الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ما يحرم عند القبور
128 -
ويحرم عند القبور ما يأتي:
1 -
الذبح لوجه الله، لقوله صلى الله عليه وسلم:
(لاعقر في الاسلام)، قال عبد الرزاق بن همام:
(كانوا يعقرون عند القبر بقرة أو شاة).
أخرجه (أبو داود (2/ 71) وقول عبد الرزاق له، والبيهقي (4/ 57) وأحمد (3/ 197) وإسناده صحيح على شرط الشيخين. (1)
= وأما وصية بريدة، فهي ثابتة عنه، قال ابن سعد في (الطبقات) (ج 7 ق 1 ص 4): أخبرنا عفان بن مسلم قال: ثنا حماد بن سلمة، قال: أخبرنا عاصم الاحول قال: قال مورق: أوصى بريدة الاسلمي أن توضع في قبره جريدتان.
فكان أن مات بأدنى خراسان فلم توجد إلا في جوالق حمار.
وهذا سند صحيح، وعلقه البخاري (3/ 173) مجزوما.
قال الحافظ في شرحه: (وكان بريدة حمل الحديث على عمومه، ولم يره خاصا بذينك الرجلين، قال ابن رشيد: ويظهر من تصرف البخاري أن ذلك خاص بهما، فلذلك عقبه بقول ابن عمر: إنما يظله عمله).
قلت: ولا شك أن ما ذهب إليه البخاري هو الصواب لما سبق بيانه، ورأي بريدة لا حجة فيه، لانه رأى والحديث لا يدل عليه حتى لو كان عاما، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يضع الجريدة في القبر، بل عليه كما سبق. و (خير الهدى هدى محمد).
(1)
وقال شيخ الاسلام في (الاقتضاء)(ص 182):
(وأما الذبح هناك - يعني عند القبور - فمنهي عنه مطلقا ذكره أصحابنا وغيرهم لهذا الحديث. قال أحمد في رواية المروزي -: قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا عقر في الاسلام. كانوا إذا مات لهم الميت نحروا جزورا على قبره، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. وكره أبو عبد الله أكل لحمه. قال أصحابنا: وفي معنى هذا ما يفعله كثير من أهل زماننا في التصدق عند القبر بخبز أو نحوه)
وقال النووي في (المجموع)(5/ 320):
(وأما الذبح والعقر عند القبر فمذموم لحديث أنس هذا، رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح).
قلت: وهذا إذا كان الذبح هناك لله تعالى وأما إذ كان لصاحب القبر كما يفعله بعض الجهال فهو شرك صريح، وأكله حرام وفسق كما قال تعالى {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121]. أي والحال أنه كذلك بأن ذبح لغير الله، إذ هذا قو الفسق هنا كما ذكره الله تعالى بقوله (أو فسقا أهل لغير الله به)، كما في (الزواجر) (1/ 171) للفقيه الهيتمى. وقال:
(لعن الله (وفي رواية: ملعون) من ذبح لغير الله).
أخرجه أحمد (رقم 2817، 2915، 2917) بسند حسن عن ابن عباس، ومسلم (6/ 84) عن علي نحوه.
2 -
رفعها زيادة على التراب الخارج منها.
3 -
طليها بالكلس ونحوه.
4 -
الكتابة عليها.
5 -
البناء عليها.
6 -
القعود عليها.
وفي ذلك أحاديث:
الأول: عن جابر رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبى عليه، [أو يزاد عليه]، [أو يكتب عليه]).
أخرجه مسلم (3/ 62) وأبو داود (2/ 71) والنسائي (1/ 284 - 285، 286) والترمذي (2/ 155) وصححه، والحاكم (1/ 370) والبيهقي (4/ 4) وأحمد (3/ 295
332، 339، 399).
والزيادتان لابي داود والنسائي، وللبيهقي الأولى.
والثانية عند الترمذي والحاكم وصحح إسنادها ووافقه الذهبي.
وأعلها المنذري (4/ 341) وغيره بالانقطاع بين سليمان بن موسى وجابر.
لكن هذا بالنظر لطريق أبي داود وغيره، وإلا فقد أخرجها الحاكم من طريق ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر.
وهذا سند على شرط مسلم.
وقد صرح ابن جريج عنده بسماعه من أبي الزبير وهذا من جابر، فزال بذلك شبهة تدليسهما، ومن هذا الوجه جاءت الأولى عند من ذكرنا، وقال النووي (5/ 296):(وإسنادها صحيح).
ثم استدل بها على أنه يستحب أن لا يزاد القبر على التراب الذي أخرج منه وقال: (قال الشافعي: فإن زاد فلا بأس، قال أصحابنا: معناه أنه ليس بمكروه).
قلت: وهذا خلاف ظاهر النهي فإن الاصل فيه التحريم، فالحق ما قاله ابن حزم في (المحلى) (5/ 33):
(ولا يحل أن يبنى القبر، ولا أن يجصص، ولا أن يزاد على ترابه شئ ويهدم كل ذلك).
وهو ظاهر قول الامام أحمد، فقال أبو داود في (المسائل) (ص 158):(سمعت أحمد قال: لا يزاد على القبر من تراب غيره، إلا أن يسوى بالارض فلا يعرف. فكأنه رخص إذ ذاك).
لكن ذكر في (الانصاف)(2/ 548) عنه الكراهة فقط! وقال الامام محمد في (الاثار)(ص 45): (أخبرنا أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم قال: كان يقال: ارفعوا القبر حتى يعرف أنه قبر فلا يوطأ.
قال محمد: وبه نأخذ، ولا نرى أن يزاد على ما خرج منه، ونكره أن يجصص، أو يطين، أو يجعل عنده مسجدا أو علما، أو يكتب عليه، ويكره الآجر أن يبنى به، أو يدخله القبر، ولا نرى برش الماء عليه بأسا، وهو قول أبي حنيفة).
قلت: ويدل الحديث بمفهومه على جواز رفع القبر، بقدر ما يساعد عليه التراب الخارج منه، وذلك يكون نحو شبر، فهو موافق للنص المتقدم في المسألة (107) وأما التجصيص فهو من (الجص) وهو الكلس.
والمراد الطلي به قال في (القاموس): (وجصص الاناء ملاه، والبناء طلاه بالجص).
ولعل النهي عن التجصيص من أجل أنه نوع زينة كما قال بعض المتقدمين.
وعليه فما حكم تطيين القبر؟ للعلماء فيه قولان:
الأول: الكراهة، نص عليه الامام محمد فيما نقلته آنفا عنه، والكراهة عنده للتحريم إذا أطلقت.
وبالكراهة قال أبو حفص من الحنابلة كما في (الانصاف)(2/ 549) والاخر: أنه لا بأس به.
حكاه أبو داود (158) عن الامام أحمد.
وجزم به في (الانصاف).
وحكاه الترمذي (2/ 155) عن الامام الشافعي، قال النووي عقبه:(ولم يتعرض جمهمور الاصحاب له، فالصحيح أنه لاكراهة فيه كما نص عليه، ولم يرد فيه نهي).
قلت: ولعل الصواب التفصيل على نحو ما يأتي: إن كان المقصود من التطين المحافظة على القبر وبقائه مرفوعا قدر ما سمح به الشرع، وأن لا تنسفة الرياح ولا تبعثره الامطار، فهو جائز بدون شك لانه يحقق غاية مشروعة.
ولعل هذا هو وجه من قال من الحنابلة
أنه يستحب. وإن كان المقصود الزينة ونحوها مما لا فائدة فيه فلا يجوز لانه محدث.
وأما الكتابة، فظاهر الحديث تحريمها، وهو ظاهر كلام الامام محمد، وصرح الشافعية والحنابلة بالكراهة فقط! وقال النووي (5/ 298):(قال أصحابنا: وسواء كان المكتوب على القبر في لوح عند رأسه كما جرت عادة بعض الناس، أم في غيره، فكله مكروه لعموم الحديث).
واستثنى بعض العلماء كتابة اسم الميت لا على وجه الزخرفة، بل للتعرف قياسا على وضع النبي صلى الله عليه وسلم الحجر على قبر عثمان بن مظعون كما تقدم في المسألة المشار إليها آنفا (ص 155). قال الشوكاني:
(وهو من التخصيص بالقياس وقد قال به الجمهور، لا أنه قياس في مقابلة النص كما قال في (ضوء النهار)، ولكن الشأن في صحة هذا القياس).
والذي أراه - والله أعلم - أن القول بصحة هذا القياس على اطلاقه بعيد، والصواب تقييده بما إذا كان الحجر لا يحقق الغاية التي من أجلها وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجر، ألا وهي التعرف عليه، وذلك بسبب كثرة القبور مثلا وكثرة الاحجار المعرفة! فحينئذ يجوز كتابة الاسم بقدر ما تتحقق به الغاية المذكورة. والله أعلم.
وأما قول الحاكم عقب الحديث:
(ليس العمل عليه، فإن أئمة المسلمين من الشرق إلى الغرب مكتوب على قبورهم وهو عمل أخذ به الخلف عن السلف).
فقد رده الذهبي بقوله:
(ما قلت طائلا، ولا نعلم صحابيا فعل ذلك، وإنما هو شئ أحدثه بعض التابعين فمن بعدهم - ولم يبلغهم النهي).
الثاني: عن أبي سعيد وهو الخدري
(أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبنى على القبر).
أخرجه ابن ماجه (1/ 473 - 374) بسند رجاله جميعا رجال الصحيح، إلا أنه منقطع، فقد قال البوصيري في (الزوائد) (ق 97/ 2):(رجاله ثقات، إلا أنه منقطع، القاسم برن مخيمرة لم يسمع من أبي سعيد) قلت: فقول السندي في حاشية ابن ماجه:
(وفي الزوائد: إسناده صحيح، ورجاله ثقات)، وهم لا أدري ممن هو؟ ورواه أبو يعلى بلفظ:(نهى نبي الله صلى الله عليه وسلم أن يبنى على القبور، أو يقعد عليها، أو يصلى عليها) قال الهيثمي في (مجمع الزوائد)(3/ 61): (ورجاله ثقات).
الثالث: عن أبي الهياج الاسدي قال: (قال لي علي بن أبي طالب: ألا ابعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تدع تمثالا [رواية: صورة] [في بيت] إلا طمسته، ولا قبرا مشرفا إلا سويته).
أخرجه مسلم (3/ 61) وأبو داود (2/ 70) والنسائي (51/ 28) والترمذي (2/ 153 - 154) حسنه، والحاكم (1/ 369) والبيهقي (4/ 3) والطيالسي في (رقم 155) وأحمد (رقم 741، 1064) من طريق أبي وائل عنه، والطبراني في (المعجم الصغير)(ص 29) من طريق أبي إسحاق عنه.
وله في مسند الطيالسي (رقم 96) وأحمد (رقم 657، 658، 683، 689) طريقان آخر ان عن علي رضي الله عنه. (1)
(1) قال الشوكاني رحمه الله تعالى (4/ 72) في شرح هذا الحديث:
(فيه أن السنة أن القبر لا يرفع رفعا كبيرا من غير فرق بين من كان فاضلا ومن كان غير فاضل. والظاهر أن رفع القبور زيادة على القدر المأذون فيه محرم. وقد صرح بذلك أصحاب أحمد، وجماعة الشافعي ومالك. قال: ومن رفع القبور الداخل تحت الحديث دخولا أولياء القبب والمشاهد المعمورة على القبور، وأيضا هو من اتخاذ القبور مساجد، وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم فاعل ذلك كما سيأتي. وكم قد نشأ عن تشييد أبنية القبور وتحسينها من مفاسد يبكي لها الاسلام. منها اعتقاد الجهلة لها كاعتقاد الكفار للاصنام، وعظم ذلك فظنوا أنها =
الرابع: عن ثمامة بن شفي قال:
(خرجنا مع فضالة بن عبيد إلى أرض الروم، وكان عاملا لمعاوية على الدرب، (وفي رواية: غزونا أرض الروم، وعلى ذلك الجيش فضالة بن عبيد الانصاري)، فأصيب ابن عم لنا [ب](رودس)(1) فصلى عليه فضالة، وقام على حفرته حتى واراه، فلما سوينا عليه حفرته قال: أخفوا عنه، (وفي الرواية الاخرى: خففوا عنه) (2) فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا بتسوية القبور).
أخرجه أحمد (6/ 18) بالروايتين وإسناده حسن، وابن أبي شيبة (4/ 135 - 138) بالرواية الاخرى.
ورواه مسلم (3/ 61) وأبو داود (2/ 70) والنسائي (1/ 285) والبيهقي (4/ 2 - 3) من طريق أخرى عن ثمامة نحوه أخصر منه، وهو رواية لاحمد (6/ 21) ولفظها عنده:(سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سووا قبوركم بالارض).
= قادرة على جلب النفع ودفع الضرر، فجعلوها مقصدا لطلب قضاء الحوائج، وملجا لنجاح المطالب، وسألوا منها ما يسأله العباد من ربهم، وشدوا إليها الرحال وتمسحوا واستغاثوا. وبالجملة أنهم لم يدعوا شيئا مما كانت الجاهلية تفعله بالاصنام إلا فعلوه! فإنا لله وإنا إليه راجعون، ومع هذا المنكر الشنيع والكفر الفظيع لا نجد من يغضب لله، ويغار حمية للدين الحنيف، لا عالما ولا متعلام، ولا أميرا ولا وزيرا ولا ملكا، وقد توارد إلينا من الاخبار ما لا يشك معه أن كثيرا من هؤلاء القبوريين أو أكثرهم إذا توجهت عليه يمين من جهة خصمه حلف بالله فاجرا، فإذا قيل له بعد ذلك: احلف بشيخك ومعتقدك الولي الفلاني! تلعثم وتلكأ وأبي واعترف بالحق! وهذا من أبين الادلة الدالة على أن شركهم قد بلغ فوق شرك من قال: إنه تعالى ثاني اثنين، أو ثالث ثلاثة.
فيا علماء الدين ويا ملوك المسلمين أي رزء للاسلام أشد من الكفر، وأي بلاء لهذا الدين أضر عليه من عبادة غير الله، وأى مصيبة يصاب بها المسلمون تعدل هذه المصيبة، وأي منكر يجب إنكاره إن لم يكن إنكار هذا الشرك واجبا؟!
لقد أسمعت لو ناديت حياً * ولكن لا حياة لمن تنادي
ولو نارا نفخت بها أضاءت * ولكن أنت تنفخ في رماد
وللشوكاني رحمه الله تعالى رسالة لطيفة نافعة في هذا الباب أسماها (شرح الصدور في تحريم رفع القبور) مطبوعة في المجموعة المنيرية (1/ 62 - 76).
(1)
جزيرة معروفة في البحر الابيض المتوسط، جنوب غرب تركيا.
(2)
هي بمعنى الرواية التي قبلها، إلا أن هذه عديت بالتشديد وتلك بالالف.
وفي سنده ابن لهيعة وهو سئ الحفظ.
وأما الحديث المشهور على الالسنة بلفظ: (خير القبور الدوارس) فلا أصل له في شئ من كتب السنة، وهو بظاهره منكر، لان القبر لا ينبغي أن يدرس، بل ينبغي أن يظل ظاهرا مرفوعا عن الارض قدر شبر كما سبق، ليعرف فيصان ولا يهان، ويزار ولا يهجر.
ثم إن الظاهر من حديث فضالة (كان يأمرنا بتسوية القبور) تسويتها بالارض بحيث لا ترفع إطلاقا، وهذا الظاهر غير مراد قطعا، بدليل أن السنة الرفع قدر شبر كما مرت الاشارة إليه سابقا، ويؤيد هذا من الحديث نفسه قول فضالة (خففوا) أي التراب، فلم يأمر بإزالة التراب عنه بالكلية، وبهذا فسره العلماء انظر (المرقاة)(2/ 372).
الخامس: عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لان يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس (وفي رواية: يطأ) على قبر).
خرجه مسلم (3/ 62) وأبو داود (2/ 71) والنسائي (1/ 287) وابن ماجه (1/ 484)(1/ 484) والبيهقي (4/ 79) وأحمد (2/ 311، 389، 444)، والرواية الاخرى إحدى روايتيه (2/ 528).
السادس: عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(لان أمشي على جمرة أو سيف، أو أخصف نعلي برجلي (1) أحب إلي من أن أمشي على قبر مسلم، وما أبالي أوسط القبور قضيت حاجتي أو وسط السوق).
أخرجه ابن أبي شيبة (4/ 133) وابن ماجه (1/ 474) بإسناد صحيح كما قال البوصيري في (الزوائد)(ق 98/ 1)، وقال المنذري في (الترغيب): إنه جيد.
السابع: عن أبي مرثد الغنوي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تصلوا إلى القبور، ولا تجلسوا عليها).
(1) أي وذلك أمر صعب شدبد إن أمكن.
اخرجه مسلم (3/ 62) واصحاب السنن الثلاثة وغيرهم، وله شاهد من حديث ابن عباس أخرجه الضياء المقدسي في (الاحاديث المختارة) وقد تكلمت على إسناده في (تخريج صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ثم في (تحذير الساجد)(ص 21).
وفي هذه الاحاديث الثلاثة دليل على تحريم الجلوس والوطأ على قبر المسلم، وهو مذهب جمهور العلماء على ما نقله الشوكاني (4/ 57) وغيره، لكن حكى النووي والعسقلاني عنهم الكراهة فقط، وهو نص الامام الشافعي في (الأم) (1) وكذلك نص الامام محمد في (الآثار) (ص 45) على الكراهة وقال:(وهو قول أبي حنيفة).
قلت: والكراهة عندهما إذا أطلقت فهي للتحريم، وهذا أقرب إلى الصواب من القول بالكراهة فحسب، والحق القول بالتحريم لانه الذي ينص عليه حديث أبي هريرة وعقبة. لما فيهما من الترهيب الشديد، وبهذا قال جماعة من الشافعية، منهم النووي، وإليه ذهب الصنعاني في (سبل السلام)(1/ 210)، ومال الفقيه ابن حجر الهيتمى في (الزواجر)(1/ 143) إلى أنه كبيرة، لما أشرنا إليه من الوعيد الشديد، وليس ذلك عن الصواب ببعيد.
7 -
الصلاة إلى القبور للحديث المتقدم آنفا (لا تصلوا إلى القبور .. ) وفيه دليل على تحريم الصلاة إلى القبر لظاهر النهي، وهو اختيار النووي، فقال المناوي في (فيض القدير) شارحا للحديث:
(1) قال الشافعي رحمه الله (1/ 246): (وأكره وطأ القبر والجلوس والاتكاء عليه، إلا أن لا يجد الرجل السبيل إلى قبر ميته إلا بأن يطأه فذلك موضع ضرورة، فأرجو حينئذ أن يسعه إن شاء الله تعالى، وقال بعض أصحابنا: لا بأس بالجلوس عليه، وإنما نهي عن الجلوس عليه للتغوط! وليس هذا عندنا كما قال، وإن كان نهي عنه للمذهب فقد نهي عنه مطلقا لغير المذهب).
وكان الشافعي رحمه الله يشير إلى إلامام مالك رحمه الله فإنه صرح في (الموطأ) بالتأويل المذكور، ولا شك في بطلانه كما بينه النووي فيما نقله الحافظ (3/ 174).
(أي مستقبلين إليها، لما فيه من التعظيم البالغ، لانه من مرتبة المعبود، فجمع - يعنى الحدبث بتمامه - بين النهي عن الاستخفاف بالتعظيم، والتعظيم البليغ) ثم قال في موضع آخر: (فإن ذلك مكروه، فإن قصد إنسان التبرك بالصلاة في ثلك البقعة فقد ابتدع في الدين ما لم يأذن به الله، والمراد كراهة التنزيه، قال النووي: كذا قال أصحابنا، ولو قيل بتحريمه لظاهر الحديث لم يبعد.
ويؤخذ من الحديث النهي عن الصلاة في المقبرة، فهو مكروه كراهة تحريم).
وينبغي أن يعلم أن التحريم المذكور إنما هو إذا لم يقصد بالاستقبال تعظيم القبور، وإلا فهو شرك، قال الشيخ علي القاري في (المرقاة) (2/ 372) في شرحه لهذا الحديث: (ولو كان هذا التعظيم حقيقة للقبر ولصاحبه لكفر المعظم، فالتشبه به مكروه،
وينبغي أن يكون كراهة تحريم، وفي معناه بل أولى منه: الجنازة الموضوعة.
وهو مما ابتلي به أهل مكة، حيث يضعون الجنازة عند الكعبة ثم يستقبلون إليها).
8 -
الصلاة عندها ولو بدون استقبال، وفيه أحاديث:
الأول: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام).
أخرجه أصحاب السنن الأربعة إلا النسائي - وغيرهم بسند صحيح على شرط الشيخين كما قال الحاكم ووافقه الذهبي، وأعل بالارسال، وليس بشئ، ولو سلم به فقد جاء من طريق أخرى سالمة من الارسال وهي على شرط مسلم، وقد فصلت القول في ذلك في (الثمر المستطاب) في المبحث السادس من (الصلاة).
الثاني: عن أنس
(أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بين القبور).
قال في (المجمع)(2/ 27)(رواه البزار ورجاله رجال الصحيح).
قلت: ورواه ابن الاعرابي في معجمه (235/ 1) والطبراني في (الاوسط)(1/ 280) والضياء المقدسي في (الاحاديث المختارة)(79/ 2) وزادوا: (على الجنائز).
الثالث: عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم، ولا تتخذوها قبورا).
أخرجه البخاري (1/ 420) ومسلم (2/ 187) وأحمد (رقم 4511، 4653، 6045) الرابع: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة).
أخرجه مسلم.
وقد ترجم البخاري للحديث الثالث بقوله: (باب كراهية الصلاة في المقابر).
وبين وجه ذلك الحافظ في شرحه فقال ما مختصره: (استنبط من قوله في الحديث: (لا تتخذوها قبورا) أن القبور ليست بمحل للعبادة، فتكون الصلاة فيها مكروهة، وقد نازع الاسماعيلي المصنف في هذه الترجمة فقال: الحديث دال على كراهة الصلاة في القبر لا في المقابر: قات: قد ورد بلفظ المقابر كما رواه مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ (لا تجعلوا بيوتكم مقابر)، وقال ابن التين: تأوله البخاري على كراهة الصلاة في المقابر: وتأوله جماعة على أنه إنا فيه الندب إلى الصلاة في البيوت، إذ الموتى لا يصلون، كأنه قال: لا تكونوا كالموتى الذين لا يصلون في بيوتهم وهي القبور، قال: فأما جواز الصلاة في المقابر أو المنع منه فليس في الحديث ما يؤخذ منه ذلك.
قلت إن أراد أنه لا يؤخذ منه بطريق المنطوق فمسلم.
وإن أراد نفي ذلك مطلقا فلا، فقد قدمنا وجه استنباطه، وقد نقل ابن المنذر عن أكثر أهل العلم أنهم استدلوا بهذا الحديث على أن المقبرة ليست بموضع للصلاة.
وكذا قال البغوي في (شرح السنة) والخطابي).
قلت: وهذا هو الارجح أن الحديث يدل على أن المقبرة ليست موضعا للصلاة، لا سيما بلفظ أبي هريرة فهو أصرح في الدلالة، وقول الاسماعيلي: يدل على كراهة الصلاة في القبر لا في المقابر، مع مخالفته الصريحة لحديث أبي هريرة، فلا يحسن حمل حديث ابن عمر عليه، لان الصلاة في القبر غير ممكنة عادة، فكيف يحمل كلام الشارع عليه!؟ وقول ابن التين:(هو من شراح (صحيح البخاري) واسمه عبد الواحد)
(الموتى لا يصلون).
ليس بصحيح، لانه لم يرد نص في الشرع بنفي ذلك، وهو من الامور الغيبية التي لا ينبغي البت فيها إلا بنص، وذلك مفقود، بل قد جاء ما يبطل إطلاق القول به، وهو صلاة موسى عليه الصلاة والسلام في قبره كما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به على ما رواه مسلم في (صحيحه)، وكذلك صلاة الانبياء عليهم الصلاة والسلام مقتدين به في تلك الليلة كما ثبت في (الصحيح) بل ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:(الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون).
أخرجه أبو يعلى باسناد جيد، وقد خرجته في (الاحاديث الصحيحة)(622).
بل قد جاء عنه صلى الله عليه وسلم ما هو أعم مما ذكرنا، وذلك في حديث أبي هريرة في سؤال الملكين للمؤمن في القبر:(فيقال له اجلس، فيجلس قد مثلت له الشمس وقد آذنت للغروب، فيقال له: أرأيتك هذا الذي كان فيكم ما تقول فيه؟ وماذا تشهد عليه؟ فيقول: دعوني حتى أصلي، فيقولان: إنك ستفعل).
أخرجه ابن حبان في (صحيحه)(781) والحاكم (1/ 379 - 380) وقال (صحيح على شرط مسلم) ووافقه الذهبي! وإنما هو حسن فقط، لان فيه محمد بن عمرو ولم يحتج به مسلم وإنما روى له مقرونا أو متابعة.
فهذا الحديث صريح في أن المؤمن أيضا يصلي في قبره، فبطل بذلك القول بأن الموتى لا يصلون، وترجح أن المراد بحديث ابن عمر أن المقبرة ليست موضعا للصلاة، والله أعلم.
وقد دل الحديث وما ذكر معه على كراهة الصلاة في المقبرة، وهي للتحريم لظاهر النهي في بعضها، وذهب بعض العلماء إلى بطلان الصلاة فيها لان النهي يدل على فساد النهي عنه، وهو قول ابن حزم، واختاره شيخ الاسلام ابن تيمية، والشوكاني في (نيل الاوطار)(2/ 112)، وروى ابن حزم (4/ 27 - 28) عن الامام أحمد أنه قال:(من صلى في مقبرة أو إلى قبر أعاد أبدا)(1) ثم إن كراهة الصلاة في المقبرة تشمل كل مكان منها سواء كان القبر أمام المصلي أو خلفه أو عن يمينه، أو عن يساره، لان النهي مطلق، ومن المقرر في علم الاصول أن المطلق يجرى على إطلاقه حتى يأتي ما يقيده، ولم يرد هنا شئ من ذلك، وقد صرح بما ذكرنا بعض فقهاء الحنفية وغيرهم كما يأتي، فقال شيخ الاسلام ابن تيمية في (الاختبارات العلمية) (ص 25): (ولا تصح الصلاة في المقبرة ولا إليها، والنهي عن ذلك إنما هو سد لذريعة الشرك وذكر طائفة من أصحابنا أن القبر والقبرين لا يمنع من الصلاة، لانه لا يتناوله اسم المقبرة، وإنما المقبرة ثلاثة قبور فصاعدا.
وليس في كلام أحمد وعامة أصحابه هذا الفرق، بل عموم كلامهم وتعليلهم واستدلالهم يوجب منع الصلاة عند قبر واحد من
(1) ثم قال ابن حزم:
(وكره إلصلاة إلى القبر وفي المقبرة وعلى القبر أبو حنيفة والاوزاعي وسفيان ولم ير ماك بذلك بأسا! واحتج له بعض مقلديه بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على قبر المسكينة السوداء! قال ابن حزم: (وهذا عجب ناهيك به أن يكون هؤلاء القوم يخالفون هذا الخبر فيما جاء فيه، فلا يجيزون أن نصلى صلاة الجنازة على من دفن، ثم يستبيحون ما ليس فيه أثر منه ولا إشارة، مخالفة للسنن الثابتة. قال:
كل هذه الاثار حق، فلا تحل الصلاة حيث ذكرنا إلا صلاة الجنازة فإنها تصلى في المقبرة، وعلى القبر الذي قد دفن صاحبه كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، نحرم ما نهى عنه، ونعد من التقرب إلى الله تعالى أن نفعل! مثل ما فعل فأمره ونهيه حق، وفعله حق، وما عدا ذلك فباطل).
قلت: وفيما قاله في صلاة الجنازة نظر، لانه لا نص على جوزها في المقبرة ولو كان ابن حزم من القائلين فالقياس لقلنا أنه قاس ذلك على الصلاة على القبر: ولكنه يقول ببطلان القياس من أصله، وصلاة الجنازة في المقبرة خلاف السنة التي لم تأت إلا بصلاتها في المصلى وفي المسجد كما سبق بيانه في محله، بل قد جاء النهي الصريح عن الصلاة عليها بين القبور كما في رواية في حديث أنس المذكور في هذا الفصل، وهو الحديث الثاني منه.
القبور، وهو الصواب، والمقبرة كل ما قبر فيه، لا أنه جمع قبر.
وقال أصحابنا: وكل ما دخل في اسم المقبرة مما حول القبور لا يصلى فيه، فهذا يعين أن المنع يكون متناولا لحرمة القبر المنفرد وفنائه المضاف إليه.
وذكر الامدي وغيره: أنه لا تجوز الصلاة فيه أي المسجد الذي قبلته إلى القبر حتى يكون بين الحائط وبين المقبرة حائل آخر.
وذكر بعضهم: هذا منصوص أحمد).
وفي كلام الشيخ رحمه الله التصريح بأن علة النهي عن الصلاة في المقبرة إنما هي سد الذريعة، وهذا أحد قولي العلماء في ذلك، والقول الاخر أن العلة إنما هي نجاسة أرض المقبرة! وهما قولان في مذهب الحنفية، وقد نظر ابن عابدين في (الحاشية)(1/ 352) في الثاني منهما، وذلك لان الاستحالة مطهرة عندهم، فكيف تكون هذه العلة صحيحة!؟ ولا شك عندنا أن القول الأول هو الصحيح، وقد بين ذلك شيخ الاسلام في كتبه، واستدل له بما لا تجده عند غيره، فراجع مثلا كتابه (اقتضاء الصراط المستقيم)(152، 193)، وعليه مشى في (الحانية) من كتب الحنيفة، وأشار إليه الطحاوي في حاشيته على (مراقي الفلاح) فقال عند قول الشارح (وتكره الصلاة في المقبرة)(1/ 208)(بتثليث الباء، لانه تشبه باليهود والنصارى، قال صلى الله عليه وسلم: لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وسواء كانت فوقه أو خلفه أو تحت ما هو واقف عليه. ويستثنى مقابر الأنبياء عليهم السلام فلا تكره الصلاة فيها مطلقا منبوشة أو لا، بعد أن لا يكون القبر في جهة القبلة، لانهم أحياء في قبورهم)!
قلت: وهذا الاستثناء باطل ظاهر البطلان، كيف وهو يناقض العلة التي ذكرها والحديث الذي استدل به عليها، وكيف يصح مثل هذا الاستثناء والاحاديث مستفيضة في لعن أهل الكتاب لاتخاذ قبور أنبيائهم مساجد ثم صح أن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا عن ذلك، فالنهي منصب على اتخاذ قبور الأنبياء مباشرة، وغيرهم يلحق بهم، فكيف يعقل استثناؤهم!؟ والحق أن مثل هذا الاستثناء إنما يتمشى مع القول الثاني أن العلة النجاسة وقبور الأنبياء بلا شك طاهرة لانهم كما قال عليه السلام:(إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء)، ولكن هذه العلة باطلة وما بني على باطل فهو باطل. (1)
(1) وقد فصلت القول في خطأ الطحاوئي وتناقصه في الاستثناء المذكور في كتابي (الثمر المستطاب في فقه السنة والكتاب).
9 -
بناء المساجد عليها.
وفيه أحاديث:
الأول: عن عائشة وعبد الله بن عباس معا قالا: (لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة (2) له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه، فقال: وهو كذلك.
- لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر [مثل] ما صنعوا).
أخرجه البخاري (1/ 422، 6/ 386، 8/ 116) ومسلم (2/ 67) والنسائي (1/ 115) والدارمي (1/ 326) والبيهقي (4/ 80) وأحمد (1/ 218، 6/ 34، 229، 275)، والزيادة لمسلم والدارمي وغيرهما.
الثاني: عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد).
قالت: فلولا ذاك أبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا.
أخرجه البخاري (3/ 156، 198، 8/ 114) وأبو عوانة (2/ 399) وأحمد (6/ 80، 121، 255).
وله عنده (6/ 146، 252) طريق آخر عنها.
الثالث: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(قاتل الله اليهود (وفي رواية: لعن الله اليهود والنصارى) اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد).
أخرجه البخاري (1/ 422) ومسلم وأبو عوانة (2/ 400) وأبو داود (2/ 71) والبيهقي (4/ 80) وأحمد (2/ 284، 366، 396، 453، 518) والرواية الثانية له ولمسلم وأبي عوانة، وهي من طريق أخرى عن أبي هريرة.
الرابع: عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم لا تجعل قبري وثنا، لعن الله قوما اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد).
أخرجه أحمد (2/ 246) وابن سعد في (الطبقات)(2/ 362) وأبو نعيم في (الحلية)
(7/ 317) بإسناد صحيح، وأما قول الهيثمي، في (مجمع الزوائد) (23):(رواه أبو يعلى، وفيه إسحاق بن أبي إسرائيل وفيه كلام لوقفه في القرآن، وبقية رجاله ثقات).
فقيه نظر من وجوه:
1 -
إنه اقتصر على أبي يعلى في العزو فأوهم أنه ليس في (مسند أحمد) وليس كذلك كما عرفت.
2 -
أن إسحاق المذكور ثقة، ووقفه في القرآن لا بجرحه كما هو مقرر في المصطلح، 3 - أنه لم يتفرد به، فهو عند أحمد من غير طريقه، فالحديث صحيح لاشك فيه.
وله شاهد مرسل.
أخرجه مالك في (الموطأ)(1/ 185 - 186) بسند صحيح.
وروي موصولا عن أبي سعيد الخدري.
الخامس: عن جندب قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس يقول: [قد كان لي فيكم أخوة وأصدقاء، و] إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل،
فإن الله تعالى قد اتخذني خليلا، كما اتخذ إبراهيم خليلا، ولو كنت متخذا من امتي خليلا، لا تخذت أبا بكر خليلا، ألا وإن من كان قبلكم كانو يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنها كم عن ذلك).
أخرجه مسلم (2/ 67 - 68) دون سائر الستة، ونسبه الشوكاني (2/ 114) للنسائي أيضا، فلعله يعني (السنن الكبرى) له، ولم ينسبه في (الذخائر) إلا لمسلم وحده، نعم أخرجه عوانة في (صحيحه) (2/ 401) والزيادة له السادس: عن عبد الله بن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن من شرار الناس من تدركه الساعة وهم أحياء، ومن يتخذ القبور مساجد).
أخرجه أحمد (رقم 3844، 4143، 4144، 4342) بإسنادين حسنين عنه.
ورواه ابن أبي شيبة وابن حبان في (صحيحه)، وقال ابن تيمية:
(إسناده جيد).
وذهل الهيثمي عن كونه في المسند فقال (2/ 27): (رواه الطبراني في (الكبير) وإسناده حسن).
السابع: عن عائشة قالت: (لما كان مرض النبي صلى الله عليه وسلم، تذاكر بعض نسائه كنيسة بأرض الحبشة يقال لها (مارية) - وقد كانت أم سلمة وأم حبيبة قد أتتا أرض الحبشة - فذكرن من حسنها وتصاويرها.
قالت: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح [فمات] بنوا على قبره مسجدا، ثم صوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله [يوم القيامة]).
أخرجه البخاري (1/ 416، 422) ومسلم (2/ 66 - 67) والنسائي (1/ 115) وكذا أبو عوانة (2/ 400 - 401) والبيهقي (4/ 80) والسياق لهما، وأحمد (6/ 51) وابن أبي شيبة (4/ 140)، والزيادتان له للشيخين وغيرهما.
وفي الباب أحاديث أخرى عن جماعة آخرين من الصحابة، أوردتها في (تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد) وهي تدل دلالة قاطعة على أن اتخاذ القبور مساجد حرام لما فيها من لعن المتخذين، ولذلك قال الفقيه الهيتمي في (الزواجر) (1/ 120 - 121):(الكبيرة الثالثة والتسعون اتخاذ القبور مساجد).
ثم ساق بعض الاحاديث المتقدمة وغيرها مما ليس على شرطنا ثم قال: (وعد هذه من الكبائر وقع في كلام بعض الشافعية، وكأنه أخذ ذلك مما ذكره من هذه الاحاديث، ووجهه واضح، لانه لعن من فعل ذلك بقبور أنبيائه.
وجعل من فعل ذلك بقبور صلحاثه شر الخلق عند الله يوم القيامة، ففيه تحذير لنا كما في رواية (يحذر ما صنعوا)، أي يحذر أمته بقوله لهم ذلك من أن يصنعوا كصنع أولئك، فيلعنوا كما لعنوا .. قال بعض الحنابلة: قصد الرجل الصلاة عند القبر متبركا بها عين المحادة لله ورسوله، وإبداع دين لما يأذن به الله لا نهي عنها ثم إجماعا،
فإن أعظم المحرمات وأسباب الشرك الصلاة عندها، واتخاذها مساجد، أو بناؤها عليها، والقول بالكراهة محمول على غير ذلك، إذ لا يظن بالعلماء تجويز فعل تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم لعن فاعله، وتجب المبادرة لهدمها وهدم القباب التي على القبور إذ هي أضر من مسجد الضرار لانها أسست على معصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، لانه نهى عن ذلك، وأمر صلى الله عليه وسلم بهدم القبور المشرفة، وتجب إزالة كل قنديل أو سراج على قبر، ولا يصح وقفه ونذره.
انتهى).
هذا والاتخاذ المذكور في الاحاديث المتقدمة يشمل عدة أمور:
الأول: الصلاة إلى القبور مستقبلا لها.
الثاني: السجود على القبور.
الثالث: بناء المساجد عليها.
والمعنى الثاني ظاهر من الاتخاذ، والآخران مع دخولهما فيه، فقد جاء النص عليهما في بعض الاحاديث المتقدمة، وفصلت القول في ذلك وأوردت أقوال العلماء مستشهدا بها في كتابنا الخاص (تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد) وذكرت فيه تاريخ إدخال القبر النبوي في المسجد الشريف، وما فيه من المخالفة للأحاديث المتقدمة وأن الصلاة مع ذلك لا تكره فيه خاصة، فمن شاء بسط القول في ذلك كله فليرجع إليه.
10 -
اتخاذها عيدا، تقصد في أوقات معينة، ومواسم معروفة، للتعبد عندها، أو لغيرها.
لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تتخذوا قبري عيدا، ولا تجعلوا بيوتكم قبورا، وحيثما كنتم فصلوا علي، فإن صلاتكم تبلغني).
أخرجه أبو داود (1/ 319) وأحمد (2/ 367) بإسناد حسن، وهو على شرط مسلم، وهو صحيح مما له من طرق وشواهد.
فله طريق أخرى عن أبي هريرة، عند أبي نعيم في (الحلية)(6/ 283)
وله شاهد مرسل بإسناد قوي عن سهيل قال: (رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عند القبر، فناداني وهو في بيت فاطمة يتعشى، فقال: هلم إلى العشاء، فقلت: لا أريده.
فقال: مالي رأيتك عند القبر؟ فقلت: سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:(إذا دخلت المسجد فسلم) ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تتخذوا قبري عيدا، ولا تتخذوا بيوتكم قبورا، وصلوا علي، فإن صلاتكم
تبلغني حيثما كنتم، لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد).
ما أنتم ومن بالاندلس إلا سواء.
رواه سعيد بن منصور كما في (الاقتضاء) لابن تيمية، وهو عند الشيخ اسماعيل بن اسحاق القاضي في (فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (رقم 30)(1) دون قوله (لعن الله اليهود
…
) وكذا رواه ابن أبي شيبة (4/ 140) مقتصرا على المرفوع منه فقط.
وله شاهد آخر بنحو هذا من طريق علي بن الحسين عن أبيه عن جده مرفوعا.
أخرجه اسماعيل القاضي (رقم 20) وغيره.
انظر (تحذير الساجد)(98 - 99) والحديث دليل على تحريم اتخاذ قبور الانبياء والصالحين عيدا.
قال شيخ الاسلام ابن تيمية في (الاقتضاء)(ص 155 - 156): (ووجه الدلالة أن قبر النبي صلى الله عليه وسلم أفضل قبر على وجه الارض وقد نهى عن اتخاذه عيدا، فقبر غيره أولى بالنهي كائنا من كان، ثم قرن ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: ولا تتخذوا بيوتكم قبورا) أي لا تعطلوها عن الصلاة فيها والدعاء والقراءة، فتكون بمنزلة القبور فأمر بتحري العبادة في البيوت، ونهى عن تحريها عند القبور، عكس ما يفعله المشركون من النصارى ومن تشبه بهم.
قال: فهذا أفضل التابعين من أهل بيته علي بن الحسين رضي الله عنهم، نهى ذلك الرجل أن يتحرى الدعاء عند قبره صلى الله عليه وسلم، واستدل بالحديث الذي سمعه من أبيه الحسين عن جده علي.
وهو أعلم بمعناه من غيره، فتبين أن قصده
(1) قام بنشره لاول مرة المكتب الاسلامي بتحقيقنا، فيطلب منه.
أن يقصد الرجل القبر للسلام عليه ونحوه عند غير دخول المسجد، ورأى أن ذلك من الدعاء ونحوه اتخاذ له عيدا.
وكذلك ابن عمه حسن بن حسن شيخ أهل بيته كره اتخاذه عيدا.
فانظر هذه السنة كيف أن مخرجها من أهل المدينة وأهل البيت الذين لهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم قرب النسب وقرب الدار لانهم إلى ذلك أحوج من غيرهم فكانوا له أضبط.
والعيد إذا جعل اسما للمكان فهو المكان الذي يقصد الاجتماع فيه وإتيانه للعبادة عنده أو لغير العبادة، كما أن المسجد الحرام ومنى ومزدلفة وعرفة جعلها الله عيدا مثابة للناس، يجتمعون فيها وينتابونها للدعاء والذكر والنسك.
وكان للمشركين أمكنة ينتابونها للاجتماع عندها، فلما جاء الاسلام محا الله ذلك كله.
وهذا النوع من الامكنة يدخل فيه قبور الانبياء والصالحين).
ثم قال الشيخ (ص 175 - 181): (ولهذا كره مالك رضي الله عنه وغيره من أهل العلم لاهل المدينة، كلما دخل أحدهم المسجد أن يجبئ فيسلم على قبر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه.
قال: وإنما يكون ذلك لاحدهم إذا قدم من سفر، أو أراد سفرا ونحو ذلك، ورخص بعضهم في السلام عليه إذا دخل المسجد للصلاة ونحوها، وأما قصده دائما للصلاة والسلام فما علمت أحدا رخص به، لان ذلك نوع من اتخاذه عيدا .. مع أنه قد شرح لنا إذا دخلنا المسجد أن نقول (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته)(1) كما نقول ذلك في آخر صلاتنا.
قال: فخاف مالك وغيره أن يكون فعل ذلك عند القبر كل ساعة نوعا من اتخاذ القبر عيدا.
وأيضا فإن ذلك بدعة، فقد كان المهاجرون والانصار على عهد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم يجيئون إلى المسجد كل يوم لعلمهم رضي الله عنهم بما
() قلت: لم أر هذه الصيغة في شئ من الاحاديث الواردة في آداب الدخول إلى المسجد والخروج منه، وأخذها من مطلق قوله: (إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم
…
الحديث أخرجه أبو عوانة في صحيحه (1/ 414) وأبو داود في سننه (رقم 465)، فمما لا يخفى بعده، لا سيما وقد جاءت الصيغة في حديت فاطمة رضي الله عنها بلفظ (السلام على رسول الله، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد). أخرجه القاضي اسماعيل (82 - 84) وغيره. وانظر (نزل الابرار)(72). و (الكلم الطيب (رقم 63 بتحقيقي وضع المكتب الاسلامي).
كان النبي صلى الله عليه وسلم يكرهه من ذلك وما نهاهم عنه، وانهم يسلمون عليه حين دخول المسجد والخروج منه، وفي التشهد كما كانوا يسلمون عليه كذلك في حياته، وما أحسن ما قال مالك: لن يصلح آخر هذه الامة إلا ما أصلح أولها، ولكن كلما ضعف تمسك الامم بعهود أنبيائهم، ونقص إيمانهم، عوضوا ذلك بما أحدثوه من إلبدع والشرك وغيره لهذا كرهت الامة استلام القبر وتقبيله.
وبنوه بناء منعوا الناس أن يصلوا إليه، قال: وقد ذكرنا عن أحمد وغيره أنه أمر من سلم على النبي وصاحبيه ثم أراد أن يدعو أن ينصرف فيستقبل القبلة، وكذلك أنكر ذلك من العلماء المتقدمين كما لك وغيره، ومن المتأخرين مثل أبي الوفاء بن عقيل وأبي الفرج ابن الجوزي، وما أحفظ لاعن صحابي ولا عن تابعي ولا عن إمام معروف أنه استحب قصد شئ من القبور للدعاء عنده، ولا روى أحد في ذلك شيئا، لا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه ولا عن أحد من الائمة المعروفين، وقد صنف الناس في الدعاء وأوقاته وأمكنته وذكروا فيه الاثار، فما ذكر أحد منهم في فضل الدعاء عندها شئ من القبور حرفا واحدا فيما أعلم، فكيف يجوز والحالة هذه أن يكون الدعاء عندها أجوب وأفضل، والسلف تنكره ولا تعرفه وتنهى عنه ولا تأمر به!؟ قال: وقد أوجب اعتقاد استجابة الدعاء عندها وفضله أن تنتاب لذلك وتقصد، وربما اجتمع عندها اجتماعات كثيرة في مواسم معينة.
وهذا بعينه هو الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (لا تتخذوا قبري عيدا).
قال: حتي إن بعض القبور يجتمع عندها في يوم من السنة، ويسافر إليها إما في المحرم أو رجب أو شعبان أو ذي الحجة أو غيرها. وبعضها يجتمع عندها في يوم عاشوراء، وبعضها في يوم عرفة، وبعضها في النصف من شعبان. وبعضها في وقت آخر. بحيث يكون لها يوم من السنة تقصد فيه. ويجتمع عندها فيه. كما تقصد عرفة ومزدلفة ومنى في أيام معلومة من السنة، وكما يقصد مصلى المصر يوم العيدين، بل ربما كان الاهتمام بهذه الاجتماعات في الدين والدنيا أهم وأشد ومنها ما يسافر إليه من الامصار في وقت معين، أو وقت غير معين لقصد الدعاء عنده والعبادة هناك، كما يقصد بيت الله الحرام لذلك وهذا السفر لا أعلم بين المسلمين خلافا في النهي عنه. قال:
ومنها ما يقصد الاجتماع عنده في يوم معين من الاسبوع.
وفي الجملة هذا الذي يفعل عند هذه القبور هو بعينه الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (لا تتخذوا قبري عيدا) فإن اعتياد قصد المكان المعين في وقت معين عائد بعود السنة أو الشهر أو الاسبوع هو بعينه معنى العيد، ثم ينهى عن دق ذلك وجله، وهذا هو الذي تقدم عن الامام أحمد إنكاره.
قالت (يعني أحمد): وقد أفرط الناس في هذا جدا وأكثروا. وذكر ما يفعل عند قبر الحسين. ثم قال الشيخ:
ويدخل في هذا ما يفعل بمصر عند قبر نفيسة وغيرها. وما يفعل بالعراق عند القبر الذي يقال: إنه قبر علي رضي الله عنه، وقبر الحسين وحذيفة بن اليمان و
…
و
…
وما يفعل عند قبر أبي يزيد البسطامي إلى قبور كثيرة في أكثر بلاد الاسلام لا يمكن حصرها. قال:
واعتياد قصد هذه القبور في وقت معين، والاجتماع العام عندها في وقت معين هو أتخاذها عيدا كما تقدم ولا أعلم بين المسلمين أهل العلم في ذلك خلافا. ولا يغتر بكثرة العادات الفاسدة فإن هذا من التشبه بأهل الكتابين الذي أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه كائن في هذه الامة. وأصل ذلك إنما هو اعتقاد فضل الدعاء عندها، وإلا فلو لم يقم هذا الاعتقاد في القلوب لا نمحى ذلك كله. فإذا كان قصدها يجر هذه المفاسد كان حراما كالصلاة عندها وأولى، وكان ذلك فتنة للخلق، وفتحا لباب الشرك، وإغلاقاً لباب الايمان).
قلت: ومما يدخل في ذلك دخولا أوليا ما هو مشاهد اليوم في المدينة المنورة، من قصد الناس دبر كل صلاة مكتوبة في قبر النبي صلى الله عليه وسلم: للسلام عليه والدعاء عنده وبه، ويرفعون أصواتهم لديه، حتى ليضج المسجد بهم، ولا سيما في موسم الحج حتى لكأن ذلك من سنن الصلاة! بل إنهم ليحافظون عليه أكثر من محافظتهم على السنن وكل ذلك يقع من مرأى ومسمع من ولاة الامر، ولا أحد منهم ينكر، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وواأسفاً على غربة الدين وأهله، وفي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم الذي ينبغي أن يكون أبعد المساجد بعد المسجد الحرام عما يخالف شريعته عليه الصلاة والسلام.
هذا، وقد سبق في كلام شيخ الاسلام ابن تيمية أن بعض أهل العلم رخص في إتيان القبر الشريف للسلام عليه إذا دخل المسجد للصلاة ونحوها. وكأن ذلك يقيد
عدم الاكثار والتكرار بدليل قوله عقب ذلك: (وأما قصده دائما للصلاة والسلام فما علمت أحدا رخص فيه).
قلت: وهذا الترخيص الذي نقله الشيخ عن بعض أهل العلم هو الذي رواه ونعتمد عليه بشرط القيد المذكور، فيجوز لمن بالمدينة إتيان القبر الشريف للسلام عليه صلى الله عليه وسلم، أحيانا، لان ذلك ليس، من اتخاذه عيدا كما هو ظاهر، والسلام عليه وعلى صاحبيه مشروع بالادلة العامة، فلا يجوز نفي المشروعية مطلقا لنهيه صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ قبره عيدا، لامكان الجمع بملاحظة الشرط الذي ذكرنا، ولا يخرج عليه أننا لا نعلم أن أحدا من السلف كان يفعل ذلك، لان عدم العلم بالشئ لا يستلزم العلم بعدمه كما يقول العلماء، ففي مثل هذا يكفي لاثبات مشروعته الادلة العامة مادام أنه لا يثبت ما يعارضها فيما نحن فيه.
على أن شيخ الاسلام قد ذكر في (القاعدة الجليلة)(ص 80 طبع المنار) عن نافع أنه قال: كان ابن عمر يسلم على القبر، رأيته مائة مرة أو أكثر يجيئ إلى القبر فيقول: السلام على النبي صلى الله عليه وسلم، السلام على أبي بكر، السلام على أبي، ثم ينصرف فان ظاهره أنه كان يفعل ذلك في حالة الاقامة لا السفر، لان قوله (مائة مرة)، مما يبعد حمل هذا الائر على حالة السفر ..
11 -
السفر إليها:
وفيه أحاديث:
الأول: عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ومسجد الاقصى).
وفي رواية عنه بلفظ:
(إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد: مسجد الكعبة، ومسجدي، ومسجد إيلياء).
أخرجه البخاري باللفظ الأول، ومسلم باللفظ الاخر من طريق ثان عنه، وأخرجه من الطريق الأول أصحاب السنن وغيرهم.
وله طريق ثالث: عند أحمد (2/ 501) والدارمي (1/ 330) وقد خرجت الحديث مبسوطا في (الثمر المستطاب).
الثاني: عن أبي سعيد الخدري قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تشد (وفي لفظ: لا تشدوا) الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الاقصى).
أخرجه الشيخان وغيرهما، وله عنه أربعة طرق أوردتها في المصدر السابق واللفظ الاخر لمسلم.
والطريق الرابعة: يرويها شهر بن حوشب، وعنه اثنان:
أحدهما: ليث بن أبي سليم عنه قال: (لقينا أبا سعيد ونحن نريد الطور، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تعمل المطي إلا
…
) الحديث.
والآخر: عبد الحميد بن بهرام عنه قال: (سمعت أبا سعيد الخدري وذكرت عنده صلاة الطور، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ينبغي للمطي أن تشد رحاله إلى مسجد يبتغى فيه الصلاة غير المسجد الحرام). الحديث.
أخرجهما أحمد (3/ 93، 64).
وشهر ضعيف، وقد تفرد بهذه الزيادة (إلى مسجد يبتغي فيه الصلاة) فهي منكرة لعدم ورودها في الطرق الاخرى عن أبي سعيد، حتى ولا في طريق ليث عن شهر، وكذلك لم ترد في الاحاديث الاخرى، وهي ثمانية وغالبها لها أكثر من طريق واحد، وقد سقتها كلها في (الثمر المستطاب) فعدم ورود هذه الزيادة في شئ من هذه الاحاديث على كثرتها وتعدد مخارجها لاكبر دليل على نكارة الزيادة وبطلانها. فهي من أوهام شهر بن حوشب أو الراوي عنه عبد الحميد، فإن فيه بعض الضعف من قبل حفظه، وقال الحافظ في ترجمة شهر من (التقريب):(صدوق كثير الاوهام).
الثالث: عن أبي بصرة الغفاري أنه لقي أبا هريرة وهو جاء، فقال: من أين أقبلت؟ قال: أقبلت من الطور، صليت فيه، قال: أما إني لو أدركتك لم تذهب، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الاقصى).
أخرجه الطيالسي (1348) وأحمد (6/ 7) والسياق له، وإسناده صحيح.
وله عند أحمد طريقان آخران، إسناد الأول منهما حسن، والاخر صحيح.
وأخرجه مالك والنسائي والترمذي وصححه من الطريق الثالث، إلا أن أحد الرواة أخطأ في سنده فجعله من مسند بصرة بن أبي بصرة. وفي متنه حيث قال:(لا تعمل المطي).
الرابع: عن قزعة قال: (أردت الخروج إلى الطور فسألت ابن عمر، فقال: أما علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم والمسجد الاقصى)، ودع عنك الطور فلا تأته).
أخرجه الازرقي (في أخبار مكة)(ص 304) بإسناد صحيح رجاله رجال الصحيح، وأورد المرفوع منه الهيثمي في (المجمع) (4/ 4) وقال:(رواه الطبراني في الكبير والاوسط ورجاله ثقات).
وفي هذه الاحاديث تحريم السفر إلي موضع من المواضع المباركة، مثل مقابر الانبباء والصالحين، وهي وإن كانت بلفظ النفي (لا تشد)، فالمراد النهي كما قال الحافظ، على وزن قوله تعالى:(فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج)، وهو كما قال الطيبي:
(هو أبلغ من صريح النهي، كأنه قال: لا يستقيم أن يقصد بالزيارة إلا هذه البقاع لاختصاصها بما اختصت به).
قلت: ومما يشهد لكون النفي هنا بمعنى النهي رواية لمسلم في الحديث الثاني: (لا تشدوا).
ثم قال الحافظ: (قوله: (إلا إلى ثلاثة مساجد)، الاستثناء مفرغ، والتقدير لا تشد الرحال إلى موضع، ولازمه منع السفر إلى كل موضع غيرها، لان المستثنى منه في المفرغ مقدر بأعم العام، ولكن يمكن أن يكون المراد بالعموم هنا المخصوص، وهو المسجد).
قلت: وهذا الاحتمال ضعيف، والصواب التقدير الأول.
لما تقدم في حديث أبي بصرة وابن عمر من أنكار السفر إلى الطور.
ويأتى بيانه، ثم قال الحافظ:
(وفي هذا الحديث فضيلة هذه المساجد، ومزيتها على غيرها لكونها مساجد الانبياء، ولان الأول، قبلة الناس، وإليه حجهم، والثاني كان قبلة الامم السالفة، والثالث أسس على التقوى. (قال:)
واختلف في شد الرحال إلى غيرها كالذهاب إلى زيارة الصالحين أحياء وأمواتا، وإلى المواضع الفاضلة، لقصد التبرك بها، والصلاة فيها، فقال الشيخ أبو محمد الجويني (1)(يحرم شد الرحال إلى غيرها عملا بظاهر الحديث)، وأشار القاضي حسين إلى اختياره، وبه قال عياض وطائفة، ويدل عليه ما رواه أصحاب السنن من إنكار أبي بصرة الغفاري على أبي هريرة خروجه إلى الطور، وقال له:(لو أدركتك قبل أن تخرج ما خرجت)، واستدل بهذا الحديث، فدل على أنه يرى حمل الحديث على عمومه، ووافقه أبو هريرة. والصحيح عند إمام الحرمين وغيره من الشافعية أنه لا يحرم، وأجابوا عن الحديث بأجوبة:
1 -
منها أن المراد أن الفضيلة التامة إنما هي شد الرحال إلى هذه المساجد بخلاف غيرها فإنه جائز، وقد وقع في رواية لاحمد سيأتي ذكرها بلفظ:(لا ينبغي للمطي أن تعمل) وهو لفظ ظاهر في غير التحريم.
(1) هو عبد الله بن يوسف شيخ الشافعية ووالد إمام الحرمين عبد الملك بن عبد الله، كان إماما في التفسير والفقه والادب. مات سنة (438).
2 -
ومنها أن النهي مخصوص بمن نذر على نفسه الصلاة في مسجد من سائر المساجد غير الثلاثة، فإنه لا يجب الوفاء به.
قاله ابن بطال.
3 -
ومنها أن المراد حكم المساجد فقط، وأنه لا تشد الرحال إلى مسجد من المساجد للصلاة فيه غير هذه الثلاثة، وأما قصد غير المساجد لزيارة صالح أو قريب أو صاحب، أو طلب عالم أو تجارة أو نزهة، فلا يدخل في النهي، ويؤيده ما روى أحمد من طريق شهر بن حوشب قال: سمعت أبا سعيد - وذكرت عنده الصلاة في الطور - فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا ينبغي للمطي أن تشد رحاله إلى مسجد تبتغى فيه الصلاة غير المسجد الحرام، والمسجد الاقصى، ومسجدي).
وشهر حسن الحديث، وإن كان فيه بعض الضعف).
قلت: لقد تساهل الحافظ رحمه الله تعالى في قوله في شهر أنه حسن الحديث.
مع أنه قال فيه في (التقريب): (كثير الاوهام) كما سبق، ومن المعلوم أن من كان كذلك فحديثه ضعيف لا يحتج به، كما قرره الحافظ نفسه في (شرح النخبة) ثم هب أنه حسن الحديث، فإنما يكون كذلك عند عدم المخالفة، أما وهو قدخالف جميع الرواة الذين رووا الحديث عن أبي سعيد، والاخرين الذين رووه عن غيره من الصحابة كما تقدم بيانه، فكيف يكون حسن الحديث مع هذه المخالفة!؟ بل هو منكر الحديث في مثل هذه الحالة، دون أي شك أو ريب.
أضف إلى ذلك أن قوله في الحديث (إلى مسجد) مما لم يثبت عن شهر نفسه فقد ذكرها عنه عبد الحميد ولم يذكرها عنه ليث بن أبي سليم، وهذه الرواية عنه أرجح لموافقتها لروايات الثقات كما عرفت.
وأيضا فإن المتأمل في حديثه يجد فيه دليلا آخر على بطلان ذكر هذه الزيادة فيه، وهو قوله: أن أبا سعيد الخدري احتج بالحديث على شهر لذهابه إلى الطور.
فلو كان فيه هذه الزيادة التي تخص حكمه بالمساجد دون سائر المواضع الفاضلة، لما جاز لابي سعيد رضي الله عنه أن يحتج به عليه، لان الطور ليس مسجدا.
وإنما هو الجبل المقدس الذي كلم الله تعالى موسى عليه، فلا يشمله الحديث لو كانت الزيادة ثابتة فيه.
ولكان استدلال أبي سعيد به والحالة هذه وهما، لا يعقل أن يسكت عنه شهر ومن كان معه.
فكل هذا يؤكد بطلان هذه الزيادة هـ وأنها لا أصل لها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
فثبت مما تقدم أنه لا دليل يخصص الحديث بالمساجد، فالواجب البقاء على عمومه الذي ذهب إليه أبو محمد الجويني ومن ذكر معه.
وهو الحق.
بقي علينا الجواب على جوابهم الأول والثاني، فأقول:
1 -
إن هذا الجواب ساقط من وجهين:
الأول: أن اللفظ الذي احتجوا به (لا ينبغي .. ) غير ثابث في الحديث لانه تفرد به شهر وهو ضعيف كما سبق بيانه.
الثاني: هب أنه لفظ ثابت، فلا نسلم أنه ظاهر في غير التحريم، بل العكس هو الصواب، والادلة على ذلك من الكتاب والسنة كثيرة، أجتزئ ببعضها:
أ - قوله تعالى: (قالوا: سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك أولياء)[الفرقان: 18]
ب - قوله صلى الله عليه وسلم: (لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار).
رواه أبو داود (2675) من حديث ابن مسعود، والدارمي (2/ 222) من حديث أبي هريرة.
ج - (لا ينبغي لصديق أن يكون لعانا).
رواه مسلم.
د - (إن الصدقة لا تنبغي لال محمد .. ).
رواه مسلم.
هـ - (لا ينبغي لعبد أن يقول: إنه خير من يونس بن متى).
رواه البخاري.
الثالث: هب أنه ظاهر في غير التحريم، فهو يدل على الكراهة، وهم لا يقولون بها، ففي (شرح مسلم) للنووي:(الصحيح عند أصحابنا أنه لا يحرم ولا يكره).!
فالحديث حجة عليهم على كل حال.
2 -
إن هذا الجواب كالذي قبله ساقط الاعتبار، لانه لا دليل على التخصيص، فالواجب البقاء على العموم لا سيما وقد تأيد بفهم الصحابة إلذين روا الحديث أبي بصرة، وأبي هريرة، وابي عمر، وأبي سعيد إن صح عنه - فقد استدلوا جميعا به على المنع من السفر إلى الطور، وهم أدرى بالمراد منه من غيرهم، ولذلك قال الصنعاني في (سبل السلام) (2/ 251):(وذهب الجمهور إلى أن ذلك غير محرم، واستدلوا بما لا ينهض، وتأولوا أحاديث الباب بتأويل بعيدة، ولا ينبغي التأويل إلا بعد أن ينهض على خلاف ما أولوه الدليل) زاد عقبه (فتح العلام)(1/ 310): (ولا دليل، والاحاديث الواردة في الحث على الزيارة النبوية وفضيلتها ليس فيها الامر بشد الرحل إليها، مع أنها كلها ضعاف أو موضوعات، لا يصلح شئ منها للاستدلال، ولم يتفطن أكثر الناس للفرق بين مسألة الزيارة وبين مسألة السفر إليها، فصرفوا حديث الباب عن منطوقه الواضح بلا دليل يدعو إليه).
قلت: وللغفة المشار إليها اتهم الشيخ السبكي عفا الله عنا وعنه شيخ الاسلام ابن تيمية بأنه ينكر زيارة القبر النبوي ولو بدون شد رحل، مع أنه كان من القائلين بها، والذاكرين لفضلها وآدابها، وقد أورد ذلك في غير ما كتاب من كتبه الطيبة (1) وقد تولى بيان هذه الحقيقة، ورد تهمة السبكي العلامة الحافظ محمد بن عبد الهادي في مؤلف كبير أسماه (الصارم المنكى في الرد على السبكي): نقل فيه عن ابن تيمية النصوص الكثيرة في جواز الزيارة بدون السفر إليها.
وأورد فيه الاحاديث الواردة في فضلها، وتكلم عليها مفصلا، وبين ما فيها من ضعف ووضع، وفيه فوائد أخرى كثيرة، فقهية وحديثية وتاريخية، حري بكل طالب علم أن يسعى إلى الاطلاع عليها.
(1) مثل كتابه (مناسك الحج)(3/ 390) من (مجموعة الرسائل الكبرى).
ثم إني النظر السليم يحكم بصحة قول من ذهب إلى أن الحديث على عمومه، لانه إذا كان بمنطوقه يمنع من السفر إلى مسجد غير المساجد الثلاثة، مع العلم بأن العبادة في أي مسجد أفضل منها في غير المسجد، وقال صلى الله عليه وسلم:(أحب البقاع إلى الله المساجد) حتى ولو كان ذلك المسجد هو المسجد الذي أسس على التقوى ألا وهو مسجد قباء الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة في مسجد قباء كعمرة)، إذا كان الامر كذلك فلان يمنع الحديث من السفر إلى غيرها من المواطن أولى وأحرى، لا سيما إذا كان المقصود إنما هو مسجد بني على قبر نبي أو صالح، من أجل الصلاة فيه والتعبد عنده.
وقد علمت لعن من فعل ذلك، فهل يعقل أن يسمح الشارع الحكيم بالسفر إلى مثل ذلك ويمنع من السفر إلى مسجد قباء!؟ والخلاصة: إن ما ذهب إليه أبو محمد الجويني الشافعي وغيره من تحريم السفر إلى غير المساجد الثلاثة من المواضع الفاضلة، هو الذي يجب المصير إليه، فلا جرم اختاره كبار العلماء المحققين المعروفين باستقلالهم في الفهم، وتعمقهم في الفقه عن الله ورسوله أمثال شيخي الاسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهم الله تعالى، فإن لهم البحوث والكثيرة النافعة في هذه المسألة الهامة، ومن هؤلاء الافاضل الشيخ ولي الله الدهلوي، ومن كلامه في ذلك ما قال في (الحجة البالغة) (1/ 192):(كان أهل الجاهلية يقصدون مواضع معظمة بزعمهم يزورونها ويتبركون بها، وفيه من التحريف والفساد ما لا يخفى، فسد صلى الله عليه وسلم الفساد، لئلا يلحق غير الشعائر بالشعائر، ولئلا يصير ذريعة لعبادة غير الله، والحق عندي أن القبر، ومحل عبادة ولي من الأولياء والطور كل ذلك سواء في النهي).
ومما يحسن التنبيه عليه في خاتمة هذا البحث أنه لا يدخل في النهي السفر للتجارة وطلب العلم، فإن السفر إنما هو لطلب تلك الحاجة حيث كانت لا لخصوص المكان، وكذلك السفر لزيارة الاخ في الله فإنه هو المقصود كما قال شيخ الاسلام ابن تيمية في (الفتاوي)(2/ 186).
12 -
إيقاد السرج عندها.
والدليل على ذلك غدة أمور:
أولا: كونه بدعة محدثة لا يعرفها السلف الصالح، وقد قال صلى الله عليه وسلم:(كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار).
رواه النسائي وأبن خزيمه في (صحيحه) بسند صحيح.
ثانيا: أن فيه إضاعة للمال وهو منهي عنه بالنص كما تقدم في المسألة (42 ص 64).
ثالثا: أن فيه تشبها بالمجوس عباد النار، قال ابن حجر الفقيه في (الزواجر) (1/ 134):(صرح أصحابنا بحرمة السراج على القبر وإن قل، حيث لم ينتفع به مقيم ولا زائر، وعللوه بالاسراف وإضاعة المال، والتشبه بالمجوس، فلا يبعد في هذا أن يكون كبيرة).
قلت: ولم يورد بالاضافة إلى ما ذكر من التعليل دليلنا الأول، مع أنه دليل وارد، بل لعله أقوى الادلة، لان الذين يوقدون السرج على القبور إنما يقصدون بذلك التقرب إلى الله تعالى - زعموا، ولا يقصدون الانارة على المقيم أو الزائر، بدليل إيقادهم إياها والشمس طالعة في رابغة النهار! فكان من أجل ذلك بدعة ضلالة.
فإن قيل: فلماذا لم تستدل بالحديث المشهور الذي رواه أصحاب السنن وغيرهم عن ابن عباس: (لعن الله زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج) وجوابي عليه: أن هذا الحديث مع شهرته ضعيف الاسناد، لا تقوم به حجة، وإن تساهل كثير من المصنفين فأوردوه في هذا الباب وسكتوا عن علته، كما فعل ابن حجر
في (الزواجر)، ومن قبله العلامة ابن القيم في (زاد المعاد)، واغتر به جماهير السلفيين وأهل الحديث فاحتجوا به في كتبهم ورسائلهم ومحاضراتهم.
وقد كنت انتقدت ابن القيم من أجل ذلك فيما كنت علقته على كتابه، وبينت علة الحديث مفصلا هناك، ثم في (سلسلة الاحاديث الضعيفة)(رقم 223)، ثم رأيث ابن القيم في (تهذيب السنن)(4/ 342) نقل عن عبد الحق الاشبيلي أن في سند الحديث باذام صاحب الكلبي وهو عندهم ضعيف جدا، وأقره ابن القيم، فالحمد لله على توفيقه.
وأما الجملة الأولى من الحديث فصحيحة لها شاهدان من حديث أبي هريرة وحسان ابن ثابت أوردتهما في المسألة (119 ص 185، 186).
وأما الجملة الثانية فهي صحيحة أيضا متواترة المعنى، وقد ذكرت في هذا الفصل في المسألة السابعة سبعة أحاديث صحيحة تشهد لها.
13 -
كسر عظامها.
والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: (إن كسر عظم المؤمن ميتا، مثل كسره حيا).
أخرجه أبو داود (2/ 69) وابن ماجه (1/ 492) والطحاوي في (المشكل)(2/ 108) وابن حبان في (صحيحه)(رقم 776 موارد) وابن الجارود في (المنتقى)(ص 551) والدارقطني في سننه (367) والبيهقي (4/ 58) وأحمد (6/ 58، 105، 168، 200، 264) واللفظ له، وأبو نعيم في (الحلية)(7/ 95) والخطيب في (تاريخ بغداد)(12/ 106، 13: 120) من طرق عن عمرة عنها.
قلت: وبعض طرقه صحيح على شرط مسلم، وقواه النووي في (المجموع)(5/ 300)، وقال ابن القطان:(سنده حسن) كما في (المرقاة)(2/ 380).
وله طريقان آخران عن عائشة رضي الله عنها.
الأول: عند أحمد (6/ 100): والاخر: عند الدارقطني (367).
وله شاهد من حديث أم سلمة.
أخرجه ابن ماجه (1) وزاد في آخره: (في الاثم).
لكن إسناده ضعيف، وهي عند الدارقطني في الحديث الأول في بعض طرقه من الوجه الأول.
لكن الظاهر أنها مدرجة في الحديث، فإن في رواية أخرى له بلفظ:(يعني في الاثم).
(1) وعزاه في (الامام) لمسلم ورد عليه كما في (فيض القدير) و (الامام) كتاب عظيم جدا في الاحكام لابن دقيق العيد، قال الذهبي:(ولو كمل تصنيفه وتبييضه لجاء في خمسة عشر مجلدا).
فهذا ظاهر في أن هذه الزياذة ليست من الحديث بل هي من تفسير بعض الرواة، ويؤيده رواية لاحمد بلفظ: (قال: يرون أنه في الاثم.
قال عبد الرزاق أظنه قول داود).
قلت: يعني داود بن قيس، وهو شيخ عبد الرزاق فيه.
ومن الظاهر أن هذا التفسير هو المراد من الحديث، وبه جزم الطحاوي وعقد له بابا خاصا في (مشكله)، فليراجعه من شاء.
والحديث دليل على تحريم كسر عظم الميت المؤمن، ولهذا جاء في كتب الحنابلة:(ويحرم قطع شئ من أطراف الميت، وإتلاف ذاته، وإحراقه، ولو أوصى به).
كذا في (كشاف القناع)(2/ 127)، ونحو ذلك في سائر المذاهب بل جزم ابن حجر الفقيه في (الزواجر)(1/ 134) بأنه من الكبائر، قال:(لما علمت من الحديث أنه ككسر عظم الحي)(1)
(1) وبالغت الحنابلة في ذلك حتى قالوا كما في (الكشاف)(2/ 130): (وإن ماتت حامل بمن يرجى حياته حرم شق بطنها من أجل الحمل، مسلمة كانت أو ذمية، لما فيه من هتك حرمة متيقنة، لابقاء حياة موهومة، لان الغالب والظاهر أن الولد لا يعيش، واحتج أحمد على ذلك في رواية أبي داود بما روت عائشة
…
).
قلت: ثم ذكر الحديث ونص أبي داود في (المسائل)(ص 150): (سمعت أحمد سئل عن المرأة تموت والولد يتحرك في بطنها أيشق عنها؟ قال: لا، كسر عظم الميت ككسره حيا).
وعلق عليه السيد محمد رشيد رضا فقال:
(والاستدلال به على ترك الجنين الحي في بطن أمه يموت مطلقا فيه غرابة من وجهين: أحدهما: أن شق البطن ليس فيه كسر عظم للميت.
وثانيهما: أن الجنين إذا كان تام الخلق، وأخرج من بطن أمه بشقه فإنه قد يعيش كما وقع مزارا، فههنا إنقاذه، وحفط حياته، مع حفظ كرامة أمه بناء على أن شق البطن ككسر العظم.
ولا شك أن الأول أرجج، على أن شق البطن بمثل هذا السبب لا يعد إهانة للميت كما هو ظاهر في عرف الناس كلهم. فالصواب قول من يوجب شق البطن وإخراجه إذا رجح الطبيب حياته بعد خروجه، وقد صرح بهذا بعضهم).
وقال في منار السبيل (1/ 178): وان خرج بعضه حيا شق للباقي لتيقن حياته بعد ان كانت متوهمة.
قلت: وما اختاره السيد رحمه الله تعالى هو الاصح عند الشافعية كما قال النووي (5/ 301) وعزاه لقول أبي حنيفة وأكثر الفقهاء، وهو مذهب ابن حزم (5/ 166 - 167) وهو الحق إن شاء الله تعالى.
ويستفاد من الحديث:
1 -
حرمة نبش قبر المسلم لما فيه من تعريض عظامه للكسر، ولذلك كان بعض السلف يتحرج من أن يحفر له في مقبرة يكثر الدفن فيها، قال الامام الشافعي في (الأم) (1/ 245):
(أخبرنا مالك عن هشام بن عروة عن أبيه قال: ما أحب أن أدفن بالبقيع! لان أدفن في غيره أحب ألي، إنما هو أحد رجلين، إما ظالم، فلا أحب أن أكون في جواره، وإما صالح فلا أحب أن ينبش في عظامه، قال: وإن أخرجت عظام ميت أحببت أن تعاد فتدفن).
وقال النووي في (المجموع)(5/ 303) ما مختصره:
(ولا يجوز نبش القبر لغير سبب شرعي باتفاق الاصحاب، ويجوز بالاسباب الشرعية كنحو ما سبق (في المسألة 109)، ومختصره: أنه يجوز نبش القبر إذا بلى الميت وصار ترابا، وحينئذ يجوز دفن غيره فيه.
ويجوز زرع تلك الارض وبناؤها، وسائر وجوه الانتفاع والتصرف فيها باتفاق الاصحاب، وهذا كله إذا لم يبق للميت أثر من عظم وغيره، ويختلف ذلك باختلاف البلاد والارض. ويعتمد فيه قول أهل الخبرة بها)
قلت: ومنه تعلم تحريم ما ترتكبه بعض الحكومات الاسلامية من درس بعض المقابر الاسلامية ونبشها من أجل التنظيم العمراني، دون أي مبالاة بحرمتها، أو اهتمام بالنهي عن وطئها وكسر عظامها ونحو ذلك. ولا يتوهمن أحد، أن التنظيم المشار إليه يبرر مثل هذه المخالفات، كلا، فإنه ليس من الضروريات، وإنما هي من الكماليات التي لا يجوز بمثلها إلاعتداء على الاموات، فعلى الاحياء أن ينظموا أمورهم، دون أن يؤذوا موتاهم.
ومن العجائب التي تلفت النظر، أن ترى هذه الحكومات تحترم الاحجار والابنية القائمة على بعض الموتى أكثر من احترامها للاموات أنفسهم. فإنه لو وقف في طريق التنظيم المزعوم بعض هذه الابنية من القباب أو الكنائس ونحوها تركتها على حالها، وعدلت من أجلها خارطة التنظيم إبقاء عليها، لانهم يعتبرونها من الاثار القديمة!
وأما قبور الموتى أنفسهم فلا تستحق عندهم ذلك التعديل! بل إن بعض تلك الحكومات لتسعى فيما علمنا - إلى جعل القبور خارج البلدة، والمنع من الدفن في القبور القديمة - وهذه مخالفة أخرى في نظري، لانها تفوت على المسلمين سنة زيارة القبور، لانه ليس من السهل على عامة الناس أن يقطع المسافات الطويلة حتى يتمكن من الوصول إليها، ويقوم بزيارتها والدعاء لها! والحامل على هذه المخالفات - فيما أعتقد - إنما هو التقليد الاعمى لأوروبا المادية الكافرة، التي تريد أن تقضي على كل مظهر من مظاهر الايمان بالاخرة، وكل ما يذكر بها، وليس هو مراعاة القواعد الصحية كما يزعمون، ولو كان ذلك صحيحا لبادروا إلى محاربة الاسباب التي لا يشك عاقل في ضررها مثل بيع الخمور وشربها، والفسق والفجور على اختلاف اشكاله وأسمائه، فعدم اهتمامهم بالقضاء على هذه المفاسد الظاهرة، وسعيهم إلى إزالة كل ما يذكر بالاخرة وإبعادها عن أعينهم أكبر دليل على أن القصد خلاف ما يزعمون ويعلنون، وما تكنه صدورهم أكبر.
2 -
أنه لا حرمة لعظام غير المؤمنين، لاضافة العظم إلى المؤمن في قوله:(عظم المؤمن)، فأفاد أن عظم الكافر ليس كذلك، وقد أشار إلى هذا المعنى الحافظ في (الفتح) بقوله:(يستفاد منه أن حرمة المؤمن بعد موته باقية كما كانت في حياته)(1) ومن ذلك يعرف الجواب عن السؤال الذي يتردد على ألسنة كثير من الطلاب في كليات الطب، وهو: هل يجوز كسر العظام لفحصها وإجراء التحريات الطبية فيها؟ والجواب: لا يجوز ذلك في عظام المؤمن، ويجوز في غيرها، ويؤيده ما يأتي في المسألة التالية:
129 -
ويجوز نبش قبور الكفار، لانه لا حرمة لها كما دل عليه مفهوم الحديث السابق، ويشهد له حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال:
(1) ذكره في (الفيض)(4/ 551).
(قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فنزل أعلى المدينة في حي يقال لهم: بنو عمرو بن عوف، فآنام فيهم أربع عشرة ليلة، ثم أرسل إلى بني النجار فجاؤوا متقلدي السيوف كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم على راحلته وأبو بكر ردفه، وملا من بني النجار حوله، حتى أتى بفناء أبي أيوب، وكان يحب أن يصلي حيث أدركته الصلاة، ويصلي في مرابض الغنم، وكان أمر ببناء المسجد، فأرسل إلى ملا من بنى النجار، فقال: يا بني النجار ثامنوني بحائطكم هذا، قالوا: لا والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله، قال: فكان فيه قبور المشركين، وخرب ونخل، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقبور المشركين فنبشت، ثم بالحرب فسويت، وبالنخل فقطع فصفوا النخل قبلة المسجد، وجعل عضاديته الحجارة، وجعلوا ينقلون الصخر وهم يرتجزون، والنبي صلى الله عليه وسلم معهم، وهو يقول، [وهو ينقل اللبن:
هذا الِحمال (1) لا حمال خيبر * هذا أبر ربنا وأطهر]
اللهم لا خير إلا خير الآخرة * فاغفر للأنصار والمهاجرة.
وفي رواية من حديث عائشة رضي الله عنها:
اللهم إن الأجر أجر الآخرة * فارحم الأنصار والمهاجرة).
أخرجه الشيخان وغيرهما من حديث أنس، والسياق له، والبخاري من حديث عائشة، وما بين القوسين من حديثها، وقد أخرجت الحديثين في (الثمر المستطاب).
قال الحافظ في (الفتح):
(وفي الحديث جواز التصرف في المقبرة المملوكة بالهبة والبيع، وجواز نبش القبور الدارسة إذا لم تكن محترمة، وجواز الصلاة في مقابر المشركين بعد نبشها وإخراج ما فيها وجواز بناء المساجد في أماكنها).
(1) بالكسر من الحمل، والذي يحمل من خبير التمر، أي أن هذا في الاخرة أفضل من ذاك وأحمد عاقبة، كأنه جمع حمل (بكسر الميم) أو حمل (بفتح الميم)، ويجوز أن يكون مصدر حمل أو حامل، كما في (النهاية).
وهذا آخر ما وفق الله تعالى لجمعه من (أحكام الجنائز)، وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك).
دمشق 1/ 7 / 1373
وانتهى تبيضه ظهر الأحد 19/ 4 / 1382 (1) والحمد الله رب العالمين
(1) وجرت المباشرة بطبعه عام 1385 ولكن قدر الله توقف الطبع في إحدى مطابع المكتب الاسلامي مدة ثلاث سنوات وانتهى طبعه في شعبان سنة 1388، والله اسأل ان يكتب السداد والتوفيق لهذا المكتب وصاحبه.