المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الكاتب: محمد رشيد رضا - مجلة المنار - جـ ١٧

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (17)

- ‌المحرم - 1332ه

- ‌فاتحة السنة السابعة عشرة

- ‌كتاب مدارج السالكينبين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

- ‌إسلام اللورد هدليوما قاله وكتبه في سببه

- ‌تاريخ الجهمية والمعتزلة [*]

- ‌الباب الأول من كتاب الاعتصام [*]

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة [*]

- ‌الشيخ علي يوسف(3)

- ‌الجامعة الإسلامية والسياسية

- ‌انتقاد أجوبة المنارلمن سأل عن حكم الحج

- ‌صفر - 1332ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌ كتاب مدارج السالكينبين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

- ‌الرد المتين علىمفتريات المبشرين [*]

- ‌مقام عيسىيسوع المسيح عليه السلامفي النصرانية والإسلام

- ‌مطامع الدول فينا [*]

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌الأخبار والآراء

- ‌ربيع أول - 1332ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌ فتاوى المنار

- ‌ الانتقاد على المنار

- ‌الإسلام يقاوم نفوذ النصرانية [*]

- ‌اعتقاد الشيخية [*]

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة [*]

- ‌الإصلاح اللامركزيوطلابه في البلاد العربية

- ‌الشيخ علي يوسف(4)

- ‌ربيع الآخر - 1332ه

- ‌استفتاءفي فسخ نكاح المعسر

- ‌محاضرة الدكتور كريستيان سنوك هرغرنجالهولندي في الإسلام ومستقبل المسلمين

- ‌الباطنية وغلاة المتصوفة..بدعهم وتأويلاتهم

- ‌ كتاب (مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين)

- ‌أفضل الوسائل لإنهاض السلطنة

- ‌عبد العزيز بك علي المصري

- ‌التعصب على المنار

- ‌المسألتان الشرقية والصهيونية

- ‌السيدة نُعْمَى آل رضا

- ‌جمادى الأولى - 1332ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌حقيقة الإعجاز [*]

- ‌الرضا بقضاء الله تعالى وقدره

- ‌القول السديدفي بعض مسائل الاجتهاد والتقليد [*]

- ‌الصهيونية

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة [*]

- ‌مستقبل الدولة العثمانية وطلاب الإصلاح من العرب

- ‌جمادى الآخر - 1332ه

- ‌تلقين الميت

- ‌القول السديدفي بعض مسائل الاجتهاد والتقليد

- ‌ كتاب(مدارج السالكين بين منازلإياك نعبد وإياك نستعين)

- ‌تشريف أمير البلادمدرسة دار الدعوة والإرشاد

- ‌مصاب مصر والشامبرجال العلم وحملة الأقلام

- ‌محاربة متعصبي القبط وغيرهم للمنار

- ‌رجب - 1332ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌الدين والتدين والإلحاد والتعطيل

- ‌نموذج من إنشاء طلبةدار الدعوة والإرشاد

- ‌مصاب مصر والشامبرجال العلم وحملة الأقلام

- ‌شعبان - 1332ه

- ‌وجوب تعلم العربيةعلى كل مسلم

- ‌ترجمة الإمام الشاطبي

- ‌الجنسيات في المملكة العثمانية(2)

- ‌مصاب مصر والشامبرجال العلم وحملة الأقلام

- ‌رمضان - 1332ه

- ‌تفسير] لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ [[*]

- ‌السبي والرق في التوراة والإنجيل

- ‌أقوال علماء القرن الثالث الأثباتفي عقيدة السلف وإثبات الصفات(1)

- ‌الطامة الصغرى أو الحرب الكبرى

- ‌من كتاب الاعتصام في الابتداع

- ‌البروغرام الصهيوني السياسي

- ‌المراسلة والمناظرة

- ‌الحرب الأوربيةوالدولة العثمانية

- ‌شوال - 1332ه

- ‌علم الله بصفاتهالرضاع من الجدة

- ‌كلمات الاستقلالوالاعتماد على النفس والاجتهاد

- ‌شعر منثور في العربية والعرب

- ‌التعريف بكتاب الاعتصام

- ‌ترجمة الإمام الشاطبي

- ‌دخول الابتداع في العاديات [*]

- ‌أقوال علماء السلف الأثباتفي عقيدة السلف وإثبات الصفات(2)

- ‌المراسلة والمناظرة

- ‌جيوش الدول المتحاربة

- ‌منع المنار من السودان

- ‌ذو القعدة - 1332ه

- ‌صفات البارئ تعالى

- ‌فتاوى المنار

- ‌الامتيازاتوالشريعة الإسلامية [*]

- ‌تاريخ إعلان الدول الحرب

- ‌ذو الحجة - 1332ه

- ‌الحرب المدنية الكبرى

- ‌إلغاء الامتيازات الأجنبيةوالحذر من الفتن الأهلية

- ‌كيف دخلتالدولة العثمانية في الحرب

- ‌خاتمة السنة السابعة عشرة

الفصل: الكاتب: محمد رشيد رضا

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فتاوى المنار

(س23و24) من صاحب الإمضاء الرمزي في سمبس برنيو (جاوه)

حضرة العلامة الكبير، والإمام الجليل، أستاذنا السيد محمد رشيد رضا صاحب

المنار الأغر نفعني الله والمسلمين بوجوده الشريف آمين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد فيا سيدي الأستاذ نرجو من فضيلتكم

التكرم علي بأن تجيبوني عن الأسئلة الآتي ذكرها جوابًا مقنعًا، ولكم الفضل

والشكر وهي:

(أ) ما تقولون في قول الفقهاء: لا يجوز تحليف القاضي ولا الشهود وإن

كان ينفع الخصم تكذيبهما أنفسهما؛ لأن منصبهما يأبى ذلك؛ ولأن التحليف كالطعن

في الشهادة أو في الحكم. فإذا علم الشاهد أو القاضي أنه يحلف امتنع الأول من

الشهادة والثاني من الحكم فيؤدي ذلك إلى ضياع حقوق الناس، وهذا فساد عام،

فهل هذا القول صحيح؟ وقد جرت الحكومة الهولندية بتحليف الشهود قبل أن يؤدوا

الشهادة سواء كانوا صادقين أو كاذبين فرأى كثير من عمال الحكومة أن ذلك هو

الأحسن والأحوط والأوفق لهذا العصر. والمرجو من فضيلة سيدي الأستاذ إبداء

رأيه السديد في هذه المسألة بالحجة والبرهان.

(ب) هل من العقل والحكمة ومن مقاصد الشريعة الإسلامية ما اشترطه

الفقهاء في الهبة من أنها لا تصح إلا بإيجاب وقبول، ولا تلزم إلا بقبض الموهوب

له بإذن الواهب؟ قال في بداية المجتهد: وأما الهبة فلا بد من الإيجاب فيها والقبول

عند الجميع، وأما الشروط فأشهرها القبض. أعني أن العلماء اختلفوا: هل

القبض شرط في صحة العقد أم لا؟ فاتفق الثوري والشافعي وأبو حنيفة أن من

شرط صحة الهبة القبض، وأنه إذا لم يقبض لم يلزم الواهب، وقال مالك: ينعقد

بالقول ويجبر على القبض كالبيع. إلى قوله: فمالك، القبض عنده في الهبة من

شروط التمام لا من شروط الصحة، وهو عند الشافعي وأبي حنيفة من شروط

الصحة. وقال أحمد وأبو ثور: تصح الهبة بالعقد، وليس القبض من شروطها

أصلاً، لا من شروط تمام ولا من شروط صحة. اهـ

فأي الأصح من هذه الأقوال المختلفة فيها؟ القول باشتراط القبض؟ أم القول

بعدم اشتراطه؟ وهل يصح أن يحتج من اشترط القبض في الهبة بحديث أبي بكر

أنه كان نحل عائشة جذاذ عشرين وسقًا من مال الغابة فلما حضرته الوفاة قال: والله

يا بنية ما من الناس أحد أحب إلي غنى بعدي منك. ولا أعز علي فقرًا بعدي منك.

وإني كنت نحلتك جذاذ عشرين وسقًا، فلو كنت جذذتيه واختزنتيه كان لك، وإنما

هو اليوم مال ورث؟ وهل صح ما استدلوا به على أن القبض شرط في صحة الهبة

من خبر أنه صلى الله عليه وسلم أهدى للنجاشي ثلاثين أوقية مسكًا فمات قبل أن

يصل إليه فقسمه صلى الله عليه وسلم بين نسائه؟

هذا وأرجو فضيلتكم بيان هذه المسائل على قاعدة: (درء المفاسد مقدم على

جلب المصالح) .

...

...

(م. ب. ع)

...

...

...

...

... تحليف القاضي والشهود

(ج) القول بأن تحليف القاضي والشهود لا يجوز شرعًا لما ذكر من العلل

لم يظهر لنا وجه صحته، فقولهم: إن ذلك ما يأباه منصبهما، لا نعرف له مستندًا

في الكتاب والسنة، وما يليق بالمنصب وما لا يليق به ليس أمرًا ثابتًا مطردًا دائمًا؛

بل هو مما يختلف باختلاف العرف والعادة ويتغير آنًا بعد آن، كما يعهد من الناس

في الأمكنة المختلفة والأزمان. مثال ذلك أن العرف والعادة في مصر والآستانة

والشام أن لا يخرج القاضي الشرعي والمفتي وكبار العلماء إلى زيارة أحد بغير

عمامة، وهذه عادة قديمة حتى عند بعض العلماء من أعذار ترك الجمعة والجماعة

فقد العمامة اللائقة بأمثال هؤلاء. ولكن هذه العادة لا تلتزم في الهند؛ فقد يخرج

كبار العلماء من بيوتهم إلى زيارة بعض الإخوان بغير عمائم، وإنما يضعون على

رؤوسهم نوعًا من الكُمات الرقيقة: (الكُمة - بالضم - شيء مستدير يوضع

على الرأس ومنه ما يسمى في مصر طاقية وفي غيرها عراقية) وقد ورد أن

النبي صلى الله عليه وسلم خرج مع بعض أصحابه لزيارة وليس على

رؤوسهم شيء.

وقولهم: إن التحليف كالطعن في الشهادة أو الحكم، فممنوع، وقد يقال: إنه

تأكيد لهما، وأما قولهم: إن القاضي والشاهد يمتنعان من القضاء والشهادة إذا علما

أنهما يحلفان، فهو من النظريات المنقوضة بما عليه عمل كثير من الأمم الآن.

فالحكومة العثمانية والحكومة المصرية قد جرتا على تحليف الشهود ولم يمتنعوا،

وعلى تحليف من تسند إليهم المناصب الكبيرة يمين الإخلاص لرئيس الحكومة

(السلطان) ولو قالوا: إن التحليف لمن ذكر لا يجب شرعًا، لَمَا وجدنا إلى

مخالفتهم سبيلاً؛ ولكن نفي الجواز لا يسلم إلا بدليل شرعي.

هذا وإن لتأكيد الشهود شهادتهما بالقسم أصلاً في القرآن كما ترى في شهادة

الوصية {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناًّ} (المائدة: 106)

{فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا} (المائدة: 107) وقد قال تعالى بعد

بيان أحكام هذه الشهادة معللاً لها: {ذَلِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا} (المائدة: 108) إلخ وسيأتي في التفسير قريبًا إن شاء الله تعالى.

***

الهبة وما يشترط فيها

معنى الهبة عند الجمهور: تمليك بلا عوض، ويرى بعضهم أنه يدخل

في عمومها الإبراء من الدين والهدية والصدقة، وإنما يخص بعض الأنواع باسم

لإفادة المعنى الخاص الذي انفرد به عن سائر الأنواع، فالصدقة هبة يراد بها

ثواب الآخرة والأصل فيها أن تكون للمحتاج. والهدية هبة يراد التودد بها إلى المُهدى

إليه، وتكون بين الأغنياء والفقراء؛ لأن التودد يكون بين جميع أصناف

الناس.

والعمدة فيها العرف؛ فما تعارف الناس عليه كان صحيحًا شرعًا ما لم يكن

مخالفًا للشرع. وتحصل بالإيجاب القولي من الواهب والقبول القولي من الموهوب

له كما تحصل بالتعاطي وهو إيجاب وقبول بالفعل. وهي تتحقق بالقبض قطعًا.

وعدم القبض قد يكون ردًّا وقد يكون توانيًا. فهو جدير بأن يختلف فيه. وليس في

الباب نصوص عن الشارع كلف الناس اتباعها في طرق التمليك والتملك. والحديث

في هدية النبي صلى الله عليه وسلم للنجاشي جارٍ على مسألة العرف وتحقق الهبة

بالفعل أو عدم تحققها، وهو في مسند أحمد من حديث أم كلثوم بنت أبي سليمة،

وفي إسناده مسلم بن خالد الزنجي اختلف في توثيقه وتضعيفه. وأم موسى بنت

عقبة، قال في مجمع الزوائد: لا أعرفها.

وأما أثر عائشة فقد رواه مالك في الموطأ من طريق ابن شهاب عن عروة

عنها، وروى البيهقي نحوه عن مالك وغيره. وظاهر الأثر أن عائشة لم تقبل نحلة

أبيها فبقيت في يده إلى أن أدركته الوفاة فذكر لها أنه يتركها إرثًا. وأن هذا ليس من

باب الاعتصار، وهو رجوع الوالد بما يهبه للولد في حياته، وهو جائز عند أكثر

الفقهاء.

وما قاله ابن رشد - من أن الهبة لا بد فيها من الإيجاب والقبول عند الجميع -

فهو غير صحيح إذا أراد بهما الصيغة باللسان أو الكتابة، فقد نقل العلماء الخلاف

في ذلك كالحافظ ابن حجر والإمام الشوكاني وغيره. وتجد تحرير هذه المسألة

بدلائلها في جميع العقود في المبحث النفيس الذي كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية في

مسألة العقود، فراجعه في المجلد الثالث من مجوعة فتاواه المطبوعة بمصر،

وخص بالتأمل الوجه الثالث في ص 272 - 274.

_________

ص: 829

الكاتب: أبو إسحاق الشاطبي

الفرق بين البدع

والمصالح المرسلة والاستحسان [*]

من مباحث كتاب الاعتصام للإمام الشاطبي. وهو ما عقد له الباب الثامن

منه، قال رحمه الله تعالى:

هذا الباب يُضطرُّ إلى الكلام فيه عند النظر فيما هو بدعة وما ليس ببدعة،

فإن كثيرًا من الناس عَدُّوا أكثر المصالح المرسلة بدعًا، ونسبوها إلى الصحابة

والتابعين، وجعلوها حجة فيما ذهبوا إليه من اختراع العبادات. وقوم جعلوا البدع

تنقسم بأقسام أحكام الشريعة، فقالوا: إن منها ما هو واجب ومندوب، وعدُّوا من

الواجب كَتْبَ المصحف وغيره، ومن المندوب الاجتماع في قيام رمضان على

قارئ واحد.

وأيضًا فإن المصالح المرسلة يرجع معناها إلى اعتبار المناسب الذي لا يشهد

له أصل معين، فليس له على هذا شاهد شرعي على الخصوص، ولا كونه قياسًا

بحيث إذا عرض على العقول تلقته بالقبول. وهذا بعينه موجود في البدع

المستحسنة، فإنها راجعة إلى أمور في الدين مصلحية - في زعم واضعيها - في

الشرع على الخصوص.

وإذا ثبت هذا، فإن كان اعتبار المصالح المرسلة حقًّا، فاعتبار البدع

المستحسنة حق؛ لأنهما يجريان من وادٍ واحد. وإن لم يكن اعتبار البدع حقًّا، لم

يصح اعتبار المصالح المرسلة.

وأيضًا فإن القول بالمصالح المرسلة ليس متفقًا عليه؛ بل قد اختلف فيه أهل

الأصول على أربعة أقوال: فذهب القاضي وطائفة من الأصوليين إلى رده؛ وأن

المعنى لا يعتبر ما لم يستند إلى أصل. وذهب مالك إلى اعتبار ذلك، وبنى الأحكام

عليه على الإطلاق. وذهب الشافعي ومعظم الحنفية إلى التمسك بالمعنى الذي لم

يستند إلى أصل صحيح؛ لكن بشرط قربه من معاني الأصول الثابتة. هذا ما حكى

الإمام الجويني.

وذهب الغزالي إلى أن المناسب إن وقع في رتب التحسين والتزيين لم يعتبر

حتى يشهد له أصل معين، وإن وقع في رتبة الضروري فميله إلى قبوله؛ لكن

بشرط. قال: ولا يبعد أن يؤدي إليه اجتهاد مجتهد. واختلف قوله في الرتبة

المتوسطة، وهي رتبة الحاجي، فرده في المستصفى وهو آخر قوليه، وقبله في

شفاء الغليل كما قبل ما قبله. وإذا اعتبر من الغزالي اختلاف قوله -: فالأقوال

خمسة، فإذاً الراد لاعتبارها لا يبقى له في الواقع له [1] في الوقائع الصحابية مستند

إلا أنها بدعة مستحسنة (كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في

الاجتماع لقيام رمضان: نعمت البدعة هذه) إذا لا يمكنهم ردها، لإجماعهم عليها.

وكذلك القول في الاستحسان فإنه - على ما [2] المتقدمون - راجع إلى الحكم

بغير دليل، والنافي له لا يعد الاستحسان سببًا، فلا يعتبر في الأحكام ألبتة، فصار

كالمصالح المرسلة إذا قيل بردها.

فلما كان هذا الموضع مزلة قدم لأهل البدع أن يستدلوا على بدعتهم من جهته

كان من الحق المتعين: النظر في مناط الغلط الواقع لهؤلاء؛ حتى يتبين أن

المصالح المرسلة ليست من البدع في ورد ولا صدر، بحول الله، والله الموفق

فنقول:

المعنى المناسب الذي يربط به الحكم لا يخلو من ثلاثة أقسام:

(أحدها) : أن يشهد الشرع بقبوله، فلا إشكال في صحته، ولا خلاف في

إعماله؛ وإلا كان مناقضًا للشريعة، كشريعة القصاص حفظًا للنفوس والأطراف

وغيرها.

و (الثاني) : ما شهد الشرع بردّه، فلا سبيل إلى قبوله؛ إذ المناسبة لا

تقتضي الحكم لنفسها؛ وإنما ذلك مذهب أهل التحسين العقلي؛ بل إذا ظهر المعنى

وفهمنا من الشرع اعتباره في اقتضاء الأحكام، فحينئذٍ نقبله؛ فإن المراد بالمصلحة

عندنا: ما فهم رعايته في حق الخلق من جلب المصالح ودرء المفاسد على وجه لا

يستقل العقل بدركه على حال: فإذا لم يشهد الشرع باعتبار ذلك المعنى؛ بل برده،

كان مردودًا باتفاق المسلمين.

ومثاله ما حكى الغزالي عن بعض أكابر العلماء أنه دخل على بعض السلاطين

فسأله عن الوقاع في نهار رمضان، فقال: عليك صيام شهرين متتابعين. فلما

خرج راجعه بعض الفقهاء وقالوا له: القادر على إعتاق الرقبة كيف يعدل به إلى

الصوم والصوم وظيفة المعسرين، وهذا الملك يملك عبيدًا غير محصورين؟ فقال

لهم: لو قلت له: عليك إعتاق رقبة، لاستحقر ذلك وأعتق عبيدًا مرارًا، فلا يزجره

إعتاق الرقبة ويزجره صوم شهرين متتابعين.

فهذا المعنى مناسب؛ لأن الكفارة مقصود الشرع منها الزجر، والمَلك لا

يزجره الإعتاق ويزجره الصيام. وهذه الفُتْيَا باطلةٌ؛ لأنَّ العلماء بين قائلين: قائل

بالتخيير، وقائل بالترتيب، فيقدم العتق على الصيام. فتقديم الصيام بالنسبة إلى

الغني لا قائل به على أنه قد جاء عن مالك شيء يشبه هذا، لكنه على صريح الفقه.

قال يحيى بن بكير: حنث الرشيد في يمين، فجمع العلماء فأجمعوا أن عليه

عتق رقبة. فسأل مالكًا؛ فقال: صيام ثلاثة أيام. واتبعه على ذلك إسحاق بن

إبراهيم من فقهاء قرطبة.

حكى ابن بشكوال أن الحكم أمير المؤمنين أرسل في الفقهاء، وشاورهم في

مسألة نزلت به؛ فذكر لهم عن نفسه أنه عمد إلى إحدى كرائم [3] ووطئها في

رمضان، فأفتوا بالإطعام، وإسحاق بن إبراهيم ساكت. فقال له أمير المؤمنين: ما

يقول الشيخ في فتوى أصحابه؟ فقال له: لا أقول بقولهم، وأقول بالصيام. فقيل

له: أليس مذهب مالك الإطعام؟ فقال لهم: تحفظون مذهب مالك؛ إلا أنكم تريدون

مصانعة أمير المؤمنين. إنما أمر مالك بالإطعام لمن له مال، وأمير المؤمنين لا مال

له، إنما هو بيت مال المسلمين. فأخذ بقوله أمير المؤمنين وشكر له عليه.

اهـ. وهذا صحيح.

نعم حكى ابن بشكوال أنه اتفق لعبد الرحمن بن الحكم مثل هذا في رمضان

فسأل الفقهاء عن توبته من ذلك وكفارته. فقال يحيى بن يحيى: يكفر ذلك صيام

شهرين متتابعين. فلما برز ذلك من يحيى سكت سائر الفقهاء حتى خرجوا من

عنده، فقالوا ليحيى: ما لك لم تفته بمذهبنا عن مالك من أنه مخير بين العتق والطعام

والصيام؟ فقال لهم: لو فتحنا له هذا الباب سهل عليه أن يطأ كل يوم ويعتق رقبة؛

ولكن حملته على أصعب الأمور لئلا يعود. فإن صح هذا عن يحيى بن يحيى -

رحمه الله وكان كلامه على ظاهره، كان مخالفًا للإجماع.

(الثالث) : ما سكتت عنه الشواهد الخاصة، فلم تشهد باعتباره ولا بإلغائه.

فهذا على وجهين:

أحدهما: أن يرد نص على وفق ذلك المعنى، كتعليل منع القتل للميراث،

فالمعاملة بنقيض المقصود تقدير إن لم يرد نص على وفقه [4] فإن هذه العلة لا عهد

بها في تصرفات الشرع بالفرض، ولا بملائمها بحيث يوجد لها جنس معتبر، فلا

يصح التعليل بها، ولا بناء الحكم عليها باتفاق. ومثل هذا تشريع من القائل به،

فلا يمكن قبوله.

والثاني: أن يلائم تصرفات الشرع، وهو أن يوجد لذلك المعنى جنس اعتبره

الشارع في الجملة بغير دليل معين، وهو الاستدلال المرسل المسمى بالمصالح

المرسلة، ولا بد من بسطه بالأمثلة حتى يتبين وجهه بحول الله.

ولنقتصر على عشرة أمثلة:

(أحدها) : أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اتفقوا على جمع

المصحف، وليس ثَمَّ نص على جمعه وكتبه أيضًا؛ بل قد قال بعضهم: كيف نفعل

شيئًا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فروي عن زيد بن ثابت - رضي

الله عنه - قال: أَرسل إليَّ أبو بكر رضي الله عنه مقتل (أهل) اليمامة،

وإذا عنده عمر رضي الله عنه قال أبو بكر: (إن عمر أتاني فقال) : إن

القتل قيد استحرَّ بقراء القرآن يوم اليمامة [5] وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء

في المواطن كلها فيذهب قرآن كثير، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن (قال)

فقلت له: هو والله خير. فلم يزل عمر يراجعني في ذلك حتى شرح الله صدري له،

ورأيت فيه الذي رأى عمر. قال زيد: فقال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل لا

نتهمك، قد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبع القرآن

فاجمعه. قال زيد: فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي من ذلك.

فقلت: كيف تفعلون شيئًا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال أبو بكر:

هو والله خير. فلم يزل يراجعني في ذلك أبو بكر حتى شرح الله صدري للذي

شرح له صدورهما. فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والعسب واللخاف [6] ومن

صدور الرجال.

فهذا عمل لم ينقل فيه خلاف عن أحد من الصحابة.

ثم روي عن أنس بن مالك أن حذيفة بن اليمان كان يغازي أهل الشام وأهل

العراق في فتح أرمينية وأذربيجان، فأفزعه اختلافهم في القرآن، فقال لعثمان:

يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب كما اختلفت اليهود

والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة: أرسلي إلي بالصحف ننسخها في

المصاحف ثم نردها عليك. فأرسلت حفصة بها إلى عثمان، فأرسل عثمان إلى زيد

ابن ثابت وإلى عبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاصي، وعبد الرحمن بن الحارث

ابن هشام، فأمرهم أن ينسخوا الصحف في المصاحف. ثم قال للرهط القرشيين

الثلاثة: ما اختلفتم فيه أنتم وزيد بن ثابت فاكتبوه بلسان قريش، فإنه نزل بلسانهم.

قال: ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، بعث عثمان في كل أفق

بمصحف من تلك المصاحف التي نسخوها. ثم أمر بما سوى ذلك من القراءة في

كل صحيفة أو مصحف أن يحرق.

فهذا أيضًا إجماع آخر في كتبه وجمع الناس على قراءة لا يحصل منها في

الغالب اختلاف؛ لأنهم لم يختلفوا إلا في القراءات - حسبما نقله العلماء المعتنون

بهذا الشأن - فلم يخالف في المسألة إلا عبد الله بن مسعود فإنه امتنع من طرح ما

عنده من القراءة المخالفة لمصاحف عثمان، وقال: يا أهل العراق، ويا أهل

الكوفة: اكتموا المصاحف التي عندكم وغلوها، فإن الله يقول: {وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ

بِمَا غَلَّ يَوْمَ القِيَامَةِ} (آل عمران: 161) وألقوا إليه بالمصاحف. فتأمل كلامه

فإنه لم يخالف في جمعه. وإنما خالف أمرًا آخر. ومع ذلك فقد قال ابن هشام:

بلغني أنه كره ذلك من قول ابن مسعود رجال من أفاضل أصحاب رسول الله صلى

الله عليه وسلم.

ولم يرد نص عن النبي صلى الله عليه وسلم بما صنعوا من ذلك، ولكنهم

رأوه مصلحة تناسب تصرفات الشرع قطعًا، فإن ذلك راجع إلى حفظ الشريعة،

والأمر بحفظها معلوم، وإلى منع الذريعة للاختلاف في أصلها الذي هو القرآن،

وقد علم النهي عن الاختلاف في ذلك بما لا مزيد عليه [7] .

وإذا استقام هذا الأصل فاحمل عليه كتب العلم من السنن وغيرها، إذا خيف

عليها الاندراس، زيادة على ما جاء في الأحاديث من الأمر بكتب العلم.

وأنا أرجو أن يكون كتب هذا الكتاب الذي وضعت يدي فيه من هذا القبيل؛

لأني رأيت باب البدع في كلام العلماء مُغَفّلاً جدًّا إلا من النقل الجلي كما نقل ابن

وضاح، أو يؤتى بأطراف من الكلام لا يُشفى الغليل بالتفقه فيه كما ينبغي، ولم

أجد على شدة بحثي عنه إلا ما وضع فيه أبو بكر الطرطوشي، وهو يسير في

جنب ما يحتاج إليه فيه، وإلا ما وضع الناس في الفرق الثنتين والسبعين، وهو

فصل من فصول الباب وجزء من أجزائه، فأخذت نفسي بالعناء فيه، عسى أن

ينتفع به واضعه، وقارئه، وناشره، وكاتبه، والمنتفع به، وجميع المسلمين، إنه

ولي ذلك ومسديه بسعة رحمته.

المثال الثاني

اتفاق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على حد شارب الخمر ثمانين.

وإنما مستندهم فيه الرجوع إلى المصالح والتمسك بالاستدلال المرسل. قال العلماء:

لم يكن فيه في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم حد مقدر؛ وإنما جرى الزجر

فيه مجرى التعزير. ولما انتهى الأمر إلى أبي بكر رضي الله عنه قرّر على

طريق النظر بأربعين، ثم انتهى الأمر إلى عثمان رضي الله عنه فتتابع الناس

فجمع الصحابة رضي الله عنهم فاستشارهم، فقال علي رضي الله عنه: من

سكر هذي ومن هذي افترى، فأرى عليه حد المفتري.

ووجه إجراء المسألة على الاستدلال المرسل أن الصحابة أو الشرع [8] يقيم

الأسباب في بعض المواضع مقام المسببات، والمظنة مقام الحكمة؛ فقد جعل

الإيلاج في أحكام كثيرة يجري مجرى الإنزال، وجعل الحافر للبئر في محل

العدوان وإن لم يكن ثَمَّ مرد كالمردي نفسه، وحرم الخلوة بالأجنبية حذرًا من

الذريعة إلى الفساد، إلى غيره من الفساد: فرأوا الشرب ذريعة إلى الافتراء الذي

تقتضيه كثرة الهذيان؛ فإنه أول سابق إلى السكران (قالوا) فهذا من أوضح الأدلة

على إسناد الأحكام إلى المعاني التي لا أصول لها (يعني على الخصوص به)

وهو مقطوع من الصحابة رضي الله عنهم.

المثال الثالث

إن الخلفاء الراشدين قضوا بتضمين الصناع. قال علي رضي الله عنه: (لا

يصلح الناس إلا ذاك) ووجه المصلحة فيه أن أن الناس لهم حاجة إلى الصناع، وهم

يغيبون عن الأمتعة في غالب الأحوال، والأغلب عليهم التفريط وترك الحفظ، فلو

لم يثبت تضمينهم مع مسيس الحاجة إلى استعمالهم لأفضى ذلك إلى أحد أمرين: إما

ترك الاستصناع بالكلية، وذلك شاق على الخلق؛ وإما أن يعملوا ولا يضمنوا ذلك

بدعواهم الهلاك والضياع، فتضيع الأموال، ويقل الاحتراز، وتتطرق الخيانة،

فكانت المصلحة التضمين. هذا معنى قوله: (لا يصلح الناس إلا ذاك) .

ولا يقال: إن هذا نوع من الفساد وهو تضمين البريء؛ إذ لعله ما أفسد ولا

فرّط، فالتضمين مع ذلك كان نوعًا من الفساد؛ لأنَّا نقول: إذا تقابلت المصلحة

والمضرة فشأن العقلاء النظر إلى التفاوت، ووقوع التلف من الصُناع من غير

تسبب ولا تفريط بعيد، والغالب الفوت، فوت الأموال، وأنها لا تستند إلى التلف

السماوي؛ بل ترجع إلى صُنع العباد على المباشرة أو التفريط، وفي الحديث: (لا

ضرر ولا ضرار) وتشهد له الأصول من حيث الجملة، فإن النبي صلى الله عليه

وسلم نهى عن أن يبيع حاضر لباد، وقال: (دع الناس يرزق الله بعضهم من

بعض) وقال: (لا تلقوا الركبان بالبيع حتى يهبط بالسلع إلى الأسواق) وهو

من باب ترجيح المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، فتضمين الصناع من ذلك

القبيل.

...

... المثال الرابع

إن العلماء اختلفوا في الضرب بالتهم. وذهب مالك إلى جواز السجن في

التهم، وإن كان السجن نوعًا من العذاب. ونص أصحابه على جواز الضرب،

وهو عند الشيوخ من قبيل تضمين الصناع، فإنه لو لم يكن الضرب والسجن

بالتهم؛ لتعذر استخلاص الأموال من أيدي السراق والغصاب؛ إذ قد يتعذر إقامة

البينة، فكانت المصلحة في التعذيب وسيلة إلى التحصيل بالتعيين والإقرار.

فإن قيل: هذا فتح باب تعذيب البريء [9] قيل: ففي الإعراض عنه إبطال

استرجاع الأموال؛ بل الإضراب عن التعذيب أشد ضررًا؛ إذ لا يعذب أحد لمجرد

الدعوى، بل مع اقتران قرينة تحيك في النفس وتؤثر في القلب نوعًا من الظن.

فالتعذيب في الغالب لا يصادف البريء، وإن أمكن مصادفته، فتغتفر، كما اغتفر

في تضمين الصناع [10] .

فإن قيل: لا فائدة في الضرب، وهو لو أقر لم يقبل إقراره في تلك الحال.

فالجواب: إن له فائدتين، إحداهما: أن يعين المتاع فتشهد عليه البيّنة لربه،

وهي فائدة ظاهرة، والثانية: أن غيره قد يزدجر حتى لا يكثر الإقدام، فتقل أنواع

هذا الفساد.

وقد عد له سحنون فائدة ثالثة؛ وهي الإقرار حالة التعذيب؛ فإنه يؤخذ عنده

بما أقر في تلك الحال. قالوا وهو ضعيف، فقد قال الله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي

الدِّينِ} (البقرة: 256) ولكن نزله سحنون على من أكره بطريق غير مشروع،

كما إذا أكره على طلاق زوجته، أما إذا أكره بطريق صحيح فإنه يؤخذ به،

كالكافر يسلم تحت ظلال السيوف، فإنه مأخوذ به. وقد تتفق له بهذه الفائدة على

مذهب غير سحنون إذا أقر حالة التعذيب ثم تمادى على الإقرار بعد أمنه فيؤخذ به.

قال الغزالي بعد ما حكى عن الشافعي أنه لا يقول بذلك: وعلى الجملة فالمسألة

في محل الاجتهاد. قال: ولسنا نحكم بمذهب مالك على القطع، فإذا وقع النظر في

تعارض المصالح، كان ذلك قريبًا من النظر في تعارض الأقيسة المؤثرة.

المثال الخامس

إنّا إذا قررنا إمامًا مُطاعًا مفتقرًا إلى تكثير الجنود لسد الثغور وحماية الملك

المتسع الأقطار، وخلا بيت المال، وارتفعت حاجات الجند إلى ما لا يكفيهم،

فللإمام إذا كان عدلاً أن يوظف على الأغنياء ما يراه كافيًا لهم في الحال، إلى أن

يظهر مال بيت المال، ثم إليه النظر في توظيف ذلك على الغلات والثمار وغير

ذلك، كي لا يؤدي تخصيص الناس به إلى إيحاش القلوب. وذلك يقع قليلاً من

كثير بحيث لا يجحف بأحد ويحصل المقصود.

وإنما لم ينقل مثل هذا عن الأولين لاتساع مال بيت المال في زمانهم بخلاف

زماننا، فإن القضية فيه أحرى، ووجه المصلحة هنا ظاهر؛ فإنه لو لم يفعل الإمام

ذلك النظام بطلت شوكة الإمام، وصارت ديارنا عرضة لاستيلاء الكفار.

وإنما نظام كله شوكة الإمام بعدله. فالذين يحذرون من الدواهي لو تنقطع

عنهم الشوكة، يستحقرون بالإضافة إليها أموالهم كلها، فضلاً عن اليسير منها، فإذا

عورض هذا الضرر العظيم بالضرر اللاحق لهم بأخذ البعض من أموالهم، فلا

يتمارى في ترجيح الثاني عن الأول. وهو مما يعلم من مقصود الشرع قبل النظر

في الشواهد.

والملاءمة الأخرى: أن الأب في طفله، أو الوصي في يتيمه، أو الكافل

فيمن يكفله، مأمور [11] برعاية الأصلح له، وهو يصرف ماله إلى وجوه من

النفقات أو المؤن المحتاج إليها. وكل ما يراه سببًا لزيادة ماله أو حراسته من التلف

جاز له بذل المال في تحصيله.

ومصلحة الإسلام عامة لا تتقاصر عن مصلحة طفل، ولا نظر إمام المسلمين

يتقاعد عن نظر واحد من الآحاد في حق محجوره.

ولو وطئ الكفار أرض الإسلام لوجب القيام بالنصرة وإذا دعاهم الإمام وجبت

الإجابة، وفيه إتعاب النفوس وتعريضها إلى الهلكة، زيادة إلى إنفاق المال، وليس

ذلك إلا لحماية الدين، ومصلحة المسلمين.

فإذا قدرنا هجومهم [12] واستشعر الإمام في الشوكة ضعفًا وجب على الكافة

إمدادهم. كيف والجهاد في كل سنة واجب على الخلق؟ وإنما يسقط باشتغال

المرتزقة، فلا يتمارى في بذل المال لمثل ذلك.

وإذا قدرنا انعدام الكفار الذين يخاف من جهتهم، فلا يؤمن من انفتاح باب

الفتن بين المسلمين. فالمسألة على حالها كما كانت، وتوقع الفساد عتيد، فلا بد من

الحراس.

فهذه ملائمة صحيحة، إلا أنها في محل ضرورة، فتقدر بقدرها، فلا يصح

هذا الحكم إلا مع وجودها. والاستقراض في الأزمات إنما يكون حيث يرجى لبيت

المال دخل ينتظر أو يرتجى، وأما إذا لم ينتظر شيء وضعفت وجوه [13] الدخل

بحيث لا يغني كبير شيء، فلا بد من جريان حكم التوظيف.

وهذه المسألة نص عليها الغزالي في مواضع من كتبه، وتلاه في تصحيحها

ابن العربي في أحكام القرآن له، وشرط جواز ذلك كله عندهم عدالة الإمام، وإيقاع

التصرف في أخذ المال وإعطائه على الوجه المشروع.

المثال السادس

إن الإمام لو أراد أن يعاقب بأخذ المال على بعض الجنايات [14] فاختلف

العلماء في ذلك - حسبما ذكره الغزالي - على أن الطحاوي حكى أن ذلك كان في

أول الإسلام ثم نسخ فأجمع العلماء على منعه.

فأما الغزالي فزعم أن ذلك من قبيل الغريب الذي لا عهد به في الإسلام، ولا

يلائم تصرفات الشرع مع أن هذه العقوبة الخاصة لم تتعين لشرعية العقوبات

البدنية بالسجن والضرب وغيرهما (قال) فإن قيل: فقد روي أن عمر بن الخطاب -

رضي الله عنه شاطر خالد بن الوليد في ماله، حتى أخذ رسوله فرد نعله

وشطر عمامته. قلنا: المظنون من عمر أنه لا يبتدع العقاب بأخذ المال على خلاف

المألوف من الشرع، وإنما ذلك لعلم عمر باختلاط ماله بالمال المستفاد من الولاية

وإحاطته بتوسعته، فلعله ضمن المال فرأى شطر ماله من فوائد الولاية، فيكون

استرجاعًا للحق لا عقوبة في المال؛ لأن هذا من الغريب الذي لا يلائم قواعد

الشرع. هذا ما قال. ولِما فعل عمر وجه آخر غير هذا؛ ولكنه لا دليل فيه على

العقوبة بالمال كما قال الغزالي.

وأما مذهب مالك فإن العقوبة في المال عنده ضربان:

(أحدهما) : كما صوره الغزالي، فلا مرية في أنه غير صحيح، على أن

ابن العطار في رقائقه صغى إلى إجازة ذلك، فقال في إجازة أعوان القاضي إذا لم

يكن بيت مال: إنها على الطالب، فإن أدى المطلوب كانت الإجازة عليه. ومال

إليه ابن رشد. ورده عليه ابن النجار القرطبي، وقال: إن ذلك من باب العقوبة في

المال، وذلك لا يجوز على حال.

و (الثاني) : أن تكون جناية الجاني في نفس ذلك المال أو في عوضه،

فالعقوبة فيه عنده ثابتة. فإنه قال في الزعفران المغشوش إذا وجد بيد الذي غشه:

إنه يتصدق به على المساكين قل أو أكثر. وذهب ابن القاسم ومطرف وابن

الماجشون إلى إنه يُتصدق بما قل منه دون ما كثر. وذلك محكي عن عمر بن

الخطاب رضي الله عنه، وأنه أراق اللبن المغشوش بالماء، ووجه ذلك التأديب

للغاش. وهذا التأديب لا نص يشهد له، ولكن من باب الحكم على الخاصة لأجل

العامة. وقد تقدم نظيره في مسألة تضمين الصناع.

على أن أبا الحسن اللخمي قد وضع له أصلاً شرعيًّا، وذلك أنه عليه السلام

أمر بإكفاء القدور التي أغليت بلحوم الحُمُر قبل أن تقسم. وحديث العتق بالمثلة

أيضًا من ذلك.

ومن مسائل مالك في المسألة: إذا اشترى مسلم من نصراني خمرًا فإنه يكسر

على المسلم، ويتصدق بالثمن أدبًا للنصراني إن كان النصراني لم يقبضه. وعلى

هذا المعنى فرع أصحابه في مذهبه، وهو كله من العقوبة في المال، إلا أن وجهه

ما تقدم.

المثال السابع

إنه لو طبق الحرامُ الأرضَ، أو ناحيةً من الأرض يعسر الانتقال منها،

وانسدت طرق المكاسب الطيبة، ومست الحاجة إلى الزيادة على سد الرمق - فإن

ذلك سائغ أن يزيد على قدر الضرورة، ويرتقي إلى قدر الحاجة في القوت والملبس

والمسكن؛ إذ لو اقتصر على سد الرمق لتعطلت المكاسب والأشغال، ولم يزل

الناس في مقاساة ذلك إلى أن يهلكوا، وفي ذلك خراب الدين. لكنه لا ينتهي إلى

الترفه والتنعم، كما لا يقتصر على مقدار الضرورة.

وهذا ملائم لتصرفات الشرع وإن لم ينص على عينه، فإنه قد أجاز أكل

الميتة للمضطر، والدم ولحم الخنزير، وغير ذلك من الخبائث المحرمات.

وحكى ابن العربي الاتفاق على جواز الشبع عند توالي المخمصة، وإنما

اختلفوا إذا لم تتوال: هل يجوز له الشبع أم لا؟ وأيضًا فقد أجازوا أخذ مال الغير

عند الضرورة أيضًا. فما نحن فيه لا يقصر عن ذلك.

وقد بسط الغزالي هذه المسألة في الإحياء بسطًا شافيًا جدًّا [15] وذكرها في كتبه

الأًولية كالمنخول وشفاء العليل.

المثال الثامن

إنه يجوز قتل الجماعة بالواحد. والمستند فيه المصلحة المرسلة؛ إذ لا نص

على عين المسألة، ولكنه منقول عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وهو

مذهب مالك والشافعي. ووجه المصلحة أن القتيل معصوم، وقد قتل عمدًا،

فإهداره داع إلى خرم أصل القصاص، واتخاذ الاستعانة والاشتراك ذريعة إلى

السعي بالقتل إذا علم أنه لا قصاص فيه، وليس أصله قتل المنفرد فإنه قاتل تحقيقًا،

والمشترك ليس بقاتل تحقيقًا.

فإن قيل: هذا أمر بديع في الشرع [16] وهو قتل غير القاتل. قلنا: ليس

كذلك؛ بل لم يقتل إلا القاتل، وهم الجماعة من حيث الاجتماع عند مالك والشافعي،

فهو مضاف إليهم تحقيقًا إضافته إلى الشخص الواحد، وإنما التعيين في تنزيل

الأشخاص منزلة الشخص الواحد، وقد دعت إليه المصلحة فلم يكن مبتدعًا مع ما

فيه من حفظ

مقاصد الشرع في حقن الدماء، وعليه يجري عند مالك قطع الأيدي باليد الواحدة،

وقطع الأيدي في النصاب الواجب [17] .

المثال التاسع

إن العلماء نقلوا الاتفاق على أن الإمامة الكبرى لا تنعقد إلا لمن نال رتبة

الاجتهاد والفتوى في علوم الشرع، كما أنهم اتفقوا أيضًا - أو كادوا أن يتفقوا - على

أن القضاء بين الناس لا يحصل إلا لمن رقي في رتبة الاجتهاد. وهذا صحيح على

الجملة، ولكن إذا فرض خلو الزمان عن مجتهد يظهر بين الناس، وافتقروا على

إمام يقدمونه لجريان الأحكام وتسكين ثورة الثائرين، والحياطة على دماء المسلمين

وأموالهم، فلا بد من إقامة الأمثل ممن ليس بمجتهد، لأنا بين أمرين: إما أن يترك

الناس فوضى، وهو عين الفساد والهرج. وإما أن يقدموه فيزول الفساد به، ولا

يبقى إلا فوت الاجتهاد، والتقليد كافٍ بحسبه.

وإذا ثبت هذا فهو نظر مصلحي يشهد له وضع أصل الإمامة؛ وهو مقطوع

به بحيث لا يفتقر في صحته وملاءمته إلى شاهد؛ فهذا - وإن كان ظاهره مخالفًا لما

نقلوا من الإجماع في الحقيقة - إنما انعقد على فرض أن يخلو الزمان من مجتهد،

فصار مثل هذه المسئلة مما لم ينص عليه، فصح الاعتماد فيه على المصلحة.

المثال العاشر

إن الغزالي قال في بيعة المفضول مع وجود الأفضل: إن ردَّدنا في مبدأ

التولية بين مجتهد في علوم الشرائع وبين متقاصر عنها؛ فيتعين تقديم المجتهد؛ لأن

اتباع الناظر علم نفسه له مزية على اتباع علم غيره، فالتقليد والمزايا لا سبيل

إلى إهمالها مع القدرة على مراعاتها.

أما إذا انعقدت الإمامة بالبيعة أو تولية العهد لمنفك عن رتبة الاجتهاد، وقامت

له الشوكة، وأذعنت له الرقاب، بأن خلا الزمان عن قرشي مجتهد مستجمع جميع

الشرائط - وجب الاستمرار [18] .

وإن قُدِّر حضور قرشي مجتهد مستجمع للفروع والكفاية، وجميع شرائط

الإمامة، واحتاج المسلمون في خلع الأول إلى تعرضهم لإثارة فتن واضطراب

أمور- لم يجز لهم [19] خلعه والاستبدال به؛ بل تجب عليهم الطاعة له، والحكم بنفوذ ولايته وصحة إمامته، لأنا نعلم أن العلم مزية روعيت في الإمامة تحصيلاً

لمزيد المصلحة في الاستقلال بالنظر والاستغناء عن التقليد، وأن الثمرة المطلوبة

من الإمام تطفئة الفتن الثائرة؛ من تفرق الآراء المتنافرة. فكيف يستجيز العاقل

تحريك الفتنة، وتشويش النظام، وتفويت أصل المصلحة في الحال؟ تشوُّفًا إلى

مزيد [20] دقيقة في الفرق بين النظر والتقليد (قال) وعند هذا ينبغي أن يقيس

الإنسان ما ينال الخلق من الضرر بسبب عدول الإمام عن النظر إلى التقليد، بما

ينالهم لو تعرضوا لخلعه والاستبدال به، أو حكموا بأن إمامته غير منعقدة.

هذا ما قال [21] ، هو متجه بحسب النظر المصلحي، وهو ملائم لتصرفات

الشرع - وإن لم يعضده نص على التعيين.

وما قرره هو أصل مذهب مالك. قيل ليحيى بن يحيى: البيعة مكروهة؟

قال: لا! قيل له: فإن كانوا أئمةَ جَورٍ؟ فقال: قد بايع ابن عمر لعبد الملك بن

مروان، وبالسيف أخذ الملك؛ أخبرني بذلك مالك عنه أنه كتب إليه وأمر له بالسمع

والطاعة على كتاب الله وسنة نبيه.

قال يحيى: والبيعة خير من الفرقة (قال) ولقد أتى مالكًا العمريُّ فقال له:

يا أبا عبد الله بايعني أهل الحرمين، وأنت ترى سيرة أبي جعفر، فما ترى؟ فقال

له مالك: أتدري ما الذي منع عمر بن عبد العزيز أن يولي رجلاً صالحًا؟ فقال

العمري: لا أدري. قال مالك: لكني أنا أدري، إنما كانت البيعة ليزيد بعده،

فخاف عمر إن ولى رجلاً صالحًا أن لا يكون ليزيد بدٌّ من القيام، فتقوم هجمة فيفسد

ما لا يصلح. فصدر رأي هذا العمري على رأي مالك.

فظاهر هذه الرواية أنه إذا خيف عند خلع غير المستحق وإقامة المستحق أن

تقع فتنة وما لا يصلح، فالمصلحة في الترك.

وروى البخاري عن نافع قال: لما خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية جمع ابن

عمر حشمه وولده فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

(يُنصب لكل غادر لواءٌ يوم القيامة) وإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيعة الله

ورسوله، وإني لا أعلم أحدًا منكم خلعه ولا تابع في هذا الأمر إلا كانت الفيصل

بيني وبينه.

قال ابن العربي: وقد قال ابن الخياط: إن بيعة عبد الله ليزيد كانت كُرْهًا،

وأين يزيد من ابن عمر؟ ولكن رأى بدينه وعلمه التسليم لأمر الله والفرار عن

التعرض لفتنة فيها من ذهاب الأموال والأنفس ما لا يخفى. فخلع يزيد لو تحقق

أن الأمر يعود في نصابه.. [22] فكيف ولا يعلم ذلك؟ وهذا أصل عظيم فتفهموه

والزموه ترشدوا إن شاء الله.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) تابع لما نشر في ص 753.

(1)

قوله: (في الواقع له) لا معنى له ولعله زائد.

(2)

بياض في الأصل ويصح المعنى بتقدير الساقط: (قال) أو (ذهب إليه) .

(3)

المراد بكرائمه: عقائل نسائه الحرائر لا بناته، كما هو المستعمل في عرف زماننا.

(4)

تأمل العبارة من أولها.

(5)

استحرَّ القتل: اشتد وكثر، والقُرَّاء: حفظة القرآن.

(6)

العسب: جمع عسيب؛ وهو جريد النخل، واللخاف كلحاف: حجارة بيض رقاق، واحدتها لخفة كسمكة.

(7)

هذا القول يحتاج إلى مزيد بيان، وهو أن الله تعالى سمّى القرآن كتابًا؛ فأفاد ذلك وجوب كتابته كله، ولذلك اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم كتَّابًا للوحي، وتفريق الصحف المكتوبة لا يعقل أن يكون مطلوبًا للشارع حتى يحتاج جمعها إلى دليل خاص. ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بجمعها في حياته لاحتمال المزيد في كل سورة ما دام حيًّا، كما قال العلماء.

(8)

في نسخة ثانية (الشريعة تقيم) كما يستفاد من هامش الأصل.

(9)

لعل الأصل (لتعذيب البريء) .

(10)

ينظر أين يرجع الضمير الذي أسند إليه هذا الفعل، فإن كان (المصادفة) فالظاهر أن يؤنث بالتاء؛ فيقال:(اغتفرت) كما قال: (فتغتفر) وإن أرجع إلى (التعذيب) رد بأن تضمين الصناع ليس تعذيبًا، ولعل الأصل تأنيث الفعل، أو حذف (في) وجعل (تضمين) هو الفاعل.

(11)

قوله: (مأمور) خبر (أن الأب) باعتبار ما عطف عليه.

(12)

قوله: (هجومهم) يعني المسلمين الذين وطئ الكفار أرضهم محاربين لهم.

(13)

في الأصل (وجوده) وهو غلط.

(14)

ينظر أين جواب (لو) ؟ وما موقع الفاء من قوله: (فاختلف العلماء) .

(15)

للغزالي كلمة في عدم تعدي الحرام إذا كثر وعم؛ وهي: (إذا حرم كله حل كله) أي لا يبحث المرء في هذه الحال عن أصل المال؛ بل يتحرى أن يأخذه من وجه حلال.

(16)

البديع: المختَرَع على غير مثال سابق، والمعنى ليس له أصل من الشرع، لا خاص فيكون قياسًا عليه، ولا عام فيكون من المصالح المرسلة.

(17)

أي إذا قطع جماعة يد أحد أو سرقوا نصابًا بالتعاون والاشتراك: تقطع أيديهم كلهم.

(18)

قوله: (وجب) إلخ جواب قوله: (أما إذا انعقدت) .

(19)

قوله: (لم يجز لهم) إلخ جواب وجزاء قوله: (وإن قدر) إلخ.

(20)

كذا ولعله (مزية) .

(21)

أي الغزالي، وقد فاته وفات أمثاله أن ينبهوا المسلمين على أن هذه الأقوال والفتاوى المبنية على الضرورة تتقدر بقدرها كسائر الضرورات، وأن يسعى المسلمون لإزالتها بوسائل تُتقى فيها الفتنة أو يرتكب فيها أخف الضررين، وقد يكون أخفهما خلع الإمام الجائر الجاهل، وكم من سلطان خلع، ومن دولة دالت، ولم يكن ضرر ذلك أرجح من الصبر عليه، على أن ذلك لم يكن إلا تنازعًا على الملك، فكيف لو كان لأجل وضع الحق في نصابه.

(22)

سقط من هنا خبر المبتدأ الذي هو قوله: (فخلع يزيد) ولعل الساقط قوله: (تعرض للفتنة) كما يفهم من سياق الكلام أي أن خلع يزيد تعرض للفتنة لا يجوز مع العلم بأن الخلافة تعود إلى

مستحقها، فكيف وذلك غير معلوم، لجواز أن ينكل بمن خلعوه ويبقى الأمر بيده أو تعود إلى مثله أو شر منه.

ص: 833

الكاتب: محمد توفيق صدقي

مدرسة دار الدعوة والإرشاد

دروس سنن الكائنات

محاضرات علمية طبية إسلامية للدكتور محمد توفيق صديق

بسم الله الرحمن الرحيم

الغرض من هذه المحاضرات إيقافكم على أصول بعض أنواع العلوم الطبيعية

والطبية، خصوصًا ما كان منها له مساس بعلم قانون الصحة، فإنه هو

المقصد الأصلي الذي نرمي إليه في جميع هذه المحاضرات؛ لأن هذا العلم هو كثمرةٍ

شهيَّةٍ ممّا تنتجه شجرة العلوم العصرية، طبيعية كانت أو طبية، والغرض منه

معرفة الأصول والقواعد الصحية التي بها يحفظ الجسم من الضعف والانحلال

بقدر الإمكان، وكذا من الأمراض المعدية وغير المعدية.

وستسمعون مني في سياق هذه المحاضرات تعريب كثير من الألفاظ العلمية،

وتطبيق حقائق هذه العلوم على نصوص الديانة الإسلامية الغراء.

وهاكم أسماء العلوم التي نريد أن نتكلم عليها بعون الله تعالى:

1 -

الكيمياء 2 - الطبيعة 3 - التشريح 4 - الفسيولوجيا [1]

5-

الهستولوجيا [2] 6 - البكتيريولوجيا [3] الأمراض المعدية، وغير ذلك.

***

نبذة في علم الكيمياء Chemistry

الكيمياء القديمة كان الغرض منها معرفة حجر الفلاسفة وهو الجوهر الذي إذا

وضع على أي معدن يُصيِّره ذهبًا على زعمهم. ومعرفة إكسير الحياة، وهو الذي

كانوا يظنون أنه يعيد الشيخ شابًّا أو أنه يشفي جميع الأمراض. وأما الآن فالغرض

من الكيمياء معرفة أصول المركبات وكيفية تركيبها وتحليلها. وهذه الأصول تسمى

بالعناصر، والعناصر كثيرة؛ ولكنها الآن لا تتجاوز الثمانين، ومن أهمها الحديد

والنحاس والأكسجين والكربون.

وأما المركبات فمنها الخشب والسكر والماء وغير ذلك. والراجح عند العلماء

الآن أن جميع العناصر هي أيضًا مركبات وكلها ترجع إلى أصل واحد، وهو

الأثير الذي هو أبسط جميع الموجودات ومنه ركبت؛ وأصغر أجزاء هذه العناصر

تسمى بالجواهر الفردة، وهي التي لا يمكن تقسيمها إلى أقل منها ولو في الذهن.

والعناصر جميعًا تنقسم إلى قسمين: معادن وغير معادن؛ فالمعادن هي مثل

النحاس والحديد، وغيرها ما ماثل الفحم والكبريت (المسمى بالعمود) والمعادن

تختلف عن غير المعادن في أربعة أشياء:

(1)

أن المعادن لها لمعة خاصة بها، وغيرها ليس كذلك.

(2)

أن المعادن توصل الحرارة والكهرباء.

(3)

أن المعادن تقبل الانطراق والتمدد، وغير المعادن لا يقبل ذلك.

(4)

أن أكسيد المعادن يسمى القاعدة، وأكسيد غير المعادن يتركب منه

الحمض. والأكسيد هو ما ينشأ من اتحاد الأكسجين مع أي عنصر من العناصر،

مثال ذلك صدأ الحديد فإنه يسمى أكسيد الحديد لتركبه من الأكسجين مع الحديد،

والقاعدة سميت بذلك؛ لأنها كالأساس تُبنى عليه الأملاح، والحمض غير العضوي

ينشأ من إذابة أكسيد غير المعادن في الماء، واتحاد القواعد مع الحوامض يولد

الأملاح.

ثم إن أكسيد المعادن الذي يذوب في الماء يسمى (قلوي) ولفظ قلوي نسبة

إلى قلي وهي كلمة فارسية معربة تطلق على نبات ينبت بشواطئ البحر يسمى

الأشنان، إذا أُحرق تخلف منه رماد يشتمل على كثير من ملح يسمى:

(كربونات الصوديوم) ، ومنه يعمل الصابون. وكربونات الصوديوم تسمى

بالعربية نطرونًا، ولفظ النطرون أخذ منه اسم العنصر المسمى (صوديوم) فسموه

نطريوم، ومن كلمة (قلي) أخذ لفظ قليوم وهو اسم لعنصر (البوتاسيوم) .

وأشهر القلويات أكسيد الصوديوم أو النطريوم وأكسيد البوتاسيوم أو القليوم.

وإذا أذيب القلوي في الماء تكون منه ما يسمى (هيدرات) أو إيدرات، ومعنى كل

منهما (ماء) فإذا قيل هيدرات الصوديوم فمعناه ماء الصوديوم أو بالحري ماء

أكسيد الصوديوم.

***

أشهر العناصر

وأشهر العناصر ما يأتي 1 - الأكسجين. 2 - الهيدروجين. 3 -

النيتروجين. 4 - الكلورين. 5 - الصوديوم. 6 - البوتاسيوم. 7 - الكلسيوم.

(وهو ما يتركب منه الجير) 8 - الفُسفُور. 9 - الكبريت 10 - الحديد. 11 -

الكربون (الفحم) .

فالأربعة الأول كلها غازات طيَّارة كالهواء، وهي لا لون لها، ما عدا

الكلورين فإنه أخضر اللون، وهو معنى اسمه باليونانية. وأما الصوديوم

والبوتاسيوم وإلخ فهي أجسام صلبة.

***

العناصر المركبة في الجسم

ويتركب من هذه العناصر أجسام أخرى مركبة تدخل في جسم الإنسان وهي

تنحصر في خمسة أنواع 1 - الماء 2 - المواد الزلالية 3 - المواد الدهنية

4 -

المواد السكرية والنشوية ونحوها 5 - أملاح عديدة أهمها كلوريد الصوديوم

(ملح الطعام) وكربونات الكلسيوم (معدن الجير) وسُلفات الصوديوم (كبريتات) .

فأما الماء فهو مركب من الأكسجين والهيدروجين ويدخل في جميع أجزاء

الجسم، ومنه يتكون أكبر جزء فيه، وهو من أهم ما يلزم لحياة الجسم، بحيث إن

الإنسان وأي حيوان آخر إذا امتنع عنه بضعة أيام يموت قطعًا.

وأما المواد الزلالية فهي كزلال البيض (بياضه) وهي مركبة من

الأكسجين والهيدروجين والنيتروجين والكربون (الفحم) والكبريت. وبعضها

يدخل فيه الحديد كالمادة المسماة (هيموجلوبين) وهي الداخلة في كرات الدم

الحمراء. ويتركب من المواد الزلالية: العظام واللحم والمخ والنخاع وجميع

الأحشاء.

وأما المواد الدهنية فهي مركبة من الكربون والهيدروجين والأكسجين، وتوجد

في الغالب تحت الجلد وحول الأحشاء في البطن وغيره.

ثم إن هذه العناصر الثلاثة الأخيرة يتركب منها الغلسرين وأحماض عضوية.

فالأحماض العضوية هي التي لا تتكون بنفسها إلا في أعضاء النباتات والحيوانات.

وباجتماع الغلسرين مع الأحماض العضوية ينشأ الدهن والزيوت الثابتة

(مثل زيت السمك وزيت الزيتون) أما الزيوت غير الثابتة فهي مثل

زيوت الروائح العطرية، وتركيبها يختلف عن ذلك كثيرًا.

وأما المواد النشوية والسكرية ونحوها فتسمى في علم الكيمياء

(بالكربوهيدرات) لأنها مركبة من الكربون والهيدروجين والأكسجين، والفرق

بينها وبين المواد الدهنية هو في عدد الذرات وفي وضع بعضها بالنسبة إلى البعض

الآخر. والمواد السكرية والنشوية توجد بكثرة في الدم والكبد، فيوجد في الدم سكر

العسل وفي الكبد نوع من النشا يسمى النشا الحيواني (الجليكوجين) .

واعلم أن الياء والكاف (يك) إذا أضيفتا إلى آخر اسم الحامض دَلَّتَا على أن

فيه أكسجين كثيرًا، والواو والزاي (وز) يدلان على أكسجين قليل، ولفظ (فوق)

يدل على أن الأكسجين أكثر مما في الحمض المنتهي بالياء والكاف ولفظ (تحت)

يدل على أنه أقل الحوامض التي من نوعه في الأكسجين، مثال ذلك:

1ً - فوق حامض الكلوريك: فيه 4 ذرات من الأكسجين.

2ً - وحامض الكلوريك: فيه 3 ذرات من الأكسجين.

3ً - وحامض الكلوروز: فيه 2 ذرات من الأكسجين.

4ً - وتحت حامض الكلوروز: فيه 1 ذرة من الأكسجين.

والملح الذي ينشأ من الأول يسمى (فوق كلورات) والذي ينشأ من الثاني

(كلورات) والذي ينشأ من الثالث (كلوريت) والذي ينشأ من الرابع (تحت

كلوريت) .

وكل ياء ودال (يد) يدلان على أن الجسم مركب من عنصرين فقط مثل

كلوريد الصوديوم فإنه مركب من عنصرين فقط هما الكلورين والصوديوم،

ولأجل تمييز الحوامض عن القلويات يستعمل ورق عباد الشمس Litmus فالحمض

يصيره أحمر، والقلوي يصيره أزرق، والملح لا يغير لونه ويسمى (متعادلاً) .

***

الاتحاد والمزج

بقيت مسألة واحدة تتعلق بموضوع الكيمياء وهي الفرق بين الاتحاد وبين

الخلط أو المزج.

فالاتحاد معناه الارتباط والانضمام، والخلط والمزج معناهما ظاهر.

وهناك في علم الكيمياء ثلاثة فروق كبيرة بين الاتحاد وبين الخلط أو المزج.

(1)

ففي حالة الاتحاد ينشأ مركب يخالف في صفاته وخواصه وطبائعه

صفات أجزائه التي يتركب منها. وفي حالة الخلط أو المزج ليس الأمر كذلك،

مثال ذلك الخشب فإن له صفات تغاير صفات عناصره كل المغايرة، وإذا خلطنا

السكر مع الفحم بقي كل منهما حافظًا لصفاته وخواصه، وهناك مثال آخر وهو

الماء والهواء، فالماء مركب متحد، والهواء مركب ممزوج.

(2)

أن الاتحاد الكيماوي يكون دائمًا بنسب ثابتة لا تتبدل ولا تتغير،

والنسب في الخلط ليست ملتزمة.

(3)

أن الاتحاد الكيماوي قد يولد حرارة وكهرباء، والخلط لا يولد شيئًا

منها.

***

النبذة الثانية

في علم الطبيعة (Physics)

علم الطبيعة هو علم ظواهر المادة يُبحث فيه عن طباعها وخواصها وقواها

فهو علم الظاهر، والكيمياء علم الباطن.

أما قوى المادة فمعناها حركات جواهرها (ذراتها) المختلفة، وتنشأ منها

أعراض كثيرة أهمها ما نسميه بالكهرباء والحرارة والنور والمغناطيس؛ فإن

الأشياء الأربعة ليست إلا حركات مختلفة لذرات المادة.

ثم إن المادة لها ثلاثة أحوال: (1) اليبوسة. (2) السيولة. (3)

البخارية أو الغازية، ويسمى الجسم في الحالة الأخيرة: الساطع أو الريح أو البخار

وبالإفرنجية الغاز.

واختلاف هذه الأحوال الثلاثة إنما نشأ من اختلاف مقدار الحرارة الموجودة

في كل منها، فذرّات الغاز أشدَّها اضطرابًا وأكثرها حركة وحرارة، وذرات الجامد

(اليابس) أقلها حركة وحرارة، وذرات السائل متوسطة بين الحالتين في الحرارة

والحركة. فلا يمكننا تحويل الجسم من حالة اليبوسة إلى حالة السيولة إلا بالحرارة

ولا يمكننا تحويله من حالة السيولة إلى الحالة الغازية إلا بالحرارة أيضًا. وكذلك

الحالة في إذابة جميع الأجسام الجامدة في السوائل فإنها تمتص الحرارة من الأجسام

المجاورة لها فإذا أذبنا مثلاً الملح الإنكليزي في الماء أحسسنا ببرودة في الإناء بسبب

امتصاص حرارته لأجل الإذابة.

والحرارة نوعان: حرارة كامنة وهي منصرفة في تفريق ذرات المادة ولا يمكن

الإحساس بها، وحرارة ظاهرة وهي التي يشعر بها الإنسان.

***

سنن التجاذب وأنواع التجاذب

بين ذرات المادة تجاذب يظهر في أجرامها العظيمة كالكواكب، وفي أجرامها

الصغيرة كالحصى، ويشاهد هذا الجذب بين القمر والأرض مثلاً في ماء البحار

فيحصل فيه ما يسمى بالمد.

ويُسمى هذا التجاذب بأسماء مختلفة باختلاف الأحوال: فالتجاذب بين ذرَّات

الجسم الواحد كالحصى يسمى قوة الانضمام؛ وبالإنكليزية Cohesion والتجاذب

بين جسمين مختلفين كالجدار وطلائه يسمى قوة الالتصاق؛ وبالإنكليزية

Adhesion وبين الأرض وما عليها يسمى قوة الجذب Gravitation وكل ثقل

لأي جسم إنما هو ناشئ من هذا الجذب الأرضي. واختلاف الأثقال هو ناشئ عن

اختلاف عدد الذرات، فالجسم الثقيل هو ما كانت ذراته كثيرة، والجسم الخفيف هو

ما كانت ذراته قليلة. وكل ما نعرفه ونشاهده على الأرض من الأجسام حتى الهواء

له ثقل تسبب عن جذب الأرض له.

وثقل الهواء على الأجسام يسمى الضغط الجوي، ولقياسه يستعمل البارومتر.

أما البارومتر فهي كلمة يونانية معناها: (مقياس الثقل) أي ثقل الهواء

وأبسط طريقة لصناعته أن تملأ أنبوبة زجاجية بالزئبق عادة طولها 90 سنتي مترًا

وقطرها سنتي واحد ثم تسد بالإصبع وتغطس فتحتها في إناء مملوء بالزئبق ثم يرفع

الإصبع فترى أن الزئبق ينزل في الأنبوبة ويترك مسافة فارغة في أعلاها ويكون

ارتفاع الزئبق في الأنبوبة عن سطح الزئبق الذي في الإناء نحو 76 سنتي مترًا،

والذي رفعه إلى هذه المسافة هو ضغط الهواء على سطح الزئبق الذي في الإناء.

ويمكن أيضًا عمل البارومتر بأنبوبة على شكل حرف (ل) مسدودة من طرفها

الأعلى ومفتوحة من الأسفل فيبقى الزئبق مرفوعًا كما في الطريقة الأولى.

ومن فوائد البارومتر معرفة ارتفاع الجبال وغيرها كالمناطيد؛ لأن الزئبق

ينزل في الأنبوبة كلما ارتفعنا لخفة الهواء في الأماكن العالية، وكذلك نعرف منه

قرب حصول المطر؛ فإن الهواء المشبع بالرطوبة أخف من الهواء الجاف فينخفض

الزئبق إذا اقترب المطر.

***

تمدد الأجسام ومقياس الحرارة

وجميع الأجسام تتمدد بالحرارة في جميع جهاتها أي يكبر حجمها بسبب تفرق

أجزائها فتتسع المسام التي بينها، وتنكمش أيضًا بالبرودة أي يصغر حجمها وتقل

المسافات (المسام) التي بين ذراتها.

وعلى هذه القاعدة بني مقياس الحرارة Thermometer وهو عبارة عن أنبوبة

من الزجاج فارغة من الهواء يوضع في أسفلها الزئبق ثم يبرد بالثلج حين ذوبانه

حتى يصل إلى أصغر حجمه ثم توضع في بخار الماء الذي يغلي حتى يصل الزئبق

في الأنبوبة إلى أكبر حجمه. وتسمى النقطة الأولى التي وصل إليها الزئبق بالتبريد

(نقطة الصفر) وهي درجة الجليد. أي التي يجمد بها الماء فيكون جليدًا والنقطة

الثانية التي وصل إليها بالتسخين (نقطة المئة) وهي درجة الغليان - أي للماء - ثم

تقسم المسافة التي بين هاتين النقطتين إلى مائة قسم يسمى كل قسم منها درجة

ويرمز للدرجة بدائرة صغيرة كرقم (5) فإذا وضعت بجانب عدد كان المراد أنه عدد

الدرجات كما ترى قريبًا وقد يوضع في هذه الأنبوبة مواد أخرى غير الزئبق

كالكحول (روح الخمر أو السبرتو) .

وفي بعض البلاد يقسمون المسافة التي بين النقطتين المذكورتين إلى 80 قسمًا

أو درجة، وفي هذا المقياس تكون الدرجة أكبر من درجة المقياس الأول، وقد

يقسمون هذه المسافة أيضًا إلى 180 قسمًا فتكون الدرجة أصغر، ويضعون في

هذا المقياس الأخير بدل الصفر رقم 32 وبدل 100 رقم 212.

ويسمى المقياس الأول بالمقياس المئيني Centigrade (سنتجراد) .

ويسمى المقياس الثاني مقياس (ريومر) والمقياس الثالث يسمى مقياس

(فهرنهيت) وأكثر هذه المقاييس استعمالاً في مصر وفرنسا هو الأول ويليه الثالث

كما في بلاد الإنكليز، وأما الثاني فهو قليل الاستعمال. أما حرارة الجسم الإنساني

الطبيعية فهي بالمقياس الأول من 36 درجة صباحًا إلى 37 درجة مساءً، وبالمقياس

الثالث من 98 درجة إلى 99 درجة تقريبًا.

وكل درجة من هذه الدرجات تقسم إلى عشرة أقسام، فالخمسة منها هي نصف

الدرجة وهكذا. وطريقة معرفة حرارة الإنسان أن يوضع المقياس في أي جزء من

الجسم بحيث يكون محاطًا باللحم من جميع الجهات مدة ثلاث دقائق تقريبًا. وأشهر

هذه الأماكن تحت اللسان وتحت الإبط وقد تؤخذ الحرارة أيضًا من الشرج وذلك في

الأنعام والأطفال.

والحيوانات تنقسم إلى قسمين باعتبار الحرارة:

القسم الأول: الحيوانات ذوات الدم الحار كالإنسان والخيل والسباع والطيور

وغيرها.

والقسم الثاني: ذوات الدم البارد كالضفادع والأسماك والزواحف.

فحيوانات القسم الأول تبقى حرارتها على حالة واحدة تقريبًا في الحر والبرد،

في أواسط الأرض عند خط الاستواء، وفي أعلاها عند المتجمد الشمالي مثلاً.

وحيوانات القسم الثاني تختلف حرارتها باختلاف البيئة (الوسط) فترتفع

حرارتها إذا كان المكان ساخنًا وتنخفض إذا كان باردًا.

أما الإنسان فإذا قلت حرارته عن 35 أو ارتفعت عن 44 مات غالبًا،

وارتفاع الحرارة هو ما يسمى بالحمى، وانخفاضها يسمى بالهمود (أو الهبوط)

وهو الحالة التي يكون الإنسان فيها عند الموت عادة.

***

المادة وقواها

إن جميع الأجسام وقواها المشاهدة في هذا العالم لا توجد الآن من العدم ولا

تقبل العدم أو الزوال، وذلك بحسب استقرائنا الحالي وعلى ذلك يجب علينا أن نبين

مصادر (أو منابع الحرارة) في العالم؛ حيث لا تنبعث من العدم.

مصادر الحرارة

للحرارة مصدران: طبيعي وصناعي.

(1)

أما المصدر الطبيعي فهو الشمس، وباقي الشموس الأخرى

المسماة عندنا بالنجوم الثابتة، والحرارة التي فيها إنما تنشأ من احتراق

أجزائها. والاحتراق عبارة عن اتحاد الأجزاء بعضها مع بعض اتحادًا كيماويًّا،

وأهم أنواع الاحتراق المشاهد في هذه الأرض ما يحصل من اتحاد الفحم مع

الأكسجين، والهيدروجين مع الأكسجين أيضًا. والاحتراق لا يعدم المادة وإنما

يحولها إلى صور وأشكال أخرى.

(2)

وأما المصدر الصناعي فهو ينشأ من الأسباب الآتية:

(أ) الاحتكاك.

(ب) القرع؛ كقدح الزناد الحجرية أو زناد الآلات النارية (البنادق) .

(ج) التفاعل الكيماوي أو الاتحاد الكيماوي (كاحتراق الخشب) .

(د) التيار الكهربائي (كالأتون الكهربائي) .

فالحرارة الحيوانية تتولد في الجسم من الاحتراق من الشمس، ومن الحركات

الجثمانية الظاهرة والباطنة. وأهم احتراق يحصل في الجسم هو اتحاد ما يوجد فيه

من الفحم أو الهيدروجين بأكسجين الهواء. والفرق بين اشتعال الجسم الإنساني

وبين اشتعال غيره أن اشتعال الجسم تدريجي بطيء واشتعال الآخر سريع شديد.

ويتولد من اتحاد الفحم مع الأكسجين غاز يسمى (ثاني أكسيد الفحم) ويرمز إليه

هكذا (ك أ 2)[4] ومن اتحاد الهيدروجين مع الأكسجين يتولد الماء ويرمز إليه

هكذا (هـ 2 أ) ، وهذان الجسمان ينشآن أيضًا من احتراق كثير من أجسام

أخرى كالخشب والشمع وزيت البترول [5] .

ولخروج الحرارة من الجسم الإنساني عدة طرق:

(1)

طريق التوصيل وذلك بسريان الحرارة من الجسم الإنساني إلى جميع

الأجسام المحيطة به كالملابس والفرش والهواء.

(2)

الإشعاع، أي خروج الحرارة من الجسم بشكل أشعة كأشعة النور منبعثة

في جميع الجهات، وسريانها هذا يكون في الأثير.

(3)

طريقة الحمل وذلك يكون بحمل الهواء المحيط بالجسم للحرارة

وارتفاعه بسبب خفته وحلول هواء آخر بارد محله؛ فإن الهواء الحار أخف

من الهواء البارد.

(4)

طريقة الإفرازات كالبول والبراز وغيرهما فإنهما يحملان شيئًا كثيرًا

من حرارة الجسم. ومثلهما الهواء الخارج من الرئتين في الشهيق.

(5)

التبخر وذلك يكون بتبخر عرق الجسم، ولا يخفى أن تحول الماء إلى

بخار يحتاج إلى حرارة كما قلنا سابقًا، فلذلك كان العرق في تبخره مخرجًا لكثير

من حرارة الجسم وهو من أهم الطرق المذكورة هنا.

فإذا اشتدت حرارة الجو انبعث الدم من داخل الجسم إلى خارجه وملأ الجلد

كله وكثر إفراز العرق وقل الاحتراق الداخلي في الجسم حتى لا تزيد الحرارة عن

الدرجة الطبيعية.

وإذا اشتدت برودة الهواء كثر الاحتراق الداخلي في الجسم وهرب الدم من

ظاهره إلى باطنه وامتنع العرق وبذلك تحفظ حرارة الجسم فيه وتبقى في الدرجة

الطبيعية.

وكل هذه الحركات التي تحصل في الجسم من هروب الدم إلى الباطن

وخروجه إلى الظاهر ومن زيادة الاحتراق أو قلته - مدبَّرة بالأعصاب ومركز هذا

التدبير في الدماغ أو المخ.

فإذا أصيبت مراكز التدبير بأي شيء اختلت وظيفتها، فإما أن يبرد الجسم

برودة شديدة أو يسخن سخونة شديدة. وذلك الأخير هو الحمى وقد يموت الشخص

بسبب البرودة أو السخونة.

والذي يفسد عمل هذه المراكز العصبية المدبِّرة في الغالب سموم تتولد في

الجسم من الجراثيم المرضية (الميكروبات) وقد ينشأ اختلال هذه المراكز من

إصابات أخرى للدماغ أو آلام شديدة في جزء من أجزاء الجسم كالمغص الكلوي.

فأعظم أسباب ارتفاع الحرارة الجثمانية (أي الحمى) شيئان:

(1)

سموم الميكروبات التي تدور في الدم.

(2)

كل ما يؤثر في المراكز العصبية كالألم الشديد أو ضربة الشمس أو

غيرهما.

ومما تقدم يفهم أن الحمى تتولد في الجسم بثلاثة طرق:

(1)

زيادة الاحتراق مع خروج الحرارة من الجسم كالمعتاد.

(2)

قلة خروج الحرارة عن المعتاد مع كون التولد كالمعتاد.

(3)

اجتماع الطريقتين السابقتين بأن يزيد الاحتراق ويقل خروج الحرارة،

وهذا أشد طرق الحمى.

ففي الأمراض المختلفة المصحوبة بالحمى يحصل أحد هذه الطرق وخصوصًا

الأول والثالث منها.

فالحمى على ذلك ضرب من ضروب النار. وأفيد عمل لإطفائها بسرعة

استعمال الماء البارد مصداقًا للحديث الشريف: (الحمى من فيح جهنم فأبردوها

بالماء) أي كأنه من حر جهنم أو مما انتشر منها إلى الأرض.

ومن الغلط الشائع معالجة الحمى بكثرة التدفئة بالملابس وغيرها فإن ذلك يزيد

حرارة الجسم ويضر المريض كما لا يخفى.

***

كلمة في الخمر

يظن كثير من جهلة الناس أن استعمال الخمور في البلاد الباردة ضروري

للحياة، وقد أثبت جميع أطباء العالم بلا خلاف بينهم نقيض هذه الدعوى وظهر لهم

أن الخمر من أعظم ما يخفض الحرارة الجثمانية لأسباب:

(أحدها) أنها تقلل الاحتراق الداخلي في الجسم المسمى بالتفاعل الحيوي.

(ثانيها) أنها تمدد جميع أوعية الجلد وتكثر العرق وبذلك يخرج كثير من

حرارة الجسم.

(ثالثها) أنها إذا تعوطيت بمقادير كبيرة انتهى الأمر بها إلى إضعاف جميع

قوى الجسم فيضعف القلب والدورة الدموية، ولذلك شوهد في البلاد الباردة كثير من

الناس الذين تقتلهم الخمر.

نعم إن جزءًا منها يحترق في الجسم فيولد فيه حرارة ولكنها لا تعد شيئًا في

جانب تبريدها الشديد للجسم كما بيَّنّا.

أما الإحساس بالحرارة عقب تعاطيها فذلك ناشئ من ورود الدم بكثرة إلى

الجلد لا للزيادة في الاحتراق، فهو إحساس كاذب ضار بالجسم.

ومما تقدم يعلم أن الخمر نافعة في تبريد حرارة الجسم إذا أصابته الحمى،

وهي كذلك، فإن خير استعمالها طبيًّا هو في الحميات بشرط عدم الاستمرار عليها

طويلاً وعدم الإكثار منها، وإلا لأحدثت سرعة في النبض وزادت في هذيان

المحموم.

وقد تستعمل أيضًا بمقادير قليلة للتنبيه والإنعاش فإنها في أول أمرها وبمقادير

قليلة تؤدي إلى تنشيط حركة الجسم؛ ولكن ذلك يعقبه غالبًا - وخصوصًا إذا أخذت

بمقادير كبيرة - هبوط ضار في جميع القوى.

أضف إلى ذلك مضراتها الأخرى الكثيرة بجميع الأحشاء وغيرها من أجزاء

الجسم، فإن الخمر هي من أعظم أسباب جميع الأمراض العقلية والعصبية

والجثمانية، وهي تضعف النسل وتورثه بعض ما أصابت به والديه كالصرع مثلاً،

ومن أكبر مضاراتها أيضًا أنها تعوق حركة الكرات البيضاء التي في الدم، وبذلك

يتغلب كثير من الأمراض على الجسم فتفتك به كما هو مشاهد كثيرًا في السِّكِّيرين

فقل أن ينجو منهم أحد أصيب بمرض شديد.

وقد يتوهم بعض الناس مما ذكر أن الخمر إذا شربت بمقادير قليلة نفعت

الجسم! والحقيقة خلاف ذلك، فإن الإدمان والمواظبة على شرب الخمر ولو قليلاً لمدة

طويلة قد ينشأ عنه كثير من الأمراض التي ذكرت، والقليل يجر الكثير حتمًا وإلا

لضاعت مزيتها عند الشارب.

والمدمن على تعاطيها - ولو باعتدال - هو دائمًا ضعيف القوى بحيث لا

يتحمل ما يتحمله غيره من المشاق، وهو أيضًا معرض لكثير من الأمراض المعدية

كالسل والحمرة؛ لأن الخمر تقلل مقاومة الجسم لجميع الميكروبات كما قلنا

وخصوصًا ميكروب الالتهاب الرئوي. ولذلك لوحظ أن الجنود الإسلامية أقوى

الناس تحملاً للمشاق وأقلهم تعرضًا للأمراض.

والخلاصة: أن الخمر إذا أخذ منها قليل مرة أو مرتين قد تنفع؛ ولكن

الإدمان على قليلها هو ضار جدًّا كالإكثار منها غير أن ضرر القليل بطيء،

وضرر الكثير سريع قد يقتل الشخص في أقرب وقت، فهي كما أخبرنا الله تعالى في

كتابه: وفيها منافع للناس وإثمها أكبر من نفعها.

***

الذوبان وما يتعلق به

إذا وضع جزء من السكر أو نحوه في الماء، وترك قليلاً من الزمن مع

تحريك السائل أو السكر انحل السكر، كأنه فقد، والحقيقة أنه لا يزال باقيًا في

الماء فيعطيه خواصه وصفاته.

وإذا مزج قليل من الدقيق بالماء شوهد أنه باق فيه بلا انحلال.

فالحالة الأولى تسمى حالة الذوبان والحالة الثانية تسمى حالة التعليق؛ لأن

ذرات الجسم الصلب تكون معلقة أو محمولة على ذرات الجسم السائل.

وكما يحصل الذوبان في الأجسام الصلبة كذلك يحصل في السوائل والغازات

فإذا مزجنا بعض السوائل بالبعض الآخر يشاهد فيها هذا الانحلال (الذوبان)

مثال ذلك اختلاط الخل بالماء والخمر به فإنهما يذوبان فيه.

وكذلك الغازات فإن بعضها يذوب في السوائل أي تنحل وتمتزج بها امتزاجًا

تامًّا كالهواء مع الماء.

وكما أن بعض الأجسام الصلبة لا يذوب في بعض السوائل كذلك توجد سوائل

لا تذوب فيها كالزيت في الماء.

وأحسن طريقة لتعليق الزيت في الماء أن يمزج الماء قبل إضافة الزيت إليه

بقليل من الصمغ ويسمى المزيج الحاصل من هذه الأشياء الثلاثة (مستحلبًا) .

فمن أمثلة التعليق في الأجسام الحيوانية الدم واللبن؛ فإن الدم مركب من

بعض أجسام ذائبة وبعض أجسام غير ذائبة وكذلك اللبن فإن الدهن معلق فيه كتعليق

الزيت فيما سميّناه هنا مستحلبًا تشبيهًا له باللبن الحليب (المحلوب) .

ويمتاز الجسم المعلق عن الجسم الذائب بما يأتي:

(1)

إن الجسم المعلق يشاهد بالعين المجردة أو بالآلات المكبرة

(الميكروسكوب) .

(2)

إذا ترك الجسم المعلق زمنًا ما شوهد أنه ينفصل عن السائل الذي كان

معلقًا فيه، فإما أن يصعد إلى أعلى كالزيت أو يسقط إلى أسفل كالدقيق.

(3)

إذا وضع السائل المعلق عليه شيء في إناء ناضح نضح السائل وحده

وبقي الجسم المعلق في داخله.

(4)

توجد آلة تسمى (المبعدة عن المركز) إذا وضع فيها سائل عليه

أشياء معلقة وأديرت بسرعة شديدة طردت الأشياء الثقيلة إلى جهة دائر محيطها،

واقتربت الخفيفة نحو مركزها، وبذلك يمكن فصل الأجسام المعلقة بعضاه عن

بعض، وهذه الآلة تستعمل في فصل زبدة اللبن عنه فنجد فيها الزبدة بقرب المركز

لخفتها، وكذلك تستعمل في فصل كريات الدم عن بقيته؛ فتوجد الكريات عند

محيطها لثقلها.

ولفصل الجسم الذائب عن السائل عنه طريقة شهيرة وهي التبخير السريع أو

البطيء. والسائل الذي يبخر إذا برد وجمع يسمى مقطرًا، وهو يكون خاليًا من

جميع الأجسام التي كانت ذائبة فيه إلا التي تتصاعد بالحرارة كالروائح الزكية

وغيرها.

وهذه سنة الله تعالى في استخراج ماء المطر من البحار كما قال الله تعالى:

{أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} (النازعات: 31) ويستعملها الإنسان لاستخراج

المِلح لطعامه، ولاستخراج الماء العذب من الماء الملح إذا كان مسافرًا في البحار

المحيطة.

وتختلف الأجسام في الذوبان باختلاف أنواعها فمنها ما يذوب كثيرًا، ومنها ما

يذوب قليلاً، ولها كلها في الذوبان نسب خاصة ثابتة، وكلها تحتاج لحرارة في

ذوبانها فتختلف النسَبُ حينئذٍ باختلاف درجة الحرارة، فإذا كانت الحرارة كثيرة

ذاب كثير وإذا كانت قليلة ذاب قليل، ولا يستثنى من ذلك إلا أجسام قليلة كمِلح

الطعام الذي يذوب في الماء البارد كالساخن مع فرق طفيف.

وإذا أذيب في السائل في درجةٍ ما أكبر مقدار يمكن إذابته فيه في هذه الدرجة

سمي السائل مشبعًا، وهذه الطريقة تسمى سنة (الإشباع) .

وإذا أشبع السائل وهو حار بمقدارٍ ما من الملح ثم برد السائل رسب من الملح

ما ذاب في حالة السخونة وبقي مقدار قليل ذائبًا يناسب الدرجة التي وصل إليها

الماء في برودته.

وهذه الأجسام الراسبة تتخذ أشكالاً هندسية بديعة عجيبة في أثناء رسوبها

تسمى (البلورات) وكما أن الرسوب يحصل إذا اختلفت الحرارة من عالية إلى

واطئة، كذلك يحصل إذا قل مقدار السائل بالتبخر. ومما يساعد على رسوب الأجسام

من السائل المتبخر وجود أي جسم غريب فيه يكون كمبدء للرسوب، وكما أن

الرواسب تحصل في الخارج إذا انخفضت حرارة السائل أو وضع فيه جسم غريب،

كذلك يجوز أن تتكون الحصوات في الجسم الإنساني (كالحصوات الكلوية

والصفراوية) من انخفاض حرارته فجأة في بعض الحميات ومن وجود بعض

أجسام غريبة في داخله كبويضات الديدان الطفيلية. وهذا من جهة، ومن جهة

أخرى فإن أكثر الحصوات الكلوية هي من حامض البوليك، وهو يكثر إفرازه

في الحميات ويرسب في البول إذا اشتدت حموضته؛ فلذا أرى أن الحميات هي

من أعظم أسباب الحصوات الكلوية؛ لأن البول يكثر فيه هذا الحامض ويكون

شديد الحموضة فلذا يرسب فيه حامض البوليك وأملاحه خصوصًا إذا انخفضت

الحرارة.

أما ذوبان الغازات في السائل كالماء فإنه يختلف في أحكامه عن الأجسام

الصلبة، فالغازات تذوب بكثرة كلما اشتدت برودة السائل وكلما زاد الضغط عليها،

وهي في ذوبانها كباقي الأجسام الأخرى تختلف أيضًا باختلاف طبيعتها، فمنها ما

يذوب كثيرًا ومنها ما يذوب قليلاً.

ولولا ذوبان الهواء في الماء لماتت الحيوانات البحرية، فإنه ضروري لحياتها

كالحيوانات البرية سواء بسواء. أما الأكسجين الموجود في الهواء الذائب فهو بنسبة

خمسة وثلاثين في المائة من حجمه. وفي الهواء العادي 21 % وهذه الحقيقة

الأخيرة تثبت أن الأكسجين في الهواء ليس متحدًا اتحادًا كيماويًّا مع النيتروجين؛

بل ممزوجًا به فقط، ولذلك اختلفت النسبة في حالة الذوبان عنها في الجو.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

وظائف الأعضاء.

(2)

التشريح الدقيق.

(3)

علم الميكروبات أو الجراثيم.

(4)

أي جوهر فرد من الكربون (الفحم) متحد مع جوهرين من الأكسجين في كل ذرة من ذرات الغاز.

(5)

البترول معناه زيت الصخر أو الحجر؛ لأنه ينبع منه، وتسميه العامة بالجاز أو الكاز.

ص: 853