المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (17)

- ‌المحرم - 1332ه

- ‌فاتحة السنة السابعة عشرة

- ‌كتاب مدارج السالكينبين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

- ‌إسلام اللورد هدليوما قاله وكتبه في سببه

- ‌تاريخ الجهمية والمعتزلة [*]

- ‌الباب الأول من كتاب الاعتصام [*]

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة [*]

- ‌الشيخ علي يوسف(3)

- ‌الجامعة الإسلامية والسياسية

- ‌انتقاد أجوبة المنارلمن سأل عن حكم الحج

- ‌صفر - 1332ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌ كتاب مدارج السالكينبين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

- ‌الرد المتين علىمفتريات المبشرين [*]

- ‌مقام عيسىيسوع المسيح عليه السلامفي النصرانية والإسلام

- ‌مطامع الدول فينا [*]

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌الأخبار والآراء

- ‌ربيع أول - 1332ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌ فتاوى المنار

- ‌ الانتقاد على المنار

- ‌الإسلام يقاوم نفوذ النصرانية [*]

- ‌اعتقاد الشيخية [*]

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة [*]

- ‌الإصلاح اللامركزيوطلابه في البلاد العربية

- ‌الشيخ علي يوسف(4)

- ‌ربيع الآخر - 1332ه

- ‌استفتاءفي فسخ نكاح المعسر

- ‌محاضرة الدكتور كريستيان سنوك هرغرنجالهولندي في الإسلام ومستقبل المسلمين

- ‌الباطنية وغلاة المتصوفة..بدعهم وتأويلاتهم

- ‌ كتاب (مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين)

- ‌أفضل الوسائل لإنهاض السلطنة

- ‌عبد العزيز بك علي المصري

- ‌التعصب على المنار

- ‌المسألتان الشرقية والصهيونية

- ‌السيدة نُعْمَى آل رضا

- ‌جمادى الأولى - 1332ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌حقيقة الإعجاز [*]

- ‌الرضا بقضاء الله تعالى وقدره

- ‌القول السديدفي بعض مسائل الاجتهاد والتقليد [*]

- ‌الصهيونية

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة [*]

- ‌مستقبل الدولة العثمانية وطلاب الإصلاح من العرب

- ‌جمادى الآخر - 1332ه

- ‌تلقين الميت

- ‌القول السديدفي بعض مسائل الاجتهاد والتقليد

- ‌ كتاب(مدارج السالكين بين منازلإياك نعبد وإياك نستعين)

- ‌تشريف أمير البلادمدرسة دار الدعوة والإرشاد

- ‌مصاب مصر والشامبرجال العلم وحملة الأقلام

- ‌محاربة متعصبي القبط وغيرهم للمنار

- ‌رجب - 1332ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌الدين والتدين والإلحاد والتعطيل

- ‌نموذج من إنشاء طلبةدار الدعوة والإرشاد

- ‌مصاب مصر والشامبرجال العلم وحملة الأقلام

- ‌شعبان - 1332ه

- ‌وجوب تعلم العربيةعلى كل مسلم

- ‌ترجمة الإمام الشاطبي

- ‌الجنسيات في المملكة العثمانية(2)

- ‌مصاب مصر والشامبرجال العلم وحملة الأقلام

- ‌رمضان - 1332ه

- ‌تفسير] لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ [[*]

- ‌السبي والرق في التوراة والإنجيل

- ‌أقوال علماء القرن الثالث الأثباتفي عقيدة السلف وإثبات الصفات(1)

- ‌الطامة الصغرى أو الحرب الكبرى

- ‌من كتاب الاعتصام في الابتداع

- ‌البروغرام الصهيوني السياسي

- ‌المراسلة والمناظرة

- ‌الحرب الأوربيةوالدولة العثمانية

- ‌شوال - 1332ه

- ‌علم الله بصفاتهالرضاع من الجدة

- ‌كلمات الاستقلالوالاعتماد على النفس والاجتهاد

- ‌شعر منثور في العربية والعرب

- ‌التعريف بكتاب الاعتصام

- ‌ترجمة الإمام الشاطبي

- ‌دخول الابتداع في العاديات [*]

- ‌أقوال علماء السلف الأثباتفي عقيدة السلف وإثبات الصفات(2)

- ‌المراسلة والمناظرة

- ‌جيوش الدول المتحاربة

- ‌منع المنار من السودان

- ‌ذو القعدة - 1332ه

- ‌صفات البارئ تعالى

- ‌فتاوى المنار

- ‌الامتيازاتوالشريعة الإسلامية [*]

- ‌تاريخ إعلان الدول الحرب

- ‌ذو الحجة - 1332ه

- ‌الحرب المدنية الكبرى

- ‌إلغاء الامتيازات الأجنبيةوالحذر من الفتن الأهلية

- ‌كيف دخلتالدولة العثمانية في الحرب

- ‌خاتمة السنة السابعة عشرة

الفصل: ‌صفر - 1332ه

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فاتحة السنة السابعة عشرة

بسم الله الرحمن الرحيم

{قُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} (النمل:59) ، {وَقُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا

تَعْمَلُونَ} (النمل: 93) ، {فَلِلَّهِ الحَمْدُ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ

العَالَمِينَ * وَلَهُ الكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} (الجاثية:

36-

37) .

فنحمده بما حمد به نفسه، ونصلي ونسلم على خاتم أنبيائه ورسله، وصفوته

من بني آدم الذين فضلهم على كثير من خلقه، محمد النبي الأمي، العربي

الحجازي، الذي أرسله رحمة للعالمين، وأتم به نعمته في الدنيا والدين، وآله

الطيبين الطاهرين، وصحبه الهادين المهديين، والتابعين لهم في هدايتهم وهديهم

إلى يوم الدين.

وبعد فإننا نُذَكِّرُ قُرَّاءَ المنار على رأس سنته السابعة عشرة بنحو ما ذكَّرناهم

في السنين الخالية، من سوء عاقبة الإفراط والتفريط اللذين رُزِئَتْ بهما أمتهم

الجاهلة الغافلة: الإفراط في عبادة الهوى واتباع الشهوات، والانهماك في الفواحش

والمنكرات، والمحافظة على البدع وسيئ العادات. والتفريط في حقوق الله وحقوق

الأمة، وما يجب من التزام هدي الكتاب والسنة، ومجاراة الأمم بما يستطاع من

حول وقوة، ولا سيّما قوة الاعتصام والوحدة، وقوة العلم والمعرفة، وقوة الكسب

والثروة.

ثم نذكرهم بتلك الآيات والعبر، وهاتيك المواعظ والنذر، وبما يُفتنون به في

كل عام، وما تسلب من ملكهم الأمم والأقوام، وبيان سنن الله تعالى في الظالمين

والمسرفين، {وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إلَاّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} (الأنعام: 4) ، {قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ

عَنْ قَوْمٍ لَاّ يُؤْمِنُونَ} (يونس: 101)[1] ، {فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلَاّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ

خَلَوْا مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ المُنتَظِرِينَ} (يونس: 102) .

سبحان الله! إن من العقلاء من يتعظ بالعبارة، ومنهم من يكتفي بما توحيه

إليه الإشارة، وإنهم ليستنبطون من وقائع الأحوال ما يستعدون به لما ينتظر في

الاستقبال، ولو على سبيل الفرض والاحتمال، وإن الأمم أشد من الأفراد احتياطًا،

وأخفى حيلة وأدق استنباطًا، وأوسع في المستقبل آمالاً، وأكثر استعدادًا له وأعمالاً؛

لأنها أطول أعمارًا، وأشد قوة واقتدارًا، وأكثر أعوانًا وأنصارًا، فما بال أمتنا لا

تتعظ بكلام الله ولا بكلام البشر، ولا تعتبر بما تشاهده من الأحداث والعبر، وكلما

أنذرها الله بطشته تتمارى بالنُّذُر؛ {وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّنَ الأَنبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ

بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} (القمر: 4-5) ، {قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ

الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ} (الأنبياء: 45) .

تركت هذه الأمة هداية القرآن، ففاتها ما كانت نالت به من الملك والسلطان،

والعلم والعرفان، والبسطة في العمران، وأمست غافلة عن سبب ذلك التوفيق وهذا

الخذلان؛ بل أتى عليها أحقاب من الزمان، لا تشعر بكنه هذا الخسران، وقد

استيقظ فيها الشعور بما فسد من أمر دنياها، قبل الشعور بما كان سببًا له من فساد

أمر دينها، وبما خسرت من سلطانها وأملاكها، قبل الشعور بما خسرت من أخلاقها

وملكاتها. ولما شعرت بالخطر على حياتها المادية والسياسية، غافلة عن عللها

الروحية وأسبابها المعنوية، شرعت في شيء من الإصلاح الصوري، بدون أن

تؤديه بروح الإصلاح المعنوي، فعُدَّ السلطان محمود مصلحًا بتغيير الزي الرسمي

ونظام الجندية، والسلطان عبد المجيد مصلحًا بإعلان التنظيمات الخيرية،

والسلطان عبد الحميد مصلحًا بإنشاء نظارة العدلية، ومصطفى رشيد باشا مصلحًا

بإدخال الدولة العثمانية في سلك الدول الأوروبية، ومدحت باشا وأعوانه مصلحين

باقتباس القوانين الغريبة الغربية، ومحمد علي باشا وأحفاده مصلحين بِفَرْنَجَةِ البلاد

المصرية، والأمير عبد الرحمن خان مصلحًا بالتأليف بين القبائل الأفغانية. ولم

تتوجه همة أحد إلى إصلاح الأخلاق والعادات، وإزالة البدع والمنكرات، وجمع

الكلمة التي فرقتها المذاهب واللغات، فما زاد الأمة ذلك الإصلاح الصوري إلا

ضروبًا من الفساد، ولا أفاد الدولة إلا إضعاف الاستقلال وإضاعة البلاد، {بَلْ

مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ العُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ

أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الغَالِبُونَ} (الأنبياء: 44) .

لا أقول إن جميع ما قام به أولئك الرجال لم يكن مطلوبًا، ولا أقول إن

ضرره وما ترتب عليه من الفساد كان ذاتيًّا؛ بل أقول: إن أكثره كان ضروريًّا،

ولكنه لم يكن علاجًا لهذه الأمة من طبيب اجتماعي، عَرَف من أمراضها الظاهري

والباطني فوصف لها من الدواء ما يزيل العلة، ويحفظ البنية، ويقوي المنة، لذلك

رأيناها بعد هذه المعالجات لم تزدد إلا مرضًا، حتى كادت تكون حرضًا، ازدادت

ذلاًّ وفقرًا، وتفرقًا وضعفًا، وفسادًا في الأخلاق، وإسرافًا في النفاق، وكان ما

أُدخل فيها من علوم الأمم القوية وقوانينها وآدابها، كالجسم الغريب الذي يدخل في

البنية فيفسد مزاجها؛ لأنه لم يكن على حسب استعدادها وحاجها؛ بل كان تقليدًا

صوريًّا، أو عارضًا وقتيًّا؛ فمنه ما كان ضارًّا، ومنه ما كان نافعًا؛ فأما الضارّ

فأكبر ضرره التقاليد والقوانين الإفرنجية، التي قطعت كثيرًا من روابط الأمة المِلِّيَّة،

وأزالت ما أزالت من مقوّماتها ومشخصاتها الاجتماعية والأدبية، ولم تستبدل بها

ما يحل محلها من مقومات الأمم الأوروبية؛ بل صارت عيالاً عليهم في جميع

الشؤون، حتى انتهى ذلك إلى هذا الفتون، بأن فقدت الاستقلال، باسم النفوذ أو

الحماية أو الاحتلال، {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (الأنعام: 129) ، {ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} (الأنعام: 131) ، {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} (الأنعام: 132) .

وأما ما كان نافعًا من تلك الأعمال التي وسمت بسمة الإصلاح، فإنما كان

نفعه موضعيًّا، وعارضًا لا دائمًا، فكان كمداواة بعض أعراض الزهري (الداء

الإفرنجي) الظاهرة بما يزيلها، مع بقاء العلة في الباطن (كتسمم الدم) تصدر

عنها آثارها، فما زال منه بالمعالجة الموضعية اليوم، يظهر ما هو شر منه

وأعصى على العلاج في الغد (كلما داويت جرحًا سال جرح) ذلك مثل ما كان

في الدولة العثمانية، وهي أكبر مظاهر السلطة في الأمة الإسلامية، وخير منه ما

قام به الأمير عبد الرحمن، من جمع كلمة قبائل الأفغان، وتدريبها على القتال،

الذي يحفظ به الاستقلال، وكذا ما قام به الأمير محمد علي في مصر، فإنه بنى

ركني الثروة والقوة على أساس العلم، ولو أتم أحفاده ما بدأ به ببناء ركني الأخلاق

والآداب، على أساس الدين وسنن الاجتماع، لَتَمَّ لهم تكوين الأمة، ولاستقام لهم

بالأمة أمر الدولة، فهذا العصر عصر الأمم والشعوب، لا عصر الأمراء والملوك،

ولكن جميع أقيال المسلمين، كانوا - ولا يزالون - عن هذا غافلين، {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا

فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} (فاطر: 44) ، {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا

مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ} (غافر: 21) ، {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن

قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ

رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (الروم: 9) .

نعم، إنهم لم يسيروا في الأرض، لأجل الاعتبار بسنن الله في الكون،

فينظروا في سوء عاقبة الأمم الجاهلة النائمة، ومصير الدول المستبدة الظالمة،

وحسن عاقبة الأمم العالمة العاملة، وسيادة الدول المنظمة العادلة، وكيف أن

إصلاح الأرض وعمران الدور، لا يغني عن إصلاح الأخلاق وارتقاء الجمهور،

ولو ساروا لما نظروا، ولو نظروا لَمَا أبصروا، ولو أبصروا لَمَا اعتبروا، {أَفَلَمْ

يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى

الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: 46) ، وأي عمى أشد

من عمى الاستبداد؟ وهو مصدر كل فساد وأصفاد، حتى إنه يفسد الطباع، ويغير

الأوضاع، ويقطع رابطة الزوجية، ويزيل عاطفة الأبوة والبنوة، فيغري الولد

بقتل والده، والوالد بقتل ولده، وكيف يؤمن على حياة أمته، من لا يكبر عليه قتل

والده أو ولده؛ إذا هو نازعه في سلطته، أو عارضه في إرادته؟ فانتظار الأمم أن

يكون صلاحها ورشادها ممن لا حظَّ لهم من حياتهم إلا استذلالها واستعبادها، اتباعًا

لترفهم ونعيمهم، وافتتانًا بإطرائهم وتعظيمهم، يشبه طلب العلم من الجاهلين،

والتماس الهدى من الضالين {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ القُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ

الفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلَاّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا

فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود: 116- 117) .

ألا إنه لا بقاء مع ظلم وفساد، ولا عدل مع استبداد، ولا هلاك مع إصلاح،

ولا إصلاح للدولة إلا بصلاح الأمة، ولا صلاح لأمة إلا إذا كان فيها بقية من

أولي الرأي والعزم، يأمرون بالصلاح وينهون عن الفساد في الأرض، ولا تأثير

للأمر والنهي إلا بإجماع الأمر وإحكام الرأي، ولا يفيد الإحكام والإجماع، إلا مع

مراعاة سنن الاجتماع، لاختلاف استعداد الأقوام، باختلاف أحوال الزمان والمكان،

وزماننا هذا هو زمان الجماعات العلمية والأدبية والسياسية، والشركات الزراعية

والصناعية والتجارية، فحظ الأفراد الكثيرين من معنى الأمة، على قدر حظهم من

إقامة هذه الأركان الستة، ولا ينبغي أن يطلق هذا اللفظ، على من لا نصيب لهم

منها ولا حظَّ، إلا على سبيل التجوز في القول، كما يطلق اسم الشيء على صورة

الشيء، ومتى ملكت الأمة بالجمعيات أمورها المعنوية، وبالشركات أمورها المادية،

كانت جديرة بأن تقوم أمر حكومتها، وتقيمها على صراط شريعتها، لهذا كان

همنا منذ سنة المنار الأولى، أن نذكر أهل العلم والرأي من المسلمين بهذه الطريقة

المثلى؛ اهتداء بقوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى} (الأعلى: 9-10) وليس بعد إقامة حجة الله في الورى، إلا فلاح من اتبع الهدى،

وهلاك من آثر الهوى، {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ

عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (الجاثية: 23) .

ألا وإن أمر التربية والتعليم هو أهم ما يجب أن يوكل إلى الجماعات، ولا

يجوز أن يترك إلى الأفراد ولا إلى الحكومات؛ لأن المدارس للأفراد دكاكين لكسب

المال، وللحكومات معامل لسبك العُمَّال، فكل من الفريقين يتوخى في التعليم منفعته

الخاصة، وإن باينت مصلحة الأمة العامة، وإنما تطلب الحكومة عمالاً لها كالآلات،

لا إرادة لهم ولا رأي ولا استقلال، والأفراد يتبعون سننها ويسيرون على طريقها،

وإنما ربح تجارتهم برواج بضاعتهم في سوقها، وشر من ذلك ما ابتلي به

جماهير المسلمين، من ترك تربيتهم النفسية والعقلية إلى خصومهم في السياسة

والدين فكانوا بهذا الخزي من الأخسرين، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم

يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، فأنى تصلح أمة تركت تجديدها وتكوينها، إلى من

لا همَّ لهم إلا إزالة ملكها ودينها؟ ! كلا؛ إنها كرّة خاسرة، يخسرون بها الدنيا

والآخرة {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَاّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ

أَعْيُنٌ لَاّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَاّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ أُوْلَئِكَ

هُمُ الغَافِلُونَ} (الأعراف: 179) .

الأمم تصلح بالتربية ونحن قد أفسدنا المربون - الإفرنج والمتفرنجون -

وترتقي بالعلم ونحن قد دلَاّنا العلماء المقلدون المفتونون، وتقوى وتعتز بجمع

المدارس لكلمتها، ونحن قد أوهنتنا وشقَّت عصانا المدارس؛ لأنها إما معاهد

سياسية وإلحاد، وإما أديار وكنائس، قد قطعت روابط الأمة الدينية والمدنية،

وفتنتها بالأهواء والشهوات الحيوانية، وسرى سم تقليدها إلى المدارس الأميرية

والأهلية، فالمتخرجون فيها أقلهم الذين يسلمون، ومنهم الملحدون وأكثرهم

الفاسقون، يجرفون ثروة الأمة إلى الأجانب، ويقذفونها بالفجور والنفوذ الأجنبي

من كل جانب، ويتغلبون فيها على المناصب فينالون منها جميع المآرب، يحقرون

لها سلفها، ويعظمون في نفسها كل ما هو أجنبي عنها، فيقطعون جميع روابطها

المِلِّيَّة، ويزينون لها ذلك باسم المدنية، فهم المنافذ والكوى التي يدخل منها الفساد،

وهم الآلات التي يستعين بها الأجانب على إدارة أمر البلاد؛ لأنهم تربية مدارسهم،

بل صنع معاملهم، أو الجيش السلمي لثكناتهم، ولا يتم لهم ما يسمونه الفتح السلمي

بدونهم، ولأجل هذا ربوهم هذه التربية المذبذبة، وحشوا مخيلاتهم بمسائل

العلوم المضطربة، فلا هم صاروا بها أوربيين، ولا ظلوا مسلمين أو شرقيين،

ولكنهم لغرورهم باسم المدنية الإفرنجية يفسدون على الأمة أمرها، ويزعمون أنهم

هم المصلحون لشأنها، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ

مُصْلِحُونَ * ألَا إِنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِن لَاّ يَشْعُرُونَ} (البقرة: 11-12) .

هكذا ذفف على جرح هذه الأمة من جعلوا أنفسهم أُساة لها وأطباء، فكان أقتل

أدوائها ما عالجوها به من الدواء، ومن كان له عقل وبصيرة، فليتدبر ما تقوله

فيهم كتب الإفرنج وصحفهم الشهيرة [2] ومن أهمه ما نقلته مجلة العالم الإسلامي

الفرنسية، عن مجلة العالم الإسلامي الإنكليزية، في سياق الكلام على فتح العالم

الإسلامي (الذي نشرناه في ص 516 م15) وهذا نصه: (اتفقت آراء سفراء

الدول الكبرى في عاصمة السلطنة العثمانية على أن معاهد التعليم الثانوية التي

أسسها الأوربيون كان لها تأثير في حل المسألة الشرقية يرجح على تأثير العمل

المشترك الذي قامت به دول أوربة كلها) ! ! فإذا لم يكن للمسلمين مدارس مِلِّيَّة،

تديرها حكومة أو جماعات إسلامية، فتربيهم على ما يجمعون به مصالحهم الدينية

والدنيوية، وإذا كانوا لا يعرفون للتعليم غاية إلا المنفعة الشخصية، وما يتخيلون من

المنافع الخسيسة المادِّية، فإن أوربة تعرف كيف تنشئهم في مدارسها ومدارسهم

خلقًا جديدًا، يكونون بها على توهُّم الحرية خدما لها وعبيدًا، فهم مقادون من أمامهم،

ومسوقون من ورائهم، ولكن لا يدرون كيف بدؤوا ولا أين ينتهون {أَمْوَاتٌ غَيْرُ

أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} (النحل: 21) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا

بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لَا يَألُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا

تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} (آل عمران: 118) .

ألا إننا في أشد الحاجة إلى الصناعات الإفرنجية، وما تتوقف عليه من العلوم

والفنون العملية، وإلى الاعتبار بتاريخهم، وأطوار حكوماتهم وجماعاتهم، ولكن

يجب أن يقوم باقتباس ذلك جماعات منا، يجمعون بينه وبين حفظ مقوماتنا

ومشخصاتنا، وأركانها: اللغة والدين والشريعة والآداب [3] ، فمن فقد شيئًا من هذه

الأشياء فقد فقد جزءًا من نفسه، لا يمكن أن يستغني عنه بمثله من غيره، كما أنه

لا يستغني بعقل غيره عن عقله، ولا بجسم سواه عن جسمه، وإنما نستفيد من

العبرة بحالهم، كيف نرقي لغتنا كما رقوا، وكيف ننشر ديننا كما ينشرون دينهم،

وكيف نسهل طرق العمل بشريعتنا وآدابنا كما سهلوا طرق شرائعهم وآدابهم، ولنا

أن نستعين على ما نستمده منهم، بأهل الفضيلة والاستقلال من رجالهم، الذين ليس

لهم فينا أهواء دينية، ولا مطامع سياسية استعمارية، وبهذا نكون مهتدين بما أمرنا

الله به من السير في الأرض، والاعتبار بأحوال وبسنة سلفنا، في جعل الحكمة

ضالّتنا، واعتقاد أنها حيث وجدت فنحن أحق بها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ

وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ

تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَاّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ

العِقَابِ * وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ

فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا

تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (الأنفال: 24-27) .

الدعوة إلى انتقاد المنار

أمر الله تعالى بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر، وبالأمر بالمعروف

والنهي عن المنكر، ونهى عن الغِيبَةِ وتوعد المغتاب ومن يحب شيوع الفاحشة،

وأوعد الهُمَزَة اللُّمَزَة، بالويل الشديد والحطمة، فنحن نذكر كل من يطلع على

منارنا هذا بأمر الله ونهيه، ووعده ووعيده، وندعو من رأى فيه خطأ أن يذكرنا به

قولاً أو كتابة، مبينًا ذلك بالدليل والبرهان، لا بقول فلان ورأي فلان، مع أدب

العبارة، والاكتفاء منها بقدر الحاجة، ونحن ننشر - إن شاء الله تعالى - كل ما

يكتب إلينا، سواء كان لنا أو علينا، إذا التزم الكاتب ما شرطنا، ثم نبين ما عندنا فيه

من قبول وإذعان، أو ردّ أدبي مؤيَّد بالبرهان، وليعلم كل عاقل منصف أن من

يخطِّئنا ولا يكتب إلينا، فهو لا ثقة بعلمه ولا بدينه ولا بما يقوله فينا، وأنه

حاسد أو مدَّعٍ كذاب، وإلى الله المرجع والمآب، وهو سريع الحساب.

...

منشئ المنار ومحرره

...

...

...

محمد رشيد رضا الحسيني

_________

(1)

أي: لا يصدقون بما تدل عليه الآيات وما تخوفهم به النذر والمواعظ لجهلهم وعدم تدبرهم.

(2)

ومنها ما كتبه لورد كرومر في كتابه (مصر الحديثة) في سوء حال المتفرنجين.

(3)

هذا التقسيم بحسب عرف العصر والشريعة عند المسلمين بمعنى الدين، والمراد بها هنا أحكام المعاملات من السياسة والقضاء والإدارة والحرب، وهي موضع اجتهاد أولي الأمر في الدين الإسلامي، والآداب الإسلامية منبعها الدين وهي أعلى من آداب الإفرنج وأكمل.

ص: 1

الكاتب: ابن القيم الجوزية

‌كتاب مدارج السالكين

بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

هذا الكتاب للإمام الحافظ المحقق ابن قيم الجوزية، شرح فيه كتاب (منازل

السائرين) في التصوف لشيخ الإسلام أبي إسماعيل الهروي - شرحًا بيَّن فيه

غوامضه، وفصل بين ما يوافق الكتاب والسنة وما يخالفهما منه، فهو أفضل كتب

التصوف وأنفعها، وهو يطبع الآن في مطبعة المنار، وقد أوشك أن يتم طبع

الجزء الأول منه، وقد رأينا أن ننشر هذا الفصل منه تعجيلاً بالفائدة لقراء المنار،

ولشدة الحاجة إليه.

قال المصنف - رحمه الله تعالى - في سياق بيان أنواع الكفر:

فصل

وأما الشرك فهو نوعان: أكبر وأصغر. فالأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة منه،

وهو أن يتخذ من دون الله ندًّا يحبه كما يحب الله، وهو الشرك الذي تضمن تسوية

آلهة المشركين برب العالمين. ولهذا قالوا لآلهتهم في النار: {تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي

ضَلالٍ مُّبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ العَالَمِينَ} (الشعراء: 97-98) ، مع إقرارهم

بأن الله وحده خالق كل شيء وربه ومليكه، وأن آلهتهم لا تخلق ولا ترزق ولا

تحيي ولا تميت. وإنما كانت هذه التسوية في المحبة والتعظيم والعبادة كما هو حال

أكثر مشركي العالم، بل كلهم يحبون معبوديهم ويعظمونها ويوالونها من دون الله.

وكثير منهم - بل أكثرهم - يحبون آلهتهم أعظم من محبة الله، ويستبشرون

بذكرهم أعظم من استبشارهم إذا ذكر الله وحده، ويغضبون لمنتقص معبوديهم وآلهتهم

من المشايخ أعظم مما يغضبون إذا انتقص أحد رب العالمين، وإذا انتهكت حرمة من

حرمات آلهتهم ومعبوديهم غضبوا غضب الليث إذا حرد، وإذا انتهكت حرمات الله لم

يغضبوا لها؛ بل إذا قام المنتهك لها بإطعامهم شيئًا رضوا عنه ولم تتنكر له قلوبهم

. وقد شاهدنا هذا - نحن وغيرنا - منهم جهرة، وترى أحدهم قد اتخذ ذكر إلهه

ومعبوده من دون الله على لسانه إن أقام وإن قعد وإن عثر وإن مرض وإن استوحى [1]

فذكر إلهه ومعبوده من دون الله هو الغالب على قلبه ولسانه، وهو لا ينكر ذلك،

ويزعم أنه باب حاجته إلى الله وشفيعه عنده ووسيلته إليه - وهكذا كان عباد

الأصنام سواء - وهذا القدر هو الذي قام بقلوبهم، وتوارثه المشركون بحسب

اختلاف آلهتهم، فأولئك كانت آلهتهم من الحجر، وغيرهم اتخذوها [2] من البشر.

قال الله تعالى حاكيًا عن أسلاف هؤلاء المشركين: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ

مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (الزمر: 3) ، ثم شهد عليهم بالكفر والكذب وأخبر أنه لا يهديهم فقال [3] {إِنَّ اللَّهَ

لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (الزمر: 3) ، فهذه حال من اتخذ من دون الله وليًّا

يزعم أنه يقرِّبه إلى الله، وما أعز من يخلص من هذا؟ بل ما أعز من لا يعادي

من أنكره!

والذي في قلوب هؤلاء المشركين وسلفهم أن آلهتهم تشفع لهم عند الله ، وهذا

عين الشرك ، وقد أنكر الله عليهم ذلك في كتابه وأبطله، وأخبر أن الشفاعة كلها له،

وأنه لا يشفع عنده أحد إلا لمن أذن له أن يشفع فيه ورضي قوله وعمله، وهم

أهل التوحيد الذين لم يتخذوا من دون الله شفعاء، فإنه يأذن سبحانه لمن شاء في

الشفاعة لهم حيث لم يتخذوهم شفعاء من دونه، فيكون أسعد الناس بشفاعة من يأذن

الله به صاحب التوحيد الذي لم يتخذ شفيعًا من دون الله.

والشفاعة التي أثبتها الله ورسوله هي الشفاعة الصادرة عن إذنه لمن وحَّدَهُ،

والتي نفاها الله [4] الشفاعة الشِّركية التي في قلوب المشركين المتخذين من دون الله

شفعاء، فيعاملون بنقيض قصدهم من شفاعتهم ويفوز بها الموحدون ، فتأمل قول

النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة - وقد سأله: من أسعد الناس بشفاعتك

يا رسول الله؟ قال: (أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصًا من قلبه) -

كيف جعل أعظم الأسباب التي تنال به شفاعته تجريد التوحيد، عكس ما عند

المشركين إن الشفاعة تُنال باتخاذهم شفعاء وعبادتهم وموالاتهم من دون الله، فقلب

النبي صلى الله عليه وسلم ما في زعمهم الكاذب، وأخبر أن سبب الشفاعة تجريد

التوحيد، فحينئذ يأذن الله للشافع أن يشفع.

ومن جهل المشرك اعتقاده أن مَنْ اتخذه وليًّا أو شفيعًا أنه يشفع له وينفعه عند

الله كما يكون خواص الملوك والولاة تنفع شفاعتهم مَنْ والاهم، ولم يعلموا أن الله لا

يشفع عنده أحد إلا بإذنه، ولا يأذن في الشفاعة إلا لمن رضي قوله وعمله، كما قال

تعالى في الفصل الأول: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ اللَاّ بِإِذْنِهِ} (البقرة: 255)

وفي الفصل الثاني: {وَلَا يَشْفَعُونَ إلا َّ لِمَنِ ارْتَضَى} (الأنبياء: 28) ، وبقي

فصل ثالث، وهو أنه لا يرضى من القول والعمل إلا التوحيد واتباع الرسول،

وعن هاتين الكلمتين يَسأل الأولين والآخرين، كما قال أبو العالية: كلمتان يُسأل

عنهما الأولون والآخرون: ماذا كنتم تعبدون؟ [5] وماذا أجبتم المرسلين؟ فهذه

ثلاثة أصول تقطع شجرة الشرك من قلب من وعاها وعقلها: لا شفاعة إلا بإذنه،

ولا يأذن إلا لمن رضي قوله وعمله، ولا يرضى من القول والعمل إلا توحيده

واتباع رسوله [6] فالله تعالى لا يغفر شرك العادلين به غيره، كما قال تعالى: {ثُمَّ

الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} (الأنعام: 1) ، وأصح القولين أنهم يعدلون به غيره

في العبادة والموالاة والمحبة كما في الآية الأخرى، {تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ

* إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ العَالَمِينَ} (الشعراء: 97-98) ، وكما في آية البقرة

{يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} (البقرة: 165) .

وترى المشرك يكذب حاله وعمله لقوله؛ فإنه يقول: لا نحبهم كحب الله ولا

نسويهم بالله. ثم يغضب لهم ولحرماتهم إذا انتهكت - أعظم مما يغضبه لله،

ويستبشر بذكرهم ويتبشبش به [7] سيما إذا ذكر عنهم ما ليس فيهم من إغاثة اللهفات،

وكشف الكربات، وقضاء الحاجات، وأنهم باب بين الله وبين عباده. ترى

المشرك يفرح ويسرّ ويحنّ قلبه ويهيج منه لواعج التعظيم والخضوع لهم والموالاة،

وإذا ذكرت له الله وحده وجردت توحيده، لحقته وحشة وضيق وحرج [8] ورماك

بتنقص الإلهية [9] التي له، وربما عاداك.

رأينا - واللهِ - منهم هذا عيانًا، ورمونا بعداوتهم وبغوا لنا الغوائل [10] والله

مخزيهم [11] في الدنيا والآخرة، ولم تكن حجتهم إلا أن قالوا كما قال إخوانهم: عاب

آلهتنا. فقال هؤلاء: تنقصتم مشايخنا وأبواب حوائجنا إلى الله. وهكذا قال النصارى

للنبي صلى الله عليه وسلم لما قال لهم: إن المسيح عبد [12] قالوا: تنقصت المسيح

وعِبْته. وهكذا قال أشباه المشركين لمن منع اتخاذ القبور أوثانًا تعبد ومساجد، وأمر

بزيارتها على الوجه الذي أذن الله فيه ورسوله، قالوا: تنقصت أصحابها. فانظر إلى

هذا التشابه بين قلوبهم حتى كأنهم قد تواصوا به و {مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ المُهْتَدِ وَمَن

يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِياًّ مُّرْشِداً} (الكهف: 17) .

وقد قطع الله تعالى الأسباب التي تعلق بها المشركون جميعها قطعًا يعلم من

تأمله وعرفه أن من اتخذ من دون الله وليًّا أو شفيعًا فهو {كَمَثَلِ العَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ

بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ البُيُوتِ لَبَيْتُ العَنكَبُوتِ} (العنكبوت: 41) فقال تعالى: {قُلِ

ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ

وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ * وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ اللَاّ لِمَنْ أَذِنَ

لَهُ} (سبأ: 22-23) ، فالمشرك إنما يتخذ معبوده لِمَا يحصل له به من النفع.

والنفع لا يكون إلا ممن فيه خصلة من هذه الأربع: إما مالك لما يريده عابده منه،

فإن لم يكن مالكًا كان شريكًا للمالك، فإن لم يكن شريكًا له كان معينًا له وظهيرًا،

فإن لم يكن معينًا ولا ظهيرًا كان شفيعًا عنده. فنفى سبحانه المراتب الأربع نفيًا

مترتبًا متنقلاً [13] من الأعلى إلى ما دونه [14] فنفى الملك والشركة والمظاهرة

والشفاعة التي يظنها المشرك، وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك وهي الشفاعة

بإذنه، فكفى بهذه الآية نورًا وبرهانًا ونجاة وتجريدًا للتوحيد وقطعًا لأصول الشرك

ومواده لمن عقلها، والقرآن مملوء من أمثالها ونظائرها ولكن أكثر الناس لا يشعر [15]

بدخول الواقع تحته وتضمنه له، ويظنه في نوع، وقوم قد خلوا من قبل ولم

يعقبوا وارثًا، وهذا هو الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن. ولعَمْرُ الله إن كان

أولئك قد خلوا فقد ورثهم من هو مثلهم أو شر منهم أو دونهم. وتناول القرآن لهم

كتناوله لأولئك، ولكن الأمر كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنما

تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية [16] ؛

وهذا لأنه إذا لم يعرف الجاهلية والشرك. وما عابه القرآن وذمه، وقع فيه وأقره،

ودعا إليه وصوَّبه وحسَّنه وهو لا يعرف أنه هو الذي كان عليه أهل الجاهلية أو

نظيره، أو شر منه [17] أو دونَهُ، فينتقض [18] بذلك عرى الإسلام ويعود المعروف

منكرًا والمنكر معروفًا، والبدعة سنَّة والسنة بدعة، ويكفَّر الرجل بمحض الإيمان

وتجريد التوحيد، ويُبَدَّع بتجريد متابعة الرسول ومفارقة الأهواء والبدع،

ومن له بصيرة وقلب حيّ يرى ذلك عيانًَا والله المستعان. اهـ.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

كتب في هامش نسختنا (لعله وإن استوحش) وفي النسخة الثالثة (وإن استوى) أي جالسًا أو راكبًا أو قائمًا.

(2)

وفي نسخة (اتخذها) .

(3)

هذه الجملة بين طرفي الآية ساقطة من نسختنا.

(4)

المنار: نفى الله الشفاعة نفيًا مطلقًا ومقيدًا، فالمطلق كقوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَاّ بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ} (البقرة: 254)، والمقيد كقوله:{مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} (غافر: 18) ، ومنها ما أشار إليه المصنف.

(5)

كتب في هامش نسختنا هنا (تعلمون) .

(6)

وفي نسخة (رسله) .

(7)

يقال: تبشبش به إذا آنسه وواصله، وفي نسخة (ويستأنس) بدل (ويتبشبش) .

(8)

فات المصنف أن يستشهد هنا بقوله تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} (الزمر: 45) ، ولا فرق بين المشرك الذي لا يؤمن بالآخرة ألبتة، والمشرك الذي يؤمن بها على غير الوجه الذي بينه الرسول صلى الله عليه وسلم.

(9)

وفي نسخة (رماك بانتقاص الآلهة) .

(10)

يقول مصحح الكتاب: نحمد الله أن كان لنا في المصنف وأمثاله من الدعاة إلى توحيد الله

أسوة، فقد رأينا ما رأى وابتلينا بما ابتلي.

(11)

وفي نسخة (يجزيهم) .

(12)

وفي نسخة (عبد الله) .

(13)

وفي نسخة (مرتبًا منتقلاً) .

(14)

وفي نسخة (الأدنى) .

(15)

وفي نسخة (لا يشعر) .

(16)

وفي نسخة (من لم يعرف الجاهلية) .

(17)

وفي نسخة (أو أسوأ) .

(18)

وفي نسخة (فينقض) ولعله الأصل الصحيح.

ص: 30

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌إسلام اللورد هدلي

وما قاله وكتبه في سببه

خاضت جرائد العالم في إسلام اللورد (هدلي) الإنكليزي، فكتب بعضها ما

عليه كما هو على سبيل الخبر، وزعم بعضهم أن إسلامه إسلام سياسي

ليمثل المسلمين في مجلس اللوردات! وأبى بعض المتعصبين من النصارى إلا أن

يشوب الخبر بشوائب التلبيس وإيهام القارئ أن اللورد لا يزال نصرانيًّا يؤمن

بالثالوث ويجمع بين الضدين أو النقيضين (التوحيد والتثليث) .

وكأن هذا التلبيس والإيهام قد استنبط من كلمة عُزيت إلى اللورد. وإننا ننشر

ما نقلته جريدة مسيحية إنكليزية عن اللورد وما كتبه هو عن إسلامه؛ فتقول:

جاء في جريدة الديلي ميل الصدارة في 17 نوفمبر سنة 1913 تحت عنوان

(إسلام اللورد هدلي) ما يأتي:

اللورد هدلي هو البارون الخامس في بيته (عائلته) وقد ارتقى إلى هذه

الرتبة في يناير الماضي بعد وفاة ابن عمه. وقد أسلم هذا اللورد الآن وأعلن إسلامه

في حفلة للجمعية الإسلامية بلندن، وكان هو نفسه حاضرًا في وليمة الجمعية

السنوية.

قال في اجتماع البارحة: (إنني بإعلان إسلامي الآن لم أَحِد مطلقًا عما اعتقدته

منذ عشرين سنة، ولما دعتني الجمعية الإسلامية لوليمتها سررت جدًّا لأتمكن من

الذهاب إليهم وإخبارهم بالتصاقي الشديد بدينهم. وأنا لم أهتم بعمل أي شيء لإظهار

نبذي لعلاقتي بالكنيسة الإنكليزية التي نشأت في حجرها، كما أني لم أحفل

بالرسميات في إعلان إسلامي، وإن كان هو الدين الذي أتمسك به الآن.

إن عدم تسامح المتمسكين بالنصرانية كان أكبر سبب في خروجي عن

جامعتهم، فإنك لا تسمع أحدًا من المسلمين يذم أحدًا من أتباع الأديان الأخرى كما

تسمع ذلك من النصارى بعضهم في بعض، فإن المسلمين وإن كان يحزنهم عدم

اهتداء الناس إلى دينهم إلا أنهم لا يحكمون على كل من خالفهم بالهلاك الأبدي.

إن طهارة الإسلام وسهولته وبعده عن الأهواء والمذاهب الكهنوتية ووضوح

حجته كانت كل هذه الأشياء أكبر ما أثر في نفسي. وقد رأيت في المسلمين من

الاهتمام بدينهم والإخلاص ما لم أر مثله بين النصارى، فإن النصراني يحترم دينه

عادة يوم الأحد حتى إذا ما مضى الأحد نسي دينه طول الأسبوع. وأما المسلم

فبعكس ذلك، يحب دينه دائمًا، وسواءٌ عنده أكانَ اليوم يوم الجمعة أو غيره، ولا

يفتر لحظة عن التفكر في كل عمل يكون فيه عبادة الله.

وإني وإن كنت اعتنقت الإسلام إلا أني لا زلت نصرانيًّا، بمعنى أني لا زلت

مؤمنًا بالمسيح ومتبعًا تعاليم المسيح، فإن الإسلام يصدق بتعاليم جميع الأنبياء على

حدٍ سواء فلا يفرق بين موسى والمسيح ومحمد (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) .

اهـ كلام هدلي.

ثم قالت الجريدة المذكورة: إن اللورد هدلي هو مهندس. وفي المسابقة

الرياضية التي جرت في كمبردج حاز قَصَبَ السَّبْق في الملاكمة مثل المستر

ألنسون وين (winn Allanson) .

***

لماذا أسلمت؟

وجاء في جريدة الأبزيرفر الأسبوعية (observer the) في عددها

الصادر في 23 نوفمبر الماضي تحت عنوان (لماذا أسلمت) بقلم اللورد هدلي

(headley) ما ترجمته حرفيًّا:

(عقيدة الإسلام)

أخذت صحف عديدة تخوض في معتقدي الديني، ويسرني أن أرى أن جميع

الانتقادات التي وجهت إليّ للآن، كانت بلهجة لطيفة، وما كان ينتظر أن الخروج

عمّا ألفه الناس واعتادوه لا يلفت الأنظار إليه، وذلك ممّا يسرني، إني أحب مهنتي

ومولع بالألعاب الرياضية، ولم يكن لي في ذلك غرض لطلب الشهرة وبعد الصيت،

ولكن لو كان عملي في هذه الحالة سببًا في جعل الناس كبيري المدارك سمحاء فأنا

في غاية الاستعداد لأن أتحمل بكل صبر أي نوع من الإساءة والاستهزاء.

أتاني في يوم كتاب من نصراني متمسك بدينه يقول لي فيه: إن الإسلام هو

دين شهوات، وإنه كان لنبيه عدة زوجات. فما أعجبها من فكرة عن الإسلام! !

ولكنها هي الفكرة السائدة على عقول تسعة وتسعين من كل مائة بريطاني، فإنهم لا

يتعبون أنفسهم في البحث عن حقائق دين يدين به مائة مليون من إخوانهم الخاضعين

لهم.

نبيّ العرب المقدس كان على الأخص حصورًا عن الشهوات طاهرًا، فكان

مخلصًا لزوجته الوحيدة خديجة التي كانت أكبر منه بخمس عشرة سنة، وكانت أول

من آمنت ببعثته. وبعد موتها تزوج عائشة ثم تزوج أيضًا عدة أرامل لأصحابه

الذين قتلوا في الحرب، لا لأنه كان له أدنى رغبة فيهن بل ليعولهن ويقوم بكفالتهن

ويرفع مقامهن إلى منزلة ما كن يصلن إليها بغير ذلك. وكان عمله هذا ملتئمًا مع

بعده عن الأنانية، ومع حياته الشريفة العالية. وكان من شدة زهده في هذه الحياة

أنه ما كان يملك ما يكفيه من العيش.

نحن البريطانيين تعودنا أن نفخر بحبنا للإنصاف والعدل، ولكن أي ظلم

أعظم من أن نحكم - كما يفعل أكثرنا - بفساد الإسلام قبل أن نلم بشيء من عقائده،

بل قبل أن نفهم معنى كلمة الإسلام؟

***

القرآن والدعوة

من المحتمل أن بعض أصدقائي يتوهم أن المسلمين هم الذين أثَّروا فيّ،

ولكن هذا الوهم لا حقيقة له، فإن اعتقاداتي الحاضرة ليست إلا نتيجة تفكير قضيت

فيه عدة سنين. أما مذاكراتي الفعلية مع المتعلمين من المسلمين في موضوع الدين

فلم تبدأ إلا منذ أسابيع قليلة، ولا حاجة بي إلى القول بأني ملئت سرورًا حينما وجدت

نظرياتي ونتائجي متفقة تمام الاتفاق مع الدين الإسلامي. وأمّا صديقي الخوجة

كمال الدين فلم يحاول قط أن يكون له فيّ أقل تأثير، ولكنه كان حقيقة كقاموس حيّ

يفسر ويترجم لي - مع الصبر - ما لم يتضح لي من آيات القرآن. وكان سلوكه

هذا مسلك المبشر الإسلامي الحقيقي الذي لا يحاول إرغام سامعيه أو التأثير فيهم. فإن

الدخول في الإسلام يجب - كما يقول القرآن - أن يكون بإرادة الإنسان الحرة

وبرأيه الذاتي بدون أي وسيلة من وسائل الإكراه. وكذلك أراد عيسى أيضًا حينما

قال: (مر 6: 11 وكل من لا يقبلكم ولا يسمع لكم فأخرجوه من هناك ....) .

إني أعرف حوادث عديدة جدًّا لبعض البروتستانت المتحمسين الذين يظنون

أنه يجب أن يزوروا بيوت الكاثوليك ليحولوهم إلى مذهبهم، ومثل هذا التعدي

الجارح قبيح طبعًا. وقد أدى - في الأكثر - إلى إثارة الأحقاد التي نشأت عنها

مشاحنات وجعلت الدين يزدري. وإني ليحزنني أن أرى أن دعاة النصرانية قد

سلكوا هذا الطريق عينه مع إخوانهم المسلمين، ولا يمكنني أن أفهم كيف يريدون أن

يدعوا إلى النصرانية من هم في الحقيقة أفضل منهم نصرانية (أو قال: نصارى

أفضل منهم) لم أقل: (نصارى أفضل منهم) جزافًا فإن ما في الإسلام من الخير

والتسامح وسعة المدارك أقرب إلى ما دعا إليه المسيح من تلك العقائد الضيقة التي

أخذت بها فرق النصارى المختلفة.

***

عقيدة أثناسيوس [1]

أذكر مثلاً واحدًا وهو عقيدة أثناسيوس التي تشرح الثالوث شرحًا في غاية

التعقيد. في هذه العقيدة - وهي كبيرة الأهمية جدًّا وتنص على إحدى العقائد

الأساسية للكنائس المسيحية - ترى جليًّا أنها عقيدة الجمهور، وأننا إذا لم نأخذ بها

نهلك هلاكًا أبديًّا. ثم يقال لنا إنه: (يجب علينا أن لا نفكر في الثالوث بغير ذلك)

وبعبارة أخرى: إن الإله الذي نَصِفُه في لحظة بالرحمة والقدرة، نصفه في اللحظة

الثانية بالظلم والقسوة، وهو ما نتحامى أن نصف بها أقسى البشر السفاكين، فكأن الله

تعالى القديم الذي فوق كل شيء يكون خاضعًا لما يذهب إليه الهالك المسكين (يريد

الإنسان) في أمر الثالوث.

وهاك مثلاً آخر من أمثلة بعدهم عن الخير: أتاني كتاب بمناسبة ميلي للإسلام

يقول لي فيه كاتبه: إنني إن لم أومن بلاهوت المسيح فلا سبيل لي إلى الخلاص.

أما مسألة ألوهية المسيح هذه فلم يظهر لي أنها تقرب في أهميتها من تلك المسألة

الأخرى وهي: هل بلغ رسالة ربه للبشر؟ فلو كان عندي الآن أي شك في هذه

المسألة الأخيرة لضايقني كثيرًا، ولكني - ولله الحمد - لا أشك فيها، وأرجو أن

يكون إيماني بالمسيح - وبما أوحاه الله إليه - ثابتًا كإيمان أي مسلم أو أي

نصراني به. وكما قلت من قبل مرارًا إن الإسلام والنصرانية التي أتى بها المسيح

نفسه هما توأمان لم يفرق بينهما إلا الأهواء والاصطلاحات التي يحسن أن تنبذ

ظهريا في هذه الأيام. يميل الناس إلى الإلحاد حينما يطالبون بالأخذ بعقائد جامدة لا

تتحمل التسامح، وإن كانوا ولا شك لفي شوق إلى دين يذعن لحكم العقل كما يذعن

الوجدان. من سمع بمسلم انقلب ملحدًا؟ يجوز أن يوجد أحوال قلائل كهذه ولكنني

مع ذلك أشك في وجودها كل الشك.

***

خوف الانتقاد

إني أعتقد أنه يوجد ألوف من الرجال والنساء الذين يدينون بالإسلام في قلوبهم،

ولكن مخالفة الإجماع وخوف الانتقاد العدائي والرغبة في اجتناب كل ضيق أو

تغيير يحملهم على عدم الجهر بما في قلوبهم، قد سلكت الآن نفس هذا المسلك.

على أني أعلم أن كثيرًا من أصدقائي وأقربائي ينظرون إليّ كأي روح ضالة تستحق

الدعاء لها، مع أن عقيدتي الآن هي عين عقيدتي منذ عشرين سنة؛ ولكن جهري

بها هو الذي أفقدني حسن ظنهم بي؛ لأن الخوف هو السبب في وجود أحوال لا

تحصى من الشقاء والشر في هذا العالم، ولو اتبع الناس الصراحة في القول لقل

سوء التفاهم بينهم، ولزاد احترامهم، ولنقتبس هنا كلمة المستر (بلفور) الحكيمة

وهي قوله: (لا ناصح أضر من الفزع إلا اليأس) ولكن أفضل أن أقول في هذه

الحالة (هناك ناصح أضر وأشد خطرًا من الشك أو الكفر ألا وهو الخوف) .

وحيث إني قد أتيت هنا بملخص بعض الأسباب التي حملتني على اعتناق

الإسلام وقد بينت أني أعتبر نفسي بهذا العمل نصرانيًّا أكمل بكثير مما كنت من قبل،

فلذا أرجو أن يقتدي بي غيري في ذلك، فإنه خير لا شك فيه. وفيه السعادة لكل

من يرى أن عملي هذا ارتقاء لا يراد به أي عداء للنصرانية الصحيحة. اهـ.

(المنار)

في كلام أخينا اللورد هدلي كلمتان جديرتان بالاعتبار:

(إحداهما) قوله: إن الإسلام هو النصرانية التي كان عليها ودعا إليها

المسيح عليه السلام. وهذا حق فإن دين جميع رسل الله عليهم السلام واحد في

أصوله وجوهره، وإنما كان بيان خاتمهم (محمد صلى الله عليه وسلم أتم وأكمل

على سنة الارتقاء في الحياة، وقد حفظه الله من التحريف والتبديل والزيادة

والنقصان. وقد سبق لحكيمنا الكبير السيد جمال الدين الأفاغني - رحمه الله تعالى

كلمة مثل كلمة أخينا اللورد هدلي. ذلك أن سائلا سأله عن سبب الدعوة إلى المذهب

النيشري المادي في الهند فقال: إن الذين أرادوا حل رابطة المسلمين في الهند

دعوهم أولاً إلى النصرانية فلم تنجح دعوتهم لأن الإسلام مسيحية وزيادة، فإنه يقرر

الإيمان بالمسيح وبما جاء به من التوحيد والفضائل ويبطل ما زاده النصارى

في دينه من الخرافات - أي مع زيادة في المعارف الإلهية والآداب والفضائل

والهدي الكامل - فلما خابت هذه الدعوة رأوا أن يشككوكهم في الدين المطلق

إلخ ما

قاله، وقد ذكرناه بالمعنى. ولولا العصبيات المذهبية، والأحقاد السياسية، وسوء حال

مسلمي هذه الأزمنة وبعدهم عن حقيقة الديانة الإسلامية، وجهل الإفرنج بها وبلغتها

العربية، ثم هذا الحجاب الذي أسدلته العلوم والأعمال المادية، ومقت الدين الذي

أثارته الخرافات الكنيسية، وما كان قبل من قسوة السلطة البابوية، لكان

هؤلاء الإفرنج أجدر الناس في هذا العصر بالإسلام، دين العقل والعلم

والحضارة والسلام، الذي كشف ما غشي كتب الأنبياء من الخرافات والأوهام،

ورفع امتيازات الأجناس والأصناف والأقوام، ودعا الناس كافة إلى الإخاء والوحدة

والاعتصام. ولا بد أن يتجلى حقه لهم بعد أحقاب إن لم يكن بعد أعوام، وقد

ظهرت بوادر ذلك بما يكتشفون في هذه الأيام، من غرائب آياته تعالى في الأنفس

والعقول والقوى والأجسام، وقد قال في كتابه المجيد: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي

أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * أَلَا إِنَّهُمْ

فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ} (فصلت: 53-54) .

وأما الكلمة الثانية من كلمتي (اللورد هدلي) فهي إخباره بأن كثيرًا من قومه

مسلمون، أي قد ظهر لهم نور الإسلام، فانقشعت به ظلمات الأوهام، وتلك الظلمة

الوثنية التي غشيت تعليم المسيح النورانية، فعلموا أن دين محمد هو دين المسيح

عليهما السلام، ولكنه غير أديان الكنائس المنسوبة إلى المسيح. بيّن أنهم مسلمون

في باطنهم ولكنهم يخافون أن يظهروا إسلامهم كما كان يخاف هو مدة عشرين سنة،

إنما يخافون أن يحتقرهم قومهم، ويمتعض منهم أهلهم؛ لأن تعصبهم للدين

والمذهب شديد جدًّا، وإن خفي هذا عن سفهاء المتفرنجين منّا الذين يزعمون أن

جميع الإفرنج مارقون من الدين؛ لأنهم لميلهم إلى الإلحاد لا ينجذبون إلا إلى أهله،

وقد يحملون من الكلام عليه ما لا يراد به منه، كما أنهم لافتتانهم بالفسق يظنون أن

جميع نساء الإفرنج بغايا، وأنهم لا همّ لهم من حياتهم ولا اشتغال لهم إلا بالشهوات

البهيمية، وسبب ذلك أنهم لا يبحثون إلا عن ذلك، ولو كان همّ الذين يذهبون إلى

أوربة منهم موجهًا إلى علم من العلوم أو فن من الفنون أو صناعة من الصناعات، لبدا

لهم من اهتمام الإفرنج به ما يحملهم على الظن بأنه لا همّ لهم في غيره، على

أن في الإفرنج من يهتم بإفساد دين الشرقي لإفساد جامعته التي يعتصم بها.

وهذا وإننا كنا منذ ميزنا وعقلنا نسمع من أهلنا وأصحابنا أن كثيرًا من

نصارى بلادنا يوقنون بحقية الإسلام ويتجرؤون على إظهار ذلك لقومهم، ومنهم من

يدخل في الإسلام ويؤدي فرائضه كلها أو بعضها في الخفاء، حتى اتفق ذلك لبعض

رؤساء الأديار. وأخبرنا والدي - رحمه الله تعالى - أنه عاد فلانًا القائمقام في أحد

أقضية جبل لبنان في مرض موته - وكان صديقًا له - فخلا به فأشهده على نفسه أنه

مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. وأذكر أنني رأيت ذلك الرجل

وكنت طالب علم فسألني عن بعض الأحاديث النبوية وكان يذكر النبي - صلى الله

عليه وسلم - بتعظيم فوق المعتاد في مجاملة أدباء النصارى للمسلمين فحملت ذلك

على المبالغة في المجاملة.

وإنني أعرف أفرادًا من فضلاء النصارى المستقلين يودّون لو كان في البلاد

حرية دينية يعذرهم بها أهلهم إذا هم أسلموا، منهم من يود لو كان مسلمًا اعتقادًا منه

بأفضلية الإسلام ورجحانه على جميع الأديان ، ومنهم من يود ذلك لغرض سياسي

اجتماعي وهو التمكن من التأثير في إصلاح بلاده التي يجزم بأنها لا تصلح إلا إذا

صلح المسلمون وجاروا الأمم القوية في أسباب العزة والحضارة. وهذا الصنف

كثير جدًّا. ولو كان للإسلام حكومة تقيم بنيانه وتنفذ أحكامه، وتحمل الأمة على

فضائله، وتظهر للناس حقيقة عدله وسماحته، لرأيت الناس يدخلون فيه أفواجًا،

ولكن رؤساء المسلمين هم أشد تنفيرًا عن الإسلام من دعاة الأديان الأخرى

ورؤسائها، ومن كل أحد. وما هذه إلا عوارض لا تدوم، إذ وعد الله تعالى بأن

يظهره على الدين كله وكان الله قويًّا عزيزًا.

_________

(1)

حاشية للمترجم: عاش هذا الرجل بين سنة 296 - 373 م.

ص: 34

الكاتب: جمال الدين القاسمي

‌تاريخ الجهمية والمعتزلة [*]

(12)

ما نتج من تعصب الجهمية والأثرية، وبيان آفة الغلو في التعصب

(قال الإمام الغزالي) في إحياء علوم الدين: وأما الكلام - أي علم

الكلام - فمقصوده حماية المعتقدات التي نقلها أهل السنة من السلف الصالح لا

غير.

(ثم قال) : ويحتاج إليه لمناظرة مبتدع، ومعارضة بدعته بما يفسدها

وينزعها عن قلب العامي، وذلك لا ينفع إلا مع العوام قبل اشتداد تعصبهم. وأما

المبتدع بعد أن يعلم من الجدل ولو شيئًا يسيرًا، فقلّما ينفع معه الكلام، فإنك إن

أفحمته لم يترك مذهبه، وأحال بالقصور على نفسه وقدر أن عند غيره جوابًا ما،

وهو عاجز عنه، وإنما أنت ملبس عليه بقوة المجادلة. وأما العامي إذا صرف عن

الحق بنوع جدل يمكن أن يرد إليه بمثله قبل أن يشتد التعصب للأهواء، فإذا اشتد

تعصبهم وقع اليأس منهم؛ إذ التعصب سبب يرسخ العقائد في النفوس، وهو من

آفات علماء السوء، فإنهم يبالغون في التعصب للحق، وينظرون إلى المخالفين

بعين الازدراء والاستحقار، فينبعث منهم الدعوى بالمكافأة والمقابلة والمعاملة،

وتتوفر دواعيهم على طلب نصرة الباطل، ويقوى غرضهم في التمسك بما نسبوا

إليه، ولو جاؤوا من جانب اللطف والرحمة والنصح في الخلوة لا في معرض

التعصب والتحقير، لأنجحوا فيه؛ ولكن لما كان الجاه لا يقوم إلا بالاستتباع، ولا

يستميل الاتباع مثل التعصب واللعن والشتم للخصوم، اتخذوا التعصب عادتهم

وآلتهم، وسمّوه ذبًّا عن الدين، ونضالاً عن المسلمين، وفيه - على التحقيق -

هلاك الخلق، ورسوخ البدعة في النفوس. اهـ.

(وقال الغزالي) رحمه الله أيضًا؛ في الجدل المذموم ومضراته: وله

ضرر آخر في تأكيد اعتقاد المبتدعة للبدعة، وتثبيتها في صدورهم، بحيث تنبعث

دواعيهم، ويشتد حرصهم على الإصرار عليه؛ قال: ولكن هذا الضرر بواسطة

التعصب الذي يثور من الجدل، ولذلك ترى المبتدع العامي يمكن أن يزول اعتقاده

باللطف في أسرع زمان، إلا إذا كان نشوؤه في بلد يظهر فيها الجدل والتعصب،

فإنه لو اجتمع عليه الأولون والآخرون لم يقدروا على نزع البدعة من صدره، بل

الهوى والتعصب وبعض خصوم المجادلين وفرقة المخالفين يستولي على قلبه،

ويمنعه من إدراك الحق، حتى لو قيل له: هل تريد أن يكشف الله تعالى لك الغطاء،

ويعرفك بالعيان أن الحق مع خصمك؟ لكره ذلك خيفة أن يفرح به خصمه (قال)

وهذا هو الداء العظيم الذي استطار في البلاد والعباد، وهو نوع فساد أثاره

المجادلون بالتعصب فهذا ضرره. اهـ.

وقال العلامة المقبلي في العلم الشامخ: واعلم أن الخلاف والتعصب والتحزب

هو الذي حمل سيوف بعض المسلمين على بعض، وحلل دماءهم وأموالهم

وأعراضهم، وحرف الكتاب والسنة، ثم صيَّرهما كالعدم بسد باب الاجتهاد اهـ.

و (قال أيضًا) : ثم ترتب على الافتراق تقويم كل لعمود الشقاق، وصار كل

منهم إنما يعتز بمن مال إليه من الملوك على خصمه. اهـ.

وبالجملة فمن أعظم آفات التعصب ما نشأ عنه من التفرق والتعادي، بحيث

صار يرثه المتأخر عن المتقدم، حتى أصبح يبغض القريب قريبه إذا وجده يخالف

رأيه، ويلصق به كل تهمة شنعاء ولو أقام على صحة رأيه مئين من البراهين؛ بل

بلغ احتقار بعضهم لبعض مبلغًا دفع به أن يحنق على مخالفه، ويتحين الفرص

للإيقاف به، حتى إذا بدرت منه هفوة، أو ظهرت زلة - ولا معصوم إلا المعصوم -

رفع مخالفه عقيرته بتأنيبه، وملأ الأرض والسماء صراخًا بتشهيره، غير مبال

بما حظره الشرع مما يولد البغضاء والشحناء، ويفكك عرى الإخاء، ولا ملام على

الدهماء من ترويج مثل هذه الخطة الشائنة لغرقهم في بحار الجهل، وإنما يلام قادة

الأفكار على احتذائهم هذا الحذو، ونسجهم على هذا المنوال، إذ لولا صخب هؤلاء

الرهط، وبثهم هذه الألقاب في النفوس، لكانت الأمة متماسكة الأجزاء، متينة

عرى المحبة بين الأفراد.

نعم؛ لا بأس أن تُنْتَقَدَ الأَقْوَالُ، وتُضَعَّفَ بالبُرْهَانِ، ويُوَضَّحَ كلُّ خَطَأٍ يَنْجُمُ

عنها؛ ولكن الذي يجب التوقي منه هو أن يتشاحن قادة العقول ويتطاحنوا

ويتبغضوا لما لا يصح أن يكون سببًا معقولاً، وأن يثب كلٌّ على مخالفه وثبة الغادر

المنتقم، فيود أن ينكل به أو يمزقه شر ممزَّق، فيقتفي أثرهم مقلدها، فتصبح الأمة

أعداءً متشاكسة، وأحزابًا متنافرة، بشؤم التعصب الذميم، الذي لم يتمكن من أمة

إلا وذهب بها مذهب التفرق والانحطاط، وأضعف قواها، وأحاق بها الخطوب

والأرزاء، فمن الواجب العلم على ملاشاة الشحناء والشقاق، والقيام بالتحابّ

والاتفاق، وبالله التوفيق.

(13)

حظر الأئمة للمحققين، رمي فرق المسلمين بالكفر والفسق

من أعظم ما بليت به الفرق الإسلامية، رمي بعضها بعضًا بالفسق والكفر،

مع أن قصد كلٍّ الوصول إلى الحق، بما بذلوا جهدهم لتأييده واعتقاده، والدعوة

إليه، فالمجتهد منهم - وإن أخطأ - مأجور (وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية) في

كتابه موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول [1] عن الإمام الرازي (في نهاية العقول)

في مسألة التكفير ما مثاله: قال الشيخ أبو الحسن الأشعري في أول كتاب (مقالات

الإسلاميين) : اختلف المسلمون بعد نبيهم في أشياء ضلّل فيها بعضهم بعضًا وتبرّأ

بعضهم من بعض فصاروا فرقًا متباينين، إلا أن الإسلام يجمعهم فيعمهم. فهذا

مذهبه، وعليه أكثر الأصحاب، ومن الأصحاب من كفر المخالفين.

وأما الفقهاء، فقد نقل عن الشافعي رضي الله عنه قال: لا أردّ شهادة أهل

الأهواء إلا الخطّابية [2] ، فإنهم يعتقدون حل الكذب. وأما أبو حنيفة رضي الله عنه،

فقد حكى الحاكم صاحب المختصر في كتاب المنتقى عن أبي حنيفة أنه لم يكفر

أحدًا من أهل القبلة، وحكى أبو بكر الرازي عن الكرخي وغيره مثل ذلك.

وأما المعتزلة، فالذين كانوا قبل أبي الحسين تحامقوا وكفّروا أصحابنا في

إثبات الصفات وخلق الأعمال. وأما المشبِّهة فقد كفرهم مخالفوهم من أصحابنا ومن

المعتزلة، وكان الأستاذ أبو إسحاق يقول: أكفِّر من يكفِّرني، وكل مخالف يكفرنا

فنحن نكفره وإلا فلا.

ثم قال الرازي: والذي نختاره أن لا نكفر أحدًا من أهل القبلة، والدليل عليه

أن نقول: المسائل التي اختلف أهل القبلة فيها مثل أن الله تعالى هل هو مُوجِدٌ لأفعال

العباد أم لا؟ وأنه هل هو متحيز، وهل هو في مكانٍ وجِهَة، وهل هو مرئيّ أم لا؟

لا يخلو إما أن تتوقف صحة الدين على معرفة الحق فيها أو لا تتوقف، والأول

باطل؛ إذ لو كانت معرفة هذه الأصول من الدين، لكان الواجب على النبي -

صلى الله عليه وسلم أن يطالبهم بهذه المسائل؛ بل ما جرى حديث من هذه

المسائل في زمانه عليه السلام، ولا في زمان الصحابة والتابعين رضي الله عنهم،

علمنا أنه لا يتوقف صحة الإسلام على معرفة هذه الأصول، وإذا كان كذلك لم يكن

الخطأ في هذه المسائل قادحًا في حقيقة الإسلام، وذلك يقتضي الامتناع من تكفير

أهل القبلة. اهـ.

ثم قال الإمام ابن تيمية بعد ذلك: (والأصل في هذا الباب أن الألفاظ نوعان:

مذكور في كتاب الله وسنة رسوله، وكلام أهل الإجماع، فهذا يجب باعتبار معناه

وتعليق الحكم به، فإن كان المذكور به مدحًا استحق صاحبه المدح، وإن كان ذمًّا

استحق الذم، وإن أثبت شيئًا وجب إثباته وإن نفى شيئًا وجب نفيه؛ لأن كلام الله حق

وكلام رسوله حق، وكلام أهل الإجماع حق. ومن دخل في اسم مذموم في الشرع

كان مذمومًا؛ كاسم الكافر والمنافق والملحد ونحو ذلك، ومن دخل في اسم محمود في

الشرع كان محمودًا كاسم المؤمن والتقيّ والصدّيق ونحو ذلك) .

وأما الألفاظ التي ليس لها أصل في الشرع، فتلك لا يجوز تعليق المدح والذم

والإثبات والنفي على معناها، إلا أن يبين أنه يوافق الشرع، والألفاظ التي تعارض

بها النصوص هي من هذا الضرب كلفظ الجسم والحيز والجهة والجوهر والعَرَض،

فمن كانت معارضته بمثل الألفاظ؛ لم يجز له أن يكفر مخالفه إن لم يكن قوله مما

يبين الشرع أنه كفر؛ لأن الكفر حكم شرعي متلقى عن صاحب الشريعة، والعقل

قد يعلم به صواب القول وخطؤه، وليس كل ما كان خطأ في العقل يكون كفرًا في

الشرع، كما أنه ليس كل ما كان صوابًا في العقل يجب في الشرع معرفته، ومن

العجب قول من يقول من أهل الكلام: أن أصول الدين التي يكفر مخالفها هي علم

الكلام الذي يعرف بمجرد العقل، وأما ما لا يعرف بمجرد العقل فهي الشرعيات

عندهم، وهذه هي طريقة المعتزلة والجهمية ومن سلك سبيلهم كأتباع صاحب

الإرشاد وأمثالهم، فيقال لهم: هذا الكلام يتضمن شيئين: أحدهما أن أصول الدين هي

التي تعرف بالعقل المحض دون الشرع، والثاني أن المخالف لها كافر، وكل من

المقدمتين وإن كانت باطلة، فالجمع بينهما متناقض، وذلك أن ما لا يعرف إلا بالعقل

لا يعلم أن مخالفه كافر الكفر الشرعي، فإنه ليس في الشرع أن من خالف ما لا يعلم

إلا بالعقل يكفر، وإنما الكفر يكون بتكذيب الرسول فيما أخبر به، أو الامتناع عن

متابعته، مع العلم بصدقه، مثل كفر فرعون واليهود، ونحوهم.

وفي الجملة فالكفر متعلق بما جاء به الرسول لا بمجرد ما يعلم بالعقل، فكيف

يجوز أن يكون الكفر بأمور لا تعلم إلا بالعقل؟ إلا أن يدل الشرع على أن تلك الأمور

التي لا تعلم إلا بالعقل كفر، فيكون حكم الشرع مقبولاً، لكن معلوم أن هذا لا يوجد

في الشرع بل الموجود في الشرع تعليق الكفر بما يتعلق به الإيمان، وكلاهما متعلق

بالكتاب والرسالة، فلا إيمان مع تكذيب الرسول ومعاداته، ولا كفر مع

تصديقه وطاعته.

ومن تدبر هذا رأى أهل البدع من النفاة يعتمدون على مثل هذا فيبتدعون بدعًا

بآرائهم، وليس فيها كتاب ولا سنة، ثم يكفرون من خالفهم فيما ابتدعوه، وهذا

حال من كفر الناس بما أثبتوه من الأسماء والصفات التي يسميها هو تركيبًا وتجسيمًا

وإثباتًا لحلول الصفات والأعراض به ونحو ذلك من الأقوال التي ابتدعها الجهمية

والمعتزلة ثم كفَّروا من خالفهم فيها. اهـ كلام الإمام ابن تيمية رحمه الله.

ولب هذا كله قوله: (فلا إيمان مع تكذيب الرسول ومعاداته، ولا كفر مع

تصديقه وطاعته) وما ذكره ونقله قبل هو الفيصل في هذا الباب.

وقال رحمه الله في شرح الأصفهانية: (خاصة أهل السنة المتبعين للرسول -

صلى الله عليه وسلم هي أنهم يتبعون الحق ويرحمون من خالفهم باجتهاد، حيث

عذره الله ورسوله) اهـ.

وإنما رحموه لأنهم تجمعهم أخوة الإيمان، وقد قال تعالى:{رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (الفتح: 29) ، فالمؤمنون مهما اختلف اجتهادهم، وتباينت مداركهم، فهم إخوة

يتراحمون، يتآلفون ولا يتباغضون، ولا يلزم من اختلاف الرأي اختلاف القلوب،

وبالله التوفيق.

(14)

بيان أنه لا تضليل، لمن أصاره اجتهاده إلى التأويل

قدمنا أولاً أنا لم نرد في هذه الورقات ذكر عقائد الجهمية والمعتزلة، ولا

مناقشتهم؛ لأن لذلك مواضع معروفة، لا سيّما وهذا المقام طويل الذيل، متشعب

المناحي، ويكفي أنه لأجله صنّف ودوّن علم الكلام، وإنما أردنا تعرف شأن هاتين

الفرقتين من الوجهة التاريخية، وقد أتينا على جمل منها.

بقي التنبيه على النصفة مع مجتهدي فرق الإسلام ومجافاة التضليل عن كل

من التزم قانون التأويل، فنقول: قد وقَرَ في قلوب كثير من الناس رمي أمثال

المعتزلة بالمروق والضلال والزيغ، تقليدًا لمن ينبزهم بذلك من حشوية المتفيهقين،

وهذا من أغرب الغريب، إذ كيف يصح هذا وكان القائمون بمذهب المعتزلة خلفاء

الإسلام في العهد العباسي، وقضاتهم وعدة من علمائهم؟ وهم يحتجون لما يدعون،

ويبرهنون على ما يذهبون، لا جرم أنهم - وإن أخطؤوا - لمجتهدون.

وممّا يدل على أن هذا العقد بلغ تمكن صحته من نفوسهم منتهاه من اليقين

حملهم الخلفاء على إكراه الناس عليه ابتغاء نجاتهم - بزعمهم - بتصحيح عقيدتهم

على ما يرون، وجليّ أن كل من استدل على ما يراه، واحتج على دعواه، فقد آذن

في اجتهاده فيه، وتحرى الحق فيما يقصده ويبغيه، فقصارى أمره إذا نقض برهانه

ودحضت حجته؛ أن يكون مجتهدًا مخطئًا، وهو معذور بل مأجور، إذ لم يرد إلا

الحق، فمن أين يسوغ بعد ذلك قرض الأعراض بالتضليل والتفسيق، وتثوير

المنبوز على المقابلة بالمثل بل الأمثال، والخروج بالإقذاع عن آداب

المناظرة والجدال.

إنَّ نبز الفرق المتجادلة بتلك الألقاب أوجب أن تصرف الألباب عن النظر في

أدلة كل منها، لتزن المقبول منها بمعياره، والمردود بمقداره؛ لأنها حاولت الضغط

على الأفكار، وحرمانها من حرية البحث والنظر والتأمل، لتحملها على رأي واحد،

ومذهب منفرد، وذلك ما كان ولن يكون.

إن اختلاف الآراء لا يدعو بطبيعته إلى الحفائظ والأضغان، وغرس الأحقاد

والشنآن، ولكن أكثر الفرق استولت على مناظرتها الضغائن، فذهبت بهم مذهب

التشفي والانتقام، هذه بالنبز بالألقاب السوء، وتلك بها أو بسلطتها الجائرة،

واضطهادها لمخالفيها بضروب العذاب.

من عجيب أمر التنابز، أن الإغراق فيه قد يغري خلي الذهن بالبحث عن المنبوز

والتنقيب عنه، فيحمله على التأمل في مداركه، والتبصر في مآخذه، فربما انضم

إليه وشايعه تقليدًا أو نظرًا واستدلالاً.

فالمتحاملون على فئة قد يحببون فيها من حيث يريدون التنفير منها، ويجذبون

إليها مما يأملون به الإبعاد عنها، ويصدق فيهم قول القائل:

دع عنك لومي فإن اللوم إغراء

هؤلاء المتحاملون يرون أعظم منفر عن خصومهم هو التكفير، وفاتهم أن هذا

لا يغني من البرهان، ولا يجزئ من الحق شيئًا؛ بل قد يكون من أعظم أمانيّ

الخصوم، فإن الفكر الذي يحارب بهذا الاسم ربما يكون قد بلغ أشُدَّه واستوى،

ووصل إلى أعماق الرسوخ ورسا.

ولمّا حاول أعداء حجة الإسلام الغزالي - عليه الرحمة والرضوان - رميه

بالكفر (وما أسهل رميهم به لأمثاله) لمخالفته الأشعري، انتدب لتأليف كتاب يهدي

إلى حقيقة الكفر والزندقة، سمّاه (فيصل التفرقة، بين الإسلام والزندقة) ، قال في

خطبته: فهوِّن أيها الأخ المشفق على نفسك، لا يضيق به صدرك، وفلَّ من غربك

قليلاً، واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرًا جميلاً، واستحقرمن لا يحسد ولا

يقذف، واستصغر من بالكفر والضلال لا يعرف [3] .

ونقل الإمام الغزالي أيضًا في المستصفى أن عليًّا - كرم الله وجهه - استأذنه

قضاته في البصرة في القضاء بشهادة أهل البصرة من الخوارج وغيرهم أو ردّها،

فأمرهم بقبولها كما كان قبل الحرب؛ لأنهم حاربوا على تأويل، وفي رد شهادتهم

تعصب وتجديد خلاف. اهـ.

فانظر كيف تسامح مع أهل التأويل من المبدعين وقبل شهادتهم وزكاهم

وعدلهم، فهل يصح بعد هذا النبز بالتفسيق أو التضليل؟ حاشا وكلا! وهذا لمن

عرف الرجال بالحق، لا الحق بالرجال، والله المستعان.

(15)

ما وصى به الأئمة من اطِّراح أقوال العلماء بعضهم في بعض،

ومن التماس الحكمة أينما وجدت

روى الإمام حافظ المغرب يوسف بن عبد البر في كتابه (جامع العلم وفضله)

في باب حكم قول العلماء بعضهم في بعض عن ابن عباس رضي الله عنهما

قال: استمعوا علم العلماء، ولا تصدقوا بعضهم على بعض.

وعنه رضي الله عنه قال: خذوا العلم حيث وجدتم، ولا تقبلوا قول

الفقهاء بعضهم على بعض.

وعن مالك بن دينار قال: يؤخذ بقول العلماء والقراء في كل شيء إلا قول بعضهم في بعض.

وعن عبد العزيز بن أبي حازم قال: سمعت أبي يقول: العلماء كانوا فيما مضى من

الزمان إذا لقي العالم من هو فوقه في العلم كان ذلك يوم الغنيمة، وإذا لقي من هو

مثله ذاكره، وإذا لقي من هو دونه لم يُزْهَ عليه، حتى كان هذا الزمان، فصار

الرجل يعيب من هو فوقه ابتغاء أن ينقطع منه، حتى يرى الناس أنه ليس به حاجة

إليه، ولا يذاكر من هو مثله، ويزهى على من هو دونه، فهلك الناس.

(قال الإمام ابن عبد البر) : لقد تجاوز الناس الحد في الغِيبة والذم فلم

يقنعوا بذم العامّة دون الخاصة ولا بذم الجهّال دون العلماء، وهذا كله يحمل عليه

الجهل والحسد. ثم قال رحمه الله: ومن صحت عدالته، وعُلمت بالعلم عنايته،

وسلم من الكبائر ولزم المروءة، وكان خيره غالبًا، وشره أقل عمله، فهذا لا يقبل

فيه قول قائل لا برهان له به، فهذا هو الحق الذي لا يصح غيره إن شاء الله.

(وقال الذهبي) في ميزان الاعتدال - في ترجمة أبي نعيم أحد الأعلام:

صدوق تكلم فيه ابن منده بلا حجة كما تكلم هو في ابن منده. (قال الذهبي) : ولا

أقبل قول كل منهما في الآخر، بل هما عندي مقبولان. ثم قال: وكلام الأقران

بعضهم في بعض لا يعبأ به ولا سيّما إذا لاح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد ما

ينجو منه إلا من عصم اللهُ (قال) وما علمت أن عصرًا من الأعصار سلم أهله من

ذلك سوى الأنبياء والصديقين فلو شئت لسردت من ذلك كراريس. اهـ.

قال العلامة المقبلي: وأشدها عداوة ما كان من قبل المذهب لأنه يزعمه دينًا،

ويمرن عليه فيغر نفسه أنه دين، وحظ الهوى في ذلك أوفى وأوفر، نسأل الله

العافية، وأن يجعلنا ممن خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى.

وروى الإمام ابن عبد البر في كتاب (جامع العلم) في باب الحال التي ينال

بها العلم، عن علي - كرم الله وجهه - قال: العلم ضالة المؤمن فخذوه ولو من

أيدي المشركين ولا يأنف أحدكم أن يأخذ الحكمة ممن سمعها منه. وعنه كرم الله

وجهه قال: الحكمة ضالة المؤمن يطلبها ولو في أيدي الشُّرَط.

وروى ابن عبد البر قبل هذا الباب عن أيوب قال: إنك لا تعرف خطأ معلمك

حتى تجالس غيره. وعن علي رضي الله عنه قال: إن الناس أبناء ما يحسنون،

وقدر كل امرئ ما يحسن؛ فتكلموا في العلم تتبين أقداركم.

قال ابن عبد البر: إن قول علي بن أبي طالب (قيمة كل امرئ ما يحسنه)

لم يسبقه إليه أحد (قال) وقالوا: ليس كلمة أحض على طلب العلم منها (وقالوا)

ولا كلمة أضر بالعلم والعلماء والمتعلمين من قول القائل (ما ترك الأولُ للآخر شيئًا)

قال ابن عبد البر: قول علي رضي الله عنه (قيمة كل امرئ ما يحسن)

من الكلام المعجب الخطير وقد طار له الناس كل مطير، ونظمه جماعة من

الشعراء إعجابًا به، وكلفًا بحسنه، فمن ذلك ما يعزى إلى الخليل بن أحمد وهو

قوله:

لا يكون السّريّ مثلَ الدّنيّ

لا ولا ذو الذكاء مثل الغبِيّ

لا يكون الألدُّ ذو المقول المر

هف عند القياس مثل العَييّ

قيمة المرءِ كل ما يحسن المر

ءُ قضاء من الإمام عليّ

وقال غيره:

يلوم على أن رحت للعلم طالبًا

أجمع من عند الرواة فنونه

فيا لائمي دعني أغالي بقيمتي

فقيمة كل الناس ما يحسنونه

وقال أبو العباس الناشئ:

تأمل بعينيك هذا الأنا

م فكن بعض من صانه عقله

فحلية كل فتى فضله

وقيمة كل امرئ نبله

فلا تتكل في طلاب العلا

على نسب ثابت أصله

فما من فتى زانه قوله

بشيء يخالفه فعله

ومما ينسب لعلي رضي الله عنه:

الناس من جهة التمثال أكْفاء

أبوهم آدم والأم حواء

وإنما أمهات الناس أوعية

مستودَعات وللأحساب آباء

فإن يكن لهم من أصلهم شرف

يفاخرون به فالطين والماء

وأن أتيت بفخر من ذوي نسب

فإن نسبتنا جود وعلياء

ما الفضل إلا لأهل العلم إنهم

على الهدى لمن استهدى أدلاء

وقيمة المرء ما قد كان يحسنه

والجاهلون لأهل العلم أعداء

فقم بعلم ولا تبغ به بدلا

فالناس موتى وأهل العلم أحياء

وقد ورد في هذا الباب ما رواه الإمام مسلم في مقدمة صحيحه عن عائشة -

رضي الله عنها قالت: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل

الناس منازلهم. نسأله تعالى أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه {رَبَّنَا

اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا

إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (الحشر: 10) .

في جمادى الأولى سنة 1330

_________

(*) تابع لما نشر في ج 12 م 16 ص 913.

(1)

جزء 1 صفحة 49 وما بعدها من الطبعة الأميرية على حاشية منهاج السنة.

(2)

فرقة من غلاة الشيعة منسوبة إلى أبي الخطاب محمد بن مقلاص كان - قبحه الله - من الغلاة في جعفر الصادق عليه السلام ادعى له علم الغيب وغير لك حتى لعنه الصادق مرارًا لفساد عقيدته وخبثه وكذبه عليه وقد تبرأ الصادق عليه السلام منه، ومن أراد الوقوف على أخبار أبي الخطاب فليرجع إلى كتاب الشيعة للكشي فقد أسهب في شأنه في عدة أوراق) . اهـ.

(3)

يشير رحمه الله إلى أن ذلك صار وقفًا على أخبار العلماء وأعلام الجهابذة الحكماء، ولقد صدق رحمه الله وشاهده الاستقراء من لدن عصره وقبله إلى الآن.

ص: 41

الكاتب: أبو إسحاق الشاطبي

‌الباب الأول من كتاب الاعتصام [*]

في تعريف البدع وبيان معناها وما اشتق منه لفظًا

وأصل مادة (بدع) للاختراع على غير مثال سابق، ومنه قول الله تعالى:

{بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ} (البقرة: 117) ، أي مخترعهما من غير مثال سابق

متقدم، وقوله تعالى:{قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرُّسُلِ} (الأحقاف: 9) ، أي ما

كنت أول من جاء بالرسالة من الله إلى العباد بل تقدمني كثير من الرسل، ويقال:

ابتدع فلان بدعة يعني ابتدأ طريقة لم يسبقه إليها سابق، وهذا أمر بديع يقال في

الشيء المستحسن الذي لا مثال له في الحسن؛ فكأنه لم يتقدمه ما هو مثله ولا ما

يشبهه.

ومن هذا المعنى سميت البدعة بدعة، فاستخراجها للسلوك عليها هو الابتداع

وهيئتها هي البدعة، وقد يسمى العلم المعمول على ذلك الوجه بدعة، فمن هذا المعنى

سمي العمل الذي لا دليل عليه في الشرع بدعة، وهو إطلاق أخص منه في

اللغة حسبما يذكر بحول الله.

ثبت في علم الأصول أن الأحكام المتعلقة بأفعال العباد وأقوالهم ثلاثة: حكم

يقتضيه معنى الأمر كان للإيجاب أو الندب، وحكم يقتضيه معنى النهي كان

للكراهة أو التحريم، وحكم يقتضيه معنى التخيير وهو الإباحة. فأفعال العباد

وأقوالهم لا تعدو هذه الأقسام الثلاثة: مطلوب فعله، ومطلوب تركه، ومأذون في

فعله وتركه. والمطلوب تركه لم يطلب إلا لكونه مخالفًَا للقسمين الأخيرين، لكنه

على ضربين:

(أحدهما) : أن يطلب تركه وينهى عنه لكونه مخالفة خاصة مع تجرد

النظر عن غير ذلك، وهو إن كان محرمًا سُمي فعله معصية وإثمًا، وسمي فاعله

عاصيًا وآثمًا، وإلا لم يسم بذلك، ودخل في حكم العفو حسبما هو مبين في غير

هذا الموضع. ولا يسمى بحسب الفعل جائزًا ولا مباحًا لأن الجمع بين الجواز

والنهي جمع بين متنافيين.

(والثاني) : أن يطلب تركه وينهى عنه؛ لكونه مخالفة لظاهر التشريع من

جهة ضرب الحدود وتعيين الكيفيات والتزام الهيئات المعينة أو الأزمنة المعينة مع

الدوام ونحو ذلك.

وهذا هو الابتداع والبدعة ويسمى فاعله مبتدعًا - فالبدعة إذن عبارة عن

طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية، يقصد بالسلوك عليها في معنى البدعة

وإنما يخصها بالعبادات. وأما على رأي من أدخل الأعمال العادية في معنى البدعة

فيقول: (البدعة طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية، يقصد بالسلوك عليها

ما يقصد بالطريقة الشرعية) . ولا بد من بيان ألفاظ هذا الحد: فالطريقة والطريق

والسبيل والسنن هي بمعنى واحد، وهو ما رسم للسلوك عليه، وإنما قيدت بالدين

لأنها فيه تخترع وإليه يضيفها صاحبها، وأيضًا فلو كانت طريقة مخترعة في الدنيا

على خصوص لم تسم بدعة؛ كإحداث الصنائع والبلدان التي لا عهد بها فيما تقدم.

ولمّا كانت الطرائق في الدين تنقسم: فمنها ما له أصل في الشريعة، ومنها

ما ليس له أصل فيها - خص منها ما هو المقصود بالحد وهو القسم المخترع، أي

طريقة ابتدعت على غير مثال تقدمها من الشارع؛ إذ البدعة إنما خاصتها أنها

خارجة عمّا رسمه الشارع، وبهذا القيد انفصلت عن كل ما ظهر لبادي الرأي أنه

مخترع ممّا هو متعلق بالدين، كعلم النحو والتصريف ومفردات اللغة وأصول الدين،

وسائر العلوم الخادمة للشريعة. فإنها وإن لم توجد في الزمان الأول فأصولها

موجودة في الشرع؛ إذ الأمر بإعراب القرآن منقول وعلوم اللسان هادية للصواب

في الكتاب والسنة فحقيقتها إذًا أنها فقه التعبد الشرعية بالألفاظ الدالة على معانيها كيف

تؤخذ وتؤدّى.

وأصول الفقه إنما معناها استقراء كليات الأدلة حتى تكون عند المجتهد نصب

عين وعند الطالب سهلة الملتمس.

وكذلك أصول الدين - وهو علم الكلام - إنما حاصله تقرير لأدلة القرآن

والسنة، أوْ ما ينشأ عنها في التوحيد وما يتعلق به، كما كان الفقه تقريرًا لأدلتها في

الفروع العبادية.

(فإن قيل) . فإن تصنيفها على ذلك الوجه مخترع.

(فالجواب) : أنَّ له أصلاً في الشرع، ففي الحديث ما يدل عليه، ولو سلم

أنه ليس في ذلك دليل على الخصوص فالشرع بجملته يدل على اعتباره، وهو

مستمد من قاعدة المصالح المرسلة، وسيأتي بسطها بحول الله.

فعلى القول بإثباتها أصلاً شرعيًّا لا إشكال في أن كل علم خادم للشريعة داخل؛

تحت أدلته التي ليست بمأخوذة من جزئي واحد. فليست ببدعة ألبتة.

وعلى القول بنفيها لا بد أن تكون تلك العلوم مبتدعات. وإذا دخلت في علم

البدع كانت قبيحة؛ لأن كل بدعة ضلالة من غير إشكال، كما يأتي بيانه إن شاء

الله.

ويلزم من ذلك أن يكون كتب المصحف وجمع القرآن قبيحًا، وهو باطل

بإجماع، فليس إذًا ببدعة. ويلزم أن يكون له دليل شرعي، وليس إلا هذا النوع

من الاستدلال، وهو المأخوذ من جملة الشريعة.

وإذا ثبت جزئيٌّ في المصالح المرسلة، ثبت مطلق المصالح المرسلة؛ فعلى هذا لا ينبغي أن يسمى علم النحو أو غيره من علوم

اللسان أو علم الأصول أو ما أشبه ذلك من العلوم الخادمة للشريعة بدعة أصلاً.

ومن سمّاه بدعة فإمّا على المجاز؛ كما سمى عمر بن الخطاب - رضي الله

عنه - قيام الناس في ليالي رمضان بدعة. وإما جهلاً بمواقع السنة والبدعة، فلا

يكون قول من قال ذلك معتدًّا به ولا معتمدًا عليه.

وقوله في الحد (تضاهي الشرعية) يعني أنها تشابه الطريقة الشرعية من

غير أن تكون في الحقيقة كذلك، بل هي مضادة لها من أوجه متعددة.

منها وضع الحدود كالناذر للصيام قائمًا لا يقعد، ضاحيًا لا يستظل.

والاختصاص في الانقطاع للعبادة، والاقتصار من المأكل والملبس على صنف دون

صنف من غير علة.

ومنها التزام الكيفيات والهيآت المعينة، كالذكر بهيئة الاجتماع على صوت

واحد، واتخاذ يوم ولادة النبي صلى الله عليه وسلم عيدًا، وما أشبه ذلك.

ومنها التزام العبادات المعينة في أوقات معينة لم يوجد لها ذلك التعيين في

الشريعة، كالتزام صيام يوم النصف من شعبان، وقيام ليلته [1] .

وثَمَّ أوجه تضاهي بها البدعة الأمور المشروعة فلو كانت لا تضاهي الأمور

المشروعة لم تكن بدعة؛ لأنها تصير من باب الأفعال العادية.

وأيضًا فإن صاحب البدعة إنما يخترعها ليضاهي بها السنة؛ حتى يكون

ملبسًا بها على الغير، أو تكون هي ممّا تلتبس عليه بالسنة، إذ الإنسان لا يقصد

الاستتباع بأمر لا يشابه المشروع؛ لأنه إذ ذاك لا يستجلب به في ذلك الابتداع نفعًا،

ولا يدفع به ضررًا، ولا يجيبه غيره إليه. ولذلك تجد المبتدع ينتصر لبدعته

بأمور تخيل التشريع ولو بدعوى الاقتداء بفلان المعروف منصبه في أهل الخير.

فأنت ترى العرب الجاهلية في تغيير ملة إبراهيم عليه السلام كيف تأولوا فيما

أحدثوه احتجاجًا منهم، كقولهم في أصل الإشراك: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ

زُلْفَى} (الزمر: 3)، وترك الحُمْس الوقوف بعرفة لقولهم: لا نخرج من الحرم

اعتدادًا بحرمته. وطواف من طاف منهم بالبيت عريانًا قائلين: لا نطوف بثياب

عصينا الله فيها.

وما أشبه ذلك ممّا وجّهوه ليصيّروه بالتوجيه كالمشروع، فما ظنك بمن عُدَّ أو

عَدَّ نفسه من خواصّ أهل الملة؟ فهم أحرى بذلك، وهم المخطئون وظنهم الإصابة.

وإذا تبين هذا ظهر أن مضاهاة الأمور المشروعة ضرورية الأخذ في أجزاء الحد.

وقوله: (يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله تعالى) هو تمام معنى

البدعة إذ هو المقصود بتشريعها.

وذلك أن أصل الدخول فيها يحث على الانقطاع إلى العبادة والترغيب في ذلك؛

لأن الله تعالى يقول: {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات:

56) فكأن المبتدع رأى أن المقصود هذا المعنى، ولم يتبين له أن ما وضعه

الشارع فيه من القوانين والحدود كافٍ، فرأى من نفسه أنه لا بُدّ لما أطلق الأمر فيه

من قوانين منضبطة، وأحوال مرتبطة، مع ما يداخل النفوس من حب الظهور أو

عدم مظنته، فدخلت في هذا الضبط شائبة البدعة.

وأيضًا فإن النفوس قد تمل وتسأم من الدوام على العبادات المرتبة، فإذا جدد

لها أمر لا تعهده حصل لها نشاط آخر لا يكون لها مع البقاء على الأمر الأول،

ولذلك قالوا (لكل جديدة لذة) بحكم هذا المعنى، كمن قال: (كما تحدث للناس

أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور، فكذلك يحدث لهم مرغبات في الخير بقدر ما

حدث لهم من الفتور) .

وفي حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه: فيوشك قائل أن يقول: ما هم

بمتبعيّ فيتبعوني وقد قرأتك القرآن فلا يتبعني حتى أبتدع لهم غيره فإياكم وما ابتدع

فإن ما ابتدع ضلالة [2] .

وقد تبين بهذا القيد أن البدع لا تدخل في العادات، فكل ما اخترع من الطرق في

الدين مما يضاهي المشروع، ولم يقصد به التعبد فقد خرج عن هذه التسمية،

كالمغارم الملزمة على الأموال وغيرها على نسبة مخصوصة وقدر مخصوص مما

يشبه فرض الزكوات ولم يكن إليها ضرورة.

وكذلك اتخاذ المناخل وغسل اليد بالأُشنان وما أشبه ذلك من الأمور التي لم

تكن قبل، فإنها لا تسمى بدعًا على إحدى الطريقتين.

وأمّا الحدّ على الطريقة الأخرى فقد تبين معناه إلا قوله: (يقصد بها ما يقصد

بالطريقة الشرعية) . ومعناه أن الشريعة إنما جاءت لمصالح العباد في عاجلتهم

وآجلتهم لتأتيهم في الدارين على أكمل وجوهها، فهو الذي يقصده المبتدع ببدعته؛

لأن البدعة إمّا أن تتعلق بالعادات أو العبادات، فإن تعلقت بالعبادات فإنّما أراد بها

أن يأتي تعبده على أبلغ ما يكون في زعمه ليفوز بأتمّ المراتب في الآخرة في ظنه.

وإن تعلقت بالعادات فكذلك؛ لأنه إنما وضعها لتأتي أمور دنياه على تمام المصلحة

فيها. فمن يجعل المناخل في قسم البدع فظاهر أنّ التمتع عنده بلذّة الدقيق المنخول

أتمّ منه بغير المنخول.

وكذلك البناءات المشيدة المحتفلة، التمتع بها أبلغ منه بالحشوش والخرب.

ومثله المصادرات في الأموال بالنسبة إلى أولي الأمر، وقد أباحت الشريعة التوسع

في التصرفات، فيعد المبتدع هذا من ذلك.

وقد ظهر معنى البدعة وما هي في الشرع، والحمد لله.

***

فصل

وفي الحدّ أيضًا معنًى آخر ممّا ينظر فيه. وهو أن البدعة من حيث قيل فيها:

إنّها طريقة في الدين مخترعة

إلى آخره - يدخل في عموم لفظها البدعة التَّركية

كما يدخل فيه البدعة غير التركية، فقد يقع الابتداع بنفس الترك تحريمًا للمتروك أوْ

غير تحريم؛ فإن الفعل مثلاً قد يكون حلالاً بالشرع فيحرمه الإنسان على نفسهِ أو

يقصد تركه قصدًا.

فهذا الترك إمّا أنْ يكون لأمر يعتبر مثله شرعًا أو لا، فإن كان لأمر يعتبر فلا

حرج فيه، إذ معناه أنه ترك ما يجوز تركه أو ما يطلب بتركه [3] كالذي يحرِّم على

نفسه الطعام الفلاني من جهة أنه يضره في جسمه أو عقله أو دينه وما أشبه ذلك،

فلا مانع هنا من الترك. بل إن قلنا بطلب التداوي للمريض فإن الترك هنا مطلوب،

وإن قلنا بإباحة التداوي فالترك مباح، فهذا راجع إلى العزم على الحمية من

المضرات. وأصله قوله عليه السلام: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة

فليتزوج - إلى أن قال - ومن لم يستطع فعليه بالصوم) [4] الذي يكسر من شهوة

الشباب حتى لا تطغى عليه الشهوة فيصير إلى العنت.

وكذلك إذا ترك ما لا بأس به حذرًا مما به البأس فذلك من أوصاف المتقين،

وكتارك المتشابه حذرًا من الوقوع في الحرام واستبراءً للدين والعرض.

وإن كان الترك لغير ذلك، فإما أن يكون تدينًا أو لا. فإن لم يكن تدينًا

فالتارك عابث بتحريمه الفعل أو بعزيمته على الترك. لا يسمى هذا الترك بدعة

إذ لا يدخل تحت لفظ الحد إلا على الطريقة الثانية القائلة: أن البدعة تدخل في

العادات. وأمّا على الطريقة الأولى فلا يدخل. لكن هذا التارك يصير عاصيًا بتركه

أو باعتقاده التحريم فيما أحلّ الله.

وأما إن كان الترك تدينًا فهو الابتداع في الدين على كلتا الطريقتين، إذ قد

فرضنا الفعل جائزًا شرعًا فصار الترك المقصود معارضة للشارع في شرع التحليل [5]

وفي مثله نزل قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ

اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} (المائدة: 87) ، فنهى أولاً عن

تحريم الحلال. ثم جاءت الآية تشعر بأن ذلك اعتداء، وأن من اعتدى لا يحبه الله.

وسيأتي للآية تقرير إن شاء الله؛ لأن بعض الصحابة هَمّ أن يحرم على نفسه

النوم بالليل، وآخر الأكل بالنهار، وآخر إتيان النساء، وبعضهم هَمّ بالاختصاء،

مبالغة في ترك شأن النساء. وفي أمثال ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:

(من رغب عن سنتي فليس مني) .

فإذًا كل من منع نفسه عن تناول ما أحل الله من غير عذر شرعي فهو خارج

عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم. والعامل بغير السنة تدينًا هو المبتدع بعينه.

(فإن قيل) فتارك المطلوبات الشرعية ندبًا أو وجوبًا هل يسمى مبتدعًا أم لا؟

(فالجواب) إن التارك للمطلوبات على ضربين: (أحدهما) أن يتركها لغير

التدين إما كسلاً أو تضييعًا أو ما أشبه ذلك من الدواعي النفسية فهذا الضرب راجع

إلى المخالفة للأمر. فإن كان في واجب فمعصية، وإن كان في ندب فليس بمعصية

إذا كان الترك جزئيًّا، وإن كان كليًّا فمعصية حسبما تبيّن في الأصول،

(والثاني) أن يتركها تدينًا. فهذا الضرب من قبيل البدع حيث تدين بضد ما شرع

الله. ومثاله: أهل الإباحة القائلين بإسقاط التكليف إذا بلغ السالك عندهم المبلغ الذي

حَدُّوه:

فإذًا قوله في الحد (طريقة مخترعة تضاهي الشرعية) يشمل البدعة

التركية كما يشمل غيرها؛ لأن الطريقة الشرعية أيضًا تنقسم إلى ترك وغيره.

وسواء علينا قلنا إن الترك فعل؛ أم قلنا إنه نفي الفعل على الطريقتين

المذكورتين في أصول الفقه.

وكما يشمل الحد الترك يشمل أيضًا ضد ذلك، وهو ثلاثة أقسام: قسم الاعتقاد،

وقسم القول، وقسم الفعل. فالجميع أربعة أقسام. وبالجملة فكل ما يتعلق به

الخطاب الشرعي يتعلق به الابتداع. اهـ.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) الكتاب للإمام أبي إسحاق الشاطبي الأندلسي صاحب كتاب (الموافقات) في أصول الشريعة وحكمها، وهو يطبع الآن بمطبعة المنار على نفقة دار الكتب الخديوية التابعة لنظارة المعارف المصرية، فنبشر علماء الإسلام بذلك، وننشر لهم هذا النموذج منه.

(1)

هذا هو الصواب ولا يغترن أحد بترغيب الخطباء الجاهلين في ذلك، ولا بالحديث الذي

يذكرونه على منابرهم وهو: (إذا كانت ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها، فإن الله ينزل فيها لغروب الشمس إلى سماء الدنيا فيقول: ألا من مستغفر فأغفر له! ألا مبتلى فأعافيه! ألا كذا حتى يطلع الفجر) فإن هذا حديث واهٍ أو موضوع، رواه ابن ماجه وعبد الرزاق عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، وقد قال فيه ابن معين والإمام أحمد: إنه يضع الحديث. نقل ذلك محشي سنن ابن ماجه عن الزوائد، ووافقه الذهبي في الميزان في الإمام أحمد، وذكر عن ابن معين أنه قال فيه: ليس حديثه بشيء. وقال النسائي (متروك) .

(2)

كذا في الأصل فليراجع الحديث وليضبط.

(3)

لم يظهر لنا معنى الباء فالظاهر أنها زائدة من الناسخ.

(4)

تتمة الحديث بعد كلمة الصوم (فإنه له وجاء) فقوله (الذي يكسر من شهوة الشباب

إلخ)

من كلام المصنف يبين به علة كون الصوم وِجَاء. وهو إضعاف الشهوة على رأي الجمهور. وهو لا يظهر إلا في الصوم الكثير مع التقشف والاكتفاء عند الفطر بقليل الطعام، وإلا فإن الصوم من أسباب الصحة وزيادة القوة، حتى في المعيشة المعتدلة؛ وحينئذٍ يكون وجه الشبه بين الوجاء الذي هو دق عروق خصيتي الفحل المضعف أو المزيل لشهوته - وبين الصوم هو كون الصوم سبب التقوى، كما قال الله تعالى في تعليل فرضيته:[لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ](البقرة: 183) ؛ فمن أكثر من الصوم وترك ما يشتهي من الطعام والشراب المباحين لوجه الله تعالى يستفيد فائدتين: إحداهما ملكة مراقبة الله تعالى الذي يترك طعامه وشرابه لأجله. والثانية ملكة ترك الشهوات التي يحتاج إليها كل يوم فتقوى إرادته وعزيمته، فيسهل عليه ترك سائر الشهوات ومنه غض بصره وإحصان فرجه.

(5)

إن أهل الآستانة لا يأكلون لحم الحمام، فهو يعشش ويفرخ في مساجدهم وبيوتهم ولا يأكل أحد منه شيئًا، بل يتحرجون من ذلك وينكرونه، والظاهر أن عامتهم يعتقدون أن أكله حرام، أفلا يجب في هذه الحال على العلماء مقاومة هذه البدعة التركية بالقول والفعل.

ص: 54

الكاتب: صالح مخلص رضا

‌تقريظ المطبوعات الجديدة [*]

(كتاب الهدى إلى دين المصطفى)

(الجزء الأول منه لمؤلفه

النجفي في مدينة (سُرَّ مَنْ رَأَى) بالعراق، طبع بمطبعة العرفان طبعًا نظيفًا على ورق متوسط ص 392 بقطع المنار ثمنه 20 قرشًا، ويباع في مكتبة المنار بمصر) .

كثر دعاة النصرانية في هذه البلاد كما كثروا في كل بلد دخله النفوذ الغربي،

دخلوا القرى بدون إذن أهلها، وجاسوا خلال الديار رائدين الفتنة والتفريق، وقد

كان المسلمون - عامتهم وعلماؤهم - لا يحفلون بما يبثه هؤلاء الدعاة بين

المسلمين لسخافته وبداهة بطلانه، وليس في هذه البلاد من أثقله وزر آدم فيأتي هؤلاء

الذئابَ يحتمي منه في حظيرتهم، ولا من ضاق صدره بتوحيد الله عز وجل فيجيء

هؤلاء المعددين ليجد له عندهم متسعًا في ثالوثهم، ولا من حصر صدره بعصمة

الأنبياء الهداة حتى يتحكك بهؤلاء الكتبة؛ ليثلجوا صدره ويجرّؤه على المعاصي

بقصة نوح مع ولديه أو إبراهيم مع امرأته أو يهوذا مع كنَّته أو داود مع امرأة قائده

أو سليمان مع أصنام نسائه أو ابن يعقوب مع امرأة أبيه أو يعقوب مع ملاك ربه أو

لوط مع بنتيه.. إلخ. بل إن المسلمين ليسوا بمحتاجين مسيحهم الخيالي (وهو غير

مسيح الله عليه السلام الذي يدعي هؤلاء الصدوقيون أنهم يعبدونه وينكرون

سيرته الإنجيلية ويرون عصمته عن السكر وعن غسل أرجل التلاميذ وعن طرد

أمه وإخوته وإنكاره لها وعن البخل بهداية الكنعانية، إلى غير ذلك مما نراه في

أناجيلهم.

لا خوف من هذه التعاليم على عامة المسلمين فضلاً عن علمائهم، ولكن

السكوت على باطلهم خيَّل إليهم أنهم على حق فتفننوا في طرق دعوتهم حتى إنهم

ليصدرون بعض كراريسهم بالآيات القرآنية أو بخطب تضارع الخطب التي

اصطلح بعض الخطباء الرسميين على تلاوتها يوم العيد وأيام الجمع.. إلخ. كل

ذلك ليدخلوا إلى قلوب المسلمين فيفسدوا عليهم ما بقي لهم من دينهم، ويحلوا

الروابط التي تربطهم بأمتهم. ولذلك قام العلماء في جميع الأقطار يرسلون شهب

ردودهم فتخمد أنفاس شياطين التفريق، وأول من كتب في الرد عليهم في هذا

العصر بعقل وبحث وروية الشيخ رحمة الله الهندي ثم تبعه قوم آخرون هم عيال

عليه في هذا الباب. ثم رأينا مثالاً له في هذه الآونة من رسائل الدكتور صدقي

وكتاب النجفي، وهو هذا المؤلَّف الذي هو نتيجة بحث علمي وتمحيص المسائل

وتحقيقها.

فحيّا اللهُ العلامة النجفي فقد دحض مزاعم دعاة النصرانية بكتابه هذا وقذف

بحقه على باطلهم فإذا هو زاهق ولهم الويل مما يصفون.

وضع كتابه هذا ردًّا على كتاب (مقالة في الإسلام) لسايل الإنكليزي المترجم

بالعربية وعلى الكتاب البذيء المسمى بالهداية الموضوع للرد على كتاب (إظهار

الحق) ، وكتاب (السيف الحميدي) فهدم أركانها وقوّض بنيانها بالأدلة العقلية

والنقلية بعبارة طلية جلية، فيجدر بمن عني بالرد على هؤلاء المشاغبين أن يطلع

على هذا الكتاب.

***

(كشف الأستار عمّا لحقوق الدول من الأسرار)

الجزء الأول بقلم صبحي أباظه طبع بمطبعة العرفان بصيدا سنة 1331 ص

125 بقطع المنار ثمنه 20 قرشًا يطلب من مكتبة المنار بمصر.

اسم الكتاب يدل على موضوعه وفيه فوائد جمّة جاءت من طريق الاستطراد.

***

(في التربية والتعليم)

تأليف محمد أمين. طبع بمطبعة التقدم بمصر على ورق جيد. ص 114

بالقطع الصغير، ثمنه خمسة قروش ويطلب من مكتبة المنار بمصر.

مواضيع الكتاب - بعد مقدمة بقلم أحمد بك لطفي السيد مدير الجريدة -: (1)

الشكوى. (2) تشخيص العلة. (3) وصف الدواء؛ ثم الأطوار الثلاثة، في

البيت والمدرسة والمجتمع. (4) التربية الحسية والعملية والأخلاقية؛ ثم الخاتمة.

والكتاب مجموعة مقالات نشرت في الجريدة ثم طبعت على حِدَتها غير مصدَّرة

بالبسملة ولا الحمدلة، على سنة من يتفصون من كل ما يربطهم بالأمة الإسلامية

من الشعائر والمقومات والمشخصات.

***

مرشد المترجم الصغير (لطلبة الشهادة الابتدائية)

تأليف محمد السيد بك وكيل مدرسة المعلمين الناصرية وعوض إبراهيم بك

وكيل المدرسة السعيدية. طبع بمطبعة المعارف طبعًا نظيفًا ص 140 بالقطع

الوسط. ثمنه خمسة قروش، ويطلب من مكتبة المعارف ومكتبة المنار بمصر.

وضعه مؤلفها لطلبة الشهادة الابتدائية وتوخيًا في تذليل عقبات الترجمة من

العربية إلى الإنكليزية وبالعكس، وتسهيلها على التلميذ بشرح المفردات التي يهتدي

إليها بسهولة، وقد اطّلع عليه المستر استيفنز معلم الإنكليزية بمدرسة المعلمين

الناصرية. والكتاب يفيد التلميذ علمًا بالشئون الاجتماعية بمواضيعه المفيدة.

***

(الأجوبة المسكتة)

تأليف أحمد أفندي صابر من مستخدمي (نظارة الأوقاف) وقد طبع الطبعة

الثانية بمطبعة الجمالية بمصر؛ مع زيادات وتحسينات، ص 252 بقطع رسالة

التوحيد.

ثمنه خمسة قروش، ويطلب من مكتبة المنار بمصر، وهو غني عن التعريف.

***

(غاية الإنسان)

كتاب في الفلسفة الأدبية مفيد وضعه الفيلسوف جافينون وترجمته وسيلة محمد

مترجمة (روح الاعتدال) وناهيك بها سلاسة وجوده. ص 160 بقطع سابقه.

طبع بمطبعة المعارف طبعًا نظيفًا. ثمنه خمسة قروش ويطلب من مكتبة المعارف

ومكتبة المنار بمصر.

***

(أرجوزة ابن المعتز)

طبعت في المطبعة الجمالية بمصر سنة 1330 على نفقة ابن منصور في 24

ص بقطع رسالة التوحيد، على ورق جيد ثمنها قرش صحيح واحد، وتطلب من

المكاتب المصرية، وموضوع الأرجوزة تاريخ المعتضد بالله العباسي، وما هو

بالتاريخ الذي يعتد به.

***

نشوء الاجتماع (الجزء الأول منه)

تأليف بنيامين كد وتعريب محمد زكي صالح في طنطا طبع بمطبعة الأخبار

بمصر سنة 1913 على ورق جيد ص 135 بقطع (الإسلام والنصرانية) ثمنه

خمسة قروش، ويطلب من مكتبة المنار بمصر.

مواضيعه بعد مقدمة المترجم التي ألمت بموضوع الكتاب وآراء العلماء

والجرائد فيه هي: (1) الحاضر (2) أسباب الارتقاء (3) العقل لا يؤيد

أسباب الارتقاء (4) أجلى طبيعة في التاريخ الإنساني (5) وظيفة العقائد الدينية

في نشوء الاجتماع.

والكتاب مفيد في موضوعه، منبه للعقل موقظ للقوة المفكرة. وأرى أن

أستعير لتقريظه كلمة الأستاذ (ويسمن) الألماني التي كتبها في مقدمة الترجمة

الألمانية وهي: (لا أرمي إلى تحليل هذا الكتاب الفذ؛ بل أقول: إنه جدير بالنظر

والاعتبار

إلخ) والمرجو أن يظهر المعرب الجزء الثاني منه وأن يعتني

بترجمته وبتصحيحه ليسلم من مثل الأغلاط التي في الجزء الأول.

***

(كتاب آداب العرب)

تأليف إبراهيم بك العرب. طبعته نظارة المعارف على نفقتها في المطبعة

الأميرية سنة 1911 وقررت تدريسه في مدارسها الابتدائية وفي مدارس المعلمين

والمعلمات ويطلب من مخزن المعارف.

الكتاب مجموعة مواعظ منظومة على ألسن الحيوان والطير على نمط كتاب

الصادح والباغم.

***

(المطالعة الفصيحة لأمهات اليوم والغد)

الجزء الأول منه تأليف الشيخ مهدي أحمد خليل المدرس بمدرسة المعلمات في

بولاق. الطبعة الأولى منه سنة 1331 ص 205 بقطع رسالة التوحيد، ثمنه

خمسة قروش، ويطلب من مكتبة المنار بمصر.

الكتاب أدبي اجتماعي لغوي كبير الفائدة، ولذلك قررت نظارة المعارف

تدريسه لجميع تلميذات مدارس البنات العالية والابتدائية والخصوصية.

***

(محاسن الطبيعة وعجائب الكون)

تأليف اللورد (أفري) ترجمة وديع البستاني. ص 264 بالوسط طبع مطبعة

المعارف، وثمنه خمسة قروش، ويطلب من مكتبة المنار ومكتبة المعارف.

أبحاث الكتاب: تمهيد، عالم الحيوان، والنبات، والحقول والحراج، والماء،

والبحر، ثم القبة الزرقاء. وهو يجول في هذه الأبحاث جولة المفكر المتعقل

المعتبر. وإذا كان هذا الكتاب أسمى معاني وأكثر دقة من سائر ما قرأنا من مؤلفات

لورد أفري التي عربها وديع البستاني فإن ترجمته أصح وأسلم وأقل غلطًا من

جميعها أيضًا.

***

(رواية جزيرة الذهب)

مترجمة عن الألمانية بقلم ماري إبراهيم نجار، طبع الجزآن الأول والثاني

منها بمطبعة جريدة الهدي في نيويورك على نفقتها فكانت ص 254 بالقطع الوسط

وموضوعها تحويل الأفكار عن عبادة الذهب، وتضحية كل شيء في سبيل

الحصول عليه؛ إلى فكرة الإنسانية الراقية وما أجدر هذه المترجمة العاقلة الفاضلة،

باختيار هذه القصص المفيدة النافعة.

***

(مجلة العلوم الاجتماعية)

مجلة تصدر في بيروت تبحث في الحقوق والاقتصاد والاجتماع، سنتها

عشرة شهور شمسية تبتدئ من أيلول (سبتمبر) من كل سنة. الجزء منها 322

ص. منشئها المحامي توفيق أفندي الناطور المتخرج في مدرسة الحقوق في باريس،

ومدير تحريرها الشيخ محمد منيب أفندي الناطور من تلاميذ الأزهر ومدرسة

القضاء الشرعي.

قيمة اشتراكها في البلاد العثمانية ريالان مجيديان، وفي البلاد الأجنبية

عشرة فرنكات.

وإن في سعة منشئها ومديرها وتوخيهما النفع لها ما يوجب الإقبال عليها لما

يختاران نشره فيها من العلوم والفوائد التي أصبحت في هذا العصر حاجة من

حاجات الأمة، فنحن نرجو لها الرواج والنجاح، ونعده عنوانًا لاستعداد الأمة

للارتقاء. وقد فتحت بابًا لأدبيات اللغة العربية فضمت إلى فوائدها العلمية هذه

الفائدة اللغوية ويمكن الاشتراك فيها بواسطة مجلة المنار ومكتبته.

_________

(*) كتب تقاريظ هذا الجزء شقيقنا السيد صالح مخلص رضا.

ص: 63

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الشيخ علي يوسف

(3)

فصل في بقية الكلام على سياسته المصرية

بينَّا أن سياسة الشيخ في المؤيَّد كانت تدور في أول العهد على ثلاثة أقطاب:

(1)

تأييد سلطة الأمير ونفوذه (2) مقاومة نفوذ الاحتلال الإنكليزي (3)

الاعتماد في هذه المقاومة على نفوذ الدولة العثمانية وحقوقها الرسمية في مصر.

وكذا على نفوذ فرنسا ومصالحها السياسية فيها، وأنها بعد طول الاختبار وتغير

الحوادث طرأ عليها بعض التغيير. ونزيد ذلك بيانًا فنقول - وإن كررنا بعض

المعاني -:

إنه بعد حادثة فشودة علم المترجم أن الاتكال أو الاعتماد على عهود دولة

أوربية لا يكون إلا دون الاتكال على المواعيد العرقوبية، وأنه بعد اختبار السياسة

العثمانية بالغوص في أعماق الحوادث التي بيانها وبين أوربا، وبلقاء كبار رجالها

في الآستانة ومصر وأوربا، علم أنه لا يتكل عليها في شيء، وأن الذي يبني

عمله على الرجاء فيها فإنما يبني على شفا جرف؛ إذ لا يؤمن خذلانها له في كل

عمل، فاكتفى من خدمة الدولة فيما يسمونه المسألة المصرية بالمحافظة على حقوقها

الرسمية في مصر، وجعل فرماناتها الرسمية لأمراء مصر ركن استقلالها الركين،

الذي يصد به بعض ما يخشى من هجمات الاحتلال عليه. وأما فرنسة وسائر دول

أوربة فقد علم كما يعلم كل خبير بصير أنها دول تجارية تَتِّجر بالأمم والشعوب

والدول، وأنها لا تراعي في تجارتها حقًّا ولا عدلاً، ولا رحمة ولا فضلاً، وإنما

رأس مالها القوة والحيلة والأثرة، فلا يقدر أن يستفيد منها إلا من جعل منفعته

وسيلة إلى منفعتها، وهيهات أن يتسنى لأدنى أن يستخدم لمنافعه من هو أعلى منه

قوة وعلمًا. وما كل من تنفعه تقدر أن تستخدمه، وناهيك بدول أوربة ومعارضة

بعضها لبعض في سياستها أو مطامعها في بلادنا، فإذا أراد بعضها أن ينفعنا قليلاً

لينتفع منا كثيرًا، عارضه في ذلك من يكره لنا هذه المنفعة ويراها عقبة في طريق

مطامعه فينا.

وكان الفقيد يعلم أيضًا أن شعوب أوربة خير من حكوماتها، وأن فيهم كثيرًا

من الأحرار ومحبي الحق والخير لكل البشر، وأن رأي الشعب العام له السلطان

الأعلى على الحكومات؛ فلهذا كان يرى أخيرًا أنه ينبغي أن يكون للمصريين صلة

ببعض أهل الفضيلة من أحرار الإنكليز لعلهم يستعينون بهم على مقاصدهم،

وإيصال ما يشكون منه بحق من إنكليز مصر إلى إنكليز لندرة، حتى لا تكون

الشؤون المصرية محجوبة عن محبي الإنصاف، لا يعرفون منها إلا ما يكتبه عميد

إنكلترا في مصر إلى ناظر الخارجية في لندرة وبعض مراسلي الجرائد. والعلم بهذا

الرأي إما أن ينفع وإما أن لا يضر. ولكن عارضه فيه أحداث الوطنية في جريدة

اللواء وما أحدثوه بعد مصطفى كامل من الجرائد كدأبهم وعادتهم، وقد بينا وجه ذلك

عندهم في هذه الترجمة.

***

(الجرائد والأحزاب بمصر)

ونقول ههنا: إن السياسة في مصر لا مظهر لها إلا الجرائد، وقد تألفت

الأحزاب لأجل الجرائد ومديري سياسة الجرائد، ولم يستطع حزب من الأحزاب أن

يجعل جريدة أكثر رواجًا وقبولاً من جريدة أخرى عند الرأي العام بمصر.

وقد سبق القول بأن الجرائد العربية المؤثرة في الجمهور المصري كانت ثلاثة:

الأهرام والمقطم والمؤيد، وأن التنازع إنما كان أولاً بين الأهرام والمقطم؛ ثم

كانت الأهرام تشايع المؤيد بعد ظهوره لاتفاقه معها في الميل إلى السياسة الفرنسية

التي تعد الأهرام هي الركن الأول لها؛ ولأن مشايعته على المقطم كانت تعد من

آيات صدق الخدمة الوطنية لمصر. ولما انقطع أمل المصريين من فرنسة صارت

جريدة الأهرام في المرتبة الثانية بين الجرائد اليومية؛ بل كادت تموت من شدة

ضعفها؛ لولا أن تداركها همّة بشارة باشا تقلا القوية ومَن ساعده على تحريرها من

أذكياء الكتاب، وأعانه على ذلك ثقة جمهور التجار والزراع بأخبارها التجارية.

بذلك انتعشت بعد أن سقطت، وارتفعت بعد أن انخفضت، وحفظت مكانتها بين

الجرائد اليومية الكبرى، فإن لم تعد رأسًا في سياسة خاصة فهي رأس في الثروة

والمباحث العامة. ولا يضاهيها في هذين الأمرين إلا المقطم. فهما الآن في مقدمة

الجرائد المصرية في الثروة، وسعة الأخبار العامة، والقدرة على التصرف في

الكلام عن الشؤون المصرية، على أنهما لم تتألف لهما أحزاب، وإنما تلك كفاءة

أصحابهما ومحرريهما، والجمع بين حسن الإدارة، والبراعة في الكتابة.

وقد تألف في مصر ثلاثة أحزاب سياسية حول ثلاث جرائد يومية، هن أكبر

جرائد مسلمي هذا القطر وأوسعها انتشارًا: المؤيد واللواء والجريدة، ولم يكن لواحدة

منهن دخل يوازي دخل المقطم والأهرام إلا للمؤيد، فقد كان أوسع منهما انتشارًا

وعلى مقربة منهما في المال، ولو أتيح للمؤيد مدير مالي يسير بإدارته سيرة

أصحاب تينك الجريدتين لكان أوسع الجرائد ثروة، على أن الشيخ رحمه الله عاش

به في سعة ورخاء، كما يعيش الأمراء والكبراء، حتى تورط في شراء الدور

وأراضي البناء، في إبان إسراف الناس في التغالي بها، فركبته الديون وجاءت

سنوات العسرة المالية فأتت على تجميع ما في يده، وكادت تذهب بالمؤيد نفسه،

لولا أن تداركه بتأسيس شركة مساهمة له، فحالت دون موته، لا دون مرضه، فقد

مرض المؤيد أمراضًا أشرفت به على الموت عدة مرار، وصارت حركة ظهوره

كحركة المذبوح أو حركة الاستمرار، وهو لا يزال محتاجًا إلى تجديد الحياة، وإنما

يكون ذلك بحسن الإدارة والنظام، وجعل التحرير على الوجه الذي بيناه من قبل،

وهو ما به يظل المؤيد صاحب التأثير الأول في كل ما يتعلق بمصالح المسلمين في

مصر، وكذا في غيرها، ثم بالمصالح المصرية والعثمانية. فإذا قصَّر المؤيد في

هذا الأمر - الذي لم يكن لولاه أمرًا ذا بال - يحكم عليه الرأي العام الإسلامي بالعدم

والزوال، ويطلب بلسان حاله جريدة تحل محله حتى ينهض بها مَن يؤهله

الاستعداد من الشركات أو الأفراد.

وجملة ما نريد الاعتبار به أن المؤيد قد جعله مشربه الإسلامي والمصري

فوق جرائد القطر كلها، بل جعله حاجة طبيعية، مِنْ حَاج البلاد المصرية

فالإسلامية، ولقي من المساعدة والإقبال ما لم يلق غيره، ومع هذا كله لم يستطع

أن يكون في ثبات الأهرام والمقطم وفي مثل ثروتهما، ولا في المحافظة على

إشعار الجماهير بحاجاتهم إليه، وبأنه لا بد لهم في الحوادث الطارئة من رأيه،

وقد ألف صاحبه له حزبًا سياسيًّا سماه (حزب الإصلاح على المبادئ الدستورية)

فلم يفده قوة تذكر، ولا رد عنه غارة تشن، وإنما كانت قوته المعنوية في هجومه

ودفاعه سنان قلم الشيخ علي، وحسن استعماله لأسنة الأقلام التي كانت تساعده،

ومنها ما كان أنفذ من سنانه في بعض الشؤون وأقتل. فلما مرض الشيخ مرض

المؤيد، ولما مات خشي الناس أن يموت كما مات حزبه، ولكن الشركة المالية

تداركت حياته المادية، وعسى أن توفق لتدارك حياته المعنوي، فإن لم يتم هذا يفقد

مسلمو مصر الانتفاع بقوتهم المعنوية، ولا يبقى لهم قائد منهم في حياتهم السياسية

والأدبية، ولا مدافع يؤثر صوته في مصالحهم الدينية، فالشعب جريدة أحداث

جهال، والجريدة ليست إسلامية المشرب، والأهالي كذلك، على أنها ولدت سقطًا

كما قال أحد الأدباء. فالجريدة الإسلامية المصرية هي المؤيد، فإذا مات يعسر

وجود خلف له. وإنني بهذه الحرية في النصيحة، ربما أثير على نفسي حقدًا قديمًا

وعداوة جديدة، ولا أبالي ذلك في سبيل مصلحة المسلمين، على أنني لست على ثقة

من قبولها، والله الموفق.

وأما اللواء فقد بينا أن منشئه تربى في مدرسة المؤيد السياسية، فكان تلميذًا له،

إلا أنه عقه وكفره، وكان يحسب أنه يبذه أو يكون ناسخًا له؛ لأنه يبالغ ويغلو في

كل المقاصد التي صار المؤيد يسلك سبل الاعتدال فيها، كمدح السياسة الحميدية،

وذم الحكومة المصرية، ومقاومة الاحتلال بالذم والاحتجاج، وذلك أن الناس كانوا

قد ألفوا بعض المبالغة من المؤيد، فإذا أرجعته عنها الحكمة والخبرة، يعد عوامّهم

وشبانهم ذلك من تغيير الخطة، ومن دأب الأحداث والعوام، حب الإغراق والغلو

في الكلام، وناهيك بما يتعلق منه بالسياسة والحكام. وقد بذّ اللواءُ المؤيَّدَ في

المبالغة بهذه المقاصد، وانفرد دونه بدعوة مسلمي مصر إلى تكوين رابطة جنسية

وطنية، لكنها رابطة تنافي إخاء الإسلام ولا ترضي القبط وسائر طوائف النصرانية.

صادف اللواء من مساعدة الآستانة ومساعدة بعض أمراء مصر وأغنيائها ما لم

تصادفه جريدة أخرى. حتى كان يبذل له الذهب بالألوف، وهو على هذا كله لم

يتسع انتشاره إلا بعد سنين من إنشائه، ثم إنه غلب المؤيد على استمالة أكثر تلاميذ

المدارس وكثير من العوام، وصار المؤيد باعتداله -على رضاء أكثر العوام عنه-

جريدة الخواص.

لم يستطع اللواء أن يصل بكل ذلك إلى أن يكون كجريدة الأهرام أو المقطم

في ثباتهما وثروتهما، وقد ألف صاحبه له الحزب الوطني الحديث [1] وألف شركة

رأس مالها عشرون ألف جنيه لأجل إصدار لواء أو لوائين آخرين باللغتين

الفرنسية والإنكليزية، وإنما كانت هذه الشركة صورية لا غرض منها إلا بذل ذلك

المال لمصطفى كامل يتصرف فيه؛ كما يشاء كما يفهم من قانونها وقد فعل. أضاع

هذا المال - كما أضاع ما سبقه من الإعانات مع كل غلة اللواء ومطبعته - في

السرف والمخيلة والمضارات، وطفق ينشد في اللواء شركاء يشترون سهامًا

أخرى من الشركة؛ فلم يستجب لرقيته أحد، ولم يلبث مصطفى باشا كامل

أن مرض وضاعف ثقل المرض عليه همّ الدين والعوز، وفي أثناء مرضه ألف

الحزب الوطني الحديث [1] وكل ذلك لم يغن شيئًا. ومات (كما مات صاحب المؤيد

بعده) مثقلاً بالديون، فقد تبين أن عليه عشرات الألوف من الجنيهات. وقد حجز

الدائنون مطبعة اللواء، وبيع أثاث زعيم الوطنية في محل رجل رومي يبيع الأثاث

بالمزاد، ثم مات اللواء بعد أن اضطر أصحابه إلى استخدام بعض الكتاب من نصارى

السوريين لتحريره وقد كان أعدى أعدائهم، وبعد أن انشق الحزب وأنشأ - بسعي

محمد بك فريد؛ رئيسه - جريدة لتكون لسان حاله سماها العلم (بالتحريك) ناط

رياسة تحريرها بالشيخ عبد العزيز شاويش، فكانت دون اللواء؛ أحط منه في كل

شيء إلا الغلو والإسراف في الكذب، والإرجاف والطعن في الشعوب والأفراد.

لذلك اضطرت الحكومة إلى إلغائها بعد أن حوكم رئيس تحريرها (شاويش)

غير مرة، وحكم عليه بالسجن وسجن.

في أثناء هذه الحوادث كان المتحمسون من رجال الحزب الوطني وآخرون

ممن يودون استمالة محبي الرجل من التلاميذ يجمعون المال لنصب تمثال له،

يخلدون به ذكره، ولو راعوا الآداب الإسلامية لحافظوا بهذا المال على جريدة

اللواء، وانتقوا لها محررين من العقلاء الأدباء، فإن هذا هو الذي يحفظ ذكره كما

حفظ الأهرام اسمي سليم تقلا وبشارة تقلا، فما من يوم إلا ويقرأ الأهرام ألوف من

الناس يرون هذين الاسمين ويتذكرون مؤسسي هذه الجريدة المرتقية، وفي مصر

عدة تماثيل لا يخطر أصحابها لأحد على بال حتى عند رؤيتها ماثلة بالشوارع.

وأما (الجريدة) فالعبرة بها أعظم فقد أنشأها جماعة من سروات البلاد

أصحاب الثروة والمكانة الاجتماعية، وحصلوا لها رأس مال عظيم، ووضعوا لها

قبل إنشائها قانونًا من أدق القوانين، وأسسوا لها مطبعة من أرقى المطابع، وجعلوا

إدارتها ومطبعتها في قصر من أحسن القصور، واختاروا لها مديرًا من أذكى

الكتاب وأعلمهم بالسياسة والقوانين، واختار هو من المحررين من سبق لهم التمرن

على الكتابة حتى في إدارة الأهرام وإدارة المقتطف والمقطم.

وألف أولئك السروات المؤسسون لها حزبًا سياسيًّا يكفلها سموه (حزب الأمة)

فهي قد ولدت بالغة راشدة فلم تكن كالمؤيد واللواء طفلاً ينمو في إدارته رويدًا

رويدًا، ولكنها - على كل هذه المزايا - لم تستطع أن تجد لها مقعدًا ولا موقفًا من

المكان الفسيح الذي وجده قبلها المؤيد أو اللواء من قلب الرأي العام المصري، ولم

تستطع أن تنال من جيبه بعض ما ينال المقطم أو الأهرام، بل كانت تحتاج كل سنة

إلى إمداد أولئك السروات لها بمالهم، على أنها ليست في الحقيقة لسان حالهم، وسبب

ذلك كله أن الروح الذي نفخ في هذه الجريدة لتحيا به ليس إسلاميًّا، وإنما هو فلسفة

خاصة لا تكاد تتجاوز دماغ مدير الجريدة وأدمغة بعض أصدقائه من المحامين

وغيرهم (الذين هم حزب الجريدة المعنوي لا المالي) إلا بتدرج بطيء جدًّا، ثمّ إنه

لا يرجى أن يعم، وليس من الحكمة، ولا مما يبيح الاقتصاد أن يكون له جريدة توقف

عليه في مثل هذه البلاد التي لم تستعد لأن تعيش فيها جريدة أو مجلة خاصة بشيء

واحد ممّا تعمّ الحاجة إليه كالاقتصاد والزراعة أو الأدب، ودع الفلسفة بجملتها،

دون مذاهب الأفراد فيها فقط.

وجملة القول أن الجريدة لا ترمي عن قوس عقيدة مسلمي مصر، ولا تصلح

للتأثير بالرأي العام المصري ولا فيه، فهي لا تستطيع أن تخدمه كما يجب، ولا أن

تستخدمه كما نحب؛ لأن روحها غير إسلامي، فلا هي لسان حال المسلمين، ولا

لسان الذين أسست بأموالهم منهم، وهم لم يستمروا على الإنفاق عليها إلا لما

يشعرون به من الغضاضة عليهم إذا ألغوها وأبطلوها، ولا يرجى لها بهذا المشرب

أن تبلغ شأو المقطم أو الأهرام من نفوس الناس ولا من الرواج والربح.

فظهر ما شرحناه أن الأحزاب في مصر لا عمل لها ولا تأثير إلا بالجرائد،

وأن الجرائد بالرجال الذين يتولون سياستها وإدارتها، وأنه لم توجد بمصر جريدة

للمسلمين حسنة الإدارة والنظام اللهم إلا الجريدة في الجملة أو في ضبط الأعمال

المالية وأن جريدة المؤيد هي الجريدة الإسلامية السياسية التي أوجدتها الحوادث

وكفاءة الشيخ علي يوسف في مكانه من الرأي العام الإسلامي يعرفها لها أهل

السياسة في أوربة ويعدونها لسان حال مسلمي مصر وغير مصر أيضًا. وحذت

جريدة اللواء حذوها، ولم تبلغ شأوها؛ لأن صاحب المؤيد كان في السياسة الإسلامية

مستقلا، وصاحب جريدة اللواء كان فيها مقلدًا، وإنما كان حظه منها بقدر ما اقتبس

من سياسة المؤيد. وكل ما خالف المؤيد كان خطأ في جملته، إن لم يكن خطأ في

كل فروعه وجزئياته، ولكن الغيرية لا تكون إلا بالمخالفة في بعض الشؤون،

فصاحبا المؤيَّد واللواء هما أوجدا المؤيد واللواء، وقد كان لسوء تصرفهما المالي

دخل عظيم في إضعاف جريدتهما، حتى ماتت إحداهما بعد موت صاحبها بعدما

أشرفت على الموت المالي في عهده، ويخشى أن تموت الأخرى مثلها، إن لم يعن بها

أهل الغيرة والبصيرة عناية يراعى فيها ما بيناه في هذه الترجمة مرارًا.

فيجب على مسلمي مصر أن يتدبروا هذا النقص العظيم، وأن يتذكروا أن

شعبهم المستعد للعلم والأدب والتربية السياسية والاقتصادية، هو الذي جعل الأهرام

والمقطم أغنى الجرائد في بلاده، لأن أصحابهما عرفوا كيف يخاطبونه بحسب

استعداده، وهو قد ساعد المؤيد واللواء ما لم يساعدهما، فيجب على من يخدمه أن

يخاطبه بلسان استعداده. وأن يتذكروا أن (مصر) و (الوطن) الجريدتين

القبطيتين، تليان في الثروة والثبات الأهرام والمقطم السوريتين. ولولا صبيتهما

القبطية لما كانتا دونهما تأثيرًا في نفوس المسلمين. فمن النقص - بل من العار -

على المسلمين أن لا يكون لهم جريدة أو جرائد مثل هذه أو أرقى منها في النظام

والثروة، بله التأثير والحظوة.

إن لي أن أفاخر بكفاءة أصحاب المقطم والأهرام ومحرريهما وببراعتهم؛

لأنهم من أبناء وطني الأول الذي هو وطن المولد والمنشأ. وأود - واللهِ - أن أفخر

بمثل عملهم من أبناء ديني ووطني الثاني الذي هو وطن العمل. ولا يسرني من

مثل المقطم والأهرام في مصر إلا ما ينفع المصريين؛ لأن أبناء وطني السوريين

ليس لهم مصالح في مصر إلا ما ينفع المصريين، فهم غير محتاجين إلى جرائد

خالصة لهم من دون المصريين، لأجل هذا يهمني أمر المؤيد، ويسرني أن يكون

أرقى الجرائد المصرية تحريرًا ونظامًا وإفادة واستفادة؛ لأن المسلم أجدر بمعرفة

حاجة الجمهور المسلم وبيانها والدفاع عنها، من مثله في علمه وبيانه من غير

المسلمين، وأقدر على التأثير فيه بحمله على الخير أو صرفه عن الشر، وعلى

التأثير به يجعله مِجَنًّا يدفع به عنه ما يراه ضارّا به. وقد رأيت غير واحد من

المشتغلين بالعلم وبالسياسة من النصارى يتمنون لو ولدوا مسلمين؛ لأجل أن يكونوا

أقدر على خدمة وطنهم أو الشرق الإسلامي كله.

وما أطلت الكلام على الجرائد في ترجمة الشيخ علي يوسف إلا لأذكِّر إخواني

مسلمي مصر بما أراهم غافلين عنه، وهو أنه لم توجد لهم جريدة تصح أن تكون

لسان حالهم بحق إلا المؤيد، وأن الروح الذي كان به المؤيد هو المؤيد يجب أن

يبقى له، ويجب أن يكفل، وأن يكون لهيئة التحرير فيه مع الرئيس الكفؤ، مراقب

موثوق به، مثل سعد باشا زغلول الذي كان ركنًا من أركان تأسيس المؤيد.

وإلا خسر مسلمو مصر خسارة يصعب عليهم الاستعاضة عنها في سنة أو

سنين قليلة، وربّما حرموها الأجيال طويلة، وقد ذكرناهم بما يوجب العبرة من

تاريخ أعظم جرائدهم.

هذا وإن أية جريدة من جرائد المسلمين في مصر يتولى رياسة تحريرها كاتب

خبير بمصالح المسلمين غيور عليها، قادر على الدفاع عنها، يمكن أن تحل محل

المؤيد الأول وأن تكون أكمل منه فيه وأثبت، ولكنْ لا يكون ذلك إلا بعد ثقة

الجمهور المسلم بها، وهذه الثقة إذا استعادها المؤيد في سنة واحدة - لا تنالها جريدة

جديدة بعد سنين كثيرة أو قليلة، ومن ذا الذي ينفق على جريدة جديدة إلا بعد سنين

كثيرة أو قليلة، ومن ذا الذي ينفق على جريدة جديدة عدة سنين، منتظرًا طروء

الحوادث التي تقنع الرأي العام بأنها هي حاجته التي يطلبها لسان حاله واستعداده؟

(للترجمة بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

أول من ألف حزبًا سياسيًّا بمصر باسم الحزب الوطني حكيمنا السيد جمال الدين الأفغاني، والحزب الذي كان يذكره مصطفى كامل في حال صحته لم يكن حزبًا مكونًا بالفعل.

ص: 68

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الجامعة الإسلامية والسياسية

(جمعية إسلامية. مدرسة جامعة بالمدينة المنورة. استغلال الحجرة النبوية)

نجدد الخوض في ذكر الجامعة الإسلامية بما ظهر أخيرًا من عناية جمعية

الاتحاد والترقي بالاستفادة من نفوذ الدولة الديني؛ لِما ظهر لها من تأثير الدين في

السياسة، وضرر ما كان من إعراضها عنه، ومن اهتمام مسلمي الأرض كافة

بحرب طرابلس، وحرب البلقان، وبذلهم المال لإعانة الدولة على الحرب بقدر

الإمكان، ومطالبة مسلمي الهند لدولتهم البريطانية بمساعدتها، واستيائهم من ميلها

للبلقانيين، ففي أثناء الحرب ألّفوا في الآستانة جمعية إسلامية خيرية تحت رياسة

أو رعاية ولي عهد السلطنة. وكان أول من بذل المال لتأسيسها بعض وجهاء

المصريين، ويرجون أن يجمعوا لها مالاً جمًّا، وإن لم يعرف العالم الإسلامي أين

ذهب هذا المال وكيف ينفق؟

***

المدرسة الجامعة بالمدينة

وأذاعوا في الأقطار خبر تأسيس مدرسة جامعة في المدينة المنورة ويعبر عنها

الترك باسم (دار فنون) ثم أرسلوا وفدًا إليها في أثناء زيارة الحجاج لها للاحتفال

بالشروع في تأسيس هذه المدرسة المسوِّغ لفتح باب الإعانات لها. ونحن ننتظر أن

نرى نظم هذه المدرسة لنعلم هل موضوعها دار فنون جامعة لكل الفنون والعلوم العالية

كما يفهم من هذه التسمية أم لا، ولنعلم أي اللغات تكون لغة التعليم فيها؟ هل هي

العربية أم التركية؟ ومن أين يأتون بالتلاميذ الذين تلقوا التعليم الابتدائي والثانوي

ليدرسوا فيها الفنون والعلوم العالية؟ وليس في المدينة ولا في الحجاز شيء من هذا

التعليم، ولا نبحث عن المعلمين والكتب قبل أن نعرف لغة التعليم، فإن نظارة

المعارف العثمانية تعتذر عما نطلبه من جعل التعليم في ولايات بالدولة العربية بلغة

أهلها، وأظهر أعذارها عدم وجود الكتب والمعلمين. وقد أذاعت الجرائد من

بضعة أشهر أن النظارة ألفت لجنة فيها لأجل اختيار الكتب العربية الصالحة.

وعلمنا أنها طلبت نموذجًا من كتب التعليم التي تقرأ في المدارس المصرية

الأميرية فأرسل إليها. وإلى الآن لم نر لعمل اللجنة أثرًا يُذكر. وإذا كانوا يريدون التعليم في المدينة باللغة التركية فإن لنا في ذلك كلامًا آخر.

نقول هذا ونحن لا نعقل؛ فلا نصدق أن حكومتنا توجد في المدينة المنورة

مدرسة جامعة. ونرى ذلك غير مستطاع إن كان مرادًا، ولا نظن أنه مراد؛ ولكنها

قد تبني بناء فخمًا تسميه مدرسة جامعة، وتجلب إليه بعض الطلاب من بلاد مختلفة،

فيُعْطَون دروسًا ابتدائية أو فوق الابتدائية، حسب استعداد من يحضر، ثم تستندي

أكفّ أغنياء الحجاج وغيرهم لأجل ترقية المدرسة كما تستنديها الآن لأجل تأسيسها

بإعاناتهم. وأمّا كون المراد من هذه المدرسة بث فكرة الجامعة الإسلامية في نفوس

المسلمين - كما قالت الجرائد في هذه الأقطار وفي غيرها - فالظاهر أن السياسة

الاتحادية الأخيرة تودّ إذاعة هذا المعنى عنها، وتحض الذين يتولون إنشاء

المدرسة الآن على إقناع زوار المدينة المنورة وغيرهم بأن جمعية الاتحاد والترقي

تخدم الدولة والإسلام، وأنه يجب أن تساعد على ذلك بما يستطاع من النفوذ والمال،

وقد علم هذا من حال من اختارتهم الجمعية للشروع في العمل، ومن الاحتفال

الذي كان في المدينة المنورة، ومن حال المندوب الذي بقي هنالك بعد الاحتفال

(وهو الأمير شكيب أرسلان أحد أدباء طائفة الدروز في جبل لبنان) الذي كتب

الشعارات بل المئات من المقالات في إطراء الجمعية والطعن في طلاب الإصلاح

من العرب للبلاد العربية. أما الشيخ عبد العزيز شاويش رئيس لجنة ذلك الاحتفال

في المدينة المنورة ورفيقه عبد القادر أفندي المغربي فهما من غلاة أنصارها الذين

ثبتوا على خدمتها في الإقبال والأدبار، على اختلاف المظاهر والأطوار، ومن كان

هذا شأنه معها فيما رجعت عنه من سياستها القديمة، فكيف لا يكون كذلك في

سياستها الجديدة؟ !

أما أنا فأتمنى لو توجد مدرسة جامعة في المدينة المنورة، أو مدرسة ما مهما

كانت درجتها، ومهما كان الغرض من إنشائها، فإذا لم تكن كما نحب اليوم، فإننا

نرجو أن تكون كما نحب غدًا، ولهذا لم أكتب كلمة تحذير منها في المقالات التي

أنحيت بها على أعمال الجمعية، أيام كان الخلاف بينها وبين قومنا العرب على

أشده، حتى إنني عدت كما كنت في عهد عبد الحميد لا آمن على نفسي أن أحج

بيت الله الحرام، أو أزور حرم رسوله عليه الصلاة والسلام، وكانت تتمثل لي هذه

المدرسة عند سماع خبر العزم عليها كمسجد الضرار. وقد دخل قومنا معها الآن في

طور جديد تمنينا فيه بكل ما نطلب من الإصلاح، والله المسؤول أن تصدق الأماني

وتحصل الآمال.

وأما رأيي الذي أنصح به للدولة، فهو أن تصدي رجالها السياسيين لتحريك

أوتار الجامعة الإسلامية يضر الدولة كثيرًا ولا ينفعها إلا قليلاً، ويوشك أن تكون

هذه الأقوال التي قيلت في هذه المسألة - على قلة تأثيرها - من أسباب ما نراه من

شدة تحامل أوربة عليها، وأكتفي في هذا المقام بالمثل الذي يكرره الإمام الغزالي

في الإحياء: (كن يهوديًّا صِرفًا وإلا فلا تلعب بالتوراة) .

ومرادي من هذا أنه يجب عليها أحد أمرين:

(الأول) أن تؤسس حكومة إسلامية، خالية من التقاليد والقوانين الإفرنجية،

إلا ما كان من النظام، الذي يتفق مع الشرع ولا يختلف باختلاف الأقوام،

وتعطي مقام الخلافة حقه من إحياء دعوة الإسلام، وإقامة الحدود وحرية أهل

الأديان، ولا يعجزها حينئذ أن ترضي غير المسلمين من رعاياها الذين ليس لهم

أهواء سياسية، ولا ضلع مع الدول الأجنبية، بل يكون إرضاؤهم أسهل عليه منه

الآن إن شاءته. ولو كان لي رجاء في إصغائها إلى هذا الرأي، أو جعله محل النظر

والبحث، لبينت ذلك بالتفصيل، ولأوردت ما أعلمه من المشكلات والعقبات التي

تتعرض في طريق تنفيذه من داخلية وخارجية مع بيان المخرج منها، ثم ما يترتب

عليه من تجديد حياة الدولة، وكونه هو المنجي لها من الخطر، وإن تراءى لكثير

من الناس أنه هو المسرع بالخطر، ظنًّا منهم أن أوربة تعجل بالإجهاز على الدولة

إذا علمت بأنها شرعت بنهضة إسلامية؛ لعلمها بأنها هذه هي حياتها الحقيقية،

وكون حياتها بهذا هو ما يصرح به بعض أحرار الأوربيون [1] وإنْ خوف منه

بالتمويه والإيهام أكثر السياسيين.

(الثاني) أن تدع كل ما عدا الأمور الرسمية المعهودة لديها من أمور التدين

إلى الجمعيات الدينية الحرة، والأفراد الذين يدفعهم استعدادهم إلى هذه الخدمة، ولها

أن تساعد ما يستحق المساعدة من هذه الأعمال بالحماية، وكذا بالإعانات المالية من

أوقاف المسلمين الخيرية، (إذا كانت تريد بقاء الأوقاف العامة في يدها ولم تجب

طلاب الإصلاح إلى جعل أوقاف كل ولاية في أيدي أهلها) مع إبقائهم بمعزل عن

السياسة وأهلها، ولولا أن هذا هو رأيي لما اشترطت على رجال الدولة وجمعية

الاتحاد - إذ عرضت عليهم مشروع الدعوة والإرشاد - أن يكون في يد جماعة حرة

لا علاقة لها بالسياسة، وأن لا تخصص لها إعانة من خزينة الدولة، بل تكون

نفقاتها مما تجمعه هي من الإعانات بأنواعها، ومما تعطاه من أوقاف المسلمين

الخيرية {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} (غافر: 44) .

***

استغلال الحجرة النبوية

بلغنا - والعهدة على الرواة - أن بعض المنافقين الذين يتقربون إلى

(جمعية الاتحاد والترقي) باسم الدين، واستنباط الوسائل منه إلى استخراج المال من

جيوب المسلمين، قد زينوا لها أن تتخذ دفترًا تضعه في حجرة المصطفى عليه

أفضل الصلاة والسلام.

وتذيع في العالم الإسلامي كله أن من أراد أن يكتب اسمه في هذا الدفتر،

الذي وضع لدى قبر الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم فليبذل قطعة

من النقود الذهبية (كالجنيه الإنكليزي أو الليرة العثمانية) ونحن ننصح للدولة أو

الجمعية بأن تردّ هذا الاقتراح ولا تنفذه، مهما زينه المنافقون ووسعوا دائرة الأمانيّ

فيه، وأوهموها أن السواد الأعظم من المسلمين يقبلونه، ظانّين أنه يجعلهم

معروفين عند نبيهم صلى الله عليه وسلم محبوبين لديه، مقبولين عنده، وأنه

يمكن لمن يدعوهم إلى البذل أن يقول لهم: إنه صلى الله عليه وسلم ينظر في هذا

الدفتر كل يوم، ويقرأ هذه الأسماء ويدعو لأصحابها بخير.

هذه بدعة قبيحة لا نظن أن رجال الاتحاد يقبلون فيها قول المنافقين، أو

يحتاجون إلى نصح الناصحين، وهي على كونها حدثًا وبدعة في مسجد الرسول

صلى الله عليه وسلم، وعبثًا بالدين، تخل بتعظيمه وتكريم مقامه صلى الله عليه

وسلم وقد لعن من أحدث حدثًا في مسجده (وسيأتي الحديث فيه) وكذا في مدينته

وما حولها: روى الشيخان في صحيحيهما وغيرهما عن علي كرم الله وجهه أنه قال:

ما كتبنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا القرآن وما في هذه الصحيفة.

قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (المدينة حرم ما بين عَيْر إلى ثور [2] فمن

أحدث فيها حدثًا أو آوى مُحْدِثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل

منه صرف ولا عدل) الحديث.

لا يعجز أصحاب الجرأة من المنافقين أن يقولوا: إن استغلال حجرة

المصطفى وقبره صلى الله عليه وسلم بمثل هذا الدفتر لا يعد حدثًا ولا بدعة، لأنه

وسيلة إلى مساعدة الدولة على خدمة الدين (مثلاً) ويمكن أن يتقي فيه الكذب في

الدين وإيهام الباطل والكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم حتى لا يكون

توسلاً باسمه صلى الله عليه وسلم إلى أكل أموال الناس بالباطل.

ولكن أنصار السنة أنهض حجة وأقوم قيلاً، فلا يعجزهم أن يظهروا الدلائل

وآثار السلف التي تدحض هذه الشبهات، وأن يبينوا للناس أن كل بدعة حدثت في

الإسلام قد موهت بمثل هذا التمويه، وادَّعى محدوثها أنهم يخدمون بها الدين، كما

بينه الإمام الشاطبي في كتاب الاعتصام.

وإنني أنقل هنا أثرًا واحدًا من آثار السلف الصالح في التوقي من إحداث شيء

في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم أو مدينته حذرًا من لعنته. نقل الشاطبي في

بيان كون المبتدع ملعونًا ما يأتي:

قال أبو مصعب صاحب مالك: قدم علينا ابن مهدي - يعني المدينة - فصلَّى

ووضع رداءه بين يدي الصف، فلما سلّم الإمام رمقه الناس بأبصارهم ورمقوا مالكًا -

وكان قد صلى خلف الإمام - فلمّا سلّم قال: مَن هاهنا من الحرس؟ فجاءه نفسان،

فقال: خذا صاحب هذا الثوب فاحبساه. فحبس. فقيل له: إنه ابن مهدي [3]

فوجه إليه وقال له: أما خفت الله واتقيته أن وضعت ثوبك بين يديك في الصف،

وشغلت المصلين بالنظر إليه، وأحدثت في مسجدنا شيئًا ما كنا نعرفه؟ وقد قال

النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في مسجدنا حدثًا فعليه لعنة الله والملائكة

والناس أجمعين) فبكى ابن مهدي، وآلى على نفسه أن لا يفعل ذلك أبدًا في مسجد

النبي صلى الله عليه وسلم ولا في غيره.

(قال الشاطبي) : وهذا غاية في التوقي والتحفظ في ترك إحداث ما لم يكن؛

خوفًا من تلك اللعنة، فما ظنك بما سوى وضع الثوب؟ اهـ.

(ونقول) : فما ظنك ببدعة وحدث في حجرة الرسول صلى الله عليه وسلم

يتبعها الكذب عليه، وأكل أموال الناس باسمه، والزيادة في الدين الذي جاء به،

ولو لم يكن في ذلك من الزيادة في الدين إلا إحداث قربة جديدة، وعبادة مخترعة،

هي التقرب إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم؛ بكتابة أسماء الناس في

دفتر هنالك - لكفى، فإن قالوا: إننا لا نعده قربة ولا سببًا للثواب. قلنا: إذًا هو

غشٌّ واحتيال، لأجل سلب الأموال، فإن من يعلم أن كتابة اسمه لا تقربه إلى

الله ورسوله لا يدفع المال لأجلها.. هذا ولولا الإخلاص في النصيحة لله ولرسوله

وللدولة لما كتبت هذا قبل إحداث هذا الحدث المقترح، والله عليم خبير.

_________

(1)

قال لورد كتشنر لبعض مَن لقيه من العثمانيين المشتغلين بالسياسة: إن الدولة العثمانية لا تصلح بالقوانين التي تقتبسها منّا (أي الأوربيين) ونحن ما صلحت لنا هذه القوانين إلا بعد

تدريجية في عدة قرون كنا نغير فيها ونبدل بحسب اختلاف الأحوال، وإن عندكم شريعة عادلة موافقة لعقائدكم ولأحوالكم الاجتماعية فالواجب على الدولة أن تعمل بها وتترك قوانين أوربة؛ فتقيم العدل وتحفظ الأمن وتستغل بلادها الخصبة، وعندي أنها لا تصلح بغير هذا.

(2)

عَيْر وثور جبلان جعلهما صلى الله عليه وسلم حدين للمدينة وثور جبل بمكة أيضًا وقد اشتبه بعض شراح الحديث في هذا الذي في المدينة، ورجح بعضهم رواية (ما بين عَيْر وأُحُد) وإن كانت الأولى أصح سندًا، وقال بعضهم: ثور الذي يحد المدينة وراء أحد إلى الشمال وهو مدور ولونه إلى الحمرة فالظاهر أنه جبل صغير ظنه بعض الناس جزءًا من أحد.

(3)

هو عبد الرحمن بن مهدي الشهير بالصلاح والعلم والعمل، كان يختم القرآن كل ليلة ويتهجد بنصفه لهذا كان قولهم للإمام مالك (هذا ابن مهدي) سببًا لمبادرته إلى إخراجه من الحبس لعلمه أن كلمة حق واحدة تؤثر في نفسه، ما لا يؤثر الحبس الطويل في نفس غيره.

ص: 75

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌انتقاد أجوبة المنار

لمن سأل عن حكم الحج

كتب إلينا غير واحد من البحرين أن الذي سألنا عن حكم الحج وأسرار

المناسك لم يكن يريد الحج هو وأصحابه، وما أسئلتهم تلك إلا مظهر ما في

نفوسهم من الاعتراض على الدين وعدم الإذعان لأحكامه، وإنه ما كان ينبغي أن

يجابوا إلا أن يقال لهم: هذا ديننا، فإن كنتم من أهله فأقيموا أركانه وأدّوا فرائضه،

وإلا فالزموا شأنكم.

هذا معنى ما كتب إلينا، وصرّحوا بأن سبب سوء اعتقادهم في السائل - ومن

على شاكلته - أنهم قد تعلموا في مدرسة دعاة النصرانية (المبشرين) فأزاغوا

عقائدهم.

أما نحن فنقول: إن الأسئلة التي أرسلت إلينا تدل على أن السائل قد عرضت

له شبهات في هذه العبادة (الحج) فهو إما حريص على دينه يسأل العلماء ليأخذ

عنهم ما يدفعها بها ليكون على بصيرة من دينه، وإما معجز أو شاكّ يختبر علماء

المسلمين ليرى ما عندهم، حتى إذا عجزوا عن بيان حكم هذه المناسك عذر نفسه،

واطمأن بما عنده. والواجب علينا أن نغلّب حسن الظن ما وجدنا له منفذًا، وأن

نجيب طالب العلم مهما كان قصده، فإن كان مؤمنًا ازداد - ببيان حكمة الدين -

إيمانًا، وإن كان شاكًّا أو زائغًا يوشك أن يعود إلى الرشد، ويطمئن بما ظهر له من

الحق، ولا ينبغي لنا أن نتهم أحدًا في دينه بالشبهة، ولا أن ندع من يشككهم دعاة

النصرانية في الحق وشأنهم، بل ينبغي لنا أن نجذبهم إلينا، إذا هم أعرضوا عنا

وتركوا سؤالنا. فإذا ترك الحقُّ الباطلَ يصول بشبهاته على إحداث المسلمين،

يمرقون كلهم من الدين.

وإذا كان بعض أهل البحرين يعلمون مبلغ إفساد دعاة النصرانية في بلدهم،

فلماذا لا يحذرون الغافلين من إرسال أولادهم إلى مدارسهم، ويغنونهم عنها بمدرسة

إسلامية ينشئونها لهم، يعلمونهم فيها من علوم المعاش ما يعلمهم هؤلاء المفسدون،

ويزيدون عليهم تعليم عقائد الإسلام وأحكامه وحكمه وآدابه وتاريخه بدلاً من

النصرانية وشؤون أهلها؟ ألا يعلمون أنهم بترك معارضة هؤلاء المحاربين لدينهم

آثمون كلهم؟ وإن هذا الإثم لا يزول إلا بإنشاء مدرسة ينقذون فيها أولادهم من

مدرسة دعاة النصرانية التي ستلقي العداوة بينهم وبين أولادهم، وتقطع صلتهم بهم

في الدنيا والآخرة؟ ؟

وعسى أن يعتبر من يدعون في حضرموت وغيرها من أطراف جزيرة

العرب إلى جعل بلادهم للإنكليز أو تحت حمايتهم، ويفطنوا لما في ذلك من الخطر

على دينهم.

_________

ص: 80