو العمل به في فضائل الاعمال كما يقولون، وهذا ما وقع لهذا الحديث، فقد رأيت بعض الحنيفة قد احتج بهذا الحديث للقراءة عند القبور وهو الشيخ الطهطاوي على (مراقي الفلاح)(ص 117)! وقد عزاه هذا إلى الدارقطني، وأظنة وهما، فإني لم أجد غيره عزاه إليه، ثم إن المعروف عند
المشتغلين بهذا العلم أن العزو إلى الدارقطني مطلقا يراد به كتابه (السنن)، وهذا الحديث لم أره فيه.
والله أعلم.
(خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فأرسلت بريرة في أثره لتنظر أين ذهب! قالت: فسلك نحو بقيع الغرقد، فوقف في أدنى البقيع ثم رفع يديه، ثم انصرف، فرجعت إلي بريرة، فأخبرتني، فلما أصبحت سألته، فقلت: يارسول الله أين خرجت الليلة؟ قال: بعثت إلى أهل البقيع لاصلي عليهم).
أخرجه أحمد (6/ 92)، وهو في (الموطأ)(1/ 239 - 240) وعنه النسائي (1/ 287) بنحوه، لكن ليس فيه رفع اليدين، وإسناده حسن.
وقد ثبت رفع اليدين في قصة أخرى لعائشة رضي الله عنها تقدمت في المسألة (119).
124 -
ولكنه لا يستقبل القبور حين الدعاء لها، بل الكعبة، لنهيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة إلى القبور كما سيأتي، والدعاء مخ الصلاة ولبها كما هو معروف فله حكمها، وقد قال صلى الله عليه وسلم:(الدعاء هو العبادة، ثم قرأ (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم).
أخرجه ابن المبارك في (الزهد)(10/ 151) والبخاري في (الادب المفرد) رقم (714) وأبو داود ((1/ 551 - بشرح العون) والترمذي (4/ 178، 223) وابن ماجه (2/ 428 - 429) وابن حبان (2396) والحاكم (1/ 491) وابن منده في (التوحيد)(ق 69/ 1) وأحمد (4/ 167، 271، 276، 277) وقال الحاكم: (صحيح الاسناد) ووافقه الذي وهو كما قالا، وقال الترمذي:(حديث حسن صحيح).
ورواه أبو يعلى من حديث البراءة بن عازب كما في (الجامع الصغير).
وفي الباب عن أنس بن مالك مرفوعا بلفظ: (الدعاء مخ العبادة).
أخرجه الترمذي (2234) وقال: (حديث غرب من هذا الوجه لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة).
قلت: وهو ضعيف لسوء حفظه، فيستشهد به إلا ما كان من رواية أحد العبادلة
عنه فيحتج به حينئذ، وليس هذا منها، لكن معناه صحيح بدليل حديث النعمان.
قال الطيبي في شرحه:
(أتى بضمير الفصل والخبر المعرف باللام [هو العبادة] ليدل على الحصر، وأن العبادة ليست غير الدعاء.
وقال غيره: المعنى هو من اعظم العبادة فهو كخبر (الحج عرفة) أي ركنه الاكبر، وذلك لدلالته على أن فاعله يقبل بوجهه إلى الله، معرضا عما سواه، لانه مأمور به، وفعل المأمور عبادة، وسماه عبادة ليخضع الداعي ويظهر ذلته ومسكنته وافتفاره، إذ العبادة ذل وخضوع ومسكنة). ذكره المناوي في (الفيض).
قلت: فإذا كان الدعاء من أعظم العبادة فكيف يتوجه به إلى غير الجهة التي أمر باستقبالها في الصلاة، ولذلك كان من المقرر عند العلماء المحققين أنه (لا يستقبل بالدعاء إلا ما يستقبل بالصلاة).
قال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في (اقتضاء الصراط المستقيم، مخالفة أصحاب الجحيم)(ص 175): (وهذا أصل مستمر أنه لا يستحب للداعي أن يستقبل إلا ما يستحب أن يصلي إليه، ألا ترى أن الرجل لما نهي عن الصلاة إلى جهة المشرق وغيرها فإنه ينهى أن يتحرى استقبالها وقت الدعاء.
ومن الناس من يتحرى وقت دعائه استقبال الجهة التي يكون فيها الرجل الصالح، سواء كانت في المشرق أو غيره، وهذا ضلال بين، وشر واضح، كما أن بعض الناس يمتنع من استدبار الجهة التي فيها بعض الصالحين، وهو يستدبر الجهة التي فيها بيت الله.
وقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم! وكل هذه الاشياء من البدع التي تضارع دين النصارى).
وذكر قبل ذلك بسطور عن الامام أحمد وأصحاب مالك أن المشروع استقبال القبلة بالدعاء حتى عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم بعد السلام عليه.
وهو مذهب الشافعية أيضا، فقال النووي في (المجموع) (5/ 311): وقال الامام أبو الحسن محمد بن مرزوق الزعفراني - وكان من الفقهاء المحققين - في كتابه في (الجنائز): (ولا يستلم القبر بيده: ولا يقبله).
قال: (وعلى هذا مضت السنة).
قال: واستلام القبور وتقبيلها الذي يفعله العوام الان من المبتدعات المنكرة
شرعا، ينبغي تجنب فعله، وينهى فاعله) قال:(فمن قصد السلام على ميت سلم عليه من قبل وجهه، وإذا أراد الدعاء تحول عن موضعه، واستقبل القبلة).
وهو مذهب أبي حنيفة أيضا، فقال شيخ الاسلام في (القاعدة الجليلة، في التوسل والوسيلة)(ص 125): (ومذهب الائمة الاربعة: مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم من أئمة الاسلام أن الرجل إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم، وأراد أن يدعو لنفسه فإنه يستقبل القبلة، واختلفوا في وقت السلام عليه، فقال الثلاثة مالك والشافعي وأحمد: يستقبل الحجرة ويسلم عليه من تلقاء وجهه، وقال أبو حنيفة: لا يستقبل الحجرة وقت السلام كما لا يستقبلها وقت الدعاء باتفاقهم، تم في مذهبه قولان: قيل: يستدبر الحجرة، وقيل يجعلها عن يساره. فهذا نزاعهم في وقت السلام. وأما في وقت الدعاء فلم يتنازعوا في أنه إنما يستقبل القبلة، لا الحجرة).
وسبب الاختلاف المذكور إنما هو من قبل أن الحجرة المكرمة لما كانت خارجة عن المسجد، وكان الصحابة يسلمون عليه لم يكن يمكن أحدا أن يستقبل وجهه صلى الله عليه وسلم ويستدبر القبلة (1)، كما صار ذلك ممكنا بعد دخولها في المسجد بعد الصحابة، فالمسلم منهم إن استقبل القبلة صارت الحجرة عن يساره، وإن استقبلوا الحجرة، كانت القبلة عن يمينهم وجهة الغرب من خلفهم، قال شيخ الاسلام في (الجواب الباهر) (ص 14) بعد أن ذكر هذا المعنى: وحينئذ فإن كانوا يستتقبلونه ويستدبرون الغرب فقول الاكثرين أرجح، وإن كانوا يستقبلون القبلة حينئذ ويجعلون الحجرة عن يسارهم فقول أبي حنيفة أرجح) قلت: لقد ترك الشيخ رحمه الله المسألة معلقة، فلم يبت في أنهم كانوا يستقبلونها، أو يستقبلون القبر وكأن ذلك لعدم وجود رواية ثابتة عنهم في ذلك، ولكن لو فرض أنهم كانوا يستقبلونه، فقد علمت أنهم في هذه الحالة كانوا يستدبرون الغرب لا القبلة،
(1) وأما ما رواه اسماعيل القاضي في (فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (رقم 101 بتحقيقي وطبع المكتب الاسلامي) عن ابن عمر (أنه كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيضع، يده على قبره ويستدبر القبلة ثم يسلم عليه) فضعيف منكر كما بينه في التعليق عليه.
لعدم إمكان ذلك في زمانهم، وسبق أن الاكثرين يقولون باستقبال وجهه صلى الله عليه وسلم أيضا عند السلام عليه، وهذا يستلزم استدبار القبلة.
الامر الذي نقطع أنه لم يقع في عهد الصحابة كما سلف، فهذا أمر زائد على استقبال الحجرة، ولا بد له من دليل.
لاثباته، فهل له من وجود؟ ذلك مما لا أعرفه، ولا رأيت أحدا من العلماء تعرض لهذا، سواء في خصوص قبر الرسول صلى الله عليه وسلم أو في القبور عامة.
نعم، استدل بعضهم على ذلك بحديث ابن عباس قال:(مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور المدينة، فأقبل عليهم بوجهه، فقال: السلام عليكم يا أهل القبور، يغفر الله لنا ولكم، أنتم سلفنا ونحن على الاثر).
أخرجه الترمذي (2/ 156) والضياء في (المختارة)(58/ 192 / 1) من طريق الطبراني
وقال الترمذي: (حسن غريب).
قلت: في سنده قابوس بن أبي ظبيان قال النسائي: (ليس بالقوي).
وقال ابن حبان: (ردئ الحفظ، ينفرد عن أبيه بما لا أصل له).
قلت: وهذا من روايته عن أبيه، فلا يحتج به، ولعل تحسين الترمذي لحديثه هذا إنما هو باعتبار شواهده، فإن معناه ثابت في الاحاديث الصحيحة وقد مضى قريبا ذكر قسم طيب منها، إلا أن قوله:(فأقبل عليهم بوجهه) منكر لتفرد هذا الضيف به.
إذا عرفت هذا، فقد قال الشيخ علي القاري في (مرقاة المفاتيح) (2/ 407):(فيه دلالة على أن المستحب في حال السلام على الميت أن يكون وجهه لوجه الميت وأن يستمر كذلك في الدعاء أيضا، وعليه عمل عامة المسلمين، خلافا لما قاله ابن حجر من أن السنة عندنا أنه في حالة الدعاء يستقبل القبلة كما علم من أحاديث أخر في مطلق الدعاء).
قلت: وفي هذا الاستدلال نظر ظاهر، إذ ليس في الحديث إلا إقباله صلى الله عليه وسلم بوجهه على القبور، وأما الاقبال على وجوه الموتى، فشئ آخر وهو يحتاج إلى نص آخر
غير هذا، وهو مما لا أعرفه.
فالحق أن الحديث لو ثبت سنده لكان دليلا واضحا على أن المار بالقبور يستقبلها بوجهه حين السلام عليها والدعاء لها، كيفما كان الاستقبال، وحسبما يتفق دون قصد لوجوه الموتى، أما والسند ضعيف كما سبق بيانه فلا يصلح للاستدلال به أصلا.
ولا ينافي ما تقدم عن الامام مالك من عدم مشروعية استقبال الحجرة عند الدعاء الحكاية التي جاء فيها أن مالكا لما سأله المنصور العباسي عن استقبال الحجرة، أمره بذلك، وقال: هو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم، لانها حكاية باطلة، مكذوبة على مالك، وليس لها إسناد معروف، ثم هي خلاف الثابت المنقول عنه بأسانيد الثقات في كتب أصحابه كما ذكره إسماعيل في إسحاق القاضي وغيره.
ومثلها ما ذكروا عنه أنه سئل عن أقوام يطيلون القيام مستقبلي الحجرة يدعون لانفسهم فأنكر مالك ذلك، وذكر أنه فمن البدع التي لم يفعلها الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وقال (لا يصلح آخر هذه الامة إلا ما أصلح أولها)(1)
125 -
وإذا زار قبر الكافر فلا يسلم عليه، ولا يدعو له، بل يبشره بالنار، كذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث سعد بن أبي وقاص قال: (جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبي كان يصل الرحم، وكان، وكان، فأين هو؟ قال: في النار، فكأن الاعرابي وجد من ذلك، فقال: يارسول الله! فأين أبوك؟ قال:
(حيثما مررت بقبر كافر فبشره بالنار).
قال: فأسلم الاعرابي بعد، فقال: لقد كلفني رسول الله صلى الله عليه وسلم تعبا! ما مررت بقبر كافر إلا بشرته بالنار).
أخرجه الطبراني في (المعجم الكبير)(1/ 191 / 1) وابن السني في (عمل اليوم والليلة)
(1) انظر (قاعدة جليلة) لابن تيمية (ص 53 - 62).
رقم (588) والضياء المقدسي في (الاحاديث المختارة)(3331) بسند صحيح، وقال الهيثمي (1/ 117 - 118):
(رواه البزار والطبراني في الكبير، ورجاله رجال الصحيح).
وقد أخرجه ابن ماجه (1/ 476 - 477) من هذا الوجه لكنه جعله من مسند عبد الله ابن عمر، وقال البوصيري في (الزوائد) (ق 98/ 2):
(إسناده صحيح، رجاله ثقات).
قلت: لكنه شاذ، والمحفوظ أنه من مسند سعد كما بينته في (سلسلة الاحاديث الصحيحة)(18).
وللحديث شاهد من حديث أبي هريرة مرفوعا بلفظ: (إذا مررتم بقبورنا وقبوركم من أهل الجاهلية، فأخبروهم أنهم من أهل النار).
رواه ابن السني في (اليوم والليلة)(رقم 587) بسند فيه يحيى بن يمان وهو سيئ الحفظ عن محمد بن عمر، ولم أعرفه عن أبي سلمة عنه.
لكن الظاهر انه (ابن عمرو) بفتح العين وسكون الميم ثم واو بعد الراء، سقط من الطابع حرف الواو. وهو حسن الحديث.
وما ذكرنا في هذه المسألة هو مذهب الحنابلة كما في (كشاف القناع)(2/ 134) وغيره من كتبهم.
126 -
ولا يمشي بين قبور المسلمين في نعليه، لحديث بشيرين الحنظلية قال: (بينما أماشي رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
أتى على قبور المسلمين
…
فبينما هو يمشي إذ حانت منه نظرة، فإذا هو برجل يمشي بين القبور عليه نعلان، فقال: يا صاحب السبتيتين ألق سبتيتيك، فنظر، فلما عرف الرجل رسول الله صلى الله عليه وسلم خلع نعليه، فرمى بهما) أخرجه أصحاب السنن وغيرهم، وقد مضى بتمامه في المسألة (88)(1)
(1) قال الحافظ في (الفتح)(3 - 160):
(والحديث يدل على كراهة المشي بين القبور بالنعال، وأغرب ابن حزم فقال: يحرم المشي بين القبور بالنعال =
127 -
ولا يشرع وضع الاس ونحوها من الرياحين والورود على القبور، لانه لم يكن من فعل السلف، ولو كان خيرا لسبقونا إليه " وقد قال ابن عمر رضي الله عنهما:
(كل بدعة ضلالة، وإن رآها الناس حسنة).
(1)
رواه ابن بطة في (الابانة عن أصول الديانة)(2/ 112 / 2) واللالكائي في (السنة)
= السبتية دون غيرها! وهو جمود شديد. وأما قول الخطابي يشبه أن يكون النهي عنهما لما فيهما من الحيلاء، فإنه متعقب بأن ابن عمر كان يلبس النعال السبتية، ويقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبسها. وهو حديث صحيح. وقال الطحاوي: (يحمل نهي الرجل المذكور على أنه كان في نعليه قذر، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في نعليه ما لم ير فيهما أذى).
قلت: وهذا الاحتمال بعيد، بل جزم ابن حزم (5/ 137) ببطلانه، وأنه من التقول على الله! والاقرب أن النهي من باب احترام الموتى، فهو كالنهي عن الجلوس على القبر الاتي في المسألة (128 فقرة 6)، وعليه فلا فرق بين النعلين السبتيتين وغيرهما من النعال التي عليها شعر، إذ الكل في مثابة واحدة في المشي فيها بين القبور ومنافاتها لاحترامها، وقد شرح ذلك ابن القيم في (تهذيب السنن) (4/ 343 - 345) ونقل عن الامأم أحمد أنه قال:(حديث بشير إسناده جيد، أذهب إليه إلا من علة).
وقد ثبت أن الامام أحمد كان يعمل بهذا الحديث، فقال أبو داود في مسائله (ص 158):(رأيت أحمد إذا تبع الجنازة فقرب من المقابر خلع نعليه).
فرحمه الله، ما كان أتبعه للسنة.
(1)
ولا يعارض ما ذكرنا حديث ابن عباس في وضع النبي صلى الله عليه وسلم شقي جريدة النخل على القبرين وقوله: (لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا).
متفق عليه وقد خرجته في (صحيح أبي داود)(15).
فإنه خاص به صلى الله عليه وسلم بدليل أنه لم يجر العمل به عند السلف ولامور أخرى يأتي بيانها. قال الخطابي رحمه الله تعالى في (معالم السنن)(1/ 27) تعليقا على الحديث:
(إنه من التبرك بأثر النبي صلى الله عليه وسلم ودعائه بالتخفيف عنهما، وكأنه جعل مدة بقاء النداوة فيهما حدا لما وقعت به المسألة من تخفيف العذاب عنهما، وليس ذلك من أجل أن في الجريد الرطب معنى ليس في اليابس، والعامة في كثير من البلدان تغرس الحوص في قبور موتاهم، وأراهم ذهبوا إلى هذا، وليس لما تعاطوه من ذلك وجه).
قال الشيخ أحمد شاكر في تعيلقه على الترمذي (1/ 103) عقب هذا:
(وصدق الحطابي، وقد ازداد العامة إصرارا على هذا العمل الذي لا أصل له، وغلوا فيه، خصوصا في بلاد مصر، تقليدا للنصارى، حتى صاروا يضعون الزهور على القبور، ويتهادونها بينهم، فيضعها الناس على قبور أقاربهم ومعارفهم تحية لهم، ومجاملة للاحياء، وحتى صارت عادة شبيهة بالرسمية في المجاملات الدولية، فتجد الكبراء من المسلمين إذا نزلوا بلدة من بلاد أوربا ذهبوا إلى قبور عظمائها أو إلى قبر من يسمونه (الجندي =
(1/ 21 / 1) موقوفا بإسناد صحيح، والهروي في (ذم الكلام)(2/ 36 / 1) مرفوعا،
= المجهول) ووضعوا عليها الزهور، وبعضهم يضع الزهور الصناعية التي لا نداوة فيها تقليدا للافرنج، واتباعا لسنن من قبلهم، ولا ينكر ذلك عليهم العلماء أشباه العامة، بل تراهم أنفسهم يضعون ذلك في قبور موتاهم، ولقد علمت أن أكثر الاوقاف التي تسمى أوقافا خيرية موقوف ريعها على الخوص والريحان الذي يوضع على القبور وكل هذه بدع ومنكرات لا أصل لها في الدين، ولا سند لها من الكتاب والسنة، ويجب على أهل العلم أن ينكررها وأن يبطلوا هذه العادات ما استطاعوا) .. قلت: ويؤيد كون وضع الجريد على القبر خاص به، وأن التخفيف لم يكن من أجل نداوة شقها أمور:
أ - حديث جابر رضي الله عنه الطويل في (صحيح مسلم)(8/ 231 - 236) وفية قال صلى الله عليه وسلم: (إني مررت بقبرين يعذبان، فأحببت بشفاعتي أن يرد عنهما ما دام الغصنان رطبين).
فهذا صريح في أن رفع العذاب إنما هو بسبب شفاعته صلى الله عليه وسلم ودعائه لا بسبب النداوة، وسواء كانت قصة جابر هذه هي عين قصة ابن عباس المتقدمة كما رجحه العيي وغيره، أو غيرها كما رجحه الحافظ في (الفتح)، أما على الاحتمال الأول فظاهر، وأما على الاحتمال الاخر، فلان النظر الصحيح يقتضي أن تكون العلة واحدة في القصتين للتشابه الموجود بينهما، ولان كون النداوة سببا لتخفيف العذاب عن الميت مما لا يعرف شرعا ولا عقلا، ولو كان الامر كذلك لكان أخف الناس عذابا إنما هم الكفار الذين يدفنون في مقابر أشبه ما تكون بالجنان لكثرة ما يزرع فيها من النباتات والاشجار التي تظل مخضرة صيفان شتاء! يضاف إلى ما سبق أن بعض العلماء كالسيوطي قد ذكروا أن سبب تأثير النداوة في التخفيف كونها تسبح الله تعالى، قالوا: فإذا ذهبت من العود ويبس انقطع، تسبيحه! فإن هذا التعليل مخالف لعموم قوله تبارك وتعالى:(وإن من شئ إلا يسبح بحمده، ولكن لا تفقهون تسبيحهم).
ب - في حديث ابن عباس نفسه ما يشير إلى أن السر ليس في النداوة، أو بالاحرى ليست هي السبب في تخفيف العذاب، وذلك قوله (ثم دعا بعسيب فشقه اثنين) يعني طولا، فإن من المعلوم أن شقه سبب لذهاب النداوة من الشق ويبسه بسرعة، فتكون مدة التخفيف أقل مما لو لم يشق، فلو كانت هي العلة لابقاه صلى الله عليه وسلم بدون شق ولوضع عل كل قبر عسيبا أو نصفه على الاقل، فإذا لم يفعل دل على أن النداوة ليست هي السبب، وتعين أنها علامة على مدة التخفيف الذي أذن الله به استجابة لشفاعة نبيه صلى الله عليه وسلم كما هو مصرح به في حديث جابر، وبذلك يتفق الحديثان في تعيين السبب، وإن احتمل اختلافهما في الواقعة وتعددها.
فتأمل هذا، فإنما هو شئ انقدح في نفسي، ولم أجد من نص عليه أو أشار إليه من العلماء، فإن كان صوابا فمن الله تعالى وإن كان خطأ فهو مني، واستغفره من كل ما لا يرضيه.
ج - لو كانت النداوة مقصودة بالذات، لفهم ذلك السلف الصالح ولعملوا بمقتضاه، ولوضعوا الجريد والاس ونحو ذلك على القبور عند زيارتها، ولو فعلوا لاشهر ذلك عنهم، ثم نقله الثقات إلينا، لانه من الامور التي تلفت النظر، وتستدعي الدواعي نقله، فإذ لم ينقل دل على أنه لم يقع، وأن التقرب به إلى الله بدعة، فثبت المراد. =
وما أراه إلا وهما.
وإنما يصح منه مرفوعا الشطر الأول منه وقد مضى حديث جابر.
= وإذا تبين هذا، سهل حينئذ فهم بطلان ذلك القياس الهزيل الذى نقله السيوطي في (شرح الصدور) عمن لم يسمه:
(فإذا خفف عنهما بتسبيح الجريدة فكيف بقراءة المومن القرآن؟ قال: وهذا الحديث أصل في غرس الاشجار عند القبور)!
قلت: فيقال له: (أثبت العرش ثم انقش)، (وهل يستقيم الظل واعوج)؟ القياس صحيحا لبادر إليه السلف لانهم أحرص على الخير منا.
فدل ما تقدم على أن وضع الجريد على القبر خاص به صلى الله عليه وسلم، وأن السر في تخفيف العذاب عن القبرين لم يكن في نداوة العسيب بل في شفاعته صلى الله عليه وسلم ودعائه لهما، وهذا مما لا يمكن وقوعه مرة أخرى بعد انتقاله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الاعلى ولا لغيره من بعده صلى الله عليه وسلم، لان الاطلاع على عذاب القبر من خصوصياته عليه الصلاة والسلام، وهو من الغيب الذي لا يطلع عليه إلا الرسول كما جاء في نص القرآن (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول) واعلم أنه لا ينافى ما بينا ما أورده السيوطي في (شرح الصدور) (131):
(وأخرج ابن عساكر من طريق حماد بن سلمة عن قتادة أن أبا برزة الاسلمي رضي الله عنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على قبر وصاحبه يعذب، فأخذ جريدة فغرسها في القبر، وقال: عسى أن يرفه عنه ما دامت رطبة. وكان أبو برزة يوصي: إذا مت فضعوا في قبري معي جريدتين.
قال: فمات في مفازة بين (كرمان) و (قومس)، فقالوا: كان يوصينا أن تضع في قبره جريدين وهذا مو ضع لا نصيبهها فيه، فينما هم كذلك إذ طلع عليهم ركب من قبل (سجستان)، فأصابوا معهم سعفا، فأخذوا جريدتين، فوضعوهما معه في قبره.
وأخرج ابن سعد عن مورق قال: أوصى بريدة أن تجعل في قبره جريدتان).
قلت: ووجه عدم المنافاة، أنه ليس في هذين الاثرين - على فرض التسليم بثبوتهما معا - مشروعية وضع الجريد عند زيارة القبور، الذي ادعينا بدعيتة عدم عمل السلف به، وغاية ما فيهما جعل الجريدتين مع الميت في قبره، وهي قضية أخرى، وإن كانت كالتي قبلها في عدم المشروعية لان الحديث الذي رواه أبو برزة كغيره من الصحابة لا يدل على ذلك، لا سيما والحديث فيه وضع جريدة واحدة، وهو أوصى بوضع جريدتين في قبره على أن الاثر لا يصح إسناده، فقد أخرجه الخطيب في تاريخ (بغداد) (1/ 183 182) ومن طريقه أخرجه ابن عساكر في (تاريخ دمشق) في آخر ترجمة نضلة بن عبيد بن أبي برزة الاسلمي عن الشاه بن عمار قال: ثنا أبو صالح سليمان بن صالح الليثي قال: أنبأنا النضر بن المنذز بن ثعلبة العبهدي عن حماد بن سلمة به.
قلت: فهذا إسناد ضعيف، وله علتان:
الأولى: جهالة الشاه والنضر فإني لم أجد لهما ترجمة.
والأخرى: عنعنة قتادة فإنهم لم يذكروا له رواية عن أبي برزة، ثم هو مذكور بالتدليس فيخشى من عنعنته في مثل إسناده هذا. =