الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
فاتحة السنة السابعة عشرة
بسم الله الرحمن الرحيم
{قُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} (النمل:59) ، {وَقُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا
تَعْمَلُونَ} (النمل: 93) ، {فَلِلَّهِ الحَمْدُ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ
العَالَمِينَ * وَلَهُ الكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} (الجاثية:
36-
37) .
فنحمده بما حمد به نفسه، ونصلي ونسلم على خاتم أنبيائه ورسله، وصفوته
من بني آدم الذين فضلهم على كثير من خلقه، محمد النبي الأمي، العربي
الحجازي، الذي أرسله رحمة للعالمين، وأتم به نعمته في الدنيا والدين، وآله
الطيبين الطاهرين، وصحبه الهادين المهديين، والتابعين لهم في هدايتهم وهديهم
إلى يوم الدين.
وبعد فإننا نُذَكِّرُ قُرَّاءَ المنار على رأس سنته السابعة عشرة بنحو ما ذكَّرناهم
في السنين الخالية، من سوء عاقبة الإفراط والتفريط اللذين رُزِئَتْ بهما أمتهم
الجاهلة الغافلة: الإفراط في عبادة الهوى واتباع الشهوات، والانهماك في الفواحش
والمنكرات، والمحافظة على البدع وسيئ العادات. والتفريط في حقوق الله وحقوق
الأمة، وما يجب من التزام هدي الكتاب والسنة، ومجاراة الأمم بما يستطاع من
حول وقوة، ولا سيّما قوة الاعتصام والوحدة، وقوة العلم والمعرفة، وقوة الكسب
والثروة.
ثم نذكرهم بتلك الآيات والعبر، وهاتيك المواعظ والنذر، وبما يُفتنون به في
كل عام، وما تسلب من ملكهم الأمم والأقوام، وبيان سنن الله تعالى في الظالمين
والمسرفين، {وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إلَاّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} (الأنعام: 4) ، {قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ
عَنْ قَوْمٍ لَاّ يُؤْمِنُونَ} (يونس: 101)[1] ، {فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلَاّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ
خَلَوْا مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ المُنتَظِرِينَ} (يونس: 102) .
سبحان الله! إن من العقلاء من يتعظ بالعبارة، ومنهم من يكتفي بما توحيه
إليه الإشارة، وإنهم ليستنبطون من وقائع الأحوال ما يستعدون به لما ينتظر في
الاستقبال، ولو على سبيل الفرض والاحتمال، وإن الأمم أشد من الأفراد احتياطًا،
وأخفى حيلة وأدق استنباطًا، وأوسع في المستقبل آمالاً، وأكثر استعدادًا له وأعمالاً؛
لأنها أطول أعمارًا، وأشد قوة واقتدارًا، وأكثر أعوانًا وأنصارًا، فما بال أمتنا لا
تتعظ بكلام الله ولا بكلام البشر، ولا تعتبر بما تشاهده من الأحداث والعبر، وكلما
أنذرها الله بطشته تتمارى بالنُّذُر؛ {وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّنَ الأَنبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ
بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} (القمر: 4-5) ، {قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ
الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ} (الأنبياء: 45) .
تركت هذه الأمة هداية القرآن، ففاتها ما كانت نالت به من الملك والسلطان،
والعلم والعرفان، والبسطة في العمران، وأمست غافلة عن سبب ذلك التوفيق وهذا
الخذلان؛ بل أتى عليها أحقاب من الزمان، لا تشعر بكنه هذا الخسران، وقد
استيقظ فيها الشعور بما فسد من أمر دنياها، قبل الشعور بما كان سببًا له من فساد
أمر دينها، وبما خسرت من سلطانها وأملاكها، قبل الشعور بما خسرت من أخلاقها
وملكاتها. ولما شعرت بالخطر على حياتها المادية والسياسية، غافلة عن عللها
الروحية وأسبابها المعنوية، شرعت في شيء من الإصلاح الصوري، بدون أن
تؤديه بروح الإصلاح المعنوي، فعُدَّ السلطان محمود مصلحًا بتغيير الزي الرسمي
ونظام الجندية، والسلطان عبد المجيد مصلحًا بإعلان التنظيمات الخيرية،
والسلطان عبد الحميد مصلحًا بإنشاء نظارة العدلية، ومصطفى رشيد باشا مصلحًا
بإدخال الدولة العثمانية في سلك الدول الأوروبية، ومدحت باشا وأعوانه مصلحين
باقتباس القوانين الغريبة الغربية، ومحمد علي باشا وأحفاده مصلحين بِفَرْنَجَةِ البلاد
المصرية، والأمير عبد الرحمن خان مصلحًا بالتأليف بين القبائل الأفغانية. ولم
تتوجه همة أحد إلى إصلاح الأخلاق والعادات، وإزالة البدع والمنكرات، وجمع
الكلمة التي فرقتها المذاهب واللغات، فما زاد الأمة ذلك الإصلاح الصوري إلا
ضروبًا من الفساد، ولا أفاد الدولة إلا إضعاف الاستقلال وإضاعة البلاد، {بَلْ
مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ العُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ
أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الغَالِبُونَ} (الأنبياء: 44) .
لا أقول إن جميع ما قام به أولئك الرجال لم يكن مطلوبًا، ولا أقول إن
ضرره وما ترتب عليه من الفساد كان ذاتيًّا؛ بل أقول: إن أكثره كان ضروريًّا،
ولكنه لم يكن علاجًا لهذه الأمة من طبيب اجتماعي، عَرَف من أمراضها الظاهري
والباطني فوصف لها من الدواء ما يزيل العلة، ويحفظ البنية، ويقوي المنة، لذلك
رأيناها بعد هذه المعالجات لم تزدد إلا مرضًا، حتى كادت تكون حرضًا، ازدادت
ذلاًّ وفقرًا، وتفرقًا وضعفًا، وفسادًا في الأخلاق، وإسرافًا في النفاق، وكان ما
أُدخل فيها من علوم الأمم القوية وقوانينها وآدابها، كالجسم الغريب الذي يدخل في
البنية فيفسد مزاجها؛ لأنه لم يكن على حسب استعدادها وحاجها؛ بل كان تقليدًا
صوريًّا، أو عارضًا وقتيًّا؛ فمنه ما كان ضارًّا، ومنه ما كان نافعًا؛ فأما الضارّ
فأكبر ضرره التقاليد والقوانين الإفرنجية، التي قطعت كثيرًا من روابط الأمة المِلِّيَّة،
وأزالت ما أزالت من مقوّماتها ومشخصاتها الاجتماعية والأدبية، ولم تستبدل بها
ما يحل محلها من مقومات الأمم الأوروبية؛ بل صارت عيالاً عليهم في جميع
الشؤون، حتى انتهى ذلك إلى هذا الفتون، بأن فقدت الاستقلال، باسم النفوذ أو
الحماية أو الاحتلال، {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (الأنعام: 129) ، {ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} (الأنعام: 131) ، {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} (الأنعام: 132) .
وأما ما كان نافعًا من تلك الأعمال التي وسمت بسمة الإصلاح، فإنما كان
نفعه موضعيًّا، وعارضًا لا دائمًا، فكان كمداواة بعض أعراض الزهري (الداء
الإفرنجي) الظاهرة بما يزيلها، مع بقاء العلة في الباطن (كتسمم الدم) تصدر
عنها آثارها، فما زال منه بالمعالجة الموضعية اليوم، يظهر ما هو شر منه
وأعصى على العلاج في الغد (كلما داويت جرحًا سال جرح) ذلك مثل ما كان
في الدولة العثمانية، وهي أكبر مظاهر السلطة في الأمة الإسلامية، وخير منه ما
قام به الأمير عبد الرحمن، من جمع كلمة قبائل الأفغان، وتدريبها على القتال،
الذي يحفظ به الاستقلال، وكذا ما قام به الأمير محمد علي في مصر، فإنه بنى
ركني الثروة والقوة على أساس العلم، ولو أتم أحفاده ما بدأ به ببناء ركني الأخلاق
والآداب، على أساس الدين وسنن الاجتماع، لَتَمَّ لهم تكوين الأمة، ولاستقام لهم
بالأمة أمر الدولة، فهذا العصر عصر الأمم والشعوب، لا عصر الأمراء والملوك،
ولكن جميع أقيال المسلمين، كانوا - ولا يزالون - عن هذا غافلين، {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا
فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} (فاطر: 44) ، {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا
مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ} (غافر: 21) ، {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن
قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ
رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (الروم: 9) .
نعم، إنهم لم يسيروا في الأرض، لأجل الاعتبار بسنن الله في الكون،
فينظروا في سوء عاقبة الأمم الجاهلة النائمة، ومصير الدول المستبدة الظالمة،
وحسن عاقبة الأمم العالمة العاملة، وسيادة الدول المنظمة العادلة، وكيف أن
إصلاح الأرض وعمران الدور، لا يغني عن إصلاح الأخلاق وارتقاء الجمهور،
ولو ساروا لما نظروا، ولو نظروا لَمَا أبصروا، ولو أبصروا لَمَا اعتبروا، {أَفَلَمْ
يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى
الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: 46) ، وأي عمى أشد
من عمى الاستبداد؟ وهو مصدر كل فساد وأصفاد، حتى إنه يفسد الطباع، ويغير
الأوضاع، ويقطع رابطة الزوجية، ويزيل عاطفة الأبوة والبنوة، فيغري الولد
بقتل والده، والوالد بقتل ولده، وكيف يؤمن على حياة أمته، من لا يكبر عليه قتل
والده أو ولده؛ إذا هو نازعه في سلطته، أو عارضه في إرادته؟ فانتظار الأمم أن
يكون صلاحها ورشادها ممن لا حظَّ لهم من حياتهم إلا استذلالها واستعبادها، اتباعًا
لترفهم ونعيمهم، وافتتانًا بإطرائهم وتعظيمهم، يشبه طلب العلم من الجاهلين،
والتماس الهدى من الضالين {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ القُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ
الفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلَاّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا
فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود: 116- 117) .
ألا إنه لا بقاء مع ظلم وفساد، ولا عدل مع استبداد، ولا هلاك مع إصلاح،
ولا إصلاح للدولة إلا بصلاح الأمة، ولا صلاح لأمة إلا إذا كان فيها بقية من
أولي الرأي والعزم، يأمرون بالصلاح وينهون عن الفساد في الأرض، ولا تأثير
للأمر والنهي إلا بإجماع الأمر وإحكام الرأي، ولا يفيد الإحكام والإجماع، إلا مع
مراعاة سنن الاجتماع، لاختلاف استعداد الأقوام، باختلاف أحوال الزمان والمكان،
وزماننا هذا هو زمان الجماعات العلمية والأدبية والسياسية، والشركات الزراعية
والصناعية والتجارية، فحظ الأفراد الكثيرين من معنى الأمة، على قدر حظهم من
إقامة هذه الأركان الستة، ولا ينبغي أن يطلق هذا اللفظ، على من لا نصيب لهم
منها ولا حظَّ، إلا على سبيل التجوز في القول، كما يطلق اسم الشيء على صورة
الشيء، ومتى ملكت الأمة بالجمعيات أمورها المعنوية، وبالشركات أمورها المادية،
كانت جديرة بأن تقوم أمر حكومتها، وتقيمها على صراط شريعتها، لهذا كان
همنا منذ سنة المنار الأولى، أن نذكر أهل العلم والرأي من المسلمين بهذه الطريقة
المثلى؛ اهتداء بقوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى} (الأعلى: 9-10) وليس بعد إقامة حجة الله في الورى، إلا فلاح من اتبع الهدى،
وهلاك من آثر الهوى، {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ
عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (الجاثية: 23) .
ألا وإن أمر التربية والتعليم هو أهم ما يجب أن يوكل إلى الجماعات، ولا
يجوز أن يترك إلى الأفراد ولا إلى الحكومات؛ لأن المدارس للأفراد دكاكين لكسب
المال، وللحكومات معامل لسبك العُمَّال، فكل من الفريقين يتوخى في التعليم منفعته
الخاصة، وإن باينت مصلحة الأمة العامة، وإنما تطلب الحكومة عمالاً لها كالآلات،
لا إرادة لهم ولا رأي ولا استقلال، والأفراد يتبعون سننها ويسيرون على طريقها،
وإنما ربح تجارتهم برواج بضاعتهم في سوقها، وشر من ذلك ما ابتلي به
جماهير المسلمين، من ترك تربيتهم النفسية والعقلية إلى خصومهم في السياسة
والدين فكانوا بهذا الخزي من الأخسرين، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم
يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، فأنى تصلح أمة تركت تجديدها وتكوينها، إلى من
لا همَّ لهم إلا إزالة ملكها ودينها؟ ! كلا؛ إنها كرّة خاسرة، يخسرون بها الدنيا
والآخرة {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَاّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ
أَعْيُنٌ لَاّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَاّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ أُوْلَئِكَ
هُمُ الغَافِلُونَ} (الأعراف: 179) .
الأمم تصلح بالتربية ونحن قد أفسدنا المربون - الإفرنج والمتفرنجون -
وترتقي بالعلم ونحن قد دلَاّنا العلماء المقلدون المفتونون، وتقوى وتعتز بجمع
المدارس لكلمتها، ونحن قد أوهنتنا وشقَّت عصانا المدارس؛ لأنها إما معاهد
سياسية وإلحاد، وإما أديار وكنائس، قد قطعت روابط الأمة الدينية والمدنية،
وفتنتها بالأهواء والشهوات الحيوانية، وسرى سم تقليدها إلى المدارس الأميرية
والأهلية، فالمتخرجون فيها أقلهم الذين يسلمون، ومنهم الملحدون وأكثرهم
الفاسقون، يجرفون ثروة الأمة إلى الأجانب، ويقذفونها بالفجور والنفوذ الأجنبي
من كل جانب، ويتغلبون فيها على المناصب فينالون منها جميع المآرب، يحقرون
لها سلفها، ويعظمون في نفسها كل ما هو أجنبي عنها، فيقطعون جميع روابطها
المِلِّيَّة، ويزينون لها ذلك باسم المدنية، فهم المنافذ والكوى التي يدخل منها الفساد،
وهم الآلات التي يستعين بها الأجانب على إدارة أمر البلاد؛ لأنهم تربية مدارسهم،
بل صنع معاملهم، أو الجيش السلمي لثكناتهم، ولا يتم لهم ما يسمونه الفتح السلمي
بدونهم، ولأجل هذا ربوهم هذه التربية المذبذبة، وحشوا مخيلاتهم بمسائل
العلوم المضطربة، فلا هم صاروا بها أوربيين، ولا ظلوا مسلمين أو شرقيين،
ولكنهم لغرورهم باسم المدنية الإفرنجية يفسدون على الأمة أمرها، ويزعمون أنهم
هم المصلحون لشأنها، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ
مُصْلِحُونَ * ألَا إِنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِن لَاّ يَشْعُرُونَ} (البقرة: 11-12) .
هكذا ذفف على جرح هذه الأمة من جعلوا أنفسهم أُساة لها وأطباء، فكان أقتل
أدوائها ما عالجوها به من الدواء، ومن كان له عقل وبصيرة، فليتدبر ما تقوله
فيهم كتب الإفرنج وصحفهم الشهيرة [2] ومن أهمه ما نقلته مجلة العالم الإسلامي
الفرنسية، عن مجلة العالم الإسلامي الإنكليزية، في سياق الكلام على فتح العالم
الإسلامي (الذي نشرناه في ص 516 م15) وهذا نصه: (اتفقت آراء سفراء
الدول الكبرى في عاصمة السلطنة العثمانية على أن معاهد التعليم الثانوية التي
أسسها الأوربيون كان لها تأثير في حل المسألة الشرقية يرجح على تأثير العمل
المشترك الذي قامت به دول أوربة كلها) ! ! فإذا لم يكن للمسلمين مدارس مِلِّيَّة،
تديرها حكومة أو جماعات إسلامية، فتربيهم على ما يجمعون به مصالحهم الدينية
والدنيوية، وإذا كانوا لا يعرفون للتعليم غاية إلا المنفعة الشخصية، وما يتخيلون من
المنافع الخسيسة المادِّية، فإن أوربة تعرف كيف تنشئهم في مدارسها ومدارسهم
خلقًا جديدًا، يكونون بها على توهُّم الحرية خدما لها وعبيدًا، فهم مقادون من أمامهم،
ومسوقون من ورائهم، ولكن لا يدرون كيف بدؤوا ولا أين ينتهون {أَمْوَاتٌ غَيْرُ
أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} (النحل: 21) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا
بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لَا يَألُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا
تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} (آل عمران: 118) .
ألا إننا في أشد الحاجة إلى الصناعات الإفرنجية، وما تتوقف عليه من العلوم
والفنون العملية، وإلى الاعتبار بتاريخهم، وأطوار حكوماتهم وجماعاتهم، ولكن
يجب أن يقوم باقتباس ذلك جماعات منا، يجمعون بينه وبين حفظ مقوماتنا
ومشخصاتنا، وأركانها: اللغة والدين والشريعة والآداب [3] ، فمن فقد شيئًا من هذه
الأشياء فقد فقد جزءًا من نفسه، لا يمكن أن يستغني عنه بمثله من غيره، كما أنه
لا يستغني بعقل غيره عن عقله، ولا بجسم سواه عن جسمه، وإنما نستفيد من
العبرة بحالهم، كيف نرقي لغتنا كما رقوا، وكيف ننشر ديننا كما ينشرون دينهم،
وكيف نسهل طرق العمل بشريعتنا وآدابنا كما سهلوا طرق شرائعهم وآدابهم، ولنا
أن نستعين على ما نستمده منهم، بأهل الفضيلة والاستقلال من رجالهم، الذين ليس
لهم فينا أهواء دينية، ولا مطامع سياسية استعمارية، وبهذا نكون مهتدين بما أمرنا
الله به من السير في الأرض، والاعتبار بأحوال وبسنة سلفنا، في جعل الحكمة
ضالّتنا، واعتقاد أنها حيث وجدت فنحن أحق بها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ
وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ
تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَاّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ
العِقَابِ * وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ
فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (الأنفال: 24-27) .
الدعوة إلى انتقاد المنار
أمر الله تعالى بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر، وبالأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر، ونهى عن الغِيبَةِ وتوعد المغتاب ومن يحب شيوع الفاحشة،
وأوعد الهُمَزَة اللُّمَزَة، بالويل الشديد والحطمة، فنحن نذكر كل من يطلع على
منارنا هذا بأمر الله ونهيه، ووعده ووعيده، وندعو من رأى فيه خطأ أن يذكرنا به
قولاً أو كتابة، مبينًا ذلك بالدليل والبرهان، لا بقول فلان ورأي فلان، مع أدب
العبارة، والاكتفاء منها بقدر الحاجة، ونحن ننشر - إن شاء الله تعالى - كل ما
يكتب إلينا، سواء كان لنا أو علينا، إذا التزم الكاتب ما شرطنا، ثم نبين ما عندنا فيه
من قبول وإذعان، أو ردّ أدبي مؤيَّد بالبرهان، وليعلم كل عاقل منصف أن من
يخطِّئنا ولا يكتب إلينا، فهو لا ثقة بعلمه ولا بدينه ولا بما يقوله فينا، وأنه
حاسد أو مدَّعٍ كذاب، وإلى الله المرجع والمآب، وهو سريع الحساب.
…
...
…
منشئ المنار ومحرره
…
...
…
...
…
...
…
محمد رشيد رضا الحسيني
_________
(1)
أي: لا يصدقون بما تدل عليه الآيات وما تخوفهم به النذر والمواعظ لجهلهم وعدم تدبرهم.
(2)
ومنها ما كتبه لورد كرومر في كتابه (مصر الحديثة) في سوء حال المتفرنجين.
(3)
هذا التقسيم بحسب عرف العصر والشريعة عند المسلمين بمعنى الدين، والمراد بها هنا أحكام المعاملات من السياسة والقضاء والإدارة والحرب، وهي موضع اجتهاد أولي الأمر في الدين الإسلامي، والآداب الإسلامية منبعها الدين وهي أعلى من آداب الإفرنج وأكمل.
الكاتب: ابن القيم الجوزية
كتاب مدارج السالكين
بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين
هذا الكتاب للإمام الحافظ المحقق ابن قيم الجوزية، شرح فيه كتاب (منازل
السائرين) في التصوف لشيخ الإسلام أبي إسماعيل الهروي - شرحًا بيَّن فيه
غوامضه، وفصل بين ما يوافق الكتاب والسنة وما يخالفهما منه، فهو أفضل كتب
التصوف وأنفعها، وهو يطبع الآن في مطبعة المنار، وقد أوشك أن يتم طبع
الجزء الأول منه، وقد رأينا أن ننشر هذا الفصل منه تعجيلاً بالفائدة لقراء المنار،
ولشدة الحاجة إليه.
قال المصنف - رحمه الله تعالى - في سياق بيان أنواع الكفر:
فصل
وأما الشرك فهو نوعان: أكبر وأصغر. فالأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة منه،
وهو أن يتخذ من دون الله ندًّا يحبه كما يحب الله، وهو الشرك الذي تضمن تسوية
آلهة المشركين برب العالمين. ولهذا قالوا لآلهتهم في النار: {تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي
ضَلالٍ مُّبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ العَالَمِينَ} (الشعراء: 97-98) ، مع إقرارهم
بأن الله وحده خالق كل شيء وربه ومليكه، وأن آلهتهم لا تخلق ولا ترزق ولا
تحيي ولا تميت. وإنما كانت هذه التسوية في المحبة والتعظيم والعبادة كما هو حال
أكثر مشركي العالم، بل كلهم يحبون معبوديهم ويعظمونها ويوالونها من دون الله.
وكثير منهم - بل أكثرهم - يحبون آلهتهم أعظم من محبة الله، ويستبشرون
بذكرهم أعظم من استبشارهم إذا ذكر الله وحده، ويغضبون لمنتقص معبوديهم وآلهتهم
من المشايخ أعظم مما يغضبون إذا انتقص أحد رب العالمين، وإذا انتهكت حرمة من
حرمات آلهتهم ومعبوديهم غضبوا غضب الليث إذا حرد، وإذا انتهكت حرمات الله لم
يغضبوا لها؛ بل إذا قام المنتهك لها بإطعامهم شيئًا رضوا عنه ولم تتنكر له قلوبهم
. وقد شاهدنا هذا - نحن وغيرنا - منهم جهرة، وترى أحدهم قد اتخذ ذكر إلهه
ومعبوده من دون الله على لسانه إن أقام وإن قعد وإن عثر وإن مرض وإن استوحى [1]
فذكر إلهه ومعبوده من دون الله هو الغالب على قلبه ولسانه، وهو لا ينكر ذلك،
ويزعم أنه باب حاجته إلى الله وشفيعه عنده ووسيلته إليه - وهكذا كان عباد
الأصنام سواء - وهذا القدر هو الذي قام بقلوبهم، وتوارثه المشركون بحسب
اختلاف آلهتهم، فأولئك كانت آلهتهم من الحجر، وغيرهم اتخذوها [2] من البشر.
قال الله تعالى حاكيًا عن أسلاف هؤلاء المشركين: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ
مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (الزمر: 3) ، ثم شهد عليهم بالكفر والكذب وأخبر أنه لا يهديهم فقال [3] {إِنَّ اللَّهَ
لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (الزمر: 3) ، فهذه حال من اتخذ من دون الله وليًّا
يزعم أنه يقرِّبه إلى الله، وما أعز من يخلص من هذا؟ بل ما أعز من لا يعادي
من أنكره!
والذي في قلوب هؤلاء المشركين وسلفهم أن آلهتهم تشفع لهم عند الله ، وهذا
عين الشرك ، وقد أنكر الله عليهم ذلك في كتابه وأبطله، وأخبر أن الشفاعة كلها له،
وأنه لا يشفع عنده أحد إلا لمن أذن له أن يشفع فيه ورضي قوله وعمله، وهم
أهل التوحيد الذين لم يتخذوا من دون الله شفعاء، فإنه يأذن سبحانه لمن شاء في
الشفاعة لهم حيث لم يتخذوهم شفعاء من دونه، فيكون أسعد الناس بشفاعة من يأذن
الله به صاحب التوحيد الذي لم يتخذ شفيعًا من دون الله.
والشفاعة التي أثبتها الله ورسوله هي الشفاعة الصادرة عن إذنه لمن وحَّدَهُ،
والتي نفاها الله [4] الشفاعة الشِّركية التي في قلوب المشركين المتخذين من دون الله
شفعاء، فيعاملون بنقيض قصدهم من شفاعتهم ويفوز بها الموحدون ، فتأمل قول
النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة - وقد سأله: من أسعد الناس بشفاعتك
يا رسول الله؟ قال: (أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصًا من قلبه) -
كيف جعل أعظم الأسباب التي تنال به شفاعته تجريد التوحيد، عكس ما عند
المشركين إن الشفاعة تُنال باتخاذهم شفعاء وعبادتهم وموالاتهم من دون الله، فقلب
النبي صلى الله عليه وسلم ما في زعمهم الكاذب، وأخبر أن سبب الشفاعة تجريد
التوحيد، فحينئذ يأذن الله للشافع أن يشفع.
ومن جهل المشرك اعتقاده أن مَنْ اتخذه وليًّا أو شفيعًا أنه يشفع له وينفعه عند
الله كما يكون خواص الملوك والولاة تنفع شفاعتهم مَنْ والاهم، ولم يعلموا أن الله لا
يشفع عنده أحد إلا بإذنه، ولا يأذن في الشفاعة إلا لمن رضي قوله وعمله، كما قال
تعالى في الفصل الأول: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ اللَاّ بِإِذْنِهِ} (البقرة: 255)
وفي الفصل الثاني: {وَلَا يَشْفَعُونَ إلا َّ لِمَنِ ارْتَضَى} (الأنبياء: 28) ، وبقي
فصل ثالث، وهو أنه لا يرضى من القول والعمل إلا التوحيد واتباع الرسول،
وعن هاتين الكلمتين يَسأل الأولين والآخرين، كما قال أبو العالية: كلمتان يُسأل
عنهما الأولون والآخرون: ماذا كنتم تعبدون؟ [5] وماذا أجبتم المرسلين؟ فهذه
ثلاثة أصول تقطع شجرة الشرك من قلب من وعاها وعقلها: لا شفاعة إلا بإذنه،
ولا يأذن إلا لمن رضي قوله وعمله، ولا يرضى من القول والعمل إلا توحيده
واتباع رسوله [6] فالله تعالى لا يغفر شرك العادلين به غيره، كما قال تعالى: {ثُمَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} (الأنعام: 1) ، وأصح القولين أنهم يعدلون به غيره
في العبادة والموالاة والمحبة كما في الآية الأخرى، {تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ
* إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ العَالَمِينَ} (الشعراء: 97-98) ، وكما في آية البقرة
{يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} (البقرة: 165) .
وترى المشرك يكذب حاله وعمله لقوله؛ فإنه يقول: لا نحبهم كحب الله ولا
نسويهم بالله. ثم يغضب لهم ولحرماتهم إذا انتهكت - أعظم مما يغضبه لله،
ويستبشر بذكرهم ويتبشبش به [7] سيما إذا ذكر عنهم ما ليس فيهم من إغاثة اللهفات،
وكشف الكربات، وقضاء الحاجات، وأنهم باب بين الله وبين عباده. ترى
المشرك يفرح ويسرّ ويحنّ قلبه ويهيج منه لواعج التعظيم والخضوع لهم والموالاة،
وإذا ذكرت له الله وحده وجردت توحيده، لحقته وحشة وضيق وحرج [8] ورماك
بتنقص الإلهية [9] التي له، وربما عاداك.
رأينا - واللهِ - منهم هذا عيانًا، ورمونا بعداوتهم وبغوا لنا الغوائل [10] والله
مخزيهم [11] في الدنيا والآخرة، ولم تكن حجتهم إلا أن قالوا كما قال إخوانهم: عاب
آلهتنا. فقال هؤلاء: تنقصتم مشايخنا وأبواب حوائجنا إلى الله. وهكذا قال النصارى
للنبي صلى الله عليه وسلم لما قال لهم: إن المسيح عبد [12] قالوا: تنقصت المسيح
وعِبْته. وهكذا قال أشباه المشركين لمن منع اتخاذ القبور أوثانًا تعبد ومساجد، وأمر
بزيارتها على الوجه الذي أذن الله فيه ورسوله، قالوا: تنقصت أصحابها. فانظر إلى
هذا التشابه بين قلوبهم حتى كأنهم قد تواصوا به و {مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ المُهْتَدِ وَمَن
يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِياًّ مُّرْشِداً} (الكهف: 17) .
وقد قطع الله تعالى الأسباب التي تعلق بها المشركون جميعها قطعًا يعلم من
تأمله وعرفه أن من اتخذ من دون الله وليًّا أو شفيعًا فهو {كَمَثَلِ العَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ
بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ البُيُوتِ لَبَيْتُ العَنكَبُوتِ} (العنكبوت: 41) فقال تعالى: {قُلِ
ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ
وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ * وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ اللَاّ لِمَنْ أَذِنَ
لَهُ} (سبأ: 22-23) ، فالمشرك إنما يتخذ معبوده لِمَا يحصل له به من النفع.
والنفع لا يكون إلا ممن فيه خصلة من هذه الأربع: إما مالك لما يريده عابده منه،
فإن لم يكن مالكًا كان شريكًا للمالك، فإن لم يكن شريكًا له كان معينًا له وظهيرًا،
فإن لم يكن معينًا ولا ظهيرًا كان شفيعًا عنده. فنفى سبحانه المراتب الأربع نفيًا
مترتبًا متنقلاً [13] من الأعلى إلى ما دونه [14] فنفى الملك والشركة والمظاهرة
والشفاعة التي يظنها المشرك، وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك وهي الشفاعة
بإذنه، فكفى بهذه الآية نورًا وبرهانًا ونجاة وتجريدًا للتوحيد وقطعًا لأصول الشرك
ومواده لمن عقلها، والقرآن مملوء من أمثالها ونظائرها ولكن أكثر الناس لا يشعر [15]
بدخول الواقع تحته وتضمنه له، ويظنه في نوع، وقوم قد خلوا من قبل ولم
يعقبوا وارثًا، وهذا هو الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن. ولعَمْرُ الله إن كان
أولئك قد خلوا فقد ورثهم من هو مثلهم أو شر منهم أو دونهم. وتناول القرآن لهم
كتناوله لأولئك، ولكن الأمر كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنما
تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية [16] ؛
وهذا لأنه إذا لم يعرف الجاهلية والشرك. وما عابه القرآن وذمه، وقع فيه وأقره،
ودعا إليه وصوَّبه وحسَّنه وهو لا يعرف أنه هو الذي كان عليه أهل الجاهلية أو
نظيره، أو شر منه [17] أو دونَهُ، فينتقض [18] بذلك عرى الإسلام ويعود المعروف
منكرًا والمنكر معروفًا، والبدعة سنَّة والسنة بدعة، ويكفَّر الرجل بمحض الإيمان
وتجريد التوحيد، ويُبَدَّع بتجريد متابعة الرسول ومفارقة الأهواء والبدع،
ومن له بصيرة وقلب حيّ يرى ذلك عيانًَا والله المستعان. اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
كتب في هامش نسختنا (لعله وإن استوحش) وفي النسخة الثالثة (وإن استوى) أي جالسًا أو راكبًا أو قائمًا.
(2)
وفي نسخة (اتخذها) .
(3)
هذه الجملة بين طرفي الآية ساقطة من نسختنا.
(4)
المنار: نفى الله الشفاعة نفيًا مطلقًا ومقيدًا، فالمطلق كقوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَاّ بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ} (البقرة: 254)، والمقيد كقوله:{مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} (غافر: 18) ، ومنها ما أشار إليه المصنف.
(5)
كتب في هامش نسختنا هنا (تعلمون) .
(6)
وفي نسخة (رسله) .
(7)
يقال: تبشبش به إذا آنسه وواصله، وفي نسخة (ويستأنس) بدل (ويتبشبش) .
(8)
فات المصنف أن يستشهد هنا بقوله تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} (الزمر: 45) ، ولا فرق بين المشرك الذي لا يؤمن بالآخرة ألبتة، والمشرك الذي يؤمن بها على غير الوجه الذي بينه الرسول صلى الله عليه وسلم.
(9)
وفي نسخة (رماك بانتقاص الآلهة) .
(10)
يقول مصحح الكتاب: نحمد الله أن كان لنا في المصنف وأمثاله من الدعاة إلى توحيد الله
أسوة، فقد رأينا ما رأى وابتلينا بما ابتلي.
(11)
وفي نسخة (يجزيهم) .
(12)
وفي نسخة (عبد الله) .
(13)
وفي نسخة (مرتبًا منتقلاً) .
(14)
وفي نسخة (الأدنى) .
(15)
وفي نسخة (لا يشعر) .
(16)
وفي نسخة (من لم يعرف الجاهلية) .
(17)
وفي نسخة (أو أسوأ) .
(18)
وفي نسخة (فينقض) ولعله الأصل الصحيح.
الكاتب: محمد رشيد رضا
إسلام اللورد هدلي
وما قاله وكتبه في سببه
خاضت جرائد العالم في إسلام اللورد (هدلي) الإنكليزي، فكتب بعضها ما
عليه كما هو على سبيل الخبر، وزعم بعضهم أن إسلامه إسلام سياسي
ليمثل المسلمين في مجلس اللوردات! وأبى بعض المتعصبين من النصارى إلا أن
يشوب الخبر بشوائب التلبيس وإيهام القارئ أن اللورد لا يزال نصرانيًّا يؤمن
بالثالوث ويجمع بين الضدين أو النقيضين (التوحيد والتثليث) .
وكأن هذا التلبيس والإيهام قد استنبط من كلمة عُزيت إلى اللورد. وإننا ننشر
ما نقلته جريدة مسيحية إنكليزية عن اللورد وما كتبه هو عن إسلامه؛ فتقول:
جاء في جريدة الديلي ميل الصدارة في 17 نوفمبر سنة 1913 تحت عنوان
(إسلام اللورد هدلي) ما يأتي:
اللورد هدلي هو البارون الخامس في بيته (عائلته) وقد ارتقى إلى هذه
الرتبة في يناير الماضي بعد وفاة ابن عمه. وقد أسلم هذا اللورد الآن وأعلن إسلامه
في حفلة للجمعية الإسلامية بلندن، وكان هو نفسه حاضرًا في وليمة الجمعية
السنوية.
قال في اجتماع البارحة: (إنني بإعلان إسلامي الآن لم أَحِد مطلقًا عما اعتقدته
منذ عشرين سنة، ولما دعتني الجمعية الإسلامية لوليمتها سررت جدًّا لأتمكن من
الذهاب إليهم وإخبارهم بالتصاقي الشديد بدينهم. وأنا لم أهتم بعمل أي شيء لإظهار
نبذي لعلاقتي بالكنيسة الإنكليزية التي نشأت في حجرها، كما أني لم أحفل
بالرسميات في إعلان إسلامي، وإن كان هو الدين الذي أتمسك به الآن.
إن عدم تسامح المتمسكين بالنصرانية كان أكبر سبب في خروجي عن
جامعتهم، فإنك لا تسمع أحدًا من المسلمين يذم أحدًا من أتباع الأديان الأخرى كما
تسمع ذلك من النصارى بعضهم في بعض، فإن المسلمين وإن كان يحزنهم عدم
اهتداء الناس إلى دينهم إلا أنهم لا يحكمون على كل من خالفهم بالهلاك الأبدي.
إن طهارة الإسلام وسهولته وبعده عن الأهواء والمذاهب الكهنوتية ووضوح
حجته كانت كل هذه الأشياء أكبر ما أثر في نفسي. وقد رأيت في المسلمين من
الاهتمام بدينهم والإخلاص ما لم أر مثله بين النصارى، فإن النصراني يحترم دينه
عادة يوم الأحد حتى إذا ما مضى الأحد نسي دينه طول الأسبوع. وأما المسلم
فبعكس ذلك، يحب دينه دائمًا، وسواءٌ عنده أكانَ اليوم يوم الجمعة أو غيره، ولا
يفتر لحظة عن التفكر في كل عمل يكون فيه عبادة الله.
وإني وإن كنت اعتنقت الإسلام إلا أني لا زلت نصرانيًّا، بمعنى أني لا زلت
مؤمنًا بالمسيح ومتبعًا تعاليم المسيح، فإن الإسلام يصدق بتعاليم جميع الأنبياء على
حدٍ سواء فلا يفرق بين موسى والمسيح ومحمد (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) .
اهـ كلام هدلي.
ثم قالت الجريدة المذكورة: إن اللورد هدلي هو مهندس. وفي المسابقة
الرياضية التي جرت في كمبردج حاز قَصَبَ السَّبْق في الملاكمة مثل المستر
ألنسون وين (winn Allanson) .
***
لماذا أسلمت؟
وجاء في جريدة الأبزيرفر الأسبوعية (observer the) في عددها
الصادر في 23 نوفمبر الماضي تحت عنوان (لماذا أسلمت) بقلم اللورد هدلي
(headley) ما ترجمته حرفيًّا:
(عقيدة الإسلام)
أخذت صحف عديدة تخوض في معتقدي الديني، ويسرني أن أرى أن جميع
الانتقادات التي وجهت إليّ للآن، كانت بلهجة لطيفة، وما كان ينتظر أن الخروج
عمّا ألفه الناس واعتادوه لا يلفت الأنظار إليه، وذلك ممّا يسرني، إني أحب مهنتي
ومولع بالألعاب الرياضية، ولم يكن لي في ذلك غرض لطلب الشهرة وبعد الصيت،
ولكن لو كان عملي في هذه الحالة سببًا في جعل الناس كبيري المدارك سمحاء فأنا
في غاية الاستعداد لأن أتحمل بكل صبر أي نوع من الإساءة والاستهزاء.
أتاني في يوم كتاب من نصراني متمسك بدينه يقول لي فيه: إن الإسلام هو
دين شهوات، وإنه كان لنبيه عدة زوجات. فما أعجبها من فكرة عن الإسلام! !
ولكنها هي الفكرة السائدة على عقول تسعة وتسعين من كل مائة بريطاني، فإنهم لا
يتعبون أنفسهم في البحث عن حقائق دين يدين به مائة مليون من إخوانهم الخاضعين
لهم.
نبيّ العرب المقدس كان على الأخص حصورًا عن الشهوات طاهرًا، فكان
مخلصًا لزوجته الوحيدة خديجة التي كانت أكبر منه بخمس عشرة سنة، وكانت أول
من آمنت ببعثته. وبعد موتها تزوج عائشة ثم تزوج أيضًا عدة أرامل لأصحابه
الذين قتلوا في الحرب، لا لأنه كان له أدنى رغبة فيهن بل ليعولهن ويقوم بكفالتهن
ويرفع مقامهن إلى منزلة ما كن يصلن إليها بغير ذلك. وكان عمله هذا ملتئمًا مع
بعده عن الأنانية، ومع حياته الشريفة العالية. وكان من شدة زهده في هذه الحياة
أنه ما كان يملك ما يكفيه من العيش.
نحن البريطانيين تعودنا أن نفخر بحبنا للإنصاف والعدل، ولكن أي ظلم
أعظم من أن نحكم - كما يفعل أكثرنا - بفساد الإسلام قبل أن نلم بشيء من عقائده،
بل قبل أن نفهم معنى كلمة الإسلام؟
***
القرآن والدعوة
من المحتمل أن بعض أصدقائي يتوهم أن المسلمين هم الذين أثَّروا فيّ،
ولكن هذا الوهم لا حقيقة له، فإن اعتقاداتي الحاضرة ليست إلا نتيجة تفكير قضيت
فيه عدة سنين. أما مذاكراتي الفعلية مع المتعلمين من المسلمين في موضوع الدين
فلم تبدأ إلا منذ أسابيع قليلة، ولا حاجة بي إلى القول بأني ملئت سرورًا حينما وجدت
نظرياتي ونتائجي متفقة تمام الاتفاق مع الدين الإسلامي. وأمّا صديقي الخوجة
كمال الدين فلم يحاول قط أن يكون له فيّ أقل تأثير، ولكنه كان حقيقة كقاموس حيّ
يفسر ويترجم لي - مع الصبر - ما لم يتضح لي من آيات القرآن. وكان سلوكه
هذا مسلك المبشر الإسلامي الحقيقي الذي لا يحاول إرغام سامعيه أو التأثير فيهم. فإن
الدخول في الإسلام يجب - كما يقول القرآن - أن يكون بإرادة الإنسان الحرة
وبرأيه الذاتي بدون أي وسيلة من وسائل الإكراه. وكذلك أراد عيسى أيضًا حينما
قال: (مر 6: 11 وكل من لا يقبلكم ولا يسمع لكم فأخرجوه من هناك ....) .
إني أعرف حوادث عديدة جدًّا لبعض البروتستانت المتحمسين الذين يظنون
أنه يجب أن يزوروا بيوت الكاثوليك ليحولوهم إلى مذهبهم، ومثل هذا التعدي
الجارح قبيح طبعًا. وقد أدى - في الأكثر - إلى إثارة الأحقاد التي نشأت عنها
مشاحنات وجعلت الدين يزدري. وإني ليحزنني أن أرى أن دعاة النصرانية قد
سلكوا هذا الطريق عينه مع إخوانهم المسلمين، ولا يمكنني أن أفهم كيف يريدون أن
يدعوا إلى النصرانية من هم في الحقيقة أفضل منهم نصرانية (أو قال: نصارى
أفضل منهم) لم أقل: (نصارى أفضل منهم) جزافًا فإن ما في الإسلام من الخير
والتسامح وسعة المدارك أقرب إلى ما دعا إليه المسيح من تلك العقائد الضيقة التي
أخذت بها فرق النصارى المختلفة.
***
عقيدة أثناسيوس [1]
أذكر مثلاً واحدًا وهو عقيدة أثناسيوس التي تشرح الثالوث شرحًا في غاية
التعقيد. في هذه العقيدة - وهي كبيرة الأهمية جدًّا وتنص على إحدى العقائد
الأساسية للكنائس المسيحية - ترى جليًّا أنها عقيدة الجمهور، وأننا إذا لم نأخذ بها
نهلك هلاكًا أبديًّا. ثم يقال لنا إنه: (يجب علينا أن لا نفكر في الثالوث بغير ذلك)
وبعبارة أخرى: إن الإله الذي نَصِفُه في لحظة بالرحمة والقدرة، نصفه في اللحظة
الثانية بالظلم والقسوة، وهو ما نتحامى أن نصف بها أقسى البشر السفاكين، فكأن الله
تعالى القديم الذي فوق كل شيء يكون خاضعًا لما يذهب إليه الهالك المسكين (يريد
الإنسان) في أمر الثالوث.
وهاك مثلاً آخر من أمثلة بعدهم عن الخير: أتاني كتاب بمناسبة ميلي للإسلام
يقول لي فيه كاتبه: إنني إن لم أومن بلاهوت المسيح فلا سبيل لي إلى الخلاص.
أما مسألة ألوهية المسيح هذه فلم يظهر لي أنها تقرب في أهميتها من تلك المسألة
الأخرى وهي: هل بلغ رسالة ربه للبشر؟ فلو كان عندي الآن أي شك في هذه
المسألة الأخيرة لضايقني كثيرًا، ولكني - ولله الحمد - لا أشك فيها، وأرجو أن
يكون إيماني بالمسيح - وبما أوحاه الله إليه - ثابتًا كإيمان أي مسلم أو أي
نصراني به. وكما قلت من قبل مرارًا إن الإسلام والنصرانية التي أتى بها المسيح
نفسه هما توأمان لم يفرق بينهما إلا الأهواء والاصطلاحات التي يحسن أن تنبذ
ظهريا في هذه الأيام. يميل الناس إلى الإلحاد حينما يطالبون بالأخذ بعقائد جامدة لا
تتحمل التسامح، وإن كانوا ولا شك لفي شوق إلى دين يذعن لحكم العقل كما يذعن
الوجدان. من سمع بمسلم انقلب ملحدًا؟ يجوز أن يوجد أحوال قلائل كهذه ولكنني
مع ذلك أشك في وجودها كل الشك.
***
خوف الانتقاد
إني أعتقد أنه يوجد ألوف من الرجال والنساء الذين يدينون بالإسلام في قلوبهم،
ولكن مخالفة الإجماع وخوف الانتقاد العدائي والرغبة في اجتناب كل ضيق أو
تغيير يحملهم على عدم الجهر بما في قلوبهم، قد سلكت الآن نفس هذا المسلك.
على أني أعلم أن كثيرًا من أصدقائي وأقربائي ينظرون إليّ كأي روح ضالة تستحق
الدعاء لها، مع أن عقيدتي الآن هي عين عقيدتي منذ عشرين سنة؛ ولكن جهري
بها هو الذي أفقدني حسن ظنهم بي؛ لأن الخوف هو السبب في وجود أحوال لا
تحصى من الشقاء والشر في هذا العالم، ولو اتبع الناس الصراحة في القول لقل
سوء التفاهم بينهم، ولزاد احترامهم، ولنقتبس هنا كلمة المستر (بلفور) الحكيمة
وهي قوله: (لا ناصح أضر من الفزع إلا اليأس) ولكن أفضل أن أقول في هذه
الحالة (هناك ناصح أضر وأشد خطرًا من الشك أو الكفر ألا وهو الخوف) .
وحيث إني قد أتيت هنا بملخص بعض الأسباب التي حملتني على اعتناق
الإسلام وقد بينت أني أعتبر نفسي بهذا العمل نصرانيًّا أكمل بكثير مما كنت من قبل،
فلذا أرجو أن يقتدي بي غيري في ذلك، فإنه خير لا شك فيه. وفيه السعادة لكل
من يرى أن عملي هذا ارتقاء لا يراد به أي عداء للنصرانية الصحيحة. اهـ.
(المنار)
في كلام أخينا اللورد هدلي كلمتان جديرتان بالاعتبار:
(إحداهما) قوله: إن الإسلام هو النصرانية التي كان عليها ودعا إليها
المسيح عليه السلام. وهذا حق فإن دين جميع رسل الله عليهم السلام واحد في
أصوله وجوهره، وإنما كان بيان خاتمهم (محمد صلى الله عليه وسلم أتم وأكمل
على سنة الارتقاء في الحياة، وقد حفظه الله من التحريف والتبديل والزيادة
والنقصان. وقد سبق لحكيمنا الكبير السيد جمال الدين الأفاغني - رحمه الله تعالى
كلمة مثل كلمة أخينا اللورد هدلي. ذلك أن سائلا سأله عن سبب الدعوة إلى المذهب
النيشري المادي في الهند فقال: إن الذين أرادوا حل رابطة المسلمين في الهند
دعوهم أولاً إلى النصرانية فلم تنجح دعوتهم لأن الإسلام مسيحية وزيادة، فإنه يقرر
الإيمان بالمسيح وبما جاء به من التوحيد والفضائل ويبطل ما زاده النصارى
في دينه من الخرافات - أي مع زيادة في المعارف الإلهية والآداب والفضائل
والهدي الكامل - فلما خابت هذه الدعوة رأوا أن يشككوكهم في الدين المطلق
…
إلخ ما
قاله، وقد ذكرناه بالمعنى. ولولا العصبيات المذهبية، والأحقاد السياسية، وسوء حال
مسلمي هذه الأزمنة وبعدهم عن حقيقة الديانة الإسلامية، وجهل الإفرنج بها وبلغتها
العربية، ثم هذا الحجاب الذي أسدلته العلوم والأعمال المادية، ومقت الدين الذي
أثارته الخرافات الكنيسية، وما كان قبل من قسوة السلطة البابوية، لكان
هؤلاء الإفرنج أجدر الناس في هذا العصر بالإسلام، دين العقل والعلم
والحضارة والسلام، الذي كشف ما غشي كتب الأنبياء من الخرافات والأوهام،
ورفع امتيازات الأجناس والأصناف والأقوام، ودعا الناس كافة إلى الإخاء والوحدة
والاعتصام. ولا بد أن يتجلى حقه لهم بعد أحقاب إن لم يكن بعد أعوام، وقد
ظهرت بوادر ذلك بما يكتشفون في هذه الأيام، من غرائب آياته تعالى في الأنفس
والعقول والقوى والأجسام، وقد قال في كتابه المجيد: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي
أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * أَلَا إِنَّهُمْ
فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ} (فصلت: 53-54) .
وأما الكلمة الثانية من كلمتي (اللورد هدلي) فهي إخباره بأن كثيرًا من قومه
مسلمون، أي قد ظهر لهم نور الإسلام، فانقشعت به ظلمات الأوهام، وتلك الظلمة
الوثنية التي غشيت تعليم المسيح النورانية، فعلموا أن دين محمد هو دين المسيح
عليهما السلام، ولكنه غير أديان الكنائس المنسوبة إلى المسيح. بيّن أنهم مسلمون
في باطنهم ولكنهم يخافون أن يظهروا إسلامهم كما كان يخاف هو مدة عشرين سنة،
إنما يخافون أن يحتقرهم قومهم، ويمتعض منهم أهلهم؛ لأن تعصبهم للدين
والمذهب شديد جدًّا، وإن خفي هذا عن سفهاء المتفرنجين منّا الذين يزعمون أن
جميع الإفرنج مارقون من الدين؛ لأنهم لميلهم إلى الإلحاد لا ينجذبون إلا إلى أهله،
وقد يحملون من الكلام عليه ما لا يراد به منه، كما أنهم لافتتانهم بالفسق يظنون أن
جميع نساء الإفرنج بغايا، وأنهم لا همّ لهم من حياتهم ولا اشتغال لهم إلا بالشهوات
البهيمية، وسبب ذلك أنهم لا يبحثون إلا عن ذلك، ولو كان همّ الذين يذهبون إلى
أوربة منهم موجهًا إلى علم من العلوم أو فن من الفنون أو صناعة من الصناعات، لبدا
لهم من اهتمام الإفرنج به ما يحملهم على الظن بأنه لا همّ لهم في غيره، على
أن في الإفرنج من يهتم بإفساد دين الشرقي لإفساد جامعته التي يعتصم بها.
وهذا وإننا كنا منذ ميزنا وعقلنا نسمع من أهلنا وأصحابنا أن كثيرًا من
نصارى بلادنا يوقنون بحقية الإسلام ويتجرؤون على إظهار ذلك لقومهم، ومنهم من
يدخل في الإسلام ويؤدي فرائضه كلها أو بعضها في الخفاء، حتى اتفق ذلك لبعض
رؤساء الأديار. وأخبرنا والدي - رحمه الله تعالى - أنه عاد فلانًا القائمقام في أحد
أقضية جبل لبنان في مرض موته - وكان صديقًا له - فخلا به فأشهده على نفسه أنه
مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. وأذكر أنني رأيت ذلك الرجل
وكنت طالب علم فسألني عن بعض الأحاديث النبوية وكان يذكر النبي - صلى الله
عليه وسلم - بتعظيم فوق المعتاد في مجاملة أدباء النصارى للمسلمين فحملت ذلك
على المبالغة في المجاملة.
وإنني أعرف أفرادًا من فضلاء النصارى المستقلين يودّون لو كان في البلاد
حرية دينية يعذرهم بها أهلهم إذا هم أسلموا، منهم من يود لو كان مسلمًا اعتقادًا منه
بأفضلية الإسلام ورجحانه على جميع الأديان ، ومنهم من يود ذلك لغرض سياسي
اجتماعي وهو التمكن من التأثير في إصلاح بلاده التي يجزم بأنها لا تصلح إلا إذا
صلح المسلمون وجاروا الأمم القوية في أسباب العزة والحضارة. وهذا الصنف
كثير جدًّا. ولو كان للإسلام حكومة تقيم بنيانه وتنفذ أحكامه، وتحمل الأمة على
فضائله، وتظهر للناس حقيقة عدله وسماحته، لرأيت الناس يدخلون فيه أفواجًا،
ولكن رؤساء المسلمين هم أشد تنفيرًا عن الإسلام من دعاة الأديان الأخرى
ورؤسائها، ومن كل أحد. وما هذه إلا عوارض لا تدوم، إذ وعد الله تعالى بأن
يظهره على الدين كله وكان الله قويًّا عزيزًا.
_________
(1)
حاشية للمترجم: عاش هذا الرجل بين سنة 296 - 373 م.
الكاتب: جمال الدين القاسمي
تاريخ الجهمية والمعتزلة [*]
(12)
ما نتج من تعصب الجهمية والأثرية، وبيان آفة الغلو في التعصب
(قال الإمام الغزالي) في إحياء علوم الدين: وأما الكلام - أي علم
الكلام - فمقصوده حماية المعتقدات التي نقلها أهل السنة من السلف الصالح لا
غير.
(ثم قال) : ويحتاج إليه لمناظرة مبتدع، ومعارضة بدعته بما يفسدها
وينزعها عن قلب العامي، وذلك لا ينفع إلا مع العوام قبل اشتداد تعصبهم. وأما
المبتدع بعد أن يعلم من الجدل ولو شيئًا يسيرًا، فقلّما ينفع معه الكلام، فإنك إن
أفحمته لم يترك مذهبه، وأحال بالقصور على نفسه وقدر أن عند غيره جوابًا ما،
وهو عاجز عنه، وإنما أنت ملبس عليه بقوة المجادلة. وأما العامي إذا صرف عن
الحق بنوع جدل يمكن أن يرد إليه بمثله قبل أن يشتد التعصب للأهواء، فإذا اشتد
تعصبهم وقع اليأس منهم؛ إذ التعصب سبب يرسخ العقائد في النفوس، وهو من
آفات علماء السوء، فإنهم يبالغون في التعصب للحق، وينظرون إلى المخالفين
بعين الازدراء والاستحقار، فينبعث منهم الدعوى بالمكافأة والمقابلة والمعاملة،
وتتوفر دواعيهم على طلب نصرة الباطل، ويقوى غرضهم في التمسك بما نسبوا
إليه، ولو جاؤوا من جانب اللطف والرحمة والنصح في الخلوة لا في معرض
التعصب والتحقير، لأنجحوا فيه؛ ولكن لما كان الجاه لا يقوم إلا بالاستتباع، ولا
يستميل الاتباع مثل التعصب واللعن والشتم للخصوم، اتخذوا التعصب عادتهم
وآلتهم، وسمّوه ذبًّا عن الدين، ونضالاً عن المسلمين، وفيه - على التحقيق -
هلاك الخلق، ورسوخ البدعة في النفوس. اهـ.
(وقال الغزالي) رحمه الله أيضًا؛ في الجدل المذموم ومضراته: وله
ضرر آخر في تأكيد اعتقاد المبتدعة للبدعة، وتثبيتها في صدورهم، بحيث تنبعث
دواعيهم، ويشتد حرصهم على الإصرار عليه؛ قال: ولكن هذا الضرر بواسطة
التعصب الذي يثور من الجدل، ولذلك ترى المبتدع العامي يمكن أن يزول اعتقاده
باللطف في أسرع زمان، إلا إذا كان نشوؤه في بلد يظهر فيها الجدل والتعصب،
فإنه لو اجتمع عليه الأولون والآخرون لم يقدروا على نزع البدعة من صدره، بل
الهوى والتعصب وبعض خصوم المجادلين وفرقة المخالفين يستولي على قلبه،
ويمنعه من إدراك الحق، حتى لو قيل له: هل تريد أن يكشف الله تعالى لك الغطاء،
ويعرفك بالعيان أن الحق مع خصمك؟ لكره ذلك خيفة أن يفرح به خصمه (قال)
وهذا هو الداء العظيم الذي استطار في البلاد والعباد، وهو نوع فساد أثاره
المجادلون بالتعصب فهذا ضرره. اهـ.
وقال العلامة المقبلي في العلم الشامخ: واعلم أن الخلاف والتعصب والتحزب
هو الذي حمل سيوف بعض المسلمين على بعض، وحلل دماءهم وأموالهم
وأعراضهم، وحرف الكتاب والسنة، ثم صيَّرهما كالعدم بسد باب الاجتهاد اهـ.
و (قال أيضًا) : ثم ترتب على الافتراق تقويم كل لعمود الشقاق، وصار كل
منهم إنما يعتز بمن مال إليه من الملوك على خصمه. اهـ.
وبالجملة فمن أعظم آفات التعصب ما نشأ عنه من التفرق والتعادي، بحيث
صار يرثه المتأخر عن المتقدم، حتى أصبح يبغض القريب قريبه إذا وجده يخالف
رأيه، ويلصق به كل تهمة شنعاء ولو أقام على صحة رأيه مئين من البراهين؛ بل
بلغ احتقار بعضهم لبعض مبلغًا دفع به أن يحنق على مخالفه، ويتحين الفرص
للإيقاف به، حتى إذا بدرت منه هفوة، أو ظهرت زلة - ولا معصوم إلا المعصوم -
رفع مخالفه عقيرته بتأنيبه، وملأ الأرض والسماء صراخًا بتشهيره، غير مبال
بما حظره الشرع مما يولد البغضاء والشحناء، ويفكك عرى الإخاء، ولا ملام على
الدهماء من ترويج مثل هذه الخطة الشائنة لغرقهم في بحار الجهل، وإنما يلام قادة
الأفكار على احتذائهم هذا الحذو، ونسجهم على هذا المنوال، إذ لولا صخب هؤلاء
الرهط، وبثهم هذه الألقاب في النفوس، لكانت الأمة متماسكة الأجزاء، متينة
عرى المحبة بين الأفراد.
نعم؛ لا بأس أن تُنْتَقَدَ الأَقْوَالُ، وتُضَعَّفَ بالبُرْهَانِ، ويُوَضَّحَ كلُّ خَطَأٍ يَنْجُمُ
عنها؛ ولكن الذي يجب التوقي منه هو أن يتشاحن قادة العقول ويتطاحنوا
ويتبغضوا لما لا يصح أن يكون سببًا معقولاً، وأن يثب كلٌّ على مخالفه وثبة الغادر
المنتقم، فيود أن ينكل به أو يمزقه شر ممزَّق، فيقتفي أثرهم مقلدها، فتصبح الأمة
أعداءً متشاكسة، وأحزابًا متنافرة، بشؤم التعصب الذميم، الذي لم يتمكن من أمة
إلا وذهب بها مذهب التفرق والانحطاط، وأضعف قواها، وأحاق بها الخطوب
والأرزاء، فمن الواجب العلم على ملاشاة الشحناء والشقاق، والقيام بالتحابّ
والاتفاق، وبالله التوفيق.
(13)
حظر الأئمة للمحققين، رمي فرق المسلمين بالكفر والفسق
من أعظم ما بليت به الفرق الإسلامية، رمي بعضها بعضًا بالفسق والكفر،
مع أن قصد كلٍّ الوصول إلى الحق، بما بذلوا جهدهم لتأييده واعتقاده، والدعوة
إليه، فالمجتهد منهم - وإن أخطأ - مأجور (وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية) في
كتابه موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول [1] عن الإمام الرازي (في نهاية العقول)
في مسألة التكفير ما مثاله: قال الشيخ أبو الحسن الأشعري في أول كتاب (مقالات
الإسلاميين) : اختلف المسلمون بعد نبيهم في أشياء ضلّل فيها بعضهم بعضًا وتبرّأ
بعضهم من بعض فصاروا فرقًا متباينين، إلا أن الإسلام يجمعهم فيعمهم. فهذا
مذهبه، وعليه أكثر الأصحاب، ومن الأصحاب من كفر المخالفين.
وأما الفقهاء، فقد نقل عن الشافعي رضي الله عنه قال: لا أردّ شهادة أهل
الأهواء إلا الخطّابية [2] ، فإنهم يعتقدون حل الكذب. وأما أبو حنيفة رضي الله عنه،
فقد حكى الحاكم صاحب المختصر في كتاب المنتقى عن أبي حنيفة أنه لم يكفر
أحدًا من أهل القبلة، وحكى أبو بكر الرازي عن الكرخي وغيره مثل ذلك.
وأما المعتزلة، فالذين كانوا قبل أبي الحسين تحامقوا وكفّروا أصحابنا في
إثبات الصفات وخلق الأعمال. وأما المشبِّهة فقد كفرهم مخالفوهم من أصحابنا ومن
المعتزلة، وكان الأستاذ أبو إسحاق يقول: أكفِّر من يكفِّرني، وكل مخالف يكفرنا
فنحن نكفره وإلا فلا.
ثم قال الرازي: والذي نختاره أن لا نكفر أحدًا من أهل القبلة، والدليل عليه
أن نقول: المسائل التي اختلف أهل القبلة فيها مثل أن الله تعالى هل هو مُوجِدٌ لأفعال
العباد أم لا؟ وأنه هل هو متحيز، وهل هو في مكانٍ وجِهَة، وهل هو مرئيّ أم لا؟
لا يخلو إما أن تتوقف صحة الدين على معرفة الحق فيها أو لا تتوقف، والأول
باطل؛ إذ لو كانت معرفة هذه الأصول من الدين، لكان الواجب على النبي -
صلى الله عليه وسلم أن يطالبهم بهذه المسائل؛ بل ما جرى حديث من هذه
المسائل في زمانه عليه السلام، ولا في زمان الصحابة والتابعين رضي الله عنهم،
علمنا أنه لا يتوقف صحة الإسلام على معرفة هذه الأصول، وإذا كان كذلك لم يكن
الخطأ في هذه المسائل قادحًا في حقيقة الإسلام، وذلك يقتضي الامتناع من تكفير
أهل القبلة. اهـ.
ثم قال الإمام ابن تيمية بعد ذلك: (والأصل في هذا الباب أن الألفاظ نوعان:
مذكور في كتاب الله وسنة رسوله، وكلام أهل الإجماع، فهذا يجب باعتبار معناه
وتعليق الحكم به، فإن كان المذكور به مدحًا استحق صاحبه المدح، وإن كان ذمًّا
استحق الذم، وإن أثبت شيئًا وجب إثباته وإن نفى شيئًا وجب نفيه؛ لأن كلام الله حق
وكلام رسوله حق، وكلام أهل الإجماع حق. ومن دخل في اسم مذموم في الشرع
كان مذمومًا؛ كاسم الكافر والمنافق والملحد ونحو ذلك، ومن دخل في اسم محمود في
الشرع كان محمودًا كاسم المؤمن والتقيّ والصدّيق ونحو ذلك) .
وأما الألفاظ التي ليس لها أصل في الشرع، فتلك لا يجوز تعليق المدح والذم
والإثبات والنفي على معناها، إلا أن يبين أنه يوافق الشرع، والألفاظ التي تعارض
بها النصوص هي من هذا الضرب كلفظ الجسم والحيز والجهة والجوهر والعَرَض،
فمن كانت معارضته بمثل الألفاظ؛ لم يجز له أن يكفر مخالفه إن لم يكن قوله مما
يبين الشرع أنه كفر؛ لأن الكفر حكم شرعي متلقى عن صاحب الشريعة، والعقل
قد يعلم به صواب القول وخطؤه، وليس كل ما كان خطأ في العقل يكون كفرًا في
الشرع، كما أنه ليس كل ما كان صوابًا في العقل يجب في الشرع معرفته، ومن
العجب قول من يقول من أهل الكلام: أن أصول الدين التي يكفر مخالفها هي علم
الكلام الذي يعرف بمجرد العقل، وأما ما لا يعرف بمجرد العقل فهي الشرعيات
عندهم، وهذه هي طريقة المعتزلة والجهمية ومن سلك سبيلهم كأتباع صاحب
الإرشاد وأمثالهم، فيقال لهم: هذا الكلام يتضمن شيئين: أحدهما أن أصول الدين هي
التي تعرف بالعقل المحض دون الشرع، والثاني أن المخالف لها كافر، وكل من
المقدمتين وإن كانت باطلة، فالجمع بينهما متناقض، وذلك أن ما لا يعرف إلا بالعقل
لا يعلم أن مخالفه كافر الكفر الشرعي، فإنه ليس في الشرع أن من خالف ما لا يعلم
إلا بالعقل يكفر، وإنما الكفر يكون بتكذيب الرسول فيما أخبر به، أو الامتناع عن
متابعته، مع العلم بصدقه، مثل كفر فرعون واليهود، ونحوهم.
وفي الجملة فالكفر متعلق بما جاء به الرسول لا بمجرد ما يعلم بالعقل، فكيف
يجوز أن يكون الكفر بأمور لا تعلم إلا بالعقل؟ إلا أن يدل الشرع على أن تلك الأمور
التي لا تعلم إلا بالعقل كفر، فيكون حكم الشرع مقبولاً، لكن معلوم أن هذا لا يوجد
في الشرع بل الموجود في الشرع تعليق الكفر بما يتعلق به الإيمان، وكلاهما متعلق
بالكتاب والرسالة، فلا إيمان مع تكذيب الرسول ومعاداته، ولا كفر مع
تصديقه وطاعته.
ومن تدبر هذا رأى أهل البدع من النفاة يعتمدون على مثل هذا فيبتدعون بدعًا
بآرائهم، وليس فيها كتاب ولا سنة، ثم يكفرون من خالفهم فيما ابتدعوه، وهذا
حال من كفر الناس بما أثبتوه من الأسماء والصفات التي يسميها هو تركيبًا وتجسيمًا
وإثباتًا لحلول الصفات والأعراض به ونحو ذلك من الأقوال التي ابتدعها الجهمية
والمعتزلة ثم كفَّروا من خالفهم فيها. اهـ كلام الإمام ابن تيمية رحمه الله.
ولب هذا كله قوله: (فلا إيمان مع تكذيب الرسول ومعاداته، ولا كفر مع
تصديقه وطاعته) وما ذكره ونقله قبل هو الفيصل في هذا الباب.
وقال رحمه الله في شرح الأصفهانية: (خاصة أهل السنة المتبعين للرسول -
صلى الله عليه وسلم هي أنهم يتبعون الحق ويرحمون من خالفهم باجتهاد، حيث
عذره الله ورسوله) اهـ.
وإنما رحموه لأنهم تجمعهم أخوة الإيمان، وقد قال تعالى:{رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (الفتح: 29) ، فالمؤمنون مهما اختلف اجتهادهم، وتباينت مداركهم، فهم إخوة
يتراحمون، يتآلفون ولا يتباغضون، ولا يلزم من اختلاف الرأي اختلاف القلوب،
وبالله التوفيق.
(14)
بيان أنه لا تضليل، لمن أصاره اجتهاده إلى التأويل
قدمنا أولاً أنا لم نرد في هذه الورقات ذكر عقائد الجهمية والمعتزلة، ولا
مناقشتهم؛ لأن لذلك مواضع معروفة، لا سيّما وهذا المقام طويل الذيل، متشعب
المناحي، ويكفي أنه لأجله صنّف ودوّن علم الكلام، وإنما أردنا تعرف شأن هاتين
الفرقتين من الوجهة التاريخية، وقد أتينا على جمل منها.
بقي التنبيه على النصفة مع مجتهدي فرق الإسلام ومجافاة التضليل عن كل
من التزم قانون التأويل، فنقول: قد وقَرَ في قلوب كثير من الناس رمي أمثال
المعتزلة بالمروق والضلال والزيغ، تقليدًا لمن ينبزهم بذلك من حشوية المتفيهقين،
وهذا من أغرب الغريب، إذ كيف يصح هذا وكان القائمون بمذهب المعتزلة خلفاء
الإسلام في العهد العباسي، وقضاتهم وعدة من علمائهم؟ وهم يحتجون لما يدعون،
ويبرهنون على ما يذهبون، لا جرم أنهم - وإن أخطؤوا - لمجتهدون.
وممّا يدل على أن هذا العقد بلغ تمكن صحته من نفوسهم منتهاه من اليقين
حملهم الخلفاء على إكراه الناس عليه ابتغاء نجاتهم - بزعمهم - بتصحيح عقيدتهم
على ما يرون، وجليّ أن كل من استدل على ما يراه، واحتج على دعواه، فقد آذن
في اجتهاده فيه، وتحرى الحق فيما يقصده ويبغيه، فقصارى أمره إذا نقض برهانه
ودحضت حجته؛ أن يكون مجتهدًا مخطئًا، وهو معذور بل مأجور، إذ لم يرد إلا
الحق، فمن أين يسوغ بعد ذلك قرض الأعراض بالتضليل والتفسيق، وتثوير
المنبوز على المقابلة بالمثل بل الأمثال، والخروج بالإقذاع عن آداب
المناظرة والجدال.
إنَّ نبز الفرق المتجادلة بتلك الألقاب أوجب أن تصرف الألباب عن النظر في
أدلة كل منها، لتزن المقبول منها بمعياره، والمردود بمقداره؛ لأنها حاولت الضغط
على الأفكار، وحرمانها من حرية البحث والنظر والتأمل، لتحملها على رأي واحد،
ومذهب منفرد، وذلك ما كان ولن يكون.
إن اختلاف الآراء لا يدعو بطبيعته إلى الحفائظ والأضغان، وغرس الأحقاد
والشنآن، ولكن أكثر الفرق استولت على مناظرتها الضغائن، فذهبت بهم مذهب
التشفي والانتقام، هذه بالنبز بالألقاب السوء، وتلك بها أو بسلطتها الجائرة،
واضطهادها لمخالفيها بضروب العذاب.
من عجيب أمر التنابز، أن الإغراق فيه قد يغري خلي الذهن بالبحث عن المنبوز
والتنقيب عنه، فيحمله على التأمل في مداركه، والتبصر في مآخذه، فربما انضم
إليه وشايعه تقليدًا أو نظرًا واستدلالاً.
فالمتحاملون على فئة قد يحببون فيها من حيث يريدون التنفير منها، ويجذبون
إليها مما يأملون به الإبعاد عنها، ويصدق فيهم قول القائل:
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء
هؤلاء المتحاملون يرون أعظم منفر عن خصومهم هو التكفير، وفاتهم أن هذا
لا يغني من البرهان، ولا يجزئ من الحق شيئًا؛ بل قد يكون من أعظم أمانيّ
الخصوم، فإن الفكر الذي يحارب بهذا الاسم ربما يكون قد بلغ أشُدَّه واستوى،
ووصل إلى أعماق الرسوخ ورسا.
ولمّا حاول أعداء حجة الإسلام الغزالي - عليه الرحمة والرضوان - رميه
بالكفر (وما أسهل رميهم به لأمثاله) لمخالفته الأشعري، انتدب لتأليف كتاب يهدي
إلى حقيقة الكفر والزندقة، سمّاه (فيصل التفرقة، بين الإسلام والزندقة) ، قال في
خطبته: فهوِّن أيها الأخ المشفق على نفسك، لا يضيق به صدرك، وفلَّ من غربك
قليلاً، واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرًا جميلاً، واستحقرمن لا يحسد ولا
يقذف، واستصغر من بالكفر والضلال لا يعرف [3] .
ونقل الإمام الغزالي أيضًا في المستصفى أن عليًّا - كرم الله وجهه - استأذنه
قضاته في البصرة في القضاء بشهادة أهل البصرة من الخوارج وغيرهم أو ردّها،
فأمرهم بقبولها كما كان قبل الحرب؛ لأنهم حاربوا على تأويل، وفي رد شهادتهم
تعصب وتجديد خلاف. اهـ.
فانظر كيف تسامح مع أهل التأويل من المبدعين وقبل شهادتهم وزكاهم
وعدلهم، فهل يصح بعد هذا النبز بالتفسيق أو التضليل؟ حاشا وكلا! وهذا لمن
عرف الرجال بالحق، لا الحق بالرجال، والله المستعان.
(15)
ما وصى به الأئمة من اطِّراح أقوال العلماء بعضهم في بعض،
ومن التماس الحكمة أينما وجدت
روى الإمام حافظ المغرب يوسف بن عبد البر في كتابه (جامع العلم وفضله)
في باب حكم قول العلماء بعضهم في بعض عن ابن عباس رضي الله عنهما
قال: استمعوا علم العلماء، ولا تصدقوا بعضهم على بعض.
وعنه رضي الله عنه قال: خذوا العلم حيث وجدتم، ولا تقبلوا قول
الفقهاء بعضهم على بعض.
وعن مالك بن دينار قال: يؤخذ بقول العلماء والقراء في كل شيء إلا قول بعضهم في بعض.
وعن عبد العزيز بن أبي حازم قال: سمعت أبي يقول: العلماء كانوا فيما مضى من
الزمان إذا لقي العالم من هو فوقه في العلم كان ذلك يوم الغنيمة، وإذا لقي من هو
مثله ذاكره، وإذا لقي من هو دونه لم يُزْهَ عليه، حتى كان هذا الزمان، فصار
الرجل يعيب من هو فوقه ابتغاء أن ينقطع منه، حتى يرى الناس أنه ليس به حاجة
إليه، ولا يذاكر من هو مثله، ويزهى على من هو دونه، فهلك الناس.
(قال الإمام ابن عبد البر) : لقد تجاوز الناس الحد في الغِيبة والذم فلم
يقنعوا بذم العامّة دون الخاصة ولا بذم الجهّال دون العلماء، وهذا كله يحمل عليه
الجهل والحسد. ثم قال رحمه الله: ومن صحت عدالته، وعُلمت بالعلم عنايته،
وسلم من الكبائر ولزم المروءة، وكان خيره غالبًا، وشره أقل عمله، فهذا لا يقبل
فيه قول قائل لا برهان له به، فهذا هو الحق الذي لا يصح غيره إن شاء الله.
(وقال الذهبي) في ميزان الاعتدال - في ترجمة أبي نعيم أحد الأعلام:
صدوق تكلم فيه ابن منده بلا حجة كما تكلم هو في ابن منده. (قال الذهبي) : ولا
أقبل قول كل منهما في الآخر، بل هما عندي مقبولان. ثم قال: وكلام الأقران
بعضهم في بعض لا يعبأ به ولا سيّما إذا لاح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد ما
ينجو منه إلا من عصم اللهُ (قال) وما علمت أن عصرًا من الأعصار سلم أهله من
ذلك سوى الأنبياء والصديقين فلو شئت لسردت من ذلك كراريس. اهـ.
قال العلامة المقبلي: وأشدها عداوة ما كان من قبل المذهب لأنه يزعمه دينًا،
ويمرن عليه فيغر نفسه أنه دين، وحظ الهوى في ذلك أوفى وأوفر، نسأل الله
العافية، وأن يجعلنا ممن خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى.
وروى الإمام ابن عبد البر في كتاب (جامع العلم) في باب الحال التي ينال
بها العلم، عن علي - كرم الله وجهه - قال: العلم ضالة المؤمن فخذوه ولو من
أيدي المشركين ولا يأنف أحدكم أن يأخذ الحكمة ممن سمعها منه. وعنه كرم الله
وجهه قال: الحكمة ضالة المؤمن يطلبها ولو في أيدي الشُّرَط.
وروى ابن عبد البر قبل هذا الباب عن أيوب قال: إنك لا تعرف خطأ معلمك
حتى تجالس غيره. وعن علي رضي الله عنه قال: إن الناس أبناء ما يحسنون،
وقدر كل امرئ ما يحسن؛ فتكلموا في العلم تتبين أقداركم.
قال ابن عبد البر: إن قول علي بن أبي طالب (قيمة كل امرئ ما يحسنه)
لم يسبقه إليه أحد (قال) وقالوا: ليس كلمة أحض على طلب العلم منها (وقالوا)
ولا كلمة أضر بالعلم والعلماء والمتعلمين من قول القائل (ما ترك الأولُ للآخر شيئًا)
قال ابن عبد البر: قول علي رضي الله عنه (قيمة كل امرئ ما يحسن)
من الكلام المعجب الخطير وقد طار له الناس كل مطير، ونظمه جماعة من
الشعراء إعجابًا به، وكلفًا بحسنه، فمن ذلك ما يعزى إلى الخليل بن أحمد وهو
قوله:
لا يكون السّريّ مثلَ الدّنيّ
…
لا ولا ذو الذكاء مثل الغبِيّ
لا يكون الألدُّ ذو المقول المر
…
هف عند القياس مثل العَييّ
قيمة المرءِ كل ما يحسن المر
…
ءُ قضاء من الإمام عليّ
وقال غيره:
يلوم على أن رحت للعلم طالبًا
…
أجمع من عند الرواة فنونه
فيا لائمي دعني أغالي بقيمتي
…
فقيمة كل الناس ما يحسنونه
وقال أبو العباس الناشئ:
تأمل بعينيك هذا الأنا
…
م فكن بعض من صانه عقله
فحلية كل فتى فضله
…
وقيمة كل امرئ نبله
فلا تتكل في طلاب العلا
…
على نسب ثابت أصله
فما من فتى زانه قوله
…
بشيء يخالفه فعله
ومما ينسب لعلي رضي الله عنه:
الناس من جهة التمثال أكْفاء
…
أبوهم آدم والأم حواء
وإنما أمهات الناس أوعية
…
مستودَعات وللأحساب آباء
فإن يكن لهم من أصلهم شرف
…
يفاخرون به فالطين والماء
وأن أتيت بفخر من ذوي نسب
…
فإن نسبتنا جود وعلياء
ما الفضل إلا لأهل العلم إنهم
…
على الهدى لمن استهدى أدلاء
وقيمة المرء ما قد كان يحسنه
…
والجاهلون لأهل العلم أعداء
فقم بعلم ولا تبغ به بدلا
…
فالناس موتى وأهل العلم أحياء
وقد ورد في هذا الباب ما رواه الإمام مسلم في مقدمة صحيحه عن عائشة -
رضي الله عنها قالت: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل
الناس منازلهم. نسأله تعالى أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه {رَبَّنَا
اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا
إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (الحشر: 10) .
في جمادى الأولى سنة 1330
_________
(*) تابع لما نشر في ج 12 م 16 ص 913.
(1)
جزء 1 صفحة 49 وما بعدها من الطبعة الأميرية على حاشية منهاج السنة.
(2)
فرقة من غلاة الشيعة منسوبة إلى أبي الخطاب محمد بن مقلاص كان - قبحه الله - من الغلاة في جعفر الصادق عليه السلام ادعى له علم الغيب وغير لك حتى لعنه الصادق مرارًا لفساد عقيدته وخبثه وكذبه عليه وقد تبرأ الصادق عليه السلام منه، ومن أراد الوقوف على أخبار أبي الخطاب فليرجع إلى كتاب الشيعة للكشي فقد أسهب في شأنه في عدة أوراق) . اهـ.
(3)
يشير رحمه الله إلى أن ذلك صار وقفًا على أخبار العلماء وأعلام الجهابذة الحكماء، ولقد صدق رحمه الله وشاهده الاستقراء من لدن عصره وقبله إلى الآن.
الكاتب: أبو إسحاق الشاطبي
الباب الأول من كتاب الاعتصام [*]
في تعريف البدع وبيان معناها وما اشتق منه لفظًا
وأصل مادة (بدع) للاختراع على غير مثال سابق، ومنه قول الله تعالى:
{بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ} (البقرة: 117) ، أي مخترعهما من غير مثال سابق
متقدم، وقوله تعالى:{قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرُّسُلِ} (الأحقاف: 9) ، أي ما
كنت أول من جاء بالرسالة من الله إلى العباد بل تقدمني كثير من الرسل، ويقال:
ابتدع فلان بدعة يعني ابتدأ طريقة لم يسبقه إليها سابق، وهذا أمر بديع يقال في
الشيء المستحسن الذي لا مثال له في الحسن؛ فكأنه لم يتقدمه ما هو مثله ولا ما
يشبهه.
ومن هذا المعنى سميت البدعة بدعة، فاستخراجها للسلوك عليها هو الابتداع
وهيئتها هي البدعة، وقد يسمى العلم المعمول على ذلك الوجه بدعة، فمن هذا المعنى
سمي العمل الذي لا دليل عليه في الشرع بدعة، وهو إطلاق أخص منه في
اللغة حسبما يذكر بحول الله.
ثبت في علم الأصول أن الأحكام المتعلقة بأفعال العباد وأقوالهم ثلاثة: حكم
يقتضيه معنى الأمر كان للإيجاب أو الندب، وحكم يقتضيه معنى النهي كان
للكراهة أو التحريم، وحكم يقتضيه معنى التخيير وهو الإباحة. فأفعال العباد
وأقوالهم لا تعدو هذه الأقسام الثلاثة: مطلوب فعله، ومطلوب تركه، ومأذون في
فعله وتركه. والمطلوب تركه لم يطلب إلا لكونه مخالفًَا للقسمين الأخيرين، لكنه
على ضربين:
(أحدهما) : أن يطلب تركه وينهى عنه لكونه مخالفة خاصة مع تجرد
النظر عن غير ذلك، وهو إن كان محرمًا سُمي فعله معصية وإثمًا، وسمي فاعله
عاصيًا وآثمًا، وإلا لم يسم بذلك، ودخل في حكم العفو حسبما هو مبين في غير
هذا الموضع. ولا يسمى بحسب الفعل جائزًا ولا مباحًا لأن الجمع بين الجواز
والنهي جمع بين متنافيين.
(والثاني) : أن يطلب تركه وينهى عنه؛ لكونه مخالفة لظاهر التشريع من
جهة ضرب الحدود وتعيين الكيفيات والتزام الهيئات المعينة أو الأزمنة المعينة مع
الدوام ونحو ذلك.
وهذا هو الابتداع والبدعة ويسمى فاعله مبتدعًا - فالبدعة إذن عبارة عن
طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية، يقصد بالسلوك عليها في معنى البدعة
وإنما يخصها بالعبادات. وأما على رأي من أدخل الأعمال العادية في معنى البدعة
فيقول: (البدعة طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية، يقصد بالسلوك عليها
ما يقصد بالطريقة الشرعية) . ولا بد من بيان ألفاظ هذا الحد: فالطريقة والطريق
والسبيل والسنن هي بمعنى واحد، وهو ما رسم للسلوك عليه، وإنما قيدت بالدين
لأنها فيه تخترع وإليه يضيفها صاحبها، وأيضًا فلو كانت طريقة مخترعة في الدنيا
على خصوص لم تسم بدعة؛ كإحداث الصنائع والبلدان التي لا عهد بها فيما تقدم.
ولمّا كانت الطرائق في الدين تنقسم: فمنها ما له أصل في الشريعة، ومنها
ما ليس له أصل فيها - خص منها ما هو المقصود بالحد وهو القسم المخترع، أي
طريقة ابتدعت على غير مثال تقدمها من الشارع؛ إذ البدعة إنما خاصتها أنها
خارجة عمّا رسمه الشارع، وبهذا القيد انفصلت عن كل ما ظهر لبادي الرأي أنه
مخترع ممّا هو متعلق بالدين، كعلم النحو والتصريف ومفردات اللغة وأصول الدين،
وسائر العلوم الخادمة للشريعة. فإنها وإن لم توجد في الزمان الأول فأصولها
موجودة في الشرع؛ إذ الأمر بإعراب القرآن منقول وعلوم اللسان هادية للصواب
في الكتاب والسنة فحقيقتها إذًا أنها فقه التعبد الشرعية بالألفاظ الدالة على معانيها كيف
تؤخذ وتؤدّى.
وأصول الفقه إنما معناها استقراء كليات الأدلة حتى تكون عند المجتهد نصب
عين وعند الطالب سهلة الملتمس.
وكذلك أصول الدين - وهو علم الكلام - إنما حاصله تقرير لأدلة القرآن
والسنة، أوْ ما ينشأ عنها في التوحيد وما يتعلق به، كما كان الفقه تقريرًا لأدلتها في
الفروع العبادية.
(فإن قيل) . فإن تصنيفها على ذلك الوجه مخترع.
(فالجواب) : أنَّ له أصلاً في الشرع، ففي الحديث ما يدل عليه، ولو سلم
أنه ليس في ذلك دليل على الخصوص فالشرع بجملته يدل على اعتباره، وهو
مستمد من قاعدة المصالح المرسلة، وسيأتي بسطها بحول الله.
فعلى القول بإثباتها أصلاً شرعيًّا لا إشكال في أن كل علم خادم للشريعة داخل؛
تحت أدلته التي ليست بمأخوذة من جزئي واحد. فليست ببدعة ألبتة.
وعلى القول بنفيها لا بد أن تكون تلك العلوم مبتدعات. وإذا دخلت في علم
البدع كانت قبيحة؛ لأن كل بدعة ضلالة من غير إشكال، كما يأتي بيانه إن شاء
الله.
ويلزم من ذلك أن يكون كتب المصحف وجمع القرآن قبيحًا، وهو باطل
بإجماع، فليس إذًا ببدعة. ويلزم أن يكون له دليل شرعي، وليس إلا هذا النوع
من الاستدلال، وهو المأخوذ من جملة الشريعة.
وإذا ثبت جزئيٌّ في المصالح المرسلة، ثبت مطلق المصالح المرسلة؛ فعلى هذا لا ينبغي أن يسمى علم النحو أو غيره من علوم
اللسان أو علم الأصول أو ما أشبه ذلك من العلوم الخادمة للشريعة بدعة أصلاً.
ومن سمّاه بدعة فإمّا على المجاز؛ كما سمى عمر بن الخطاب - رضي الله
عنه - قيام الناس في ليالي رمضان بدعة. وإما جهلاً بمواقع السنة والبدعة، فلا
يكون قول من قال ذلك معتدًّا به ولا معتمدًا عليه.
وقوله في الحد (تضاهي الشرعية) يعني أنها تشابه الطريقة الشرعية من
غير أن تكون في الحقيقة كذلك، بل هي مضادة لها من أوجه متعددة.
منها وضع الحدود كالناذر للصيام قائمًا لا يقعد، ضاحيًا لا يستظل.
والاختصاص في الانقطاع للعبادة، والاقتصار من المأكل والملبس على صنف دون
صنف من غير علة.
ومنها التزام الكيفيات والهيآت المعينة، كالذكر بهيئة الاجتماع على صوت
واحد، واتخاذ يوم ولادة النبي صلى الله عليه وسلم عيدًا، وما أشبه ذلك.
ومنها التزام العبادات المعينة في أوقات معينة لم يوجد لها ذلك التعيين في
الشريعة، كالتزام صيام يوم النصف من شعبان، وقيام ليلته [1] .
وثَمَّ أوجه تضاهي بها البدعة الأمور المشروعة فلو كانت لا تضاهي الأمور
المشروعة لم تكن بدعة؛ لأنها تصير من باب الأفعال العادية.
وأيضًا فإن صاحب البدعة إنما يخترعها ليضاهي بها السنة؛ حتى يكون
ملبسًا بها على الغير، أو تكون هي ممّا تلتبس عليه بالسنة، إذ الإنسان لا يقصد
الاستتباع بأمر لا يشابه المشروع؛ لأنه إذ ذاك لا يستجلب به في ذلك الابتداع نفعًا،
ولا يدفع به ضررًا، ولا يجيبه غيره إليه. ولذلك تجد المبتدع ينتصر لبدعته
بأمور تخيل التشريع ولو بدعوى الاقتداء بفلان المعروف منصبه في أهل الخير.
فأنت ترى العرب الجاهلية في تغيير ملة إبراهيم عليه السلام كيف تأولوا فيما
أحدثوه احتجاجًا منهم، كقولهم في أصل الإشراك: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ
زُلْفَى} (الزمر: 3)، وترك الحُمْس الوقوف بعرفة لقولهم: لا نخرج من الحرم
اعتدادًا بحرمته. وطواف من طاف منهم بالبيت عريانًا قائلين: لا نطوف بثياب
عصينا الله فيها.
وما أشبه ذلك ممّا وجّهوه ليصيّروه بالتوجيه كالمشروع، فما ظنك بمن عُدَّ أو
عَدَّ نفسه من خواصّ أهل الملة؟ فهم أحرى بذلك، وهم المخطئون وظنهم الإصابة.
وإذا تبين هذا ظهر أن مضاهاة الأمور المشروعة ضرورية الأخذ في أجزاء الحد.
وقوله: (يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله تعالى) هو تمام معنى
البدعة إذ هو المقصود بتشريعها.
وذلك أن أصل الدخول فيها يحث على الانقطاع إلى العبادة والترغيب في ذلك؛
لأن الله تعالى يقول: {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات:
56) فكأن المبتدع رأى أن المقصود هذا المعنى، ولم يتبين له أن ما وضعه
الشارع فيه من القوانين والحدود كافٍ، فرأى من نفسه أنه لا بُدّ لما أطلق الأمر فيه
من قوانين منضبطة، وأحوال مرتبطة، مع ما يداخل النفوس من حب الظهور أو
عدم مظنته، فدخلت في هذا الضبط شائبة البدعة.
وأيضًا فإن النفوس قد تمل وتسأم من الدوام على العبادات المرتبة، فإذا جدد
لها أمر لا تعهده حصل لها نشاط آخر لا يكون لها مع البقاء على الأمر الأول،
ولذلك قالوا (لكل جديدة لذة) بحكم هذا المعنى، كمن قال: (كما تحدث للناس
أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور، فكذلك يحدث لهم مرغبات في الخير بقدر ما
حدث لهم من الفتور) .
وفي حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه: فيوشك قائل أن يقول: ما هم
بمتبعيّ فيتبعوني وقد قرأتك القرآن فلا يتبعني حتى أبتدع لهم غيره فإياكم وما ابتدع
فإن ما ابتدع ضلالة [2] .
وقد تبين بهذا القيد أن البدع لا تدخل في العادات، فكل ما اخترع من الطرق في
الدين مما يضاهي المشروع، ولم يقصد به التعبد فقد خرج عن هذه التسمية،
كالمغارم الملزمة على الأموال وغيرها على نسبة مخصوصة وقدر مخصوص مما
يشبه فرض الزكوات ولم يكن إليها ضرورة.
وكذلك اتخاذ المناخل وغسل اليد بالأُشنان وما أشبه ذلك من الأمور التي لم
تكن قبل، فإنها لا تسمى بدعًا على إحدى الطريقتين.
وأمّا الحدّ على الطريقة الأخرى فقد تبين معناه إلا قوله: (يقصد بها ما يقصد
بالطريقة الشرعية) . ومعناه أن الشريعة إنما جاءت لمصالح العباد في عاجلتهم
وآجلتهم لتأتيهم في الدارين على أكمل وجوهها، فهو الذي يقصده المبتدع ببدعته؛
لأن البدعة إمّا أن تتعلق بالعادات أو العبادات، فإن تعلقت بالعبادات فإنّما أراد بها
أن يأتي تعبده على أبلغ ما يكون في زعمه ليفوز بأتمّ المراتب في الآخرة في ظنه.
وإن تعلقت بالعادات فكذلك؛ لأنه إنما وضعها لتأتي أمور دنياه على تمام المصلحة
فيها. فمن يجعل المناخل في قسم البدع فظاهر أنّ التمتع عنده بلذّة الدقيق المنخول
أتمّ منه بغير المنخول.
وكذلك البناءات المشيدة المحتفلة، التمتع بها أبلغ منه بالحشوش والخرب.
ومثله المصادرات في الأموال بالنسبة إلى أولي الأمر، وقد أباحت الشريعة التوسع
في التصرفات، فيعد المبتدع هذا من ذلك.
وقد ظهر معنى البدعة وما هي في الشرع، والحمد لله.
***
فصل
وفي الحدّ أيضًا معنًى آخر ممّا ينظر فيه. وهو أن البدعة من حيث قيل فيها:
إنّها طريقة في الدين مخترعة
…
إلى آخره - يدخل في عموم لفظها البدعة التَّركية
كما يدخل فيه البدعة غير التركية، فقد يقع الابتداع بنفس الترك تحريمًا للمتروك أوْ
غير تحريم؛ فإن الفعل مثلاً قد يكون حلالاً بالشرع فيحرمه الإنسان على نفسهِ أو
يقصد تركه قصدًا.
فهذا الترك إمّا أنْ يكون لأمر يعتبر مثله شرعًا أو لا، فإن كان لأمر يعتبر فلا
حرج فيه، إذ معناه أنه ترك ما يجوز تركه أو ما يطلب بتركه [3] كالذي يحرِّم على
نفسه الطعام الفلاني من جهة أنه يضره في جسمه أو عقله أو دينه وما أشبه ذلك،
فلا مانع هنا من الترك. بل إن قلنا بطلب التداوي للمريض فإن الترك هنا مطلوب،
وإن قلنا بإباحة التداوي فالترك مباح، فهذا راجع إلى العزم على الحمية من
المضرات. وأصله قوله عليه السلام: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة
فليتزوج - إلى أن قال - ومن لم يستطع فعليه بالصوم) [4] الذي يكسر من شهوة
الشباب حتى لا تطغى عليه الشهوة فيصير إلى العنت.
وكذلك إذا ترك ما لا بأس به حذرًا مما به البأس فذلك من أوصاف المتقين،
وكتارك المتشابه حذرًا من الوقوع في الحرام واستبراءً للدين والعرض.
وإن كان الترك لغير ذلك، فإما أن يكون تدينًا أو لا. فإن لم يكن تدينًا
فالتارك عابث بتحريمه الفعل أو بعزيمته على الترك. لا يسمى هذا الترك بدعة
إذ لا يدخل تحت لفظ الحد إلا على الطريقة الثانية القائلة: أن البدعة تدخل في
العادات. وأمّا على الطريقة الأولى فلا يدخل. لكن هذا التارك يصير عاصيًا بتركه
أو باعتقاده التحريم فيما أحلّ الله.
وأما إن كان الترك تدينًا فهو الابتداع في الدين على كلتا الطريقتين، إذ قد
فرضنا الفعل جائزًا شرعًا فصار الترك المقصود معارضة للشارع في شرع التحليل [5]
وفي مثله نزل قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ
اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} (المائدة: 87) ، فنهى أولاً عن
تحريم الحلال. ثم جاءت الآية تشعر بأن ذلك اعتداء، وأن من اعتدى لا يحبه الله.
وسيأتي للآية تقرير إن شاء الله؛ لأن بعض الصحابة هَمّ أن يحرم على نفسه
النوم بالليل، وآخر الأكل بالنهار، وآخر إتيان النساء، وبعضهم هَمّ بالاختصاء،
مبالغة في ترك شأن النساء. وفي أمثال ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:
(من رغب عن سنتي فليس مني) .
فإذًا كل من منع نفسه عن تناول ما أحل الله من غير عذر شرعي فهو خارج
عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم. والعامل بغير السنة تدينًا هو المبتدع بعينه.
(فإن قيل) فتارك المطلوبات الشرعية ندبًا أو وجوبًا هل يسمى مبتدعًا أم لا؟
(فالجواب) إن التارك للمطلوبات على ضربين: (أحدهما) أن يتركها لغير
التدين إما كسلاً أو تضييعًا أو ما أشبه ذلك من الدواعي النفسية فهذا الضرب راجع
إلى المخالفة للأمر. فإن كان في واجب فمعصية، وإن كان في ندب فليس بمعصية
إذا كان الترك جزئيًّا، وإن كان كليًّا فمعصية حسبما تبيّن في الأصول،
(والثاني) أن يتركها تدينًا. فهذا الضرب من قبيل البدع حيث تدين بضد ما شرع
الله. ومثاله: أهل الإباحة القائلين بإسقاط التكليف إذا بلغ السالك عندهم المبلغ الذي
حَدُّوه:
فإذًا قوله في الحد (طريقة مخترعة تضاهي الشرعية) يشمل البدعة
التركية كما يشمل غيرها؛ لأن الطريقة الشرعية أيضًا تنقسم إلى ترك وغيره.
وسواء علينا قلنا إن الترك فعل؛ أم قلنا إنه نفي الفعل على الطريقتين
المذكورتين في أصول الفقه.
وكما يشمل الحد الترك يشمل أيضًا ضد ذلك، وهو ثلاثة أقسام: قسم الاعتقاد،
وقسم القول، وقسم الفعل. فالجميع أربعة أقسام. وبالجملة فكل ما يتعلق به
الخطاب الشرعي يتعلق به الابتداع. اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(*) الكتاب للإمام أبي إسحاق الشاطبي الأندلسي صاحب كتاب (الموافقات) في أصول الشريعة وحكمها، وهو يطبع الآن بمطبعة المنار على نفقة دار الكتب الخديوية التابعة لنظارة المعارف المصرية، فنبشر علماء الإسلام بذلك، وننشر لهم هذا النموذج منه.
(1)
هذا هو الصواب ولا يغترن أحد بترغيب الخطباء الجاهلين في ذلك، ولا بالحديث الذي
يذكرونه على منابرهم وهو: (إذا كانت ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها، فإن الله ينزل فيها لغروب الشمس إلى سماء الدنيا فيقول: ألا من مستغفر فأغفر له! ألا مبتلى فأعافيه! ألا كذا حتى يطلع الفجر) فإن هذا حديث واهٍ أو موضوع، رواه ابن ماجه وعبد الرزاق عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، وقد قال فيه ابن معين والإمام أحمد: إنه يضع الحديث. نقل ذلك محشي سنن ابن ماجه عن الزوائد، ووافقه الذهبي في الميزان في الإمام أحمد، وذكر عن ابن معين أنه قال فيه: ليس حديثه بشيء. وقال النسائي (متروك) .
(2)
كذا في الأصل فليراجع الحديث وليضبط.
(3)
لم يظهر لنا معنى الباء فالظاهر أنها زائدة من الناسخ.
(4)
تتمة الحديث بعد كلمة الصوم (فإنه له وجاء) فقوله (الذي يكسر من شهوة الشباب
…
إلخ)
من كلام المصنف يبين به علة كون الصوم وِجَاء. وهو إضعاف الشهوة على رأي الجمهور. وهو لا يظهر إلا في الصوم الكثير مع التقشف والاكتفاء عند الفطر بقليل الطعام، وإلا فإن الصوم من أسباب الصحة وزيادة القوة، حتى في المعيشة المعتدلة؛ وحينئذٍ يكون وجه الشبه بين الوجاء الذي هو دق عروق خصيتي الفحل المضعف أو المزيل لشهوته - وبين الصوم هو كون الصوم سبب التقوى، كما قال الله تعالى في تعليل فرضيته:[لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ](البقرة: 183) ؛ فمن أكثر من الصوم وترك ما يشتهي من الطعام والشراب المباحين لوجه الله تعالى يستفيد فائدتين: إحداهما ملكة مراقبة الله تعالى الذي يترك طعامه وشرابه لأجله. والثانية ملكة ترك الشهوات التي يحتاج إليها كل يوم فتقوى إرادته وعزيمته، فيسهل عليه ترك سائر الشهوات ومنه غض بصره وإحصان فرجه.
(5)
إن أهل الآستانة لا يأكلون لحم الحمام، فهو يعشش ويفرخ في مساجدهم وبيوتهم ولا يأكل أحد منه شيئًا، بل يتحرجون من ذلك وينكرونه، والظاهر أن عامتهم يعتقدون أن أكله حرام، أفلا يجب في هذه الحال على العلماء مقاومة هذه البدعة التركية بالقول والفعل.
الكاتب: صالح مخلص رضا
تقريظ المطبوعات الجديدة [*]
(كتاب الهدى إلى دين المصطفى)
(الجزء الأول منه لمؤلفه
…
النجفي في مدينة (سُرَّ مَنْ رَأَى) بالعراق، طبع بمطبعة العرفان طبعًا نظيفًا على ورق متوسط ص 392 بقطع المنار ثمنه 20 قرشًا، ويباع في مكتبة المنار بمصر) .
كثر دعاة النصرانية في هذه البلاد كما كثروا في كل بلد دخله النفوذ الغربي،
دخلوا القرى بدون إذن أهلها، وجاسوا خلال الديار رائدين الفتنة والتفريق، وقد
كان المسلمون - عامتهم وعلماؤهم - لا يحفلون بما يبثه هؤلاء الدعاة بين
المسلمين لسخافته وبداهة بطلانه، وليس في هذه البلاد من أثقله وزر آدم فيأتي هؤلاء
الذئابَ يحتمي منه في حظيرتهم، ولا من ضاق صدره بتوحيد الله عز وجل فيجيء
هؤلاء المعددين ليجد له عندهم متسعًا في ثالوثهم، ولا من حصر صدره بعصمة
الأنبياء الهداة حتى يتحكك بهؤلاء الكتبة؛ ليثلجوا صدره ويجرّؤه على المعاصي
بقصة نوح مع ولديه أو إبراهيم مع امرأته أو يهوذا مع كنَّته أو داود مع امرأة قائده
أو سليمان مع أصنام نسائه أو ابن يعقوب مع امرأة أبيه أو يعقوب مع ملاك ربه أو
لوط مع بنتيه.. إلخ. بل إن المسلمين ليسوا بمحتاجين مسيحهم الخيالي (وهو غير
مسيح الله عليه السلام الذي يدعي هؤلاء الصدوقيون أنهم يعبدونه وينكرون
سيرته الإنجيلية ويرون عصمته عن السكر وعن غسل أرجل التلاميذ وعن طرد
أمه وإخوته وإنكاره لها وعن البخل بهداية الكنعانية، إلى غير ذلك مما نراه في
أناجيلهم.
لا خوف من هذه التعاليم على عامة المسلمين فضلاً عن علمائهم، ولكن
السكوت على باطلهم خيَّل إليهم أنهم على حق فتفننوا في طرق دعوتهم حتى إنهم
ليصدرون بعض كراريسهم بالآيات القرآنية أو بخطب تضارع الخطب التي
اصطلح بعض الخطباء الرسميين على تلاوتها يوم العيد وأيام الجمع.. إلخ. كل
ذلك ليدخلوا إلى قلوب المسلمين فيفسدوا عليهم ما بقي لهم من دينهم، ويحلوا
الروابط التي تربطهم بأمتهم. ولذلك قام العلماء في جميع الأقطار يرسلون شهب
ردودهم فتخمد أنفاس شياطين التفريق، وأول من كتب في الرد عليهم في هذا
العصر بعقل وبحث وروية الشيخ رحمة الله الهندي ثم تبعه قوم آخرون هم عيال
عليه في هذا الباب. ثم رأينا مثالاً له في هذه الآونة من رسائل الدكتور صدقي
وكتاب النجفي، وهو هذا المؤلَّف الذي هو نتيجة بحث علمي وتمحيص المسائل
وتحقيقها.
فحيّا اللهُ العلامة النجفي فقد دحض مزاعم دعاة النصرانية بكتابه هذا وقذف
بحقه على باطلهم فإذا هو زاهق ولهم الويل مما يصفون.
وضع كتابه هذا ردًّا على كتاب (مقالة في الإسلام) لسايل الإنكليزي المترجم
بالعربية وعلى الكتاب البذيء المسمى بالهداية الموضوع للرد على كتاب (إظهار
الحق) ، وكتاب (السيف الحميدي) فهدم أركانها وقوّض بنيانها بالأدلة العقلية
والنقلية بعبارة طلية جلية، فيجدر بمن عني بالرد على هؤلاء المشاغبين أن يطلع
على هذا الكتاب.
***
(كشف الأستار عمّا لحقوق الدول من الأسرار)
الجزء الأول بقلم صبحي أباظه طبع بمطبعة العرفان بصيدا سنة 1331 ص
125 بقطع المنار ثمنه 20 قرشًا يطلب من مكتبة المنار بمصر.
اسم الكتاب يدل على موضوعه وفيه فوائد جمّة جاءت من طريق الاستطراد.
***
(في التربية والتعليم)
تأليف محمد أمين. طبع بمطبعة التقدم بمصر على ورق جيد. ص 114
بالقطع الصغير، ثمنه خمسة قروش ويطلب من مكتبة المنار بمصر.
مواضيع الكتاب - بعد مقدمة بقلم أحمد بك لطفي السيد مدير الجريدة -: (1)
الشكوى. (2) تشخيص العلة. (3) وصف الدواء؛ ثم الأطوار الثلاثة، في
البيت والمدرسة والمجتمع. (4) التربية الحسية والعملية والأخلاقية؛ ثم الخاتمة.
والكتاب مجموعة مقالات نشرت في الجريدة ثم طبعت على حِدَتها غير مصدَّرة
بالبسملة ولا الحمدلة، على سنة من يتفصون من كل ما يربطهم بالأمة الإسلامية
من الشعائر والمقومات والمشخصات.
***
مرشد المترجم الصغير (لطلبة الشهادة الابتدائية)
تأليف محمد السيد بك وكيل مدرسة المعلمين الناصرية وعوض إبراهيم بك
وكيل المدرسة السعيدية. طبع بمطبعة المعارف طبعًا نظيفًا ص 140 بالقطع
الوسط. ثمنه خمسة قروش، ويطلب من مكتبة المعارف ومكتبة المنار بمصر.
وضعه مؤلفها لطلبة الشهادة الابتدائية وتوخيًا في تذليل عقبات الترجمة من
العربية إلى الإنكليزية وبالعكس، وتسهيلها على التلميذ بشرح المفردات التي يهتدي
إليها بسهولة، وقد اطّلع عليه المستر استيفنز معلم الإنكليزية بمدرسة المعلمين
الناصرية. والكتاب يفيد التلميذ علمًا بالشئون الاجتماعية بمواضيعه المفيدة.
***
(الأجوبة المسكتة)
تأليف أحمد أفندي صابر من مستخدمي (نظارة الأوقاف) وقد طبع الطبعة
الثانية بمطبعة الجمالية بمصر؛ مع زيادات وتحسينات، ص 252 بقطع رسالة
التوحيد.
ثمنه خمسة قروش، ويطلب من مكتبة المنار بمصر، وهو غني عن التعريف.
***
(غاية الإنسان)
كتاب في الفلسفة الأدبية مفيد وضعه الفيلسوف جافينون وترجمته وسيلة محمد
مترجمة (روح الاعتدال) وناهيك بها سلاسة وجوده. ص 160 بقطع سابقه.
طبع بمطبعة المعارف طبعًا نظيفًا. ثمنه خمسة قروش ويطلب من مكتبة المعارف
ومكتبة المنار بمصر.
***
(أرجوزة ابن المعتز)
طبعت في المطبعة الجمالية بمصر سنة 1330 على نفقة ابن منصور في 24
ص بقطع رسالة التوحيد، على ورق جيد ثمنها قرش صحيح واحد، وتطلب من
المكاتب المصرية، وموضوع الأرجوزة تاريخ المعتضد بالله العباسي، وما هو
بالتاريخ الذي يعتد به.
***
نشوء الاجتماع (الجزء الأول منه)
تأليف بنيامين كد وتعريب محمد زكي صالح في طنطا طبع بمطبعة الأخبار
بمصر سنة 1913 على ورق جيد ص 135 بقطع (الإسلام والنصرانية) ثمنه
خمسة قروش، ويطلب من مكتبة المنار بمصر.
مواضيعه بعد مقدمة المترجم التي ألمت بموضوع الكتاب وآراء العلماء
والجرائد فيه هي: (1) الحاضر (2) أسباب الارتقاء (3) العقل لا يؤيد
أسباب الارتقاء (4) أجلى طبيعة في التاريخ الإنساني (5) وظيفة العقائد الدينية
في نشوء الاجتماع.
والكتاب مفيد في موضوعه، منبه للعقل موقظ للقوة المفكرة. وأرى أن
أستعير لتقريظه كلمة الأستاذ (ويسمن) الألماني التي كتبها في مقدمة الترجمة
الألمانية وهي: (لا أرمي إلى تحليل هذا الكتاب الفذ؛ بل أقول: إنه جدير بالنظر
والاعتبار
…
إلخ) والمرجو أن يظهر المعرب الجزء الثاني منه وأن يعتني
بترجمته وبتصحيحه ليسلم من مثل الأغلاط التي في الجزء الأول.
***
(كتاب آداب العرب)
تأليف إبراهيم بك العرب. طبعته نظارة المعارف على نفقتها في المطبعة
الأميرية سنة 1911 وقررت تدريسه في مدارسها الابتدائية وفي مدارس المعلمين
والمعلمات ويطلب من مخزن المعارف.
الكتاب مجموعة مواعظ منظومة على ألسن الحيوان والطير على نمط كتاب
الصادح والباغم.
***
(المطالعة الفصيحة لأمهات اليوم والغد)
الجزء الأول منه تأليف الشيخ مهدي أحمد خليل المدرس بمدرسة المعلمات في
بولاق. الطبعة الأولى منه سنة 1331 ص 205 بقطع رسالة التوحيد، ثمنه
خمسة قروش، ويطلب من مكتبة المنار بمصر.
الكتاب أدبي اجتماعي لغوي كبير الفائدة، ولذلك قررت نظارة المعارف
تدريسه لجميع تلميذات مدارس البنات العالية والابتدائية والخصوصية.
***
(محاسن الطبيعة وعجائب الكون)
تأليف اللورد (أفري) ترجمة وديع البستاني. ص 264 بالوسط طبع مطبعة
المعارف، وثمنه خمسة قروش، ويطلب من مكتبة المنار ومكتبة المعارف.
أبحاث الكتاب: تمهيد، عالم الحيوان، والنبات، والحقول والحراج، والماء،
والبحر، ثم القبة الزرقاء. وهو يجول في هذه الأبحاث جولة المفكر المتعقل
المعتبر. وإذا كان هذا الكتاب أسمى معاني وأكثر دقة من سائر ما قرأنا من مؤلفات
لورد أفري التي عربها وديع البستاني فإن ترجمته أصح وأسلم وأقل غلطًا من
جميعها أيضًا.
***
(رواية جزيرة الذهب)
مترجمة عن الألمانية بقلم ماري إبراهيم نجار، طبع الجزآن الأول والثاني
منها بمطبعة جريدة الهدي في نيويورك على نفقتها فكانت ص 254 بالقطع الوسط
وموضوعها تحويل الأفكار عن عبادة الذهب، وتضحية كل شيء في سبيل
الحصول عليه؛ إلى فكرة الإنسانية الراقية وما أجدر هذه المترجمة العاقلة الفاضلة،
باختيار هذه القصص المفيدة النافعة.
***
(مجلة العلوم الاجتماعية)
مجلة تصدر في بيروت تبحث في الحقوق والاقتصاد والاجتماع، سنتها
عشرة شهور شمسية تبتدئ من أيلول (سبتمبر) من كل سنة. الجزء منها 322
ص. منشئها المحامي توفيق أفندي الناطور المتخرج في مدرسة الحقوق في باريس،
ومدير تحريرها الشيخ محمد منيب أفندي الناطور من تلاميذ الأزهر ومدرسة
القضاء الشرعي.
قيمة اشتراكها في البلاد العثمانية ريالان مجيديان، وفي البلاد الأجنبية
عشرة فرنكات.
وإن في سعة منشئها ومديرها وتوخيهما النفع لها ما يوجب الإقبال عليها لما
يختاران نشره فيها من العلوم والفوائد التي أصبحت في هذا العصر حاجة من
حاجات الأمة، فنحن نرجو لها الرواج والنجاح، ونعده عنوانًا لاستعداد الأمة
للارتقاء. وقد فتحت بابًا لأدبيات اللغة العربية فضمت إلى فوائدها العلمية هذه
الفائدة اللغوية ويمكن الاشتراك فيها بواسطة مجلة المنار ومكتبته.
_________
(*) كتب تقاريظ هذا الجزء شقيقنا السيد صالح مخلص رضا.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الشيخ علي يوسف
(3)
فصل في بقية الكلام على سياسته المصرية
بينَّا أن سياسة الشيخ في المؤيَّد كانت تدور في أول العهد على ثلاثة أقطاب:
(1)
تأييد سلطة الأمير ونفوذه (2) مقاومة نفوذ الاحتلال الإنكليزي (3)
الاعتماد في هذه المقاومة على نفوذ الدولة العثمانية وحقوقها الرسمية في مصر.
وكذا على نفوذ فرنسا ومصالحها السياسية فيها، وأنها بعد طول الاختبار وتغير
الحوادث طرأ عليها بعض التغيير. ونزيد ذلك بيانًا فنقول - وإن كررنا بعض
المعاني -:
إنه بعد حادثة فشودة علم المترجم أن الاتكال أو الاعتماد على عهود دولة
أوربية لا يكون إلا دون الاتكال على المواعيد العرقوبية، وأنه بعد اختبار السياسة
العثمانية بالغوص في أعماق الحوادث التي بيانها وبين أوربا، وبلقاء كبار رجالها
في الآستانة ومصر وأوربا، علم أنه لا يتكل عليها في شيء، وأن الذي يبني
عمله على الرجاء فيها فإنما يبني على شفا جرف؛ إذ لا يؤمن خذلانها له في كل
عمل، فاكتفى من خدمة الدولة فيما يسمونه المسألة المصرية بالمحافظة على حقوقها
الرسمية في مصر، وجعل فرماناتها الرسمية لأمراء مصر ركن استقلالها الركين،
الذي يصد به بعض ما يخشى من هجمات الاحتلال عليه. وأما فرنسة وسائر دول
أوربة فقد علم كما يعلم كل خبير بصير أنها دول تجارية تَتِّجر بالأمم والشعوب
والدول، وأنها لا تراعي في تجارتها حقًّا ولا عدلاً، ولا رحمة ولا فضلاً، وإنما
رأس مالها القوة والحيلة والأثرة، فلا يقدر أن يستفيد منها إلا من جعل منفعته
وسيلة إلى منفعتها، وهيهات أن يتسنى لأدنى أن يستخدم لمنافعه من هو أعلى منه
قوة وعلمًا. وما كل من تنفعه تقدر أن تستخدمه، وناهيك بدول أوربة ومعارضة
بعضها لبعض في سياستها أو مطامعها في بلادنا، فإذا أراد بعضها أن ينفعنا قليلاً
لينتفع منا كثيرًا، عارضه في ذلك من يكره لنا هذه المنفعة ويراها عقبة في طريق
مطامعه فينا.
وكان الفقيد يعلم أيضًا أن شعوب أوربة خير من حكوماتها، وأن فيهم كثيرًا
من الأحرار ومحبي الحق والخير لكل البشر، وأن رأي الشعب العام له السلطان
الأعلى على الحكومات؛ فلهذا كان يرى أخيرًا أنه ينبغي أن يكون للمصريين صلة
ببعض أهل الفضيلة من أحرار الإنكليز لعلهم يستعينون بهم على مقاصدهم،
وإيصال ما يشكون منه بحق من إنكليز مصر إلى إنكليز لندرة، حتى لا تكون
الشؤون المصرية محجوبة عن محبي الإنصاف، لا يعرفون منها إلا ما يكتبه عميد
إنكلترا في مصر إلى ناظر الخارجية في لندرة وبعض مراسلي الجرائد. والعلم بهذا
الرأي إما أن ينفع وإما أن لا يضر. ولكن عارضه فيه أحداث الوطنية في جريدة
اللواء وما أحدثوه بعد مصطفى كامل من الجرائد كدأبهم وعادتهم، وقد بينا وجه ذلك
عندهم في هذه الترجمة.
***
(الجرائد والأحزاب بمصر)
ونقول ههنا: إن السياسة في مصر لا مظهر لها إلا الجرائد، وقد تألفت
الأحزاب لأجل الجرائد ومديري سياسة الجرائد، ولم يستطع حزب من الأحزاب أن
يجعل جريدة أكثر رواجًا وقبولاً من جريدة أخرى عند الرأي العام بمصر.
وقد سبق القول بأن الجرائد العربية المؤثرة في الجمهور المصري كانت ثلاثة:
الأهرام والمقطم والمؤيد، وأن التنازع إنما كان أولاً بين الأهرام والمقطم؛ ثم
كانت الأهرام تشايع المؤيد بعد ظهوره لاتفاقه معها في الميل إلى السياسة الفرنسية
التي تعد الأهرام هي الركن الأول لها؛ ولأن مشايعته على المقطم كانت تعد من
آيات صدق الخدمة الوطنية لمصر. ولما انقطع أمل المصريين من فرنسة صارت
جريدة الأهرام في المرتبة الثانية بين الجرائد اليومية؛ بل كادت تموت من شدة
ضعفها؛ لولا أن تداركها همّة بشارة باشا تقلا القوية ومَن ساعده على تحريرها من
أذكياء الكتاب، وأعانه على ذلك ثقة جمهور التجار والزراع بأخبارها التجارية.
بذلك انتعشت بعد أن سقطت، وارتفعت بعد أن انخفضت، وحفظت مكانتها بين
الجرائد اليومية الكبرى، فإن لم تعد رأسًا في سياسة خاصة فهي رأس في الثروة
والمباحث العامة. ولا يضاهيها في هذين الأمرين إلا المقطم. فهما الآن في مقدمة
الجرائد المصرية في الثروة، وسعة الأخبار العامة، والقدرة على التصرف في
الكلام عن الشؤون المصرية، على أنهما لم تتألف لهما أحزاب، وإنما تلك كفاءة
أصحابهما ومحرريهما، والجمع بين حسن الإدارة، والبراعة في الكتابة.
وقد تألف في مصر ثلاثة أحزاب سياسية حول ثلاث جرائد يومية، هن أكبر
جرائد مسلمي هذا القطر وأوسعها انتشارًا: المؤيد واللواء والجريدة، ولم يكن لواحدة
منهن دخل يوازي دخل المقطم والأهرام إلا للمؤيد، فقد كان أوسع منهما انتشارًا
وعلى مقربة منهما في المال، ولو أتيح للمؤيد مدير مالي يسير بإدارته سيرة
أصحاب تينك الجريدتين لكان أوسع الجرائد ثروة، على أن الشيخ رحمه الله عاش
به في سعة ورخاء، كما يعيش الأمراء والكبراء، حتى تورط في شراء الدور
وأراضي البناء، في إبان إسراف الناس في التغالي بها، فركبته الديون وجاءت
سنوات العسرة المالية فأتت على تجميع ما في يده، وكادت تذهب بالمؤيد نفسه،
لولا أن تداركه بتأسيس شركة مساهمة له، فحالت دون موته، لا دون مرضه، فقد
مرض المؤيد أمراضًا أشرفت به على الموت عدة مرار، وصارت حركة ظهوره
كحركة المذبوح أو حركة الاستمرار، وهو لا يزال محتاجًا إلى تجديد الحياة، وإنما
يكون ذلك بحسن الإدارة والنظام، وجعل التحرير على الوجه الذي بيناه من قبل،
وهو ما به يظل المؤيد صاحب التأثير الأول في كل ما يتعلق بمصالح المسلمين في
مصر، وكذا في غيرها، ثم بالمصالح المصرية والعثمانية. فإذا قصَّر المؤيد في
هذا الأمر - الذي لم يكن لولاه أمرًا ذا بال - يحكم عليه الرأي العام الإسلامي بالعدم
والزوال، ويطلب بلسان حاله جريدة تحل محله حتى ينهض بها مَن يؤهله
الاستعداد من الشركات أو الأفراد.
وجملة ما نريد الاعتبار به أن المؤيد قد جعله مشربه الإسلامي والمصري
فوق جرائد القطر كلها، بل جعله حاجة طبيعية، مِنْ حَاج البلاد المصرية
فالإسلامية، ولقي من المساعدة والإقبال ما لم يلق غيره، ومع هذا كله لم يستطع
أن يكون في ثبات الأهرام والمقطم وفي مثل ثروتهما، ولا في المحافظة على
إشعار الجماهير بحاجاتهم إليه، وبأنه لا بد لهم في الحوادث الطارئة من رأيه،
وقد ألف صاحبه له حزبًا سياسيًّا سماه (حزب الإصلاح على المبادئ الدستورية)
فلم يفده قوة تذكر، ولا رد عنه غارة تشن، وإنما كانت قوته المعنوية في هجومه
ودفاعه سنان قلم الشيخ علي، وحسن استعماله لأسنة الأقلام التي كانت تساعده،
ومنها ما كان أنفذ من سنانه في بعض الشؤون وأقتل. فلما مرض الشيخ مرض
المؤيد، ولما مات خشي الناس أن يموت كما مات حزبه، ولكن الشركة المالية
تداركت حياته المادية، وعسى أن توفق لتدارك حياته المعنوي، فإن لم يتم هذا يفقد
مسلمو مصر الانتفاع بقوتهم المعنوية، ولا يبقى لهم قائد منهم في حياتهم السياسية
والأدبية، ولا مدافع يؤثر صوته في مصالحهم الدينية، فالشعب جريدة أحداث
جهال، والجريدة ليست إسلامية المشرب، والأهالي كذلك، على أنها ولدت سقطًا
كما قال أحد الأدباء. فالجريدة الإسلامية المصرية هي المؤيد، فإذا مات يعسر
وجود خلف له. وإنني بهذه الحرية في النصيحة، ربما أثير على نفسي حقدًا قديمًا
وعداوة جديدة، ولا أبالي ذلك في سبيل مصلحة المسلمين، على أنني لست على ثقة
من قبولها، والله الموفق.
وأما اللواء فقد بينا أن منشئه تربى في مدرسة المؤيد السياسية، فكان تلميذًا له،
إلا أنه عقه وكفره، وكان يحسب أنه يبذه أو يكون ناسخًا له؛ لأنه يبالغ ويغلو في
كل المقاصد التي صار المؤيد يسلك سبل الاعتدال فيها، كمدح السياسة الحميدية،
وذم الحكومة المصرية، ومقاومة الاحتلال بالذم والاحتجاج، وذلك أن الناس كانوا
قد ألفوا بعض المبالغة من المؤيد، فإذا أرجعته عنها الحكمة والخبرة، يعد عوامّهم
وشبانهم ذلك من تغيير الخطة، ومن دأب الأحداث والعوام، حب الإغراق والغلو
في الكلام، وناهيك بما يتعلق منه بالسياسة والحكام. وقد بذّ اللواءُ المؤيَّدَ في
المبالغة بهذه المقاصد، وانفرد دونه بدعوة مسلمي مصر إلى تكوين رابطة جنسية
وطنية، لكنها رابطة تنافي إخاء الإسلام ولا ترضي القبط وسائر طوائف النصرانية.
صادف اللواء من مساعدة الآستانة ومساعدة بعض أمراء مصر وأغنيائها ما لم
تصادفه جريدة أخرى. حتى كان يبذل له الذهب بالألوف، وهو على هذا كله لم
يتسع انتشاره إلا بعد سنين من إنشائه، ثم إنه غلب المؤيد على استمالة أكثر تلاميذ
المدارس وكثير من العوام، وصار المؤيد باعتداله -على رضاء أكثر العوام عنه-
جريدة الخواص.
لم يستطع اللواء أن يصل بكل ذلك إلى أن يكون كجريدة الأهرام أو المقطم
في ثباتهما وثروتهما، وقد ألف صاحبه له الحزب الوطني الحديث [1] وألف شركة
رأس مالها عشرون ألف جنيه لأجل إصدار لواء أو لوائين آخرين باللغتين
الفرنسية والإنكليزية، وإنما كانت هذه الشركة صورية لا غرض منها إلا بذل ذلك
المال لمصطفى كامل يتصرف فيه؛ كما يشاء كما يفهم من قانونها وقد فعل. أضاع
هذا المال - كما أضاع ما سبقه من الإعانات مع كل غلة اللواء ومطبعته - في
السرف والمخيلة والمضارات، وطفق ينشد في اللواء شركاء يشترون سهامًا
أخرى من الشركة؛ فلم يستجب لرقيته أحد، ولم يلبث مصطفى باشا كامل
أن مرض وضاعف ثقل المرض عليه همّ الدين والعوز، وفي أثناء مرضه ألف
الحزب الوطني الحديث [1] وكل ذلك لم يغن شيئًا. ومات (كما مات صاحب المؤيد
بعده) مثقلاً بالديون، فقد تبين أن عليه عشرات الألوف من الجنيهات. وقد حجز
الدائنون مطبعة اللواء، وبيع أثاث زعيم الوطنية في محل رجل رومي يبيع الأثاث
بالمزاد، ثم مات اللواء بعد أن اضطر أصحابه إلى استخدام بعض الكتاب من نصارى
السوريين لتحريره وقد كان أعدى أعدائهم، وبعد أن انشق الحزب وأنشأ - بسعي
محمد بك فريد؛ رئيسه - جريدة لتكون لسان حاله سماها العلم (بالتحريك) ناط
رياسة تحريرها بالشيخ عبد العزيز شاويش، فكانت دون اللواء؛ أحط منه في كل
شيء إلا الغلو والإسراف في الكذب، والإرجاف والطعن في الشعوب والأفراد.
لذلك اضطرت الحكومة إلى إلغائها بعد أن حوكم رئيس تحريرها (شاويش)
غير مرة، وحكم عليه بالسجن وسجن.
في أثناء هذه الحوادث كان المتحمسون من رجال الحزب الوطني وآخرون
ممن يودون استمالة محبي الرجل من التلاميذ يجمعون المال لنصب تمثال له،
يخلدون به ذكره، ولو راعوا الآداب الإسلامية لحافظوا بهذا المال على جريدة
اللواء، وانتقوا لها محررين من العقلاء الأدباء، فإن هذا هو الذي يحفظ ذكره كما
حفظ الأهرام اسمي سليم تقلا وبشارة تقلا، فما من يوم إلا ويقرأ الأهرام ألوف من
الناس يرون هذين الاسمين ويتذكرون مؤسسي هذه الجريدة المرتقية، وفي مصر
عدة تماثيل لا يخطر أصحابها لأحد على بال حتى عند رؤيتها ماثلة بالشوارع.
وأما (الجريدة) فالعبرة بها أعظم فقد أنشأها جماعة من سروات البلاد
أصحاب الثروة والمكانة الاجتماعية، وحصلوا لها رأس مال عظيم، ووضعوا لها
قبل إنشائها قانونًا من أدق القوانين، وأسسوا لها مطبعة من أرقى المطابع، وجعلوا
إدارتها ومطبعتها في قصر من أحسن القصور، واختاروا لها مديرًا من أذكى
الكتاب وأعلمهم بالسياسة والقوانين، واختار هو من المحررين من سبق لهم التمرن
على الكتابة حتى في إدارة الأهرام وإدارة المقتطف والمقطم.
وألف أولئك السروات المؤسسون لها حزبًا سياسيًّا يكفلها سموه (حزب الأمة)
فهي قد ولدت بالغة راشدة فلم تكن كالمؤيد واللواء طفلاً ينمو في إدارته رويدًا
رويدًا، ولكنها - على كل هذه المزايا - لم تستطع أن تجد لها مقعدًا ولا موقفًا من
المكان الفسيح الذي وجده قبلها المؤيد أو اللواء من قلب الرأي العام المصري، ولم
تستطع أن تنال من جيبه بعض ما ينال المقطم أو الأهرام، بل كانت تحتاج كل سنة
إلى إمداد أولئك السروات لها بمالهم، على أنها ليست في الحقيقة لسان حالهم، وسبب
ذلك كله أن الروح الذي نفخ في هذه الجريدة لتحيا به ليس إسلاميًّا، وإنما هو فلسفة
خاصة لا تكاد تتجاوز دماغ مدير الجريدة وأدمغة بعض أصدقائه من المحامين
وغيرهم (الذين هم حزب الجريدة المعنوي لا المالي) إلا بتدرج بطيء جدًّا، ثمّ إنه
لا يرجى أن يعم، وليس من الحكمة، ولا مما يبيح الاقتصاد أن يكون له جريدة توقف
عليه في مثل هذه البلاد التي لم تستعد لأن تعيش فيها جريدة أو مجلة خاصة بشيء
واحد ممّا تعمّ الحاجة إليه كالاقتصاد والزراعة أو الأدب، ودع الفلسفة بجملتها،
دون مذاهب الأفراد فيها فقط.
وجملة القول أن الجريدة لا ترمي عن قوس عقيدة مسلمي مصر، ولا تصلح
للتأثير بالرأي العام المصري ولا فيه، فهي لا تستطيع أن تخدمه كما يجب، ولا أن
تستخدمه كما نحب؛ لأن روحها غير إسلامي، فلا هي لسان حال المسلمين، ولا
لسان الذين أسست بأموالهم منهم، وهم لم يستمروا على الإنفاق عليها إلا لما
يشعرون به من الغضاضة عليهم إذا ألغوها وأبطلوها، ولا يرجى لها بهذا المشرب
أن تبلغ شأو المقطم أو الأهرام من نفوس الناس ولا من الرواج والربح.
فظهر ما شرحناه أن الأحزاب في مصر لا عمل لها ولا تأثير إلا بالجرائد،
وأن الجرائد بالرجال الذين يتولون سياستها وإدارتها، وأنه لم توجد بمصر جريدة
للمسلمين حسنة الإدارة والنظام اللهم إلا الجريدة في الجملة أو في ضبط الأعمال
المالية وأن جريدة المؤيد هي الجريدة الإسلامية السياسية التي أوجدتها الحوادث
وكفاءة الشيخ علي يوسف في مكانه من الرأي العام الإسلامي يعرفها لها أهل
السياسة في أوربة ويعدونها لسان حال مسلمي مصر وغير مصر أيضًا. وحذت
جريدة اللواء حذوها، ولم تبلغ شأوها؛ لأن صاحب المؤيد كان في السياسة الإسلامية
مستقلا، وصاحب جريدة اللواء كان فيها مقلدًا، وإنما كان حظه منها بقدر ما اقتبس
من سياسة المؤيد. وكل ما خالف المؤيد كان خطأ في جملته، إن لم يكن خطأ في
كل فروعه وجزئياته، ولكن الغيرية لا تكون إلا بالمخالفة في بعض الشؤون،
فصاحبا المؤيَّد واللواء هما أوجدا المؤيد واللواء، وقد كان لسوء تصرفهما المالي
دخل عظيم في إضعاف جريدتهما، حتى ماتت إحداهما بعد موت صاحبها بعدما
أشرفت على الموت المالي في عهده، ويخشى أن تموت الأخرى مثلها، إن لم يعن بها
أهل الغيرة والبصيرة عناية يراعى فيها ما بيناه في هذه الترجمة مرارًا.
فيجب على مسلمي مصر أن يتدبروا هذا النقص العظيم، وأن يتذكروا أن
شعبهم المستعد للعلم والأدب والتربية السياسية والاقتصادية، هو الذي جعل الأهرام
والمقطم أغنى الجرائد في بلاده، لأن أصحابهما عرفوا كيف يخاطبونه بحسب
استعداده، وهو قد ساعد المؤيد واللواء ما لم يساعدهما، فيجب على من يخدمه أن
يخاطبه بلسان استعداده. وأن يتذكروا أن (مصر) و (الوطن) الجريدتين
القبطيتين، تليان في الثروة والثبات الأهرام والمقطم السوريتين. ولولا صبيتهما
القبطية لما كانتا دونهما تأثيرًا في نفوس المسلمين. فمن النقص - بل من العار -
على المسلمين أن لا يكون لهم جريدة أو جرائد مثل هذه أو أرقى منها في النظام
والثروة، بله التأثير والحظوة.
إن لي أن أفاخر بكفاءة أصحاب المقطم والأهرام ومحرريهما وببراعتهم؛
لأنهم من أبناء وطني الأول الذي هو وطن المولد والمنشأ. وأود - واللهِ - أن أفخر
بمثل عملهم من أبناء ديني ووطني الثاني الذي هو وطن العمل. ولا يسرني من
مثل المقطم والأهرام في مصر إلا ما ينفع المصريين؛ لأن أبناء وطني السوريين
ليس لهم مصالح في مصر إلا ما ينفع المصريين، فهم غير محتاجين إلى جرائد
خالصة لهم من دون المصريين، لأجل هذا يهمني أمر المؤيد، ويسرني أن يكون
أرقى الجرائد المصرية تحريرًا ونظامًا وإفادة واستفادة؛ لأن المسلم أجدر بمعرفة
حاجة الجمهور المسلم وبيانها والدفاع عنها، من مثله في علمه وبيانه من غير
المسلمين، وأقدر على التأثير فيه بحمله على الخير أو صرفه عن الشر، وعلى
التأثير به يجعله مِجَنًّا يدفع به عنه ما يراه ضارّا به. وقد رأيت غير واحد من
المشتغلين بالعلم وبالسياسة من النصارى يتمنون لو ولدوا مسلمين؛ لأجل أن يكونوا
أقدر على خدمة وطنهم أو الشرق الإسلامي كله.
وما أطلت الكلام على الجرائد في ترجمة الشيخ علي يوسف إلا لأذكِّر إخواني
مسلمي مصر بما أراهم غافلين عنه، وهو أنه لم توجد لهم جريدة تصح أن تكون
لسان حالهم بحق إلا المؤيد، وأن الروح الذي كان به المؤيد هو المؤيد يجب أن
يبقى له، ويجب أن يكفل، وأن يكون لهيئة التحرير فيه مع الرئيس الكفؤ، مراقب
موثوق به، مثل سعد باشا زغلول الذي كان ركنًا من أركان تأسيس المؤيد.
وإلا خسر مسلمو مصر خسارة يصعب عليهم الاستعاضة عنها في سنة أو
سنين قليلة، وربّما حرموها الأجيال طويلة، وقد ذكرناهم بما يوجب العبرة من
تاريخ أعظم جرائدهم.
هذا وإن أية جريدة من جرائد المسلمين في مصر يتولى رياسة تحريرها كاتب
خبير بمصالح المسلمين غيور عليها، قادر على الدفاع عنها، يمكن أن تحل محل
المؤيد الأول وأن تكون أكمل منه فيه وأثبت، ولكنْ لا يكون ذلك إلا بعد ثقة
الجمهور المسلم بها، وهذه الثقة إذا استعادها المؤيد في سنة واحدة - لا تنالها جريدة
جديدة بعد سنين كثيرة أو قليلة، ومن ذا الذي ينفق على جريدة جديدة إلا بعد سنين
كثيرة أو قليلة، ومن ذا الذي ينفق على جريدة جديدة عدة سنين، منتظرًا طروء
الحوادث التي تقنع الرأي العام بأنها هي حاجته التي يطلبها لسان حاله واستعداده؟
(للترجمة بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
أول من ألف حزبًا سياسيًّا بمصر باسم الحزب الوطني حكيمنا السيد جمال الدين الأفغاني، والحزب الذي كان يذكره مصطفى كامل في حال صحته لم يكن حزبًا مكونًا بالفعل.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الجامعة الإسلامية والسياسية
(جمعية إسلامية. مدرسة جامعة بالمدينة المنورة. استغلال الحجرة النبوية)
نجدد الخوض في ذكر الجامعة الإسلامية بما ظهر أخيرًا من عناية جمعية
الاتحاد والترقي بالاستفادة من نفوذ الدولة الديني؛ لِما ظهر لها من تأثير الدين في
السياسة، وضرر ما كان من إعراضها عنه، ومن اهتمام مسلمي الأرض كافة
بحرب طرابلس، وحرب البلقان، وبذلهم المال لإعانة الدولة على الحرب بقدر
الإمكان، ومطالبة مسلمي الهند لدولتهم البريطانية بمساعدتها، واستيائهم من ميلها
للبلقانيين، ففي أثناء الحرب ألّفوا في الآستانة جمعية إسلامية خيرية تحت رياسة
أو رعاية ولي عهد السلطنة. وكان أول من بذل المال لتأسيسها بعض وجهاء
المصريين، ويرجون أن يجمعوا لها مالاً جمًّا، وإن لم يعرف العالم الإسلامي أين
ذهب هذا المال وكيف ينفق؟
***
المدرسة الجامعة بالمدينة
وأذاعوا في الأقطار خبر تأسيس مدرسة جامعة في المدينة المنورة ويعبر عنها
الترك باسم (دار فنون) ثم أرسلوا وفدًا إليها في أثناء زيارة الحجاج لها للاحتفال
بالشروع في تأسيس هذه المدرسة المسوِّغ لفتح باب الإعانات لها. ونحن ننتظر أن
نرى نظم هذه المدرسة لنعلم هل موضوعها دار فنون جامعة لكل الفنون والعلوم العالية
كما يفهم من هذه التسمية أم لا، ولنعلم أي اللغات تكون لغة التعليم فيها؟ هل هي
العربية أم التركية؟ ومن أين يأتون بالتلاميذ الذين تلقوا التعليم الابتدائي والثانوي
ليدرسوا فيها الفنون والعلوم العالية؟ وليس في المدينة ولا في الحجاز شيء من هذا
التعليم، ولا نبحث عن المعلمين والكتب قبل أن نعرف لغة التعليم، فإن نظارة
المعارف العثمانية تعتذر عما نطلبه من جعل التعليم في ولايات بالدولة العربية بلغة
أهلها، وأظهر أعذارها عدم وجود الكتب والمعلمين. وقد أذاعت الجرائد من
بضعة أشهر أن النظارة ألفت لجنة فيها لأجل اختيار الكتب العربية الصالحة.
وعلمنا أنها طلبت نموذجًا من كتب التعليم التي تقرأ في المدارس المصرية
الأميرية فأرسل إليها. وإلى الآن لم نر لعمل اللجنة أثرًا يُذكر. وإذا كانوا يريدون التعليم في المدينة باللغة التركية فإن لنا في ذلك كلامًا آخر.
نقول هذا ونحن لا نعقل؛ فلا نصدق أن حكومتنا توجد في المدينة المنورة
مدرسة جامعة. ونرى ذلك غير مستطاع إن كان مرادًا، ولا نظن أنه مراد؛ ولكنها
قد تبني بناء فخمًا تسميه مدرسة جامعة، وتجلب إليه بعض الطلاب من بلاد مختلفة،
فيُعْطَون دروسًا ابتدائية أو فوق الابتدائية، حسب استعداد من يحضر، ثم تستندي
أكفّ أغنياء الحجاج وغيرهم لأجل ترقية المدرسة كما تستنديها الآن لأجل تأسيسها
بإعاناتهم. وأمّا كون المراد من هذه المدرسة بث فكرة الجامعة الإسلامية في نفوس
المسلمين - كما قالت الجرائد في هذه الأقطار وفي غيرها - فالظاهر أن السياسة
الاتحادية الأخيرة تودّ إذاعة هذا المعنى عنها، وتحض الذين يتولون إنشاء
المدرسة الآن على إقناع زوار المدينة المنورة وغيرهم بأن جمعية الاتحاد والترقي
تخدم الدولة والإسلام، وأنه يجب أن تساعد على ذلك بما يستطاع من النفوذ والمال،
وقد علم هذا من حال من اختارتهم الجمعية للشروع في العمل، ومن الاحتفال
الذي كان في المدينة المنورة، ومن حال المندوب الذي بقي هنالك بعد الاحتفال
(وهو الأمير شكيب أرسلان أحد أدباء طائفة الدروز في جبل لبنان) الذي كتب
الشعارات بل المئات من المقالات في إطراء الجمعية والطعن في طلاب الإصلاح
من العرب للبلاد العربية. أما الشيخ عبد العزيز شاويش رئيس لجنة ذلك الاحتفال
في المدينة المنورة ورفيقه عبد القادر أفندي المغربي فهما من غلاة أنصارها الذين
ثبتوا على خدمتها في الإقبال والأدبار، على اختلاف المظاهر والأطوار، ومن كان
هذا شأنه معها فيما رجعت عنه من سياستها القديمة، فكيف لا يكون كذلك في
سياستها الجديدة؟ !
أما أنا فأتمنى لو توجد مدرسة جامعة في المدينة المنورة، أو مدرسة ما مهما
كانت درجتها، ومهما كان الغرض من إنشائها، فإذا لم تكن كما نحب اليوم، فإننا
نرجو أن تكون كما نحب غدًا، ولهذا لم أكتب كلمة تحذير منها في المقالات التي
أنحيت بها على أعمال الجمعية، أيام كان الخلاف بينها وبين قومنا العرب على
أشده، حتى إنني عدت كما كنت في عهد عبد الحميد لا آمن على نفسي أن أحج
بيت الله الحرام، أو أزور حرم رسوله عليه الصلاة والسلام، وكانت تتمثل لي هذه
المدرسة عند سماع خبر العزم عليها كمسجد الضرار. وقد دخل قومنا معها الآن في
طور جديد تمنينا فيه بكل ما نطلب من الإصلاح، والله المسؤول أن تصدق الأماني
وتحصل الآمال.
وأما رأيي الذي أنصح به للدولة، فهو أن تصدي رجالها السياسيين لتحريك
أوتار الجامعة الإسلامية يضر الدولة كثيرًا ولا ينفعها إلا قليلاً، ويوشك أن تكون
هذه الأقوال التي قيلت في هذه المسألة - على قلة تأثيرها - من أسباب ما نراه من
شدة تحامل أوربة عليها، وأكتفي في هذا المقام بالمثل الذي يكرره الإمام الغزالي
في الإحياء: (كن يهوديًّا صِرفًا وإلا فلا تلعب بالتوراة) .
ومرادي من هذا أنه يجب عليها أحد أمرين:
(الأول) أن تؤسس حكومة إسلامية، خالية من التقاليد والقوانين الإفرنجية،
إلا ما كان من النظام، الذي يتفق مع الشرع ولا يختلف باختلاف الأقوام،
وتعطي مقام الخلافة حقه من إحياء دعوة الإسلام، وإقامة الحدود وحرية أهل
الأديان، ولا يعجزها حينئذ أن ترضي غير المسلمين من رعاياها الذين ليس لهم
أهواء سياسية، ولا ضلع مع الدول الأجنبية، بل يكون إرضاؤهم أسهل عليه منه
الآن إن شاءته. ولو كان لي رجاء في إصغائها إلى هذا الرأي، أو جعله محل النظر
والبحث، لبينت ذلك بالتفصيل، ولأوردت ما أعلمه من المشكلات والعقبات التي
تتعرض في طريق تنفيذه من داخلية وخارجية مع بيان المخرج منها، ثم ما يترتب
عليه من تجديد حياة الدولة، وكونه هو المنجي لها من الخطر، وإن تراءى لكثير
من الناس أنه هو المسرع بالخطر، ظنًّا منهم أن أوربة تعجل بالإجهاز على الدولة
إذا علمت بأنها شرعت بنهضة إسلامية؛ لعلمها بأنها هذه هي حياتها الحقيقية،
وكون حياتها بهذا هو ما يصرح به بعض أحرار الأوربيون [1] وإنْ خوف منه
بالتمويه والإيهام أكثر السياسيين.
(الثاني) أن تدع كل ما عدا الأمور الرسمية المعهودة لديها من أمور التدين
إلى الجمعيات الدينية الحرة، والأفراد الذين يدفعهم استعدادهم إلى هذه الخدمة، ولها
أن تساعد ما يستحق المساعدة من هذه الأعمال بالحماية، وكذا بالإعانات المالية من
أوقاف المسلمين الخيرية، (إذا كانت تريد بقاء الأوقاف العامة في يدها ولم تجب
طلاب الإصلاح إلى جعل أوقاف كل ولاية في أيدي أهلها) مع إبقائهم بمعزل عن
السياسة وأهلها، ولولا أن هذا هو رأيي لما اشترطت على رجال الدولة وجمعية
الاتحاد - إذ عرضت عليهم مشروع الدعوة والإرشاد - أن يكون في يد جماعة حرة
لا علاقة لها بالسياسة، وأن لا تخصص لها إعانة من خزينة الدولة، بل تكون
نفقاتها مما تجمعه هي من الإعانات بأنواعها، ومما تعطاه من أوقاف المسلمين
الخيرية {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} (غافر: 44) .
***
استغلال الحجرة النبوية
بلغنا - والعهدة على الرواة - أن بعض المنافقين الذين يتقربون إلى
(جمعية الاتحاد والترقي) باسم الدين، واستنباط الوسائل منه إلى استخراج المال من
جيوب المسلمين، قد زينوا لها أن تتخذ دفترًا تضعه في حجرة المصطفى عليه
أفضل الصلاة والسلام.
وتذيع في العالم الإسلامي كله أن من أراد أن يكتب اسمه في هذا الدفتر،
الذي وضع لدى قبر الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم فليبذل قطعة
من النقود الذهبية (كالجنيه الإنكليزي أو الليرة العثمانية) ونحن ننصح للدولة أو
الجمعية بأن تردّ هذا الاقتراح ولا تنفذه، مهما زينه المنافقون ووسعوا دائرة الأمانيّ
فيه، وأوهموها أن السواد الأعظم من المسلمين يقبلونه، ظانّين أنه يجعلهم
معروفين عند نبيهم صلى الله عليه وسلم محبوبين لديه، مقبولين عنده، وأنه
يمكن لمن يدعوهم إلى البذل أن يقول لهم: إنه صلى الله عليه وسلم ينظر في هذا
الدفتر كل يوم، ويقرأ هذه الأسماء ويدعو لأصحابها بخير.
هذه بدعة قبيحة لا نظن أن رجال الاتحاد يقبلون فيها قول المنافقين، أو
يحتاجون إلى نصح الناصحين، وهي على كونها حدثًا وبدعة في مسجد الرسول
صلى الله عليه وسلم، وعبثًا بالدين، تخل بتعظيمه وتكريم مقامه صلى الله عليه
وسلم وقد لعن من أحدث حدثًا في مسجده (وسيأتي الحديث فيه) وكذا في مدينته
وما حولها: روى الشيخان في صحيحيهما وغيرهما عن علي كرم الله وجهه أنه قال:
ما كتبنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا القرآن وما في هذه الصحيفة.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (المدينة حرم ما بين عَيْر إلى ثور [2] فمن
أحدث فيها حدثًا أو آوى مُحْدِثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل
منه صرف ولا عدل) الحديث.
لا يعجز أصحاب الجرأة من المنافقين أن يقولوا: إن استغلال حجرة
المصطفى وقبره صلى الله عليه وسلم بمثل هذا الدفتر لا يعد حدثًا ولا بدعة، لأنه
وسيلة إلى مساعدة الدولة على خدمة الدين (مثلاً) ويمكن أن يتقي فيه الكذب في
الدين وإيهام الباطل والكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم حتى لا يكون
توسلاً باسمه صلى الله عليه وسلم إلى أكل أموال الناس بالباطل.
ولكن أنصار السنة أنهض حجة وأقوم قيلاً، فلا يعجزهم أن يظهروا الدلائل
وآثار السلف التي تدحض هذه الشبهات، وأن يبينوا للناس أن كل بدعة حدثت في
الإسلام قد موهت بمثل هذا التمويه، وادَّعى محدوثها أنهم يخدمون بها الدين، كما
بينه الإمام الشاطبي في كتاب الاعتصام.
وإنني أنقل هنا أثرًا واحدًا من آثار السلف الصالح في التوقي من إحداث شيء
في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم أو مدينته حذرًا من لعنته. نقل الشاطبي في
بيان كون المبتدع ملعونًا ما يأتي:
قال أبو مصعب صاحب مالك: قدم علينا ابن مهدي - يعني المدينة - فصلَّى
ووضع رداءه بين يدي الصف، فلما سلّم الإمام رمقه الناس بأبصارهم ورمقوا مالكًا -
وكان قد صلى خلف الإمام - فلمّا سلّم قال: مَن هاهنا من الحرس؟ فجاءه نفسان،
فقال: خذا صاحب هذا الثوب فاحبساه. فحبس. فقيل له: إنه ابن مهدي [3]
فوجه إليه وقال له: أما خفت الله واتقيته أن وضعت ثوبك بين يديك في الصف،
وشغلت المصلين بالنظر إليه، وأحدثت في مسجدنا شيئًا ما كنا نعرفه؟ وقد قال
النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في مسجدنا حدثًا فعليه لعنة الله والملائكة
والناس أجمعين) فبكى ابن مهدي، وآلى على نفسه أن لا يفعل ذلك أبدًا في مسجد
النبي صلى الله عليه وسلم ولا في غيره.
(قال الشاطبي) : وهذا غاية في التوقي والتحفظ في ترك إحداث ما لم يكن؛
خوفًا من تلك اللعنة، فما ظنك بما سوى وضع الثوب؟ اهـ.
(ونقول) : فما ظنك ببدعة وحدث في حجرة الرسول صلى الله عليه وسلم
يتبعها الكذب عليه، وأكل أموال الناس باسمه، والزيادة في الدين الذي جاء به،
ولو لم يكن في ذلك من الزيادة في الدين إلا إحداث قربة جديدة، وعبادة مخترعة،
هي التقرب إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم؛ بكتابة أسماء الناس في
دفتر هنالك - لكفى، فإن قالوا: إننا لا نعده قربة ولا سببًا للثواب. قلنا: إذًا هو
غشٌّ واحتيال، لأجل سلب الأموال، فإن من يعلم أن كتابة اسمه لا تقربه إلى
الله ورسوله لا يدفع المال لأجلها.. هذا ولولا الإخلاص في النصيحة لله ولرسوله
وللدولة لما كتبت هذا قبل إحداث هذا الحدث المقترح، والله عليم خبير.
_________
(1)
قال لورد كتشنر لبعض مَن لقيه من العثمانيين المشتغلين بالسياسة: إن الدولة العثمانية لا تصلح بالقوانين التي تقتبسها منّا (أي الأوربيين) ونحن ما صلحت لنا هذه القوانين إلا بعد
…
تدريجية في عدة قرون كنا نغير فيها ونبدل بحسب اختلاف الأحوال، وإن عندكم شريعة عادلة موافقة لعقائدكم ولأحوالكم الاجتماعية فالواجب على الدولة أن تعمل بها وتترك قوانين أوربة؛ فتقيم العدل وتحفظ الأمن وتستغل بلادها الخصبة، وعندي أنها لا تصلح بغير هذا.
(2)
عَيْر وثور جبلان جعلهما صلى الله عليه وسلم حدين للمدينة وثور جبل بمكة أيضًا وقد اشتبه بعض شراح الحديث في هذا الذي في المدينة، ورجح بعضهم رواية (ما بين عَيْر وأُحُد) وإن كانت الأولى أصح سندًا، وقال بعضهم: ثور الذي يحد المدينة وراء أحد إلى الشمال وهو مدور ولونه إلى الحمرة فالظاهر أنه جبل صغير ظنه بعض الناس جزءًا من أحد.
(3)
هو عبد الرحمن بن مهدي الشهير بالصلاح والعلم والعمل، كان يختم القرآن كل ليلة ويتهجد بنصفه لهذا كان قولهم للإمام مالك (هذا ابن مهدي) سببًا لمبادرته إلى إخراجه من الحبس لعلمه أن كلمة حق واحدة تؤثر في نفسه، ما لا يؤثر الحبس الطويل في نفس غيره.
الكاتب: محمد رشيد رضا
انتقاد أجوبة المنار
لمن سأل عن حكم الحج
كتب إلينا غير واحد من البحرين أن الذي سألنا عن حكم الحج وأسرار
المناسك لم يكن يريد الحج هو وأصحابه، وما أسئلتهم تلك إلا مظهر ما في
نفوسهم من الاعتراض على الدين وعدم الإذعان لأحكامه، وإنه ما كان ينبغي أن
يجابوا إلا أن يقال لهم: هذا ديننا، فإن كنتم من أهله فأقيموا أركانه وأدّوا فرائضه،
وإلا فالزموا شأنكم.
هذا معنى ما كتب إلينا، وصرّحوا بأن سبب سوء اعتقادهم في السائل - ومن
على شاكلته - أنهم قد تعلموا في مدرسة دعاة النصرانية (المبشرين) فأزاغوا
عقائدهم.
أما نحن فنقول: إن الأسئلة التي أرسلت إلينا تدل على أن السائل قد عرضت
له شبهات في هذه العبادة (الحج) فهو إما حريص على دينه يسأل العلماء ليأخذ
عنهم ما يدفعها بها ليكون على بصيرة من دينه، وإما معجز أو شاكّ يختبر علماء
المسلمين ليرى ما عندهم، حتى إذا عجزوا عن بيان حكم هذه المناسك عذر نفسه،
واطمأن بما عنده. والواجب علينا أن نغلّب حسن الظن ما وجدنا له منفذًا، وأن
نجيب طالب العلم مهما كان قصده، فإن كان مؤمنًا ازداد - ببيان حكمة الدين -
إيمانًا، وإن كان شاكًّا أو زائغًا يوشك أن يعود إلى الرشد، ويطمئن بما ظهر له من
الحق، ولا ينبغي لنا أن نتهم أحدًا في دينه بالشبهة، ولا أن ندع من يشككهم دعاة
النصرانية في الحق وشأنهم، بل ينبغي لنا أن نجذبهم إلينا، إذا هم أعرضوا عنا
وتركوا سؤالنا. فإذا ترك الحقُّ الباطلَ يصول بشبهاته على إحداث المسلمين،
يمرقون كلهم من الدين.
وإذا كان بعض أهل البحرين يعلمون مبلغ إفساد دعاة النصرانية في بلدهم،
فلماذا لا يحذرون الغافلين من إرسال أولادهم إلى مدارسهم، ويغنونهم عنها بمدرسة
إسلامية ينشئونها لهم، يعلمونهم فيها من علوم المعاش ما يعلمهم هؤلاء المفسدون،
ويزيدون عليهم تعليم عقائد الإسلام وأحكامه وحكمه وآدابه وتاريخه بدلاً من
النصرانية وشؤون أهلها؟ ألا يعلمون أنهم بترك معارضة هؤلاء المحاربين لدينهم
آثمون كلهم؟ وإن هذا الإثم لا يزول إلا بإنشاء مدرسة ينقذون فيها أولادهم من
مدرسة دعاة النصرانية التي ستلقي العداوة بينهم وبين أولادهم، وتقطع صلتهم بهم
في الدنيا والآخرة؟ ؟
وعسى أن يعتبر من يدعون في حضرموت وغيرها من أطراف جزيرة
العرب إلى جعل بلادهم للإنكليز أو تحت حمايتهم، ويفطنوا لما في ذلك من الخطر
على دينهم.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
فتاوى المنار
(الموالد بدعة أم سنة)
(س1) من صاحب الإمضاء في فليمبغ (سومطرة)
من فليمبغ إلى القاهرة في 25 المحرم عام 1332هـ.
جناب الأستاذ مرشد الأمة ورشيدها سيدي محمد رشيد رضا أدام المولى
وجوده. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد
…
أرجو من فضلكم إجابة السؤال
الآتي على صفحات المنار. ما قول سيدي في قراءة القصص المسماة بالموالد هل هي
سنة أم بدعة؟ ومن أول من فعل ذلك؟ وأي الموالد المتداولة بين أيدينا أحرى بالقراءة
وأحسن؟ فإن كثيرين من رجال المناصب يزعمون أن مولد الديبعي هو أمثل الموالد
وأفضلها وأن روح النبي صلى الله عليه وسلم تحضر عند قراءته خلافًا للموالد
الأخرى. أرجو أن تتفضل بإزالة الإشكال، والجواب على هذا السؤال، ولكم
الفضل أولاً وآخرًا، ودمتم، والسلام.
(طالب الدعاء منكم السيد عقيل بن عبد الله بن عقيل الحبشي) .
(ج) هذه الموالد بدعة بلا نزاع، وأول من ابتدع الاجتماع لقراءة قصة
المولد النبوي أحد ملوك الشراكسة بمصر، وقد شرحنا ما في هذه الاحتفالات التي
يسمونها الموالد بمصر في مجلد السنة الأولى من المنار ثم في غيره من المجلدات.
ولم نطلع على قصة من قصص المولد النبوي الشريف إلا ورأينا فيها كثيرًا من
الأخبار الموضوعة. حتى جمع صديقنا عالم الشام الشيخ جمال الدين القاسمي من
كتب الصحاح والسنن أصح وأمثل ما ورد في ذلك و (شذرة من السيرة النبوية)
وقد طبع في مطبعتنا وصار محبو السنة ومبغضو البدعة يستغنون به عن تلك
القصص المشحونة بالموضوعات والأكاذيب التي يؤثرها الجهال؛ زعما منهم أنها
أكثر تعظيمًا للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد أغناه الله تعالى بفضله العظيم عليه عن
تعظيم غيره له بالكذب في سيرته. ولم نطلع على مولد الديبعي. فإن كان هو
المحدث المشهور فالمرجو أن يكون ما كتبه خاليًا من الموضوعات، وإن لم يخل
من الضعاف التي يتسامحون فيها في ذكر المناقب.
***
قراءة البخاري لطلب النصر في الحرب
(س2) من علي أفندي مهيب (بديوان عموم التلغرافات) بمصر (تأخر)
حضرة الأستاذ الفاضل الشيخ رشيد رضا المحترم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛ فقد قرأت في الجرائد في الأيام
الأولى للحرب الحاضرة بين الدولة العلية ودول البلقان أن صاحب الفضيلة شيخ
الجامع الأزهر كلف حضرات العلماء بقراءة البخاري أمام القبلة؛ طلبًا للنصر من الله
سبحانه. فهل ورد شيء عن قراءة حديث الرسول صلى الله عليه وسلم أثناء
الحرب طلبًا للنصر؟ ولماذا لم يقرأ كلام الله سبحانه بالأولى إذا كانت التلاوة تغني
عن العمل؟ أرجو الإفادة على صفحات المنار الأغر ولحضرتكم جزيل الشكر.
(ج) جاءنا هذا السؤال في أثناء الحرب الأخيرة فوضعناه بين الأسئلة
الكثيرة ولم يتفق وقوعه بيدنا إلا الآن. وموضوعه يتكرر عند الحرب وغير
الحرب من المصائب كالوباء والقحط.
والجواب: إنه لا يعقل أن يكون قد ورد في الكتاب أو السنة أمر أو ترغيب
بقراءة أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم لطلب النصر أو رفع المصائب، ولا
أن يكون ذلك معروفًا في الصدر الأول. فإن الأحاديث لم تكن مدونة في زمن
الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، وإنما دونت في زمن التابعين، وأول من أمر
بجمعها ونشرها عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ولم يكن التابعون ولا تابعو
التابعين يقرؤونها لتكون قراءتها سببًا للنصر. وإنما فعل ذلك المتأخرون، ولا أدري
في أي زمن أحدثوا ذلك، وما أظن أن أحدًا من أهل العلم يقول إن هذا سنة أو
مأمور به شرعًا، ولعل أقوى ما يمكن أن يقولوه في سببه: إننا نجتمع للدعاء ونقرأ
قبل الدعاء طائفة من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم لما يرجى من تأثيرها
في حضور القلب، والخشوع للرب، الذي يرجى أن يكون سببًا لاستجابة الدعاء.
وعلى هذا يتجه السؤال الثاني وهو: (لماذا لا يقرأ كلام الله سبحانه؟) .
وما أظن أن أحدًا من أهل العلم يقول إن قراءة الحديث أو القرآن في المساجد
بِنِيَّة نصر المحاربين سبب لنصر المحاربين في ميدان القتال، وقد بين الله تعالى
أسباب النصر في كتابه وأمر بها، وأهمها: إعداد ما يستطاع من القوة في كل زمن
والثبات، وذكر المحاربين لله تعالى في قلوبهم عند لقاء العدو، كذكر وعده بإحدى
الحسنيين وثوابه للشهداء، وبألسنتهم كالتكبير فإنه يعلي الهمة ويقوي الأمل والرجاء،
وقد بينا ذلك بالتفصيل غير مرة. وقد ظهر المشركون على المسلمين في أُحُد
وحنين والنبي صلى الله عليه وسلم معهم وأنزل الله تعالى في أحد: {أَوَ لَمَّا
أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ} (آل عمران:
165) ؛ فراجع تفسيرها في المنار أو في الجزء الخامس من التفسير، إن شئت زيادة
الإيضاح والتفصيل.
_________
الكاتب: ابن القيم الجوزية
فصل من
كتاب مدارج السالكين
بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين
للإمام العلامة الحافظ ابن القيم رحمه الله تعالى
في مشاهد الخلق في المعصية وهي ثلاثة عشر مشهدًا [1] : مشهد الحيوانية
وقضاء الشهوة - ومشهد اقتضاء رسوم الطبيعة ولوازم الخلقة - ومشهد الجبر -
ومشهد القدر - ومشهد الحكمة - ومشهد التوفيق والخذلان - ومشهد التوحيد - ومشهد
الأسماء والصفات - ومشهد الإيمان وتعدد شواهده - ومشهد الرحمة - ومشهد العجز
والضعف - ومشهد الذل والافتقار - ومشهد المحبة والعبودية. فالأربعة الأول
للمنحرفين، والثمانية البواقي لأهل الاستقامة. وأعلاها المشهد العاشر. وهذا
الفصل من أجلِّ فصول الكتاب وأنفعها لكل أحد، وهو حقيق بأن تثنى عليه
الخناصر، ولعلك لا تظفر به في كتاب سواه، إلا ما ذكرناه في كتابنا المسمى بسفر
الهجرتين في طريق السعادتين.
***
فصل
فأما (مشهد الحيوانية وقضاء الشهوة) فمشهد الجهال، الذين لا فرق بينهم
وبين سائر الحيوان إلا في اعتدال القامة ونطق اللسان، ليس همهم إلا مجرد نيل
الشهوة بأي طريق أفضت إليها. فهؤلاء نفوسهم نفوس حيوانية، لم تترق عنها إلى
درجة الإنسانية، فضلاً عن درجة الملائكة. فهؤلاء حالهم أخس من أن تذكر، وهم
في أحوالهم متفاوتون بحسب تفاوت الحيوانات التي هم على أخلاقها وطباعها.
(فمنهم) من نفسه كلبية لو صادف جيفة تشبع ألف كلب لوقع عليها وحماها
من سائر الكلاب، ونبح كل كلب يدنو منها، فلا تقربها الكلاب إلا على كره منه
وغلبة، ولا يسمح لكلب بشيء منها، وهمه شبع بطنه من أي طعام اتفق: ميتة أو
مذكى، خبيث أو طيب، ولا يستحيي من قبيح، إن تحمل عليه يلهث أو تتركه
يلهث، إن أطعمته بصبص بذنبه ودار حولك، وإن منعته هرّك ونبحك.
(ومنهم) من نفسه حمارية لم تخلق إلا للكد والعلف، كلما زيد في علفه زيد
في كده، أبكم الحيوان وأقله بصيرة. ولهذا مثل الله سبحانه وتعالى به من حمله
كتابه فلم يعرفه معرفة ولا فقهًا ولا عملاً. ومثل بالكلب عالم السوء الذي آتاه الله
آياته فانسلخ منها وأخلد إلى الأرض واتبع هواه. وفي هذين المثلين أسرار عظيمة
ليس هذا موضع ذكرها.
(ومنهم) من نفسه سَبُعية غَضَبية، همته العدوان على الناس وقهرهم بما
وصلت إليه قدرته، طبيعته تتقاضى ذلك كتقاضي طبيعة السبع لما يصدر منه.
(ومنهم) من نفسه فاريَّة، فاسق بطبعه، مفسد لما جاوره، تسبيحه بلسان
الحال: سبحان من خلقه للفساد.
(ومنهم) من نفسه على نفوس ذوات السموم والحمات، كالحية والعقرب
وغيرهما، وهذا الضرب هو الذي يؤذي بعينه فيدخل الرجل القبر، والجَمَل القِدْر،
والعين وحدها لم تفعل شيئًا وإنما النفس الخبيثة السمية تكيفت بكيفية غضبية مع
شدة حسد وإعجاب، وقابلت المعين على غرة منه وغفلة، وهو أعزل من سلاحه،
فلدغته، كالحية التي تنظر إلى موضع مكشوف من بدن الإنسان فتنهشه، فإما
عطب وإما أذى. ولهذا لا يتوقف أذى العائن على الرؤية والمشاهدة، بل إذا
وصف له الشيء الغائب عنه وصل إليه أذاه. والذنب لجهل المعين وغفلته وغرته
عن حمل سلاحه كل وقت. فالعائن لا يؤثر في شاكي السلاح، كالحية إذا قابلت
درعًا سابغًا على جميع البدن ليس فيه موضع مكشوف، فحق على من أراد حفظ
نفسه وحمايتها أن لا يزال متدرعًا متحصنًا، لابسًا أداة الحرب، مواظبًا على أوراد
التعوذات والتحصينات النبوية التي في السنة والتي في القرآن [2] .
وعلى هذا الشبه اعتماد أهل التعبير للرؤيا في رؤية هذه الحيوانات في المنام
عند الإنسان وفي داره أو أنها تحاربه. وهو كما اعتمدوه. وقد وقع لنا ولغيرنا من
ذلك في المنام وقائع كثيرة. فكان تأويلها مطابقًا لأقوام على طباع تلك الحيوانات.
وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم في قصة أحد بقرًا تنحر، فكان ما أصيب من
المؤمنين بنحر الكفار، فإن البقر أنفع الحيوان للأرض وبها صلاحها وفلاحها مع ما
فيها من السكينة والمنافع والذِّل (بكسر الذال) فإنها ذلول مذللة منقادة غير أبية،
والجواميس كبارهم ورؤساؤهم [3] ورأى عمر بن الخطاب كأن ديكًا نقره ثلاث
نقرات، فكان طعن أبي لؤلؤة له. والديك رجل أعجمي شرير.
ومن الناس من طبعه طبع خنزير يمر بالطيبات فلا يلوي عليها، فإذا قام
الإنسان عن رَجِيعة قَمَّه. وهكذا كثير من الناس يسمع منك ويرى من المحاسن
أضعاف أضعاف المساوي، فلا يحفظها ولا ينقلها ولا تناسبه، فإذا رأى سقطة أو
كلمة عوراء وجد بغيته وما يناسبها فجعلها فاكهته ونُقْلَه.
(ومنهم) من هو على طبيعة الطاووس ليس له إلا التطوس والتزين بالريش
وما وراء ذلك شيء، ومنهم من هو على طبيعة الجمل أحقد الحيوان وأغلظه كبدًا.
(ومنهم) من هو على طبيعة الدب أبكم خبيث، وعلى طبيعة القرد [4] .
أحمد طبائع الحيوانات طبائع الخيل التي هي أشرف الحيوانات نفوسًا وأكرمها
طبعًا، وكذلك الغنم، وكل من ألف ضربًا من ضروب هذه الحيوانات اكتسب من
طبعه وخلقه، فإن تغذى لحمه كان الشبه أقوى. فإن الغاذي شبيه بالمتغذي [5] .
ولهذا حرم الله أكل لحوم السباع وجوارح الطير لما يورث آكله [6] من شبه نفوسها
بها والله أعلم. والمقصود أن أصحاب هذا المشهد ليس لهم شهود سوى ميل نفوسهم
وشهواتهم لا يعرفون ما وراء ذلك ألبتة.
***
فصل
المشهد الثاني: مشهد رسوم الطبيعة ولوازم الخلقة
كمشهد زنادقة الفلاسفة والأطباء الذين يشهدون أن ذلك من لوازم الخلقة
والطبيعة الإنسانية، وأن تركيب الإنسان من الطبائع الأربع وامتزاجها واختلاطها
كما يقتضي بغي بعضها على بعض وخروجه عن الاعتدال بحسب اختلاف هذه
الأخلاط، فكذلك تركيبه من البدن والنفس والطبيعة والأخلاط الحيوانية يتقاضاه إثر
هذه الخلقة ورسوم تلك الطبيعة، ولا تنقهر إلا بقاهر إما من نفسه وإما من خارج
عنه. وأكثر النوع الإنساني ليس له قاهر من نفسه، فاحتياجه إلى قاهر فوقه يدخله
تحت سياسة وإيالة ينتظم بها أمره ضرورية [7] كحاجته إلى مصالحه من الطعام
والشراب واللباس. وعند هؤلاء أن العاقل متى كان له وازع - من نفسه - قاهر لم
يحتج إلى أمر غيره ونهيه وضبطه [8] . فمشهد هؤلاء من حركات النفس الاختيارية
الموجبة للجنايات، كمشهدهم من حركات الطبيعة الاضطرارية الموجبة للتغيرات [9]
وليس لهم مشهد وراء ذلك.
***
فصل
المشهد الثالث: مشهد أصحاب الجبر
وهم الذين يشهدون أنهم مجبورون على أفعالهم، وأنها واقعة بغير قدرتهم،
بل لا يشهدون أنها أفعالهم ألبتة. ويقولون: إن أحدهم غير فاعل في الحقيقة ولا
قادر، وإن الفاعل فيه غيره والمحرك له سواه، وإنه آلة محضة، وحركاته بمنزلة
هبوب الرياح وحركات الأشجار، وهؤلاء إذا أنكرت عليهم أفعالهم احتجوا بالقدر
وحملوا ذنوبهم عليه، وقد يغلون في ذلك حتى يروا أفعالهم كلها طاعات خيرها
وشرها، لموافقته للمشيئة والقدر. ويقولون: كما أن موافقة الأمر طاعة، فموافقة
المشيئة طاعة. كما حكى الله تعالى عن المشركين إخوانهم أنهم جعلوا مشيئة الله
تعالى لأفعالهم دليلاً على أمره بها ورضاه.
وهؤلاء شر من القدرية النفاة، وأشد عداوة لله، ومناقضة لكتبه ورسله ودينه،
حتى إن من هؤلاء من يعتذر عن إبليس ويتوجع له ويقيم عذره بجهده، وينسب
ربه تعالى إلى ظلمه بلسان الحال والمقال، ويقول: ما ذنبه وقد صان وجهه عن
السجود لغير خالقه؟ وقد وافق حكمه ومشيئته فيه وإرادته منه؟ ثم كيف يمكنه
السجود وهو الذي منعه منه وحال بينه وبينه؟ وهل كان في ترك السجود لغير الله
إلا محسنًا؟ ولكن:
إذا كان المحب قليل حظ
…
فما حسناته إلا ذنوب
وهؤلاء أعداء الله حقًّا، وأولياء إبليس وأحباؤه وإخوانه. وإذا ناح منهم نائح
على إبليس رأيت من البكاء والحنين أمرًا عجيبًا، ورأيت من تظلم الأقدار، واتهام
الجبار، ما يبدو على فلتات ألسنتهم وصفحات وجوههم، وتسمع من أحدهم من
التظلم والتوجع ما تسمعه من الخصم المغلوب العاجز عن خصمه. فهؤلاء هم الذين
قال فيهم شيخ الإسلام ابن تيمية في تائيته:
ويدعى خصوم الله يوم معادهم
…
إلى النار طرًّا فرقة القدرية
***
فصل
المشهد الرابع: مشهد القدرية النفاة
ويشهدون أن هذه الجنايات والذنوب هم الذين أحدثوها، وأنها واقعة بمشيئتهم
دون مشيئة الله تعالى، وأن الله لم يقدر ذلك عليهم ولم يكتبه ولا شاءه ولا خلق
أفعالهم، وأنه لأي قدر أن يهدي أحدًا ولا يضله إلا بمجرد البيان، إلا أنّه يلهمه
الهدى والضلال، والفجور والتقوى، فيجعل ذلك في قلبه، ويشهدون أنه يكون في
ملك الله ما لا يشاؤه، وأنه يشاء ما لا يكون، وأن العباد خالقون لأفعالهم بدون مشيئة
الله. فالمعاصي والذنوب خلقهم وموجب مشيئتهم، لا أنها خلق الله ولا تتعلق
بمشيئته. وهم لذلك مبخوسو الحظ جدًّا من الاستعانة بالله والتوكل عليه والاعتصام
به، وسؤاله أن يهديهم، وأن يثبت قلوبهم وأن لا يزيغها، وأن يوفقهم لمرضاته
ويجنبهم معصيته؛ إذ هذا كله واقع بهم وعين أفعالهم لا يدخل تحت مشيئة الرب.
والشيطان قد رضي منهم بهذا القدر، فلا يؤزّهم إلى المعاصي ذلك الأزّ، ولا
يزعجهم إليها ذلك الإزعاج. وله في ذلك غرضان مهمان:
(أحدهما) أن يقرر في قلوبهم صحة هذا المشهد وهذه العقيدة، وأنكم
تاركون الذنوب [10] والكبائر التي يقع فيها أهل السنة. فدل على أن الأمر مفوض
إليكم، واقع بكم، وأنكم العاصمون لأنفسكم المانعون لها من المعصية.
(الغرض الثاني) أنه يصطاد على أيديهم الجهال، فإذا رأوهم أهل عبادة
وزهادة وتورع عن المعاصي وتعظيم لها قالوا: هؤلاء هم أهل الحق. والبدعة آثر
عنده وأحب إليه من المعصية، فإذا ظفر بها منهم، واصطاد الجهال على أيديهم،
كيف يأمرهم بالمعصية؟ بل ينهاهم عنها ويقبحها في أعينهم وقلوبهم، ولا يكشف
هذه الحقائق إلا أرباب البصائر.
***
فصل
المشهد الخامس وهو أحد مشاهد أهل الاستقامة: مشهد الحكمة
وهو مشهد حكمة الله في تقديره على عبده ما يبغضه سبحانه ويكرهه، ويلوم
ويعاقب عليه، وأنه لو شاء لعصمه منه، ولحال بينه وبينه، وأنه سبحانه لا
يعصى قسرًا، وأنه لا يكون في العالم شيء إلا بمشيئته {أَلَا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ
تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ العَالَمِينَ} (الأعراف: 54) .
وهؤلاء يشهدون أن الله سبحانه لم يخلق شيئًا عبثًا ولا سدًى، وأنه له الحكمة
البالغة في كل ما قدره وقضاه من خير وشر، وطاعة ومعصية، وحكمة باهرة
تعجز العقول عن الإحاطة بكنهها، وتكلّ الألسن عن التعبير عنها، فمصدر قضائه
وقدره لما يبغضه ويسخطه اسمه الحكيم الذي بهرت حكمته الألباب، وقد قال تعالى
لملائكته لما قالوا: {َتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ
وَنُقَدِّسُ لَكَ} (البقرة: 30) ؛ فأجابهم سبحانه بقوله: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (البقرة: 30) ، فللَّه سبحانه في ظهور المعاصي والذنوب والجرائم وترتب
آثارها من الآيات والحكم، وأنواع التعرفات إلى خلقه، وتنويع آياته، ودلائل
ربوبيته ووحدانيته، وإلهيته وحكمته وعزته، وتمام ملكه وكمال قدرته، وإحاطة
علمه، ما يشهده أولو البصائر عيانًا ببصائر قلوبهم {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً
سُبْحَانَكَ} (آل عمران: 191) ؛ إن هي إلا حكمتك الباهرة وآياتك الظاهرة.
ولله في كل تحريكة
…
وتسكينة أبدًا شاهد
وفي كل شيء له آية
…
تدل على أنه واحد
فكم من آية في الأرض بينة دالة على الله وعلى صدق رسله وعلى أن لقاءه
حق، كان سببها معاصي بني آدم وذنوبهم، كآيته في إغراق قوم نوح، وعلوّ الماء
على رؤوس الجبال، حتى أغرق جميع أهل الأرض، ونجى أولياءه وأهل معرفته
وتوحيده. فكم في ذلك من آية وعبرة، ودلالة باقية على ممر الدهور؟ وكذلك
إهلاك قوم عاد وثمود. وكم له من آية في فرعون وقومه من حين بعث موسى إليهم؟
بل قبل مبعثه إلى حين إغراقهم، لولا معاصيهم وكفرهم لم تظهر تلك الآيات
والعجائب. وفي التوراة أن الله تعالى قال لموسى: اذهب إلى فرعون فإني سأقسِّي
قلبه وأمنعه عن [11] الإيمان لأظهر آياتي وعجائبي بمصر. وكذلك فعل سبحانه
فأظهر من آياته وعجائبه بسبب ذنوب فرعون وقومه ما أظهر. وكذلك إظهاره
سبحانه ما أظهر من جعل النار بردًا وسلامًا على إبراهيم، بسبب ذنوب قومه
ومعاصيهم، وإلقائهم في النار، حتى صارت تلك آية، وحتى نال إبراهيم ما نال
من كمال الخلة.
وكذلك ما حصل للرسل من الكرامة والمنزلة والزلفى عند الله والوجاهة عنده
بسبب صبرهم على أذى قومهم وعلى محاربتهم لهم ومعاداتهم. وكذلك اتخاذ الله
تعالى الشهداء والأولياء والأصفياء من بني آدم، بسبب صبرهم على أذى بني آدم
من أهل المعاصي والظلم ومجاهدتهم في الله، وتحملهم لأجله من أعدائه ما هو
بعينه وعلمه، واستحقاقهم بذلك رفعة الدرجات. إلى غير ذلك من المصالح والحكم
التي وجدت بسبب ظهور المعاصي والجرائم، وكان من سببها تقدير ما يبغضه الله
ويسخطه، وكان ذلك محض الحكمة، لما يترتب عليه مما هو أحب إليه وآثر عنده
من فوته بتقدير عدم المعصية. فحصول هذا المحبوب العظيم، أحب إليه من فوات
ذلك المبغوض المسخوط، فإن فواته وعدمه وإن كان محبوبًا له؛ لكن حصول هذا
المحبوب الذي لم يكن يحصل بدون وجود ذلك المبغوض أحب إليه، فوات هذا
المحبوب أكره إليه من فوات ذلك المكروه المسخوط، وكمال حكمته تقتضي
حصول أحب الأمرين إليه بفوات أدنى المحبوبين، وأن لا يعطل هذا الأحب
بتعطيل ذلك المكروه. وفرض الذهن وجود هذا بدون هذا، كفرضه وجود
المسببات بدون أسبابها، والملزومات بدون لوازمها، مما تمنعه حكمة الله وكمال
قدرته وربوبيته.
ويكفي من هذا مثال واحد وهو أنه لولا المعصية من أبي البشر بأكله من
الشجرة لما ترتب على ذلك ما ترتب من وجود هذه المحبوبات العظام للرب تعالى،
من امتحان خلقه وتكليفهم، وإرسال رسله، وإنزال كتبه، وإظهار آياته وعجائبه،
وتنويعها وتصريفها، وإكرام أوليائه، وإهانة أعدائه، وظهور عدله وفضله،
وعزته وانتقامه، وعفوه ومغفرته، وصفحه وحلمه، وظهور من يعبده ويحبه
ويقوم بمراضيه بين أعدائه في دار الابتلاء والامتحان. فلو قدر أن آدم لم يأكل من
الشجرة ولم يخرج من الجنة هو وأولاده؛ لم يكن شيء من تلك، ولا ظهر من القوة
إلى الفعل ما كان كامنًا في قلب إبليس يعلمه الله ولا تعلمه الملائكة، ولم يتميز
خبيث الخلق من طيبه، ولم تتم المملكة حيث لم يكن هناك إكرام وثواب، وعقوبة
وإهانة، ودار سعادة وفضل، ودار شقاوة وعدل.
وكم في تسليط أوليائه على أعدائه، وتسليط أعدائه على أوليائه، والجمع
بينهما في دار واحدة، وابتلاء بعضهم ببعض، من حكمة بالغة، ونعمة سابغة؟
وكم في طيها من حصول محبوب للرب، وحمد لله من أهل سماواته وأرضه،
وخضوع له وتذلل، وتعبد وخشية وافتقار إليه، وانكسار بين يديه؟ أن لا يجعلهم
من أعدائه، إذ هم يشاهدونهم ويشاهدون خذلان الله لهم، وإعراضه عنهم، ومقته
لهم، وما أعد لهم من العذاب. وكل ذلك بمشيئته وإرادته، وتصرفه في مملكته،
فأولياؤه من خشية خذلانه خاضعون مشفقون، على أشد وجل وأعظم مخافة، وأتم
انكسار. فإذا رأت الملائكة إبليس وما جرى له، وهاروت وماروت، وضعت
رؤوسها بين يدي الرب خضوعًا لعظمته، واستكانة لعزته، وخشية من إبعاده
وطرده، وتذللاً لهيبته، وافتقارًا إلى عصمته ورحمته، وعلمت بذلك منته عليهم،
وإحسانه إليهم، وتخصيصه لهم بفضله وكرامته.
وكذلك أولياؤه المتقون، إذا شاهدوا أحوال أعدائه ومقته لهم، وغضبه عليهم،
وخذلانه لهم، ازدادوا له خضوعًا وذلاًّ، وافتقارًا وانكسارًا، وبه استعانةً، وإليه
إنابةً، وعليه توكلاً، وفيه رغبةً، ومنه رهبةً، وعلموا أنهم لا ملجأ لهم منه إلا
إليه، وأنهم لا يعيذهم من بأسه إلا هو، ولا ينجيهم من سخطه إلا مرضاته،
فالفضل بيده أولاً وآخرًا.
وهذه قطرة من بحر حكمته المحيطة بخلقه. والبصير يطالع ببصيرته ما
وراءه فيطلعه على عجائب من حكمته لا تبلغها العبارة، ولا تنالها الصفة. وأما
حظ العبد في نفسه وما يخصه من شهود هذه الحكمة فبحسب استعداده وقوة بصيرته،
وكمال علمه ومعرفته بالله وأسمائه وصفاته، ومعرفته بحقوق العبودية والربوبية،
وكل مؤمن له من ذلك شِرْبٌ معلوم، ومقام لا يتعداه ولا يتخطاه [12] .
***
فصل
المشهد السادس: مشهد التوحيد
وهو أن يشهد انفراد الرب تبارك وتعالى بالخلق والحكم، وأنه ما شاء كان
وما لم يشأ لم يكن، وأنه لا تتحرك ذرة إلا بإذنه، وأن الخلق مقهورون تحت
قبضته، وأنه ما من قلب إلا وهو بين أصابعه، إن شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاء
أن يزيغه أزاغه. فالقلوب بيده وهو مقلبها ومصرفها كيف شاء وكيف أراد، وأنه
هو الذي آتى نفوس المؤمنين تقواها، وهو الذي هداها وزكاها، وألهم نفوس
الفجار فجورها وأشقاها (من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له) يهدي
من يشاء بفضله ورحمته، ويضل من يشاء بعدله وحكمته. هذا فضله وعطاؤه، وما
فضل الكريم بممنون [13] وهذا عدله وقضاؤه {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (الأنبياء: 23) .
قال ابن عباس: الإيمان بالقدر نظام التوحيد، فمن كذب بالقدر نقض تكذيبه
توحيده، ومن آمن بالقدر صدق إيمانه توحيده. وفي هذا المشهد يتحقق للعبد مقام:
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) ، علمًا وحالاً، فيثبت قدم العبد في
توحيده [14] الربوبية، ثم يرقى منه صاعدًا إلى توحيد الإلهية، فإنه إذا تيقن أن
الضر والنفع، والعطاء والمنع، والهدى والضلال، والسعادة والشقاء، كل ذلك بيد
الله لا بيد غيره، وأنه الذي يقلب القلوب ويصرفها كيف يشاء، وأنه لا موفق إلا
من وفقه وأعانه، ولا مخذول إلا من خذله وأهانه وتخلى عنه، وإن أصح القلوب
وأسلمها وأقومها، وأرقها وأصفاها، وأشدها وألينها، من اتخذه وحده إلهًا ومعبودًا،
فكان أحب إليه من كل ما سواه، وأخوف عنده من كل ما سواه، وأرجى له من كل
ما سواه، فتتقدم محبته في قلبه جميع المحاب، فتنساق المحاب تبعًا لها كما ينساق
الجيش تبعًا للسلطان، ويتقدم خوفه في قلبه جميع المخوفات، فتنساق المخاوف كلها
تبعًا لخوفه، ويتقدم رجاؤه في قلبه جميع الرجاء، فينساق كل رجاء تبعًا لرجائه.
فهذا علامة توحيد الإلهية في هذا القلب، والباب الذي دخل إليه منه توحيد
الربوبية، أي باب توحيد الإلهية توحيد الربوبية [15] فإن أول ما يتعلق القلب [16]
بتوحيد الربوبية ثم يرتقي إلى توحيد الإلهية، كما يدعو سبحانه عباده في كتابه بهذا
النوع من التوحيد إلى النوع الآخر، ويحتج عليهم به، ويقررهم به، ثم يخبر أنهم
ينقضونه بشركهم به في الإلهية.
وفي هذا المشهد يتحقق له مقام (إياك نعبد) قال الله تعالى: {وَلَئِن سَألْتَهُم
مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} (العنكبوت: 61) ؛ أي فمن أين يصرفون عن شهادة أن لا إله إلا الله، وعن
عبادته وحده، وهم يشهدون أنه لا رب غيره ولا خالق سواه [17] وكذلك قوله تعالى:
{سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (المؤمنون: 85) ؛ فتعلمون أنه إذا كان
وحده مالك الأرض ومن فيها، وخالقهم وربهم ومليكهم، فهو وحده إلههم ومعبودهم،
فكما لا رب لهم غيره، فهكذا لا إله لهم سواه {قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ
العَرْشِ العَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ
يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ} (المؤمنون: 86-88)
…
الآيات. وهكذا قوله في سورة
النمل: {قُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ *
أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ
مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} (النمل: 59-60) ،
إلى آخر الآيات، يحتج عليهم بأن من فعل هذا وحده، فهو الإله وحده، فإن كان
معه رب فعل هذا فينبغي أن تعبدوه، وإن لم يكن معه رب فعل هذا فكيف تجعلون
معه إلهًا آخر؟
ولهذا كان الصحيح من القولين في تقدير الآية: (أإله مع الله فعل هذا؟) حتى
يتم الدليل، فلا بد من الجواب بلا. فإذا لم يكن معه إله فعل كفعله فكيف تعبدون
آلهة أخرى سواه؟ فعلم أن إلهية ما سواه باطلة، كما أن ربوبية ما سواه باطلة
بإقراركم وشهادتكم. ومن قال: المعنى: هل مع الله إله آخر؟ من غير أن يكون
المعنى (فعل) فقوله ضعيف لوجهين: (أحدهما) أنهم كانوا يقولون: مع الله إلهة
أخرى، ولا ينكرون ذلك (الثاني) أنه لا يتم الدليل، ولا يحصل إفحامهم وإقامة
الحجة عليهم إلا بهذا التقدير؛ أي فإذا كنتم تقولون: إنه ليس معه إله آخر فعل مثل
فعله، فكيف تجعلون معه إلهًا آخر لا يخلق شيئًا وهو إعجاز؟ وهذا كقوله: {أَمْ
جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ
الوَاحِدُ القَهَّارُ} (الرعد: 16) . وقوله: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ
مِن دُونِهِ} (لقمان: 11) . وقوله: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لَاّ يَخْلُقُ} (النحل:
17) . وقوله: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} (النحل: 20)، وقوله:{وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} (الفرقان: 3) ، وهو كثير في القرآن وبه تتم الحجة كما تبين.
والمقصود أن العبد يحصل له هذا المشهد من مطالعة الجنايات والذنوب
وجريانها عليه وعلى الخليقة بتقدير العزيز الحكيم، وأنه لا عاصم من غضبه
وأسباب سخطه إلا هو، ولا سبيل إلى طاعته إلا بمعونته، ولا وصول إلى
مرضاته إلا بتوفيقه، فموارد الأمور كلها منه ومصادرها إليه، وأزِمَّة التوفيق
جميعها بيديه، فلا مستعان للعباد إلا به، ولا متكل إلا عليه [18] كما قال شعيب
خطيب الأنبياء: {وَمَا تَوْفِيقِي إلَاّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (هود: 88) .
***
فصل
المشهد السابع: مشهد التوفيق والخذلان
وهو من تمام هذا المشهد وفروعه، ولكن أفرد بالذكر لحاجة العبد إلى شهوده
وانتفاعه به. وقد أجمع العارفون بالله أن التوفيق هو أن لا يكلك الله إلى نفسك [19] ،
والخذلان هو أن يخلي بينك وبين نفسك. فالعبيد متقلبون بين توفيقه وخذلانه، بل
العبد في الساعة الواحدة ينال نصيبه من هذا وهذا، فيطيعه ويرضيه ويذكره ويشكره
بتوفيقه له، ثم يعصيه ويخالفه ويسخطه ويغفل عنه بخذلانه له. فهو دائر بين
توفيقه وخذلانه، فإن وفقه فبفضله ورحمته، وإن خذله فبعدله وحكمته، وهو
المحمود على هذا وهذا، له أتم حمد وأكمله، ولم يمنع العبد شيئًا هو له، وإنما
منعه ما هو مجرد فضله وعطائه، وهو أعلم حيث يضعه وأين يجعله. فمتى شهد
العبد هذا المشهد وأعطاه حقه، علم ضرورته وحاجته إلى التوفيق كل نفس وكل
لحظة وطرفة عين، وإن إيمانه وتوحيده بيده تعالى [20] لو تخلى عنه طرفة عين
لثُلَّ عرش توحيده، ولخرت سماء إيمانه على الأرض، وإن الممسك له من يمسك
السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه. فهجّيرَى قلبه [21] ودأب لسانه: (يا مقلّب
القلوب ثبت قلبي على دينك، يا مصرّف القلوب صرّف قلبي إلى طاعتك) ودعواه:
(يا حيّ يا قيوم يا بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام، لا إله إلا أنت
برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا إلى
أحد من خلقك) ، ففي هذا المشهد يشهد توفيق الله وخذلانه، كما يشهد ربوبيته
وخلقه، فيسأله توفيقه مسألة المضطر، ويعوذ به من خذلانه عياذ الملهوف، ويُلقي
نفسه بين يديه، طريحًا ببابه، مستسلمًا له، ناكس الرأس بين يديه، خاضعًا ذليلاً
مستكينًا، لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا، ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا.
والتوفيق إرادة الله من نفسه أن يفعل بعبده ما يصلح به العبد، بأن يجعله
قادرًا على فعل ما يرضيه، مريدًا له، محبًّا له، مؤثرًا له على غيره، ويبغض
إليه ما يسخطه ويكرهه إليه. وهذا مجرد فعله، والعبد محل له، قال تعالى:
{وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إلَيْكُمُ
الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إلَيْكُمُ الكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ*
فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (الحجرات: 7-8) . فهو سبحانه عليم
بمن يصلح لهذا الفضل ومن لا يصلح له، حكيم يضعه في مواضعه وعند أهله، لا
يمنعه أهله، ولا يضعه عند غير أهله. وذكر هذا عقيب قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ
رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} (الحجرات: 7) ، ثم جاء به [22]
بحرف الاستدراك فقال: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إلَيْكُمُ الإِيمَانَ} (الحجرات: 7) ؛
يقول سبحانه: لم تكن محبتكم للإيمان وإرادته وتزيينه في قلوبكم منكم، ولكن الله
هو الذي جعله في قلوبكم كذلك فآثرتموه ورضيتموه؛ فلذلك لا تقدموا بين يدي رسولي
ولا تقولوا حتى يقول ولا تفعلوا حتى يأمر. فالذي حبب إليكم الإيمان أعلم
بمصالح عباده منكم، وأنتم فلولا توفيقه لكم [23] لما أذعنت نفوسكم للإيمان، فلم يكن
الإيمان بمشورتكم وتوفيق أنفسكم، ولا تقدمتم به إليها، فنفوسكم تقصر وتعجز عن
ذلك ولا تبلغه، فلو أطاعكم رسولي في كثير مما تريدون لشق عليكم ذلك، ولهلكتم
وفسدت مصالحكم وأنتم لا تشعرون، ولا تظنوا أن نفوسكم تريد بكم الرشد
والصلاح، كما أردتم الإيمان، فلولا أني حببته إليكم وزينته في قلوبكم، وكرهت
إليكم ضده، لما وقع منكم ولا سمحت به أنفسكم.
وقد ضرب للتوفيق والخذلان مثلُ مَلِك أَرسل إلى أهل بلد من بلاده رسولا؛
وكتب معه [24] كتابًا يعلمهم أن العدو مصبحهم عن قريب، ومجتاحهم ومخرب البلد
ومهلك من فيها، وأرسل إليهم أموالاً ومراكبَ وزادًا وعدةً وأدلةً، وقال: ارتحلوا
إليّ مع هؤلاء الأدلة، وقد أرسلت إليكم جميع ما تحتاجون إليه. ثم قال لجماعة من
مماليكه: اذهبوا إلى فلان فخذوا بيده واحملوه [25] ولا تذروه يقعد، واذهبوا إلى
فلان كذلك وإلى فلان، وذروا من عداهم فإنهم لا يصلحون أن يساكنوني في بلدي.
فذهب خواص مماليكه إلى من أمروا بحملهم فلم يتركوهم يقرون، بل حملوهم حملاً
وساقوهم سوقًا إلى الملك، فاجتاح العدو من بقي في المدينة وقتلهم، وأسر من أسر.
فهل يعد الملك ظالمًا لهؤلاء أم عادلاً فيهم؟ نعم؛ خَصّ أولئك بإحسانه وعنايته
وحرمها من عداهم؛ إذ لا يجب عليه التسوية بينهم في فضله وإكرامه، بل ذلك
فضله يؤتيه من يشاء.
وقد فسرت القدرية الجبرية التوفيق بأنه خلق الطاعة، والخذلان (بأنه) خلق
المعصية. ولكن بنوا ذلك على أصولهم الفاسدة من إنكار الأسباب والحكم، وردوا
الأمر إلى محض المشيئة من غير سبب ولا حكمة. وقابلهم القدرية النفاة، ففسروا
التوفيق بالبيان العام، والهدي العام، والتمكن من الطاعة والإقبال عليها وتهيئة
أسبابها. وهذا حاصل لكل كافر ومشرك بلغته الحجة وتمكن من الإيمان. فالتوفيق
عندهم أمر مشترك بين الكفار والمؤمنين، إذ الأقدار والتمكين والدلالة والبيان قد
عمّ به الفريقين [26] ولم يفرد المؤمنين عندهم بتوفيق وقع به الإيمان منهم، والكفار
بخذلان امتنع به الإيمان منهم، ولو فعل ذلك لكان عندهم محاباة وظلمًا. والتزموا
لهذا الأصل لوازم قامت بها عليهم سوق الشناعة بين العقلاء ولم يجدوا بدًّا من
التزامها، فظهر فساد مذهبهم، وتناقض أقوالهم [27] لمن أحاط به علمًا وتصوره
حق تصوره، وعلم أنه من أبطل مذهب (؟) في العالم وأرداه.
وهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، والله يهدي من يشاء
إلى صراط مستقيم. فلم يرضوا بطريق هؤلاء ولا طريق هؤلاء، وشهدوا انحراف
الطريقين عن الصراط المستقيم، فأثبتوا القضاء والقدر وعموم مشيئة الله للكائنات
وأثبتوا الأسباب والحكم والغايات والمصالح، ونزهوا الله عز وجل أن يكون في
ملكه ما لا يشاء، أو أن يقدر خلقه على ما لا يدخل تحت قدرته ولا مشيئته، أو أن
يكون شيء من أفعالهم واقعًا بغير اختياره وبدون مشيئته. ومن قال ذلك فلم يعرف
ربه، ولم يثبت له كمال الربوبية. ونزهوه مع ذلك عن العبث وفعل القبيح وأن
يخلق شيئًا سدًى، وأن تخلو أفعاله عن حِكَم بالغة لأجلها أوجدها، وأسباب بها
سبّبها، وغايات جعلت طرقًا ووسائل إليها. وأن له في كل ما خلقه وقضاه حكمة
بالغة. وتلك الحكمة صفة له قائمة به ليست مخلوقة كما تقول القدرية النفاة للقدر
والحكمة في الحقيقة.
فأهل الصراط المستقيم بريئون من الطائفتين، إلا من حق تتضمنه مقالاتهم،
فإنهم يوافقونهم عليه ويجمعون حق كل منهما إلى حق الأخرى، ولا يبطلون ما
معهم من الحق لِمَا قالوه من الباطل، فهم شهداء الله على الطوائف أمناء عليهم،
حكام بينهم، حاكمون عليهم، ولا يحكم عليهم أحد منهم، يكشفون أحوال الطوائف،
ولا يكشفهم إلا من كشف له عن معرفة ما جاء به الرسول [28] وعرف الفرق بينه
وبين غيره ولم يلتبس عليه، وهؤلاء أفراد العالم ونخبته وخلاصته، ليسوا من
الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا، ولا من الذين تقطعوا أمرهم بينهم زبرًا، بل ممن
هو على بينة من ربه وبصيرة في إيمانه، ومعرفة بما عند الناس، والله الموفق.
***
فصل
المشهد الثامن: مشهد الأسماء والصفات
وهو من أجلّ المشاهد، وهو أعلى مما قبله وأوسع. والمطلع [29] على هذا
المشهد معرفة تعلق الوجود خلقًا وأمرًا بالأسماء الحسنى، والصفات العلى،
وارتباطه بها، وإن كان العالم بما فيه من بعض آثارها ومقتضياتها. وهذا من أجل
المعارف وأشرفها، وكل اسم من أسمائه سبحانه له صفة خاصة، فإن أسماءه
أوصاف مدح وكمال، وكل صفة لها مقتضٍ وفِعل: إما لازم وإما متعدٍّ، ولذلك
الفعل تعلق بمفعول هو من لوازمه، وهذا في خلقه وأمره وثوابه وعقابه، كل ذلك
آثار الأسماء الحسنى وموجباتها. ومن المحال تعطيل أسمائه عن أوصافها ومعانيها،
وتعطيل الأوصاف عما تقتضيه وتستدعيه من الأفعال، وتعطيل الأفعال عن
المفعولات، كما أنه يستحيل تعطيل مفعوله عن أفعاله، وأفعاله عن صفاته،
وصفاته عن أسمائه، وتعطيل أسمائه وأوصافه عن ذاته.
وإذا كانت أوصافه صفات كمال، وأفعاله حكمًا ومصالحَ، وأسماؤه حسنى،
ففرض تعطيلها عن موجباتها مستحيل في حقه. ولهذا ينكر سبحانه على من عطله
عن أمره ونهيه وثوابه وعقابه، وأنه نسبه إلى ما لا يليق به، ويتنزه عنه [30] وأن
ذلك حكم سيئ ممن حكم به عليه، وإن من نسبه إلى ذلك فما قدره حق قدره، ولا
عظمه حق تعظيمه، كما قال تعالى في حق منكري النبوة وإرسال الرسل وإنزال
الكتب: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} (الأنعام: 91)، وقال تعالى في حق منكري المعاد والثواب والعقاب: {وَمَا قَدَرُوا
اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (الزمر: 67) . وقال في حق من جوز عليه التسوية بين المختلفين كالأبرار
والفجار، والمؤمنين والكفار: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ
كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (الجاثية:
21) . فأخبر أن هذا حكم سيئ لا يليق به، تأباه أسماؤه وصفاته، وقال سبحانه:
{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ المَلِكُ الحَقُّ لَا إِلَهَ
إلا َّ هُوَ رَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ} (المؤمنون: 115-116) ، عن هذا الظن
والحسبان، الذي تأباه أسماؤه وصفاته.
ونظائر هذا في القرآن كثير، ينفي عن نفسه خلاف موجب أسمائه وصفاته،
إذ ذلك [31] مستلزم تعطيلها عن كمالها ومقتضياتها، فاسمه الحميد المجيد يمنع ترك
الإنسان سدًى مهملاً معطلاً، لا يؤمر ولا ينهى ولا يثاب ولا يعاقب، وكذلك اسمه
الحكيم، يأبى ذلك، وكذلك اسمه الملك، واسمه الحي يمنع أن يكون معطلاً من
الفعل بل حقيقة الحياة الفعل، فكل حيّ فعّال، وكونه سبحانه خالقًا قيومًا من
موجبات حياته ومقتضياتها، واسمه السميع البصير يوجب مسموعًا ومرئيًّا، واسمه
الخالق يقتضي مخلوقًا. وكذلك الرزاق. واسمه الملك يقتضي مملكةً وتصرفًا
وتدبيرًا وإعطاءً ومنعًا وإحسانًا وعدلاً وثوابًا وعقابًا. واسم البر المحسن المعطي
المنان ونحوها تقتضي آثارها وموجباتها.
إذا عرف هذا فمن أسمائه سبحانه الغفار التواب العفو [32] فلا بد لهذه الأسماء
من متعلقات، ولا بد من جناية تغفر، وتوبة تقبل، وجرائم يعفى عنها. ولا بد
لاسمه الحكيم من متعلق يظهر فيه حكمه [33] إذ اقتضاء هذه الأسماء لآثارها كاقتضاء
اسم الخالق الرازق المعطي المانع للمخلوق والمرزوق والمعطى والممنوع، وهذه
الأسماء كلها حسنى، والرب تعالى يحب ذاته وأوصافه وأسماءه. فهو عفو يحب
العفو، ويحب المغفرة ويحب التوبة، ويفرح بتوبة عبده حين يتوب إليه أعمّ فرح
يخطر بالبال. وكان تقدير ما يغفره ويعفو عن فاعله ويحلم عنه ويتوب عليه
ويسامحه من موجب أسمائه وصفاته، وحصول ما يحبه ويرضاه من ذلك، وما
يحمد به نفسه ويحمده به أهل سماواته وأهل أرضه، ما هو من موجبات كماله
ومقتضى حمده. وهو سبحانه الحميد المجيد، وحمده ومجده يقتضيان آثارهما ومن
آثارهما مغفرة الزلات، وإقالة العثرات، والعفو عن السيئات، والمسامحة على
الجنايات، هذا [34] مع كمال القدرة على استيفاء الحق، والعلم منه سبحانه بالجناية
ومقدار عقوبتها، فحلمه بعد علمه، وعفوه بعد قدرته، ومغفرته عن كمال عزته
وحكمته، كما قال المسيح صلى الله عليه وسلم {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن
تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} (المائدة: 118) . أي فمغفرتك عن كمال
قدرتك وحكمتك، لست كمن يغفر عجزًا، ويسامح جهلاً بقدر الحق، بل أنت عليم
بحقك، قادر على استيفائه، حكيم في الأخذ به.
فمن تأمل سريان آثار الأسماء والصفات في العالم وفي الأمر تبين له أن
مصدر قضاء هذه الجنايات من العبيد، وتقديرها هو من كمال الأسماء والصفات
والأفعال، وغاياتها أيضًا مقتضى حمده ومدده، كما هو مقتضى ربوبيته وإلهيته،
فله في كل ما قضاه وقدره الحكمة البالغة، والآيات الباهرة، والتعرفات إلى عباده
بأسمائه وصفاته، واستدعاء محبتهم له وذكرهم له وشكرهم له، وتعبدهم له بأسمائه
الحسنى، إذ كل اسم فله تعبد مختص به علمًا ومعرفةً وحالاً، وأكمل الناس عبودية
المتعبد بجميع الأسماء والصفات التي يطلع عليها البشر، فلا يحجبه عبودية اسم
عن عبودية اسم آخر، كمن يحجبه التعبد باسمه القدير، عن التعبد باسمه الحكيم
الرحيم، أو يحجبه عبودية اسمه المعطي من عبودية اسمه المانع، أو عبودية اسمه
الرحيم والعفو والغفور عن اسمه المنتقم، أو التعبد بأسماء التودد والبر واللطف
والإحسان عن أسماء العدل والجبروت والعظمة والكبرياء ونحو ذلك. وهذه طريقة
الكمّل من السائرين إلى الله، وهي طريقة مشتقة من قلب القرآن. قال الله تعالى:
{وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (الأعراف: 180) ، والدعاء بها يتناول
دعاء المسألة ودعاء الثناء ودعاء التعبد. وهو سبحانه يدعو عباده إلى أن يعرفوه
بأسمائه وصفاته، ويثنوا عليه بها، ويأخذوا بحظهم من عبوديتها، وهو سبحانه
يحب موجب أسمائه وصفاته. فهو عليم يحب كل عليم، وجوَادٌ يحب كل جواد،
وتْرٌ يحب الوتر، جميل يحب الجمال، عفو يحب العفو وأهله، حيي يحب الحياء
وأهله، بر يحب الأبرار، شكور يحب الشاكرين، صبور يحب الصابرين، حليم
يحب أهل الحلم، فلمحبته سبحانه للتوبة والمغفرة والعفو والصفح خلق من يغفر له
ويتوب عليه ويعفو عنه، وقدر عليه ما يقتضي وقوع المكروه والمبغوض له،
ليترتب عليه المحبوب له المرضي له، فتوسطه كتوسط الأسباب المكروهة
المفضية إلى المحبوب.
فربما كان مكروه النفوس إلى
…
محبوبها سببًا ما مثله سبب
والأسباب مع مسبباتها أربعة أنواع: محبوب يفضي إلى محبوب، ومكروه
يفضي إلى محبوب. وهذان النوعان عليهما مدار أقضيته وأقداره سبحانه بالنسبة
إلى ما يحبه ويكرهه. والثالث مكروه يفضي إلى مكروه. والرابع محبوب يفضي
إلى مكروه. وهذان النوعان ممتنعان في حقه سبحانه، إذ الغايات المطلوبة من
قضائه وقدره - الذي خلق ما خلق وقضى ما قضى لأجل حصولها - لا تكون إلا
محبوبة للرب مرضية له، والأسباب الموصلة إليها منقسمة إلى محبوب له
ومكروه له. فالطاعات والتوحيد أسباب محبوبة له موصلة إلى الإحسان والثواب
المحبوب له أيضًا، والشرك والمعاصي أسباب مسخوطة له، موصلة إلى العدل
المحبوب له، وإن كان الفضل أحب إليه من العدل؛ فاجتماع العدل والفضل أحب
إليه من انفراد أحدهما، لما فيهما من كمال الملك والحمد، وتنوع الثناء وكمال
القدرة.
فإن قيل: كان يمكن حصول هذا المحبوب من غير توسط المكروه. قيل هذا
سؤال باطل لأن وجود الملزوم بدون لازمه ممتنع، والذي يقدر الذهن وجوده شيء
آخر غير هذا المطلوب المحبوب للرب، وحكم الذهن عليه بأنه محبوب للرب حكم
بلا علم، بل قد يكون مبغوضًا للرب تعالى لمنافاته حكمته، فإذا حكم الذهن عليه
بأنه محبوب له كان نسبة له إلى ما لا يليق به ويتعالى عنه. فليعط اللبيب هذا
الموضع حقه من التأمل فإنه مزلة أقدام، ومضلة إفهام، ولو أمسك عن الكلام من
لا يعلم لقل الخلاف. وهذا المشهد أجل من أن يحيط به كِتاب، أو يستوعبه خطاب،
وإنما أشرنا منه إلى أدنى إشارة تطلع على ما وراءها، والله الموفق [35] .
***
فصل
المشهد التاسع: مشهد زيادة الإيمان وتعدد شواهده
وهذا من ألطف المشاهد وأخصها بأهل المعرفة. ولعل سامعه يبادر إلى
إنكاره ويقول: كيف يشهد زيادة الإيمان من الذنوب والمعاصي؟ ولا سيما ذنوب [36]
العبد ومعاصيه، وهل ذلك إلا منقص للإيمان؟ فإنه بإجماع السلف يزيد
بالطاعة وينقص بالمعصية. فاعلم أن هذا حاصل من التفات العارف إلى الذنوب
والمعاصي منه ومن غيره، وإلى ترتب آثارها عليها. وترتب هذه الآثار عليها علم
من أعلام النبوة، وبرهان من براهين صدق الرسل وصحة ما جاءوا به. فإن
الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أمروا العباد بما فيه صلاح ظواهرهم وبواطنهم
في معاشهم ومعادهم، ونهوهم عما فيه فساد ظواهرها وبوطنهم في المعاش والمعاد،
وأخبروهم عن الله عز وجل أنه يحب كذا وكذا [37] وأنه يبغض كيت وكيت،
ويعاقب عليه بكيت وكيت، وأنه إذا أطيع بما أمر به شكر عليه بالإمداد، والزيادة
والنعم في القلوب والأبدان والأموال، ووجد العبد زيادته وقوته في حاله كلها، وإنه
إذا خولف أمره ونهيه ترتب عليه من النقص والفساد والضعف والذل والنهاية
والحقارة وضيق العيش وتنكد الحياة ما ترتب، كما قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً
مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ} (النحل: 97)، وقال: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم
مَّتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} (هود: 3) . وقال
تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى} (طه: 124) ؛ وفسرت المعيشة الضنك بعذاب القبر؛ والصحيح أنها في الدنيا
وفي البرزخ، فإن من أعرض عن ذكره الذي أنزله فله من ضيق الصدر ونكد العيش
وكثرة الخوف وشدة الحرص والتعب على الدنيا والتحسر على فواتها قبل حصولها
وبعد حصولها، والآلام التي في خلال ذلك - ما لا يشعر به القلب - لسكرته
وانغماسه في السكر، فهو لا يصحو ساعة إلا أحس وشعر بهذا الألم فبادر إلى
إزالته بسكر ثانٍ، فهو هكذا مدة حياته. وأي عيشة أضيق من هذه لو كان للقلب
شعور فقلوب أهل البدع والمعرضين عن القرآن وأهل الغفلة عن الله وأهل
المعاصي في جحيم قبل الجحيم الكبرى، وقلوب الأبرار في نعيم قبل النعيم الأكبر،
{إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} (الانفطار: 13-14) ، هذا
في دورهم الثلاث ليس مختصًّا بالدار الآخرة، وإن كان تمامه وكماله وظهوره إنما
هو في الدار الآخرة [38] وفي البرزخ دون ذلك، كما قال تعالى: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ
ظَلَمُوا عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (الطور: 47)، وقال تعالى:
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ
الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} (النمل: 71-72) ، وفي هذه الدار دون ما في البرزخ، ولكن
يمنع من [39] الإحساس به الاستغراق في سكرة الشهوات، وطرح ذلك عن القلب
وعدم التفكير فيه. والعبد قد يصيبه ألم حسي فيطرحه عن قلبه ويقطع التفاته عنه،
ويجعل إقباله على غيره لئلا يشعر به جملةً، فلو زال عن ذلك الالتفات لصاح من
شدة الألم فما الظن بعذاب القلوب وآلامها؟ !
وقد جعل الله سبحانه للحسنات والطاعات آثارًا محبوبة لذيذة طيبة لذاتها فوق
لذة المعصية بأضعاف مضاعفة لا نسبة لها إليها، وجعل للسيئات والمعاصي آلامًا
وآثارًا مكروهةً، وحرازات تربي على لذة تناولها بأضعاف مضاعفة. قال ابن
عباس: إن للحسنة نورًا في القلب، وضياءً في الوجه، وقوةً في البدن، وزيادةً
في الرزق، ومحبةً في قلوب الخلق. وإن للسيئة سوادًا في الوجه وظلمةً في القلب
ووهنًا في البدن، ونقصًا في الرزق، وبغضةً في قلوب الخلق. وهذا يعرفه
صاحب البصيرة ويشهده من نفسه ومن غيره، فما حصل للعبد حال مكروهة قط إلا
بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر. قال الله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا
كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} (الشورى: 30) ، وقال لخيار خلقه وأصحاب
نبيه: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} (النساء:
79) ، والمراد بالحسنة والسيئة هنا النعم والمصائب التي تصيب العبد من الله.
ولهذا قال (ما أصابك) ولم يقل: ما أصبت. فكل نقص وبلاء وشر في الدنيا
والآخرة فسببه الذنوب ومخالفة أوامر الرب، فليس في العالم شر قط إلا الذنوب
وموجباتها.
وآثار الحسنات والسيئات في القلوب والأبدان، والأموال أمر مشهود في العالم،
لا ينكره ذو عقل سليم، بل يعرفه المؤمن والكافر، والبر والفاجر، وشهود العبد
هذا في نفسه وفي غيره وتأمله ومطالعته مما يقوي إيمانه بما جاءت به الرسل،
وبالثواب والعقاب، فإن هذا عدل مشهود محسوس في هذا العالم، ومثوبات
وعقوبات عاجلة دالة على ما هو أعظم منها لمن كانت له بصيرة، كما قال بعض
الناس: إذا صدر مني ذنب ولم أبادره ولم أتدراكه بالتوبة انتظرت أثره السيئ،
فإذا أصابني أو فوقه أو دونه كما حسبت، يكون هجيراي: (أشهد أن لا إله إلا الله،
وأشهد أن محمدًا رسول الله) ويكون ذلك من شواهد الإيمان وأدلته، فإن الصادق
مني أخبرك إنك إذا فعلت كذا وكذا ترتب عليه من المكروه كذا وكذا، فجعلت كلما
فعلت شيئًا من ذلك حصل ما قال من المكروه لم تزدد إلا علمًا بصدقه وبصيرةً فيه،
وليس هذا لكل أحد، بل أكثر الناس يرين الذنوب على قلبه فلا يشهد شيئًا من ذلك
ولا يشعر به ألبتة. وإنما يكون هذا لقلب فيه نور الإيمان، وأهوية الذنوب
والمعاصي تعصف فيه، فهو يشاهد هذا وهذا، ويرى حال مصباح إيمانه مع قوة
تلك الأهوية والرياح، فيرى نفسه كراكب البحر عند هيجان الرياح وتقلب السفينة
وتكفئها، ولا سيّما إذا انكسرت به وبقي على لوح تلعب به الرياح، فهكذا المؤمن
يشاهد نفسه عند ارتكاب الذنوب، إذا أريد به الخير، وإن أريد به غير ذلك فقلبه
في وادٍ آخر.
ومتى انفتح هذا الباب للبعد انتفع بمطالعة تاريخ العالم وأحوال الأمم،
ومجريات الخلق، بل انتفع بمجريات أهل زمانه وما يشاهده من أحوال الناس،
وفهم حينئذ معنى قوله تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} (الرعد
: 33) ، وقوله: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إلا َّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا العِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ
لَا إِلَهَ إلا َّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} (آل عمران: 18) ، فكل ما تراه في الوجود من
شر وألم وعقوبة وجدب ونقص في نفسك وفي غيرك فهو من قيام الرب تعالى
بالقسط، وهو عدل الله وقسطه، وإن أجراه على يدِ ظالم فالمُسَلِّط له أعدل العادلين،
كما قال تعالى لمن أفسد في الأرض: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً
لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ} (الإسراء: 5)
…
الآية، فالذنوب مثل
السموم مضرة بالذات، فإن تداركها من سقي بالأدوية المقاومة لها
…
، وإلا قهرت
القوة الإيمانية وكان الهلاك، كما قال بعض السلف: المعاصي بريد الكفر، كما أن
الحمى بريد الموت فشهود العبد نقص حاله إذا عصى ربه، وتغير القلوب عليه
وجفولها منه، وانسداد الأبواب في وجهه، وتوعر المسالك عليه وهو أنه على أهل
بيته وأولاده وزوجته وإخوانه [40] وتطلبه ذلك حتى يعلم من أين أتى، ووقوعه على
السبب الموجب لذلك مما يقوي إيمانه. فإن أقلع وباشر الأسباب التي تفضي به إلى
ضد هذه الحال، ورأى العز بعد الذل، والغنى بعد الفقر، والسرور بعد الحزن،
والأمن بعد الخوف، والقوة في قلبه - بعد ضعفه ووهنه - ازداد إيمانًا مع إيمانه،
فتقوى شواهد الإيمان في قلبه، وبراهينه وأدلته في حال معصيته وطاعته، فهذا
من الذين {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا
يَعْمَلُونَ} (الزمر: 35) ، وصاحب هذا المشهد متى تبصر فيه وأعطاه حقه
صار من أطباء القلوب العالمين بدائها ودوائها، فنفعه الله في نفسه ونفع به من شاء
من خلقه، والله أعلم.
***
فصل
المشهد العاشر: مشهد الرحمة
فإن العبد إذا وقع في الذنب خرج من قلبه تلك الغلظة والقسوة، والكيفية
الغضبية التي كانت عنده لمن صدر منه ذنب، حتى لو قدر عليه لأهلكه، وربما دعا
الله عليه أن يهلكه ويأخذه غضبًا منه لله وحرصًا على أن لا يعصى، فلا يجد في
قلبه رحمة للمذنبين الخاطئين ولا يراهم إلا بعين الاحتقار والازدراء، ولا يذكرهم
إلا بلسان الطعن فيهم والعيب لهم والذم، فإذا جرت عليه المقادير وخلي ونفسه
استغاث بالله والتجأ إليه، وتململ بين يديه تململ السليم، ودعاه دعاء المضطر،
فتبدلت تلك الغلظة على المذنبين رقة، وتلك القساوة على الخاطئين رحمة ولينًا،
مع قيامه بحدود الله، وتبدل دعاؤه عليهم دعاءًا لهم، وجعل لهم وظيفة من عمره؛
يسأل الله فيه أن يغفر لهم، فما أنفعه له من مشهد، وما أعظم جدواه عليه! والله
أعلم.
***
فصل
فيورثه ذلك (المشهد الحادي عشر)
وهو مشهد العجز والضعف، وأنه أعجز شيء عن حفظ نفسه وأضعفه، وأنه
لا قوة له ولا قدرة ولا حول إلا بربه، فيشهد قلبه كريشة ملقاة بأرض فلاة تقلبها
الرياح يمينًا وشمالاً، ويشهد نفسه كراكب سفينة في البحر تهيج بها الرياح،
وتتلاعب بها الأمواج، ترفعها تارة وتخفضها تارة أخرى، تجري عليه أحكام القدر
وهو كالآلة طريحًا بين يدي وليه ملقى ببابه، واضعًا خده على ثرى أعتابه، لا
يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا، ليس له من نفسه إلا
الجهل والظلم وآثارهما ومقتضياتهما، فالهلاك أدنى إليه من شراك نعله، كشاة ملقاة
بين الذئاب والسباع لا يردهم عنها إلا الراعي، فلو تخلى عنها طرفة عين
لتقاسموها أعضاءً. هكذا حال العبد ملقى بين الله وبين أعدائه من شياطين الإنس
والجن، فإن حماه منهم وكفهم عنه لم يجدوا إليه سبيلاً، إن تخلى عنه ووكله إلى
نفسه طرفة عين لم ينقسم عليهم بل هو نصيب من ظفر به منهم.
وفي هذا المشهد يعرف نفسه حقًّا، ويعرف ربه، وهذا أحد التأويلات للكلام
المشهور (من عرف نفسه عرف ربه) وليس هذا حديثًا عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم، إنما هو أثر إسرائيلي بغير هذا اللفظ أيضًا (يا إنسان اعرف نفسك
تعرف ربك) وفيه ثلاث تأويلات:
(أحدها) أن من عرف نفسه بالضعف؛ عرف ربه بالقوة، ومن عرفها
بالعجز؛ عرف ربه بالقدرة، ومن عرفها بالذل؛ عرف ربه بالعز، ومن عرفها
بالجهل؛ عرف ربه بالعلم، فإن الله سبحانه استأثر بالكمال المطلق والحمد والثناء
والمجد والغنى، والعبد فقير ناقص محتاج، وكلما ازدادت معرفة العبد بنقصه
وعيبه وفقره وذله وضعفه، ازدادت معرفته لربه بأوصاف كماله.
(التأويل الثاني) أن من نظر إلى نفسه وما فيها من الصفات الممدوحة من
القوة والإرادة والكلام والمشيئة والحياة، عرف أن من أعطاه ذلك وخلقه فيه أولى
به، فمعطي الكمال أحق بالكمال، فكيف يكون العبد حيًّا متكلمًا سميعًا بصيرًا مريدًا
عالمًا، يفعل باختياره، ومن خلقه وأوجده لا يكون أولى بذلك منه؟ . فهذا من
أعظم المحال، بل من جعل العبد متكلمًا أولى أن يكون هو متكلمًا، ومن جعله حيًّا
عليمًا سميعًا بصيرًا فاعلاً قادرًا، أولى أن يكون كذلك. فالتأويل الأول من باب
الضد وهذا من باب الأولوية.
(والتأويل الثالث) أن هذا من باب النفي. أي كما أنك لا تعرف نفسك التي
هي أقرب الأشياء إليك، فلا تعرف حقيقتها ولا ماهيتها ولا كيفيتها، فكيف تعرف
ربك وكيفية صفاته؟ . والمقصود أن في هذا المشهد يعرف العبد أنه عاجز ضعيف،
فيزول عنه رعونات الدعاوى والإضافات إلى نفسه، ويعلم أنه ليس له من الأمر
شيء وليس بيده شيء؛ إن هو إلا محض الفقر والعجز والضعف.
(للبحث بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(*) تابع لما نشر في ص 113 من المجلد السابع عشر.
(1)
المعنى المراد من لفظ المشهد: هو ما يغلب على اعتقاد الإنسان أو وجدانه وشعوره في معصيته أو معصية غيره، ومثله كل عامل في عمله، ويعبر بعض الناس الآن عن مثل هذا المعنى بالملاحظة. فيقال على عُرفهم: إن العامي الجاهل لا يلاحظ في المعصية إلا إرضاء
شهوته. ولكن الطبيب الجاهل يلاحظ معنى آخر مع قصد الشهوة وهو أن هذا العمل من الوظائف الطبيعية لبعض أعضاء الجسم. وعلى ذلك فقس.
(2)
حذفنا من هذا الموضع بحثًا وجيزًا في عقاب من ثبت أنه يؤذي بعينه، وأنه إن قتل بالعين لا يقتل بالسيف؛ لأن الجزاء من جنس العمل.
(3)
أي كبار الناس النافعين ورؤساؤهم. أي تعتبر رؤيتها في المنام بذلك.
(4)
أي في إفساد كل ما تصل إليه يده.
(5)
وفي نسخة (المغتذي) .
(6)
وفي نسخة (أكلها) .
(7)
كان الظاهر أي يقال (ضروري) ؛ لأنه خبر قوله فاحتياجه.
(8)
كذا.
(9)
وفي نسخة التغيرات.
(10)
وفي نسخة (تاركو الذنوب) .
(11)
وفي نسخة (من) .
(12)
بقي من بيان حكمة الله تعالى في تقدير الكفر والمعاصي كلمة ضرورية لا يتم بدونها. وهي معنى ذلك التقدير، وكونه لا دلالة فيه ولا اقتضاء للجبر والإكراه على الفعل. وذلك أنه تعالى خلق الناس مختارين في أفعالهم، يعملونها بإرادتهم، حسب علمهم أو ظنهم بأن فعل كذا أو تركه خير لهم. فكل عمل من أعمالهم حلقة من سلسلة الأسباب والمسببات قبله حلقة الاختيار، وهذا الترتيب هو التقدير، فالقدر جعل المسببات على قدر الأسباب، وانتظام الجميع في سلسلة واحدة ، وضده الخلق الأنف الذي هو مذهب القدرية. ومعناها أن الله تعالى يخلق كل شيء يقع في الكون ابتداءً واستئنافًا لا يكون شيء من الحوادث مبنيًّا على تقدير ونظام سابق، تكون فيه الأسباب على قدر المسببات، والنتائج أثرًا لترتيب المقدمات. فكل مخلوق له علم وإرادة واختيار يطيع أو يعصي باختياره الذي هو من قدر الله، ولا يخلق الله كل عمل يصدر منه خلقًا مستأنفًا كما يزعم منكرو القدر العميان. وله في هذا التقدير حِكَم كثيرة أشار المصنف إلى طائفة منها، والله عليم حكيم.
(13)
وفي نسخة بزيادة (أي مقطوع) وهو تفسير لممنون.
(14)
وفي نسخة (توحيد) بدون هاء.
(15)
وبعبارة أخرى توحيد الربوبية، باب يدخل منه إلى توحيد الإلهية.
(16)
وفي نسخة (العبد) .
(17)
وفي نسخة (وأنه لا خالق سواه) .
(18)
أي أن الذي يدرك حقيقة معنى القدر يعلم أن ما آتاه الله تعالى إياه من هدايات الحواس والعقل والوجدان، وما يصل إليه علمه المكتسب بها والضروري الذي هو أقوى منه، كل ذلك لا يكفي لتصريف إرادته واختياره دائمًا فيما هو خير له، فإنه مهما اتسع علمه واختياره يختار لنفسه أحيانًا كثيرة ما هو شر له في دينه ودنياه وعاجل أمهر وآجله، فإذا فقه هذا علم عِلْمَ شهود أنه لا يستغني طرفة عين عن توفيق الله وعنايته.
(19)
هذا تفسير باللازم، وأما الملزوم فكون الأسباب المكسوبة وغير المكسوبة موافقة للمصلحة الصحيحة.
(20)
وفي النسخة الثانية (وتوحيده ممسك بيد غيره بيده تعالى) .
(21)
هجيرى الإنسان (بكسر الهاء وتشديد الجيم المكسورة والقصر) دأبه الذي يلازمه ولا يتركه. ويسميها الناس في بعض البلاد في هذا العصر (لازمة) فالذي يكثر في كلامه من كلمة (مثلاً) يقولون: لازمته مثلاً.
(22)
سقط من النسخة الثانية لفظ (به) .
(23)
سقط من النسخة الثانية لفظ (لكم) .
(24)
وفي نسخة (له) .
(25)
وفي نسخة (فاحملوه) .
(26)
وفي نسخة (بين الفريقين)
(27)
وفي نسخة (قولهم)
(28)
وفي نسخة (الرسل) .
(29)
المطلع بفتح اللام. وخبره معرفة تعلق الوجود.
(30)
وفي نسخة: (بل يتنزه عنه) .
(31)
ونسخة (ذاك) .
(32)
وفي نسخة بواو العطف في هذه الأسماء الثلاثة الأخيرة. وهنا محل الشاهد.
(33)
وفي نسخة (حكمة) .
(34)
سقط لفظ (هذا) من النسخة الثانية.
(35)
وفي نسخة زيادة (المعين) .
(36)
وفي نسخة (من ذنوب) .
(37)
وفي نسخة زيادة (فيثيب عليه) .
(38)
ما رأيت أحدًا سبقني إلى تقرير هذا المعنى والاستدال عليه بالقرآن مثل المصنف.
(39)
وفي نسخة بسقوط (من) .
(40)
هذه الآثار التي تترتب على الذنب لا يشهدها كلها إلا المؤمن الذي يعيش بين المؤمنين الصادقين. وأما الجاحدون والمنافقون والفاسقون المصرون، فلا تتغير قلوب بعضهم على بعض لأجل المعصية، ولا يشعرون بهوانهم على أهل بيوتهم، إلا قليلاً وفي بعض المعاصي. دون بعض؛ فالذين اعتادوا شرب الخمر في بيوتهم، وغير بيوتهم يعدونها هم وأهلوهم كشرب
الماء. وللمعاصي آثار أخرى في الأخلاق وفي الصحة لا يغفل عن قبحها وشؤمها إلا من هو أجهل من الأنعام.
الكاتب: محمد طاهر التنير
الرد المتين على
مفتريات المبشرين [*]
لقد اطّلعنا على المجلة المدعوة (الشرق والغرب) التي يطبعها المبشرون
بمصر وقرأنا العدد الأول الذي صدر في 1 كانون الثاني سنة 1914 والعدد الثاني
الذي صدر في 15 من الشهر المذكور، وإذا فيهما - على زعم أولئك المبشرين -
تفنيد لما كتبناه في كتابنا الذي سميناه: (العقائد الوثنية في الديانة النصرانية) ،
وجميع ما قالوه ينحصر في خمسة أمور:
(الأول منها) : تطاولهم واستبحاتهم لكلام البذاء والتطاول. وهذا ليس له
عندنا جواب فليفرحوا وليتنعموا به.
(الأمر الثاني) : ادّعاؤهم أننا اعتمدنا في كتابنا على أقوال علماء نصارى
أوروبيين ملحدين. وهذا نجاوبهم عليه بأن لهم الخيار بما يصفونهم به. أما نحن
فنقول بحقهم أنهم علماء مستقلون قالوا الحق الذي وصل إليه علمهم بشأن ديانة
المبشرين غير مبالين بمن لا يرضاه منهم.
(الأمر الثالث) : عدم تصديقهم باطّلاعنا على الكتب التي ذكرناها في أول
الكتاب. وهذا أيضًا لهم الخيار فيه صدقوا أم لم يصدّقوا. ونقول لهم ولمن هم على
شاكلتهم: ها هي ذي مكتبتنا حاضرة لكل من يروم الاطلاع عليها، ونزيدهم -
وربنا شهيد - إنه عندنا عدة كتب غير التي ذكرناها لم ننقل منها كلمة واحدة؛ لشدة
اعتراضاتها على الديانة النصرانية. وجميعها تأليف علماء مسيحيين أوربيين. وإن
أحبوا فإننا مستعدون لذكر أسمائها، وأسماء المدن التي طبعت فيها مع أسماء
الطابعين.
(الأمر الرابع) : قولهم ما نصه بالحرف (فإذا استزادنا حضرته من نقد
بقية ما في كتابه فربما عدنا إليه في فرصة أخرى. ولكن ليسمح لنا الآن بهذه
النصيحة وهي أن لا يحشر نفسه بين العلماء الباحثين، بل ليدع ذلك لرجال العلم
وليبحث له عن شغل يرتزق منه والله يهدي سواء السبيل) .
أما من جهة نقدهم لبقية ما في كتابنا فإننا نشكره لهم سلفًا، فإننا لم نأت بكلمة
واحدة من عندنا، ولا بكلمة واحدة من كلام علماء المسلمين رضي الله عنهم، بل
جميع ما ذكرناه مأخوذ من كتب علماء الغرب المسيحيين خاصة، وأما أمرهم إيانا
بأن لا نحشر نفسنا بين العلماء الباحثين بل لندع ذلك لرجال العلم، وأن نبحث عن
شغل نرتزق منه! فأجيبهم عنه بأسف عظيم: أن والدي منذ نعومة أظفاري
وضعني بمدارس المبشرين، ولم يعلم أن الدارس فيها يخرج محبًّا للكسل والبطالة
واللهو والسباحة والتسول، وأكره شيء عليه السعي وراء شغل يرتزق منه،
ويفضل الخمول على السعي، والفاقة على الغنى؛ لرسوخ ما علموه إياه في عقله
كتعليمهم لتلاميذهم الصغار (فلا تهتموا للغد لأن الغد يهتم بما لنفسه) وكذلك (لا
تهتموا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون) وكذلك (انظروا إلى طيور السماء إنها لا
تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن، وأبوكم السماوي يقوتها) .
وكذلك فقال يسوع لتلاميذه: (الحق أقول لكم إنه يعسر أن يدخل غني إلى
ملكوت السماوات؟ وأقول لكم أيضًا: إن مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن
يدخل غني إلى ملكوت السموات. فأجاب بطرس حينئذ وقال له: ها نحن تركنا
كل شيء وتبعناك، فإذًا يكون لنا. وكل من ترك بيوتًا أو إخوةً أو أخواتٍ أو أبًا
أو أمًّا أو امرأةً أو أولادًا أو حقولاً من أجل اسمي يأخذ مئة ضعف ويرث الحيوة
الأبدية) . وغير ذلك كثير مما هو على هذا النمط، أما لو وضعني بمدارس
المسلمين، لكنت لكم من الشاكرين، لأن نصحكم يكون تذكيرًا لي بما درسته فيها
من آيات القرآن المجيد، والحديث الشريف، كقوله تعالى:] فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ
فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ [، وكقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ
الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (الجمعة: 10) ،
وكقوله تعالى: {وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً} (نوح: 12)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:(كاد الفقر أن يكون كفرًا)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (اعمل عمل امرئ يظن أنه لن يموت أبدًا، واحذر حذر
امرئ يخشى أن يموت غدًا) [1] وقوله صلى الله عليه وسلم: (ما أكل أحد قط خيرًا
من أن يأكل من عمل يده) [2] .
وكذلك أيضًا: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسًا مع أصحابه ذات يوم
فنظروا إلى شاب ذي جَلَدٍ وقوة وقد بكَّر يسعى فقالوا: ويح هذا لو كان شبابه وجلده
في سبيل الله. فقال صلى الله عليه وسلم: لا تقولوا هذا فإنه إن كان يسعى
على نفسه ليكفها عن المسألة ويغنيها عن الناس فهو في سبيل الله، وإن كان يسعى
على أبوين ضعيفين، أو ذرية ضعاف ليغنيهم ويكفيهم فهو في سبيل الله) [3]
واحسرتاه! ليته وضعني بمدارس تعلم القرآن المجيد، والحديث الشريف، أي
تعلم الحكمة، والهمة والرحمة، ولا كان وضعني بمدارس تعلم الكسل والخمول
والبلادة وحب التسول والفاقة وبغض المجد وكره الغنى.
(الأمر الخامس) : اعتراضهم على بعض علماء المسلمين الكرام
وتصريحهم باسم الأمير صاحب التآليف المشهورة المبنية على آيات القرآن المجيد
والحديث الشريف، ويكفهم ردًّا على اعتراضهم وتحاملهم ما أبدوه من العداوة
والبغضاء للحق وأهله.
أما اعتراضهم على آيات القرآن المجيد؛ كقولهم ما نصه بالحرف: (ولا نحن
نطلب من إخواننا المسلمين أن يبينوا لنا كيف يصح القول بأن هامان كان وزيرَ
فرعون، وأن مريم العذراء كانت أخت موسى وهارون، على ما يستفاد من
القرآن، ولا غير ذلك من المشاكل التي يستحيل التوفيق بينها وبين التاريخ) .
على رِسلِكُمْ يا أيها المبشرون الزاعمون إنكم لا تقولون إلا الحق المبين: فما
معنى ذكر مثل هذه المسائل وما مدخلها مع تفنيدكم لكتابنا؟ أَمَا آن لكم أن تتركوا
المغالطات والسفسطات والتمويهات وتمقتوها؟ أما آن لكم أن تتركوا التشدق بما
يعود عليكم بالخيبة والخذلان؟ واللهِ لو كان قصدكم الاستفهام حقيقةً لَمَا كنا نتأثر
باعتراضاتكم وتشدقاتكم، ولكن نعلم أن قصدكم بها إغواء عباد الله تعالى وتشكيك
عوامّ المسلمين في دينهم. ومع ذلك نقول لكم يا مرحبًا! سلوا عما تشاءون من
المشاكل التي تظنون استحالة التوفيق بينها وبين التاريخ الذي كتبته أيدي الصادقين.
ونقول لكم - مع أننا نعلم أنكم قصدتم بالتجاهل الإغواء وتشكيك عباد الله
تعالى -: إن المقصود من أخوية مريم العذراء هو أخوية تشبيه لا أخوية ولادة من
أب وأم، وهذا التشبيه كثير ومشهور في اللغات الشرقية، ولقد جاء مثله في إنجيل
متى ففي الفصل الثاني عشر من عدد 46 إلى 50: (وفيما يكلم الجموع إذا أمه
وإخوته قد وقفوا خارجًا طالبين أن يكلموه فأجاب وقال للقائل له: من هي أمي ومن
هم إخوتي؟ ثم مد يده نحو التلاميذ وقال: ها أمي وإخوتي؛ لأن من يصنع مشيئة
أبي الذي في السموات هو أخي وأختي وأمي) وجاء مثله في إنجيل مرقص
(راجع الفصل الثالث من عدد 32 إلى 34) .
وهكذا أخوة مريم لهارون عليهما السلام أي كأخوة المسيح عليه السلام لمن
أشار إليهم بيده. وكما يشبهون الصالح بأحد المشهورين بالتقوى والعفاف في الأيام
الخالية كذلك يشبهون الشرير المشهور بالخيانة في القرون الماضية كقولهم: (أخو
الحارث بن ظالم) وهكذا.
ولنا على الأعداد التي ذكرناها من الإنجيل سؤالات عديدة نود الاستفسار عنها
من حضرة المبشرين الذين انتقدوا إطلاق لقب (أخت هارون) على مريم ولكن
خوفًا من أن يتوهم أحد المسيحيين الشرقيين بأننا نقصد الحط من المعتقدات
النصرانية كما توهموه لمّا قلنا عن البلغاريين وحلفائهم إنهم كفار ظالمون لاستباحتهم
سفك دماء نساء وبنات وأولاد المسلمين ودفنهم جرحى العساكر العثمانية تحت
التراب وهم أحياء يقاسون ألم الجراح وألم الموت خنقًا، وإحراقهم النساء المسلمات،
وغير ذلك من الأعمال الوحشية التي لم يرو التاريخ صدور مثلها حتى ولا من
القبائل المتوحشة في إفريقية. لذلك نكتفي بهذين السؤالين مؤملين من حضرتهم
إفادتنا عنهما وهما:
(1)
إنهم يقولون عن مريم العذراء عليها السلام أنها لم تلد أحدًا غير
المسيح عليه السلام، والأناجيل تقول: إنه كان لها أولاد، فهل نصدق كلامهم
ونضرب بكلام الإنجيل عرض الحائط أم نصدق كلام الإنجيل ونكذب كلامهم.
(2)
يظهر من كلام الإنجيل أنها أي أمه لم تكن مؤمنة به ولا صانعة إرادة
مرسلة كتلاميذه، ولولا ذلك لَمَا تبرأ منها هي ومن معها من إخوته أشار نحو
الحاضرين بأنهم هم إخوته وأخواته وأمه. فلو كانت مؤمنة به لما فعل هذا لأن فيه
إهانة عظيمة لها، كما هو المتبادر من عبارة الإنجيل لكل من يقرؤه. ومعلوم أننا
نحن لا نؤمن بهذه القصة التي سموها إنجيلاً، بل نؤمن بأن أمه كانت مؤمنة تقية،
وأنه كان برًّا بها كما حكى الله عنه في قوله: {وَبَراًّ بِوَالِدَتِي} (مريم: 32) .
وقد أرسلنا إليهم كتاب (تاريخ الفحشاء) هدية كي يتسلوا به إلى أن نختصر
بعض فصول كتابنا الذي سميناه (مقام عيسى المسيح عليه السلام في النصرانية
والإسلام) لتنشر في المنار الأغر أدام الله شمس صدقه منيرة سماء العدل والمدنية.
وأما اعتراضهم على مسألة تحديد تعدد الزوجات، وأقوال الصوفي المتنصر
وغير ذلك مما ذكروه بمجلتهم فسنرد عليه في الفصول الآتية إن شاء الله تعالى.
محمد طاهر التنير
(المنار) :
نشرنا هذه النبذة ويتلوها الفصل الأول من الكتاب الذي أشار إليه الكاتب،
وقد تصرفنا في العبارة بعض التصرّف فإن في الأصل شدة في العبارة لا حاجة
إليها. وسنعلق على الفصل الآتي كلامًا نبين فيه الغرض من نشر أمثال هذه
المقالات.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(*) لصاحب الإمضاء من متخرجي الكلية الأمريكانية ببيروت.
(1)
المنار: رواه البيهقي عن عبد الله بن عمرو.
(2)
رواه البخاري عن المقدام.
(3)
رواه الطبراني عن كعب بن عجرة.
الكاتب: محمد طاهر التنير
مقام عيسى
يسوع المسيح عليه السلام
في النصرانية والإسلام
الفصل الأول في نسبه
(تنبيه مهم)
إن إهانة الناس واحتقار أديانهم لَمِنْ أقبح الأعمال وأعظمها كرهًا ومقتًا
عند المسلمين كافة، ولا يتأتى عنها إلا العداوة والبغضاء، على مخالفتها للشريعة
الغرَّاء، قال الله تعالى:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} (البقرة:
256) ، وكل من يتدبر الحقائق بعين الصدق والإنصاف يرى أن جميع ما كتبه
علماء المسلمين رضي الله عنهم قديمًا وحديثًا بشأن النصرانية لم يكن سوى رد
على المفتريات التي رمى الظالمون بها دين الإسلام المبين، بغيًا وعدوانًا حينًا بعد
حين، وهذا الافتراء الذي اتخذه المبشرون وغيرهم من قسيسي الفرق النصرانية
مهنة لهم في هذه الأيام هو الذي اضطرنا إلى كتابة هذه الكتب وهي: (العقائد
الوثنية، في الديانة النصرانية. ومقام عيسى عليه السلام في النصرانية والإسلام)
و (آداب الإسلام وتعليم التوراة والإنجيل) و (أخلاق عيسى المسيح عليه السلام
في الأناجيل وفي القرآن المجيد) ولم يطبع منها سوى (كتاب العقائد الوثنية) وإن
شاء الله تعالى سنطبع البقية بأقرب وقت بعد ما ننشر أكثر فصولها باختصار في
المنار الأغر.
وقد بيّنا الحقائق - ولله الحمد - بطريقة ترضي حتى أشد الناس عداوة لدين
الإسلام المبين؛ إذ لا خير يرجى من كتابة ما يغضب الناس ولا سيّما في الأمور
الدينية التي هي أعز شيء عند الإنسان، مهما كان دينه. قال الله تعالى: {ادْعُ
إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ
أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (النحل: 125) فالحمد لله على
نعم تعليم القرآن المجيد، الذي لولاه لكنا مثل أولئك المبشرين ومن ينحو نحوهم،
الذين ألفوا تلك الكتب السافلة المشحونة بالباطل والتطاول والافتراء وغير ذلك ممّا
هو من أخلاقهم وخصالهم.
وإنَّا نلفت نظر القارئ الفاضل إلى أمر ذي بال وهو اقتصارنا على ما جاء
في التوراة والإنجيل كي لا يقدر أحد منهم على نسبة الكلام إلينا كما فعلوا بنسبة
كلام العلماء الأوروبيين الذين استشهدنا بكلامهم في كتابنا (العقائد الوثنية) إلينا،
مع أننا ذكرنا أسماءهم بالعربية والإفرنجية، ولننظر الآن ماذا يقول أولئك القوم
الذين ألفوا تلك الكتب السافلة ضد دين الإسلام المبين.
***
الجد الأول من جدود الزنا
عقد الفصل الـ 38 من سفر التكوين من أوله إلى آخره لبيان زنا القديس
(يهوذا) بكنَّته (ثامار) وحملها منه، وأنها وضعت ولدين ذكرين سماهما (فارص)
و (زارح) والمبشرون المؤلفون لتلك الكتب والرسائل يقولون: إن فاديهم
ومخلصهم وخالقهم (يسوع المسيح) من سلالة (فارص) المباركة وبما أن هذه
القصة الشريفة لها علاقة مهمة مع هذا الرب المختار الولادة من الزنا نأتي عليها
باختصار، ومن يحب الزيادة فليقرأ الفصل المذكور يرى فيه ما ملخصه أن يهوذا
نزل عند رجل عدلامي اسمه (حيرة) فرأى ابنة رجل كنعاني اسمه (شوع)
فأخذها ودخل عليها وولدت له ثلاثة أولاد ذكور اسم الكبير (عير) والثاني (أوثان)
والثالث (شيلة) ولما كبر عير أخذ له زوجة من بنات الكنعانيين اسمها (ثامار)
فعمل الشر بعيني الرب فأهلكه فأمر يهوذا ابنه (أوثان) بأن يأخذ زوجة أخيه ويقيم
له نسلاً فتزوجها أوثان.
وبما أن النسل الذي يأتيه منها يعد نسل أخيه لا نسله صار إذا ضاجعها يفسد
على الأرض (أي يعزل ماءه) لئلا تحمل منه فأماته رب التوراة وأبقى أباه القديس
لأنه لما زنى بها لم يفسد على الأرض ولما مات أمرها يهوذا بأن تقعد أرملة ببيت
أبيها وأنه متى كبر ابنه شيلة يعطيها إياه زوجًا لها وقال في نفسه: ربما يعمل كما
عمل أخواه فيميته الرب مثلهما. فذهبت إلى بيت أبيها ومضت الأيام وكبر (شيلة)
ولم يعطه لها. وبلغها أن حماها المذكور (القديس يهوذا) ذاهب إلى (تمنة) مع
صاحبه العدلامي ليقص صوف غنمه فخلعت ثياب ترملها وغطت وجهها وجلست
على طريق (تمنة) فلما رآها ظنها هذا القديس زانية وراودها عن نفسها فقالت له:
ماذا تعطيني؟ فقال لها أعطيك جدي معز أبعثه لك. فقالت له: أعطني رهنًا
فأعطاها عصابته وخاتمه وعصاه وزنى بها. ولما وصل إلى تمنة أرسل لها الجدي
مع صديقه العدلامي لِيَفْتَكَّ الرهن. فلم يجدها فرجع وأخبر يهوذا. فقال له: لتذهب
بما معها كي لا يلحقنا عار. فحبلت منه ووضعت ولدين ذكرين سمتهما (فارص)
و (زارح) ويسوع المسيح من نسل فارص المبارك.
ولنا على هذه القصة عدة أسئلة وملاحظات مهمة ذكرناها في كتابنا (مقام
عيسى المسيح عليه السلام في النصرانية والإسلام) نذكر منها هنا مسألتين فقط؛ لأن
قصدنا الاختصار كي لا نضيع كثيرًا من صفحات المنار الأغر لأن عليه أداء
خدمات إسلامية مهمة.
(أولاهما) تقول التوراة إنه ظنها زانية لأنها كانت مغطية وجهها. وهذا
باطل عقلاً ويكفي لرده وإظهار بطلانه ما جاء في التوراة والإنجيل (منها) في
قول سفر التكوين (24: 64 و 65) : (ورفعت رفقة عينها فرأت إسحاق فنزلت
عن الجمل وقالت للعبد: من هذا الرجل الماشي في الحقل للقائنا؟ فقال العبد: هو
سيدي. فأخذت البرقع وتغطت) . وجاء في الرسالة الأولى إلى أهل كورنتوس
(11: 16) : (لأن المرأة إن لم تتغط فليقص شعرها أو يحلق، وإن كان عيبًا على
المرأة أن يقص شعرها أو يحلق فلتتغط) فالحجاب عَلَم المخَدَّرات الطاهرات، وسِيمَة
الخيِّرات الطيبات، كما أن التبرج والابتذال من علامات الفواجر الزانيات.
(ثانيتها) تخبرنا التوراة عن ذهاب يهوذا مع صاحبه العدلامي، وأنه كان
معه لما راودها عن نفسها، وأنه أرسل الجدي الوديع معه، وأنه لم يجدها وغير
ذلك، لكنها لم تذكر هل زنى بها هذا العدلامي أيضًا أم لا؟ ويدل العقل والعادة بين
الفساق في هذه الأمور التي يشتركون فيها وإرسال الأجرة - أي الجدي - إليها معه
على أنه زنى بها مع يهوذا. وإذا صح هذا فمن المحال معرفة ممن كان الحمل
وربما حملت من كل واحد بولد، ولا يبعد حينئذ أن يكون زارح بن يهوذا،
وفارص بن العدلامي. وكيفما كان فإن هذا المجد الأعلى للمسيح قد خلق من ماء
الزنا.
***
الجد الثاني
جاء في سفر يشوع بن نون ما نصه (2: 1) (فأرسل يشوع بن نون
رجلين من شطين جاسوسين تحت الخفاء قائلاً: امضيا انظرا الأرض وأريحا.
فانطلقا ودخلا بيت امرأة زانية اسمها راحاب وباتا عندها) وجاء في هذا السفر ذاته
(6: 17) (ولتكن المدينة بكل ما فيها مبسلة للرب، ولكن راحاب الزانية تحيا
هي وجميع من معها في بيتها) انتهى.
وهذه راحاب الزانية زنى بها سلمون وهو من سلالة فارص الذي هو الأصل
الأول من أصول الزنا المقدس. فحبلت ووضعت (بوعز) الذي من سلالته جاء
(حمل الله الوديع) وما قلناه بخصوص عدم معرفة الحمل ممن كان عند ذكرنا الجد
الأول، هل كان من يهوذا أو من العدلامي؟ نقوله هنا أيضًا؛ لأن كلا الجاسوسين
باتا عند هذه الزانية فكيف يعرف ممن علقت؟
(الشاهد الثالث) في سفر الملوك الثاني (11: 2 - 5) نقلنا هذه الأعداد
عن التوراة المطبوعة بمطبعة اليسوعيين بمدينة بيروت. واسم هذا السفر في توراة
الابروسطانت (سفر صموئيل الثاني) : (وكان عند المساء أن داود قام عن سريره
وتمشى على سطح بيت الملك فرأى عن السطح امرأة تستحم، وكانت المرأة جميلة
جدًّا، فأرسل داود وسأل عن المرأة فقيل له هذه بتشابع بنت إليعام امرأة أوريا
الحثي، فأرسل داود رسلاً وأخذها فدخلت عليه فدخل بها، وتطهرت من نجاستها
ورجعت إلى بيتها، وحملت المرأة فأرسلت وأخبرت داود وقالت إنني حامل)
انتهى؛ فوضعت ولدًا ومات ثم زنى بها ثانية (على زعمهم) فحبلت ووضعت
سليمان وهو الأصل الثالث من الثالوث الزاني.
وبما أننا قصدنا الاختصار بقدر الإمكان لذلك لم نكتب ما جاء في تفاسيرهم
على التوراة والإنجيل وإن كان موجودًا في كتابنا؛ لأن على المنار الأغر خدمات
عظيمة فلا نضيع من صفحاته أكثر من هذا القدر.
فهذا ما عندهم وهذا ما يدعون الناس إلى الإيمان والاهتداء به، وأما ما عندنا
وندعو إليه أهل الفضل والعقل بعد تبرئة أنبياء الله من الفسق والفجور فهو:
***
اعتقاد المسلمين طهارة نسب عيسى
المسيح عليه السلام
قال الله تعالى في سورة آل عمران: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ
إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ
قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ
السَّمِيعُ العَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ
وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
* فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا} (آل عمران: 33-37) .
وقال الله تعالى في سورة العنكبوت بعد ذكر إبراهيم عليه وعلى آله الصلاة
والسلام: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ
أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} (العنكبوت: 27) .
الله أكبر! فلينظر المبشرون والأب لويس شيخو - الذي ألف رسالة منذ بضع
سنين وسماها (خرافات القرآن) وقد ترجمها المبشر المدعو (زويمر)[1] ونشرها
في مجلته (العالم الإسلامي) - إلى اعتقاد المسلمين بطهارة نسب عيسى المسيح
عليه السلام. فإنهم إذا نظروه من جهة القرآن المجيد يرونه من سلالة طيبة زكية
حماها الحي القيوم من التلطخ بأقذار وأدران الزنا والسفاح.
فلينظروا أي الوصفين أحب إليهم بحق هذه الذات الشريفة وليتمسكوا به.
وايم الله إننا ما كنا نحب كتابة ما ذكرناه على هذا الموضوع غير أن ضرورة الحال
تمنعنا.
***
اعتقاد المبشرين أن المسيح إلههم صار لعنة
والعياذ بالله تعالى
قال مقدسهم بولس في رسالته إلى أهل غلاطية الإصحاح الثالث العدد (3:
13) : (المسيح افتدانا من لعنة الناموس إذ صار لعنة لأجلنا لأنه مكتوب: ملعون
كل من علق على خشبة) .
يعلم الناس أن النصارى يعتقدون أن المسيح هو إلههم وربهم وخالقهم
ومخلصهم، وكتابهم المقدس يلقنهم أنه (صار لعنة) ، واللعنة غاية المبالغة في
الشتم والازدراء وليس بعدها زيادة لمستزيد، وأي شيء يمكن أن يؤتى به ويكون
أشد قبحًا من قول مقدسهم: إنه (صار لعنة) ؛ أي أنه نفس اللعنة؟ فما هذا الحب
الذي قادهم إلى القول بألوهيته من جهة ثم قادهم إلى القول بأنه (صار لعنة) من
جهة أخرى؟ . دع اعتقادهم بأنه من سلالة زناء مثلث كما بيناه سابقًا، فهم - والحالة
هذه - أسوأ حالاً من أشد أعدائه؛ لأن مقام العداوة لا يطلب إلا أقبح الأوصاف، ومقام
المحبة لا يطلب إلا أحسنها وأكملها، فهم يدّعون محبته عليه السلام ويعتقدون أنه
خالقهم ورازقهم وفاديهم ومخلصهم، ثم يصفونه بهذا الوصف
…
فما بالهم لا
يتدبرون ما يعتقدون.
وبما أنه إله على حسب اعتقادهم - والعياذ بالله تعالى - فمَنْ ذا الذي صيّره
لعنةً؟ هذا ما نود إيضاحه منهم! وأغرب من ذلك اعتقادهم أن الإله ذو ثلاثة أقانيم
(أي أشخاص) وهي الآب والابن والروح القدس، وإن هذه الأقانيم الثلاثة هي إله
واحد. فكيف صار الابن الذي هو ثلث إلههم (لعنة) دون الثلثين الآخرين، أي
الأب والروح القدس؟ وما داموا يقولون بأن الثلاثة واحد حقيقة فلا بد من دخولهم
جميعًا تحت اللعن بهذا الاتحاد! ! فتدبر هذا وسلهم: من اللاعن؟ ومن هو يا ترى؟
(ستأتي البقية)
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
عبد الوهاب وولده محمد طاهر
(المنار)
قد غلا دعاة النصرانية في العام الماضي وفي هذا العام في الطعن
بالإسلام قولاً وكتابةً، فلم يكتفوا بصحفهم الدورية، ولا بالكتب التي نشروها من
قبل، بل هم يلفقون رسائل جديدة بمعنى ما تقدمها في الطعن والقدح والتمويه ولكن
تختلف أسماؤها وأساليبها. وأكثروا المحافل والمجتمعات في القاهرة وسائر البلاد
والقرى لأجل الدعوة إلى النصرانية. ومن العجائب أنهم كانوا من قبل أصحاب
صبر وأناة فخانهم الصبر في هذه السنة حتى صاروا يهينون من يرد عليهم في
المجتمعات إهانةً شديدة. وقد خدعوا أفرادًا من فقراء العامة بالمال وإدرار الرزق
فأظهروا التنصر، ثم بدا لهم وندموا، فصار من يريد الرجوع إلى حظيرة الإسلام
يهدد بالإيذاء، حتى أخبرنا بعضهم أنه لا يمكنه إلا أن يفر من القاهرة إلى بلد آخر
يظهر إسلامه فيه.
لأجل هذا العدوان وجب علينا أن لا نقف عند حد رد مطاعنهم التي يكرّرونها
كما كنا نفعل من قبل، وأن نبين لإخواننا المسلمين حقيقة دينهم والمقابلة بينها وبين
ديننا، وبيان أننا نحن نعظم المسيح ونكرمه بالحق، فلا نحتاج إلى من يدعونا إلى
الإيمان به إيمانًا يجمع النقائض ككونه واحدًا وثلاثةً، ومقدسًا ولعنةً، برّأه الله ممّا
قالوا. وهذا مما يجب علينا شرعًا كالصلاة وغيرها من الفرائض؛ ولهذا نشرنا هذه
الرسالة بعد تصحيحها.
نعم إنهم هددونا بالسلطة الإنكليزية، وأغروا المعتمد الإنكليزي بنا عسى أن
يأمر الحكومة المصرية بإقفال المنار ومقاومة (مدرسة دار الدعوة والإرشاد) ومنع
نظارة الأوقاف أن تساعدها بشيء من أوقاف المسلمين بعد أن صارت الأوقاف
تحت سيطرته؛ ليتسنى لهم أن يقولوا: إن جميع المسلمين في مصر عجزوا عن
الرد عليهم، وليكتفوا مؤنة من يرد عليهم في المستقبل إذا نجحت مدرسة دار
الدعوة والإرشاد {فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} (الحشر: 2) .
_________
(1)
هو زويمر الذي جرأ دعاة النصرانية في مصر وبلاد العرب على الغلو في الطعن في الإسلام وإهانة المسلمين وتهييج العداوة بينهم وبين النصارى.
الكاتب: الموسيو فلورنش
مطامع الدول فينا [*]
وضعت الحرب أوزارها، وأخمدت المدافع أنفاسها، وأعيدت السيوف إلى
أغمادها، وعادت الدول المتناجزة بالأمس عن ميادين القتال إلى ردهات المجلس
فعقدت بعضها مع بعض معاهدات تضمن صيانة السلام إلى حين. ثم خلت كل
واحدة إلى نفسها تناقشها الحساب، وتبحث في ما نالها من الغُنم. فكانت الهمة
الأولى منصرفة إلى اقتسام الأراضي المكتسبة. ثم إلى النظر في ما ثغرته النفقات
الحربية في ميزانياتها، وما يقتضيه سد تلك الثغور من الأموال الطائلة، وهي لا
سبيل إليها إلا بعقد القروض.
ولو انحصر الأمر في الدول الخارجة من ميدان القتال لهان الخطب، ولكن
ثمت دولاً أخرى أبت إلا أن يكون لها من الغنيمة نصيب.
تنازلت تركيا لإيطاليا عن ولاياتها الأفريقية. ثم تخلت لحكومات البلقان
عن ولاياتها الأوربية غير ولاية أدرنة. ثم تقاسمت الدول ما بقي بشكل مناطق نفوذ
كل واحدة بحسب ما توحيه إليها مطامعها في العلانية والجهر.
ورضيت إنكلترا نصيبًا لها سواحل خليج العجم من الأوقيانس الهندي إلى
البحر الأحمر. فأصبحت سلطتها مبسوطة على البلاد العربية من البصرة إلى
السويس ومن الخليج العجمي إلى ترعة السويس. وأصبحت في يدها الطريقان
البحريتان الموصلتان من أملاكها الشرقية إلى أملاكها الغربية. واتصلت
إمبراطوريتها الأسيوية (الهند) بملكها الأفريقي (مصر) .
أما إيطاليا ولية أمر طرابلس الغرب والواضعة يدها على جزيرة رودس وما
جاورها من جزر البحر المتوسط فإنها فازت بهذه البقعة الآهلة باليونانيين والأروام،
والقائمة بين خط بغداد والأرخبيل، ومعها ميناء أضاليا وخط حديد يمتد إلى
الداخلية، ويتصل بالخطوط الألمانية؛ خط بغداد وخط أزمير.
وأما ألمانيا فكان نصيبها هذا الخط البغدادي الكبير بجملته لا مسيطر عليها فيه
ولا مهيمن، وهو الذي طمحت إليه، ومن ورائه ما بين النهرين وكل البلاد الواقعة
بين أسكودرا والبصرة من البوسفور إلى الخليج العجمي.
وإن اتفاق بوتسدام مهّد للألمانيين السبيل إلى بلاد إيران؛ إذ خوّلهم حق تمديد
خط حديدي من بغداد إلى طهران. وفي مقابل ذلك جعلت حصة روسيا أرمينيا
الكبرى. وهي تتناول الأراضي الواقعة إلى شمال الخط البغدادي وإلى جنوبه
بجملتها بين أنقره وبغداد.
على أن ثمت عقبة كان لا مندوحة عن تذليلها. فإن الاستئثار بتلك البقاع
الواسعة كان لا بد من تمويهه بحجة من الحجج ووسيلة من الوسائل فكانت هذه
الوسيلة الأشغال العمومية والمشروعات النافعة الواجب إجراؤها. بيْد أن روسيا لم
يخطر لها أن تبذل أموالها الخاصة في هذا السبيل بل لجأت إلى فرنسا. أفليست
هي على الدوام مستعدة لبذل أموالها استعداد تركيا للتخلي عن أراضيها؟ وعلى هذه
الصورة تم الاتفاق على أن فرنسا تتولى إنشاء مينائي يني بولي وهر كله (على
البحر الأسود) والخطوط الحديدية (سمسون سيواس - ديار بكر، وديار بكر -
أرضروم - طرابزون) مع العلم بقلة إيراداتها المتوقعة؛ لأنها لازمة لروسيا تأييدًا
لموقفها السياسي والاقتصادي والحربي أيضًا، وإن كان لا فائدة لنا نحن منه على
الإطلاق. وإنما أعطينا في مقابل ذلك البقعة السورية في جنوبي غربي خط بغداد،
مع حق إنشاء مينائي حيفا ويافا وتمديد خط رياق الحديدي إلى القدس، ثم الاتفاق
على اقتسام النقل بين خط دمشق - حماه والخط الحجازي، وكلاهما متصل
بالسواحل السورية: الأول في بيروت والثاني في حيفا. وكلها امتيازات لا نفع لنا
منها ما دمت حكومتنا متغاضية عن معاهدنا الكاثوليكية في الشرق، ضاربة بما لنا من
الحق في حماية الأراضي المقدسة وحماية المارونيين عرض الحائط، ومهدت
للإيطاليين قطع السبيل علينا بما ينشئونه لأنفسهم في رودس وأضاليا وطبرق
وسراقوسه.
لا يتوهمن متوهّم أن الدولة العثمانية بذلت كل ما تملك للآخذين على أنفسهم
صيانة كيانها. كلا! فهي لا تزال باقية لها الأراضي الواقعة على ضفتي المضايق.
وما زالت في عهدتها حماية البوسفور والدردنيل (! !) وإنه لشرف عظيم (! !)
وفخر باق وإن كان يلقي على كاهل صاحبه مسؤوليات عظمى. ثم إنهم لا
يزالون مالكين أدرنه والآستانة وبروسة وأزمير وأسقاعًا متراميةَ الأطراف خصبة
التربة تكفي إيراداتها - فيما يقولون - لدفع فوائد ديونها المتراكمة (! !) .
بهذا الثمن نجت الدولة العثمانية من الطور الثاني، وأعني به طور التقسيم أو
طور التجزئة. بقي الطور الثالث وأعني الحاجة إلى المال. ومعلوم أننا نحن
معاشر الفرنسيس لا نبرح أبدًا من بال أحد متى بلغت المسائل هذا الطور وأعني
طور الدفع. إذن إلى فرنسا اتجهت الأبصار للمطالبة بسد الفراغ الذي سببته
هفوات وجنون بل جنايات الآخرين حتى يتهيأ لأرباب الجشع والطمع ممن ذكر أن
يستتبعوا تحقيق مطامعهم. أما ما يطالبوننا به هذه المرة فثماني مئة مليون فرنك.
ولقد غامرت الأمة الفرنسوية إلى هذا الحين بمبالغ طائلة من توفيرات أبنائها
في المشروعات العثمانية فلا ينكر عليها حق السعي في استرداد ذلك المال. ولكن
هذا لا يجب أن يتخذ ذريعة لتضحية مصالح البلاد في سبيل منافع بعض الماليين،
فبعد نكبات الجيوش العثمانية اتفقت الصحافة وأجمع الرأي العام في فرنسا والعالم
كله على إلقاء تبعة تلك الانكسارات على عاتق جمعية الاتحاد والترقي. فإن
الاتحاديين هم المسؤولون عن سوء انتظام الجيش وسوء الإدارة وضياع أموال
الحكومة. وإن هؤلاء الاتحاديين هم أنفسهم المتقلدون الأحكام اليوم وفي أيديهم
التصرف بالأموال العمومية. وهم أنفسهم الذين يتطلبون اليوم الأموال الفرنسوية
في حين أن لاستعمالها في فرنسا وجهة أولى وأنفع، ولكن ما ثَمَّ مَنْ يعترف، فإن
قلم المراقبة في وزارة الداخلية كان قد ألغي، فأعاده المتمولون - على شكل أضمن
لمصلحتهم.
ومن أهم ما يتهمون به جمعية الاتحاد والترقي نزعاتها الألمانية وهي تكاد
تكون تحرشاً بنا. ثم يتهمونها بأنها ألقت بين يدي الضباط الألمانيين تنظيم جنديتها
حتى ألقى بعضهم على الجنرال فندر غولتز تبعة انكسارات العثمانيين في قرق
كليسة ولوله برغاس.
فلما استعاد الاتحاديون السلطة كان أول عمل قاموا به انتداب بعثة ألمانية
جديدة لتنظيم الجيش العثماني. ورضي العاهل الألماني بإيفاد ثلاثة وأربعين رجلاً
من ضباط جيشه إلى الآستانة، ولكنه اشترط أن تكون لهم مع تحمل المسئولية
السلطة الفعلية، وأن تكون القيادة العليا لزعيم البعثة، وأن يكون الضباط العثمانيون
في الجيش خاضعين للضباط الألمانيين. ولما كان الخط البغدادي الذي يجتاز آسيا
الصغرى من أدناها إلى أقصاها - من خليج العجم إلى البوسفور - وكل الخطوط
الحديدية الأخرى فروع له، هو الوسيلة الوحيدة لتعبئة الجيش وحشده، فإن الجيش
العثماني بقيادة الضباط الألمانيين سيكون بمنزلة إحدى فرق الجيش الألماني،
والثماني مئة مليون فرنك التي تطالبنا الحكومة العثمانية بها اليوم ستنفق في تسليح
وتجهيز وتنظيم وتدريب جيش يكون في طليعة الجيوش المهاجمة لنا في أول حرب
نخوض غمراتها. وتكون أموالنا نحن الفرنسويين قد تحولت إلى حديد ورصاص
يخترق صدور أبنائنا.
ولقد بلغ من حرج الموقف أن الحكومة الروسية مع عدم رغبتها في انتهاج
خطة المجافاة والمشاكسة لم يسعها إلا إقامة الحجة في عاصمة السلطنة. وليست
وزارتنا الحربية والخارجية في فرنسا ببعيدتين عن وزارة المالية فجدير بوزيريهما
أن يجتمعا بزميلهما ويكاشفاه بأن في الحياة مواقف لا يجوز فيها تضحية الوطنية في
سبيل مصالح بعض الأفراد، وأن بعض القروض يجب مجانبة قبولها في بورصة
باريز.
أما أنا فإني لا أبذل فلسًا واحدًا من مالي للذين يساومون في تربة الوطن وفي
موارده الطبيعية تزلفًا لبعض العظماء، ولا أعتبر من يجود بأموال الأمة على هذه
الصورة مؤتمنًا أمينًا.
رُبَّ قائل يقول: ليس في الأمر شيء مما تخشاه، وكل ما هنالك تفاهم بتبيين
مناطق نفوذ كل دولة. نعم؛ ولكن لتحدث غدًا فتنةٌ أو ثورةٌ أو مذبحة - وليس ذلك
بالأمر النادر حدوثه في آسيا الصغرى - إذن لا نلبث أن نرى العمارة الإيطالية في
أضاليا، والإنكليز في الكويت، والألمان في مرسين، والفرنسويين في بيروت،
والروسيين في طرابزون. ومتى وطئت أقدامهم الأرض فهيهات أن تتزحزح عنها.
وإن لدينا في موقف إيطاليا اليوم في جزر بحر إيجه خير شاهد، فالأمر إذن ليس
بمنحصر في تبيين مناطق النفوذ، بل هو يتجاوزه إلى تقسيم الأملاك العثمانية
الأسيوية والسلام.
…
...
…
...
…
...
…
... (الأهرام)
ثم علقت الأهرام عليه بما يلي:
هذا هو كلام ذلك الوزير وهو لا يقول لنا شيئًا لا نعرفه ولكنه يقوله لنا
ونردده على أنفسنا لنتعظ ونتخذ الحيطة ونعمل بقول الشاعر:
ما حكَّ جِلْدَك مثلُ ظفرِك
…
فتولَّ أنت جميعَ أمرِك
(المنار)
صدقت الأهرام، إن هذا السياسي الكبير لا يقول لنا شيئًا لا نعرفه؛ أي لا
يعرفه أهل البصيرة منا، ولكنهم - واحسرتاه - قليلون فينا، والجمهور
مغرور بما يرى حينًا بعد حين من إيماض الذبال قبل الخمود، كلما أومض إيماضة
حسبوا أنهم في عالم الحياة النورانية داخلون، وإذا أظلم عليهم عادوا في ظلمتهم
يعمهون، وإذا صاح بهم المنذرون: يا قومنا فروا إلى النجاة فإنكم إلى الذبح
تساقون - وسوس لهم الموسوسون: إن هؤلاء قوم غاشّون، وعن حظيرة الإخلاص
للاتحاد خارجون، وبألسنة أعدائنا الإفرنج ينطقون، أمَا ترون وميض أنوار
التجديد، يلوح لأعينكم من بعيد، فابذلوا لهؤلاء المجددين كل ما تملكون من المال،
تنالون جميع الآمال! !
بيَّنا في المجلد الماضي وفيما قبله ما وصلنا إليه من الخطر القريب، وبيَّنا أن
الأوربيين لا يقبلون أن يأخذوا بلادنا إلا بالفتح السلمي المعبر عنه بمناطق الاقتصاد
والنفوذ، وبيَّنا طريقة النجاة ولكن لمن لا يسمع ولا يبصر، وها نحن أولاء
نرى غير الرسميين من ساسة الإفرنج يصرحون بذهاب ملكنا تصريحًا،
والرسميين منهم يصرحون بالعمل ويعرّضون بالقول تعريضًا، وحسبنا أَنْ نصحنا
وأدينا الأمانة. وإن عرضنا نفسنا للأذى والإهانة.
_________
(*) بقلم الموسيو فلورنش وزير خارجية فرنسا وترجمة جريدة الأهرام.
الكاتب: صالح مخلص رضا
تقريظ المطبوعات الجديدة
(تاريخ حرب البلقان الأولى بين الدولة العلية والاتحاد البلقاني)
عني يوسف أفندي البستاني أحد محرري الجريدة اليوم، بتتبع حوادث هذه
الحرب من أول المهد بشبوب نارها، إلى أن خدمت ووضعت أوزارها، وقرأ ما
كتبه أشهر كُتَّاب الإفرنج في الجرائد الأوروبية، وما ألفوه من الكتب في ذلك، وما
كانت تنشره الجرائد العربية لمراسليها في الآستانة وغيرها؛ فاتخذ ذلك مادة لوضع
تاريخ لهذه الحرب كتبه بمداد الروية والاعتدال؛ فجاء تاريخًا مفيدًا جامعًا لما فيه
العبرة النافعة، والموعظة الصادقة، بعيدًا عن لغو القول وهرائه وبلغت صفحاته
327 ماعدا صفحات المقدمة والصور والرسوم. (وفيه 40 رسمًا وخريطتان) وقد
كتب في الحرب عدة مصنفات عربية لا تعد شيئًا مذكورًا مع هذا الكتاب فينبغي أن
يكون معول قراء العربية عليه دونها.
وهو يطلب من مكتبة المنار بمصر وثمن النسخة منه خمسة عشر قرشًا خلا
أجرة البريد.
(بيكي مجموعة سي)
مجلة علمية شهرية تركية تصدر في الآستانة العلية صفحاتها 96 قيمة
اشتراكها في الممالك العثمانية - عن سنة واحدة - نصف ليرة عثمانية، وفي
روسيا خمس رابل ونصف، و15 فرنكًا في سائر الممالك وهي مطبوعة طبعًا جيدًا
على ورق نظيف وثمن العدد الواحد خمسة قروش عثمانية.
(مجلة الناشئة)
مجلة شهرية تبحث في الناشئة وشؤونها يحررها طلاب المدرسة العلمية
الوطنية في دمشق، قيمة الاشتراك السنوي 15 قرشًا ولتلاميذ المدرسة 10
قروش، ويضاف إلى ذلك أجرة البريد للخارج. وصفحاتها 32 بالقطع الصغير،
فنحثّ على مطالعتها تنشيطًا لمحرريها واطّلاعًا على سير العلم في نابتة الأمة.
(لسان العرب)
مجلة تاريخية اجتماعية أدبية مصورة لمنشئها أحمد عزت الأعظمي صفحاتها
65 مطبوعة على ورق جيد، قيمة اشتراكها السنوي ثلاثة ريالات مجيدية في
الممالك الأجنبية وللطلبة بنصف القيمة، وعنوانه: (الآستانة. شارع أبو السعود،
صندوق البريد عدد 149) . ولهذه المجلة مكانة في نفسي أرجو أن أوفق إلى
قراءة ما لدي من أعدادها فأعود إلى تقريظها بالتفصيل الذي يليق بها.
(مجلة كمال)
مجلة أدبية فكاهية شهرية (سنتها عشرة أشهر) مطبوعة على ورق نظيف
طبعًا نظيفًا صفحاتها 96 بقطع المنار. ويصدرها في بيروت كمال أفندي عباس.
قيمة اشتراكها في البلاد العثمانية ريالان مجيديان وفي مصر والبلاد الأجنبية
عشرة فرنكات.
(المرآة)
جريدة أسبوعية مصورة سنتها خمسون عددًا، صفحاتها 28 وهي في شكل
مجلة من المجلات ذات الصفحات الكبيرة يصدرها في بيروت خليل أفندي زينية
المعروف لدى كتّاب وقرّاء العربية، قيمة اشتراكها السنوي في بيروت 80 قرشًا
وفي سوريا وفي لبنان وسائر الولايات العثمانية 20 فرنكًا وفي الخارج 25 فرنكًا.
_________
(*) كتب تقاريظ هذا الجزء شقيقنا السيد صالح مخلص رضا.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأخبار والآراء
(لا بابوية في الإسلام ولا تُباع شفاعة خير الأنام)
ذكرنا في الجزء الماضي أن بعض المنافقين زين للاتحاديين أن يستغلوا
حجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم بوضع دفاتر فيها، يكتب فيها أسماء الناس
الذين يبذلون لهم الذهب الأحمر لتكتب أسماؤهم في تلك الدفاتر، وبيّنا قباحة هذه
البدعة المشتملة على عدة جرائم منكرة، وبينا أن سلف الأمة الصالح ما كانوا
يتسامحون في إحداث بدعة من العادات المباحة في مسجد الرسول صلى الله عليه
وسلم لئلا يدخل محدث ذلك، والراضي به في عموم قوله صلى الله عليه وسلم:
(من أحدث في مسجدنا هذا حدثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) ؛ وهو
الحديث الذي احتج به الإمام مالك على ابن مهدي العالم الزاهد لمَّا صلى على ثوبه.
وبنينا على ذلك أننا لا نظن أن جمعية الاتحاد والترقي تقبل هذا الاقتراح، ولا أن
الحكومة تنفذه.
ثم بلغنا بعد ذلك أن موضوع المشروع أن تسمى تلك الدفاتر دفاتر المستشفعين؛
أي أن كتابة الأسماء في تلك الدفاتر طريق أو سبب لشفاعة النبي صلى الله عليه
وسلم فهي إذًا عبارة عن بيع شفاعة المصطفى صلى الله عليه وسلم لِمَنْ يريد أن
يشتري، وأن أقل ثمن لها ليرة عثمانية.
الشفاعة لا تملك فتباع، ومن يدعي أن كتابة اسم أحد ووضعه في الحجرة
النبوية يكون سببًا لشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم له فهو مفترٍ على الله
ورسوله؛ لأن هذا أمر لا يُعلم إلا بوحي من الله، ولو أنزل الله تعالى فيه شيئًا يدل
عليه بالنص أو الفحوى لكان أجدر الناس بمعرفته والعمل به الصحابة - رضي الله
عنهم - ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم.
لهذا ننصح للذين لا يعرفون أصول الدين وفروعه من رجال الدولة الاتحاديين
أن يتجنبوا هذه البدعة، فليست هذه المسألة كغيرها من الأمور التي تجرءوا عليها.
وليتذكروا أن مسألة بيع البابوات للغفران هي التي أحدثت الانقلاب الديني
العظيم الذي آل إلى سلب السلطة السياسية من البابوات، بعد حروب شابت من
هولها الولدان، على أن بيع الغفران له وجه ما في دين النصارى؛ إذ يحتجون
عليه بقول أناجيلهم أن ما يحلونه أو يعقدونه في الأرض يكون كذلك في السماء،
وبيع الشفاعة بدعة في الإسلام ليس لها وجه ولا شبهة؛ بل تدل الحجج الكثيرة
على بطلانه. وقرنه بالشرك بالله تعالى لأنه قول على الله بغير علم، وشرع لم
يأذن به الله، وزيادة في الدين الذي أكمله، وداخل في عموم الأحداث والبدع التي
نهى وحذر الشارع منها ولعن مُحْدِثَها.
والآيات والأحاديث في هذا كثيرة، تدعمها الآيات الناطقة بأن يوم القيامة لا
يملك فيه أحد لأحد شيئًا لا شفاعة ولا غيرها وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ للَّهِ وحده فلا يشفع أحد
عنده إلا بإذنه ولا يأذن إلا لمن رضي له قولاً {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا
يَشْفَعُونَ} (الأنبياء: 28) وأجمع المسلمون على أنه ليس لأحد أن يجزم بمستقبل
أحد في الآخرة إلا بنص من الشارع، فليس لأحد من رجال الحكومة العثمانية ولا
غيرهم أن يدعي أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع له أو لأحد معين، فمن لا
يملك الشفاعة لنفسه، كيف يبيعها لغيره؟
فإن كانوا في شكٍّ من نصحنا لديننا ولهم في هذه المسألة فليعرضوها على
علماء الفاتح وعلماء السليمانية في عاصمتهم ويطلبوا منهم إبداء رأيهم فيها بالحرية
التامة، وربما نعود إلى بيان ذلك بالتفصيل، ودلائل السنة والتنزيل {وَاللَّهُ يَقُولُ
الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: 4) .
***
(جمعية خدام الكعبة في الهند)
جاءنا من هذه الجمعية رسالة وجيزة ملخصها أن الدولة العثمانية أصبحت
على خطر مما يبيّت لها الأعداء، وأن أكبر أماني المسلمين أن تكون غنية قوية،
وأن مؤسسي الجمعية أحسوا بما سيصيب الحرمين الشريفين من المصائب الحاضرة
فأسسوا هذه الجمعية لا يقصدون منها (إلا مساعدة الدولة العثمانية في المحافظة
على الحرمين الشريفين وبذل المال والنفس في سبيل حمايتها من الغوائل) ومن
ذلك تعليم العرب الذين يقطعون السبل على الحجاج. كل هذا حسن؛ ولكن جاء
بعده أن الجمعية تريد إنشاء جريدة باللغتين العربية والأوردية.
قال الكاتب: (حتى ننشر أفكارنا في جميع البلاد الإسلامية وننبه المسلمين
إلى ما يجب عليهم نحو دينهم ودولتهم الوحيدة
…
إلخ) ، وهذا هو الأمر الذي لم
نفهمه: جمعية خدام الكعبة أنشئت لخدمة الحرمين الشريفين فكيف يجوز لها صرف
المال الذي تجمعه للحرمين الشريفين في إنشاء جريدة سياسية، وما هي هذه الأفكار
التي يريد رئيس تحرير الجريدة أن يبثها في العالم الإسلامي؟ هل هي أفكاره أم أفكار
الذين يتبرعون بالمال لخدمة الحرمين الشريفين؟ ومن أين وقف على أفكارهم؟
وهل دفعوا المال لأجل نشر الأفكار السياسية أم لأجل خدمة الحرمين؟
قد بينا رأينا من قبل في هذه الجمعية وفيما يجب أن تكون عليه فلا نعيده.
ونقول الآن: إنه لا يجوز لها - بحسب قانونها الذي نشرناه وبحسب ما اقترحناه
من تعديله - أن تنفق شيئًا من مالها على إنشاء الجرائد، فهذه الفكرة الجديدة
قد أزالت ثقتنا بالجمعية إلا أن يرجعوا عنها.
أما مساعدة الدولة العثمانية بالمال والنفس فهو عمل نشكره لكل من قام به في
الهند وغيرها، فمن شاء فليؤلف له جمعية مستقلة ولينشئ له ما شاء من الجرائد بما
شاء من اللغات، وأما خدمة الكعبة والحرمين الشريفين فيجب أن يكون بمعزل عن
السياسة وأهلها، وهو عمل تخدمه جميع الجرائد الإسلامية في جميع الأقطار، وتنشر
لجمعيته ما شاءت من غير أجرة فلا يحتاج إلى جريدة خاصة.
إن مساعدة الدولة بالمال والنفس وبث فكرة الجامعة الإسلامية يوشك أن
تقاومه حكومة تلك البلاد وتبطله وتصادر جريدته، فإذا كان ملصقًا بجمعية خدام
الكعبة يوشك أن يكون شؤمًا عليها وسببًا لزوالها؛ لأجل هذا نحب أن تكون بمعزل
عن السياسة. وما دمنا نرى هذا الرأي فإننا ننصح لكل مسلم أن يقاوم هذه الفكرة
الجديدة التي عزمت عليها جمعية خدام الكعبة؛ لتكون جمعية خيرية محضة.
والسلام على من اتبع الهدى، ورجّح الحق والمصلحة على الهوى.
***
(مفاسد المتفرنجين في أمر الاجتماع والدين)
يهاجم الإسلام والمسلمين جيش خارجي من دعاة النصرانية، وجيش
آخر داخلي من دعاة التقاليد الإفرنجية. والثاني أنكى من الأول وأضرّ، وأدهى
وأمرّ؛ لأن جُلّ أفراده من المارقين الذين يعدهم المسلمون منهم وما هم منهم،
ولسبعون عدوًّا خارج الدار أهون من عدو واحد في الدار فقد تمر السنون ودعاة
النصرانية تبحّ أصواتهم من الصياح بالخطب والجدل؛ ولا يقع في شركهم في القطر
الكبير إلا واحد أو آحاد يلجئهم الفقر إلى أن يكونوا من خِرَافِهم؛ لأنهم يجدون من
المرعى عندهم ما لا يجدون عند غيرهم. وقد ورد في الحديث: (كاد الفقر أن يكون
كفرًا) وقلَّما تجد واحدًا من هؤلاء الخِراف يأنس مرعًى له خارج دمنتهم إلا ويتفلت
منها.
وأما هؤلاء المنافقون المتفرنجون فإنهم يغشون المسلمين بأنهم منهم، ينفعهم
ما ينفعهم ويضرهم ما يضرهم، وإنهم إنما يدعونهم إلى الترقي عمّا هم عليه إلى
مدنية أعلى وحضارة أسمى، وهي أن يكونوا مثل الإفرنج في عزهم وثروتهم
وزخرفهم، ويحسبون - لصغر عقولهم وقصر نظرهم - أن ما يفوقنا به الإفرنج من
الثروة وأسباب القوة، قد جاءهم من رقص نسائهم مع رجالهم، ومن اختلاطهن بهم
في مجامعهم ومحافلهم، أو من عدم مبالاة كثير منهم بالدين، وإن كان الأكثرون
يتعصبون له ويبذلون له الملايين، أو من عاداتهم في طعامهم وشرابهم وأزيائهم،
وفسقهم وفجورهم، واجتماعهم وافتراقهم، فطفقوا يقلدونهم في شر ما عندهم،
ويدْعون المسلمين إلى تقليدهم في أمثال هذه الظواهر، على أن منها ما هو من
سيئات مدنيتهم وقبائحها التي ينكرها عليهم حكماؤهم وعقلاؤهم، ومنها ما هو
مناسب لطبيعة بلادهم وأجيالهم دوننا، ومنها ما لا نفع فيه ولا ضر لذاته ولكنه
يضرنا من حيث هو تقليد لهم يضعف روابطنا القومية، ومشخصاتنا الاجتماعية،
ويحقر أمتنا في أنفسنا ويعظم أممهم فيها، فيكون تمهيدًا لقبول سيادتهم علينا بغير
امتعاض، دع ما يتوقف عليه البقاء من الجهاد.
وقد قوي هجوم هؤلاء المتفرنجين في فاتحة هذا العام فكان أشد مما كان عليه
في العام الماضي، فكان شأنهم عنا كشأن دعاة النصرانية سواء. ومنبت هذه الفتن
ومطلع رؤوس شياطينها الآستانة ومصر، وقد اشتركت المدينتان في مسألة الدعوة
إلى تهتك النساء باسم تحرير المرأة، وامتازت الآستانة بالغلو في عصبية الجنسية،
وقطع ما أمر الله به أن يوصل من الوشائج الدينية، بمثل كتاب (قوم جديد)
و (ترجمة القرآن) بالتركية وغير ذلك.
***
(مسألة تحرير المرأة أو تهتكها)
إن الآستانة ومصر فرسا رهانٍ في تهتّك النساء وفي تجريء المتفرنجين على
ذلك، وقد نشر بعض الشبان في الجرائد المصرية دعوة إلى جمعية تسعى لهتك ما
بقي من آثار الحشمة التي يسمونها حجابًا وإبطال ذلك بالفعل، وعقدوا اجتماعًا في
إدارة (الجريدة) التي هي لسان حالهم وأقنعوا بعض النساء بحضوره حاسرات
فهجم بعض الشبان عليهن لمعانقتهن وتقبيلهن فمنعهم آخرون.
وقد اختلفت الروايات علينا في تفصيل ما كان في هذا الاجتماع فلا نجزم
بشيء منه، ولا فائدة في شرحه.
قام هؤلاء الشبان بهذه الدعوة في وقت جاءتنا فيه البرقيات الأوروبية ببيان
ضرب من ضروب فضائح اختلاط النساء بالرجال ما كان يذاع مثله من قبل، وهو
أنه قد افتض عدة من العذارى اللواتي يتلقين العلوم العالية في مدارس ألمانيا الجامعة.
هذا وإن الألمانيين أشد عناية من السكسونيين - دع اللاتينيين - في التربية الدينية
والصيانة المنزلية. وإن كثيرًا من الدعاة إلى هتك النساء الذي يعبرون عنه بتحرير
المرأة، لا يبغون إلا أن يمهدوا السبيل لأنفسهم للتمتع بالحسان من ثيبات وأبكار،
وقليل منهم يريد الظهور بلباس المصلح المدني وهو عاجز عن كل إصلاح، فلا يرى
أهون عليه من اللغط بالكلام في هذه المسألة؛ لأنه لا يتوقف على علم ولا عمل،
فما على اللاغط إلا أن يبرز ما كتب غيره من قبل في قالب جديد، ويزيد عليه من
لغو الكلام ما يشاء أن يزيد.
يقول لي أهل الصيانة: ما لك لا تردّ على ما يكتب هؤلاء المفسدون، فمنك
نطلب، وإياك نرجو، أن تتبّع عوارهم، وتقلّم أظفارهم. وإني أرى أن الذين
قاموا في وجههم صائحين متهكمين قد كالوا لهم الصاع صاعين أو عدة آصع،
وليس عندهم شبهات قوية تحتاج إلى علم واسع وحجج قيمية؛ بل لا يكاد يفهم
مرادهم من كلامهم، ولا أراهم يبينون ما يريدون. فليست المرأة مستعبدة فيكون
طلبهم تحريرها طلب حق لها شرعي أو عقلي، وليست محجوبة في مصر حجابًا
مانعًا لها من التصرف والرياضة ولا التبرج المذموم أو غير المذموم بل هي تفعل ما
تشاء. إلا أن القاعدة العامة في نساء الأغنياء والمتوسطين في المدن أنهن لا
يحضرن أندية الرجال ومجامعهم العامة، وأما المجالس الخاصة والمحاكم ومحالّ
التجارة فيحضرها كثير منهن، وأنهن لا يخلون بالرجال الأجانب في البيوت إلا
شذوذًا. فالظاهر أن هؤلاء المتفرنجين يطلبون الآن إبطال هاتين العادتين دفعة
واحدة.
ولا يشك ذو عقل أن ذلك مما يستشرى به الفساد، وتتفاقم به فوضى
الأعراض، وليس له حسنة تمحو سيئة من سيئاته. على أن دفع المفاسد مقدم عقلاًً
ونقلاً على جلب المصالح، وأين هي في مسألتنا؟
إن نساءنا في حاجة إلى علم وأدب تثقف بهما عقولهن، وتصلح بهما عاداتهن،
ويقدرون بهما على تدبير المنازل وتربية الأولاد، ويكن عونًا للرجال على تجديد
حياة الأمة الاجتماعية بمقوماتها ومشخصاتها من الدين واللغة والعادات الحسنة، ولا
يتم هذا إلا بتأليف جمعية من أهل البصيرة والرأي تنشئ المدارس الداخلية للتعليم
والتربية الدينية والمدنية بالعلم، وجمعية أخرى للنساء المتعلمات المهذبات غير
المفتونات بالتفرنج للبحث في إصلاح البيوت الموقت. والمتفرنجون لا يطلبون هذا
وإنما يودون أن ينسلخ جميع نساء المدن مما بقي من عاداتهن، ويقلدن نساء الإفرنج
في الاختلاط بالرجال غير المحارم في البيوت والمجامع والأندية والملاعب
والملاهي والمتنزهات، وما يتبع ذلك من العادات في الزي والمعيشة.
ولو فرضنا أن جميع ما ينسلخن منه بهذه الصفة قبيح أو ضار من بعض
الوجوه، وجميع ما يدخلن فيه حسن في ذاته ونافع لأهله، لما صدنا ذلك عن إنكار
هذا التحول والانقلاب، لما يترتب على التغيرات القومية من المضار وضعف
مقومات الأمة ومشخصاتها، وتراخي روابطها وانفصام عرى جامعتها. وناهيك به
إذا كان تقليدًا لأمة أخرى تراها أرقى منها. فكيف إذا كان ما يطلب من نسائنا
التحول إليه إما قبيح ضار لذاته أو ضار بأمتنا دون الإفرنج.
إن الضرر في تفرنج نسائنا أنواع: ديني وسياسي واجتماعي واقتصادي،
ولا يمكن شرح هذا في عجالة كهذه؛ ولكن التفرنج فتنة، ولكل جديد لذة، ونحن
نرى أن ما يطلبه المتفرنجون لنسائهم من هتك الحجاب الرقيق الحائل دون تمام
التمتع - وهو ما ذكرناه من بقايا العادات - قريب غير بعيد، فقد بدأ به بعضهم - ولا
أحد يقاوم سريان التقليد فيه -: بأن الذين يسافرون بنسائهم إلى أوربة يلبس نساؤهم
ما يلبس نساء الإفرنج ويأكلن مع الرجال ويجلسن معهم في الملاهي والملاعب.
ومنهم الذين يأمرون نساءهم بلقاء أصدقائهم ومجالستهم ومؤاكلتهم، يكون هذا بينهم
بالمبادلة. وكل هذا لم يرض بعض الشبان لأنه تدريج وهم يطلبون الطَّفْرة. ومَنْ
تتبّع عورات أولئك الهاتكين لأحسن ما بقي من عادات نسائهم - لرأى وسمع من
الفضائح ما يستحيا من نشره وتدوينه، وإنا ليحزننا أن نرى هذه العدوى قد سَرَتْ
إلى بعض البيوت الطاهرة أيضًا.
وجملة القول أن متفرنجي مصر والآستانة يستعجلون بتغيير عادات
النساء والجمع بينهن وبين الرجال تقليدًا للإفرنج، على أنه ليس لهم ولا
لنسائهم من عِلم الإفرنج وتربيتهم وآدابهم وأخلاقهم الموروثة ما يجعل المقلِّد التابع
كإمامه المقلد المتبوع، فنحن لا نُعنى بأشد ما نحتاج إلى أنواع مثله من مزايا
الإفرنج وفضائلهم لأن في تحصيله مشقة، بل نُعنى بمحاكاتهم في مظاهر الزينة
واللذة، وطالما أهلكت اللذة والزينة الأمم القوية، فكيف يكون فعلها بالأمم
الضعيفة؟
إن مسلمي الهند من أشد أهل الأرض مبالغة في حجب النساء ولم يمنع ذلك
الطبقة العصرية منهم أن تكون أرقى من مثلها في الآستانة ومصر. ولكن من كان
له هوًى في شيء لا يلتفت إلى ما يخالف هواه، وإن كان مؤيدًا بأقوى الحجج،
ومبينًا بأوضح الشواهد والأمثال. فالمصريون والترك يريدون بالتفرنج أن يكونوا
مثل الإفرنج؛ وهو الذي يبعدهم عن أن يكونوا مثلهم، بما يجعلهم عالة عليهم،
ويذهب بما بقي من استقلالهم السياسي؛ لأنه منوط باستقلالهم الاجتماعي والخلقي.
إن السواد الأعظم من الشعب التركي والشعب المصري يمقت هذا التفرنج،
ولكن ليس للسواد الأعظم زعماء يستعملون قوته المعنوية في المحافظة على
مقومات الأمة ومشخصاتها مع اقتباس ما يقويها من الفنون والصناعات العصرية،
وأما المتفرنجون فهم على قلتهم يعتزون بالإفرنج أنفسهم، وناهيك بنفوذهم
وسلطانهم، وكون جُلّ رجال الحكومة من سبك معاملهم، ولا حظ لهؤلاء الإفرنج
إلا جعل جميع ممالك الشرق مزارع ومناجم لهم، وأهلها فَعَلَة لخدمتهم، وسوقًا
لأنواع سلعهم؛ وللهِ دَرُّهُمْ! فإن أرقى ما وصلوا إليه من العقل والعلم هو ما جعلهم
يتصرفون في الأمم والشعوب كما يتصرفون في الحيوان والنبات والجماد.
هذا ما أحببت أذكر به الكارهين لهذا الغلو والاستعجال، بالجمع بين النساء
والرجال، وهو لا يغير شيئًا من هذه الأحوال، وإنما الذي يمكن أن يغيرها هو
العمل الذي أشرنا إليه دُون سواه.
***
(العصبية الجنسية)
إن روح التعليم الأوربي والسياسة الأوربية أحدث في أمم الشرق كلها نزعة
جنسية، وقد كان المسلمون أبعد الناس عن هذه النزعة فلذلك كانوا ضعافًا فيها،
وكان العرب أشدهم بعدًا عنها وضعفًا فيها، ولذلك كتبت في مقالات (العرب
والترك) - التي نشرتها في الآستانة ثم في المنار - أن تكوين عصبية جنسية
للعرب لا يمكن أن يكون إلا من عمل الآستانة.
إن في الترك من غلاة العصبية الجنسية من يعز نظيرهم في غيرهم، واتفق
أن كان زعماء جمعية الاتحاد والترقي من هؤلاء الغلاة، فلما صار إليهم أمر الدولة
اندفعوا اندفاعًا شديدًا في تقوية العصبية التركية، ومحاولة تتريك جميع الشعوب
العثمانية، فهيّجوا بذلك عصبية هذه الشعوب حتى نجمت قرون الفتن، وسفكت
الدولة دماءً غزيرة في بلاد الأرنؤوط وبلاد العرب، وانتهت سياسة الشدة والقوة
بحرب البلقان التي خذلت بها الدولة، وورث البلقانيون جميع ولاياتها الأوربية إلا
(أدرنة) فبقيت لها، وبلاد الأرنؤوط فإنها استقلت بنفسها، فاضطر الاتحاديون
إلى سياسة المداراة وتعزيز الجنسية التركية في نفسها بالمدارس ونشر الكتب
والرسائل والصحف، مع ترك سائر الشعوب العثمانية تتخبط بجهلها إذا لم ترض
الاصطباغ بالجنسية التركية في مدارس الدولة الرسمية، والمدارس الأهلية التركية،
التي يجمعون لها الإعانات بنفوذ الدولة والخلافة من العثمانيين ومن مسلمي
الممالك الأجنبية.
يرى هؤلاء العاملون أنه ليس في طريقهم عقبة تحول دون بلوغ المقصد
بالسرعة التي يبغون من وراء هذا العمل إلا حاجة الترك إلى اللغة العربية لأجل
الدين. ويرون أن هذا الدين ولغته مما يعيق تكوين أمة تركية ودولة تركية محضة
على الطراز الإفرنجي الفرنسي، فاجتهدوا في إزالة هذا المانع بمزيلين:
(أحدهما) ترجمة القرآن بالتركية ودعوة الترك إلى الاستغناء عن القرآن
العربي بما سمّوه القرآن التركي، وإذا استغنوا عن القرآن يستغنون بالأولى عن
غيره من كتب الحديث والتفسير والفقه وسائر العلوم والفنون العربية.
(الثاني) نشر الكتب والرسائل التي تجعل الجنسية التركية أعلى وأسمى في
النفوس من رابطة الدين تمهيدًا لنسخ الثانية بالأولى، بمعونة الكتب الكثيرة التي
تطعن في الإسلام ككتاب عبد الله بك جودت؛ بالتركية، فكان له تأثير شديد عند طلبة
المدارس العالية ولاسيّما مدرستي الطب والحربية، الذين لا يكادون يعرفون من
الإسلام شيئًا.
وقد نشروا في الآستانة كتابًا تركيًّا اسمه: (قوم جديد) كان أفصح معبّر عن
رأي هؤلاء المتفرنجين من الترك، ومما جاء فيه الإنكار الشديد على وضع أسماء
الخلفاء الراشدين وسبطي الرسول (رضوان الله عليهم) في ألواح معلقة في قباب
المساجد التركية مع أن أولئك الرجال من العرب، فالكتاب ينكر عليهم ذلك ويقول
للترك: أليس عندكم من الخلفاء والرجال العظام من الترك من هم خير من أولئك
العرب؟ ! انزعوا هذه الأسماء وضعوا مكانها أسماء عظام الترك مثل طلعت بك
وفتحي بك وأنور بك (صلوات الله عليهم)(! !) .
ويقول: إن كل من يساعد رجال الدولة على الأعمال العسكرية يكون أفضل من
الأئمة المجتهدين ومن شيخ الأولياء العارفين الشيخ عبد القادر الكيلاني
…
إلخ، وهذا
قليل من كثير، والأمر لله العلي الكبير.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
فتاوى المنار
دعاة البهائية ومجلة البيان المصرية
(س3) من صاحب الإمضاء في القاهرة.
حضرة العالم الفاضل صاحب المنار الأغر:
نشرت مجلة البيان التي تصدر في مصر مقالاً عن البهائيين وزعيمهم عباس
أفندي، جاء فيه ما يأتي: (ذلكم هو مولانا عباس أفندي الملقب بعبد البهاء بطل
الإصلاح الديني وسيد المصلحين الدينيين، والمصدر الصحيح الذي لا يأتيه الباطل
من بين يديه ولا من خلفه) (البهائية هي كمال حي) - (هي الكاثوليكية الصادقة) .
وما دعوتها في الحقيقة إلا دعوة إصلاح ورقي للإسلام (إن أنصارها
استخرجوا أسمى تعاليم القرآن فنقّوها مما علِق بها مما ليس من الدين الصحيح في
شيء) - (إن نعيم الآخرة وهمٌ وخيال) .
هذا بعض ما جاء في تلك المجلة وما نشره صاحبها المسلم الأزهري عقب
مقابلته لزعيم البهائيين في الإسكندرية.
وقد رد على (البيان) الأستاذ صاحب (عكاظ) في عدة مقالات وتبعه كاتب
في جريدة الشعب ثم تبعتهما جريدة الأفكار، وكلهم كان يطلب إلى صاحب (البيان)
تكذيب ما نشره في هذا الموضوع والرجوع إلى الحق، ولكنه كان يقول لهم: إني
كتبت وأكتب عن البهائيين وزعيمهم كما كتبنا عن فولتير وسبنسر ونيتشه، وكما
كتب الأوربيون ويكتبون عن العظماء والفلاسفة والنابغين.
فما رأي العالم الجليل صاحب المنار في ما نشره (البيان) في موضوع
البهائيين وزعيمهم؟ وما رأيه في رد عكاظ أولاً والشعب والأفكار ثانيًا؟
(ف - صحفي قديم)
(ج) بيّنا في المنار مرارًا أن البهائية قد انتحلوا دينًا جديدًا في هذا العصر،
وأن دينهم أبعد عن الإسلام من دين اليهود لأن أساس دين اليهود التوحيد الذي هو
أساس الإسلام، وأساس دين البهائية وثني مادي، وهم يعبدون والد زعيمهم عباس
أفندي الملقب (بعبد البهاء) وما هذا اللقب إلا عنوان القول بألوهية البهاء. ولهم
شريعة ملفقة من الأديان المختلفة، وفلسفتها هي عين فلسفة سلفهم من فرق الباطنية،
الذين حاربوا الإسلام بالدسائس التي اخترعتها لهم جمعيات المجوس السرية،
لإفساد أمر المسلمين وإزالة ملكهم انتقامًا للمجوسية التي أبطلها الإسلام.
ألا وإن مرزا حسين الملقب بالبهاء هو وولده الداهية عباس أفندي قد جعلا
دينهما الجديد تنقيحًا لما دعا إليه الأبله الثرثار مرزا محمد علي الذي اشتهر بلقب
(الباب) ، وإنما مهد السبيل لدعوته في بلاد الفرس بدعة الشيخية، الذين هم أكبر
المفسدين في الشيعة الإمامية، وسننشر في المنار شيئًا من فلسفتهم الخيالية، التي
انتزعوها من أباطيل الباطنية، وزفوها في مَعْرِض الأساليب الصوفية.
وجملة القول أن دين البهائية دين مخترع، افتراه الباب المخدوع، ونقحه
بتمادي الزمان - الباقعة عباس أفندي. وهو أضر على الإسلام من كل دين في
الأرض؛ لأن أهله يسلكون في الدعوة إليه مسلك سلفهم الصالح في مخادعة عوام
المسلمين وإيهامهم أنهم يصلحون لهم دينهم، واحتجاجهم بالشبهات التي يحرفون بها
القرآن والأحاديث بالتأويلات البعيدة، فهم أكبر فتنة على المسلمين في هذا العصر
ولا سيّما على الشيعة؛ لأن الغلو في التشيع سلم للباطنية، ولهذا كان يقول بعض
العلماء: ائتني برافضي كبير أخرج لك منه باطنيًّا صغيرًا، وائتني بباطني كبير
أخرج لك زنديقًا كبيرًا.
فمن عرف دين البهائية من المسلمين ومدحه واستحسنه وشهد بكونه حقًّا أو
إصلاحًا للإسلام، وكونه هو أو زعيمه معصومًا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا
من خلفه، كان بذلك مرتدًّا عن الإسلام، وإن زعم أنه مسلم، فهو زنديق منافق
كسائر الباطنية إذا كانوا ضعفاء بين المسلمين، فالبهائية كسلفهم من الباطنية يتوسلون
بدعوى الإسلام بين المسلمين ليقبل كلامهم في دعوتهم إلى باطلهم وتحريف معاني
القرآن للاستدلال عليها وإبطال ما يفهمه المسلمون منها.
فإذا كان صاحب البيان قد قال ما نقله عنه السائل معتقدًا له فالأمر ظاهر،
وإن كان قد كتبه عن جهل بحقيقة القوم فكان الواجب عليه بعد أن نبهته جريدة
(عكاظ) وغيرها أن يرجع إلى الحق ويصرّح ببطلان دين البهائية وتحذير
المسلمين من خداع دعاته (ويسمونهم مبلغين) وأمّا ما ذكره السائل عنه من
الاعتذار عن تقديس دين وثني مادي وتقديس داعيته وأحد مخترعيه - بأن مدحه له
كمدحه لفولتير - فهو غريب، فإن مدحه لفولتير إن كان باطلاً فهو تأييد للباطل
بالباطل، وإن كان يراه حقًّا ويرى أن ما قاله في عباس أفندي ودينه حق أيضًا،
يكون قد ارتدّ عن الإسلام ودخل في دين البهائية، وإلا فإنَّ من قال حقًّا وقال باطلاً،
لا يكون قوله الحق مرةً عذرًا له إذا قال الباطل بعده. والذين مدحوا مثل فولتير
من كتّاب الإفرنج كانوا مثله مارقين من النصرانية، فهل يرضى صاحب البيان أن
يكون مدحه لعباس كمدحهم لفولتير؟ وليس ما نقله السائل عن البيان قول مؤرخ
يحكي شيئًا وقع لا رأي له فيه، حتى يقال:(إن حاكي الكفر ليس بكافر) بل ذلك
مدح لهذا الدين الجديد وتفضيل له على غيره يتضمن دعوة المسلمين إليه. فإذا لم
يكن هذا مراده فليصرح كتابةً ببراءته من البهائية والتحذير من كفرهم بالإسلام.
على أن فيما نقله السائل عنه ما هو كفر في نفسه بالإجماع؛ كإنكار حقية نعيم
الآخرة، وتسميته وهما وخيالاً؛ بناءً على أن هذا من مذهبهم.
وجملةُ القول أن من شأن المسلم أن لا ينشر شيئًا يعد كفرًا في دينه، وأن لا
ينقله عن غيره مقرًّا له ومستحسنًا؛ فكيف ينوّه بمدح دين جديد يراد به نسخ الإسلام
وإبطاله من الأرض ويصفه بأنه هو الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين ولا من خلفه؟
وقد قرأنا بعض ما نشر في عكاظ ردًّا على البيان فرأيناه مبنيًّا على أساس
الصواب ولم نر ما كتب في جريدة الشعب؛ لأننا لا نكاد نقرأها بل قلّما نراها - وكذا
جريدة الأفكار - والحق ظاهر في نفسه.
***
البحث في تعدد الزوجات والطلاق والحجاب
(س4) من صاحب الإمضاء في مصر.
فضيلة الأستاذ العالم العلامة منشئ المنار الأغر:
بعد الاحترام؛ نرجو من سيادتكم إجابتنا على السؤال الآتي في مناركم الأغر:
هل يعد البحث في تعدد الزوجات والطلاق والحجاب من الوجهة العمرانية وتبيان
أضرارها في الناس من الوجهة الاقتصادية إهانة للدين الإسلامي.
عبد الحميد حمدي بشبرا مصر.
(ج) حاشا للهِ أن يعد البحث في هذه المسائل إهانة للدين الإسلامي مطلقًا؛
بل كثيرًا ما يكون البحث فيها كاشفًا عن حكم الإسلام وفضائله، ومبينًا وجه كونه
دين الفطرة الجامعة بين مصالح الروح والجسد؛ ولكن غير المسلم قد يهين الدين
الإسلامي إذا خالف هواه ورأيه بعضُ أحكامه، فيتخذ ذلك وسيلةً للطعن فيه، أمّا
المسلم فإنه يبحث عن الحقائق مع الأدب، فإن عرضت له شبهة على حكم إسلامي
ثابت يزداد بحثًا ليزداد علمًا، ولكنه ينسب القصور إلى نفسه لا إلى دينه، ويجعل
هذا قاعدةً للبحث، إلى أن يتبين له الحق.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
(تابع)
فتاوى المنار
أسئلة من صاحب الإمضاء في (العطف) من 5 - 11
بسم الله الرحمن الرحيم
فضيلة الأستاذ الأوحد منشئ المنار المنير، السيد محمد رشيد رضا، شاد اللهُ
به منار الدين.
السلام عليكم ورحمة الله. أما بعد فإني سائل فضليتكم عن أمور أشْكلَتْ عليَّ
مؤمِّلاً إسعافي بأجوبتها لِمَا أني لا أرى لذلك ممن أعرف أهلاً سواكم:
(1)
لماذا حمل الأستاذ الإمام أخذ الكتب في القيامة بالأيمان وبالشمائل مِنْ
وراء الظهور على أخذها بنشاط وسرور أو بضد ذلك مع إمكان الحمل على الظاهر
الذي تمتنع مخالفته بلا دليل؟ واستبعاد تصوير وراء الظهر بما صوره به لا يوجب
رفض الظاهر، فلِمَ لا يقال يأخذ الكافر كتابه بشماله من وراء ظهره حقيقةً، ولا
يزداد على ذلك؟ ويجعل النشاط والسرور سببًا للأخذ باليمين وضد ذلك سببًا للأخذ
بالشمال من وراء الظهر؟
(2)
هل يحلّ التداوي بالخمر - إذا ظن نفعها بخبر طبيب - أخذًا من آية
{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: 78)، ومن القاعدة المتفق عليها:
الضرورات تبيح المحظورات. وإذا جوّزتم فما ترون في حديث: (إنها داء
وليست بدواء) أو كما ورد.
(3)
هل الخمر نجسة، وما دليل نجاستها إن قلتم بها؟ فإني لم أَرَ دليلاً شافيًا
بعد شدةِ البحث.
(4)
ما جواب مجوّزي سماع الملاهي عن حديث تحريم سماع المعازف الذي
في البخاري.
(5)
ما درجة حديث النهي عن تعليم النساء الكتابة وهل له معارض؟ وما
رأيكم في هذا التعليم؟ والحديث المشار إليه ذكره في فتح البيان عن البيهقي
والحاكم وابن مردويه وسكت عليه، فهل ذكر الحاكم له يفيد صحته.
(6)
ما درجة حديث جابر في خلق النور المحمدي قبل الأشياء؛ فقد أنكر
الشيخ عبد العزيز جاويش صحته مع ذكره في كتب جمّة كشرح الهمزية لابن حجر،
لكن لم أَرَ مَنْ صححه بعد شدة بحث في كثير من كتب السنة.
(7)
لم شرَطتم على المفتي ذكر دليل الحكم للعامي مع أن كثيرًا من
الأدلة يصعب جدًّا تفهيمه إيّاها فالتكليف به حرج شديد؟ وإذا وَسِعَ العامِّيّ أن يثق
برواية المفتي فلم لا يسعه أن يثق بأنه أخذ فتواه من دليل صحيح؟ فإنّا إذا
نظرنا إلى احتمال خطأ العالم في أخذ الحكم أو فتواه بما لا يعلم - لزم أن ننظر إلى
احتمال كذبه في الرواية أو في تفهيم مرويه، ولا إخالكم ترتابون في صعوبة تفهيم
العامي بعض الأدلة لعلمكم بأن مأخذ الحكم قد يتركب من حديثين أو أحاديث أو
من سنة وقرآن، ويحتاج تقريره إلى فطنة وإلمام بجملة علوم.
هذه يا سيدي الأستاذ مسائل اشتدت حاجتنا إلى معرفة الحق فيها جدًّا، فلجأنا
إليكم والأمل بتحقيق طلبنا ملء الفؤاد لا برحتم عضد الحق.
خادم العلم الشريف
م. ز - بالعطف
***
(أخذ الكتب بالأيمان والشمائل)
حمل الأستاذ الإمام الآية في سورة الانشقاق على الكناية؛ لأنه الأبلغ الذي
يظهر به معنى الوعد والوعيد الذي وردت الآية في سياقه. والكناية لا تنافي
الحقيقة، فيجوز أن يكون المراد هو ما فسر به الآية مع كون الأخذ بالأيمان
وبالشمائل ممدودة إلى ما وراء الظهر يقع بالفعل؛ ولكن إرادة الحقيقة وحدها خبر
مجرد ليس فيه ما في الكناية من الموعظة وبيان حسن حال من يأخذ كتابه بيمينه
من قبل وجهه، وسوء حال من يأخذ كتابه بشماله من وراء ظهره، وحمل كلام الله
على أبلغ الوجوه العربية وأظهرها انطباقًا على مقاصد القرآن هو الأولى؛ بل
المتعين، وقد أنزل الله القرآن هدًى وموعظةً وعبرةً وذكرى؛ كما هو مبين في عدة
آيات.
نعم؛ لا يجوز أن يتكلف المفسر في كلام الله تعالى معاني لا يسيغها الأسلوب
العربي البليغ للهروب من معنى متبادر لا يوافق ذوقه أو رأيه. وقد عهد في
الاستعمال العربي البليغ التعبير باليمين وبالأخذ باليمين عن اليمن والنشاط والعناية،
وبالتعبير بالشمال عن ضد ذلك من الشؤم والكراهة. وسمَّت العرب اليد اليمين:
اليمنى، والشمال: الشؤمى، وكانوا يتيمنون بالطير إذا مرت يمينًا ويتشاءمون بها
إذا مرت شمالاً. فتقول العرب: أخذ فلان كذا بيمينه أو بشماله، قلّما يريدون إلا
الكناية، فهو من الكنايات المشهورة بينهم؛ لأن إرادة الحقيقة قلّما تكون لها فائدة.
وأما قول العلماء: إن الأصل في الكلام الحقيقة ولا يصار إلى المجاز أو
الكناية إلا بدليل وقرينة، فلا يريدون به أن كل ما أمكن أن يراد به الحقيقة يحمل
عليها مطلقًا، فإن من الكلام ما يجزم سامعه عند سماعه أنه مجاز أو كناية مع
إمكان إرادة المعنى الحقيقي، ثم إن تحديد الحقيقة في كل مواد الكلِم والتمييز بينها
وبين المجاز والكناية ليس من السهولة بحيث ينال من طرف التمام، ولعسره أنكر
بعض النقاد المجاز من أصله وعدّ الجماهير كثيرًا من المجازات حقائق، وخلطت
معاجمُ اللغة الحقيقة بالمجاز، ولم يعن بالتزييل إلا أفراد من الجهابذة؛ كالزمخشري
في أساس البلاغة، وليس هذا المقام بالذي يتسع لبيان ذلك.
***
(التداوي بالخمر)
التداوي بالخمر لِمَنْ ظن نفعها؛ شيء. والاضطرار إلى شربها؛ شيء آخر.
فأمّا الاضطرار فإنما يعرِض لبعض الأفراد في بعض الأحوال، وهو يبيح المحرم من
طعام وشراب بنص قوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَاّ مَا اضْطُرِرْتُمْ
إِلَيْهِ} (الأنعام: 119) ، وينفي الحرج والعسر وغير ذلك من الأدلة. وقد
مثّل الفقهاء له في شرب الخمر بمن غُصّ بلقمة فكاد يختنق ولم يجد ما يسيغها به
سوى الخمر. ومثله من دنق من البرد وكاد يهلك ولم يوجد ما يدفع به الهلاك بردًا
سوى جرعة أو كوب من خمر، ومثله أو أولى منه مَنْ أصابته نوبة ألم في قلبه
كادت تقضي عليه؛ وقد علم أو أخبره الطبيب بأنه لا يجد ما يدفع عنه الخطر سوى
شرب مقدار معين من الخمر القوية؛ كالنوع الحديث الإفرنجي الذي يسمونه
(كونياك) فإننا نسمع من الأطباء أنه يتعين في بعض الأحيان لعلاج ما
يعرض من مرض القلب ودفع الخطر وقد ثبت ذلك بالتجربة.
وهذا النوع من العلاج لا يكاد يكون شربًا للخمر وإنما يؤخذ منه نقط قليلة لا
تسكر. وأمّا التداوي المعتاد بالخمر لمن يظن نفعها ولو بإخبار الطبيب كتقوية المعدة
أو الدم ونحو ذلك مما نسمعه من كثيرٍ من الناس فهذا هو الذي كان الناس يفعلونه
قبل الإسلام ونهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ونص الحديث الذي أشار إليه
السائل: (إنه ليس بدواء ولكنه داء) رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي،
وسببه: أن طارق بن سويد الجعفي سأل النبي عن الخمر - وكان يصنعها - فنهاه
عنها، فقال: إنما أصنعها للدواء، فقاله.
وقوله: (ولكنه داء) هو الحق وعليه إجماع الأطباء، فإن المادة المسكرة من
الخمر سم تتولد منه أمراض كثيرة يموت بها في كل عام ألوف كثيرة، والسموم قد
تدخل في تركيب الأدوية، ولكن الذين يشربون الخمر - ولو بقصد التداوي بها -
لا يلبثون أن يؤثر في أعصابهم سمُّها، فتصير مطلوبة عندهم فيتضررون بسمها، فلا
يغترن مسلم بأمر أحد من الأطباء بالتداوي بها لمثل ما يصفونها له عادة،
واللهُ الموفق.
***
(نجاسة الخمر)
ذهب جمهور الفقهاء إلى نجاسة الخمر، وروي عن ربيعة شيخ الإمام مالك
القول بطهارتها، فأمّا نجاستها المعنوية فلا شك فيها، وأمّا النجاسة الحسية فلا
تصدق على الخمر لغةً لأنها ليست قذرة، والنجس ما كان شديد القذارة، ولا قام عليها
دليل من الكتاب ولا من السنة، وقد شرحنا ذلك في المجلد الرابع من المنار (ص
500 و 821 و 866) فليرجع إليه السائل إن شاء.
وقد جمعتنا الأيام بعد كتابة ما كتبناه في ذلك المجلد بجماعة من أكابر علماء
الأزهر في قطار خاص من قطارات سكة الحديد كان يحملنا إلى بلدة (ديروط) بدعوة
قطب باشا قرشي رحمه الله للاحتفال بتأسيسه مسجدًا ومدرسةً فيها، فدار الكلام
بيننا في هذه المسألة، فقال أحد علماء المالكية: إنه يريد أن يكتب رسالةً يثبت فيها
نجاسة الخمر بالدليل فتكون ردًّا على المنار، قلت له: إذا جئت بدليل صحيح يقبله
المنار وينشره في الأقطار، وإلا ردّ عليك ما تكتب، ويمكنك أن تذكر الآن ما عندك
من الدليل، قال:(الإجماع) ؛ قلت: لم ينقله أحد بل نقلوا عن الإمام ربيعة
التصريح بطهارتها، قال:(آية المائدة) قلت: إن لفظ (رجس) محمول فيها على
الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، ولم يقل أحد من المسلمين بنجاسة الميسر
والأنصاب والأزلام، فتعيّن أن يكون الرجس هو المستقبح عقلاً وشرعًا لضرره،
والرجس يكون حسيًّا؛ وهو ما يدرك بأحد الحواس، ويكون معنويًّا وهو ما يعرف
بالعقل والشرع مجتمعين أو منفردين، قال تعالى: {وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا
يَعْقِلُونَ} (يونس: 100)، وقال: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ
رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ} (التوبة: 125)، وقال: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ
الأَوْثَانِ} (الحج: 30) ، ولا يمكن إرادة النجاسة الحسية بشيء من ذلك.
ولمَّا لم يستطع الأستاذ المالكي أن يقيم دليلاً، سأل أحد الحاضرين
مفتي الديار المصرية - وكان يسمع المناظرة - عن رأيه في المسألة.
فقال المفتي: ما مذهب الأستاذ؟ يعني كاتب هذا - قيل له: شافعي، فقال لي:
ما المعتمد عند الشافعية في المسألة؟ قلت: المعتمد أن الخمر نجسة. قال: انتهى
الأمر. قلت: لا، إننا نبحث في الدليل على نجاسة الخمر لا في نص المذهب. فإن
كان لديك دليل فاذكره لنا. فلم يأت بشيء. ثم سكت الشيوخ وسكتنا.
***
(سماع المعازف)
قد شرحنا في الجزأين الأول والثاني في المجلد التاسع هذه المسألة؛ فذكرنا أدلة
مجوِّزي السماع وأدلة حاظريه، وأقوى أدلة الحاظرين حديث البخاري الذي أشار
إليه السائل؛ إذ لم يصح في الباب سواه، بل قال ابن حزم: لا يصح في الباب
حديث أبدًا وكل ما فيه فموضوع.
وبينا أجوبة المجوزين عن هذا الحديث:
(فمنها) أنه منقطع الإسناد فيما بين البخاري. (ومنها) أن في إسناده
صدقة بن خالد وقد قال فيه يحيى بن معين إنه ليس بشيء، والإمام أحمد: إنه ليس
بمستقيم. (ومنها) أنه مضطرب المتن والسند بما بيناه هنالك. (ومنها) أن كلمة
المعازف التي هي محل الاستدلال ليست عند أبي داود. (ومنها) إن لفظة
يستحلون ليست نصًّا في التحريم، فقد ذكر القاضي أبو بكر بن العربي لها معنيين:
أحدهما أن المعنى: يعتقدون أن ذلك حلال، والثاني: أن يكون مجازًا عن
الاسترسال والإكثار من ذلك. (ومنها) أن لفظة المعازف مختلف في مدلولها
والاختلاف يوجب الاحتمال المسقط للاستدلال. (ومنها) أن المعازف المنصوص
عليها فيه هي ما كانت مقترنة بشرب الخمر كما يستفاد من بعض روايات الحديث.
(ومنها) أن المراد بالحديث: يستحلّون مجموع ما ذكر فيه لا كل واحد منها.
وحينئذ يستثنون المعازف بدليل كون الدف والغناء منها جمعًا بين الأدلة؛ إذ
ثبت في الأحاديث المتفق عليها سماع النبي صلى الله عليه وسلم وإجازته لهما.
وإذا أراد السائل أن يقف على تفصيل هذه الوجوه والأجوبة عنها وملخص ما
قاله المجوزون والمحرمون في المسألة فليرجع إلى المجلد التاسع من المنار.
والذي ظهر لي من مجموع ما ورد في هذا الباب ومن كلام العلماء المختلفين
في المسألة: أن سماع الغناء وآلات اللهو ليست محرّمة لذاتها مطلقًا، ولكن الإكثار
منها مكروه ولو لم تبعث على معصية، فإذا كانت مغرية بالفسق كما يقع كثيرًا
حرمت لسدّ الذريعة. ولمّا كثر اللهو والفسق من المفتونين بالمعازف وصارت
أغانيهم كلها غرامية خلافًا لِمَا كان عليه الناس في القرون الأولى وصارت بذلك من
دواعي السكر والعشق المؤدي للفسق - أكثر علماء الدين من ذمها والتنفير منها
والجزم بتحريمها - كما حرّموا إبداء المرأة لما ظهر من زينتها وكشف وجهها وكفيها
خوف الفتنة، حتى منعوا النساء الصلاة في المساجد، وقالوا مثل ذلك في الأَمْرَدِ
الجميل الصورة.
وحديث البخاري - أي المسئول عنه - إخبار بالغيب عن حال هؤلاء الفساق،
فلم يبعد عن الفهم من قال إنه في تقبيح حال هؤلاء الفسّاق في جملة أفعالهم، فرواية
البخاري: (ليكونن من أمتي قوم يستحلون الحر [1] والحرير والخمر والمعازف)
ورواية بعض السنن: (ليشربن ناسٌ من أمتي الخمر يسمّونها بغير اسمها يُعزف على
رؤوسهم بالمعازف والمغنيات) وفي لفظٍ: (تروح عليهم القيان وتغدو بالمعازف)
فالحديث مروي بالمعنى ولذلك اختلفت ألفاظه. ولا شك أن ما يؤخذ من تعدد ألفاظه
يدل على استقباح النبي صلى الله عليه وسلم لمجموع فعل هؤلاء الفسّاق، ومنه
عزف المغنيات لهم على شربهم وفسقهم، فهو مثل حديث (صنفان من
أهل النار لم أرهما بعد: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء
كاسيات عاريات، مائلات مميلات، على رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن
الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من ميسرة كذا وكذا) رواه أحمد
ومسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة.
فأما الرجال الذين يضربون الناس بسياط كأذناب البقر فهم أعوان الحكام الذين
ابتدعوا السياط التي تسمى الكرابيج وصاروا يعذبون الناس بها، وأما النساء
الموصوفات بما ذكر فهن مشاهدات في زماننا، ولم يفهم المراد من وصفهن بما ذكر
كثيرٌ من العلماء قبل وجودهن، وأنت ترى من وصفهن أنهن يضعن على رؤوسهم
شيئًا مرتفعًا شبه سنام البخت من الإبل، وهذا بحد ذاته مباح بالإجماع، ولكنه مع
سائر تلك النعوت يمثل حال طائفة من الفواسق الفواتن اللواتي يضللن كثيراً من
الناس.
***
(تعليم النساء الكتابة)
لم يصح في النهي عن تعليم النساء الكتابة شيء، وليس كل ما يرويه الحاكم
صحيحًا؛ بل صَحَّحَ في مستدركه على الصحيحين أحاديثَ جزموا بأن بعضها
ضعيف وبعضها موضوع، ومنها هذا الحديث الذي يشير إليه السائل: (لا
تسكنوهن الغرف ولا تعلموهن الكتابة) رواه في المستدرك من طريق عبد الوهَّاب بن
الضحَّاك عن عائشة، وهو كذاب كما قال أبو حاتم، متروك كما قال النسائي،
منكر الحديث كما قال الدارقطني: وقال الحافظ ابن حجر في الأطراف - بعد ذكر
تصحيح الحاكم له -: بل عبد الوهاب متروك، وقد تابعه محمد بن إبراهيم الشامي
عن شعيب بن إسحق، وإبراهيم رماه ابن حبان بالوضع. وابن حبان هو الذي
روى حديثه هذا في كتاب الضعفاء، وقال الدارقطني فيه: كذّاب. وأخرج ابن
حبان في الضعفاء أيضًا عن ابن عباس مرفوعًا: (لا تعلموا نساءكم الكتابة) وفي
سنده جعفر بن نصر وهو متّهم بالكذب كما قال الذهبي.
وهذه الروايات الواهية أو الموضوعة معارَضة بروايات صحيحة في
مشروعية تعليم النساء الكتابة؛ منها حديث الشفاء التي علمت حفصة أم المؤمنين
الكتابة، وقال لها النبي صلى الله عليه وسلم مرةً مازحًا: (ألا تعلمين هذه
رُقية النملة كما علمتها الكتابة) رواه أحمد وأبو داود بسند رجاله رجال الصحيح،
إلا إبراهيم بن مهدي البغدادي المصيصي؛ وهو ثقة كما قال: ابن القيم، ورواه
النسائي والحاكم وصححه، وغيرهم، وقد صرّح كثير من العلماء بأن حديث الشفاء
يدل على جواز تعليم وتعلم النساء الكتابة، وفي الأدب المفرد للبخاري: أن عائشة
بنت طلحة كانت في حِجْرِ عائشة أم المؤمنين تكاتب الرجال، كانوا يكتبون إليها
من الأمصار ويهدونها؛ لمكانها من أمِّ المؤمنين؛ فتأمرها أمُّ المؤمنين بأن تحييهم
على كتبهم وتثيبهم على هداياهم. وعلى هذا جرى المسلمون فكان فيهم كثير من
الكاتبات العالمات بالحديث والأدب والفنون. وهنَّ يدخلن في عموم خطاب الشرع
في جميع أحكامه إلا ما خصص، ومن مقاصد الشرع إخراج الأمة من الأمية
وتعليمها الكتاب والحكمة كما هو منصوص في كتاب الله تعالى.
* * *
(حديث جابر في أول الخلق)
تجدون الكلام على هذا الحديث وما في معناه من كون نبينا - صلى الله عليه
وسلم - كان نبيًّا وآدم بين الماء والطين وغيره في (ص 865-869 من مجلد
المنار الثامن) ولا عبرة بكلام مثل الشيخ عبد العزيز جاويش في إنكار حديث،
ولا في إثابته فإنه ليس من علم الحديث في شيء، وهو جريء على القول في
الدين بالهوى والرأي حتى إنه أنكر بعض أحاديث الصحيحين بغير علم، فهو ينكر
ما لا يوافق عقله ورأيه.
***
(ذكر المفتي للدليل)
ليْتكم ذكرتم في السؤال عبارتنا التي استنبطتم السؤال منها فإننا لا نتذكر
مسألة الشرطية ولا ننكرها، وإنما نذكر أننا كتبنا مرارًا أنه ينبغي للمعلم والمفتي
في الدين أن يبين للناس نصوص الكتاب والسنة في المسائل ليعرفوا أصل دينهم،
ومن أين أخذ الحكم الذي لقنوه أو أفتوا به، وهذا هو الواجب الذي أخذ على أهل
الكتاب العهد أن يبينوه للناس ولا يكتموه، فإذا تعسّر أو تعذّر على بعضهم فهم الآية
أو الحديث - بعد بيانه بقدر الاستطاعة - خرج المفتي من تبعة الكتمان.
وأما المسائل التي لا نص فيها بعينها ويتعذر على السائل فَهْم مأخذها،
كبعض مسائل المواريث التي يدخلها العول مثلاً، فلا بأس ببيان الحكم فيها بدون
ذكر مأخذه. وأما تعويد الناس أخذ مسائل الدين بدون وصلها بأصلها من الكتاب
والسنة فهو قطع لحبل الله ورسوله بين المؤمنين، وهو الذي فتح للباطنية وغيرهم
من المضلين، باب إضلال المسلمين؛ إذ صارت العامة تَقْبل كل ما يقال لها إنه
من الدين، فهذا سبب ما رأيتموه وسميتموه اشتراطًا، ولولا ضيق الوقت لراجعنا ما
تشيرون إليه من مظانه، وأجبنا عنه بعينه، والخَطْب سهل إن شاء الله تعالى.
_________
(1)
الحِر - بالكسر -: الفرْج؛ والمراد الزنا. وفي لفظ الخز بمعجمتين؛ وهو نوع من الديباج وهذا من الاضطراب في متن الحديث.
الكاتب: محمد رشيد رضا
باب
الانتقاد على المنار
نقد عبارة في المنار
والمناظرات بين دعاة النصرانية وعلماء الإسلام
أرسل إلينا طاهر أفندي التنير من بيروت نبذتين في الرد على دعاة
النصرانية الذين فتح لهم الدستور باب الجرأة على توزيع رسائل الطعن في الإسلام
في سوريا حتى قاربوا أن يجهروا فيها كما يجهرون في مصر، وقد رأينا في كل
من النبذتين شذوذًا في التعبير فحذفنا ونقحنا وتصرفنا في العبارة بحذف بعض
المعاني الشعرية التي تؤثر تأثيرًا رديئًا بِلا فائدة، وقد ظهر لنا بعد ذلك أنه بقي في
الكلام ما ينتقد على الكاتب، وكذا على الناشر؛ لأنه يؤلم القارئ من النصارى، إذ
كاشفنا بعض أصدقائنا السوريين بما انتقدوه، وقالوا: إن مثل هذا لا يعهد من المنار،
فهو يرد على المبشرين من سنين طويلة ولم ننتقد عليه كلمةً واحدةً تعد جارحةً،
أو بعيدة عن الأدب، ثم إنه قد عرف بأنه داعيةُ وفاقٍ ومودةٍ، فلا ينبغي له أن
ينشر - لِمَنْ لا يراعون مشربه هذا - ما ينافيه؛ فرأينا أن نكتب كلمات في
هذا الموضوع تزيل اللبس، وتكون هي القول الفصل، وهي:
(1)
إننا نحمد الله تعالى أن جعلنا من دعاة الوفاق ومن محبي الأدب
والنزاهة، وإنه ليسوءنا ويحزننا أن نقع في سهوٍ أو غلط ينافي ذلك ويعارضه،
وإذا عثرنا نسارع إلى التوبة والندم، ونتلافى ما يمكن تلافيه بما تحمله الطاقة،
وتناله الاستطاعة.
(2)
إن المنار لا يشترك فيه النصارى كما يشترك المسلمون في صحفهم
الدينية - دع السياسة التي تسمّى عامة - فلا يوجد في مشتركيه عشرة نفر من
النصارى؛ لأجل هذا لا يخطر في بالنا عند كتابة كل شيء أو نشره أن نراعي فيه
موقعه من نفوسهم، وتأثيره في جمهورهم، والأدب مطلوب عندنا لذاته. وإنما
يطّلع عليه عدد قليل من أهل العلم والأدب كأصحاب الصحف التي يبادلها المنار،
وهؤلاء من الأحرار أصحاب الصدور الواسعة، فإذا هم استنكروا شيئًا لا يذيعونه في
جمهور قومهم، ونتيجة هذا أن ما ينشره المنار لا تأثير له في عامة النصارى حتى
يقال: إن المجلات كالجرائد يجب أن يراعى فيها شعور جميع الملل التي تقيم في
الوطن التي تصدر فيه أو تنطق باللغة التي تكتب بها. فهو إذًا من كتب الإسلام
الدينية، فلا وجه لمطالبتنا بأن نراعي شعورهم فيه، ولا لدعوى أن ما ينشر مخالفًا
لعقائدهم، أو ردًّا عليها يوجب التفرقة والعداوة.
(3)
إن دعاة النصرانية هم المعتدون على المسلمين بالطعن في دينهم بما
ينشرون من الكتب والرسائل والصحف، وبما يعقدون من المجامع لدعوى المسلمين
إلى دينهم وفي مدارسهم ومستشفياتهم، فصار من الواجب علينا شرعًا أن ندافع عن
ديننا، وننفِّر عوامنا عن قبول دعوتهم؛ فالفرق بيننا وبينهم أنهم مهاجمون ونحن
مدافعون، وأنهم يكتبون مطاعنهم لينشروها في المسلمين، كما يبثون مطاعنهم
القولية فيهم، ونحن لا ننشر مطاعننا بين النصارى ولا نشافههم بها، ولا يكاد
يطّلع عليها إلا عدد قليل من محبي الوقوف على الشؤون العامة، فمن ينتقد ما نكتبه
بدعوى أنه يوجب العداوة والتفرقة بين عامة الفريقين مخطئ؛ وإنما يكون مصيبًا
إذا قال ذلك فيما يكتبه أهل ملته ودينه؛ لأنهم ينشرونه بين المسلمين فينفرونهم من
النصارى، ولا يغفل عن هذا أو يتغافل عنه إلا الغالي في التعصب.
(4)
قال بعض أصحابنا: إن الطاعنين في الإسلام من النصارى كلهم من
الأجانب كالأمريكانيين والإنكليز؛ لا من أبناء وطننا، فلا ينبغي أن نسيء إلى
أبناء وطننا بردنا عليهم.
ونقول (أولاً) : إن هذا القول غير صحيح، فكتاب (الضلالة) المسمى
بضد اسمه تأليف رجل من متعصبي القبط، وهو أقذر هذه الكتب وأقلها أدبًا في
الطعن في نبينا صلى الله عليه وسلم، وكتاب (أبحاث المجتهدين) مؤلفه سوري، بل
أقول: أكثر تلك الكتب والرسائل والصحف الطاعنة في الإسلام يكتبها أجراء
المبشرين من الوطنيين أو يترجمونها؛ إذ لا يكاد يوجد في أولئك الأجانب من يحسن
الكتابة العربية، وإنما ينشرها الأجانب لأن لديهم أموالا كثيرة مرصدة لذلك من أهل
بلادهم الذين يقول لنا أبناء وطننا إنهم هم البُرَآء من التعصب الديني دون أهل
الشرق! ! ولأن لهم من الامتيازات والنفوذ السياسي ما يحميهم من سلطة الحكومة.
ونحن نبرئ جمهور الوطنيين من ذنب أولئك الأجراء ولا نعده مانعًا من الاتفاق
بيننا وبينهم.
(وثانيًا) إذا فرضنا أن هذا العدوان من الأجانب خاصة، فهل من العدل أن
يطالبنا نصارى بلادنا بأن لا نرد عليهم، ولا نحذر عوامّنا ونَحُول بينهم وبين
إفسادهم لعقائدهم؛ لأن دفاعنا عن ديننا يجرح عواطفهم الدينية؟ ! أليس منتهى
التعصب والسعي للعداوة والتفرق أن تطالب ابن وطنك بأن يترك الدفاع عن دينه،
وتعليم أهله ما يصونهم عن الارتداد عنه، أو عن فساد العقيدة الذي قلّما تنتج دعوة
المبشرين غيره، وأن يرضى بأن يُكذَّب قرآنه ويُشتم رسوله، إكرامًا لخاطرك،
ومراعاة لعواطفك؟
(5)
إن القاعدة الصحيحة للاتفاق هي قاعدة المنار الذهبية التي دعا إليها
المختلفين في المذاهب والأجناس من المسلمين، والمختلفين في الأديان والأجناس
من العثمانيين، وهي: (نتعاون على ما نشترك فيه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما
نختلف فيه) . وقد شرحناها غير مرة ولكن كثيرًا من الناس لا يحبون الوفاق، ومنهم
أعوان المبشرين من الوطنيين، وبعض الكتاب والصحافيين، كالشيخ يوسف
الخازن من نصارى السوريين، الذي وضع قاعدة للخلاف ضد القاعدة التي
وضعتها للوفاق، وصرّح بها في ملأ مِن أدباء نصارى السوريين كنت أكلمهم في
وجوب السعي إلى الوفاق والوحدة؛ فسخر من هذه الدعوة، وقال: إذا كان الخلاف
بين مسلم ونصراني فأنا مع النصراني على المسلم كيفما كان - أي في الحق
والباطل - وإذا كان بين كاثوليكي فأنا مع الكاثوليكي مطلقًَا، وإذا كان بين كاثوليكي
غير ماروني فأنا مع الماروني مطلقًا، قال: وكل الناس كذلك.
فمثل هذا لا يعذر المسلمين في كلمة يخالفون فيها النصارى ولا بقولهم ولو
في كتبهم وصحفهم الخاصة بهم أننا على الحق، والطاعن في ديننا على الباطل،
ولذلك أقام النّكِير على المنار مرة لأنه ذكر اسم المبشرين في سياق الكلام على ما
أفسد بلادنا من سعي فسّاق الإفرنج كمواخير البغاء وحانات الخمر وبيوت القمار.
ونحن نرى المبشرين أشد إفسادًا في بلادنا من غيرهم لأن صاحب الحانة يحمل
المسلم أو يساعده على مخالفة الإسلام في أمر واحد وهو السُّكر، والمبشر يحمله
على ترك دينه كله، وزد على ذلك أن المبشرين هم الذين يوقدون نار العداوة بين
المسلمين والنصارى ويفسدون المسلمين أنفسهم بتشكيكهم في الدين الذي هو أساس
الفضيلة والتقوى والوحدة والاتفاق. فمثل الشيخ يوسف الخازن من متعصبي
النصارى السوريين، وبعض أصحاب الجرائد من متعصبي القبط، أشد سعيًا في
التفريق بين المسلمين والنصارى من المبشرين الأجانب؛ لأنهم يبحثون عن كلمة
يقولها مسلم في الدفاع عن دينه فيجردونها عن سببها والحامل عليها من الأعذار،
ويزفونها إلى قومهم في صورة مشوّهة، وإضافات باطلة، وما بلَّغ المكروهَ إلا من
نقل.
(6)
إن مجالنا في الردّ على النصارى أضيق من مجالهم لأننا نؤمن بنبيهم
المسيح ونعظّمه ونعظّم حواريه، ونعدّ الطعن فيه كفرًا وردةً عن الإسلام {لَا نُفَرِّقُ
بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} (البقرة: 285) ?وهم يطعنون بلا قيد ولا حد.
فغاية ما يمكن أن يكتبه المسلم هو النقل من كتبه الدينية أو كتب أحرار
الأوربيين بشرط إظهار البراءة من كل ما لا يليق بكرامة المسيح أو غيره من أنبياء
الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، والتصريح بأن نقل ما ذكر من باب (ناقل
الكفر ليس بكافر) وأنا لا أحب لنفسي سلوك هذه الطريقة، وهي التي اضطر إليها
بعض من كتب في المنار، وكتابة التنير من هذا الباب، وإنني حبًّا في النزاهة
والأدب، وكراهة للشعريات في المناظرة والجدل، عملاً بقوله تعالى: {وَلَا
تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلَاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (العنكبوت: 46) قد نقحتها، فإذا
كان قد بقي فيها كلمةً شاذةً ككلمة الثالوت الزنائي في سياق قصة ولادة سليمان عليه
السلام، فإنما ذلك من السهو الذي يظهر بما نبين من سببه، وهو أن الكاتب جعل
عنوان مقالته (الثالوث الزنائي المقدس) وصدر الكلام في كل قصة من القصص
الثلاث التي نقلها من التوراة بقوله: (الأقنوم الأول من الثالوث الزنائي المقدس)
إلخ، وكان يختمها بمثل هذه الكلمة، ويكررها في أثناء العبارة، فرمجنا (شطبنا)
كل هذه الكلمات لأن فيها امتهانًا لاصطلاحات محترمة، وغرضنا من تحذير
عوامّ المسلمين من الاستجابة للمبشرين لا يتوقف على ذلك، ولا هو ممّا ترضاه
آدابنا، وجعلنا مكان كلمة الأقنوم كلمة الجد، وحذفنا لفظ الثالوث من العناوين ومن
تضاعيف الكلام، واتفق أننا لم نقرأ تلك الأوراق في وقت واحد لكثرة الشواغل
وضيق وقتنا عنها، ولذلك جعلنا في القصة الثالثة لفظ (الشاهد) بدل (الجد)
وبقي في آخرها كلمة (الثالوث الزنائي) على أنني أتذكر جيدًا أنني حذفت هذه
العبارة التي كانت في العنوان الأول وتكررت في الكلام، فلا أدري أكان ترميجها
(شطبها) غير ظاهرٍ فجمعت حروفها، أم كنت قد نسيتها؛ لأنني قرأت تلك
الورقة التي هي فيها وحدها. ولهذا قلت فيها: الشاهد الثالث بدل الجد الثالث.
وقد ظهر بهذا الذي شرحته أن هذه الكلمة قد بقيت في المقابلة كالعضو الأثري، وإن
اللام فيها لام العهد الذِّكري؛ أي الثالوث الذي تقدم ذكره. وإنني لما ذكرت لي ما
صدقت حتى راجعت ورأيتها بعيني. وقد امتعضت امتعاضًا شديدًا ظهر عليّ
وسئلت عن سببه، فإن من خلقي وغريزتي أن أتألم مما يقع مني مخالفًا لمشربي
ورأيي، ولو سهوًا أو نسيانًا، ولا أبالي بما ينتقده الناس إذا كنت أعتقد أنه
حق وصواب وغير خارج عن حدود الآداب.
ومثل هذا الغلط والسهو يقع كثيرًا، وفي هذا الجزء من المنار غلط في آية من
القرآن غفلنا عنها؛ لأجل هذا قلت لمن نبهني ولغيره: إنني أحب أن أتلافى هذا
الخطأ بما يرضي المتألمين منه، وأدع لأهل الإنصاف من النصارى اقتراح ما
يرونه ويرضونه من اعتذار أو انتقاد لما كتب، أو حذف الكراسة من المنار وطبع
كراسة بدلها خالية من كل كلمة جارحة، وإنما أقبل في هذا قول المعتدلين البرآء
من التعصب كإسكندر بك عمون وسامي أفندي الجريديني من فضلاء المحامين
السوريين، على أن هذه الكتابة يصح أن تعد ترضية للمنصفين ودليلاً على أننا لم
ننشر تلك العبارة عمدًا.
وأما المتعصبون فلا يرضيهم منا إلا خروجنا من ديننا، فلا زالوا ساخطين
وقد سعوا مع بعض المبشرين من قبل لإقناع الوكالة البريطانية بإلغاء المنار ومنع
إصداره ظنًّا منهم بأن الجو يخلو لهم ولغيرهم من أعداء الإسلام فلا يتجرأ أحد على
الرد عليهم.
(7)
إن سبب نشر هذه المقالة والمعنى الذي أردنا أن يفهمه المسلمون
منها هو: أن إيماننا بالمسيح والأنبياء أصح من إيمان المبشرين، وتكريمنا لهم خير
من تكريمهم، فهم قد جمعوا فيما قالوه في المسيح عليه السلام بين الضدين فأطروه
حتى اتخذوه ربًّا وإلهًا، ونقلوا في نسبه لأمه وأبيه الناموسي (لا الحقيقي) أنه من
نسل سليمان بن داود من سبط يهوذا، وقد ثبت في العهد العتيق عندهم (لا عندنا)
أن بعض أجداده في هذا النسب (الذي سرده متّى ولوقا في إنجيليهما) من أولاد
الزنا. وثبت عن مقدسهم بولس أنه صار لعنة لأجلهم، ونحن المسلمين نقول: إنه
عليه السلام أهلٌ لكل كرامة وفضيلة، وإنه من روح الله وآية منه؛ ولكن ما اتخذ
الله من ولد وما كان معه من إله. ونقول: إنه طاهر من نسب طاهر، فنحن ننقل
ما نقلنا عن العهدين العتيق والجديد مما لا يسعهم إنكاره، لإقامة الحجة عليهم،
وإعلامًا لعامة أهل ديننا بأننا لسنا في حاجة إلى مَن يدعونا إلى الإيمان به عليه
السلام، بل نحن أحق بأن ندعو هؤلاء الدعاة إلى تبرئته من اللعنة ومن دنس
النسب، كما نبرئ سائر الأنبياء عليهم السلام مما لا يليق بهم، ونحثو التراب في
فم من يزعم أننا نقول كلمة فيهم تشعر بنقصهم، قال البوصيري رحمه الله
في لاميته:
وأبيك ما أعطى يهوذا خاتمًا
…
لزنا بمحصنة ولا منديلا
لَوّوْا بغير الحق ألسنةً بما
…
قالوه في ليّا وفي راحيلا
ودعوا سليمان النبي بكافرٍ
…
واستهونوا إفكًا عليه مقولا
***
(8)
صفوة الكلام وفصل الخطاب
إن المسلمين مدافعون لا معتدون، وهذا الدفاع فرض ديني عليهم، والمنار الذي
يرد عليهم يوزع على المسلمين أيضًا ليحذرهم من الارتداد عن دينهم أو يَحُول دون
شكهم فيه، والمشتركون فيه من غير المسلمين يعدّون على أصابع اليد، فما يكتبون
يثير سخط الرأي العام الإسلامي؛ ولذلك طَفِق المسلمون يؤلفون الجمعيات في مصر
لمقاومتهم وما يكتبه المسلمون - على كونه دفاعًا - لا يكاد يشعر العالم
النصراني؛ لأنه يوزع على المسلمين دونهم، إلا إذا بحث عنه بعض المتعصبين من
أصحاب الصحف أو غيرهم - والمعلول يدوم بدوام علته - فنحن لا نترك الرد
عليهم ما داموا يدعوننا إلى دينهم قولاً وكتابةً ويتعرضون في خطبهم وكتبهم وصحفهم
لديننا، فإن تركوا تَركْنا، وإذا استمروا استمررْنا، ونلتزم الأدب في العبارات بقدر
فهمنا واجتهادنا، فمن كان ساعيًا في منع ذلك بإخلاص وحب للوفاق فليبدأ
بإسكات المبشرين عن ذكر كتابنا ونبينا وأصول ديننا وفروعه، ويبقى لهم مجال
واسع في الدعوة إلى دينهم بذكر محاسنه وما عندهم من الدلائل عليه، ومن لم
يرضه منا إلا أن نسكت لهم عن الطعن في ديننا والتنفير عنه والتحريف لنصوصه فلا
زال ساخطًا غاضبًا حاقدًا - إلى ما شاء من لوازم تعصبه - ولعلّ سوء تأثير هؤلاء
المبشرين سيضطر الحكومة والمحتلين إلى وضع حد لهذا الأمر إما بقانون أو بغير
قانون، ولا نظن أن الإنكليز يجبروننا على السكوت ويدعونهم يبغون كما
يريدون.
_________
الكاتب: ابن القيم الجوزية
فصل [*]
فحينئذٍ يطلع منه على المشهد الثاني عشر
وهو مشهد الذل والانكسار، والخضوع والافتقار للرب جل جلاله، فيشهد في
كل ذرة من ذراته الباطنة والظاهرة ضرورة تامة وافتقارًا تامًّا إلى ربه ووليه، ومن
بيده صلاحه وفلاحه وهداه وسعاداته، وهذه الحال التي تحصل لقلبه لا تنال العبارة
حقيقتها، وإنما تدرك بالحصول، فيحصل فيه كسرة خاصة لا يشبهها شيء،
بحيث يرى نفسه كالإناء المردود تحت الأرجل الذي لا شيء فيه، ولا به ولا منه،
ولا فيه منفعة، ولا يرغب في مثله، وأنه لا يصلح للانتفاع إلا بجبر جديد من
صانعه وقيّمه؛ فحينئذ يستكثر في هذا المشهد ما من ربه إليه من الخير، ويرى أنه
لا يستحق قليلاً منه ولا كثيرًا، فأي خير ناله من الله استكثره على نفسه، وعلم
أن قدره دونه، وأن رحمة ربه اقتضت ذكره به وسياقته إليه، واستقل ما من نفسه من
الطاعات لربه، ورآها - ولو ساوت طاعات الثقلين - من أقل ما ينبغي لربه عليه،
واستكثر قليل معاصيه وذنوبه، فإن الكسرة التي حصلت لقلبه أَوجَبت له هذا كله،
فما أقرب الجبر من هذا القلب المكسور! وما أدنى النصر والرحمة والرزق منه! وما
أنفع هذا المشهد له وأجداه عليه! وذرة من هذا ونفس منه أحب إلى الله من طاعات
أمثال الجبال من المدلّين المعجبين بأعمالهم وعلومهم وأحوالهم.
وأحبُّ القلوب إلى الله سبحانه قلب قد تمكنت منه هذه الكسرة، وملكته هذه
الذِّلة، فهو ناكس الرأس بين يدي ربه، لا يرفع رأسه إليه حياء وخجلاً من الله.
قيل لبعض العارفين: أيسجدُ القلبُ؟ قال: نعم؛ يسجد سجدة لا يرفع رأسه
منها إلى يوم اللقاء؛ فهذا سجود القلب، فقلب لا تباشره هذه الكسرة فهو غير ساجد
السجود المراد منه، وإذا سجد القلب لله هذه السجدة العظمى سجدت معه جميع
الجوارح، وعَنَا الوجهُ حينئذٍ للحيّ القيوم، وخشع الصوت والجوارح كلها، وذلّ
العبد وخضع واستكان، ووضع خده على عتبة العبودية، ناظرًا بقلبه إلى ربه
ووليه نظر الذليل إلى العزيز الرحيم، فلا يُرى إلا متملقًا لربه خاضعًا له، ذليلاً
مستعطفًا له، يسأله عطفه ورحمته، فهو يترضى ربه كما يترضى المحب الكامل
المحبة محبوبه المالك له، الذي لا غنى له عنه، ولا بدّ له منه، فليس له هم غير
استرضائه واستعطافه؛ لأنه لا حياة له ولا فلاح إلا في قربه ورضاه عنه ومحبته
له، يقول: كيف أغضب من حياتي في رضاه؟ وكيف أعدل عمن سعادتي
وفلاحي وفوزي في قربه وحبه وذكره؟
وصاحب هذا المشهد يشهد نفسه كرجل كان في كنف أبيه يغذوه بأطيب الطعام
والشراب واللباس، ويربيه أحسن التربية، ويرقية في درجات الكمال أتم ترقية،
وهو القيّم بمصالحه كلها، فبعثه أبوه في حاجة له فخرج عليه في طريقه عدو فأسره
وكتفه وشدّه وثاقًا، ثم ذهب به إلى بلاد الأعداء فسامَه سوءَ العذاب، وعامله بضد
ما يكون أبوه يعامله به، فهو يتذكر تربية والده وإحسانه إليه الفيْنة بعد الفيْنة،
فيهيج من قلبه لواعج الحسرات كلما رأى حاله، وتذكّر ما كان عليه، وكل ما كان
فيه. فبينا هو في أسر عدوه يسومه سوء العذاب، ويريد نحره في آخر الأمر، إذ
حانت منه التفاتة إلى نحو ديار أبيه، فرأى أباه منه قريبًا، فسعى إليه، وألقى نفسه
عليه بين يديه، يستغيث: يا أبتاه يا أبتاه يا أبتاه! انظر إلى ولدك وما هو فيه،
ودموعه تستبق على خديه، قد اعتنقه والتزمه، وعدوه في طلبه، حتى وقف على
رأسه وهو ملتزم لوالده ممسك له. فهل تقول: إن والده يسلمه مع هذه الحال إلى
عدوه ويخلي بينه وبينه؟ فما الظن بمن هو أرحم بعبده من الوالد بولده، ومن
الوالدة بولدها؟ إذ فرّ إليه، وهرب من عدوه إليه، وألقى نفسه طريحًا ببابه،
تمرّغ خده في ثرى أعتابه، باكيًا بين يديه يقول: يا ربّ! ارحم من لا راحم له
سواك، ولا ناصر له سواك، ولا مؤوي له سواك، ولا مغيث له سواك، مسكينك
وفقيرك وسائلك ومؤملك ومرجيك، لا ملجأ له ولا منجا له منك إلا إليك، أنت
معاذه، وبك ملاذه:
يا من ألوذ به فيما أؤمله
…
ومن أعوذ به مما أحاذره
لا يَجْبُرُ الناس عظمًا أنت كاسره
…
ولا يهيضون عظمًا أنت جابره
***
فصل
فإذا استبصر في هذا المشهد، وتمكن من قلبه، وباشره وذاق طعمه وحلاوته،
ترقى منه إلى (المشهد الثالث عشر) وهو الغاية التي شمّر اليها السالكون،
وأَمَّها القاصدون، ولحظ إليها العاملون.
وهو مشهد العبودية والمحبة والشوق إلى لقائه والابتهاج به، والفرح
والسرور به، فتقرّ به عينه، ويسكن إليه قلبه، وتطمئن إليه جوارحه، ويستولي
ذكره على لسان محبه وقلبه، فتصير خطرات المحبة مكان خطرات المعصية،
وإرادات التقرّب إليه وإلى مرضاته مكان إرادة معاصيه ومساخطه، وحركات
اللسان والجوارح بالطاعات مكان حركاتها بالمعاصي، وقد امتلأ قلبه من محبته،
ولَهَجَ لسانُه بذكره وانقادت الجوارح لطاعته، فإن هذه الكسرة الخاصة لها تأثير
عجيب في المحبة لا يعبَّر عنه.
ويحكى عن بعض العارفين قال: دخلت على الله من أبواب الطاعات كلها فما
دخلت من باب إلا رأيت عليه الزحام فلم أتمكن الدخول، حتى جئت باب الذل
والافتقار فإذا هو أقرب باب إليه وأوسعه، ولا مزاحم فيه ولا معوق، فما هو إلا
أن وضعت قدمي في عتبته فإذا هو قد أخذ بيدي وأدخلني عليه.
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه يقول: من أراد السعادة الأبدية
فليلزم عتبة العبودية. وقال بعض العارفين: لا طريق أقرب إلى الله من العبودية،
ولا حجاب أغلظ من الدعوى، ولا ينفع مع الإعجاب والكبر عمل واجتهاد، ولا
يضر مع الذلّ والافتقار بَطالة؛ يعني بعد فعل الفرائض.
والقصد أن هذه الذلة والكسرة الخاصة تدخله على الله، وترميه على طريق
المحبة، فيُفتح له منها باب لا يفتح له من غير هذه الطريق، وإن كانت طرق سائر
الأعمال والطاعات تفتح للعبد أبوابًا من المحبة، لكن الذي يفتح منها من طريق
الذل والانكسار والافتقار وازدراء النفس، ورؤيتها بعين الضعف والعجز والعيب
والنقص والذم، بحيث يشاهدها ضيعة وعجزًا وتفريطًا وذنبًا وخطيئةً، نوع آخر
وفتح آخر.
والسالك بهذه الطريق غريب في الناس؛ هم في وادٍ وهو في وادٍ، وهي
تسمى طريق الطير، يسبق النائم فيها على فراشه السعاة؛ فيصبح وقد قطع الركب
بينا هو يحدثك وإذا به قد سبق الطرف وفات السعاة. فالله المستعان وهو خير
الغافرين.
وهذا الذي حصل له من آثار محبة الله له وفرحه بتوبة عبده، فإنه
سبحانه يحب التوّابين ويفرح بتوبتهم أعظم فرح وأكمله، فكلّما طالع العبد مننه
سبحانه عليه - قبل الذنب وفي حال مواقعته وبعده - وبرّه به وحلمه عنه وإحسانه
إليه: هاجت من قلبه لواعج محبته والشوق إلى لقائه، فإن القلوب مجبولة على
حب من أحسن اليها، وأي إحسان أعظم من إحسان من يبارزه العبد بالمعاصي،
وهو يمده بنعمه ويعامله بألْطَافه، ويُسبل عليه ستره، ويحفظه من خطفات أعدائه
المترقِّبين له أدنى عثْرة ينالون منه بها بغيتهم، ويردهم عنه ويحُول بينهم وبينه،
وهو في ذلك كله بعينه يراه ويطّلع عليه، فالسماء تستأذن ربها أن تحصبه،
والأرض تستأذنه أن تخسف به، والبحر يستأذنه أن يغرقه، كما في مسند الإمام
أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من يوم إلا والبحر يستأذن ربه أن يغرق
ابن آدم، والملائكة تستأذنه أن تعاجله وتهلكه [1] والرب تعالى يقول: دعوا عبدي
فأنا أعلم به إذ أنشأته من الأرض، إن كان عبدكم فشأنكم به، وإن كان عبدي فمني
إلى عبدي، وعزتي وجلالي إن أتاني ليلاً قبلته، وإن أتاني نهارًا قبلته، وإن
تقرّب منّي شبرًا تقربت منه ذراعًا، وإن تقرّب منّي ذراعًا تقربت منه باعًا، وإن
مشى إليّ هرْولت إليه، وإن استغفرني غفرت له، وإن استقالني أقلته، وإن تاب
إليّ تبت عليه، مَن أعظم منّي جودًا وكرمًا وأنا الجَوَاد الكريم؟ عبيدي يبيتون
يبارزونني بالعظائم، وأنا أكلؤهم في مضاجعهم، وأحرسهم على فرشهم، مَن أقْبلَ
إليّ تلقيته من بعيد، ومن ترك لأجلي أعطيته فوق المزيد، ومن تصرّف بحولي
وقوتي ألنت له الحديد، ومَن أراد مرادي ردت ما يريد. أهل ذكري أهل مجالستي،
وأهل شكري أهل زيادتي، وأهل طاعتي أهل كرامتي، وأهل معصيتي لا
أقنطهم من رحمتي، إن تابوا إليّ فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم، أبتليهم
بالمصائب، لأطهّرهم من المعايب) .
***
(نموذج آخر من الكتاب)
في بعض منازل السير إلى الله تعالى
فما تقدم هو نظر الصوفية في المعصية، واختلاف مشاهد أصناف الناس فيها
بين مَن يعتبر ويندم ويزداد بعدها صلاحًا، ومَن يرى أنه مجبور ومعذور بالقدر،
ومَن يرى أنه مؤدٍّ لحق الطبيعة ووظائف الأعضاء
…
إلخ، ولذلك جاء كله في
مباحث التوبة. وأمّا هذا النموذج فهو من نظرهم في سير السالكين إلى الله
تعالى؛ أي إلى معرفته العليا وما لهم من المنازل في طريقهم.
***
فصل
ثم ينزل القلب منزل الاعتصام وهو نوعان: اعتصام بالله، واعتصام بحبل
الله. قال الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا} (آل عمران:
103) ، وقال:{وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (الحج
: 78) والاعتصام: افتعال من العصمة؛ وهو التمسك بما يعصمك ويمنعك من
المحذور والمَخُوف، فالعصمة: الحمية، والاعتصام: الاحتماء، ومنه سميت القلاع
العواصم؛ لمنعها وحمايتها. ومدار السعادة الدنيوية والأخروية على الاعتصام
بالله، والاعتصام بحبله، ولا نجاة إلا لمن تمسّك بهاتين العصمتين.
فأمّا الاعتصام بحبله فإنه يعصم من الضلالة، والاعتصام به يعصم من الهلكة،
فإن السائر إلى الله كالسائر على طريق نحو مقصده، فهو محتاج إلى هداية
الطريق والسلامة فيها، فلا يصل إلى مقصده إلا بعد حصول هذين الأمرين له،
فالدليل كفيل بعصمته من الضلالة، وأن يهديه إلى الطريق، والعدة والقوة والسلاح
بها تحصل له السلامة من قطّاع الطريق وآفاتها، فالاعتصام بحبل الله يوجب له
الهداية واتباع الدليل، والاعتصام بالله يوجب له القوة والعدة والسلاح والمادة التي
يستلئم بها في طريقه، ولهذا اختلفت عبارات السلف في الاعتصام بحبل الله بعد
إشارتهم كلهم إلى هذا المعنى، فقال ابن عباس: تمسّكوا بدين الله. وقال ابن
مسعود: هو الجماعة. وقال: عليكم بالجماعة فإنها حبل الله الذي أمر به، وإن ما
تكرهون في الجماعة والطاعة، خير ممّا تحبون في الفرقة. وقال مجاهد وعطاء:
بعهد الله. وقال قتادة والسدّي وكثير من أهل التفسير: هو القرآن. قال ابن
مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن هذا القرآن هو
حبل الله، وهو النور المبين، والشفاء النافع، وعصمة من تمسّك به، ونجاة من
تبعه) . وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في
القرآن: (هو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو
الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تختلف به الألسن، ولا يخْلَق عن كثرة الرّد، ولا
تشبع منه العلماء) وقال مقاتل: بأمر الله وطاعته، ولا تفرّقوا كما تفرّقت اليهود
والنصارى. وفي الموطأ من حديث مالك عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي
هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يرضى لكم
ثلاثًا ويسخط لكم ثلاثًا: يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا
بحبل الله جميعًا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم. ويسخط لكم: قيل وقال
وإضاعة المال، وكثرة السؤال) رواه مسلم في الصحيح.
قال صاحب المنار: (الاعتصام بحبل الله: هو المحافظة على طاعته مراقبًا
لأمره) ويريد بمراقبة الأمر: القيام بالطاعة لأجل أن الله أمر بها وأوجبها، لا لمجرد
العادة أو لعلة باعثة سوى امتثال الأمر، كما قال طلق بن حبيب في التقوى: هي
العمل بطاعة الله على نور من الله، ترجو ثواب الله، وترك معصية الله على نور
من الله، تخاف عقاب الله. وهذا هو الإيمان والاحتساب ومَن قام ليلة القدر إيماناً
واحتسابًا غفر له، فالصيام والقيام هو الطاعة، والإيمان مراقبة الأمر [2] وإخلاص
الباعث هو أن يكون الإيمان الآمر [3] لا شيء سواه، والاحتساب رجاء ثواب الله،
فالاعتصام بحبل الله يحمي من البدعة وآفات العمل، والله أعلم.
***
فصل
وأما الاعتصام به: فهو التوكل عليه، والامتناع به، والاحتماء به، وسؤاله أن
يحمي العبد ويمنعه ويعصمه ويدفع عنه، فإن ثمرة الاعتصام به هو الدفع عن العبد،
والله يدفع عن الذين آمنوا، فيدفع عن عبده المؤمن إذا اعتصم به كل سبب
يفضي إلى العطب، ويحميه منه، فيدفع عنه الشبهات والشهوات وكيد عدوه
الظاهر والباطن، وشر نفسه. ويدفع عنه موجب أسباب الشر بعد انعقادها،
بحسب قوة الاعتصام به وتمكنه، فتفقد في حقه أسباب العطب فيدفع عنه موجباتها
ومسبباتها، ويدفع عنه قدره بقدره، وإرادته بإرادته، ويعيذه به منه.
***
فصل
وأما صاحب المنازل فقال: (الاعتصام بالله الترقي عن كل موهوم)
الموهوم عنده ما سوى الله تعالى. والترقي عنه: الصعود من شهود نفعه وضره،
وعطائه ومنعه وتأثيره، إلى الله تعالى. وهذه إشارة إلى الفناء، ومراده: الصعود
عن شهود ما سوى الله إلى الله. والكمال في ذلك الصعود عن إرادة ما سوى الله
إلى إرادته. والاتحادي يفسر الصعود عن وجود ما سواه إلى وجوده، بحيث لا
يرى لغيره وجود ألبتة، ويرى وجود كل موجود هو وجوده، فلا وجود لغيره إلا في
الوهم الكاذب عنده.
قال: (وهو على ثلاث درجات: اعتصام العامة بالخبر استسلامًا وإذعانًا
بتصديق الوعد والوعيد، وتعظيم الأمر والنهي، وتأسيس المعاملة على اليقين
والإنصاف) ؛ يعني أن العامة اعتصموا بالخبر الوارد عن الله استسلامًا من غير
منازعة، بل إيمانًا واستسلامًا، وانقادوا إلى تعظيم الأمر والنهي والإذعان لهما،
والتصديق بالوعد والوعيد، وأسسوا معاملتهم على اليقين، لا على لا شك والتردد [4]
وسلوك طريقة الاحتياط؛ كما قال القائل:
زعم المنجم والطبيب كلاهما
…
لا تبعث الأجساد قلت إليكما
إن صحّ قولُكما فلست بخاسرٍ
…
أو صح قولي فالخسارُ عليكما
هذه طريق أهل الريب والشك، يقومون بالأمر والنهي احتياطًا، وهذه
الطريق لا تنجي من عذاب الله، ولا يحصل لصاحبها السعادة ولا توصله إلى
المأمن.
وأمّا الإنصاف الذي أسسوا معاملتهم عليه، فهو الإنصاف في معاملتهم لله
ولخلقه. فأما الإنصاف في معاملة الله: فأن يعطي العبودية حقها، وأن لا ينازع
ربه صفات إلهيته التي لا تليق بالعبد ولا تنبغي له، من العظمة والكبرياء والجبرية.
ومن إنصافه لربه: أن لا يشكر سواه على نعمه وينساه، ولا يستعين بها على
معاصيه، ولا يحمد على رزقه غيره، ولا يعبد سواه، كما في الأثر الإلهي: (إني
والجن والإنس في نبأ عظيم: أخلق ويُعبد غيري، وأرزق ويُشكر سواي) ، وفي
أثر آخر: (ابنَ آدم ما أنصفتني، خيري إليك نازل، وشرّك إليَّ صاعد، أتحبب
إليك بالنعم وأنا عنك غني، وتتبغض إلي بالمعاصي وأنت فقير إليّ، ولا يزال
المَلَك الكريم، يعرُج إليّ منك بعملٍ قبيح) وفي أثرٍ آخر: (يا ابن آدم ما من يوم
جديد، إلا يأتيك من عندي رزق جديد، وتأتي عنك الملائكة بعمل قبيح، تأكل
رزقي وتعصيني، وتدعوني فأستجيب لك، وتسألني فأعطيك، وأنا أدعوك إلى
جنتي فتأبى ذلك، وما هذا من الإنصاف) .
وأما الإنصاف في حق العبيد؛ فأن يعاملهم بمثل ما يحب أن يعاملوه به.
ولَعَمْرُ اللهِ هذا الذي ذكر أنه اعتصام العامة هو اعتصام خاصةِ الخاصة [5] في الحقيقة،
ولكن الشيخ ممن رفع له علم الفناء فشمّر إليه، فلا تأخذه فيه لومةُ لائمٍ، ولا
يرى مقامًا أجلّ منه.
***
فصل
قال (واعتصام الخاصة بالانقطاع، وهو صون الإرادة قبضًا، وإسبال الخُلُق
على الخلق بسطًا، ورفض العلائق عزمًا، وهو التمسك بالعروة الوثقى) يريد:
انقطاع النفس عن أغراضها من هذه الوجوه الثلاثة، فيصون إرادته ويقبضها عمّا
سوى الله سبحانه، وهذا شبيه بحال أبي يزيد فيما أخبر به عن نفسه لمّا قيل له: ما
تريد؟ فقال: أريد أن لا أريد.
(الثاني) إسبال الخُلُق على الخلق بسطًا. وهذا حقيقة التصوف فإنه كما قال
أبو بكر الكتاني: التصوف خُلُق فمَن زاد عليك في الخُلُق زاد عليك في التصوف.
فإن حسن الخلق وتزكية النفس بمكارم الأخلاق، يدل على سعة قلب صاحبه،
وكرم نفسه وسجيته. وفي هذا الوصف يكفّ الأذى ويحمل الأذى، ويوجد الراحة،
ويدير خدّه الأيسر لمن لطم الأيمن، ويعطي رداءه لمن سلبه قميصه، ويمشي ميلين
مع من سخره ميلاً [6] وهذا علامة انقطاعه عن حظوظ نفسه وأغراضها.
وأما رفض العلائق عزمًا، فهو العزم التام على رفض العلائق وتركها في
ظاهره وباطنه، والأصل هو قطع علائق الباطن، فمتى قطعها لم تضره علائق
الظاهر، فمتى كان المال في يديك وليس في قلبك لم يضرك ولو كثر، ومتى كان
في قلبك ضرك ولو لم يكن في يدك منه شيء. قيل للإمام أحمد: أيكون الرجل
زاهدًا ومعه ألف دينار؟ قال: نعم؛ على شريطة ألا يفرح إذا زادت ولا يحزن إذا
نقصت. ولهذا كان الصحابة أزهد الأمة مع ما بأيديهم من الأموال. وقيل
لسفيان الثوري: أيكون ذو المال زاهدًا؟ قال: نعم إن كان إذا زيد في ماله شكر،
وإن نقص شكر وصبر. وإنما يحمد قطع العلائق الظاهرة في موضعين: حيث
يخاف منها ضررًا في دينه، أو حيث لا يكون فيها مصلحة راجحة. والكمال من
ذلك قطع العلائق التي تصير كلاليب على الصراط تمنعه من العبور، وهي كلاليب
الشهوات والشبهات، ولا يضره ما تعلق به بعدها.
***
فصل
قال (واعتصام خاصة الخاصة بالاتصال، وهو شهود الحق تفريدًا، بعد
الاستحذاء له تعظيمًا، والاشتغال به قربًا) لمّا كان ذلك الانقطاع موصلاً إلى هذا
الاتصال، كان ذلك للمتوسطين، وهذا عنده لأهل الوصول. ويعني بشهود الحق
تفريدًا: أن يشهد الحق سبحانه وحده منفردًا ولا شيء معه، وذلك لفناء الشاهد في
الشهود، والحوالة في ذلك عند القوم على الكشف، وقد تقدم أن هذا ليس بكمال،
وأن الكمال أن يفنى بمراده عن مراد نفسه.
وأما فناؤه بشهوده عن شهود ما سواه، فدون هذا الفناء في الرتبة كما تقدم.
وأمّا قوله بعدُ: (الاستحذاء له تعظيمًا) ؛ فالشيخ - قدّس الله روحه - لكثرة
لهجه بالاستعارات عبّر عن معنى لطيف عظيم بلفظة الاستحذاء التي هي استفعال
من المحاذاة، وهي المقابلة التي يبقى فيها جزء من المحاذي خارجًا عما حاذاه بل قد
واجهه وقابله بكليته وجميع أجزائه. [7] ومراده بذلك القرب وارتفاع الوسائط المانعة
منه، ولا ريب أن العبد يقرب من ربه والرب يقرب من عبده، فأمّا قرب العبد
فكقوله تعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} (العلق: 19) وقوله في الأثر الإلهي:
(من تقرب منّي شبرًا تقربت منه ذراعًا)، وكقوله: (وما تقرّب إليّ عبدي بمثل
أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا
أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها،
ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي) ، وفي
الحديث الصحيح: (أقرب ما يكون الرب من عبده في جوف الليل الأخير) ، وفي
الحديث أيضًا: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد) ، وفي الحديث الصحيح
لما ارتفعت أصواتهم بالتكبير مع النبي صلى الله عليه وسلم في السفر فقال: (يا
أيها الناس أربِعوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصمّ ولا غائبًا، إن الذي تدعونه
سميع قريب، أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته) ، فعبّر الشيخ عن طلب القرب
منه ورفض الوسائط الحائلة بينه وبين القرب المطلوب الذي لا تقرّ عيونُ عابديه
وأوليائه إلا به، بالاستحذاء؛ وحقيقته: موافاة العبد إلى حضرته وقدامه وبين يديه،
عكس حال من نبذه وراءه ظِهْريًّا، وأعرض عنه ونأى بجانبه، بمنزلة من ولى
المطاع ظهره، ومال بشِقّه عنه.
وهذا الأمر لا يدرك معناه إلا بوجوده وذوقه، وأحسن ما يعبّر عنه بالعبارة
النبوية المحمدية، وأقرب عبارات القوم أنه القريب برفع الوسائط التي بارتفاعها
يحصل للعبد حقيقة التعظيم. فلذلك قال: الاستجداء له تعظيمًا. ومن أراد فهم هذا
كما ينبغي فعليه بفَهم اسمه تعالى الباطن وفهم اسمه القريب، مع امتلاء القلب بحبه،
ولهج اللسان بذكره، ومن هاهنا يؤخذ العبد إلى الفناء الذي كان مشمرًا إليه،
عاملاً عليه.
فإن كان مشمرًا إلى الفناء متوسط عن شهود السوى، لم يبق في قلبه شهود
لغيره ألبتة، بل تضمحل الرسوم وتفنى الإشارات، ويفنى مَن لم يكن ويبقى مَن لم
يزل. وفي هذا المقام امتزج فيه الحب بالتعظيم مع القرب، وهو منتهى سفر
الطالبين لمقام الفناء، وإن كان هذا مشمرًا للفناء العالي، وهو الفنا عن إرادة
السوى، لم يبق في قلبه مراد يزاحم مراده الديني الشرعي النبوي القرآني؛ بل
يتّحد المرادان فيصير عين مراد الرب هو مراد العبد، وهى حقيقة المحبة الخالصة،
وفيها يكون الاتحاد الصحيح، وهو الاتحاد في المراد لا في المريد ولا في الإرادة،
فتدبّر هذا الفرقان في هذا الموضع الذي طالما زلت فيه أقدام السالكين وضلت فيه
أفهام الواجدين.
وفي هذا الباب [8] حقيقة يفنى مَن لم يُكِنُّ إرادةً وإيثارًا ومحبةً وتعظيمًا وخوفًا
ورجاءً وتوكلاً، ويبقى من لم يَزِلّ، وفيه ترتفع الوسائط بين الرب والعبد حقيقة،
ويحصل [9] له الاستجداء المذكور مقرونًا بغاية الحب وغاية التعظيم. وفي هذا المقام
يجيب داعي الفناء في المحبة طوعًا واختيارًا لا كرهًا، بل ينجذب إليه انجذاب قلب
المحب وروحه الذي قد ملأت المحبة قلبه، بحيث لم يبق فيه جزء فارغ منها، إلى
محبوبه الذي هو أكمل محبوب وأجمله وأحقه بالحب.
وهذا الفناء أوجبه الحب الكامل الممتزج بالتعظيم والإجلال والقرب، ومحو
ما سوى مراد المحبوب من القلب بحيث لم يبق في القلب إلا المحبوب ومراده.
وهذا حقيقة الاعتصام به وبحبله، والله المستعان.
وأما قوله: (والاشتغال به قربًا) أي يشغله قرب الحق عن كل ما سواه، وهذا
حقيقة القرب. ألا ترى أن القريب من السلطان جدًّا المقبل عليه المكلّم له لا يشتغل
بشيء سواه ألبتة؟ فعلى قدر القرب من الله يكون اشتغال العبد به، والله أعلم.
***
فصل
ومن منازل إيّاك نعبد وإيّاك نستعين: (منزلة الفرار)، قال الله تعالى:
{فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} (الذاريات: 50)، وحقيقة الفرار: الهرب من شيء إلى شيء،
وهو نوعان: فرار السعداء وفرار الأشقياء؛ ففرار السعداء الفرار إلى الله عز
وجل، وفرار الأشقياء الفرار منه لا إليه، وأمّا الفرار منه إليه ففرار أوليائه؛ قال
ابن عباس في قوله تعالى:] فَفِرُّوا إِلَى اللهِ [: فرّوا منه إليه، واعملوا بطاعته.
وقال سهل بن عبد الله: فرّوا مما سوى الله إلى الله. وقال آخرون: اهربوا من
عذاب [10] الله إلى ثوابه بالإيمان والطاعة.
وقال صاحب المنازل: (هو الهرب ممّا لم يكن إلى من لم يزل، وهو على
ثلاث درجات: فرار العامة من الجهل إلى العلم عقدًا وسعيًا، ومِن الكسل إلى
التشمير جدًّا وعزمًا، ومن الضيق إلى السعة ثقةً ورجاءً) يريد بما لم يكن:
(الخلق)، وبما لم يزل:(الحق) . وقوله: فرار العامة من الجهل إلى العلم عقدًا
وسعيًا - الجهل نوعان: عدم العلم بالحق النافع، وعدم العمل بموجبه ومقتضاه،
فكلاهما جهل لغةً وعرفًا وشرعًا وحقيقةً. قال موسى: {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ
مِنَ الجَاهِلِينَ} (البقرة: 67) لما قال له قومه: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً} (البقرة:
67) أي المستهزئين [11]، وقال يوسف الصديق: {و َإِلَاّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ
إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الجَاهِلِينَ} (يوسف: 33) ، أي من مرتكبي ما حرمت عليهم.
وقال تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} (النساء: 17) ،
قال قتادة: أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كل ما عصي
الله به فهو جهالة. وقال غيره: أجمع الصحابة أن كل من عصى الله فهو جاهل.
وقال الشاعر:
ألا لا يَجْهَلَنْ أحدٌ علينا
…
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
وسمي عدم مراعاة العلم جهلاً، إمّا لأنه لم ينتفع به فنزل منزلة الجهل، وإمّا
لجهله بسوء ما تجني عواقب فعله. فالفرار المذكور هو الفرار من الجهلين: من
الجهل بالعلم إلى تحصيله اعتقادًا ومعرفةً وبصيرةً، ومِن جهل العمل إلى السعي
النافع والعمل الصالح قصدًا وسعيًا.
قوله: (ومن الكسل إلى التشمير جدًّا وعزمًا) أي يفر من إجابة داعي الكسل
إلى داعي العلم والتشمير بالجد والاجتهاد، والجد: هو هاهنا صدق العمل
وإخلاصه من شوائب الفتور ووعود التسويف والتهاون، وهو تحت السين وسوف
وعسى ولعلّ، فهي أضرّ شيء على العبد، وهي شجرة ثمرُها الخسران والندامات.
والفرق بين الجد والعزم: أن العزم صدق الإرادة واستجماعها، والجد صدق
العمل وبذل الجهد فيه، وقد أمر الله سبحانه وتعالى بتلقي أوامره بالعزم والجد فقال:
{خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ} (البقرة: 63)، وقال:{يَا يَحْيَى خُذِ الكِتَابَ بِقُوَّةٍ} (مريم: 12) ، أي بجدٍّ واجتهادٍ وعزمٍ، لا كَمَن يأخذ ما أُمر به بترددٍ وفتورٍ.
وقوله: (ومِن الضيق إلى السعة ثقةً ورجاءً) يريد: هروب العبد من ضيق
صدره بالهموم والغموم والأحزان والمخاوف التي تعتريه في هذه الدار من جهة
نفسه، وما هو خارج عن نفسه مما يتعلق بأسباب مصالحه ومصالح من يتعلق به،
وما يتعلق بماله وبدنه وأهله وعدوّه، يهرب من ضيق صدره بذلك كله إلى سعة
فضاء الثقة بالله تبارك وتعالى، وصدق التوكل عليه، وحسن الرجاء لجميل صنعه
به، وتوقّع المرْجو من لطفه وبرّه، ومِن أحسن كلام العامة قولهم: لا همّ مع الله،
قال الله تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاًّ * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (الطلاق: 2-3) قال الربيع بن خثيم: يجعل له مخرجًا من كل ما ضاق على
الناس. وقال أبو العالية: مخرجًا مِن كل شدة، وهذا جامع لشدائد الدنيا والآخرة
مخرجًا. وقال الحسن: مخرجًا مما نهاه عنه {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (الطلاق: 3) ؛ أي كافي مَن يثق به في نوائبه ومهماته يكفيه كل ما أهمه.
والحسب: الكافي؛ (حسبنا الله) : كافينا الله.
وكلّما كان العبد حسن الظن بالله حسن الرجاء له صادق التوكل عليه، فإن الله
لا يخيب أمله فيه ألبتة، فإنه سبحانه لا يخيب أمل آمل، ولا يضيع عمل عامل.
وعبّر عن الثقة وحسن الظن بالسعة، فإنه لا أشرح للصدر ولا أوسع له بعد
الإيمان من ثقته بالله ورجائه وحسن ظنه به.
***
فصل
قال: (وفرار الخاصة من الخبر إلى الشهود، ومن الرسوم إلى الأصول،
ومن الحظوظ إلى التجريد) ؛ يعني أنهم لا يرضون أن يكون إيمانهم عن مجرد
خبر حتى يترقوا منه إلى مشاهدة المخبر عنه، فيطلبون الترقي من علم اليقين
بالخبر، إلى عين اليقين بالشهود، كما طلب إبراهيم الخليل - صلوات الله وسلام
عليه - ذلك من ربه إذ قال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ
بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} (البقرة: 260) ، فطلب إبراهيم أن يكون اليقين
عيانًا، والمعلوم مشاهدًا، وهذا هو المعنى الذي عبّر عنه النبي - صلى الله عليه
وسلم - بالشك في قوله: (نحن أحقّ بالشكّ من إبراهيم) حيث قال:] رَبِّ أَرِنِي
كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى [، وهو صلى الله عليه وسلم لم يشكّ، ولا إبراهيم
- حاشاهما مِن ذلك - وإنّما عبّر عن هذا المعنى بهذه العبارة.
هذا أحد الأقوال في الحديث وفيه قول ثانٍ أنه على وجه النفي، أي لم يشك
إبراهيم حيث قال ما قال، ولم نشك نحن. وهذا القول صحيح أيضًا؛ أي لو كان
ما طلبه للشك لكنّا نحن أحق به منه، لكن لا يطلب ما طلب شكًّا، وإنما طلبه
طمأنينة.
فالمراتب ثلاث: علم يقين يحصل عن الخبر، ثم يتجلى [12] حقيقة المخبر
عنه للقلب أو البصر حتى يصير العلم به عين يقين، ثم يباشره ويلابسه فيصير
حق يقين، فعلمنا بالجنة والنار الآن علم يقين، فإذا أزلفت الجنة للمتقين في
الموقف، وبرّزت الجحيم للغاوين، وشاهدوهما عيانًا، كان ذلك عين يقين، كما
قال تعالى: {لَتَرَوُنَّ الجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليَقِينِ} (التكاثر: 6-7) ، فإذا
دخل أهل الجنةِ الجنةَ، وأهل النار النار، فذلك حق اليقين، ونزيد ذلك إيضاحًا
- إن شاء الله تعالى - إذا انتهينا إليه.
وأمّا قوله: (ومن الرسوم إلى الأصول) يريد بالرسوم ظواهر العلم والعمل،
وبالأصول حقائق الإيمان ومعاملات القلوب وأذواق الإيمان ووارداته، فيفر من
إحكام العلم والعمل إلى خشوع السر للعرفان، فإن أرباب العزائم في السير لا يقنعون
برسوم الأعمال وظواهرها، ولا يعتدّون إلا بأرواحها وحقائقها وما يثبته لهم
التعرّف الإلهي، وهو نصيبهم من الأمر.
والتعرف الإلهي لا يقتضي مفارقة الأمر كما يظن قطّاع الطريق وزنادقة
الصوفية؛ بل يستخرج منهم حقائق الأمر وأسرار العبودية وروح المعاملة، فحظهم
من الأمر حظّ العالم بمراد المتكلم من كلامه تصريحًا وإيماءً وتنبيهًا وإشارةً. وحظ
غيرهم منه حظ التالي له حفظًا بلا فهم ولا معرفة لمراده، وهؤلاء أحوج شيء إلى
الأمر؛ لأنهم لم يصلوا إلى تلك التعرفات والحقائق إلا به، فالمحافظة عليه لهم علمًا
ومعرفةً وعملاً وحالاً ضرورية لا عِوض لهم عنه ألبتة.
وهذا القدر هو الذي فات الزنادقة وقطّاع الطريق من المنتسبين إلى طريقة
القوم، فإنهم لمّا علِموا أن حقائق هذه الأوامر هي المطلوبة أرواحها، لا صورها
وأشباحها ورسومها، قالوا: نجمع هممنا على مقاصدها وحقائقها، ولا حاجة لنا إلى
رسومها وظواهرها؛ بل الاشتغال برسومها اشتغالٌ عن الغاية بالوسيلة، وعن
المطلوب لذاته بالمطلوب لغيره، وغرّهم ما رأوا فيه الواقفين مع رسوم الأعمال
وظواهرها دون مراعاة حقائقها ومقاصدها وأرواحها، فرأوا نفوسهم أشرف من
نفوس أولئك وهممهم أعلى، وأنهم المشتغلون باللب وأولئك بالقشر، فتركب من
تقصير هؤلاء وعدوان هؤلاء تعطيل جملة الأمر؛ هؤلاء عطّلوا سرّه ومقصوده
وحقيقته، وهؤلاء عطّلوا رسمه وصورته، فظنوا أنهم يصلون إلى حقيقته، من
غير رسمه وظاهره، فلم يصلوا إلا إلى الكفر والزندقة، وجحدوا ما علم بالضرورة
مجيء الرسل [13] به، فهؤلاء كفار زنادقة منافقون، وأولئك مقصّرون غير كاملين.
والقائمون بهذا وهذا همُ الذين يرون أن الأمر متوجه إلى قلوبهم قبل جوارحهم،
وأن على القلب عبودية في الأمر كما على الجوارح، وأن تعطيل عبودية القلب
بمنزلة تعطيل عبودية الجوارح، وأن كمال العبودية قيام كل من الملك وجنوده [14]
بعبوديته، فهؤلاء خواصّ أهلِ الإيمان، وأهل العلم والعرفان.
***
فصل
قوله: (ومن الحظوظ إلى التجريد) يريد الفرار من حظوظ النفوس على
اختلاف مراتبها، فإنه لا يعرفها إلا المعتنون بمعرفة الله ومراده وحقه على عبده،
ومعرفة نفوسهم وأعمالهم وآفاتهما، ورب مطالب عالية لقوم من العبادة هي حظوظ
لقوم آخرين يستغفرون الله ويفرون إليه منها، يرونها حائلة بينهم وبين مطلوبهم،
وبالجملة فالحظ ما سوى مراد الله الديني منك كائنًا ما كان، وهو ما يبرح حظ
محرم إلى مكروه إلى مباح إلى مستحب غيره أحب إلى الله منه، ولا يتميز هذا إلا
في مقام الرسوخ في العلم بالله وأمره، وبالنفس وصفاتها وأحوالها. فهناك يتبين له
الحظوظ من الحقوق ويفرّ من الحظ إلى التجريد. وأكثر الناس لا يصلح لهم هذا؛
لأنهم إنما يعبدون الله على الحظوظ وعلى مرادهم منه، وأما تجريد عبادته على
مراده من عبده: -
فتلك منزلة لم يعطها أحد
…
سوى نبي وصديق من البشر
والزهد زهدك فيها ليس زهدك في
…
ما قد أبيح لنا في محكم السور
والصدق صدقك في تجريدها وكذا
…
الإخلاص تخليصها إن كنت ذا بصر
كذا توكل أرباب البصائر في
…
تجريد أعمالهم من ذلك الكدر
كذاك توبتهم منها فهم أبدًا
…
في توبة أو يصيروا داخل الحفر
وبالجملة: فصاحب هذا التجريد لا يقنع من الله بأمر يسكن إليه دون الله، ولا
يفرح بما حصل له دون الله، ولا يأسى على ما فاته سوى الله، ولا يستغني برتبة
شريفة وإن عظمت عنده أو عند الناس، فلا يستغني إلا بالله، ولا يفتقر إلا إلى الله،
ولا يفرح إلا بموافقته لمرضاة الله، ولا يحزن إلا على ما فاته من الله، ولا
يخاف إلا من سقوطه من عين الله، واحتجاب الله عنه، فكله بالله، وكله لله، وكله
مع الله، وسيره دائمًا إلى الله، قد رُفع له علمٌ فشمّر إليه، وتجرّد له مطلوبه فعمل
عليه، تناديه الحظوظ: إليّ، وهو يقول: إنما أريد مَن إذا حصل لي - حصل
لي كل شيء، وإذا فاتني فاتني كل شيء، فهو مع الله مجرد عن خلقه، ومع خلقه
مجرد عن نفسه، ومع الأمر مجرد عن حظه؛ أعني الحظ المزاحم للأمر، وأما
الحظ المعيّن على الأمر، فإنه لا يحطه تناوله عن مرتبته، ولا يسقطه من عين
ربه.
وهذا أيضًا موضوع غلط فيه من غلط من الشيوخ، فظنوا أن إرادة الحظ نقص
في الإرادة، والتحقيق فيه أن الحظ نوعان: حظ يزاحم الأمر، وحظ يوازر الأمر
فينفذه؛ الأول هو المذموم، والثاني ممدوح، وتناوله من تمام العبودية، فهذا لون
وهذا لون.
…
...
…
...
…
...
…
... (للنموذج بقية)
(المنار)
أرأيتم أيها المبشرون الذين تدعوننا إلى النصرانية هذه المعارف
العالية في الإيمان، والعلم بالله وبمزايا الإنسان، وهذه الفضيلة والكمال في الإسلام؟
هذا النموذج نقطة من بحر كلام علمائنا في منازل السالكين والعارفين، أرأيتم مَن
ارتقى في الدين إلى الذروة العليا أيمكن إقناعه بأن النزول عنها إلى الدرجات التي
هي دونها خير له من البقاء على ارتقائه وكماله فيها؟ ! أيرضى مَن هذا حظه من
الدين والإيمان أن يشغل خياله ولسانه باسم يسوع، وصورة يسوع، وتثليث يسوع،
وفداء يسوع. الذي لا يعقل؟ أمَا والله لو كان يسوع وتلاميذ يسوع ويوحنا الذي
عمد يسوع ومسح رأسه ودعا له بالبركة - ومعهم موسى وإسرائيل وكل أنبياء أبنائه
أحياء؛ وجاءهم محمد (عليهم الصلاة والسلام) بهذا القرآن لَمَا وسِعهم إلا
اتباعه، وقد كانوا كلهم على الحق والتوحيد الذي نسختموه بالتثليت والفداء فأربعوا
على ظلعكم، وادعوا إلى دينكم البراهمة والبوذيين وأمثالهم الذين كان لهم ثالوث
كثالوثكم، فأولئك لا يبعد أن ينتقلوا من ثالوث إلى ثالوث، وأما صاحب التوحيد
الذي هو أكمل وأعلى معارف البشر، فلا يترك التوحيد إلى ما هو دونه.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(*) تابع لما نشر في ص 113 من المجلد السابع عشر.
(1)
لعلّ المراد أن الإنسان عرضة للهلاك في البر والبحر بجهله وخطاياه، لولا عناية الله به وتسخيره هذه المخلوقات له، والكلام عن لسان الحال قد يكون أفصح من لسان المقال.
(2)
ضبط في نسختنا: (الآمر) بصيغة اسم الفاعل. وفي نسخه أخرى: (الأمر) بصيغة المصدر وهي الموافقة لقول صاحب المنازل وللمعنى، فاخترناها.
(3)
لم يوضع لهذه في نسختنا علامة المد، وفي نسخة: لآمر، والصواب ما اخترناه؛ أي أن هذه هي التي يجب أن تكون اسم فاعل معرف والأولى هي المصدر.
(4)
وفي نسخة: لا على شك والترديد ولعله وتردد.
(5)
وفي نسخة: الخاصة.
(6)
قوله: وفي هذا الوصف
…
إلخ؛ يريد به تزكية النفس، وهو غير حسن الخلق فإن التزكية تهذيب فهي مبدأ، وحسن الخلق غاية وفي طور التزكية والتهذيب يحسن ما ذكره من العمل بوصايا الإنجيل، كقوله: من لطمك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر
…
إلخ. ودين المسيح كله تمهيد لدين محمد عليهما السلام، بل هما دين واحد جاء القِسْم الأول منه تمهيدًا للثاني، كما أخبر المسيح أصحابه بأنه لا يستطيع أن يقول لهم كل شيء، وبشّرهم بأنه سيأتي بعده البارقليط الذي يقول كل شيء من حقائق الدين، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، بدليل أنه لم يجئ بعده نبي غيره، وأنه هو الذي بيّن كُل شيء وفصَل بين السائرين إلى الله تعالى بالتزكية والتهذيب وبين الواصلين إليه، وبين فضيلتي العدل والإحسان وغير ذلك.
(7)
هذا التفسير للاستحذاء لم نجده في معاجم اللغة كلسان العرب والقاموس وشرحه بل المعرف فيها أن معنى استحذى فلان فلانًا: طلب منه أن يلبسه حذاء؛ كاستطعمه واستكساه، وأظن أن الاستخذاء في كلام الهروي بالخاء المعجمة وهو الخضوع والانكسار لله؛ وإنما تكلف المصنف له هذا التفسير لأنه وجد نسخ المنازل تذكره الاستحذاء بالمهملة.
(8)
وفي نسخة: (المقام) .
(9)
وفي نسخة: (ويجعل) .
(10)
نسخة: (عقاب) .
(11)
تفسير للجاهلين.
(12)
لعلّها: (تتجلى) بتائين، وفي نسخة أخرى:(تنجلي) بتاء ونون.
(13)
وفي نسخة: (الرسول) .
(14)
يريد بالملك: القلب. وبجنوده: الأعضاء.
الكاتب: كريستيان سنوك هرغرنج
الإسلام يقاوم نفوذ النصرانية [*]
الإسلام في المستقبل سيكون نظير الدين الإسرائيلي يطبق نفسه على حاجات
العصر الحديث ولا يدع النصرانية تغلبه وتسلبه أبناءه.
(مقدمة للمترجم)
إن نشوء الإسلام في المستقبل سيعيد تاريخ الدين اليهودي الحديث بدرجة
مشابهة، فالمبشرون بالإنجيل الذين لا يزالون يتوقعون انضمام كل الأديان إلى
النصرانية لا تتحقق أحلامهم فيما يتعلق بالإسلام؛ لأن الدين الإسلامي سيظل دينًا
قويًّا نشيطًا نظير الدين اليهودي، ويطبق نفسه نظير الدين اليهودي على حاجات
العصر المتغيرة.
هذا هو رأي الدكتور (كريستيان سنوك هرغرنج) الهولندي الذي قضى ربع
قرن يدرس القضايا الإسلامية وشريعة الإسلام وفلسفته.
ومما يقال عن هذا الأستاذ: إنه أكثر من خيالي ونبي متغرض، فهو أعلم
علماء عصره في الإسلام؛ لأنه لا يعرف تاريخ الإسلام وشريعته وفلسفته معرفة
دقيقة فقط، ولكنه قضى ربع قرن يدرس الإسلام من وجه علاقته بالمؤسسات
الدينية والسياسية الأخرى.
وقد أرسلته جامعة ليدن - في هولندا على سبيل المبادلة -إلى الولايات
المتحدة للمرة الأولى ليلقي في أمهات كلياتها العلمية أربع محاضرات في نتائج درسه
الإسلام، وقد فصّل في هذه المحاضرات زياراته لمكة (مدينة الإسلام المقدسة) ،
فإنه قضى ثمانية أشهر ضمن تلك المدينة المسورة وكان فيها عضوًا من بطانة
رجلٍ مسلم، فأتمّ هناك الفرائض الدينية التي كان يقوم بها يوميًّا مائتا ألف من
حجاج مكة، وتعهّد الجوامع هناك، وسمع المحاضرات التي لم يكن يسمعها في
الزمن الماضي غير المسلمين، وكم من قصة رويت عن نصارى أضلّوا الطريق،
ويهود مغامرين قُتِلوا في مكة لاتهامهم بأنهم تجرؤوا على الدخول إلى المدينة
الإسلامية المقدسة، وإذا لم تصدق هذه الأخبار فقد ثبت أن كثيرين غير المسلمين
طردوا من المدينة بإهانة عندما ظهر أنهم غير مسلمين.
ثم إن الدكتور هرغرنج ليس يعرف اللغة العربية فقط؛ بل إنه قبل ذهابه إلى
مدينة الإسلام المقدسة قضى عدة سنين يدرس التاريخ الإسلامي، وكانت معرفته
هذه للإسلام وسيلة استطاع بها أن يحافظ على تنكره مدة ثمانية أشهر قضاها في
مكة، وبلغ منه أنه خدع الكلاب الشاردة التي تفرق المسلم عن غير المسلم لأنها
تعرفه بقوة الشم فتهاجمه وتفضح أمره.
وقد وضع الدكتور المذكور بعد إقامته في مكة فصلاً فيها وفي تاريخها وحياتها
العمومية الحاضرة يعتبر الكتابة الوحيدة التامة عن هذه المدينة المحمية.
وليس اهتمام هذا الدكتور بالإسلام اهتمام طالب علم فقط، فقد قضى سبع
عشرة سنة في الهند الشرقية الهولندية مستشارًا لحكومة هولندا في المسائل المتعلقة
بإدارة سكان الهند الشرقية الوطنيين، واستطاع بدرسه الإسلام درسًا عميقًَا واسعًا
أن يضع لهولندا السياسة التي تجري عليها مستعمراتها الإسلامية التي تحتوي على
نحو من خمسة وثلاثين مليونًا من أتباع النبي محمد.
ومن مضي سبع سنين عاد الدكتور إلى هولندا ليكون أستاذ اللغتين العربية
والسلافية في جامعة ليدن، فقبل هذه الوظيفة على شرط أن يبقى مستشارًا عموميًّا
للحكومة في المسائل الإسلامية.
وزيادة على ذلك أنه ساح في أكثر البلدان الإسلامية، وكان في خلال ربع
قرن مضى يراقب الحركات العاملة على إحداث تغيير ديني وسياسي في العالم
الإسلامي كله، ولذلك كانت صورته التي صوّر بها حالة الإسلام الحاضرة،
والطريقة التي جرى عليها في تتبع نشوئه في المستقبل، أمرين خارجين عن
مألوف الذين يعتبرون أن الإسلام لا يزال بربريًّا في شكله الشرقي، بل إنه يرى أن
الحواجز بين الشرق والغرب تتهدم بالتدريج تهدمًا يؤدي إلى امتزاجهما السريع في
خلال سنين تأتي.
وقد ألقى هذا الدكتور محاضرة بالأمس - في جامعة كولومبيا - في الإسلام
هذا ما قاله فيها:
(محاضرة الدكتور هرغرنج في الإسلام)
إن المدينة الإسلامية كانت في خلال ألف سنة مضت ترتفع إلى الدرجة
الحاضرة النهائية، فمِن مضي ألف سنة اعتقد المسلمون أن أحوالهم الدينية راضية
تمام الرضى، وكان المعتقد الديني عندهم مسألة مقررة، وكان السواد الأعظم من
المسلمين يقولون بعصمة الدين الإسلامي ويقبلون حقيقته المكشوفة بدون ريب،
نظير إجماع النصارى على عصمة الكنيسة الكاثوليكية. وكانت للإسلام شرائع
تتعلق بالحياة في كل أطوارها من شخصية وعمومية وفردية واجتماعية.
وعلى الجملة: إن الإسلام كله قام على استقلال المسلمين السياسي، فقد كانوا
في دائرتهم الخصوصية أحرارًا مستقلين، اعتبروا العالم كله ملكًا لهم، فالذي لم يكن
لهم كان عليهم أن يفتحوه، وبذلك كان حكم السيف ممكنًا إذا لم يكن محتملاً؛ ولكن
ثبتت استحالته في الألف سنة التي مضت. ففي خلال القرن الماضي تعرى الإسلام
من استقلاله السياسي باعتداء الدول الأوروبية التدريجي عليه، ونتج عن ذلك أن
الإسلام اضطر أن يعدل آراءه وأعماله، وتأكد للمسلمين أنه يجب عليهم أن يحسبوا
حسابًا لما تفعله الأمم الأخرى وتحصل عليه.
وقد نجمت عن هذه الحالة مسألتان: الأولى منهما هي: هل يستطيع الإسلام
الذي يرشد حياة تابعيه وأفكارهم أن يجاري هذا التغيير عندما يفقد استقلاله السياسي
الذي قام عليه؟
إن الذين درسوا القضايا الإسلامية استنتجوا أن القضايا الروحية، متصلة تمام
الاتصال بالقضايا المادية في الدين الإسلامي، بحيث إن سقوط الاستقلال السياسي
يستلزم سقوط الإسلام نفسه، ولكني لا أوافقهم على هذا القول.
أما المسألة الثانية، فهي أهم من الأولى وهي: هل إذا كان الإسلام قادرًا على
احتمال ذلك التغيير - كما أعتقد أنه قادر - يقدر أن يطبق نفسه على قضايا الحياة
الحديثة بطريقة يستطيع بها تابعوه بأن يكونوا في مقدمة الصفوف في ارتقاء العالم
ومدنيته؟
هاتان هما المسألتان مع كل القضايا الأخرى المتفرعة عنهما ما أريد البحث
فيه على مسامع الأمريكيين رجاء أن أوقف الغربيين على الانقلاب العظيم الجاري
في العالم الشرقي ومجاري هذا الانقلاب.
(فشل محاولة تنصير المسلمين)
والأمر الجوهري في هذا الشأن هو الوجه المنظور فيه إلى قضية مستقبل
الإسلام، فإذا نظرتم إليها بعيني المرسل النصراني الديني؛ فلا بد أنكم تستنتجون
أنه لا يرجى شيء كثير من نشوء الإسلام؛ لأن الإسلام قبل صيرورته كفؤًا يجب
عليه أن يتخذ النصرانية أولاً؛ ولكن هذا هو أسوأ رأي يعول عليه، وأنا مسرور
بقولي: إنه ليس رأيًا شاملاً، فالمسلمون لا يقصدون أن يتنصّروا، وقد احتاطوا
أعظم احتياط لهذا الأمر الذي أدركه كل المبشرين النصارى المتنورين في الأراضي
الإسلامية، ففي الهند الشرقية الهولندية - حيث قضيت سبع عشرة سنة ملتصقًا
تمام الالتصاق بالمؤسسات الإسلامية - لا يقدر المرسل النصراني الديني أن يربح
تابعين لدينه، نعم يوجد كثيرون من المدعوين مسلمين ولا سيّما سكان داخلية البلاد
الذين لم يتغلغل إليهم دين من الأديان. وقد ابتعدوا خطوة واحدة عن حالتهم الوثنية
الفطرية، ولم يعد يصعب تنصيرهم، وفي بعض جهات جاوه حيث انتشرت الديانة
الهندية سابقًا لم يجد المرسلون النصارى صعوبةً في تنصير قبائل برمتها.
ولكن أكثر دعاة النصارى الدينيين في البلاد الإسلامية المحضة - حيث
الإسلام تقليد قديم لا دين يُتدين به - يرون صعوبةً كبرى في تنصير المسلمين،
وقد تحولوا عن التبشير بالمسيح إلى التهذيب والإعانة، وما داموا جارين على هذه
الطريقة فالمسلمون مستعدّون لقبول ما يقدمونه لهم.
مثلاً إن الذي تقدمه كلية روبرت الأميركية في الآستانة يقبله كل مسلم، وقد
كان للكلية المذكورة فضل كبير في نشر المعرفة والطرائق التي يعتبرها المسلمون
منتهى التقدم؛ ولكن الكلية المشار إليها لم تحوّل مسلمًا واحدًا عن معتقده.
وقد حدّثت مؤخرًا أحد زملائي الفرنساويين الذي قضى عدة سنين في الجزائر،
ولمعرفتي بتعصب المسلمين في شمالي إفريقيا سألته عن العمل التبشيري الذي
تقوم به الجمعيات الكاثوليكية الدينية المتعددة فقال: إنه عمل ناجح ولكن لا ذِكر
ألبتة للدين فيه.
هذا وإن هولندا تحكم على خمسة وثلاثين مليونًا من المسلمين ولم تعد تفكر
قط في هدايتهم وتنصيرهم ، وكل ما أدركناه هو حاجتنا إلى تعليم هؤلاء الناس
الذين وكّلت أمورهم إلينا بطيّات الحوادث التاريخية، وأدركنا أن أفضل شيء
لنفوسهم هو تطبيق دينهم الخاص ومؤسساتهم الخاصة على حاجات العصر الحاضر.
ولا أعتقد أبدًا أن الدين الإسلامي يسقط أمام النصرانية؛ لأن المسلم يحتاط
أشد الاحتياط لمقاومة النفوذ النصراني، فهو يعرف النصرانية التي ليست عنده
شيئًا جديدًا غير مألوفٍ، فقد عرف أصلها وطريقة نشوئها وهو يعتبرها دينًا فسد
بالتدريج، وأخيرًا نسخه وحي النبي محمد خاتم الأنبياء الموحى إليهم؛ وبالتالي إنه
يعتبر النصرانية شيئًا مضى، ويرى تديّنه بها خطوة إلى الوراء، ومهما كان
التغيير الذي يقع على الإسلام في ربع القرن الجاري أو نصفه فإنه لا يكون تغييرًا
يتناول التدين بالنصرانية. إذ لا تدعو الضرورة في الإسلام إلى هذا الإصلاح.
***
(إضعاف الإسلام بالتربية والتعليم)
ولا يخفى أن كل من عاش في أراضي الإسلام لا ينكر أنه حدث في النصف
الأخير من القرن الماضي تغيير عظيم، فقد اشتدت حاجة المسلمين إلى كل ما هو
ضروري للاشتراك في الحياة الحديثة التي تبعت دخول الغزاة الغربيين إلى الشرق،
ولم يعد المسلمون المتنورون اليوم يكتفون بالتربية الإسلامية القديمة، فهم يطلبون
أطباء حديثين وكيمياء حديثة، وأحدث شيء في علم الحياة. وصاروا يطلبون
دروسًا اجتماعية في مدارسهم واللغات الحديثة والفن الحديث، ولا يبالون مَن يقدم
لهم هذه الأشياء إذا قدمت لهم في غير صبغة دينية.
مرّ زمان كان فيه المسلم يعرف أخاه المسلم بألْف طريقة مختلفة: كأخلاقه
وطريقة معيشته ولباسه وأكله، ولكن كل هذه المميزات أخذت تزول بالتدريج؛ بل
إن المزية الوحيدة التي كان بها المسلم يقدر أن يعرف أخاه في الدين سيزيلها
التهذيب والتعليم ببقية معروفة من العقيدة الدينية.
وقد زالت عادات إسلامية قديمة كثيرة، وأصبح كثير منها آخذًا الآن بالزوال،
فزي اللباس الشائع الذي دخل من الغرب إلى الشرق يجعل تأدية الصلوات
الخمس الواجبة يوميًّا أمرًا مستحيلاً، فلم يعد المسلم الشرقي يقدر اليوم أن يصلي
خمس مرات في اليوم بين شروق الشمس وغروبها! ! وهو مضطر أن يشتغل
ثماني ساعات في اليوم. بل إنه لا يقدر أن يحافظ على مركزه في الصناعة
المنظمة التي يضطر إلى مزاولتها بالتدريج ويصوم سحابة النهار في شهر رمضان.
وقد كانت هذه الأمور قديمًا شرائع لا بد من العمل بها؛ أمّا الآن فإنها تصير
أشياء لا يقدر أن يمارسها غير حجاج مكة والأئمة المتصوفين؛ بل حدث تراخٍ في
كل شيء، فقد ساد الإسلام في وقت من الأوقات وتناولت سيادته التجارة أيضًا،
ولكن حفت به المشاكل بالتدريج، نعم إن ضمان الحياة لا يزال عند المسلمين شكلاً
من أشكال المقامرة؛ ولكن الربا في استثمار المال صار ممكنًا باعتباره قسمًا من
المقاولة الأصلية.
* * *
(درجة تأثير الأفكار الأوربية في المتعلمين)
تغلغلت الأفكار الأوروبية في كل جهة من الأراضي الإسلامية، ولكن لم يجد
فيها الشعور الأوربي مركزًا، ولهذا أتجرأ على القول بأن المسلمين سيستمرون على
دينهم مهما اتخذوا من التهذيب والمدنية الغربيين، ففي كل المدارس الأوربية
الكبرى تجد كثيرين من الطلبة المسلمين، وهم من فئة المتنورين الذين بواسطتهم
تحدث التغيرات الأولى في الإسلام، وهؤلاء الشبان من أهل العلم في العالم، فقد
درسوا العلوم الغربية بفروعها نظير خيرة طلبتنا الغربيين، وهم لا يقومون بكل
الفرائض المطلوبة من المسلم الحقيقي، لأنهم مثلنا في طرائق اللباس والمأكل
والمعيشة.
ولكن مجرى عقلهم لا يزال إسلاميًّا، فقد كان بين تلاميذي طلاب مسلمون،
وعندما كنت أتناول مباحثهم التي يكتبونها كنت أرى فيها مظاهر فكر إسلامي في
شكل مختلف كل الاختلاف عما يكتبه طلبتي الآخرون، بل كنت دائمًا أعرف
الطالب المسلم من مباحثه.
ثم إنك ترى موقف المسلمين المتنورين تجاه شريعتهم وعقيدتهم القديمتين نفس
موقف المتنورين بين الإسرائيليين في العصر الحاضر، وكلما عشت بين المسلمين
ازددت اعتقادًا أن الإسلام سيجري في نشوئه على الطريقة التي سلكها الدين
الإسرائيلي في تاريخه الحديث.
نعم إن الضغط الشديد الذي وقع على الدين الإسرائيلي لم يقع على الإسلام
فتفرُّق الإسرائيليين بين أمم الأرض اضطرهم إلى أن يطبقوا حياتهم على شرائع
غير شرائعهم، وكذلك اضطر المسلمون إلى أن ينقحوا الطائفة الكبرى من شرائعهم
المسيطرة على حياة الفرد اليومية من جراء اتساع الأراضي التي احتلوها بالفتح،
والمحايط المتعددة التي اضطّروا إلى العمل بموجبها.
***
(الإسلام واليهودية)
وبين الإسلام والدين الإسرائيلي تشابه عميق يزداد ظهورًا في مخالطة
المتنورين الإسرائيليين والمسلمين، فالتوحيد هو قاعدة الدينين، وليس الله تجاه
خدّامه في هذين الدينين إلا مشترع يرى كل قسم من حياة الرجل يحتاج إلى شريعة،
ومن أجل ذلك صار درس الشريعة فيهما عاملاً مهمًّا؛ ولكن الوجه الخيالي في
الدينين المذكورين انحط انحطاطًا عظيمًا، وأخذ يقتصر على القائمين ضمن جدران
المدارس، ولم تبق له علاقة قوية بحاجات الحياة الفعلية.
وقد صار تفسير الشريعة في الدين الإسرائيلي منوطًا بالحاخامين، وما عدا
بعض مراسيم دينية خارجية ترى أكثر المتنورين الإسرائيليين مكتفين بحفظ العقائد
الأولية من دينهم، أما عامة القوم فإنهم يضيفون إليها طائفة من الخرافات القديمة.
وترى الإسلام تاليًا تلو الدين الإسرائيلي. فخذِ القرآنَ مثلاً وانظر إلى التغيير
الذي حدث في خلال ثلاثة عشر قرنًا مضت على تأسيس الإسلام، فالمسلم العربي
المولد لا يقدر أن يفهم آيات القرآن إلا بعد درس طويل.
ولا يخفى أن أكثر المسلمين يعتبرون القرآن كتابًا مغلقًا، فقد كان في وقت من
الأوقات قوة إصلاحية في العالم، وكان يقرؤه كل مؤمن ورِع، أمّا اليوم فإن الأئمة
والعلمانيين يقرءونه بتجويد دون أن يتدبروا معناه، حتى إن الكلمات التي يجودونها
حجة عليهم في أشياء يصنعونها كل يوم حتى خلال التجويد.
وسيقع أيضًا تغيير على الشرائع والمؤسسات الإسلامية فيحل درسها بالتدريج
محل ممارستها بالرغم من التقليد المقدّس الذي ينطق بأن المعرفة بدون عمل لا فائدة
منها، وزد على ذلك أن الناشئة الإسلامية الناهضة لا تريد أن تكد ذهنها في درس
الشريعة الإسلامية، كما هي تتعب رئاتها بتجويد الآيات القرآنية، فإن هذا الأمر
سيقتصر على فئة خاصة من المسلمين، كما هي الحال عند الإسرائيليين في الوقت
الحاضر.
ولكن ترك العادات القديمة والاعتراف بعدم اتفاق الشريعة القديمة مع حاجات
الحياة الحديثة لم يفهم منهما أن الإسرائيليين تركوا دينهم، وكذلك لا يفهم منهما أن
الإسلام سينحط. نعم إن بين المسلمين المتنورين اليوم تعصبًا قليلاً، ولكن في
صدورهم ميلاً قويًّا إلى التمسك بدين آبائهم وتطبيقه على الحاجات الحديثة؛ بل إن
المسلمين المتنورين اليوم لم يعودوا يذكرون الجهاد، ولكنهم يلفتون الأنظار إلى
إنماء التساهل واتساع المعرفة التي تتغلغل في كل جهة من جهات العالم الإسلامي.
وهاهنا أمر آخر هو أن المسلم المتنور يشعر نظير الإسرائيلي المتنور
بالرابطة الروحية التي تربطه إلى أخوته في الدين وهو لا يريد أن يقطع هذه
الرابطة.
نعم إن السواد الأعظم من المسلمين - ولا سيّما حيث النفوذ الأوربي لا يزال
خفيفًا - هم الآن حيث كانوا من مضي خمسمائة سنة، وكذلك توجد فئة بين
الإسرائيليين لا تزال تمارس شريعة لم تصدم بالحياة الحديثة بعد، وقد كان تطبيق
التقليد المقدس على حاجات المحيط المتغير ظاهرًا بأجلى مظهره في الدين
الإسرائيلي، ولكن التشابه في نشوء الدينين الإسرائيلي والإسلامي يحمل الواحد على
أن يتوقع للإسلام نفس ما وقع في الدين الإسرائيلي.
ولا يمكن أن يقع انحطاط تدريجي في الإسلام؛ لأنه توجد بواعث خارجية
تمنعه، فالإسلام قوي ولم يضعف - لا سّيما في القران الماضي - وقلّت فيه
الانشقاقات الداخلية، وزد على ذلك أن الإسلام يربح أكثر من النصرانية تابعين له من
الوثنيين. فالذي يصير مسلمًا لا يطلب منه شيء كثير؛ إذ لا يوجد تقديس ولا
طقس ديني ولا تعليم طويل، فكل ما يطلب منه أن يعترف بالله أنه كلي القوة، ومِن
ثمَّ يتدرج إلى تعلم الفرائض الإسلامية الدينية، وعندما يصير مسلمًا يتغير
مركزه الاجتماعي، ولكن إذا تنصّر فإنه يبقى دون غيره، ويظل المرسل الديني
غريبًا معلمًا متنحيًا عنه.
***
(الإسلام بمكة ومبلغ علم الخطيب به)
ولكني بإظهاري لكم هذه الصورة عن الإسلام، والحوادث التي تدير مجراه لا
أقول إنه لا يوجد فيه كثير من التقاليد القديمة التي لا تصدّق، ففي خلال الثمانية
الأشهر التي قضيتها في مكة كنت أحسبني مقيمًا في مدينة في القرن الثاني عشر أو
الثالث عشر. فهناك درست الشريعة الإسلامية بكل فروعها، وكل أسرار الإسلام
في الأشهر الثمانية التي كانت فيها المدينة غاصّة بحجاجها البالغ عددهم مائتي ألف،
ولا توجد تجارة في مكة غير نهب الحجاج فإن سكانها الوطنيين يسلبونهم كل ما
يكون معهم من مال بالبيع المغبون.
ولا شيء أدل على البداوة القديمة من مكة، فهي تمثل الإسلام في العصور
القديمة فلا بيوت هناك. أما وسائل النور والحرارة والماء التي اعتدناها في العصر
الحاضر فهي هناك كما كانت في العصور المظلمة، ولكن الذي لم يذهب إلى مكة ولا
أقام في بيت إسلامي فيها ودرس في جوامعها لا يقدر أن يفهم، أو يجد صعوبة
شديدة في معرفة نشوء بلاد إسلامية.
وقد كثر التحدث حينًا بعد آخر عن مكة أنها ستفتح للعالم بالقوة، ولكني لا
أرى شيئًا يدل على أن إنكلترا ستحاول فتح مكة؛ لأنها إذا أقدمت على هذا الأمر
جلبت لنفسها اضطرابات كثيرة في الهند. ولذلك ستظل مكة عدة سنين مركز التقليد
الإسلامي.
وعلى الجملة، إني أقول: إن نشوء الإسلام في القرن الجاري لا يكون شيئًا
باعثًا على الدهشة؛ بل سيكون طبقًا للحركة العمومية التي تقرّب بين الأمم والأديان
دون زوال الاحترام للتقاليد المورثة عن السلف، ولا بدّ للإسلام من الاتصال بالعالم
الغربي وسيفعل ذلك، ولكن نقصه العظيم أو النقطة التي يحتاج فيها أشد الاحتياج إلى
اتخاذ الأفكار والمبادئ الأوربية هي موقفه تجاه نسائه، وقد أخذ يتساهل في موقفه
نحوهن تساهلاً بطيئًا تدريجيا، فالإسلام لا يمكن أن يرتقي ارتقاءً حقيقيًّا إلا إذا حرر
نساءه الراسفات في سلاسل التقاليد القديمة التي لا تنطبق على روح العصر
الحديثة، التي هي روح الترقي الحقيقي. اهـ.
(المنار) :
سنبين رأينا في هذه المحاضرة في الجزء الآتي إن شاء الله تعالى.
_________
(*) ألقى الدكتور (كريستيان سنوك هرغرنج) الهولندي في أمريكا محاضرة في حال المسلمين الدينية والاجتماعية ومستقبلهم، فترجمتها إلى العربية جريدة الهدى السورية التي تصدر في (نيويورك) ووضعت لها هذا العنوان، وصدّرتها بمقدمة في ملخص سيرة الدكتور، فنقلناها عنها مع تصحيح بعض الألفاظ لما فيها من العبر للمسلمين.
الكاتب: محمد رشيد رضا
اعتقاد الشيخية [*]
على ما نقل من كلامهم في كتبهم المعروفة الكاشفة عن اعتقاداتهم
في مراتب أصول العقائد.
(ففي مرتبة معرفة الذّات) قالوا (إن الذّات ذاتان) ذات غيبية باطنية لا
اسم لها ولا رسم لها، ولا تسمى ولا توصف، ولا تكليف على العباد بمعرفتها
وتوحيدها وعبادتها. وذات ظاهرة تسمى، وتوصف، وفي هذا القسم من الذات
قالوا: إن المعرفة فرع إدراك المعروف، والعبادة فرع إدراك المعبود، فيجب أن
يكون المعبود في صقع العارف والعابد، حتى يعبد بجسمه جسم المعبود وبنفسه
نفس المعبود، وبعقله عقل المعبود، وبفؤاده فؤاد المعبود. فهناك ذات ظاهرة
معرفتها تسمى بمعرفة البيان، وهي المتعلقة بها المعرفة والعبادة، وهي في مقام
النبوة نبيّ، وفي مقام الإمامة إمام، وفي مقام الركنية ركن رابع، ولذا قالوا: إن
الخطاب في (إياك نعبد وإياك نستعين) إلى النبي والإمام.
والركن الرابع صرّح به الشيخ أحمد بن صقر المشهور بزين الدين واغر
الإحسائي في رسالته الخطابية المطبوعة في جوامعه، والسيد كاظم الرشتي في شرح
الخطبة، والحاج كريم خان في موارد من إرشاده المعروف المطبوع في عصره،
وهذه المقالة دعتهم إلى مصاحبتهم لصور مشايخهم، وجعْلها في محالّ سجودهم،
وقد اشتهروا بذلك بحيث لا يتمكنون من إنكاره.
(وفي مرتبة معرفة الصفات) قالوا: إن الأسماء والصفات للذات الظاهرة:
النبي والإمام والركن الرابع، وهي معرفتهم بالمعاني. وقالوا: إن الصفات كلها
حادثة، فالله عالم بالأشياء بعلم حادث، وقادر بقدرة حادثة، وهكذا. وقالوا: إن
الصفات متحدة في المفهوم كما هي متحدة في المصداق، وقالوا: نسبة الخلق
والرزق إليه تعالى كفر. قال الخان الكرماني في إرشاده بالفارسية: (بس هركه
بكويد ذات خداي تعالى خالق اشياء است باجماع مسلمانان از ضرورت دين بيرون
رفته) . وصرّح بتمام ذلك ابن صقر في شرح العرشية، والرسالة العلمية، وشرح
الزيارة، والسيد الرشتي في شرح الخطبة.
(وفي مرتبة معرفة الأسماء) قالوا: إن الذات لا اسم لها ولا رسم لها.
ويقولون في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى} (الأعراف: 180) يعني
الربوبية الثانية في الذات الظاهرة. قال سيدهم في شرح الخطبة: إن الربوبية لها
ستة مقامات:
(أحدها) : رتبة الذات البحت التي لا اسم لها ولا رسم.
(الثانية) : رتبة الذات الظاهرة التي هي مظهرة تلك الذات البحت.
(والثالثة) : رتبة الذات في مقام يعبر عنها بـ (هُوَ) .
(والرابعة) : رتبة يعبر عنها بإله.
(والخامسة) : رتبة يعبر عنها بسائر الأسماء.
(والسادسة) : هي الرتبة الربوبية، السارية في العبودية. وخمسها شيخه،
وكثرها الخان الكرماني بغير حساب. قال في الإرشاد: (من نميكوم انخذائيكه سابق
مي برستند باطل بوده بلكه ميكويم او حق بوده وعبادتش درست بوده ولكن امروز
جون شعور شمازيادشده بايدبدابندكه ان خدانبوده بلكه بنده بوده واينكه امروز
ميكويم اين خدا است وبعد از اين شعورها زياد يمشودميد ايندكه اين خدا نيست
بلكه بنده ايست از بند كان خدا وخدا ديكريست) .
وقال الشيخ أحمد في شرح الزيادة في تفسير الدعاء: أنت الله عماد السماوات -
يعني الحسن بن علي، وقالوا: أنت الله قوام الأرضين - يعني الحسين بن علي،
وقالوا: إن الضمائر له في القرآن من الغيبة والخطاب والتكلم راجعة إلى النبي
والإمام والركن الرابع في مرتبة المعاني. وقال الشيخ أحمد: كما أن له الأسماء
الحسنى كذلك له الأسماء السوءى، لكن أمرنا بدعوته بالحسنى دون السوءى، وقال:
إن معنى قولك: (الله عالم قادر بصير) الله الله الله لاتحادها في المفاهيم اللغوية
كاتحادها في المصداق الوجودي.
(وفي مرتبة معرفة الأفعال) قالوا: لا فعل لله تعالى، ولا انتسب إليه الفعل،
ولا يطلق على الذات اسم الخالق والفاعل وأمثالهما؛ لأنها يجب أن يكون مقارنة
للفعل، والذات لا يقارن شيئًا. واستدلوا بقوله: إن الإرادة لا تكون إلا والمراد معها.
ولا يفهمون أن معية المراد مع الإرادة حادثة هي لا مع المريد الذي هو القديم
تعالى.
و (في مرتبة العدل) قالوا: لا خصوصية للعدل في حق معرفته من
الأصول دون سائر الصفات؛ ولذلك جعلوا أصول دينهم أربعة:
(أحدها) : معرفة الله، و (الثانية) : معرفة النبي، و (الثالثة) : معرفة
الإمام، و (الرابعة) : معرفة الركن. وعليه بنى الإرشاد الخان الكرماني.
و (في معرفة النبوة) قالوا لكل نوع من الموجودات نبي من نوعهم، فللجماد
نبي من الجمادات، وللبنات هكذا، وللحيوان أيضًا وقالوا إن الصفات المقررة في
أنبياء بني آدم مقررة لها من كونها طاهرة مطهرة، عاقلة عاملة، قابلة للوحي
والإلهام، معصومة فيّاضة على ما تحتها من أمتها. ولها أئمة من بعدها حافظة
لشرائعها ونقباء ونجباء. صرّح به الشيخ أحمد في جوامعه، والخان في إرشاده،
وزاد أشياء أخرى فقال: إن محمد تنزل وتطور في كل مقام في صورة كل نوع
فينبئ فيها ويبلغها، فإنهم قد يظهرون في صور الجماعات والنباتات والحيوانات،
وصور بني آدم سعيدهم وشقيهم. وبه قال الشيخ أحمد في موارد من كتبه، منها ما
ذكر في شرح الزيارة في تفسير (وأجسادكم في الأجساد) ، وقال إن الأئمة قد
يظهرون في أحسن صورة لأوليائهم، وفي أوحش صورة لأعدائهم. ثم ذكر حديث
جابر بن عبد الله في قول طلحة، وقال في الاستشهاد لهذا الحديث: حيث ظهر
أمير المؤمنين عليه السلام في صورة قبيحة هي صورة مروان بن الحكم ورمى
طلحة بسهم وقتله للاتفاق على أن طلحة قتل برمي مروان، لكن طلحة لمّا عاين
الموت وكشف عنه غطاؤه رأى عليًّا عليه السلام في صورة مروان بن الحكم،
انتهى. وصرّح به الخان في إرشاده.
والعجب من هذه المقالة بأنه كيف عرف طلحة ورأى عليًّا في صورة مروان،
ولم يعرفه الحسن بن علي حيث قال في مجلس معاوية لمروان: أنت الذي وقفت
بين الصفين ورميت طلحة وقتلته؟
و (في مرتبة الختمية) قالوا: إن للخاتم صلى الله عليه وسلم اسمين (يعني
ظهورين) اسم سماوي وهو أحمد، واسم أرضي وهو محمد. وقد ظهر باسمه
الأرضي منذ بعث في رأس كل مائة لترويج ظاهر شريعته، حتى مضت عليه
وعلى شريعته ستة مائة ستة مائة فكانت اثني عشر مائة [1] وانتهت الدورة الأولى
لترويج ظاهر الشريعة، وأتت الدورة الثانية لترويج باطن الشريعة، وانقضت
دورة ظاهر الشريعة، فظهرت تلك الحقيقة المحمدية باسمها السماوي وهو أحمد في
الشيخ أحمد لترويج باطن الشريعة. وهذه المقالة عين ما قاله السيد كاظم الرشتي
في شرح قصيدة عبد الباقي، مذكورة في عشرين ورقًا [2] مِن أواخر الكتاب.
وللخان في هذا الميدان جولان، حيث شبه الإيمان بالإنسان. وقال: إنه كان نطفة
في زمن آدم عليه السلام، ثم صار علقة في زمن نوح عليه السلام، ومضغة في
زمن إبراهيم عليه السلام، وعظامًا في زمن موسى عليه السلام، ونفخ فيه الروح
في زمن عيسى عليه السلام، وتولد في زمن محمد صلى الله عليه وسلم، فارتضع
من ثدي ولاية الأئمة عليهم السلام ولمّا كان أوان فطامه غاب عنه المرتضعة [3]
فودوعه [4] لدى المربيات وهم الفقهاء، وصار مراهقًا في زمن شيخنا، فأخذناه من
الإماء المربيات لنعلمه الآداب والسنن. وجال في المقام، وأطال في الكلام، ولعب
بذنبه والسبال، حتى آلَ الحال إلى مقالة قرة العين القزوينية راقصة بالغنج والدلال،
أنكحت وزوجت قد فر من الميدان! !
وقال الخان أيضًا في إرشاده: إن بعث الأنبياء والرسل ونصب الحجج
وإنزال الكتب كلها لإثبات الركن الرابع، وهو بمنزلة أصل الكعبة في مسجد
الإمامة في حرم النبوة في عالم أرض التوحيد. فعلى الإسلام السلام بعد هذه
المقالة.
وقالوا بكفر من أنكر الركن الرابع، وأنهم ناصبين! ! وطهارتهم للتَّقِيَّة.
وأيضًا قال في أول المجلد الرابع من إرشاده ما هذا لفظه: من جكونه بادست قاصر
ونفس ضعيف أين مطلب وابكردان اين خلق منكوس بكذارم كه هزاروده سأل است
كه درجاهليت غيبت كرفتارند.
وتاريخ كتابه في ست وستين فيكون من أول ولادة الحجة داخلاً في الجاهلية
إلى أن بلغ قلمه موضعه من الكتاب. وقال: كتابي هذا - يعني الإرشاد - مطابق لما
هو مسطور في اللّوح المحفوظ حرفًا بحرف، والسواد مطابق للأصل. وقال قراءة
كتابي هذا واجبة وقراءة القرآن مستحبة. وقال مَن قرأ خمسة أوراق من كتابي
فكأنما قرأ التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، وما أتى به الأنبياء من عند الله.
ولا تقتصر عباداته عن عبادة السيد ميرزا علي محمد ابن السيد رضا الشيرازي في
بيانه النازل إليه من السماء بزعمهم: أن لو اجتمعت الجن والإنس على أن يأتوا
بحرف من حروف البيان إذًا لا يأتون بحرف منه أبدًا.
و (في مرتبة الوحي) قالوا: إن الوحي عبارة عن توجه خيال النبي صلى الله
عليه وسلم إلى نفسه، ونفسه إلى عقله، وإنزال عقله المعاني إلى نفسه، ونفسه
إلى خياله، والعقل هو جبريل النازل عليه. صرّح به الخان في إرشاده في المقصد
الثالث في النبوة. وقال هناك: إن النبي مهما كان متوجهًا إلى مسألة علمية كان
غافلاً عن سائر المسائل، فيتدرج له العلم شيئًا بعد شيء في الدنيا والبرزخ. وقال:
كثيرًا ما يسأل عن الأئمة من الأحكام الشرعية [5] ولم يكن لهم جواب حتى يلقى إليهم
من عقلهم، فيقصر زمان الإلقاء ويطول.
فإن قيل: فكيف يرمون هؤلاء بالغلو في حقهم عليهم السلام مع هذه
المقالة؟ يقال: إن التناقض في كلماتهم غير معدود ولا محدود، ويقولون بجواز
اجتماع النقيضين لاسيّما في ذات الواجب، ويستدلون بوجود ملك نصفه من النار
ونصفه من الثلج. وهذا معروف منهم.
و (في مرتبة العصمة) قالوا: يجوز الكبائر والصغائر عليهم عمدًا وسهوًا قبل
البعثة وبعدها. صرّح بالسهو شيخهم في (جوامع الكلم) وقال: يغيب عنهم الملك
المسدد. وقال الخان في الإرشاد: بس اكر خداوند مصلحت داند دربقاء دين ان
بيغمبر كه از دنيا ميرود البتة قائم مقامي از براي ان بيغمبر قرار دهدكه اقلاّ در
حفظ شريعت معصوم بوده باشدا كرجه درجاهاي ديكر معصوم بناشد.
وإن كان في مبحث العصمة أثبتها لهم وقد قسّمها بعصمة عقلية، وعصمة
نفسية ووجودية، وقسّمها الشيخ في شرح الزيارة بعصمة ذاتية؛ وقال بها لنبينا
والأئمة. وعصمة عرضية؛ وقال بها في سائر الأنبياء. ولا يفهم مراده. وقال
الخان بعصمة الركن الرابع الذي يسميه إمام الزمان، حيث يقول في إرشاده غير
مرّة: بس امام غائب بكارمر در نميخودر ومردم امام حي حاضر معصوم
ميخواهند.
(وفي مرتبة الإذعان بالمعراج) قالوا بما هو لفظ الشيخ في رسالته المسماة
بالقطيفية: قال إنه تعالى لما أراد العروج ألقى في كل كرة ما منها فألقى ترابه في
التراب، وماءه في الماء، وهواءه في الهواء، وناره في النار. وكل قبضة! في
تلك السماء، ثُم لمّا رجع أخذ من كل كرة ما ألقى فيها. وصرح عليه في جميع
كتبه. ومن بيانه تشبيه المعراج بأكل الغذاء وتحليله وإخراج تفله، إلى أن يحصل
الروح البخاري في القلب، ثم يصعد إلى الدماغ، وقد صعدها الخان في معراج
الغذاء المأكول إلى أن جعلها نفسًا وعقلاً وفؤادًا.
(وفي مرتبة الإمامة) قالوا: إن إمام الزمان غير الأئمة الاثني عشر: ولا بد
في كل زمان عن إمام غيرهم، وهذا صريح كلماتهم. وقال الخان في إرشاده: بس
جنانجه بخداي ناديده اكتفا نميتوانيد نمود بامام غائب هم اكتفا نميتوانيد نمود. وقال
في موضع آخر: سار غائب جكوند تريت شاكرد ميتواند نمود.
(وفي مرتبة المعاد) قالوا: إن الجسم جسمان، والجسد جسدان:
جسد عنصري دنيوي وهو مخلوق من عناصر هذه الدنيا التي تحت فلك
القمر، وهذه تفنى ويلحق كل شيء إلى أصله، ويعود إليه عود ممازجة واستهلاك،
فيعود ماؤه إلى الماء وهواءه إلى الهواء، وناره إلى النار، وترابه إلى التراب، ولا
يرجع ولا يعود لأنه كالثوب يلقى من الشخص.
والثاني جسد أصلي من عناصر (هورقليا) وهو كامن في هذا المحسوس،
وهو مركب الروح، فيقوم للحساب، وهو الجسد الذي يتألم ويتنعم وهو الباقي،
وبه يدخل الجنة والنار. وقالوا: السؤال عن الروح والجسد الهورقليائي يسنون
البرزخي. وقالوا: إن الصراط والميزان والوسيلة كلها مؤولة معنوية غير جسمانية.
و (في مرتبة تكليف الناس في زمان الغيبة) قالوا: لا بد في كل زمان من
إمام زمان غير الأئمة الاثني عشر، ولهم في هذا المقام متناقضات شتى، فتارة
يعبرون بالشيعة، وتارة بالنقباء والنجباء، وتارة بالركن الرابع، وتارة يفرقون
بينهم، وجعلوا معرفة الركن الرابع أصلاً من أصول الدين، ونسبوا منكره إلى
الناصبية، وتناقضوا في القول، فقالوا: هذا الركن من الإيمان كان مخفيًّا حتى
أظهره الشيخ أحمد ثم السيد كاظم ثم كريم خان، فمَن لم يعرفهم ولم يحبهم مات ميتة
جاهلية، وميتة كفر ونفاق، ثم تفرّقت كلماتهم من بعدهم على أشخاص كثيرين
فتفرقوا أيادي سَبَا، كلما دخلت أمة أمنت أخرى، إلا أن أكثرهم اجتمعوا على محمد
خان حسب ما وصى إليه أبوه، وقالوا: في صفات الركن الرابع ما لا يقصر عن
صفات الرسل والأئمة، قال رحيم خان أخو محمد خان في منظومته: قدر تشان
قدرت يزدان بود. وقال لهم السلطنة على العالم والقدرة الإلهية على التصرف فيما
يشاءون، وأمثال ذلك.
ويقولون صريحًا بوجود الباب للإمام، وإن كانوا ينفونه على السيد ميرزا
علي محمد الشيرازي، فالنزاع في الموضوع دون الحكم.
ومحصل كلامهم أن التصديق في مراتب التوحيد لا يكمل إلا بالتصديق
بالنبوة، والتصديق بالنبوة ومعرفتها لا يكمل إلا بالتصديق بالإمامة ومعرفتها،
والتصديق بالإمامة ومعرفتها لا يكمل إلا بالتصديق بالركن الرابع ومعرفته، فالعلة
الغائبة من المعرفة في معرفة أصول الدين والعقائد معرفة الركن الأخير. على أن
الدين والإيمان مركب من أربعة أركان، ولا يتم معرفة الأول إلا بالثاني، ولا يتم
هو إلا بالثالث، ولا يتم هو إلا بالرابع، فمعرفته أصل ومعرفة المثلث الأول من
باب المقدمة، كما يفهم عن عبارات الخان في إرشاده؛ ولذا قالوا: إن معرفة الركن
الرابع ومحبته وموالاته من ضروريات الدين، ومَن أنكرها أنكر أصلاً مِن أصوله،
وقد عبّر الشيخ في كتبه عن هذا الأصل بالشيعة الخاص، وبعض آخر منهم بالنائب
الخاص في زمن الغيبة الكبرى، في مقابلة الإمامية من قولهم أن الأحكام الشرعية
والحوادث الواقعة في زمن الغيبة الكبرى راجعة إلى النائب العام، وهو الفقيه الجامع
للشرائط، حتى آل الأمر بالخان فعبّر عنها بالركن الرابع، وزاد في الطنبور
نغمات أخر لا فائدة في ذكرها.
والعجب كل العجب من الفتنة الحادثة بعده، فإن ابنه محمد رحيم خان قال
بوحدة الناطق؛ أي الركنية الشخصية، وقال بأن الركن الرابع للدين في كل عصر
من الأعصار شخص واحد يجب لكل مكلّف في ذلك العصر متابعته في الأحكام
الصادرة عنه، وإرجاع أموره التكليفية إليه، ومعرفته وموالاته ومحبته، بناء على
أن هذه المعرفة بهذه الصفة مِن ضروريات الدين. وخالفه في هذه المقالة تلميذه
الخان السيد ميرزا محمد باقر الهمداني. وقال بكثرة الناطق أي الركنية النوعية،
وقال إن الركن الرابع في كل عصر يمكن أن يكون متعددًا متمسكًا بالتوقيع الصادر
عن الإمام القائم المنتظر عليه السلام. وأما الحوادث الواقعة فارجعوا إلى رواة
أحاديثنا، وكون محل الرجوع رواة يدل على تعدد الركن لا التشخص، ولكل منهما
كتب متعددة ممهدة لإثبات مدعاه. ولذا صارت الشيخية بعد الخان المعهود طائفتين،
وبقي الأمر كذلك إلى زماننا هذا.
والأصبهانيون منهم مِن الطائفة الهمدانية. وأمّا الطائفة الأولى أي تبعة
الكرماني فهم متفرقون في سائر البلاد والأغلب منهم ساكنون في طهران وكرمان.
وكلهم متفقون في جواز التقليد من الميت، والعمل بكل خبر ولو كان ضعيفًا. ولذا
يعدون مِن الإخباريين مع إعمالهم نبذة من قواعد أصول الفقه في مباني فتاويهم،
انتهى.
***
(المنار) :
ما أفسد دين الشيخ أحمد الأحسائي وأصحابه وأثار في أدمغتهم هذه الخيالات
إلا التشبع بما أثروه عن فرق الباطنية، وما رأوه من إقرار الناس لبعض زعماء
الباطنية بالإمامة ولبعضهم بالألوهية، وعلمهم بأن أهل زمنهم أجدر من المتقدمين
بالتقليد، للإعراض عن القرآن والسنة والجهل بهما وبلغتهما، ولما كان قبل من
التمهيد. والظاهر أن كلا من الإحسائي والرشتي والكرماني كان يطمع أن يكون في
شيعة العراق والفرس، كإمام بل إله الإسماعيلية في الهند، ولكن كان منتهى شوط
أباطيلهم التمهيد للباب ثم للبهاء، اللذين كانا دونهم في الفلسفة والفصاحة والذكاء،
وما سبب رواج كفر الباطنية وشركهم المخترع - على اختلاف فرقهم من إسماعيلية
ودروز ونصيرية وبكداشية وبابية وبهائية - إلا الغلو في تعظيم آل البيت (وكذا
غيرهم من العلماء والصالحين) ، والتقليد في الدين، فهذان السببان هما اللذان أعدا
الأذهان لقبول هذا الكفر والطغيان، ولما كانت فرقة الشيعة الإمامية أشد غلوًّا من
سائر فرق المسلمين في تعظيم آل البيت جعلها واضعو هذه الأضاليل مباءة لها،
وسلمًا لمقاصدهم منها.
_________
(*) هم أتباع الشيخ أحمد الإحسائي؛ وهم كريم خان القاجار والسيد كاظم الرشتي، وهم من غلاة الشيعة، ابتدعوا فيها فلسفة جديدة خيالية كانت المنشأ لِما هو شر منها وهو فتنة البابية والبهائية، والأصل لذلك كله ضلالات قدماء الباطنية.
(1)
المنار: الصواب في اللفظ ست مئة ست مئة فكانت اثنتي عشرة مئة.
(2)
الصواب: ورقة.
(3)
لعله: غابت عنه المرضعة؛ أي بغيبة الإمام الثاني عشر الوهمية.
(4)
يريد: أودعوه؛ من الوديعة.
(5)
لعلّ الأصل أو المراد: كثيرًا ما يسأل الأئمة عن الأحكام الشرعية.
الكاتب: صالح مخلص رضا
تقريظ المطبوعات الجديدة [*]
نشوء فكرة الله
(كراسة تحتوي على خلاصة كتاب لجرانت ألين الكاتب الإنكليزي المشهور
عن نشوء الاعتقاد بالله وترقي الإنسان من الوثنية إلى التوحيد الحاضر مع بيان
أصول المسيحية ونشوئها) .
لخّص هذه الكراسة من ذلك الكتاب وطبعها ونشرها (سلامة أفندي موسى)
وهو شاب قبطي الجنس ماديّ الاعتقاد، يعنى بإقناع الناس بأن الأديان أوضاع
مخترعة ينبغي لهم تركها والعمل بقواعد الانتخاب الطبيعي وأصول الاشتراكية
ومنها - على رأيه تبعًا لبعض غلاة المادية من الإفرنج - أن يعجل الأقوياء بإهلاك
الضعفاء، ومنعهم من الزواج ومن كل ما يطيل أيام حياتهم على الأرض، كمعالجة
المرضى والصدقة على البائسين. وما نشر هذه الكراسة إلا في سبيل مذهبه.
وهذه الحملات التي يحملها الملاحدة على الدين تؤثر في النصرانية دون
الإسلام؛ لأن النصرانية الحاضرة وثنية متسلسلة من وثنية قدماء المصريين والهنود
وغيرهم، وإنا ننقل فصولاً من هذه الرسالة بحروفها تثبت ما قلناه، ثم نعقّب عليها
بما نراه، قال الكاتب:
(المسيحية كمقياس ديني)
إذا أخذنا المسيحية كنموذج للأديان واعتبرنا نشوءها نجد أن كل ما فيها من
العقائد والمراسم مأخوذ من الأديان السابقة لها التي كانت فاشية عند ظهورها. فإله
المسيحية - المسيح - كان إنسانًا كما كانت كل الآلهة القديمة عند أول ظهورها. وقد
اعتبره المسيحيون الأوّلون ابنًا لإله (كذا) تنزيهًا له عن الإنسانية كما فعل
اليونانيون مع إسكندر المقدوني.
ونجد في المسيحية ما يسمى (بالثالوث الأقدس) وهو عبارة عن إدماج ثلاثة
آلهة - وهم الآب والابن والروح القدس - في إله واحد، على مثال ما كان يعتقد
المصريون في الثالوث الإلهي المكون من أوزيريس وإيسيس وهوريس.
والمسيحيون يعتقدون أن أم المسيح عذراء، ولا بد أن هذا الاعتقاد قد تسلسل
من الاعتقاد المصري القديم الذي كان قائمًا على اعتقاد البكارة في إيسيس أُمّ
هوريس.
وكذلك ترى إذا بحثت عن الأصل في مراسم المسيحية كالصليب والقبر
والكنيسة والهيكل أنها مأخوذة من الأديان المصرية القديمة. كما أن نظام القربان
والكهنوت مأخوذة منها أيضًا.
(15- الضحيَّة والدم)
قد رأينا فيما سبق أن للضحية باعثين، الأول: هو الاعتقاد بأنها تقدّم كطعام
للروح أو الإله. والثاني: هو الاعتقاد بأن الإله ذاته يتجسد فيها وتدفن أجزاؤها في
الحقول لكي تنمي الزروع.
إلى هنا لم نتكلم عن أكل الناس الأحياء للضحية، فقد رأينا الضحية تجزأ
وتدفن في الحقول باعتبار أنها إله، ورأينا القربان أيضًا يوضع للميت اعتبارًا بأنه
سيجوع ويأكله. وسنتكلم الآن عن أصل عادة أكل الناس للضحايا.
من الشائع بين عوام مصر أن من أكل قلب ذئب صار قويًّا مثل الذئب،
ويعتقدون في الهند أن من يأكل نمرًا يصير شجاعًا جريئًا كالنمر. لهذا لما نشأت
عادة ذبح الآلهة المتجسدة في الضحية ورد على خواطر المضحين أن يأكلوا هم
أيضًا قطعة من جسم الإله حتى يصيروا مثله في صفاته، على نحو ما يفعل آكل
الذئب والنمر. فصاروا يضعون جزءًا من الضحية المؤلهة في الأرض ويأكلون
جزءًا آخر منها. وهذا صيد العصفورين بحجر واحد: مباركة الحقل وتقوية
الجسم.
كذا تفعل قبائل الغوند
وكذا أيضًا كان يفعل المكسيكيون. فإنهم كانوا إذا أرادوا التضحية قبضوا
على أسير من أسرى حروبهم وعاملوه معاملة الملوك مدة عام يقتلونه باحتفال عظيم
في نهايته ويأكلونه. وبمضي الزمن ارتقى الإنسان من التضحية البشرية إلى
التضحية الحيوانية الحاضرة في أعياده. وفي طريقة الذبح عند العرب والعبرانيين
الآن بقايا أثرية من عوائد التضحية القديمة فإنهم يذبحون الآن (باسم الله)
ويتطلبون إراقة الدماء من المذبوح، والدم هو في العادة الجزء الذي يشتهيه الإله؛
لأنه بخلاف اللحم يجف فيظن الرائي أن الإله قد شربه.
قلنا: إن الإنسان كان يشرب دم الذبيحة أو يأكل لحمها اعتقادًا بأنه يأكل
ويشرب من لحم الإله ودمه، وقد قلنا إنه كان يعتقد بأن روح الضحية روح للإله
تنحل من الذبيحة عند الذبح وتنتشر في المحاصيل كالكروم والغلال.
مِن هنا نشأت عادة أخرى وهي أن يأكل المتدين خبزًا أو يشرب نبيذًا باعتقاد
أنه يأكل مِن لحم الإله ودمه؛ لأن روح الإله قد تجسدت في محاصيل الغلال
والكروم، والخبز والنبيذ هو ما يأخذه المسيحي من قسيسه باعتقاد أنه يأكل ويشرب
من لحم المسيح ودمه.
(16 - ضحية الافتداء)
للضحية - كما قلنا - اعتباران عند المتوحشين:
(1)
أنها تقدم كطعام للروح أو للإله.
(2)
أنها تقدم كأنها هي الإله ذاته.
وهناك نوع ثالث من الضحايا يقدم باعتبار أنه يفيد القبيلة أو الأمة من
خطاياها وقد صُلب المسيح لكي يفدي الناس من خطاياهم أي لكي يكفّر عن ذنوبهم.
والأصل في هذه الضحية هو الاعتقاد بإمكان نقل المرض من شخص إلى
شخص أو إلى شيء آخر، مثال ذلك: أن ملكًا في بتشوانا لاند أصيب مرة بمرض
ما، فأحضر ثورًا وتليت عليه الرقيات، وأغرق بعد ذلك في النهر. ومنطق هذا
العمل عندهم أن المرض قد انتقل إلى الثور وذهب معه بعيدًا عن الملك، ولا يزال
عندنا نحن المصريين آثار باقية من هذا الاعتقاد في رقياتنا؛ حيث تزيل الرقية
المرض وتلقيه بعيدًا عن المريض بإلقائها بعض أشياء كانت تحرقها في النار
وقت الرقية.
وقد نشأ من اعتقاد إمكان نقل المرض اعتقاد إمكان نقل الخطيئة. مثال ذلك:
أن بعض قبائل إفريقيا يقتل كل سنة شخصين رجلاً وامرأة؛ لكي يكفرا عن خطايا
القبيلة، يعتقدون أن خطيئات القبيلة قد انتقلت إلى هذين الشخصين، وأنهم بقتلهما
يغسلون القبيلة من أدران خطاياها، ويبررونها أمام آلهتها، كما كان يقتل الأثينيون
شخصًا عند وفود وباءٍ ما على بلدهم اعتقادًا بأن الوباء يموت بموته وينجي الأمة
منه، وكما تذري الراقية قطعة الشب التي أحرقتها في النار وقت الرقية اعتقادًا
بأنها حملت المرض معها وذهبت بعيدًا عن المريض.
(17 - العالم قبل المسيح)
كان العالم الذي انتشرت فيه المسيحية تابعًا للدولة الرومانية عند بدء انتشار
هذه الديانة، وقد كانت هذه الدولة تشمل كل ممالك البحر المتوسط، ودرجت اللغة
الرومانية على ألسن التجار فقرّبت بين هذه الأمم وصبغتهم بالصبغة الرومانية. وقد
بعثت التجارة على المهاجرة والنزوح إلى المواني فكانت الإسكندرية ورومية
وأنطاكية [1] ملأى بالسوريين والرومانيين والأسبانيين وغيرهم من الجاليات التي
هجرت مواطنها الأصلية واستعمرت هذه المواني للارتزاق. وقد أدى هذا إلى
انتشار الأديان في أصقاع الإمبراطورية، وخروجها من أوطانها الأصلية، فكانت
الآلهة المصرية تعبد في إنجلترا ورومية بسبب النزلاء المصريين، كما كان يعبد
الإله يهوه في الإسكندرية ومرسيليا بواسطة اليهود. وقد كانت بعض هذه الآلهة
تتّحد في الصفات فيعبدها الناس وإن كانت أجنبية عنهم إلا أنها تتفق في صفاتها مع
أحد آلهتهم، أو كانت الظروف تقتضي عبادة الآلهة الغريبة كما حدث مع البطالسة،
فإنهم حينما تولوا حكم مصر عبدوا الآلهة المصرية مع أنهم كانوا يونانيين،
وقبيل ظهور المسيحية كانت الأديان الوثنية قد ضعفت أمام الفلاسفة وحصل بذلك
اشتياق في النفوس للتوحيد اليهودي. ولو لم يكن يهوه إله اليهود وطنيًّا متعصبًا في
ألوهيته يكاد لا يعترف بأمة حقيقة بالجنة غير اليهود لعمت عبادته. لهذا تحول
الناس إلى العبادة المسيحية لأنها في الحقيقة عبادة للآلهة كلها؛ لأن المسيحية اشتقت
مناسكها وسننها ومراسمها من آلهة مصر وسوريا ورومية وفرنسا وإنجلترا
وغيرها، فكانت كل الأمم تعرف شيئًا عنها وتعتقد بصحة بعض سننها وأساطيرها،
وممّا زاد في الإقبال عليها سهولة طريقة التدين بها وصعوبته عند اليهود.
(18 - نمو المسيحية)
إنا نشك في أن المسيح كان إنسانًا موجودًا، على أننا إذا صدقنا رواية وجوده
كشخص ما، فإنما نعتقد ذلك باعتبار أنه وجد وقتل كضحية مؤلهة. وهي الضحية
التي قلنا إنها كانت تقدم لآلهة الغلال والنبيذ. فقد كان السوريون المجاورون ليهود
يعبدون (أتيس) إله الغلال، وكان من عادتهم أن يقدموا له ضحية سنوية؛ ولعلّ
الإشاعة التي فشت بعد ظهور المسيحية عن ذبح اليهود للأطفال قد نشأت عن هذه
التضحية، وعندنا سبعة أشياء ترجح أن المسيح كان ضحية مؤلهة، وهي:
(1)
إذا فحصت عظات بولس في رسائله إلى الفورنتيين تجده يصف
المسيح كأنه يصف أحد آلهة الغلال تمامًا.
(2)
أكل تلاميذ المسيح - وكل المسيحيين الآن - الخبز والنبيذ باعتبار أنهما
من جسد المسيح ودمه، وهذا ما كان يفعله تمامًا عبدة أودنيس وأتيس - إلَهَيِ الغلال -
لأن الإله يتجسد في المحصولات.
(3)
قول المسيح: (أنا خبز الحياة) ، (خذوا كلوا من دمي)[2] وقد
وصفوه بأنه قمحيّ الوجه وأن شعره كلون النبيذ.
(4)
أنه دخل أورشليم بهيئة ملك مثل ضحايا أتيس وأدوينس؛ لأن الاعتقاد
كان فاشيًا بأن هذين الإلهين يتجسدان في الضحية التي تقدّم لهما فيجب إذن إكرامهما
ما داما على قيد الحياة.
وقد جاء في الإنجيل أنهم وهم يقتلون المسيح ركعوا، وهذا يماثل ما كان
يفعله كهنة أتيس بالضحايا.
(5)
ولمّا دخل المسيح أورشليم كان ممتطيًا حمارًا وقد نثرت أغصان
الأشجار على الأرض، وهو عين ما كانوا يفعلونه مع ضحية أتيس وما زال في
(أحد الزعف)[3] الذي يسبق العيد الكبير عند النصارى بقية من بقايا أعياد آلهة
الغلال.
(6)
لمّا قتل المسيح بكت عليه النساء مثلما كان يحدث في ضحايا أتيس؛
لأنهم كانوا يعتقدون بأن الإله يتجسد فيها، وبالتالي يبكون عليه لأنهم قتلوه.
(7)
بعثه بعد ثلاثة أيام. مثل أتيس وأدونيس بالضبط.
فالمسيح قتل لغرضين: أنه ضحية مؤلهة، ولكي يفدي الشعب من خطاياه،
وقد عرفنا أصل ومعنى الفداء.
أمّا الثالوث فقد جاء للمسيحية من مصر، ونشأ أولاً عند الأقباط لأن أديانهم
الوثنية السابقة كانت تحتم هذا الاعتقاد.
أما الصليب فقد أتى أيضًا من مصر وتراه للآن على الجُعلان. وقد اختلط
الموضوع على بطريرك مصري مرة فقال في أحد كتبه عن المسيح: إنه (جُعل
الله) ؛ أي أنه ظن الصليب والمسيح شيئًا واحدًا لأن الجُعل كان يرسم عليه
الصليب.
(19- بقايا أثرية في المسيحية)
ما زال المسيحيون للآن يعبدون الموتى، وقد كانت الكنائس عند أول تشييدها
قبورًا ليس إلا. ومركز القديس الآن بين النصارى وقيمته عندهم كمركز رئيس
القبيلة المتوفى بين قبيلته بالضبط؛ لأن النصراني يحترم القديس ويتهيبه ويتقرب
منه كأنه يعبده عبادة ولو أنكر ذلك.
وقد كانت القرون الوسطى العصر الذهبي لعبادة الموتى والأرواح، فإنهم
كانوا لا يبنون كنيسة إلا إذا أحضروا لها شهيدًا أو قديسًا دفنوه في هيكلها، وقد
تفانوا في هذا العمل حتى إن البندقيين نقلوا جثة مرقص الرسول من الإسكندرية إلى
البندقية لكي يضعوها في الكنيسة المسماة باسمه هناك.
ودين الإسلام التوحيدي العظيم لم يتمالك عن تقديس الموتى واعتبارهم،
فالمسلمون ما زالوا للآن يتمسحون بقبور الأولياء، ويتبركون بها، ويبنون لهم -
للأولياء - المساجد على قبورهم.
نريد بذلك أن الإنسان الذي تشبع بالتوحيد ما زال يحن إلى ميوله الوحشية
وتبعثه غريزة التدين الأصلية إلى العبادة الأولى؛ عبادة الجثث والأرواح.
وترى للآن عند المسلمين أثرًا من آثار العبادات القديمة في مشهد قتل الحسين
حيث يمثلون قتل الحسين ويسيرون به في الشوارع باكين ومترحمين عليه كما كان
يفعل السوريون في البكاء على أدونيس سنويًّا. اهـ.
(المنار)
ما أضل (جرانت ألين) الكاتب الإنكليزي مؤلف الكتاب، وأضل أمثاله
من أحرار الكتاب، وحجبهم عن الدين الحق، وأوهمهم أنه من خرافات الخلق،
إلا ما رأوه من مظاهر الوثنية بين الأقوام، مع جهلهم بحقيقة الإسلام، وظنهم
أن النصرانية هي أرقى الأديان، مع شهادة التاريخ بأن جميع أصولها مأخوذة من
تقاليد عبدة الأوثان، كتأليه البشر والتثليث والفداء وتقديس كثير من الأشياء.
ولو فهموا القرآن حق فهمه، وعرفوا سيرة نبيه لعرفوا الدين الحق؛ فإن الإسلام
وحده هو الدين الذي حفظ أصله كما هو، فهو الذي يجب أن يتخذ مقياسًا وميزانًا لا
النصرانية، التي لا يزال الكثيرون من العلماء والمؤرخين يشكون - كالمؤلف - في
وجود مَن تنسب إليه (وهو عيسى ابن مريم عليهما السلام .
إذا كانوا يحكمون على الأديان بمسائل يستنبطونها من التقاليد التي اخترعت
بعد دعاة تلك الأديان فكيف يكون حكمهم صحيحًا؟ ألم ترَ أيها القارئ كيف عدوا
على الإسلام تقديس كثير من المسلمين للموتى وتمسحهم بقبور الصالحين وبناء
المساجد عليها، وتمثيل الشيعة منهم لقتل الحسين بن علي عليهما السلام كما
كان يفعل الوثنيون الأوّلون، إذ كان تقديس الموتى ركنًا من أركان الوثنية؟
يعدون هذا على الإسلام، وأصول الإسلام تنفيه وتحرمه وتعد بعضه كفرًا
وشركًا وبعضه معصيةً، وقد أجمعوا على أنه بدعة، وثبت عن النبي - صلى الله
عليه وسلم - في الصحيحين والسنن أنه لعن الذين يتخذون القبور مساجد أو يوقدون
عليها السرج، ونهى أن يتخذ قبره وثنًا أو يتخذ عيدًا. ومن الظلم أيضًا ذكر
الإسلام في سياق الكلام عن الدم والأضاحي الوثنية؛ فإن أضحية الإسلام لا شائبة فيها
للوثنية والفداء، وإنما هي نفقة وتوسعة على العيال والفقراء، والله تعالى يقول:
{لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمِ} (الحج: 37) ، كما
أنه ينفي عقيدة الفدية نفيًا صريحًا. فإذا كان الإسلام - وهو الدين الوحيد الذي حفظت
أصوله - ينتقدون عليه ويعدّون منه ما جاء لهدمه وإبطاله ونهى عنه أشد النهي،
فكيف يعتد بما ينسبونه إلى اليهودية والنصرانية ولم تحفظ أصولهما حتى
يمكن الرجوع إليها؟ !
الحق أن أصل الدين فطري في البشر، انطوى عليه وجدانهم، وصدّقته
عقولهم، عندما صاروا يبحثون ويستدلون، والماديون يتوهمون أن فطرتهم
وعقولهم لا تؤمن بغير ما يدركونه بحواسهم، وهذا غفلة منهم عن أنفسهم، وعن
فرضهم وجود الأثير فرضًا تلجئهم إليه الضرورة. وقد بيّنا مِن قبل كيفية طروء
الوثنية على الناس، وحقيقة النشوء والارتقاء في الأديان وكيف قاومها الأنبياء
بالدين الحق، ولا محل لإعادته هنا.
(اعتناقي الإسلام)
تأليف (المهتدي) عبد الكريم يوسف (جوصو) الفرنسي، طبع في المطبعة
التونسية على ورق جيد بحرف كبير ص107 (بقطع الإسلام والنصرانية) يباع
في المكتبة العلمية (عدد 29 بشارع الكنيسة بتونس) .
ما زال الله يزيدنا بصيرة ويقينًا بدين الإسلام خاتم الأديان بما يهدي إليه من
أرباب الإرادة القوية والفكر المستقل، فمِن إسلام عبد الكريم يوسف (جوصو)
الفرنسي، إلى إسلام اللورد هدلي الإنكليزي، إلى أمثالهما من إخواننا الذين لحقوا
بنا في الإسلام؛ دين الحق والتوحيد والتنزيه، والإيمان بجميع الأنبياء المصلحين.
ولا بد من تعميم الدين الحق - دين الإسلام - في جميع أقطار المعمورة؛
{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ
المُشْرِكُونَ} (التوبة: 33) .
وإليك صورة إهداء كتاب أخينا عبد الكريم، قال حفظه الله:
الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد،
والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد بن عبد الله الذي جاء بالحق ليظهره على
الدين كله، مرغمًا أنف من عاند وحقد وحسد، فدعا لسبيل ربه بالحكمة والموعظة
الحسنة، وجادل الناس بالتي هي أحسن، فمنهم من تجبر ونفر، ومنهم من انقاد
وأذعن وأقر، وتلك سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً،
وعلى كافة الأنبياء والمرسلين، وجميع الآل والأصحاب ومن تبعهم وتلاهم إلى يوم
الدين.
أما بعد؛ فإن المنازل تستهوي ألباب قاطنيها بما يتاح لهم تحت أديمها من أفانين
السعادة.
والسعادة - لا زلت لها قرينًا - نوعان: سعادة أرواح، وسعادة أشباح، بينها
من التفاوت كما بين النار والنور، والظل والحرور.
وقد صادفت أثناء إقامتي بالقطر التونسي سعادةً لنفسي، وراحةً لفكري، مِن
نصبٍ وكفاحٍ مارسته عقدين من السنين، أعني حين قرّ قراري، وسكنت نفسي،
وانقاد ضميري، لاتباع دين الهدى وشريعة الإسلام، فصار هذا القطر حينئذٍ وطنًا
للنفس تحن إليه، وترفرف بأجنحتها عليه، ومَن كان حرَّ الضمير يصدع بالحق لا
يخشى لومًا ولا تثريبًا.
لذلك أردت أن أبدي للناس عندما نجز هذا التأليف ما لفؤادي من الود والميل
نحو قطر يجدر لي أن أدعوه: (قطر السعادة) ، فوطدت العزم على إهداء الكتاب
لأميره الأعظم، وملاذه الأفخم، صاحب السؤدد والفخار، سيدنا محمد الناصر باشا
باي، صاحب المملكة التونسية، لا زال رفيع العماد، طويل النجاد؛ آمين.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
عبد الكريم جوصو
وهذه مقدمته
تقوّلت عني بعض الصحف الفرنسوية عندما اعتنقت دين الإسلام أني أريد
تمهيد السبيل للتزوج بأربع نساء، وامتلاك ما أشاء من الجواري، سبحانك اللهم
هذا رجمٌ بالغيب، وقذفٌ بالبهتان؛ بل إني أسلمت لله رب العالمين، مخلصًا له
الدين، وما أنا أول المهتدين.
وجدت الإسلام دينًا سمحًا سهل المأخذ، بين العقيدة، واضح البرهان، مجردًا
مِن الغموض، لا يفتقر أتباعه في عبادة خالقهم إلى واسطة، فارتضيته لنفسي
والحمد لله.
لقد كنت بادئ بدء أردت أن أقلد أسلافي الكاثوليكيين، ولكن الفكر أبى أن
يعتقد شيئًا لا دليل عليه، وكيف يقام البرهان على صحة العقائد الكاثوليكية
وقساوستها ورهبانها وكردينالاتها عاجزون عنها.
بعد ذلك مكثت نحو عشرين سنة أبحث عن الدين الحق لأكون من شيعته، إذ
لا غنى لمخلوق عن عبادة خالقه.
فاتفق لي في أواخر هذه المدة أن جبت بعض الأقطار الإسلامية، فأثّر جمال
حياة أهلها تأثيرًا عظيمًا على قريحتي الفنية، واستهوتني محاسنها إلى أن اندفعت
للبحث في شؤونهم إجمالاً وتفصيلاً، وإذ ذاك أخذ دين الإسلام يستميلني شيئًا فشيئًا،
إلى أن تجلّى اليقين أمام عيني، وعلمت أن الدين عند الله الإسلام.
وها أنا أبيّن للواقفين على هذا الكتاب خلاصة أبحاثي من أولها إلى آخرها
تفنيدًا لمزاعم الواهمين. اهـ.
ثم كتب له ملحقًا في المباحث الآتية وهي: (تسامح الإسلام) و (انتشار
الإسلام) و (في الخلق) نقلاً عن كتاب الإسلام الذي ألفه الكونت هنري دي
كاستري، ثم (القرآن) نقلاً من (البحث في أصل اللغات) تأليف جان جاك
رسو، ومِن (حياة محمد) تأليف بولانفير، ومِن (الإسلام) تأليف هنري دي
كاستري.
وبعد ذلك مبحث (في المرأة) من مختصر (في حقوق المسلمات) تأليف
رحمين حلو. ومن (مختصر الإنكليزي في الإسلام) تأليف ريفي. يتلوه مبحث
(قضاء الكنيسة الكاثوليكية على المرأة) ثُم (في تعدد الزوجات) من كتاب
(الإسلام على حفض القرآن) ؛ تأليف قرسين دي تاسي.
***
(الإسلام) مجلة دينية علمية أخلاقية سياسية فارسية تصدر في طهران في
كل شهر عربي مرة، صفحاتها 48 بالقطع الصغير. رئيس تحريرها حسين كمال
السلطان، قيمة اشتراكها 12 قرانًا في إيران ويضاف أجرة البريد للخارج. وثمن
العدد الواحد قران واحد. عنوانها (طهران خيابان حرية مركز توزيع كل جرائد
داخلية وخارجية) .
(العرفان) مجلة شهرية شهيرة تصدر في صيدا سنتها عشرة أشهر تبحث
في العلم والأدب والاجتماع وتعنى عناية خاصة بشؤون الشيعة، وكانت حجبت عن
قرائها زمنًا ثُم عادت إلى خدمتها وهي ذات أربعين صفحة بقطع المنار، وقيمة
اشتراكها في البلاد العثمانية ريال مجيدي، وفي الخارج ستة فرنكات.
(المنهل) مجلة أدبية تاريخية اجتماعية مصوّرة عند الاقتضاء. تصدر مرة
في الشهر في القدس الشريف لمنشئها محمد موسى المغربي. صفحاتها 40، قيمة
اشتراكها ريال ونصف ريال مجيدي في البلاد العثمانية. وفي الخارج عشرة
فرنكات.
_________
(*) كتب تقاريظ هذا الجزء - ما عدا الأول منها - شقيقنا السيد صالح مخلص رضا.
(1)
المنار: أنطاكية ليست فرضة (ميناء) وكذلك رومية.
(2)
المنار: العبارة مقتضبة لم تؤدِّ معنى ما في الأناجيل وهو أنه سمى الخبز جسده وأمرهم بأكله وسمى الخمر دمه وأمرهم بشربها.
(3)
أي يوم الأحد الذي يضفرون فيه سعف النخل بأشكال مخصوصة.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الإصلاح اللامركزي
وطلابه في البلاد العربية
تألف حزب اللامركزية بمصر لمطالبة الدولة بتغيير شكل إدارتها في المملكة
كلها - وإن كان جميع مؤسسيه من العرب السوريين - لأنهم يريدون الحياة للدولة
كلها لا لبلادهم فقط، ولو طلبوا الإدارة اللامركزية لبلادهم وحدها لَمَا كان ذلك أنفع
لهم ولا أرجى لقبول طلبهم، إذ رضاء الدولة بجعل إدارة بعض ولاياتها مركزية
وبعضها غير مركزية بعيد عن العقل والتصور، وتألفت في أثناء ذلك الجمعية
الإصلاحية ببيروت لطلب إصلاح معين لولاية بيروت خاصة.
وتلتها جمعية في البصرة لطلب الإصلاح لولاية البصرة خاصة. وما حفز
العرب في هذه المواضع وأهاب بهم إلى طلب الإصلاح والدولة تئن من أثقال
الحرب البلقانية التي غلبت فيها على أمرها، إلا لخوفهم أن يكون بقاء الخلل السابق
سببًا لانحلال الدولة وتقسيم الدول لها بالفتح السلمي الاقتصادي أو الاحتلال
العسكري.
ولمّا رفعت هذه الجماعات أصواتها بطلب الإصلاح رددت صداه جماعات
المهاجرين السوريين في أمريكا الشمالية والجنوبية وفي أوربا، واقترح بعض مَن
في باريس منهم تأليف مؤتمر عربي بباريس لإعلان مقاومة كل احتلال أجنبي في
البلاد وللبحث في حقوق العرب في الدولة العثمانية وللمطالبة بها. وعهدوا إلى حزب
اللامركزية إدارة هذا المؤتمر، فاختار الحزب للقيام بذلك كلا من السيد عبد الحميد
الزهراوي وإسكندر بك عمون، ورشح الأول لرياسة المؤتمر على أن يكون بانتخاب
أعضاء المؤتمر، وكذلك كان. وكان من أمر انعقاد المؤتمر ونجاحه واهتمام حكومة
الآستانة به ما هو مشهور.
شعر أركان الحكومة الاتحادية بوجود العرب وعنوا بمبادلة الاحتفالات بينهم
وبين مَن في الآستانة من العرب وأكثرهم طلبة المدارس الأميرية. وسعوا لاستقدام
الوفود من سوريا، واحتفلوا واحتفوا بمَن ذهب منهم إلى الآستانة، وأدبوا لهم
المآدب، وأحبوا التأليف بين طلاب الإصلاح ومَن عارضهم وشنع عليهم تزلفًا
للحكومة، ولكن لم يتم لهم هذا. وكانت هذه المظاهرات التي اهتم بها أهل الآستانة
تذكر بالسخرية في غيرها، ويعدها العرب في مصر وسورية والعراق وفي البلاد
الأجنبية خداعًا وتحذيرًا.
وأمّا الأمر الذي كان محل النظر، وموضع الأمل عند بعض العرب، فهو
الاتفاق الذي عقدته جمعية الاتحاد والترقي مع رئيس المؤتمر العربي، وأعطته
العهد والميثاق لتنفذنه كله. وهو مؤلف من اثنتي عشرة مادة. ولهذا مكث رئيس
المؤتمر بضعة أشهر في باريس ينتظر تنفيذه، وكانت الآستانة تجذبه إليها وحزب
اللامركزية يجذبه عنها، حتى اختار الحزب أخيرًا أن يعود إلى مصر، وأن يمر
بالآستانة مختبرًا إذا شاء، فشاء وجاء الآستانة، وراجع رجال الحكومة في أمر
تنفيذ الإصلاح الموعود به، فقالوا: إننا على عهدنا، وقد بدأنا من التنفيذ بإنشاء
مدرستين سلطانيتين باللغة العربية إحداهما في دمشق والأخرى في بيروت،
وبتقرير جعل عسكر كل ولاية في منطقتها العسكرية، وبجعل اللغة العربية رسمية
في المحاكم ودواوين الولايات العربية، وباختيار الموظفين لهذه الولايات من
العارفين باللغة العربية.
وأما ما يتعلق بالنافعة والأوقاف والمعارف فهو يتوقف على وضع القوانين له
ونحن شارعون في ذلك بتنقيح قانون الولايات ووضع قوانين أخرى، ثُم إن تنفيذ
بعض ذلك يتوقف على وجود المال، ولا مال الآن. وأمّا المناصب والوظائف في
مجلس الأعيان ومصالح الحكومة العليا؛ فهَلُمّ ساعدنا على اختيار الأكْفاء لها لنعينهم
بالتدريج.
هذا ملخص ما نتذكره من معنى أجوبة الحكومة للسيد الزهراوي بعد مراجعات
متعددة، ووعود مبهمة، كان فيها بين اليأس والرجاء مدة طويلة، حتى عزم على
مغادرة الآستانة. ثم شرعت الحكومة في تنفيذ ما لا يتوقف على القوانين ولا المال
من المطالب بالمشاورة معه، ومنها تعيين ستة أعضاء من العرب في مجلس
الأعيان؛ أحدهم السيد الزهراوي نفسه، إذ اقتضت الحال أن يكون في الآستانة
مراقبًا لتنفيذ سائر ما وعدت به الحكومة من الإصلاح، ومنها تعيين الشيخ إسماعيل
الحافظ من علماء طرابلس الشام عضوًا في مجلس المعارف الأعلى، وهو في
الذروة العليا من نابغي العرب علمًا وعملاًَ وأخلاقًا وعقلاً ورأيًا واستقامةً. ومنها
تعيين عبد الوهاب أفندي الإنكليزي (لقبًا لا نسبًا) وشكري أفندي العسلي مفتشين
في بعض الولايات، وهما من أشهر نابغي العرب من سلك الحكومة الملكي
المستحقين للمناصب العالية. ومنها تعيين أناس آخرين في (الدوائر) العالية في
العاصمة.
وكان رجال الآستانة قبل هذا قد أرضوا بعض رجال جمعية بيروت
الإصلاحية بالوعود الجميلة فسكنت حركتها بالتدريج، واستمالوا السيد طالب بك
النقيب زعيم البصرة، فأعلن في الجرائد الرضاء عن الحكومة والاتفاق معها وتبرع
للأسطول العثماني وجمع له مالاً كثيرًا.
ثُم إن حزب اللامركزية رأى من الصواب أن يحفظ صلته بالسيد الزهراوي
كما حفظ هو صلته بالحزب بعد قيامه بما عهد إليه خير قيام، حتى إنه لم يحل ولم
يرحل، ولم يحلّ ولم يقعد إلا باستشارة الحزب، ولأن زعماء الحزب يثقون كل
الثقة بصدقه في القول وبإخلاصه في العمل لمصلحة الأمة، فهو بهذا خير من
يوقفهم على أعمال حكومة العاصمة فيكونون على بصيرة منها، فلا يبنون عملهم
وسعيهم على الظنون والأوهام، فقرر الحزب باتفاق الآراء إقرار السيد الزهراوي
على قبول منصب الأعيان والثقة به، أي في التوسط لدى الحكومة بمطالب
الإصلاح.
فعل الحزب هذا وهو غير موقن ولا مرجح لإنجاز الحكومة ما وعدت به
السيد الزهراوي، كما أنه غير موقن بأنها لا تنجزها، فكانت الحكمة في عدم قطع
الصلة بالحكومة، ومطالبتها بالبرهان والحجة، على كون الحزب لا يألو جهدًا في
السعي إلى الإصلاح من طريق الأمة، فهو يسلك الطريقين إلى مقصده، فإذا لم
يصل مِن أحدهما وصل من الآخر.
اتفق أن الحزب لم ينشر شيئًا جديدًا بعد بيانه العام الذي نشره يوم المظاهرة
البرقية السلمية، يطلب البلاد كلها للإدارة اللامركزية؛ لأنه لم يتجدد شيء جديد
يدعو إلى النشر، فظن البعداء عن مركز الحزب والذين ليس لهم صلة مكاتبة به،
أن الحزب قد سكن وسكت أو انحل كجمعية بيروت وجمعية البصرة. وأنه رضي
من الحكومة بما قالت وما فعلت، وطفقت الجرائد العربية في أمريكة تطعن في
الحزب وفي طلاب الإصلاح كافة، وزعماء بيروت منهم خاصة.
يدخل الكلام بهذا الموضوع في أربع مسائل: الجماعات الإصلاحية،
والمعترضون عليها الآن، وما يعترضون به، والحالة الحاضرة. ولنا في كل
مسألة منها قول وجيز.
أما الجماعات الإصلاحية فثلاث كما تقدم: جماعة حزب اللامركزية وهي
تعمل للمملكة كلها وإن كان العاملون فيها عربًا، وتأثير عملها الأول في البلاد
العربية. ومتى وجد الإصلاح في البلاد العربية يوجد في غيرها حتمًا إما سابقًا وإما
لاحقًا، وجماعة بيروت وجماعة البصرة، ومطالب كل منهما موضعية، ولكن
زعماءهما متفقون مع حزب اللامركزية في مطالبه العامة كلها، إذ النسبة بينه
وبينهما كالنسبة بين الخاص والعام فلذا سكتت الجماعتان اليوم عن مطالبهما العامة
لأسباب اقتضت ذلك، فذلك لا ينفي بقاء اتفاق أهل الرأي منهما مع حزب
اللامركزية في المطالب الإصلاحية العامة، وإن لم يساعده على ذلك جميع أفرادهما
في الشكل الأول، فقد يساعده كثير منهم في شكل آخر. والحق الواقع أن الحزب
الآن أقوى ناصرًا وأكثر عددًا ممّا كان عليه من قبل، خلافًا لما يتوهمه البعيد عنه،
فقد تشعبت شعبه وكثرت فروعه في الولايات، ورسخت مقاصده في النفوس، وقد
قويت الآمال فيه، وانحصر رجاء الولايات في سعيه، وإن صلة السيد الزهراوي
به لم تزد رجاء الولايات فيه الا قوة وثباتًا، وإن كان أهل الرأي من شعبه ولجانه
فيها متفقين مع إخوانهم الذين في مصر على كون ما منت به الحكومة على العرب
لا يعد شيئًا مذكورًا في جانب مطالب الحزب، ولا ينبغي أن يزيده إلا جدًّا واجتهادًا
في السعي.
وأما المعترضون فمنهم المخلص الذي لا علم له بدخائل الأمور وحقائقها،
ومنهم المخلص المطلع الذي يريد بالاعتراض حفز الهمم والحث على الإسراع في
العمل، ومنهم من لا حظ له من المطالبة بالإصلاح إلا التلذذ بمقاومة الدولة
العثمانية والتهويش عليها، وهو لا يرجو لها ولا منها صلاحًا، ولا يحب لها بقاءً،
فهو نصير المتألبين عليها، وظهير المقاومين لها، وعدو الراضين منها، كيفما
كانوا، وبأبهى شكل ظهروا، ومراده أن تستولي الدول الأوربية عليها ولا يرضيه
ما دون هذا. ومنهم من لا يسهل معرفة قصده، ولا حقيقة مراده. فأما المخلصون
في طلب الإصلاح فلا يلبثون أن يرجعوا عن إنكارهم، وغير المخلصون لا علاج
لهم.
وأغرب ما رأى الحزب من المعارضة والمقاومة وأبعده عن المعقول ما كان
من أحد كتاب نصارى السوريين الذين انتموا للحزب. فقد حضر كثيرًا من جلسات
اللجنة العليا بطريق الاستثناء، كان يلقي فيها دلوه بين الدلاء، فينفرد بالمعارضة،
ويلح بطلب جعل المصالح والمنافع قسمة بين المسلمين والنصارى، وقد اتفق
الفريقان على إنكار هذا الرأي وضرر هذه القسمة، وكونها تكون مثار النزاع
والتخاصم والعداوة والبغضاء، ويجزم أهل العلم والرأي من النصارى بأن ضرر
هذه القسمة عليهم أشد، وأن السكوت عن كل ما يتعلق بالدين والمذاهب خير لهم
وأنفع؛ ولكن هذا الكاتب الذي كان ينكر ذكر الدين في أمور السياسة وشؤون الدنيا
بث فكره هذا بما نشره في بعض جرائد مصر وأمريكة، ونفّر نصارى المهاجرين
في أمريكة مِن الحزب، ونهاهم عن مساعدته باسم المسيحية وحقوق المسيحيين
وهضم المسلمين لها، حتى إنه كتب في جريدة الهدى الأمريكية التي تعنى بنشر ما
يكتبه: إن صاحب المنار أنكر على مسلمي بيروت اتفاقهم مع نصاراها على جعل
نصف أعضاء المجالس المحلية من المسلمين والنصف الآخر من غيرهم. وهي
دعوى غير صحيحة، فإن المنار أنكر من لائحة جمعية بيروت الإصلاحية أكثر ما
أعطته للمفتشين والمراقبين من الأجانب، ولم ينكر مسألة المناصفة في المجالس؛
بل عدها دليلاً على إخلاص المسلمين وصدقهم الاتفاق مع النصارى؛ لأنهم تنازلوا
لهم عن بعض حقوقهم.
وأما الانتقاد والطعن الذي صوّب إليهم فهو أن الترك أرضوهم ببعض
المناصب والوظائف، فظهر أن طلب الإصلاح كان شبكة لصيد المنافع، ويحتجون
على هذا بأن المؤتمر العربي قد قرر أن لا يقبل أحد من المنتمين إلى لجان
الإصلاح العربية أي منصب في الحكومة العثمانية إذا لم تنفذ القرارات التي صادق
عليها - إلا بموافقة خاصة من الجمعيات المنتمين إليها. وخص بأشد الانتقاد السيد
الزهراوي وعميدي المسلمين والنصارى في جمعية بيروت الإصلاحية - محمد
أفندي بيهم ونخلة بك سرسق؛ إذ قبلوا أن يكونوا أعضاء في مجلس الأعيان قبل
تنفيذ الإصلاح في البلاد العربية.
ولهؤلاء الثلاثة ثلاثة أجوبة يردون بها تلك المطاعن:
(أحدها) : إن الحكومة قد شرعت في تنفيذ الإصلاح ولا يعقل أن لا يقبل
العرب طلاب الإصلاح منصبًا ولا عملاً فيها إلا بعد تنفيذ الإصلاح كله بأيدي
الترك ومقاومي الإصلاح من العرب، كأننا نقول: إننا بعد أن يصلح لنا هؤلاء
بلادنا نقبل المناصب والوظائف فيها!
(الثاني) : إن عضوية الأعيان لا تعد وظيفة أو منصبًا في الحكومة؛ لأن
عمل الأعيان كعمل المبعوثين (النواب) : وضع القوانين ومراقبة الحكومة في
تنفيذها، فهو سيطرة على الحكومة لا خدمة لها.
(الثالث) إن اللجان الإصلاحية التي تنتمي إليها قد وافقت على أن تكون في
مجلس الأعيان. وأمّا الذين قبلوا المناصب في غير مجلس الأعيان فيمكن لمن كان
منتميًا إلى بعض لجان الإصلاح أن يجيب بالجواب الأول، وهو جواب ضعيف إذا
لم يعززه الثالث.
سواء على حزب اللامركزية اقتنع المنتقدون والطاعنون بهذه الأجوبة أم لم
يقتنعوا، فإن لجنة الحزب العليا لم تدخل في باب المناصب والوظائف، وقد دعي
رئيسه (رفيق بك العظم) إلى الآستانة مرارًا قبل ذهاب الزهراوي إليها وبعده -
وكان لا يزال مرشحًا لمنصب الوزارة - فلم يجب الدعوة، والسيد والزهراوي -
وإن حضر تأسيس الحزب - لم يحب أن يدخل في لجنته الإدارية ولا في الانتخاب
لها؛ لأنه جاء مصر زائرًا لا مقيمًا. ولكن مكانته العالية من نفوس لجنة الحزب
العليا، ومن نفوس سائر طلاب الإصلاح في سورية وغيرها هي التي حملت اللجنة
على اختياره للمؤتمر، ثُم إن حسن سلوكه في المؤتمر، وبثباته بعد إتمام عمله فيه
على السعي إلى الإصلاح مع الارتباط بالحزب وتقيده بقراراته، وانقطاعه عن كل
عمل لأجله، على كونه ينفق من مال نفسه - وناهيك بسعة النفقات في أروبة - كل
ذلك كان من الأسباب الجديدة لرضاء الحزب بقبوله لمنصب عضوية الأعيان
والتوسط لدى الحكومة في الإصلاح، وأما السبب الأول فهو كفاءته الشخصية في
صدقه وإخلاصه وتاريخه الحميد النقي، كما أشرنا إلى ذلك من قبل.
بقيت (المسألة الرابعة) وهي بيان حالة الحزب الحاضرة. والقول الوجيز فيها
أن الحزب - وإن لم يسمع له صوت عالٍ من عدة أشهر - قد أصبح أقوى مما كان،
منذ أسس إلى الآن، فقد كثرت فروعه في الولايات وانتظمت، وقويت الثقة به
وثبتت، وانحصرت آمال طلاب الإصلاح فيه أو كربت، ويصح أن يقال: إن
طوره الأول كان طور تمهيد للعمل بإعداد الأفكار، ثم بتأليف اللجان، وقد انتهى
الآن بطور القيام بالأعمال، وإن قيامه بالعمل، واضطلاعه بالسعي، هو خير
خدمة للدولة قبل الأمة، لما أثبته الماضي لرجاله من الرؤية وحسن النية، فكانت
المصلحة في أن يدير هو الحركة، لئلا تفضي إلى الفوضى، أو يتغلب عليها الغلاة
المتطرفون، الذين ظهرت في مدة سكوته أصواتهم بنغمة الثورة، وتوزيع
منشورات أقلقت الحكومة وعقلاء الأمة. ويقال: إنه يريد أن يبدأ عمله بجمع مؤتمره
السنوي وتجديد انتخاب أعضاء اللجنة العليا، وعرض المشروعات الجديدة للعمل
عليها، ومنها تحويله إلى جمعية، إذ لم تصدق عليه الحكومة، فقد اقترح هذا
كثيرون. وعسى أن تكفيه الحكومة هذا الأمر، فتبادر إلى الإصلاح من تلقاء نفسها
والله الموفق.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الشيخ علي يوسف
(4)
أخلاقه وسجاياه:
المنار لا يعنى بترجمة أحد ترجمة تاريخية محضة؛ وإنما يعنى من تراجم
الناس ببيان الأخلاق الحسنة والأعمال النافعة، متى تكون مثالاً حسنًا، وقدوةً
صالحةً؛ لأن غاية المنار إصلاحية فهو يعنى بكل ما يتوسل به إلى الإصلاح،
ويرغّب الناس في الفضائل ومحاسن الأعمال، وإن ذكرنا ما يقابل ذلك فإنما نذكره
لأن العبرة لا تتمّ إلا به، ولا يجعل ذكر المساوئ هو الأصل في الموعظة، وقد
كان ما ذكرناه من ترجمة هذا الرجل دائر على هذا القطب، وأحببنا أن نختمها بهذه
الكلمات التي تذكر الناسي وتنبّه الغافل لِما هو المقصود بالذات. فنقول: إن هذا
الرجل نبه بعد خمول، وارتفع بهمته وأخلاقه إلى الطبقة العليا في أمته، فصار من
بطانة أمير البلاد وأهل ثقته. وصاحب التأثير الأول في أفكار المصريين، والرأي
المحترم في جميع الأقطار الإسلامية، وكم من متعلم نال الدرجات العلى في العلوم
والفنون العربية والإفرنجية يتمنى أن يصل إلى ما وصل إليه الشيخ علي يوسف بما
دون درجات علمه، وهو لا يستطيع إلى ذلك سبيلاً؛ لأن مَن أبطأت به سجاياه
وأخلاقه لا تسرع به علومه وفنونه، فأحب أن تتذكر نابتتنا أن الرجل قد ارتقى
بالعزيمة وقوة الإرادة والصبر والثبات وعلو الهمة والإخلاص للملة والأمة، فمَن
استطاع أن يتخلق بهذه الأخلاق، فليقصد بها ما شاء من مراتب الكمال، ومقامات
الرجال. وليحذر المعتبر بسير رجال عصره من الوقوع في مثل الخطأ الذي ارتكبه
هذا النابغة وأمثاله من النوابغ (كقاسم بك أمين) وهو محاولة استعجال الثروة
الواسعة التي تليق بمقامهم الاجتماعي بسلوك الطرق التي ربما تؤدي إلى ضد
مرادهم، والشيخ رحمه الله عصمته تربيته الدينية أن يفتتن بما افتتن به كثير من
كبرائنا المتفرنجين من المقامرة، وإنما تورط في شراء الدور والقصور وعرصات
الأرض المعدة للبناء في تلك المدة التي خرج فيها التغالي بالأثمان عن الحد الطبيعي
الذي وصلت إليه درجة العمران في البلاد. ولما عادت (سنة ردّ الفعل) بأثمان
المباني وعرصاتها إلى ما دون الثمن المعتدل لها، بعد ذلك الإفراط فيها، غرق
الرجل مع مَن غرق في طوفانها، ولولا ذلك لَمَا قصرت ثروته بما يليق بمقامه
الاجتماعي، على ما كان من تقصيره في إدارة المؤيد المالية. وما ذكرنا هذا - على
كونه معروفًا مشهورًا - إلا ليكمل الاعتبار بسيرة فقيدنا النافعة طردًا وعكسًا، ونسأل
الله تعالى أن يتغمده برحمته، بمنّه وفضله وكرمه.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
استفتاء
في فسخ نكاح المعسر
ما قولكم في امرأة فقيرة غاب عنها زوجها من مدة سنين وترك عندها ولدًا
ولم يترك لها شيئًا لنفقتها ونفقة ولده، ولم يرسل لهما سوى شيء يسير لا يقوم بنفقة
الولد وكتبت له عدة كتب طلبت منه النفقة الكاملة لها ولولدها أو الطلاق فتعنت ولم
يجب عليها! ! ثُم التمست من شيخه شيخ الجاوى فكتب له ولم يجب. فهل لها
طلب فسخ النكاح عند الحاكم الشافعي أم لا؟ وهل لو رفعت أمرها إليه وتحقق
وثبت عنده جميع ما ادّعته المرأة بالبينة الكاملة وفسخ نكاحها يكون فسخه واقعًا
موقعه ولها بعد تمام العدة من الفسخ المذكور التزوج أم لا؟ أفتونا مأجورين.
(جواب مفتي الشافعية بمكة المكرمة)
باسمه سبحانه وتعالى أبتدئ الجواب، وأستمد منه تعالى العون والهداية
للصواب.
في الحقيقة يقع كثيرًا من بعض الرجال الظلم والتعدي والإيذاء في حق النساء
البائسات، وذلك حرام وفاعله آثم مخالف لِمَا أمر الله ورسوله - صلى الله عليه
وسلم - في حقهن، ومن ذلك التزوج بهن ثم السفر وتركهن بلا نفقة ولا منفق،
فجزى الله إمامنا الشافعي رضي الله عنه خيرًا، حيث سوّغ لهن فسخ النكاح
عند تضررهن، ويسوغ للحاكم متى رفعن أمرهن إليه أن يفسخ نكاحهن، ثم بعد
تمام العدة يتزوجن بمن شئن، وكذلك إمام دار الهجرة الإمام مالك رضي الله عنه.
فالمرأة المسئول عنها متى رفعت أمرها إلى الحاكم وثبت لديه تضررها
ودعواها فله حينئذٍ فسخ نكاحها من الزوج المذكور، وفسخه سائغ وواقع موقعه، ولها
بعد تمام عدة الفسخ المذكور التزوج بمَن يقوم بشأنها. قال في الأسنى متنًا وشرحًا:
واختار القاضي الطبري وابن الصباغ وغيرهما جواز الفسخ لها إذا تعذر تحصيلها
للنفقة في غيبته للضرورة، وقال الروياني وابن أخته صاحب العدة: إن المصلحة
الفتوى به، وقال في فتح المعين: واختار جمع كثيرون من محققي المتأخرين في
غائب تعذر تحصيل النفقة منه - الفسخ، وقوّاه ابن الصلاح. وقال في فتاويه: إذا
تعذرت النفقة لعدم مال حاضر مع عدم إمكانها أخذها منه حيث هو بكتاب حكمي
وغيره لكونه لم يعرف موضعه أو عرف ولكن تعذرت مطالبته، عرف حاله في
اليسار والإعسار أم لم يعرف فلها الفسخ بالحاكم، والإفتاء بالفسخ هو
الصحيح. اهـ.
ونقل شيخنا كلامه في الشرح الكبير، وقال في آخره: وأفتى بما قاله جمع من
متأخري اليمن. وقال المحقق الطمبداوي في فتاويه: والذي نختاره تبعًا للأئمة
المحققين أنه إن لم يكن له مال كما سبق لها الفسخ وأنه كان ظاهر المذهب خلافه لقوله
تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: 78) ، ولقوله صلى الله
عليه وسلم: (بعثت بالحنيفية السمحة) ولأن مدار الفسخ على الإضرار؛ ولا
شك أن الضرر موجود فيها إذا لم يمكن الحصول إلى النفقة منه وإن كان موسرًا؛ إذ
سر الفسخ هو تضرر المرأة وهو موجود - لا سيّما مع إعسارها - فيكون تعذر
وصولها إلى النفقة حكمه حكم الإعسار. اهـ.
وقال السيد عبد الله بن عمر الحضرمي: إنه يجوز فسخ النكاح من زوجها
حضر أوغاب بتسعة شروط
…
، إلى أن قال: ولو غاب الزوج وجهل يساره
وإعساره بانقطاع خبره ولم يكن له مال بمرحلتين فلها الفسخ بشرطه، كما جزم به في
النهاية وزكريا والمزجد والسمباطي وابن زياد وابن قاسم والكروي وكثيرون.
وقال ابن حجر في التحفة: والفسخ وهو متجه مدركًا لا نقلاً. اهـ.
بل اختار كثيرون وأفتى به ابن عجيل وابن الصباغ والروياني: أنه لو تعذر
تحصيل النفقة من الزوج في ثلاثة أيام جاز لها الفسخ حضر الزوج أم غاب، وقوّاه
ابن الصلاح ورجّحه ابن زياد والطمبداوي والمزجد وصاحب المهذب والكافي
وغيرهم فيما إذا غاب وتعسّرت النفقة منه ولو بنحو شكاية. قال ابن قاسم: وهذا أولى
من غيبة ماله وحده والمجوز للفسخ. أما الفسخ بضررها بطول الغيبة وشهوة
الوقاع فلا يجوز اتفاقًا وإن خافت الزنا. والله سبحانه وتعالى أعلم.
أمر برقمه مفتي الشافعية بمكة المحمية الراجي غفران المساوي:
عبد الله بن السيد محمد صالح الزواوي
كان الله لهما آمين.
…
...
…
...
…
...
…
الختم
صورة ما كتبه بعض كبار علماء
الشافعية بالأزهر على هذه الفتوى
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أفاد العلامة السيد مصطفى الذهبي في المسائل الفقهية أن أصل مذهب الإمام
الشافعي أنه لا فسخ ما دام الزوج موسرًا، أي لم يعلم إعساره وإن انقطع خبره
وتعذّر استيفاء النفقة منه، وإن الذي جرى عليه ابن الصلاح وشيخ الإسلام وكثير
من المحققين أنه إذا تعذر استيفاء النفقة من كل الوجوه لانقطاع خبره أو تعززه أي
تواريه بحيث لا يتمكن الحاكم من جبره، ولم يوجد لكل منهما مال فسخت الزوجة
بالحاكم، قالوا: لأن سر الفسخ بالإعسار هو التضرر، والتضرر موجود هنا ولو مع
اليسار، فلا نظر لعدم تحقق الإعسار، وظاهر أنه لا إمهال هنا لأن سبب الفسخ -
كما علمت - هو محض التضرر من غير نظر لليسار والإعسار. انتهى.
وإن أردت بسطًا في المقام فراجع المسائل المذكورة صحيفة 67و 68، والله
أعلم.
كتبه
…
...
…
... كتبه
…
...
…
... كتبه
محمد النجدي سليمان العبد بالأزهر الشريف محمد إبراهيم القاياتي الشافعي
(المنار)
إن ما علل به أولئك الفقهاء جواز الفسخ صحيح وإن رفع الحرج
ونفي الضرر والضرار قطعي في الشريعة. ومِن أشد الضرر والحرج والعنت عدم
القيام بحق الزوجية الثابت بحديث: (وإن لزوجك عليك حقًّا) المتفق عليه، فلا
عبرة بقول من قال: إنه لا يفسخ به وإن خافت الزنا على نفسها؛ لأنه مخالف لأدلة
الشرع القطعية. وقد سبق لنا في المنار بيان فتوى المشيخة الإسلامية في
الآستانة بالفسخ على الغائب والمعسر، وصدور الإرادة السنية بذلك.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
محاضرة الدكتور كريستيان سنوك هرغرنج
الهولندي في الإسلام ومستقبل المسلمين
وعَدْنَا أن نعلق شيئًا على هذه المحاضرة التي نشرناها في الجزء الماضي
ووفاءً بالوعد نقول:
(1)
يظهر من كلام الدكتور أنه اختبر المسلمين اختبارًا واسعًا قلّما يصل
إلى مثل غوره الأجنبي، فهو قد أصاب في أكثر ما ذكره عنهم من رأي وخبر، ولكنه
ما عرف حقيقة الإسلام وكنهه، وأنَّى له أن يعرف ذلك؟ ومِن أين يعرفه؟
يقول: إنه درس الإسلام وعرف أصوله وفروعه من مكة المكرمة حيث أقام
ثمانية أشهر يتلقى عن بعض العلماء! سبحان الله! إن أهل مكة أقل أهل الأمصار
الإسلامية عنايةً بالعلم الديني وغيره، ومَن يوجد فيها من المدرسين الغرباء، فقلّما
يوجد فيهم أحد من المبرزين الأقوياء، وإن وجد فيهم من يتقن بعض العلوم الشرعية،
فهو لا يقرأ الدروس إلا على طريقة متأخري المسلمين العقيمة، طريقة المناقشة في
عبارات بعض كتب المذاهب، فالثمانية الأشهر لا تكفيه لقراءة عقيدة كالنسفية أو
السنوسية، ونحوهما من كتب الكلام على مذهب الأشعرية، ولا لقراءة باب
الطهارة والصلاة من متوسطات كتب الشافعية أو الحنفية. وعلم الكلام - الذي هو
علم فلسفة العقائد الإسلامية - يقول فيه الإمام الغزالي: إنه ليس من علوم الدين
وإنما هو حارس للعقيدة كالعسكر الذين يحرسون البلاد أو الحُجاج مثلاً؛ بل نقول إننا
على سعة اختبارنا للعالم الإسلامي لا نعرف مكانًا في الأرض تبين فيه حقيقة الإسلام
التي يمثلها القرآن وسنة الرسول المتبعة وسيرة السلف الصالح، من العقائد والأخلاق
والآداب، والسياسة والإدارة والقضاء، تبيانًا سالمًا من الشوائب والأوهام، بحيث
تتلقى بسهولة في ثمانية أشهر أو أعوام (وأرجو أن يوفق لهذا من يتخرجون في
مدرسة دار الدعوة والإرشاد) .
(2)
اعترف هذا الدكتور الهولندي بأنه ادّعى الإسلام نفاقًا أو خداعًا
للمسلمين ليسبر غورهم وغور دينهم من حيث تأثيره في حياتهم المدنية والسياسية،
وقد فعل مثل هذا غيره من أفراد الشعوب الأوربية أصحاب المستعمرات الإسلامية،
كالفرنسيس والروس والإنكليز. ولو كان للمسلمين حكومات منظمة، وجمعيات
إصلاحية عامة، لَمَا تيسر لهؤلاء الجواسيس ما يتيسر لهم وأمر المسلمين فوضى.
وإننا نرى هؤلاء المستعمرين يراقبون كل غريب يدخل مستعمراتهم ولا سيّما إذا
كان مسلمًا. فلا يفوتهم من حركاته ولا أقواله شيء.
(3)
بيّن الدكتور أن الإسلام الديني كان قائمًا على أساس الإسلام
السياسي، وأن المسلمين كانوا واثقين بدينهم راضين به إذ كانوا أحرارًا يرون أن
العالم كله ملك لهم بالفعل أو بالقوة، عليهم أن يفتحوا منه ما لم يفتحوه. وهذا الذي
ذكره عن المسلمين هو الذي عليه الإفرنج الآن، فهم يرون أن العالم كله ملك لهم،
ولذلك يتفقون فيما بينهم على اقتسام الممالك المستقلة؛ ثم ينفذون ذلك، ولا مجال هنا
للبحث في تفصيل هذا وبيان مآخذه. ولكننا ننبه عقلاء القراء إلى الاعتبار بحالهم
السابقة وحال الأوربيين الحاضرة، ثُم العبرة كل العبرة فيما رتبه هذا السياسي
الكبير على هذا وهو:
(4)
بيّن أن الأوربيين قد سلبوا المسلمين ذلك الاستقلال والحرية بالتدريج،
فاضطر المسلمون إلى تعديل أفكارهم في الإسلام الديني بعد زوال الأساس الذي
بني عليه وهو الاستقلال السياسي، ثم نقل أن بعض الساسة الأوربيين يرون أن
سقوط الإسلام الديني يتبع سقوطه السياسي، فيزول الإسلام من الأرض، وأنه
يخالفهم في ذلك، ويرى أن الإسلام الديني لا يزول كما أنه لا يبقى كما كان في عهد
استقلاله والثقة به، وسنذكر ملخص رأيه فيه والعبر لمن يعقل من المسلمين في
هذا كثيرة، ومن أهمها غرور المفتونين من المسلمين الذين يظنون أنهم يحفظون
استقلالهم السياسي أو يؤسسون لهم استقلالاً جديدًا مع ترك الدين، فإن هذا إذا جاز
في غير الإسلام لا يجوز فيه؛ لأن جميع المقومات للأمة جعلها الإسلام إسلامية.
(5)
كما بين إزالة أوربا لاستقلال الإسلام السياسي بالاستيلاء على ممالكه
الواسعة، بين تصرفها في إزالة استقلال أفراد المسلمين في أنفسهم، بما بينه من
تغلغل الآراء الأوربية في أفكارهم، وزلزلتها لكثير من مقوماتهم ومشخصاتهم الملية
التي يمتازون بها عن غيرهم، وبها كانوا أمة واحدة، وبيّن أن إزالة بعض
المميزات العادية كاللباس، له دخل في إزالة المميزات الدينية كالصلاة، فقال: إن
أداء الصلوات الخمس صار متعذرًا على المتفرنجين، الذي يلبسون الزي الإفرنجي،
(قال) وسيتبعه الصيام. فجزم بأنهم يتركونه، وبأن الشرائع التي كانت مقدسة
عامّة ستكون خاصّة بحُجاج مكة والمتصوفة.
وطالما نبّهنا المسلمين على ضرر هذا الانسلاخ من العادات والأخلاق بتقليد
الإفرنج، وقد فطنا لهذه المسألة في أثناء اشتغالنا بطلب العمل بطرابلس الشام، فكتبنا
في بحث الزي واللباس فصلاً طويلاً ينافيه أنه ليس للإسلام زي ديني خاص، وأن
ضرر تغيير الزي سياسي اجتماعي، وإنما يمسّ الدين ويكون محرمًا شرعًا لأسباب
عارضة ككونه ضيقًا يمنع من أداء الصلاة. ولكن جماهير المسلمين لا يزالون
بمعزلٍ عن فهم أمثال هذه التنبيهات والنصائح، حتى إنه ليسخر بها من يعدّون
أنفسهم من الفلاسفة والسياسيين، وإنما هم من السفهاء المفتونين.
(6)
ذكر من أثر سلطان الإسلام في أهله أن الآراء الأوربية على شدة
تغلغلها في أنفس المسلمين وتحويلها لعاداتهم وأفكارهم، وتغييرها لشؤون حياتهم،
لم تَقْوَ على محوِ الشعور الديني من قلوبهم، حتى إنه كان يعرف تلاميذه المسلمين
من غيرهم بمجرد قراءته لمنشآتهم؛ لأن روح الإسلام لا بد أن تتجلى في عبارتها.
(7)
يعلل الدكتور بهذا وغيره ما رآه ورواه من خذلان دعاة النصرانية
(المبشرين) فيما يحاولون من تنصير المسلمين؛ لأنهم يعرفون النصرانية ويعتقدون
أنها فسدت وأن الإسلام أرقى منها. وهذا القول الذي قاله صحيح، وإن كان يجهله
من لم يكن له مثل علمه واختباره، فنحن نعتقد أن أصل النصرانية صحيح، وأنه
طرأ عليها التبديل والتغيير، وإن الله أكمل دينه بالإسلام، على سنته في النشوء
وترقي الاجتماع في الأقوام.
(8)
رأي الدكتور في مستقبل المسلمين - الذي أطال في بيانه - هو أنهم
يكونون مثل اليهود في زوال الملك والرضا بحكم الأوربيين وسيادتهم، مع
المحافظة على شعور دينهم وبعض تقاليده مثلهم، ومجاراة الإفرنج في سائر الشؤون
وإن كان فيها ترك أحكام الإسلام وآدابه. واستدل على ذلك بتحول أفكار المسلمين
عن الرضا بالتربية الدينية القديمة إلى لغات الأوربيين وعلومهم وتربيتهم.
(9)
يرى هذا الدكتور الهولندي ما يراه الفرنسيّون وغيرهم أن ما يراد
إدخاله على الإسلام من الآراء والأفكار التي يريدها دعاة النصرانية يجب أن يبث
في المسلمين باسم المدنية لا باسم الدين، فحينئذٍ تقبل. وهذا ما تجري عليه فرنسا
في مستعمراتهم الإسلامية؛ يعني أن المسلمين قد فتنوا باسم المدنية الأوربية
ومظاهرها، فهم يقبلون من بابها كل شيء - وإن لم يوصل إليها - لا يميّزون بين
كفرٍ وإيمانٍ، ولا بين ضارٍّ ونافعٍ. وأمّا ثقتهم بدينهم ورؤيتهم دين النصرانية دونه
فهما مما يحول دون قبولهم لشيء ما من دعاة النصرانية باسم النصرانية.
(10)
ملخص المحاضرة: إن أوربة أزالت استقلال الإسلام السياسي
وانتزعت ملك المسلمين من أيديهم بالتدريج، وإنها شرعت في إزالة سائر مقوماتهم
ومشخصاتهم القومية التي كانوا بها أمة واحدة، دينية وغير دينية، حتى اللغات
والعادات وأركان الدين، وإن أهل الرأي فيها مختلفون في دين الإسلام نفسه: هل
يمكن إزالته من الأرض بعد إسقاط الحكومات الإسلامية كلها أم لا؟ فبعضهم يرون
إمكان ذلك فيبذلون الملايين لدعاة النصرانية لتنصير المسلمين. وبعضهم يرى
الإسلام لا يزول بالمرّة، ولكن ينبغي أن تزال ثقة المسلمين به، وأن يحولوا باسم
المدنية عن جميع ما يربط بعضهم ببعض حتى اللباس، فبهذا يكونون فَعَلَة وزَرّاعًا
للسادة المالكين لبلادهم، إذ لا يستغنون عنهم في استخراج خيرات الأرض، وهذا
ما يسعى إليه قوم آخرون.
ومن العجائب أن محاضرة كهذه تترجمها جريدة سورية بالعربية، وتجعل
عنوانها: (مقاومة الإسلام لنفوذ النصرانية) كأنه كَبُرَ عليها قول الخطيب: إن
المبشرين لا يستطيعون تنصير المسلمين، فعدّت هذا من مقاومة الإسلام للنصرانية،
وهكذا تقول بعض الجرائد القبطية هنا إذا قابل بعض المسلمين طعن المبشرين
بجزء من ألف جزء. فمتى يفهم المسلمون ومتى يعقلون؟
(11)
نحن نسلم قول الكاتب وفاقًا لكثير من أحرار الإفرنج: إن أوربة قد
أزالت استقلال الإسلام السياسي، ولا يصدنا عن هذا التسليم إبقاء أو بقاء خيال من
الاستقلال ضعيف في بعض البلاد، يدير بعضه النفوذ الأوربي ظاهرًا وباطنًا أو
باطنًا فقط، ولا وجود بعض الإمارات الصغيرة غير المنظمة التي يدور حولها
النفوذ الأوربي ولا يجد له الآن منفذًا للدخول في أحشائها؛ كقلب جزيرة العرب، ولو
كان عدد العقلاء الذين يفهمون هذه الحقيقة ولا يغترّون بخيال الاستقلال الرسمي أو
ظلاله مثلنا كثيرًا، لكان نهوض الإسلام من سقوطه السياسي والديني قريبًا، ولكن
جمهور المسلمين الأكبر كالأطفال الذين يظنون أن الصور المتحركة التي يرونها في
الملاعب تمثل الملوك والجيوش والوقائع - هي من الأحياء التي تتحرك وتعمل
بإرادتها.
ولو عرف الدكتور الحاذق النبه حقيقة الإسلام كما عرف أحوال المسلمين
الاجتماعية، ولو دقق نظره بعد ذلك في شؤون المسلمين فضل تدقيق، وقاس
حاضرهم الذي عرفه بماضيهم القريب المظلم وماضيهم البعيد المشرق - لَعلِم أن في
الإسلام قوةً كامنةً لم يكن لليهود مثلها ولا ما يقرب منها عندما زال ملكهم، ولا قبل
ذلك ولا بعده. ولَعلِم أن هذه القوة لو وجدت مَن يحسن استخدامها والانتفاع بها
لأمكنه أن يملك بها الشرق كله، أو يكون سيّده الأول؛ ولكن من سوء حظ الشرق
لم يوجد في هذه القرون الأخيرة عقل نيّر أدرك هذا بقوة أشعته ولا همة عالية
أرادت أن تتصدى له، إلا عقل نابليون الكبير وهمته ولكن حالت الأقدار بينه وبينه.
ولو عقل الدكتور السياسي هذا وخبره لأقنع دولته بأن تكون هي الدولة التي
تسود الشرق بالمسلمين، ولو أقنعها لأمكنها ذلك؛ وإن كان مسلمو بلادها أضعف مِن
غيرهم في قوتي العلم والعمل وفي المجد التالد والطارف. أَمَا لو فطن لمثل هذا
العمل فرنسة أو إنكلترا لكانت كل منهما أقدر عليه من غيرها.
فإذا ظلت هذه الدول تملك عشرات الملايين من المسلمين، محجوبة عن
الحقيقة بما ضربه التاريخ دونه من حجب السياسة والدين، فليس من البعيد أن
تفطن له دولة اليابان، إن صح ما يظنه الأوربيون من أنهم قطعوا طرق الحياة كلها
على هذه البقايا من دول الإسلام.
وأما الإسلام الديني فهو لا يزداد إلا قوة وجدة مهما حل بالإسلام بالسياسي،
وقد حفظ الدكتور منه شيئًا وغاب عنه أشياء: فإن كان بعض المتفرنجين قد تركوا
الصلاة والصيام، ويظن هو - كما يظنون - أن الجماهير سيتبعونهم في هذا
الضلال افتتانًا بزخرف الشهوات المدنية، وما تعبث بعقولهم الآراء الأوربية، فليعلم
أن عدد المصلين يزيد ولا ينقص، وأن هؤلاء المتفرنجين المفتونين سيرجع بعضهم
إلى الهدى، وينبذ المسلمون البعض الآخر نبذ النوى، وأن الإسلام دين المستقبل:
{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ
بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (فصلت: 53) .
_________
الكاتب: أبو إسحاق الشاطبي
الباطنية وغلاة المتصوفة..
بدعهم وتأويلاتهم
من فصول كتاب الاعتصام
للإمام الشاطبي
فصل
(ومنها) بناء طائفة منهم الظواهر الشرعية على تأويلات لا تعقل - يدّعون
فيها أنها هي المقصود والمراد، لا ما يفهم العربي - مسندة عندهم إلى أصل لا
يعقل. وذلك أنهم - فيما ذكر العلماء - قوم أرادوا إبطال الشريعة جملةً وتفصيلاً،
وإلقاء ذلك فيما بين الناس لينحل الدين في أيديهم، فلم يمكنهم إلقاء ذلك صراحًا،
فيرد ذلك في وجوههم، وتمتد إليهم أيدي الحكام، فصرفوا أعناقهم إلى التحلل على ما
قصدوا بأنواع من الحيل، من جملتها صرف الهمم من الظواهر إحالةً على أن لها
بواطن هي المقصودة، وأن الظواهر غير مرادة. فقالوا: كل ما ورد في الشرع من
الظواهر في التكاليف والحشر والنشر والأمور الإلهية فهي أمثلة رموز إلي بواطن.
فمما زعموا في الشرعيات: أن الجنابة مبادرة الداعي للمستجيب بإفشاء سرٍّ
إليه قبل أن ينال رتبة الاستحقاق، ومعنى الغسل: تجديد العهد على من فعل ذلك،
ومعنى مجامعة البهيمة: مقابحة من لا عهد له ولم يؤد شيئًا من صدقة
النجوى؛ وهي مائة وتسعة عشر درهمًا عندهم. قالوا: فلذلك أوجب الشرع القتل
على الفاعل والمفعول به، وإلا فالبهيمة متى يجب القتل عليها؟
والاحتلام: أن يسبق لسانه إلى إفشاء السرّ في غير محله؛ فعليه الغسل، أي
تجديد المعاهدة. والطهر: هو التبري من اعتقاد كل مذهب سوى متابعة الإمام.
والتيمم الأخذ من المأذون إلى أن يسعد بمشاهدة الداعي والإمام. والصيام: هو
الإمساك عن كشف السر.
ولهم من هذا الإفك كثير في الأمور الإلهية وأمور التكليف وأمور الآخرة، وكله
حَوْم على إبطال الشريعة جملة وتفصيلاً، إذ هم ثنوية ودهرية وإباحية
منكرون للنبوة والشرائع والحشر والنشر والجنة والنار والملائكة بل هم منكرون
للربوبية. وهم المسمون بـ الباطنية [1] .
وربما تمسكوا بالحروف والأعداد: بأن الثقب في رأس الآدمي سبع، والكواكب
السيارة سبع، وأيام الأسبوع سبع، فهذا يدل على أن دور الأئمة سبعة، وبه يتمّ.
وأن الطبائع أربع، وفصول السنة أربع، فدل على أن أصول الأربعة هي السابق
والتالي الإلهان - عندهم - والناطق والأساس - وهما الإمامان. والبروج اثنا
عشر، يدل على أن الحجج اثنا عشر، وهم الدعاة. إلى أنواع من هذا القبيل،
وجميعها ليس فيه ما يقابل بالرد، لأن كل طائفة من المبتدعة سوى هؤلاء، ربما
يتمسكون بشبهة تحتاج إلى النظر فيها معهم. أما هؤلاء فقد خلعوا في الهذيان الربقة،
وصاروا عرضة لِلَّمْزِ، وضحكة للعالمين. وإنما ينسبون هذه الأباطيل إلى الإمام
المعصوم الذي زعموه، وإبطال الأئمة معلوم في كتب المتكلمين ولكن لا بدّ من نكتة
مختصرة في الرد عليه.
فلا يخلو أن يكون ذلك عندهم ما من جهة دعوى بالضرورة وهو محال؛ لأن
الضروري هو ما يشترك فيه العقلاء علمًا وإدراكًا، وهذا ليس كذلك.
أمّا من جهة الإمام المعصوم بسماعهم منه لتلك التأويلات. فنقول لِمَن زعم
ذلك: ما الذي دعاك إلى تصديق محمد صلى الله عليه وسلم سوى المعجزة؟
وليس لإمامك معجزة، فالقرآن يدل على أن المراد ظاهره، لا ما زعمت، فإن قال:
ظاهر القرآن رموز إلى بواطن فهمها الإمام المعصوم ولم يفهمها الناس فتعلمناها
منه. قيل لهم: مِن أي جهة تعلمتموها منه؟ أبمشاهدة قلبه بالعين؟ أو بسماع منه؟
ولا بد من الاستناد إلى السماع بالأذن. فيقال: فلعلّ لفظه ظاهر له باطن لم
تفهمه، ولم يُطْلِعْكَ عليه، فلا يوثق بما فهمت من ظاهر لفظه، فإن قال: صرّح
بالمعنى، وقال: ما ذكرته ظاهر لا رمز فيه، أو: والمراد ظاهره. قيل له:
وبماذا عرفت قوله إنه ظاهر لا رمز فيه؛ بل إنه كما قال؟ إذ يمكن أن يكون له
باطن لم تفهمه أيضًا حتى لو حلف بالطلاق الظاهر أنه لم يقصد إلا الظاهر؛
لاحتمل أن يكون في طلاقه رمز هو باطنه وليس مقتضى الظاهر، فإن قال: ذلك
يؤدي إلى حسم باب التفهيم - قيل له: فأنتم حسمتموه بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه
وسلم، فإن القرآن دائر على تقرير الوحدانية، والجنة والنار، والحشر والنشر،
والأنبياء، والوحي، والملائكة، مؤكدًا ذلك كله بالقسم. وأنتم تقولون: إن ظاهره
غير مراد وأن تحته رمزًا. فإن جاز ذلك عندكم بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم
لمصلحة وسرّ له في الرمز - جاز بالنسبة إلى معصومكم أن يظهر لكم
خلاف ما يضمره لمصلحة وسرّ له فيه، وهذا لا محيص لهم عنه.
قال أبو حامد الغزالي رحمه الله: ينبغي أن يعرف الإنسان أن رتبة هذه
الفرقة هي أخس من رتبة كل فرقة من فرق الضلال؛ إذ لا تجد فرقة تنقض مذهبها
بنفس المذهب سوى هذه التي هي الباطنية؛ إذ مذهبها إبطال النظر، وتغيير
الألفاظ عن موضعها بدعوى الرمز. وكل ما يتصوّر أن تنطق به ألسنتهم فإما نظر
أو نقل. أمّا النظر فقد أبطلوه، وأمّا النقل فقد جوّزوا أن يراد باللفظ غير موضوعه،
فلا يبقى لهم معتصم. والتوفيق بيد الله.
وذكر ابن العربي في العواصم مأخذاً آخر في الردّ عليهم أسهل من هذا وقال:
إنهم لا قِبَل لهم به - وهو أن يسلط عليهم في كل ما يدعونه السؤال (بكم) خاصة،
فكل مَن وجهت عليه منهم سقط في يده. وحكى في ذلك حكاية ظريفة يحسن موقعها
هاهنا، وتصور المذهب كافٍ في ظهور بطلانِه، إلا أنه مع ظهور فسادِه وبُعده
عن الشرع قد اعتمده طوائف وبنوا عليه بدعًا فاحشةً، منها مذهب المهدي المغربي؛
فإنه عدّ نفسه الإمام المنتظر، وإنه معصوم حتى إن مَن شك في عصمته أو في أنه
المهدي المنتظر فهو كافر.
وقد زعم ذَووه أنه ألف في الإمامة كتابًا ذكر فيه أن الله استخلف آدم ونوحًا
وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدًا عليهم السلام، وإن مدة الخلافة ثلاثون سنة،
وبعد ذلك فرق وأهواء وشحٌّ مطاع، وهوًى متّبع، وإعجاب كل ذي رأيٍ برأيه،
فلم يزل الأمر على ذلك، والباطل ظاهر والحق كامن، والعلم مرفوع - كما أخبر
عليه الصلاة والسلام والجهل ظاهر، ولم يبقَ من الدين إلا اسمه، ولا من القرآن
إلا رسمه، حتى جاء الله بالإمام فأعاد الله به الدين - كما قال عليه الصلاة والسلام:
(بدئ الدين غريبًا وسيعود غريبًا كما بدئ فطوبى للغرباء)، وقال: إن طائفته هم
الغرباء، زعمًا من غير برهانٍ زائد على الدعوى. وقال في ذلك الكتاب: جاء الله
بالهدى، وطاعته صافية نقية، لم يرَ مثلها قبل ولا بعد، وإن به قامت السموات،
والأرض به تقوم، ولا ضدّ له، ولا مِثل، ولا نِدّ. وكَذَبَ، تعالى الله عن قوله.
وهذا كما نزّل أحاديث الترمذي وأبي داود في الفاطمي على نفسه وأنه هو
بلا شك.
وأول إظهاره لذلك أنه قام في أصحابه خطيبًا فقال: الحمد لله الفعال لما يريد،
القاضي لما يشاء، لا رادّ لأمره، ولا معقّب لحكمه، وصلى الله على النبي
المبشر بالمهدي، يملأ الأرض قسطًا وعدلاً، كما مُلئت ظلمًا وجورًا، يبعثه الله إذا
نُسخ الحق بالباطل، وأُزيل العدل بالجور، مكانه بالمغرب الأقصى، وزمانه آخر
الزمان، واسمه اسم النبي عليه الصلاة والسلام، ونسبه نسب النبي عليه الصلاة
والسلام، وقد ظهر جور الأمراء، وامتلأت الأرض بالفساد، وهذا آخر الزمان،
والاسم الاسم والنسب النسب والفعل الفعل. يشير إلى ما جاء في أحاديث الفاطمي.
فلما فرغ بادَر إليه من أصحابه عشرة. فقالوا: هذه الصفة لا توجد إلا فيك،
فأنت المهدي. فبايعوه على ذلك. وأحدث في دين الله أحداثًا كثيرة زيادة إلى
الإقرار بأنه المهدي المعلوم، والتخصيص بالعصمة. ثُم وضع ذلك في الخطب،
وضرب في السكك، بل كانت تلك الكلمة عندهم ثالثة الشهادة. فمَن لم يؤمن بها أو
شكّ فيها، فهو كافر كسائر الكفار.
وشرع القتل في مواضع لم يضعه الشرع فيها. وهي نحو من ثمانية عشر
موضعًا. كترك امتثال أمر مَن يستمع أمره، وترك حضور مواعظه ثلاث مرّات،
والمداهنة إذا ظهرت في أحد قتل، وأشياء كثيرة.
وكان مذهبه البدعة الظاهرية، ومع ذلك فابتدع أشياء، كوجوه من التثويب؛
إذ كانوا ينادون عند الصلاة (بتاصاليت الإسلام) و (بقيام تا صاليت)
و (سوردين) و (باردي) و (وأصبح ولله الحمد) وغيره. فجرى العمل بجميعها في
زمان الموحدين. وبقي أكثرها بعدما انقرضت دولتهم حتى إني أدركت بنفسي في
جامع غِرْنَاطة الأعظم الرضا عن الإمام المعصوم (المهدي المعلوم) ، إلى أن
أزيلت وبقيت أشياء كثيرة غفل عنها أو أغفلت.
وقد كان السلطان أبو العلاء إدريس بن يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن بن
علي - منهم. ظهر له قبح ما هم عليه من هذه الابتداعات. فأمر - حين استقرّ
بمراكش - خليفته بإزالة جميع ما ابتدع من قبله، وكتب بذلك رسالة إلى الأقطار يأمر
فيها بتغيير تلك السنة، ويوصي بتقوى الله والاستعانة به، والتوكل عليه، وأنه قد
نبذ الباطل وأظهر الحق، وأن لا مهدي إلا عيسى، وأن ما ادعوه أنه المهدي بدعة
أزالها، وأسقط اسم من لا تثبت عصمته.
وذكر أن أباه المنصور همّ بأن يصدع بما به صدع ، وأن يرفع الحرف الذي
رفع، فلم يساعده الأجل لذلك. ثُم لمّا مات واستخلف ابنه أبو محمد عبد الواحد
الملقب بالرشيد، وفد إليه جماعة من أهل ذلك المذهب المتسمين بالموحدين، ففتلوا
منه في الذروة والغارب، وضمنوا على أنفسهم الدخول تحت طاعته، والوقوف
على قدم الخدمة بين يديه، والمدافعة عنه بما استطاعوا، لكن على شرط ذكر
المهدي وتخصيصه بالعصمة في الخطبة والمخاطبات، ونقش اسمه الخاص في
السكك، وإعادة الدعاء بعد الصلاة، والنداء عليها (بتاصاليت الإسلام) عند كمال
الآذان و (بتقام تاصاليت) ؛ وهي إقامة الصلاة، وما أشبه ذلك من (سودرين)
و (وقادري) و (أصبح ولله الحمد) وغير ذلك.
وقد كان الرشيد استمرّ على العمل بما رسم أبوه من ترك ذلك كله، فلمّا انتدب
الموحدون إلى الطاعة اشترطوا إعادته ما ترك، فأسعفوا فيه. فلما احتلوا منازلهم
أيامًا ولم يعد شيء من تلك العوائد، ساءت ظنونهم، وتوقعوا انقطاع ما هو عمدتهم
في دينهم، وبلغ ذلك الرشيد، فجدد تأنيسهم بإعادتها.
قال المؤرخ: فيا للهِ! ماذا بلغ من سرورهم وما كانوا فيه من الارتياح لسماع
تلك الأمور، وانطلقت ألسنتهم بالدعاء لخليفتهم بالنصر والتأييد، وشملت الأفراح
فيهم الكبير والصغير. وهذا شأن صاحب البدعة، فلن يسرّ بأعظم من انتشار
بدعته وإظهارها؛ {وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} (المائدة:
41) ، وهذا كله دائر على القول بالإمامة والعصمة الذي هو رأي الشيعة.
***
فصل
(ومنها) رأي قوم التغالي في تعظيم شيوخهم، حتى ألحقوهم بما لا
يستحقونه، فالمقتصد منهم يزعم أنه لا ولي لله أعظم من فلان، وربما أغلقوا باب
الولاية دون سائر الأمة إلا هذا المذكور. وهو باطل محض، وبدعة فاحشة، لأنه
لا يمكن أن يبلغ المتأخرون أبدًا مبالغ المتقدمين. فخير القرون الذين رأوا رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وآمنوا به، ثُم الذين يلونهم، وهكذا يكون الأمر أبدًا إلى
قيام الساعة. فأقوى ما كان أهل الإسلام في دينهم وأعمالهم ويقينهم وأحوالهم في
أول الإسلام، ثُم لا زال ينقص شيئًا فشيئًا إلى آخر الدنيا. لكن لا يذهب الحق
جملة؛ بل لا بد من طائفةٍ تقوم به وتعتقده، وتعمل بمقتضاه على حسبهم في إيمانهم،
لا ما كان عليه الأولون مِن كل وجه، لأنه لو أنفق أَحد من المتأخرين وزن أُحد
ذهبًا ما بلغ مُدّ أَحَد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نَصِيفه. فخير
القرون: الذين رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمنوا به، ثم الذين يلونهم،
وهكذا يكون الأمر أبدًا إلى قيام الساعة، فأقوى ما كان أهل الإسلام في دينهم
وأعمالهم ويقينهم وأحوالهم في أول الإسلام. ثم لا زال ينقض شيئًا فشيئًا إلى آخر
الدنيا.
وإذا كان ذلك في المال فكذلك في سائر شعب الإيمان، بشهادة التجربة العادية.
ولمّا تقدّم أول الكتاب أنه لا يزال الدين في نقص فهو أصليٌّ لا شك فيه.
وهو عند أهل السنة والجماعة. فكيف يعتقد بعد ذلك في أنه ولي أهل الأرض؟
وليس في الأمة ولي غيره؟ لكن الجهل الغالب، والغلو في التعظيم، والتعصب
للنِّحَل، يؤدي إلى مثله أو أعظم منه.
والمتوسط يزعم أنه مساوٍ للنبي صلى الله عليه وسلم، إلا أنه لا يأتيه الوحي؛
بلغني هذا عن طائفة من الغالين في شيخهم، الحاملين لطريقتهم في زعمهم، نظير
ما ادّعاه بعض تلامذة الحلاّج في شيخهم على الاقتصاد منهم فيه، والغالي [2] يزعم
فيه أشنع مِن هذا، كما ادّعى أصحاب الحلاّج في الحلاّج.
وقد حدّثني بعض الشيوخ أهل العدالة والصدق في النقل أنه قال: أقمت زمانًا
في بعض القرى البادية، وفيها مِن هذه الطائفة المشار إليها كثير، قال: فخرجت
يومًا مِن منزلي لبعضِ شأني فرأيت رجلين منهم قاعدين، فاتهمت أنهما يتحدثان في
بعض فروع طريقتهم، فقربت منهما على استخفاء لأسمع مِن كلامهم - إذ من
شأنهم الاستخفاء بأسرارهم - فتحدثا في شيخهم وعِظَم منزلته، وأنه لا أحد في
الدنيا مثله، وطَرِبَا لهذه المقابلة طَرَبًا عظيمًا، ثُم قال أحدهما للآخر: أتحب الحق؟ -
هو النبي - قال: نعم هذا هو الحق. قال المخبر: فقمت مِن ذلك المكان فارًّا أن
يصيبني معهم قارعة.
وهذا نمط الشيعة الإمامية. ولولا الغلو في الدين والتكالب على نصر المذهب،
والتهالك في محبة المبتدع، لَمَا وسع ذلك عقل أحد، ولكن النبي - صلى الله
عليه وسلم - قال: (لتتبعن سنن مَن كان قبلكم شبرًا بشبرٍ وذراعًا بذراعٍ) الحديث.
فهؤلاء غلوا كما غلت النصارى في عيسى عليه السلام؛ حيث قالوا: إن الله هو
المسيح، فقال الله تعالى: {يَا أَهْلَ الكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا
أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ} (المائدة:
77) وفي الحديث: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، ولكن
قولوا: عبد الله ورسوله) .
ومَن تأمّل هذه الأصناف وجد لها مِن البدع في فروع الشريعة كثيرًا لأنّ
البدعة إذا دخلت في الأصل سهلت مداخلتها الفروع.
***
فصل
وأضعف هؤلاء احتجاجًا: قوم استندوا في أخذ الأعمال إلى المقامات، وأقبلوا
وأعرضوا بسببها، فيقولون: رأينا فلانًا الرجل الصالح فقال لنا: اتركوا كذا
واعملوا كذا. ويتفق مثل هذا كثيرًا للمتمرسين [3] برسم التصوّف، وربّما قال
بعضهم: رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم في النوم، فقال لي كذا وأمرني
بكذا، فيعمل بها ويترك بها معرضًا عن الحدود الموضوعة في الشريعة، وهو خطأ:
لأن الرؤيا من غير الأنبياء لا يحكم بها شرعًا على حال إلا أن تعرض على ما
في أيدينا من الأحكام الشرعية فإن سوغتها عُمِل بمقتضاها، وإلا وجب تركُها
والإعراض عنها، وإنما فائدتها البشارة أو النذارة خاصة، وأمّا استفادة الأحكام فلا.
كما يحكى عن الكتاني رحمه الله قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في
المنام، فقلت: ادع الله أن لا يميت قلبي. فقال: (قل كل يوم أربعين: مرة يا حيّ
يا قيّوم، لا إله إلا أنت) ، فهذا كلام حسن لا إشكال في صحته، وكون الذكر يحيي
القلب صحيح شرعًا. وفائدة الرؤيا التنبيه على الخير، وهو مِن ناحية البشارة.
وإنما يبقى الكلام في التحديد بالأربعين، وإذا لم يوجد على اللزوم استقام.
وعن أبي يزيد البسطامي رحمه الله قال: رأيت ربي في المنام، فقلت:
كيف الطريق إليك؟ فقال: اترك نفسك وتعالَ. وشأن هذا الكلام من الشرع موجود،
فالعمل بمقتضاه صحيح؛ لأنه كالتنبيه لموضع الدليل؛ لأن ترك النفس معناه ترك
هواها بإطلاق، والوقف على قدم العبودية.
والآيات تدلّ على هذا المعنى، كقوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ
وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى * فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأْوَى} (النازعات: 40-41) ، وما
أشبه ذلك. فلو رأى في النوم قائلاً يقول: إن فلانًا سرق فاقطعه، أو عالم فاسأله،
أو اعمل بما يقول لك، أو فلان زنى فحدَّه، وما أشبه ذلك، لم يصح له العمل حتى
يقوم له الشاهد في اليقظة، وإلا كان عاملاً بغير شريعةٍ، إذ ليس بعد رسول الله -
صلى الله عليه وسلم وحيٌ.
ولا يقال: إن الرؤيا من أجزاء النبوة فلا ينبغي أن تهمل. وأيضًا إن
المخبِر في المنام قد يكون النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قد قال: (مَن رآني في
النوم فقد رآني حقًّا، فإن الشيطان لا يتمثل بي) ، وإذا كان
…
فإخباره في النوم
كإخباره في اليقظة؛ لأنّا نقول: إن كانت الرؤيا مِن أجزاء النبوة فليست إلينا من
كمال الوحي؛ بل جزء من أجزائه، والجزء لا يقوم مقام الكل في جميع الوجوه؛
بل إنما يقوم مقامه في بعض الوجوه، وقد صرفت إلى جهة البشارة والنذارة، وفيها
كاف [4] .
وأيضًا فإن الرؤيا التي هي جزء مِن أجزاء النبوة مِن شرطها أن تكون
صالحة من الرجل الصالح، وحصول الشروط مما ينظر فيه، فقد تتوفر، وقد لا
تتوفر.
وأيضًا فهي منقسمة إلى الحلم، وهو من الشيطان، وإلى حديث النفس، وقد
تكون سبب هيجان بعض أخلاط، فمتى تتعين الصالحة حتى يحكم بها وتترك غير
الصالحة؟
ويلزم أيضًا على ذلك أن يكون تجديد وحي بحكم بعد النبي صلى الله عليه
وسلم، وهو منهي عنه بالإجماع.
يحكى أن شريك بن عبد الله القاضي دخل على المهدي، فلما رآه قال: عليَّ
بالسيف والنطع. قال: ولِمَ يا أمير المؤمنين؟ قال: رأيت في منامي كأنك تطأ
بساطي وأنت معرض عني فقصصت رؤياي على مَن عَبَرَها، فقال لي: يظهر لك
طاعة ويضمر معصية، فقال له شريك: واللهِ ما رؤياك برؤيا إبراهيم الخليل عليه
السلام، ولا معبرك بيوسف الصديق عليه السلام، فبالأحلام الكاذبة تضرب أعناق
المؤمنين؟ فاستحيى المهدي، وقال: اخرج عني. ثُم صرفه وأبعده.
وحكى الغزالي عن بعض الأئمة أنه أفتى بوجوب قتل رجل يقول بخلق
القرآن، فروجع فيه، فاستدل بأن رجلاً رأى في منامه إبليس قد اجتاز بباب المدينة
ولَمْ يدخلها فقيل: هل دخلتها؟ فقال: أغناني عن دخولها رجل يقول بخلق القرآن،
فقام ذلك الرجل فقال: لو أفتى إبليس بوجوب قتلي في اليقظة هل تقلدونه في
فتواه؟ فقالوا: لا، فقال: قوله في المنام لا يزيد على قوله في اليقظة.
وأمّا الرؤيا التي يخبر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم الرائي بالحكم فلا
بد من النظر فيها أيضًا، لأنه إذا أخبر بحكم موافق لشريعته، فالحكم بما استقرّ،
وإن أخبر بمخالفٍ، فمحال، لأنه صلى الله عليه وسلم لا ينسخ بعد موته شريعته
المستقرة في حياته، لأن الدين لا يتوقف استقراره بعد موته على حصول المَرَائي
النومية، لأن ذلك باطل بالإجماع، فمَن رأى شيئًا مِن ذلك فلا عمل عليه، وعند
ذلك نقول: إن رؤياه غير صحيحة. إذ لو رآه حقًّا لم يخبره بما يخالف الشرع.
لكن يبقى النظر في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (من رآني في النوم
فقد رآني) ، وفيه تأويلان:
أحدهما: ما ذكره ابن رشد إذ سئل عن حاكم شهد عنده عدلان مشهوران بالعدالة
في قضية، فلمّا نام الحاكم ذكر أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: ما
تحكم بهذه الشهادة؟ فإنها باطلة. فأجاب بأنه لا يحل له أن يترك العمل بتلك
الشهادة، لأن ذلك إبطال لأحكام الشريعة بالرؤيا، وذلك باطل لا يصح أن يعتقد،
إذ لا يعلم الغيب من ناحيتها إلا الأنبياء الذين رؤياهم وحيٌ، ومَن سواهم إنّما
رؤياهم جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة.
ثم قال: وليس معنى قوله: (مَن رآني فقد رآني حقًّا) ، إن كل مَن رأى في
منامه أنه رآه فقد رآه حقيقةً. بدليل أن الرائي قد يراه مرّات على صورٍ مختلفة،
ويراه الرائي على صفةٍ، وغيره على صفةٍ أخرى ولا يجوز أن تختلف صور
النبي صلى الله عليه ولا صفاته. وإنّما معنى الحديث: مَن رآني على صورتي
التي خلقت عليها. فقد رآني، إذ لا يتمثل الشيطان بي؛ إذ لم يقل: مَن رأى أنه
رآني، فقد رآني.
وإنّما قال: مَن رآني فقد رآني وإني لهذا الرائي الذي أرى أنه رآه على
صورته أنه رآه عليها؟ وإن ظن أنه رآه، ما لم يعلم أن تلك الصورة صورته
بعينها، وهذا ما لا طريق لأحدٍ إلى معرفته.
فهذا ما نُقل عن ابنِ رشد. وحاصله يرجع إلى أنّ المرئي قد يكون غير النبي
صلى الله عليه وسلم، إن اعتقد الرائي أنه هو.
والتأويل الثاني: يقوله علماء التعبير: إن الشيطان قد يأتي النائم في صورةٍ ما
مِن معارف الرائي وغيرهم، فيشير له إلى رجلٍ آخر: هذا فلان النبي، وهذا
الملك الفلاني؛ أو من أشبه هؤلاء مِمّن لا يتمثل الشيطان به فيوقع اللبس على
الرائي بذلك وله علامة عندهم، وإذا كان كذلك أمكن أن يكلّمه المشار إليه بالأمر
والنهي غير الموافقين للشرع، فيظن الرائي أنه مِن قِبَل النبي صلى الله عليه وسلم،
ولا يكون كذلك، فلا يوثق بما يقول له أو يأمر أو ينهى.
وما أحرى [5] هذا الضرب أن يكون الأمر أو النهي فيه مخالفًا لكمال الأول،
حقيقٌ بأن يكون فيه موافقًا، وعند ذلك لا يبقى في المسألة إشكال، نعم لا يحكم
بمجرد الرؤيا حتى يعرضها على العلم، لإمكان اختلاط أحد القسمين بالآخر، وعلى
الجملة فلا يستدل بالرؤيا في الأحكام إلا ضعيف المنّة. نعم يأتي المرئيَّ تأنيسًا
وبشارةً ونذارةً خاصة، بحيث لا يقطعون بمقتضاها حكمًا، ولا يبنون عليها أصلاً،
وهو الاعتدال في أخذه، حسبما فُهِمَ مِن الشرع فيها، والله أعلم.
***
فصل
وقد رأينا أن نختم الكلام في الباب بفصل جمع جملةً من الاستدلالات المتقدمة،
وغيرها في معناها، وفيه من نكت هذا الكتاب جملة أخرى، فهو مِمَّا يُحتاج إليه
بحسب الوقت والحال، وإن كان فيه طول ولكنه يخدم ما نحن فيه إن شاء الله تعالى.
وذلك أنه وقع السؤال عن قوم يتسمون بالفقراء، يزعمون أنهم سلكوا طريق
الصوفية، فيجتمعون في بعض الليالي ويأخذون في الذكر الجهوري على صوت
واحدة، ثم في الغناء والرقص، إلى آخر الليل، ويحضر معهم بعض المتسمين
بالفقهاء، يترسمون برسم الشيوخ الهداة إلى سلوك ذلك الطريق: هل هذا العلم
صحيح في الشرع أم لا؟
فوقع الجواب بأن ذلك كله من البدع المحدثات، المخالفة طريقة رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وطريقة أصحابه والتابعين لهم بإحسان، فنفع الله بذلك مَن
شاء مِن خلقه.
ثُم إن الجواب وصل إلى بعض البلدان، فقامت القيامة على العاملين بتلك
البدع، وخافوا اندراس طريقتهم، وانقطاع أكلهم بها، فأرادوا الانتصار لأنفسهم،
بعد أن راموا ذلك بالانتساب إلى شيوخ الصوفية الذين ثبتت فضيلتهم، واشتهرت
في الانقطاع إلى الله، والعمل بالسنة طريقتهم، فلم يستقرّ لهم الاستدلال؛ لكونهم
على ضدّ ما كان عليه القوم، في الأخلاق والأفعال، وأكل الحلال، وإخلاص النية
في جميع الأعمال، وهؤلاء قد خالفوهم في هذه الأصول، فلا يمكنهم الدخول تحت
ترجمتهم.
وكان مِن قدَر الله أن بعض الناس سأل بعض شيوخ الوقت في مسألة تشبه
هذه، لكن حسّن ظاهرها بحيث يكاد باطنها يخفى على غير المتأمل. فأجاب عفا
الله عنه على مقتضى ظاهرها من غير تعرّض إلى ما هم عليه من البدع
والضلالات، ولمّا سمع بعضهم بهذا الجواب أرسل به إلى بلدةٍ أخرى، فأتى به
فرحل إلى غير بلده، وشهر في شيعته أن بيده حجة لطريقتهم تقهر كل حجة، وأنه
طالب للمناظرة فيها، فدعي لذلك فلمْ يقم فيه ولا قعد؛ غير أنه قال: (إن هذه
حُجتي) وألقى بالبطاقة التي بخط المجيب، وكان هو ومجيبه [6] وأشياعه يطيرون
بها فرحًا، فوصلت المسألة إلى غرناطة، وطلب من الجميع النظر فيها. فلم يسع
أحد له قوة على النظر فيها الأول [7] أن يظهر وجه الصواب فيها الذي يدان الله به
لأنه من النصيحة التي هي الدين القويم والصراط المستقيم.
ونص خلاصة السؤال: ما يقول الشيخ فلان في جماعة من المسلمين
يجتمعون في رباط على ضفة البحر في الليالي الفاضلة، يقرؤون جزءًا من القرآن،
ويستمعون من كتب الوعظ والرقائق ما أمكن في الوقت، ويذكرون الله بأنواع
التهليل والتسبيح والتقديس، ثم يقوم من بينهم قوّال يذكر شيئًا في مدح النبي صلى
الله عليه وسلم، ويلقي من السماع ما تتوق النفس إليه وتشتاق سماعه من صفات
الصالحين، وذكر آلاء الله ونعمائه، ويشوّقهم بذكر المنازل الحجازية، والمعاهد
النبوية فيتواجدون اشتياقًا لذلك، ثم يأكلون ما حضر مِن الطعام، ويحمدون الله
تعالى، ويرددون الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ويبتهلون بالأدعية إلى
الله في صلاح أمورهم، ويدعون للمسلمين ولإمامهم ويفترقون.
فهل يجوز اجتماعهم على ما ذكر؟ أم يمنعون وينكر عليهم؟ ومن دعاهم من
المحبين إلى منزله بقصد التبرك، هل يجيبون دعوته ويجتمعون على الوجه
المذكور أم لا؟
فأجاب بما محصوله: مجالس تلاوة القرآن وذكر الله هي أيضًا الجنة. ثُم أتى
بالشواهد على طلب ذكر الله. وأمّا الإنشادات الشعرية. فإنما الشعر كلام حسنه
حسن وقبيحه قبيح، وفي القرآن في شعراء الإسلام: {إلَاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً} (الشعراء: 227) ، وذلك أن حسان بن ثابت
وعبد الله بن رواحه وكعبًا لمّا سمعوا قوله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الغَاوُونَ} (الشعراء: 224) ، الآيات بكوا عند سماعهما فنزل الاستثناء، وقد أُنشد الشعر بين
يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورقت نفسه الكريمة وذرفت عيناه لأبيات
أخت النضر، لِمَا طبع عليه من الرأفة والرحمة.
وأما التواجد عند السماع، فهو في الأصل رقة النفس واضطراب القلب،
فيتأثر الظاهر بتأثر الباطن، قال الله تعالى:{الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} (الأنفال: 2) ، أي اضطربت رَغَبًا أو رَهَبًا، وعن اضطراب القلب يحصل
اضطراب الجسم، قال الله تعالى:{لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً} (الكهف: 18)، الآية. وقال:{فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} (الذاريات: 50) ، فإنما
التواجد رقةٌ نفسيةٌ، وهِزّةٌ قلبيةٌ، ونهضةٌ روحانيةٌ وهذا هو التواجد عن وجد، ولا
يسمع فيه نكير من الشرع.
وذكر السلمي أنه كان يستدل بهذه الآية على حركة الوجد في وقت السماع،
وهي: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا} (الكهف: 14) الآية.
وكان يقول: إن القلوب مربوطة بالملكوت، حركتها أنوار الأذكار، وما يرد
عليها من فنون السماع.
ووراء هذا تواجد لا عن وجدٍ، فهو مناط الذّم، لمخالفة ما ظهر لِمَا بطن وقد
يغرب [8] فيه الأمر عند القصد لاستنهاض العزائم، وأعمال الحركة في يقظة القلب
النائم (يا أيها الناس ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا)[9] ولكن شتّان ما بينهما.
وأمّا مَن دعا طائفة إلى منزله فتجاب دعوته، وله في ذلك قصده ونيته. فهذا
ما ظهر تقييده على مقتضى الظاهر، واللهُ يتولى السرائر، وإنّما الأعمال بالنيّات،
انتهى ما قيده.
فكان ممّا ظهر لي في هذا الجواب: أن ما ذكره في مجالس الذكر صحيح إذا
كان على حسب ما اجتمع عليه السلف الصالح، فإنهم كانوا يجتمعون لتدارس
القرآن فيما بينهم، حتى يتعلم بعضهم مِن بعض، ويأخذ بعضهم مِن بعض، فهو
مجلس من مجالس الذكر التي جاء في مثلها من حديث أبي هريرة رضي الله عنه
عن النبي صلى الله عليه وسلم (ما اجتمع قومٌ في بيتٍ مِن بيوت الله يتلون
كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة، وحفّت بهم
الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده) ، وهو الذي فهمه الصحابة - رضي الله تعالى
عنهم - مِنَ الاجتماع على تلاوة كلام الله.
وكذلك الاجتماع على الذكر فإنه اجتماعٌ على ذكر الله. ففي رواية أخرى أنه
قال (لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة) الحديث المذكور؛ لا الاجتماع
للذكر على صوتٍ واحد، وإذا اجتمع القوم على التذكر لنِعَم الله، أو التذاكر في
العلم إن كانوا علماء، أو كان فيهم عالم فجلس إليه متعلمون، أو اجتمعوا يذكّر
بعضهم بعضًا بالعمل بطاعة الله والبعد عن معصيته وما أشبه ذلك ممّا كان يعمل به
رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه، وعمل به الصحابة والتابعون
فهذه المجالس كلها مجالس كلها مجالس ذكر وهي التي جاء فيها من الأجر ما جاء.
كما يحكى عن ابن أبي ليلى أنه سئل عن القصص. فقال: أدركت أصحاب
محمد صلى الله عليه وسلم يجلسون ويحدّث هذا بما سمع وهذا بما سمع - فأمّا أن
يجلسوا خطيبًا فلا - وكان كالذي نراه معمولاً به في المساجد من اجتماع الطلبة على
معلمٍ يقرئهم في القرآن أو علمًا مِن العلوم الشرعية. أو تجتمع إليه العامة فيعلمهم
أمر دينهم، ويذكرهم بأسه، ويبيّن لهم سنّة نبيهم ليعلموا بها، ويبيّن لهم المُحدَثات
التي هي ضلالةٌ ليحذروا منها، ويتجنبوا مواطنها والعمل بها.
فهذه مجالس الذكر على الحقيقة، وهي التي حرَمَها اللهُ أهل البدع من هؤلاء
الفقراء الذين زعموا أنهم سلكوا طريق التصوف وقَلَّ ما تجد منهم مَن يحسن قراءة
الفاتحة في الصلاة إلا على اللحن، فضلاً عن غيرها، ولا يعرف كيف يتعبد، ولا
كيف يستنجي أو يتوضأ أو يغتسل من الجنابة. وكيف يعلمون ذلك وهم حرموا
مجالس الذكر التي تغشاها الرحمة، وتنزل فيها السكينة، وتحف بها الملائكة؟ !
فبانطماس هذا النور عنهم ضلّوا، فاقتدوا بجهّال أمثالهم، وأخذوا يقرؤون الأحاديث
النبوية والآيات القرآنية فينزلونها على آرائهم، لا على ما قال أهل العلم فيها؛
فخرجوا عن الصراط المستقيم، إلى أن يجتمعوا ويقرأ أحدهم شيئًا من القرآن يكون
حسن الصوت طيب النغمة جيد التلحين تشبه قراءته الغناء المذموم، ثم يقولون
تعالوا نذكر الله، فيرفعون أصواتهم يمشون ذلك الذكر مداولة - طائفة في جهة،
وطائفة في جهةٍ أخرى - على صوتٍ واحدٍ يشبه الغناء ويزعمون أن هذا من
مجالس الذكر المندوب إليها، وكذَبوا. فإنه لو كان حقًّا لكان السلف الصالح أولى
بإدراكه وفهمه والعمل به، وإلا فأين في الكتاب أو في السنة الاجتماع للذكر على
صوتٍ واحدٍ جهرًا عاليًا؟ وقد قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا
يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} (الأعراف: 55) ، والمعتدون في التفسير هم الرّافعون أصواتهم
بالدعاء.
…
وعن أبي موسى قال: كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرٍ
فجعل الناس يجهرون بالتكبير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أربعوا على
أنفسكم، إنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا، إنكم تدعون سميعًا قريبًا، وهو معكم) ،
وهذا الحديث مِن تمام تفسير الآية، ولم يكونوا رضي الله عنهم يكبّرون على
صوتٍ واحدٍ، ولكنه نهاهم عن رفع الصوت ليكونوا للآية ممتلئين وقد جاء عن
السلف أيضًا النهي عن الاجتماع على الذكر، والدعاء بالهيئة التي يجتمع عليها
هؤلاء المبتدعون.
وجاء عنهم النهي عن المساجد المتخذة لذلك، وهي الربط التي سموها بالصفة؛
ذكر من ذلك ابن وهبٍ وابن وضاح وغيرهما ما فيه كفاية لِمَن وفّقه الله.
فالحاصل من هؤلاء أنهم حسنوا الظن بأنه فيما هم عليه مصيبون، وأساؤوا
الظن بالسلف الصالح أهل العلم الراجح الصريح، وأهل الدين الصحيح. ثُم لمّا
طالبهم لسان الحال بالحجة أخذوا كلام المجبب وهم لا يعلمون، وقوّلوه ما لا
يرضى به العلماء، وقد بيّن ذلك في كلام آخر إذ سئل عن ذكر فقراء زماننا،
فأجاب بـ: إن مجالس الذكر المذكورة في الأحاديث؛ إنها هي التي يتلى [10] فيها
القرآن، والتي يُتعلم فيها العلم والدين، والتي تعمُر بالعلم والتذكير بالآخرة والجنة
والنار. كمجالس سفيان الثوري والحسن وابن سيرين، وأضرابهم.
أمّا مجالس الذكر اللساني فقد صرّح بها في حديث الملائكة السياحين، لكن لمْ
يذكر فيه جهرًا بالكلمات، ولا رفع أصوات، وكذلك غيره. لكن الأصل المشروع
إعلان الفرائض وإخفاء النوافل. وأتى بالآية، وبقوله تعالى: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء
خَفِيًّا} (مريم: 3)، وبحديث:(أربعوا على أنفسكم) - قال -: وفقراء الوقت
قد تخيّروا بآيات، وتميّزوا بأصواتٍ، هي إلى الاعتداء، أقرب منها إلى الاقتداء،
وطريقتهم إلى اتخاذها مأكلة وصناعة، أقرب منها إلى اعتدادها قربة وطاعة.
انتهى معناه على اختصار أكثر الشواهد. وهي دليلٌ على أن فتواه المحتج بها
ليس معناها ما رام هؤلاء المبتدعة. فإنه سئل في هذه عن فقراء الوقت، فأجاب
بذمّهم، وأن حديث النبي صلى الله عليه وسلم لا يتناول عملهم. وفي الأولى
إنما سئل عن قومٍ يجتمعون لقراءة القرآن، أو لذكر الله. وهذا السؤال يصدق عن
قوم يجتمعون مثلاً في المسجد فيذكرون الله، كل واحد منهم في نفسه أو يتلو القرآن
نفسه، كما يصدق على مجالس المعلمين والمتعلمين، وما أشبه ذلك ممّا تقدّم التنبيهُ
عليه، فلا يسعه وغيره من العلماء إلا أن يذكر محاسن ذلك والثواب عليه، فلما
سئل عن أهل البدع في الذكر والتلاوة بيّن ما ينبغي أن يعتمد على الموفق، ولا
توفيق إلا بالله العلي العظيم. اهـ المراد منه.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
انقسمت الباطنية إلى عدة فرق يجمعهم القول بجعل ظواهر النصوص غير مرادة، والذهاب في تأويلها مذاهب من التحكم لا تتفق مع اللغة في مجازٍ ولا كنايةٍ والقول بإمامٍ معصومٍ، وقد يسمّونه باسمٍ آخر، ويجعلونه بعد ذلك إلهًا وآخر فرقهم البابية البهائية.
(2)
نص النسخة التي نطبع عنها (والقالي) .
(3)
تمرّس بالشيء: احتكّ به، وتمرّس بدينه تلعب به وعبث به كما يعبث البعير؛ والمراد بهم هنا المقلدون للصوفية في رسومهم الظاهرة دون أخلاقهم وأعمالهم.
(4)
كذا ولعلّ في الكلام حذفًا.
(5)
نص النسخة التي نطبع عنها (أجرى) بالجيم وهو غلط.
(6)
كذا ولعلها (ومحبه) أو (ومحبوه) .
(7)
لفظ الأول لا يظهر له معنى هنا، والظاهر أن المقام مقام الاستثناء، وأن العبارة ربّما دخل فيها التحريف والسقط.
(8)
لعلّه (يعزب) .
(9)
لعله أراد حديث: (اتلوا القرآن وابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا) فاقتبسه بالمعنى، وهو في سنن ابن ماجه مِن حديث سعد ابن أبي وقاص بسند جيد.
(10)
في الأصل (يختلا) هكذا، فصحّحها ناسخ الورق الذي نطبع عنه؛ فجعلها (يختلى) ، وكلاهما غلط.
الكاتب: ابن القيم الجوزية
ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين
منزلة التوكل
فصل [*]
قال الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (المائدة: 23)
وقال: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ} (آل عمران: 122)، وقال: {وَمَن
يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (الطلاق: 3) وقال عن أوليائه: {رَّبَّنَا عَلَيْكَ
تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ} (الممتحنة: 4) وقال: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ
آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} (الملك: 29) وقال لرسوله: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ
عَلَى الحَقِّ المُبِينِ} (النمل: 79) وقال: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} (النساء: 81) وقال: {َوتَوَكَّلْ عَلَى الحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} (الفرقان: 58) وقال: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ} (آل عمران: 159) وقال عن أنبيائه ورسله: {وَمَا لَنَا أَلَاّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ} (إبراهيم: 12)[1] الآية، وقال عن أصحاب نبيه: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ
النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ} (آل
عمران: 173) ، وقال: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا
تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (الأنفال: 2) ، والقرآن
مملوء من ذلك.
وفي الصحيحين في حديث السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب:
(هم الذين لا يسترقون، ولا يتطيرون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون) وفي
صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: حسبنا الله ونعم الوكيل:
قالها إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين ألقي في النار، وقالها محمد - صلى
الله عليه وسلم - حين قالوا له: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ
فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ} (آل عمران: 173)
وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: (اللهم لك
أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، اللهم أعوذ
بعزتك - لا إله إلا أنت - أن تضلني، أنت الحيّ الذي لا تموت، والجن والإنس
يموتون) ، وفي الترمذي عن عمر رضي الله عنه مرفوعًا: (لو أنكم
تتوكلون على الله حقّ توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خِماصًا وتروح بِطانًا)
وفي السنن عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (مَن قال - يعني إذا خرج من بيته - بسم الله توكلت على الله، ولا حول [2]
ولا قوة إلا بالله، يقال له: هُديت ووقِيت [3] وكُفيت، فيقول الشيطان لشيطانٍ
آخر: كيف لك برجلٍ هُدي وكُفي ووُقي؟) .
التوكل نصف الدين، ونصفه الثاني الإنابة، فإن الدين استعانة وعبادة،
فالتوكل هو الاستعانة، والإنابة هي العبادة، ومنزلته أوسع المنازل وأجمعها، ولا
تزال معمورة بالنازلين لسعة متعلق التوكل، وكثرة حوائج العالمين، وعموم التوكل
ووقوعه من المؤمنين والكفار والأبرار والفجّار، والطير والوحش والبهائم، فأهل
السموات والأرض - المكلفون وغيرهم - في مقام التوكل، وإن تباين متعلّق وتوكلهم،
فأولياؤه وخاصته يتوكلون عليه في حصول ما يرضيه منهم، وفي إقامته في الخلق،
فيتوكلون عليه في الإيمان ونصرة دينه، وإعلاء كلمته، وجهاد أعدائه، وفي
محابه وتنفيذ أوامره.
(ودون هؤلاء) مَن يتوكل عليه في استقامته في نفسه، وحفظ حاله مع الله
فارغًا عن الناس.
(ودون هؤلاء) مَن يتوكل عليه في معلومٍ يناله منه مِن رزقٍ أو عافيةٍ أو
نصرٍ على عدوٍّ أو زوجةٍ أو ولدٍ، ونحو ذلك. (ودون هؤلاء) مَن يتوكل عليه في
حصول الإثم والفواحش. فإن أصحاب هذه المطالب لا ينالونها غالبًا إلا باستعانتهم
بالله، وتوكلهم عليه؛ بل قد يكون توكلهم [4] أقوى من توكل كثير من أصحاب
الطاعات، ولهذا يلقون أنفسهم في المتالف والمهالك معتمدين على الله أن يسلمهم
ويظفرهم بمطالبهم، فأفضل التوكل في الواجب (أعني واجب الحق وواجب الخلق
وواجب النفس) ، وأوسعه وأنفعه التوكل في التأثير في الخارج في مصلحة دينية،
أو في دفع مفسدة دينية، وهو توكل الأنبياء في إقامة دين الله، ودفع فساد المفسدين
في الأرض، وهذا توكل ورثتهم.
ثُم الناس بعدُ في التوكل على حسب هممهم ومقاصدهم، فمِن متوكلٍ على الله
في حصول الملك، ومتوكل في حصول رغيف. ومَن صدق توكله على الله في
حصول شيء ناله، فإن كان محبوبًا له مرضيًّا كانت له فيه العاقبة المحمودة، وإن
كان مسخوطًا مبغوضًا كان ما يحصل له بتوكله مضرّة عليه، وإن كان مباحًا
حصلت له مصلحة التوكل دون مصلحةِ ما توكّل فيه، إن لم يستعن به على طاعة [5]
والله أعلم.
***
فصل
فلنذكر معنى التوكل ودرجاته وما قيل فيه
قال الإمام أحمد: التوكل عمل القلب. ومعنى ذلك أنه عملٌ قلبيٌّ ليس بقول
اللسان، ولا عمل الجوارح، ولا هو من باب العلوم والإدراكات. ومِن الناس مَن
يجعله مِن باب المعارف والعلوم فيقول: هو تعلم القلب بكفاية الرب للعبد.
ومنهم من يفسره بالسكون وخمود حركة القلب. فيقول: التوكل هو انطراح
القلب بين يدي الرب، كانطراح الميت بين يدي الغاسل يقلبه كيف يشاء، وهو
ترك الاختيار، والاسترسال مع مجاري الأقدار. قال سهل: التوكل: الاسترسال مع
الله على ما يريد. ومنهم من يفسره بالرضاء؛ فيقول: هو الرضاء بالمقدور. قال
بشر الحافي: يقول أحدهم: توكلت على الله، يكذب على الله، لو توكل على الله
رضي بما يفعل الله. وسئل يحيى بن معاذ: متى يكون الرجل متوكلاً؟ فقال: إذا
رضي بالله وكيلاً. ومِنهم مَن يفسره بالثقة بالله، والطمأنينة إليه والسكون إليه.
قال ابن عطاء: التوكل أن لا يظهر فيك انزعاج إلى الأسباب مع شدّة فاقتك إليها،
ولا تزال [6] على حقيقة السكون إلى الحق مع وقوفك عليها.
وقال ذو النون: هو ترك تدبير النفس، والانخلاع من الحول والقوة، وإنما
يقوى العبد على التوكل إذا علم أن الحق سبحانه يعلم ويرى ما هو فيه. وقال
بعضهم: التوكل التعلق بالله في كل حال.
وقيل: التوكل أن ترد عليك موارد الفاقات، فلا تسمو إلا إلى مَن إليه
الكفايات. وقيل: نفي الشكوك، والتفويض إلى مالك الملوك. وقال ذو النون:
خلع الأرباب، وقطع الأسباب؛ يريد قطعها مِن تعلق القلب بها، لا مِن مُلابسة
الجوارح لها.
ومنهم من جعله مركَّبًا مِن أمرين أو أمور. فقال أبو سعيد الخراز:
التوكل اضطراب بلا سكون، وسكون بلا اضطراب - يريد حركة ذاته في
الأسباب بالظاهر والباطن - وسكون إلى المسبب وركون إليه، ولا يضطرب قلبه
معه، ولا تسكن حركته عن الأسباب الموصلة إلى رضاه.
وقال أبو تراب النخشبي: هو طرح البدن في العبودية، وتعلّق القلب
بالربوبية، والطمأنينة إلى الكفاية. فإن أعطي شكر، وإن مُنع صبر، فجعله مركبًا
مِن خمسة أمور: القيام بحركات العبودية، وتعلّق القلب بتدبير الرب، وسكونه إلى
قضائه وقدره، وطمأنينته بكفايته له، وشكره إذا أَعطى، وصبره إذا مَنع. قال أبو
يعقوب النهرجوري: التوكل على الله بكمال الحقيقة كما وقع لإبراهيم الخليل -
عليه السلام في الوقت الذي قال لجبريل عليه السلام (أمّا إليك فلا) لأنه غائب
عن نفسه بالله [7] فلم يرَ مع الله غيرَ الله.
وأجمع القوم على أن التوكل لا ينافي القيام بالأسباب، فلا يصح التوكل إلا
مع القيام بها، وإلا فهو بطالة وتوكّل فاسد. قال سهل بن عبد الله: مَن طعن في
الحركة فقد طعن في السنة، ومَن طعن في التوكل فقد طعن في الإيمان، فالتوكل
حال النبي صلى الله عليه وسلم، والكسب سنته، فمَن عمل على حاله فلا يتركن
سنّته. وهذا معنى قول أبى سعيد (هو اضطراب بلا سكون، وسكون بلا
اضطراب) ، وقول سهل أبين وأرفع. وقيل: التوكل قطع علائق القلب بغير الله.
وسئل سهل عن التوكل فقال: قلب عاش مع الله بلا علاقة [8] . وقيل: التوكل هجر
العلائق، ومواصلة الحقائق. وقيل: التوكل أن يستوي عندك الإكثار والإقلال.
وهذا مِن موجباته وآثاره؛ لأنه [9] حقيقته.
وقيل: هو ترك كل سبب يوصلك إلى مسبّب، حتّى يكون الحق هو المتولي
لذلك. وهذا صحيحٌ مِن وجهٍ، وباطلٌ مِن وجهٍ، فترك الأسباب المأمور بها قادحٌ
في التوكل، وقد تولّى الحق إيصال العبد بها. وأمّا ترك الأسباب المباحة، فإن
تركها لِمَا هو أرجح منها مصلحةً فممدوحٌ، وإلا فهو مذمومٌ. وقيل: هو إلقاء
النفس في العبودية، وإخراجها مِن الربوبية. يريد استرسالها مع الأمر، وبراءتها
مِن حولها وقوتها، وشهود ذلك بها؛ بل بالرب وحده.
ومنهم مَن قال: التوكل هو التسليم لأمر الرب وقضائه. ومنهم مَن قال: هو
التفويض إليه في كلّ حالٍ.
ومنهم مَن جعل التوكل بدايةً، والتسليم وساطةً، والتفويض نهايةً. قال أبو
علي الدقاق: التوكل ثلاث درجات - التوكل، ثم التسليم، ثم التفويض. فالمتوكل
يسكن إلى وعده، وصاحب التسليم يكتفي بعلمه، وصاحب التفويض يرضى بحكمه.
فالتوكل بداية، والتسليم وساطة، والتفويض نهاية فالتوكل صفة المؤمنين،
والتسليم صفة الأولياء، والتفويض صفة الموحدين. التوكل صفة العوام، والتسليم
صفة الخواص، والتفويض صفة خاصة الخاصة. التوكل صفة الأنبياء، والتسليم
صفة إبراهيم الخليل، والتفويض صفة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم
أجمعين. هذا كله كلام الدقاق. ومعنى هذا التوكل اعتمادٌ على الوكيل، وقد يعتمد
الرجل على وكيله مع نوع اقتراح عليه، وإرادة وشائبة منازعة، فإذا سلّم إليه زال
عنه ذلك، ورضي بما يفعله وكيله. وحال المفوض فوق هذا، فإنه طالب مريد
ممن فوض إليه، ملتمس منه أن يتولى أموره، فهو رضاء واختيار، وتسليم
واعتماد، فالتوكل يندرج في التسليم، وهو والتسليم يندرجان في التفويض، والله
سبحانه وتعالى أعلم.
***
فصل
وحقيقة الأمر أن التوكل حال مركبة من مجموع أمور لا تتم حقيقة التوكل إلا
بها. وكلٌّ أشار إلى واحد من هذه الأمور، أو اثنين أو أكثر. فأوّل ذلك معرفة
بالرب وصفاته، مِن قدرته وكفايته وقيوميّته وانتهاءِ الأمور إلى علمه وصدورها
عن مشيئته وقدرته. وهذه المعرفة أول درجة يضع بها العبد قدمه في مقام التوكل.
قال شيخنا رضي الله عنه: ولذلك لا يصح التوكل ولا يتصور من فيلسوف،
ولا مِن القدرية النفاة القائلين بأنه يكون في ملكه ما لا يشاء [10] ولايستقيم أيضًا مِن
الجهمية النفاة لصفات الرب جل جلاله، ولا يستقيم التوكل إلا من أهل الإثبات.
فأي توكل لمن يعتقد أن الله لا يعلم جزئيات العالم؟ ولا هو فاعل باختياره؟ ولا له
إرادة ومشيئة؟ ولا يقوم به صفة؟ فكل مَن كان بالله وصفاته أعلم وأعرف، كان
توكله أصح وأقوى. والله سبحانه وتعالى أعلم.
***
فصل
(الدرجة الثانية: إثبات في الأسباب والمسببات)
فإن مَن نفاها فتوكله مدخولٌ. وهذا عكس ما يظهر في بدوات الرأي أن
الأسباب يقدح في التوكل، وأن نفيها كمال [11] التوكل.
فاعلم أن نفاة الأسباب لا يستقيم لهم توكل ألبتة؛ لأن التوكل مِن أقوى
الأسباب في حصول المتوكل فيه، فهو كالدعاء الذي جعله الله سببًا في حصول
المدعو به، فإذا اعتقد العبد أن توكله لم ينصبه الله سببًا، ولا جعل دعاءه سببًا لنَيْل
شيء، فإن المتوكل فيه المدعو بحصوله إن كان قدر [12] حصل؛ توكل أو لم
يتوكل، دعا أو لم يدع. وإن لم يقدّر لم يحصل، توكل أيضًا أو ترك التوكل.
وصرّح هؤلاء أن التوكل والدعاء عبودية محضة لا فائدة لهما إلا ذلك، ولو ترك
العبد التوكل والدعاء ما فاته [13] شيء ممّا قدّر له. ومِن غلاتهم مّن يجعل الدعاء
بعدم المؤاخذة على الخطأ والنسيان عديم الفائدة؛ إذ هو مضمون الحصول.
ورأيت بعض متعمّقي هؤلاء في كتاب له [14] لا يجوز الدعاء بهذا، وإنما
يجوزه تلاوة لا دعاء. قال: لأن الدعاء به يتضمن الشك في وقوعه؛ لأن الداعي
بين الخوف والرجاء، والشك في وقوع ذلك - شك في خبر الله، فانظر إلى ما قاد
إنكار الأسباب من العظائم، وتحريم الدعاء بما أثنى الله على عباده وأوليائه بالدعاء
به وبطلبه، ولم يزل المسلمون مِن عهْد نبيهم صلى الله عليه وسلم إلى الآن
يدعون به في مقامات الدعاء، وهو مِن أفضل الدعوات.
وجواب هذا الوهم الباطل أن يقال: بقي قسمٌ ثالثٌ غير ما ذكرتم مِنَ القسمين
لم تذكروه، وهو الواقع؛ وهو أن يكون قضى بحصول الشيء عند حصول سببه
مِن التوكل والدعاء، فنصب الدعاء والتوكل سببين لحصول المطلوب، وقضى الله
بحصوله إذا فعل العبد سببه، فإذا لم يأتِ بالسبب امتنع المسبب، وهذا كما قضى
بحصول الولد إذا جامع الرجل مَن يحبلها، فإذا لم يجامع لم يخلق منه الولد،
وقضى بحصول الشبع إذا أكل، والرِّيّ إذا شرب، فإذا لم يفعل لم يشبع ولم يُرْوَ.
وقضى بحصول الحج والوصول إلى مكة إذا سافر وركب الطريق، فإذا حبس [15]
في بيته لم يصل إلى مكة [16] وقضى بدخول الجنة إذا أسلم وأتى بالأعمال الصالحة،
فإذا ترك الإسلام لم يدخلها أبدًا [16] وقضى بإنضاج الطعام بإيقاد النار تحته.
وقضى بطلوع الحبوب التي تزرع بشقّ الأرض وإلقاء البذور فيها، فما لم يأتِ [17]
بذلك لم يحصل إلا الخيبة.
فوزان ما قاله منكرو الأسباب أن يترك كلٌّ مِن هؤلاء السبب الموصل،
ويقول: إن كان قضي لي وسبق في الأزل حصول الولد والشبع والري والحج
ونحوها، فلا بد أن يصل إن تحركت أو سكنت، تزوجت أو تركت، سافرت أو
قعدت، وإن لم يكن قضيَ لي لم يحصل لي أيضًا، فعلت أو تركت. فهل يعد أحدٌ
هذا مِن جملة العقلاء؟
وهل البهائم إلا أفقه منه؟ فإن البهيمة تسعى في السبب بالهداية العامة.
فالتوكل مِن أعظم الأسباب التي يحصل بها المطلوب، ويندفع بها المكروه. فمَن
أنكر الأسباب لم يستقم منه التوكل، ولكن مِن تمام التوكل عدم الركون إلى الأسباب،
وقطع علاقة القلب بها، فيكون حال قلبه قيامه بالله لا بها، وحال بدنه قيامه بها.
فالأسباب محل حكمة الله وأمره ودينه، والتوكل متعلق بربويته وقضائه وقدره، فلا
تقوم عبودية الأسباب إلا على ساق التوكل، ولا يقوم ساق التوكل إلا على قدم
العبودية، والله سبحانه وتعالى أعلم.
***
فصل
الدرجة الثالثة:
(رسوخ القلب في مقام توحيد التوكل)[18]
فإنه لا يستقيم توكل العبد حتى يصح له توحيده؛ بل حقيقة التوكل توحيد
القلب، فما دامت فيه علائق الشرك فتوكله معلول مدخول، وعلى قدر تجريد
التوحيد تكون صحة التوكل، فإن العبد متى التفت إلى غير الله أخذ ذلك الالتفات
شعبة من شعب قلبه، فنقص مِن توكله على اللهِ بقدر ذهاب تلك الشعبة، ومِن
هاهنا ظن مَن ظن أن التوكل لا يصح إلا برفض الأسباب، وهذا حق، لكن
رفضها عن القلب لا عن الجوارح، فالتوكل لا يتمّ إلا برفض الأسباب عن القلب،
وتعلّق الجوارح بها، فيكون منقطعًا منها متصلاً بها، والله سبحانه أعلم.
***
فصل
الدرجة الرابعة:
(اعتماد القلب على الله، واستناده إليه، وسكونه إليه)
بحيث لا يبقى فيه اضطراب مِن تشويش الأسباب، ولا سكون إليها؛ بل
يخلع السكون إليها من قلبه، ويلبسه السكوت إلى سببها، وعلى هذا [19] فإنه لا
يبالي بإقبالها وإدبارها، ولا يضطرب قلبه ويخفق عند إدبار ما يحب منها وإقبال ما
يكره؛ لأن اعتماده على الله وسكونه إليه واستناده إليه، قد حصنه من خوفها
ورجائها، فحاله حال مَن خرج عليه عدوٌّ عظيم لا طاقة له به، فرأى حصنًا
مفتوحًا فأدخله ربه إليه، وأغلق عليه باب الحصن، فهو يشاهد عدوّه خارج
الحصن، فاضطراب قلبه وخوفه منهم في هذه الحال لا معنى له. وكذلك مَن أعطاه
ملك درهمًا فسرق منه، فقال له الملك: عندي أضعافه لا تهتم متى جئت لي
أعطيتك مِن خزائني أضعافه. فإذا علم صحة قول الملك ووثق به واطمأن إليه،
وعلم أن خزائنه مليئة بذلك؛ لم يحزنه فوته. وقد مثّل ذلك بحال الطفل الرضيع في
اعتماده وسكونه وطمأنينته بثدي أمه لا يعرف غيره، وليس في قلبه التفات إلى
غيره، كما قال بعض العارفين: المتوكل كالطفل لا يعرف شيئًا يأوي إليه إلا ثدي
أمه، كذلك المتوكل لا يأوي إلا إلى ربه سبحانه.
***
فصل
الدرجة الخامسة
(حسن الظن بالله عز وجل
فعلى قدر حسن ظنك بربك [20] ورجائك له يكون توكلك عليه. ولذلك فسّر
بعضهم التوكل بحسن الظن فقال: التوكل حسن الظن بالله. والتحقيق أن حسن
الظن به يدعوه إلى التوكل عليه؛ إذ لا يتصوّر التوكل على من ساء [21] ظنّك به،
ولا التوكل على من لا ترجوه، والله أعلم.
***
فصل
الدرجة السادسة
(استسلام القلب له، وانجذاب دواعيه كلها إليه، وقطع منازعاته)
وبهذا فسّره مَن قال: أنْ يكون العبد بين يدي الله كالميت بين يدي الغاسل
يقلبه كيف أراد، لا يكون له حركة ولا تدبير. وهذا معنى قول بعضهم: التوكل
إسقاط التدبير. يعني الاستسلام لتدبير الرب لك. وهذا في غير باب الأمر والنهي؛
بل فيما يفعله بك لا فيما أمرك بفعله، فالاستسلام كتسليم العبد الذليل نفسه لسيده
واقتياده له، وترك منازعات نفسه وإرادتها مع سيده، والله سبحانه وتعالى أعلم.
***
فصل
الدرجة السابعة
(التفويض)
وهو روح التوكل ولُبّه وحقيقته، وهو إلقاء أموره كلها إلى الله، وإنزالها به
طلبًا واختيارًا، لا كرهًا واضطرارًا، بل كتفويض الابن العاجز الضعيف المغلوب
أموره [22] إلى أبيه العالم بشفقته عليه ورحمته، وتمام كفايته، وحسن ولايته له،
وتدبيره له، فهو يرى أن تدبيره له خير من تدبيره لنفسه، وقيامه بمصالحه وتوليه
لها، خيرٌ مِن قيامه هو بمصالح نفسه وتوليه لها، فلا يجد له أصلح ولا أوفق من
تفويضه أموره كلها إلى أبيه، وراحته مِن حمل كلفها [23] وثقل حملها، مع عجزه
عنها، وجهله بوجوه المصالح فيها، وعلمه بكمال علم مَن فوّض إليه وقدرته
وشفقته.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(*) نموذج من الجزء الثاني من
كتاب (مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين)
لابن القيم.
(1)
زاد في البغدادية من الآية قوله تعالى: [وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا](إبراهيم: 12) .
(2)
في نسختنا (ولا حول) وفي البغدادي سقط الواو.
(3)
وفيها (وكفيت ووقيت) .
(4)
في الحجازية (توكلهم عليه) .
(5)
في البغدادية (طاعته) .
(6)
في البغدادية (ولا تزول) .
(7)
في البغدادية (لأنه علق نفسه بالله) .
(8)
هاتان الفقرتان سقطتا من نسختنا فأثبتناهما من البغدادية.
(9)
وفيها (لا أنه) .
(10)
في البغدادية (ما لم يشأه) .
(11)
نص نسختنا - كلام التوكل - وكلام محرف عن كمال بالقلب، كما هو نص الحجازية،
والبغدادية (تمام التوكل) .
(12)
في البغدادية (قد قدر) .
(13)
نسختنا والحجازية (ما فاته) ، والبغدادية (لما فاته) .
(14)
نص الحجازية (في كتاب لا) وسقط من البغدادية كلمة (له) .
(15)
في البغدادية (فإذا جلس في بيته لم يصل إلى مكة أبدًا) .
(16)
حذف من البغدادية لفظ (أبدًا) .
(17)
نص البغدادية فإن لم (يأت) .
(18)
نسختنا والحجازية (توحيد التوكل) ، وسقط من البغدادية كلمة (توحيد) .
(19)
نسختنا والحجازية (إلى مسببها وعلى هذا) وفي البغدادي (إلى مسببها وعلامة هذا) .
(20)
في البغدادي (به) .
(21)
في البغدادي (على من تسيء) .
(22)
كذا في نسختنا وفي البغدادية، وفي الحجازية قبل كلمة (أموره خربوشة) يوشك أن يكون أصلها (في) أو (على) فتكون العبارة (المغلوب على أموره) وهي الصواب.
(23)
في البغدادية (كلها) .
الكاتب: البستاني
أفضل الوسائل لإنهاض السلطنة
فصل جليل ختم به كتاب تاريخ الحرب البلقانية
للبستاني
خطر لنا عند الفراغ من تأليف هذا الكتاب، أن نستطلع آراء نخبة من أكابر
العلماء وفحول الكتّاب، عن أفضل وسيلة تنهض بالسلطنة بعد كبوتها، وتزيد في
يقظة الأمة بعد غفوتها. فسألنا مَن أسعدنا الحظ بالوصول إليه قبيل صدور هذا
المؤلف أن يصوغ لنا فكرته الأساسية في أسطر قليلة فتكرّموا بتلبية الطلب، أدامهم
الله زهرًا نضيرًا في بستان العلم والأدب. وإليك آراؤهم مرتبة حسب تواريخ
ورودها.
***
رأي سياسي شهير
كتب إليَّ عالمٌ كبير لم يشأ أن ينشر اسمه قال: إن الأمر عويصٌ جدًّا لأن في
السلطنة فواعل كثيرة متناقضة وبعضها خفي. ولقد سمعت مرة المرحوم نوبار باشا
رئيس الوزارة المصرية الأسبق يقول: إن لورد دربي ألقى عليه سؤال مثل سؤالك
وطلب منه أن يرتأي رأيًا أو يضع مشروعًا نافعًا للسلطنة العثمانية، قال نوبار:
فأخذت القلم وكتبت (أنْ ينشأ في السلطنة محكمة مختلطة مستقلة ترفع إليها
الشكاوى من المأمورين فتحاكمهم وتنفذ الحكومة ما تحكم به عليهم) .
فما أدق هذا الانتقاد، وما أرق هذا التهكم!
…
***
رأي القانوني الكبير، والعالم الاجتماعي الشهير
سعادة فتحي باشا زغلول
أقرئك السلام وبعد، فسؤالك هام ومطلبك أهم.
الدولة العلية رعاك الله مجموع يحتاج في سياسته وإنهاضه إلى حكمة عالية
وبصرٍ بالأمور كبير، فإذا غلب الرأي الهوى، وبطل التفاضل بين العناصر،
وأقيم وزن العدل وتساوى الناس جميعًا في الحقوق وفي الواجبات، وإذا خلصت
نيات أهل الزعامة وصدقت عزائم ذوي الرئاسة، ففضلوا مصالح الأمة على المنافع
الفردية، وجدَّ الكل في طلب الإصلاح، فنشروا التعليم وعنوا بالأمور الاقتصادية،
فاستبقوا لأنفسهم مرافق البلاد وكنوزها، وذللوا السبل وأمنوا السابلة وقربوا
المسافات، ثم ازدرعوا واحترفوا واتجروا فأحرفوا، وإذا احكموا نظام الجند
وهذّبوه. لا شك أن الدولة ناهضة من سقطتها، وإن الأمة ناشطة من عقالها، وأنها
نائلة مِن الحضارة والمناعة مكانًا عليًّا.
***
رأي العالم العامل الشهير، والصحافي المحنك الخبير
الدكتور فارس أفندي نمر صاحب المقتطف والمقطم:
حضرة الفاضل؛ إن كان المقصود مِن (السلطنة) في سؤالكم: (الحكومة
والأمة) في حالتهما الحاضرة أي الدستورية فوسائط إنهاضها متعددة منها ماديّ
ومنها أدبيّ، ولكل واسطة منها قوة لا يُستغنى عنها، وخصوصًا وسائط العلم والمال.
على أن في الحكومة وفي الأمة رجالاً مِن ذوي العلم وذوي المال فلا يعوزهم
إدراك ولا يسار، ولكنِ الذي ينقصنا هو تربية الحكومة على الأخلاق القويمة،
والصفات المنظمة والمرقية لشؤون الهيئة الاجتماعية، حتى نستطيع الاتحاد
والتعاون على تدبير أمورنا وإنجاح أعمالنا ونحن جماعات، كما يستطيع كثيرون
منا اليوم تدبير أمورهم وإنجاح أعمالهم وهم أفراد.
***
رأي شيخ الأدباء، وكبير الشعراء
سعادة إسماعيل صبري باشا
التوظيف: إذا أراد التركي أن يستبقي ما بقي له مِن مُلكه فلا يفرقن بين
التركي وسائر الأجناس التي تتألف منها الدولة العثمانية؛ بل يجب عليه أن يفضل
في التوظيف في كل بلد أهل الكفاءة من بنيها، فلا يوظف التركي في بلد غير بلده
الأصلي إلا إذا كان يتعسر وجود أكفاء مثله من أبناء ذاك البلد، فتتعود جميع
العناصر التي تتألف منها الدولة حب الراية التي تظلهم، والأراضي التي تقلهم،
فيقوم عندئذ وطن عثماني حقيقي يحبونه ويَذُبُّونَ عنه في اليوم العصيب.
التعليم: التعليم مِن أوجب الواجبات لنهوض الشعب العثماني مما هو فيه،
ولا يراد بالتعليم أن يصبح جميع الأفراد من العلماء؛ بل يكفي أن يكون هناك عدد
وافر من المتعلمين يسيرون بالدولة إلى مقام الشعوب الراقية، وأن يتعلم باقي أفراد
الأمة ما يمكنهم مِن فَهم قادتهم وأرباب الرأي فيهم.
العدل: العدل بسيطٌ في معناه؛ صعبٌ في تنفيذه بين الأفراد، وأكبر آفاته
الغرض والرشوة. فإذا أرادت الدولة أن يسود فيها العدل فلتصرف كل جهدها في
ملاشاة هاتين الآفتين، ولنحذر مِن أن تستعين بالأجانب في سنِّ قوانينها وتوزيع
العدل بين رعاياها، ومِن أن تطلب غير أبناء بلادها لإقامة العدل وسنِّ القوانين.
وإلا تعذّر عليها أن تجد عدلاً وطنيًّا متفقًا مع أخلاق أمتها وعاداتها. وما يقال في
العدل يقال أيضًا في سائر فروع الإدارة. وإذا كانت الحكومة لا تجد مندوحة عن
الآستانة بالأجانب الأكفاء فلا تطلبهم من حكوماتهم؛ بل تكلفهم وضع التقارير بعد
اختبارهم لحالة البلاد، ثم تأخذ النافع والموافق لعادات الأهالي من تلك التقارير دون
أن تجعل أصحابها موظفين رسميين.
***
رأي العالم الاجتماعي الشهري
الدكتور شبلي الشميل
الدولة لا تنهض إلا بثلاثة: رجالٍ ومالٍ ووقتٍ، والرجال بالعلم والتربية،
والمال بالموارد. فهل ذلك متوفر - ولا سيّما الوقت - وحالنا في الاجتماع كما هي
من قلة التكافؤ مع ما هو عليه اليوم من شدّة التنازع؟
والجواب على ذلك يدل على المصير.
***
رأي الأستاذ الفاضل أبو شادي بك
رئيس تحرير جريدة المؤيد
رأيي أن الدولة لا تنهض من سقطتها ولا تعود إلى سابق مجدها إلا إذا توفر
لديها ما يأتي:
أولاً: تعميم التعليم في أنحاء البلاد وجعل الأولي منه إجباريًّا.
ثانيًا: إزالة التنافر بين العناصر ولا يكون ذلك إلا بمنح كل ولاية الاستقلال
إداريًّا داخليًّا؛ حتى يعلم كل فرد أن اجتهاده منصرف إلى بلده وإلى نفسه.
ثالثًا: إيجاد الأكفاء من الموظفين؛ إذ بغير شكٍّ إن قوانين الدولة عادلة ولكن
تنفيذها معدوم.
رابعًا: إصلاح جباية الضرائب بحيث تكون الضرائب متسلطة على الأعيان
لا على الحاصلات وتنظيم أوقات تحصيلها.
خامسًا: نزع السياسة من أفكار الجيش.
سادسًا: تعميم اللغة العربية في جميع الولايات وبين المسلمين بنوعٍ أخص،
وذلك لأن مظهر الدولة إسلامي والقرآن عربيٌّ.
***
رأي العالم الإسلامي الكبير السيد رشيد رضا
منشئ مجلة المنار
الدولة كائن حي، يحفظ وجودها بالسنة التي تحفظ بها حياة سائر الأحياء،
وهي سلامة مزاجها في نفسها ووقايتها مما يعدو عليه من الخارج.
فأما سلامة مزاج دولتنا العثمانية في نفسه؛ فإنما يكون بإقامة الشرع العادل
في القضية، والمساواة في الحقوق بين الرعية، وبناء إدارة المملكة على أساس
اللامركزية، وجعل السلطة العليا شق الأُبلمة بين العنصرين الكبيرين فيها - العرب
والترك - بحيث يكونان منها كالعنصرين اللذين يتكون منهما الماء أو الهواء. وأما
وقايتها ممّا يعدو عليها من الخارج فهو الآن منوط بدول أوربا الكبرى فهن أصحاب
المطامع فيها، ومطامعهن متعارضة. وما دامت كذلك كانت الدولة آمنة على نفسها
من اقتسامهن إياها بالقوة، فيجب أن تتقي استيلاءهن على البلاد بقوة المال
والسياسة، أي بالفتح السلمي، وأن تقوي مزاج الأمة بالمال والعلم وإعدادها للدفاع
عن نفسها. فإذا هي فرطت في مرافقها وأملاكها فباعتها للأوربيين، وبقيت على
تبذيرها، وتوهمها أنها تستطيع أن تحمي نفسها منهن بقوتي الدولة البرية والبحرية
الرسميتين، ولم تجعل كل اعتمادها على الأمة، فالخطر عليها من الفتح
السلمي، أقرب وأقوى من خطر الفتح الحربي.
***
رأي الكاتب التحرير الشهير داود أفندي بركات
رئيس تحرير الأهرام
رأيي في إصلاح السلطنة العثمانية أن تقسم مناطق، وأن تكون كل منطقة
مؤلفة من العناصر المتفقة في التقاليد، العادات واللغة، فتعطى الاستقلال الإداري
تبتّ مِن أموره كل ما لا يتناول منطقة أخرى أو أكثر من منطقة. ويعيّن لكل
منطقة مندوب سامٍ يعاونه مجلس إدارة يؤلف من الفنيين في الأمور المالية والإدارية
والقضائية والعسكرية، ويؤخذ للمركز العام جزء معين مِن دخل كل منطقة، وتلغى
الضرائب العشرية، وتقرر ضرائب ثابتة معينة على الأملاك، وتوضع قوانين
للشركات على اختلاف أنواعها، ويوحد القضاء فلا يكون من اختصاص رجال
الدين إلا الأمور الشخصية، فتكون الدولة مؤلفة من ولايات متحدة أو مناطق متحدة.
ذلك رأيي في إنهاض السلطنة بسرعة.
***
رأي العالم المؤرخ جرجي بك زيدان
صاحب مجلة الهلال
العلة الحقيقية في حال الدولة العثمانية اليوم فقر المملكة واضطراب الحكومة.
والحكومة الدستورية في أيدي الأمة، والأمة العثمانية ضعيفة الأخلاق،
عريقة في الانقسام، بسبب ما توالى عليها من أعصر الفساد.
أما المملكة ونعني الولايات الباقية منها في آسيا فليس فقرها أصليًّا فيها،
وكل ولاية منها كانت في بعض الأزمان مملكة قائمة بنفسها، فالعراق كانت وحدها
مملكة البابليين والآشوريين، وبها اعتزّ العباسيون في إبان دولتهم، وكانت جبايتها
ثلث جباية مملكتهم الواسعة الممتدة من حدود الهند إلى شواطئ الأتلانتيكي.
وسوريا كانت مؤلفة مِن عدّة دول ثُم اعتز بها السلوقيون أجيالاً، وكذلك آسيا
الصغرى، وظلّت مدة هي أعظم أركان الدولة العثمانية.
فهذه الولايات إذا أحسنت سياستها وإدارتها صارت غنيّة. وهذا لا يتم والأمة
كما تقدم. فالوسيلة المثلى للنهوض بالدولة العثمانية إنما هي ترقية الشعب، وهو لا
يقدر أن يرقّي نفسه رغم استعداده الطبيعي للرقي. وقد يقوم بذلك حاكم عادل عاقل؛
إنما يشترط أن يكون مستبدًّا، وهذا لا يتيسر والحكومة دستورية. فلا بد مِن
الاستعانة بالأجانب وأسلم الطرق أن تتحالف الدولة العثمانية مع دولة تثق بصداقتها،
فتستعين برجالها على إصلاح حكومتها وترقية شعبها وصيانتها مِن مطامع الدول
الأخرى، بشرط أن لا يكون لهذه الدولة مطمع في الاستعمار. فإذا وفقت إلى ذلك
في أثناء أربعين سنة نهضت واسترجعت رونقها.
***
(رأي الشاعر الكاتب الطائر الصيت)
خليل أفندي مطران
أخي، سألتني عمّا أرتئيه لإصلاح الدولة العلية. فالذي أرتئيه إنّما هو
أمر واحد يلخص في كلمة واحدة: التعليم.
منذ عشرين سنة أرقب حوادث الدولة وأستقرئ ما يجري فيها، فالذي بدا لي
مِن شأنها في كل حال: أن الحكام كانوا لا يهتمون بإصلاحها اعتمادًا منهم على
جهلِ الأمة وعلى تسليمها لهم بسبب ذلك الجهل، وأن المحكومين كانوا فاقدي الحيلة
في التماس مَا هو خير لهم وكانوا صابرين على مضض. وربما أومض لهم بارق
الإصلاح في إحدى المصادفات فتألموا منه تألمهم من الرمد المفاجئ.
فهؤلاء المحكومين ما لم يتعلموا لا يقيمون لأنفسهم وزنًا ولا يفرّقون بين حقٍ
لهم وحقٍّ عليهم، كما أن أولئك الحكام أيًّا كان جنسهم ودينهم يلبثون أبد الدهر
متنكرين لأمتهم جانين عليها، إلا حيث تضطرهم إلى الإصلاح اضطرارًا، وتأخذ
منهم قسرًا ما يأبونه عليها اختيارًا. وكل ذلك لا يتم شيء منه إلا بالتعليم.
***
رأي الكاتب الشهير
محمد أفندي مسعود
حياة الدولة في مستقبلها، ومستقبلها في حكومة كفيلة باسترجاع مجدها
المضيّع، وهذه الحكومة لا توجد؛ إلا متى عرف رجالها قدر أنفسهم. فوضعوها
فوق عبث الأحزاب.
***
رأي الصحافي الخبير والكاتب الألمعي
سامي أفندي قصيري
المحرر في المقطم
لمّا كانت الدولة العثمانية فيما مضى دولة استبدادية قائمة على حكومة الفرد
كانت تقوى بقوة ذلك الفرد وتضعف بضعفه وتسعد بسعده وتشقى بشقائه. أمّا الآن
وقد أعلن فيها الحكم الدستوري مراعاةً لأحوال الزمان والمكان وتبدلت حكومة الفرد
بحكومة الأمة، فصلاح الحكومة قائم بصلاح الأمة. لا يكون ذلك في رأيي إلا
بنشر التعليم الحر بين طبقاتها، والفصل بين دنياها ودينها، والتأليف بين
عناصرها وطوائفها، حتى تصبح جميعها كتلة واحدة يحركها من أعلاها إلى أسفلها
عامل واحد، وهو عامل الوطنية، وتجمعها مِن أقصاها إلى أدناها جامعة واحدة
هي الجامعة العثمانية.
***
رأي الكاتب الشهير فرح أفندي أنطون
صاحب مجلة الجامعة
إن سنّة التطور (evolution) التي تحكم العالم المادي والعالم الاجتماعي
أمر لا مفرّ منه. فما السبيل إلى جعل التطور في السلطنة لا عليها؟ لا أظن أن
صديقي المؤلف يكلفني الجواب على هذا السؤال في بضعة أسطر. على أن كل ما
يقوله الكاتب ويفكر فيه المفكر في هذا الشأن أمر معلوم، فما تنقصنا الأقوال ولكن
تنقصنا الأفعال.
فقد يقال: العدل والسواء وتوسيع سلطة الولايات وقطع دابر الرشوة بحسن
اختيار الموظفين وشدة مراقبتهم وإصلاح المحاكم وتنظيم البوليس وتقويته وإنشاء
الطرق الحديثة واستثمار الأرض ظهرها وبطنها (الزراعة والمعادن) وإحياء
الصناعة والتجارة والمستشارون الأجانب وتنظيف الدوائر العليا والدنيا
…
إلخ.
وكلها أشياء جميلة. ولكني أرى أمرًا آخر مقدمًا عليها - وإن وجد المال
وقوة الإرادة لإنفاذها - وهو ما أسميه (الانسلاخ) ؛ أعني به انسلاخ الرجل
الشرقي القديم - وكلنا ذلك الرجل - مِن جلده القديم وروحه القديمة واتخاذه جلدًا
جديدًا وروحًا جديدة، ومعنى هذا - بكلام مجرّد مِن الزخرف والخيال - تفسير
السياسة التي حكمت بها السلطنة وجعلها بوزيتيفست (POSITIVISTE) وهنا
المشكلة العظمى. فإنه يجب بناء أعمال الحكومة على هذه السياسة من غير أن
يصدم هذا البناء معتقدات العناصر المختلفة وأوهامها، أي سوق التطور في طريق
هذه السياسة من غير أن يؤدي إلى كسرٍ في أعضائها. ورأس سياسة البوزيتيفست
أن يفصل الدين عن السياسة الدنيوية عند جميع العناصر العثمانية. وبعد هذا
الفصل يمكن الالتجاء إلى مُوحِّدَةِ الأمة وبَانِيَةِ أساس مستقبلها؛ أعني بها المدرسة
الابتدائية الإلزامية واحدة لجميع أبناء الأمة، وبمعزلٍ عن المذاهب الدينية لتوحيد
أغراض الأمة وأهوائها ما أمكن التوحيد، وجعلها أمة واحدة لا أممًا مختلفة كما هي
الآن.
***
رأي الأستاذ القانوني الشهير
عزيز خانكي بك
يجب أن تبدأ الدولة بإعطاء ولايتها الاستقلال الذاتي الداخلي ثُم تجعل الصلة
بينها وبين ولاياتها كالصلة بين ممالك ألمانيا والإمبراطورية، أو كالصلة بين
الولايات المتحدة الأميركية والجمهورية، ثم تتعاون جميع الولايات على تكوين قوة
الدولة البرية والبحرية؛ بمعنى أن كل ولاية تشترك بنسبة ثروتها.
هذا من جهة سياسة الدولة مِن حيث مجموعها، أما رُقيّ الولايات فلا أمل فيه
إلا بإنشاء المحاكم، ووضع القوانين النظامية على الطريقة العصرية، وإقامة
المدارس، ومد السكك الحديدية، وتوطيد أركان الأمن العام، وإجراء الإصلاحات
العامة اللازمة لكل بلدٍ مثل إنشاء السكك الزراعية، وبناء القناطر للري، وتسهيل
المواصلات البرية والبحرية، وتعميم بعض النظامات الغربية، مثل التلغرافات
والتلفونات وتنظيم البريد داخل الولايات، وتشجيع الأهالي على إنشاء الشركات
للاستثمار بخيرات هذه الأقطار التي يقال إنها كلها كنوز لا تنفد.
***
رأي الأستاذ الفاضل الشهير
إسكندر بك عمون
أصلح نظام للدولة - على ما بين العناصر والولايات العثمانية من التباين في
الحاجات والأخلاق، والعادات والتقاليد، وعلى ما بين أهليها من التفاوت في
الحضارة - أن تجعل ممالك أو ولايات مستقلة في جميع شؤونها الخاصة استقلالاً
تامًّا حتى في قوانينها وفي شكل حكومتها، مع ارتباطها جميعًا في الشؤون العمومية
على نحو نظام الولايات المتحدة الأميركانية أو الممالك الجرمانية، فتسمى حينئذٍ
الولايات أو الممالك العثمانية المتحدة.
ولهذا النظام مزية على كل نظامٍ آخر وهي: أنه النظام الوحيد الذي يمكنه أن
يجمع بين الولايات والإمارات العربية في جزيرة العرب وسائر الولايات الممتازة
وغير الممتازة.
***
رأي الكاتب العالم نجيب بك البستاني
أحد مؤلفي وأصحاب دائرة المعارف البستانية
أهم ما يجب لإحياء أمر الدولة العثمانية وإعلاء شأنها إنما هو العدل الصحيح
في الرعية، وإصلاح المالية، فهما أساس الملك وبهما قوام الدول. ذلك بأن
تشترك جميع عناصر المملكة على نسبة كل منها إلى المجموع فيعهد في الوظائف
إلى ذوي الكفاءة، وتؤدى الرواتب في مواقيتها، وتوضع المكوس على ما تطيق
الرعية، وتستثمر المعادن، وتقام أعمال الري والطرق الحديدية وغيرها على
السواء في جميع أقطار البلاد، وتستعمل الدولة في الإصلاح وتعميم التعليم العلماء
الراسخين من الشرقيين والغربيين، ويكون الانتخاب على ما يضمن لكل ملة العدد
النسبي من الأعيان والثواب دون محاباة أو تفاضل، فمتى حصل ذلك توفرت
الأموال واتّحدت كلمة الجيش، وساد الأمن واستوثقت الرعية من الوازع،
وانتظمت الشورى وحصلت الألفة بين الأمم المختلفة، وانصرف همُّ القائمين بالأمر
إلى استصلاح الزراعة وترقية الصناعة والعناية بأسباب العمران، ونبذوا الشقاق
وصدقوا في حب الوطن وتعاونوا على الأمر مخلصين منزهين عن المطامع
الشخصية بما يزيد هيبة الحكومة ويؤيَّد سلطانها.
يتم ذلك - بإذن الله - إذا امتنعت الدول عن تعكير الأمر على العثمانيين
وجرى هؤلاء - نحو ما تقدم - ربع قرن أو ما يزيد؛ لتنال الناشئة - وعليها
المعول في الاحتفاظ بعمل الإصلاح - من العلم والمدنية والمران على الأعمال ما
يضمن للدولة كيانها وعظمتها، وللعثمانيين اتحادهم واستقلالهم.
***
رأي الكاتب البليغ
الأستاذ أمين أفندي البستاني
سألتني رأيي في الدولة ومصيرها: جاز بالدولة في هذا العام عبرة كبرى إذا
لم تعتبر بها نالها ما هو أشر منها.
وللدولة الآن بقية ملك هو أبعد مدى وأمنع حمى وأطيب بقعة من جُلّ الممالك
الأوربية، فهل لها أن تعدل في الباقي من هذا الملك وتمنعه حادثات الدهر؟ الله
أعلم. على أن الدولة لا تجهل أشراط الملك على المالك، وما هو مبقٍ له وما هو
ذاهبٌ به، حتى لقد أصبحت الدلالة على وجوه الإصلاح المنشود من مبتذلات
الكلام، وملوكات الأفواه والأقلام، فهل للدولة أن تعمل بما علَّمها الدهر؟ على
حين لم يبق لها من ناصر إلا ما تسعى إليه من ترميم هذا الملك العزيز، وإلا فقد
قضى الله بما لا دافع له ولا مانع له، وحسبكم الإشارة يا ألباء هذه الدولة. فاعدلوا
بين ضروب الرعية؛ لأن دولتكم مستمدة من جُملتها لا من أبعاضها، وقدّموا الكفء
على غيره مهما كانت نبعته ومنبت أسلته، واستعملوا الأجنبي في تدبير ما أنتم
ضعاف عن تدبيره، واسلكوا القصد في عملكم من غير سرفٍ ولا تفريطٍ، وخذوا
بالجديد الصالح واخلعوا القديم؛ ثُم أعدّوا للملك عدّته مِن رجالٍ ومالٍ، واللهُ الواقي
في هذا الباقي.
***
رأي أستاذنا الاجتماعي الكبير
أحمد لطفي بك السيد
مدير الجريدة
(وصل في آخر ساعة لغياب حضرته عن القاهرة)
راجعت نفسي فوجدتني غير حاصل على المقدمات التفصيلية اللازمة لتكوين
رأي صحيح في الوسائل العلمية لإصلاح الدولة العلية، وإن الذين يستطيعون
معرفة هذه الوسائل هم رجال الدولة المشتغلون بسياستها والواقفون بأنفسهم على ما
أجهله من المقدمات الضرورية لتكوين رأي صحيح؛ غير أن لرقي الأمم وهبوطها
قوانين قد تكفي لتكوين رأي إجماليّ ونظريّ في الإصلاح.
مهما كانت الأسباب التي حملت أوربا على اضطهاد الدولة العلية فلا شك في
أن وقوعها في الضعف والهرم هو أهم تلك الأسباب، وليس يوجد مانع طبيعي
يمنع الدولة بعد أن مسّها الهرَم مِن استعادة شبابها بالأخذ بالتعليم الحديثة مِن حيث
الحكم والتربية والتعليم وتدبير حالها الاقتصادية على وجهٍ يكفل لها النظام والقوة.
ولست أجد في هذا الحاضر ما يرجح كِفّة تُوقع الشر في المستقبل على كِفّة انتظار
الخير. فإذا قام العنصر الحاكم باحترام أطماع العناصر المحكومة والنهضة بالأمة
عن الجمود إلى التسلح بجميع الأسلحة الحديثة؛ إن في التربية وإن في الاقتصاد،
أمكن الحكم بهذه الدلائل على الإصلاح المنتظر.
نعم، إن للظروف الخارجية دخلاً في إصلاح الدولة ولكن العثمانيين هم
المسؤولون وحدهم عن إجراء هذا الإصلاح، عليهم عمل ما في قدرتهم، والله
يتولى أمر ما لا يقدرون عليه.
(المنار) :
هذه آراء أشهر حَمَلَةِ الأقلام وعلماء السياسة والقوانين مِن المصريين
والسوريين، وأكثرهم متّفقون في الرأي فيما صرّحوا به وما لم يصرّحوا، ولا تكاد
ترى خلافًا صريحًا بينهم إلا في مسألة استخدام الأجانب أو استعانة الدولة بهم،
أجازها أو أشار بها بعضهم تصريحًا أو تلويحًا وحذّر منها بعض وأهملها الأكثرون.
وصرّح جماعة بمسألة اللامركزية أو الاستقلال الإداري للولايات أو الأقاليم،
ولم يحفل هذا الجمهور بمسألة القوة الحربية ولا البحرية التي تعدها الدولة بتقاليدها
الموروثة كل شيء، وما انفردنا بإبداء الرأي في مسألة الدفاع، فلتعتبر بهذه الآراء
الأمة وإن لم تعتبر بها الدولة.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
عبد العزيز بك علي المصري
عبد العزيز بك المصري أو عزيز بك - كما تقول الترك - مِن ضُباط أركان
الحرب المشهورين في الجيش العثماني. وقائد برقة في قتال الجيش الإيطالي، وقد
قُبِضَ عليه في الآستانة منذ شهرين وسجن بأمر ديوان الحرب العرفي، ولم يعرف
السبب الرسمي لذلك، فحدث لذلك من التأثير السيئ في مصر وسوريا وغيرهما
من البلاد العربية فوق ما كان ينتظر، وصار ذلك شغل الجرائد العربية الشاغل،
وسرى هذا التأثير إلى كثير من الجرائد الأوربية.
وتناقلت الجرائد عن الآستانة أن الذي وشى به هو الشيخ عبد العزيز جاويش
الذي وظيفته التجسس على العرب. وقد دعا شيخ الجامع الأزهر أشهر علماء
المصريين وفضلائهم إلى عقد اجتماع للتشاور بما يجب اتخاذه لإنصاف هذا الرجل،
فاجتمع ألوفٌ مِن الناس في 26 من هذا الشهر. وكان قد دُعي إلى الخطابة فيما
يتعلق بهذا الموضوع رفيق بك العظم ومحمد أفندي لطفي جمعة ومحمد أبو شادي
بك وإبراهيم بك الهلباوي - الثلاثة من المحامين - فخطب كل منهم فأجاد، وأثنوا
على عبد العزيز بك المصري وأطروا خدمته للدولة وأقاموا الدلائل والبينات على
استهجان القبض عليه، وفنّدوا ما شاع وما تصوّر مِن اتهامه به. وخطب صاحب
هذه المجلة خطبة ارتجالية وجيزة اقترحت عليه عندما وصل وأخذ مجلسه مِن مكان
الاحتفال، واختار ناظم عِقد اللجنة حسن باشا رضوان أن يكون الخطيب الثاني،
فأجبنا الطلب، ثُم اقترح علينا أن نكتب ملخص ما قلناه وننشره وهو هذا:
اقترح عليّ الآن أن أقول شيئًا في الموضوع الذي عُقد لأجله هذا الاجتماع ولم
يكن اسمي في جدول الخطباء وهم كثير فأنا أقول كلمةً وجيزةً حتى لا أضيّع على
الخطباء المستعدين وقتهم.
سمعتم ما شرحه الخطيب الأول (رفيق بك) من خدمة عبد العزيز بك
المصري للدولة والأمة في إقامة الدستور وتأييده، وفي مقاومة حرب العصابات
المسلحة في مكدونية، وفي اليمن وبرقة.
وستسمعون من سائر الخطباء شرحًا أوسع في الثناء على الرجل. وإنني أظن
كما تظنون أن الرجل بريء مِمَّا رماه به السعاة الواشون، ولكني أبني كلمتي على
غير الأساس الذي بنى عليه رفيق بك كلامه، فأنا لا أفرض أنه بريء، وإنه
يخشى أن يؤثر في أعضاء المحكمة التي تنظر في قضيته ما يدور حولها من
السعايات والأوهام فتصدق بعضها وتبني عليه الحكم، ولا أقول يوجب عقابه إذا
كان مذنبًا أو طلب العفو عنه بعد الحكم؛ بل أقول قولاً آخر فهاكموه:
يجوز أن يكون عبد العزيز المصري قد أتى بذنبٍ، لأنا نحن المسلمين لا
نقول بعصمة أحد من البشر غير الأنبياء الذين يبلغون رسالات ربهم فيما يتوقف
عليه أمر التبليغ وحكمته، كما يجوز أن يذنب كل واحد من الناس وليس فيهم أنبياء
مرسلون. نُجوّز هذا عقلاً وإن كان لدينا دلائل متعددة تؤيد البراءة الأصلية،
أظهرها أن الرجل بقي زمانًا في الآستانة بعد عودته من برقة كانت توكل إليه
الأعمال العسكرية التي لا توكل عادة إلى المجرمين المستحقين للسجون، ولم يؤخذ
بالتهمة المبهمة إلا بعد استقالته من الخدمة، ولم يكن له بعدها عمل صالح ولا سيئ.
وإنما أخذ بسعاية واشٍ مفسدٍ، فلنفرض أنه مذنبٌ، وأن ذلك الواشي الخبيث
صادق.
أنتم تعلمون أن الأمم لا تعز ولا ترتقي إلا بالرجال القادرين على الخدمة
العامة للأمة القائمين بها، وهؤلاء الرجال قليلون، لذلك يجب أن يضن بهم وتقال
عثراتُهم، وعزيز المصري مِن هؤلاء الرجال؛ بدليل ما قام به مِن الخدمة العامة
للدولة والأمة، فإذا صدق ذلك الواشي النَّمَّام الخبيث وما كان إلا كذوبًا في زعمه أنه
قد أتى ذنبًا يحاكم عليه، أليس له من حسناته وخدمته العامة شفيعٌ يقتضي أن تغفر
الدولة ذنبه وتقيل عثرته؟ وهل كان الذين يريدون الانتقام منه بُرآء من الذنوب
والعثرات؟ أم نقول لهم كما قال المسيح عليه الصلاة والسلام حين جيء
بالمرأة الزانية لأجل رجمها؟
كلا؛ إن لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوةً حسنةً، ولنا في
سيرة أصحابه وأئمة العدل مِن خلفائه ما نهتدي به في مثل حادثة عزيز المصري.
كان أبو محجن الثقفي مدمن خمر في الجاهلية وقد أسلم ولقي النبي صلى الله
عليه وسلم وروى عنه حديثًا.
وكانت الخمرة قد أحدثت له مرض الخمار فكان لا يستطيع تركها، وكانوا
يجلدونه إذا شرب، فيرى ألم الجَلد دون ألم الخمار. وقد حضر حرب القادسية مع
سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه؛ فحبسه سعد وقيّده بتهمة الشرب، وقد التحم
المسلمون مع المجوس في معركة شديدة، وكان سعد مجروحًا لم يحضر المعركة؛
بل قعد على سطح بيته ينظر ما يفعل المقاتلون، فلمّا رأى أبو محجن رحى الحرب
دائرة وخاف على المسلمين أن يغلبوا، رغب إلى امرأة القائد العام أن تحلّه من قيده
ليحضر المعركة، وعاهدها بأن يعود إلى قيده إذا هو سلم، ففعلت، فوثب على
فرسٍ لسعد يقال لها: البلقاء، وحمل برمحه على جيش الأعداء، فكان لا يحمل حملةً
إلا انهزم الأعداء أمامه.
وكان سعد رضي الله عنه يرى ذلك ويتعجب ويقول: الكرُّ كرُّ البلقاء،
والحمل حمل أبي محجن [1] وأبو محجن في القيد!!
ولمّا انهزم العدو رجع أبو محجن إلى قيده كما وعد امرأة سعد. وأخبرت هي
سعدًا بما كان، فأطلقه من قيده، وقال: لا أحد اليوم رجلاً نصر الله المسلمين على
يديه.
فقال أبو محجن: لقد كنت أشربها إذ يقام عليَّ الحد فيطهرني، وإذ قد
حابيتني [2] فوَالله لا أشربها أبدًا. وتاب من ذلك اليوم.
ولدينا شاهد آخر من وقائع القادسية: زُهرة بن حوية هو الذي قتل الجالينوس،
قائد جيش المجوس، وقد أخذ سلبه بدون إذن القائد العام سعد بن أبي وقاص،
فانتزعه سعد منه وأراد أن يؤاخذه، ولكنه كتب إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب
يستأمره في ذلك. فكتب إليه عمر رضي الله عنه: تعمد إلى مثل زُهرة وقد صلى
بما صلى به، وبقي عليك ما بقي من حربك وتكسر فُوقه؟ [3]
أنكر سيدنا عمر علي سعد عمله، وأمضى لزهرة سلبه، لأنه رأى أن عمله
الماضي والحاجة إلى عمله في المستقبل أرجح من هذه المخالفة، وأن المصلحة
تقتضي ذلك.
إن لنا فوق هذا كله أسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم في خبر
حاطب بن أبي بلتعة: نقض مشركو قريش عهد النبي صلى الله عليه وسلم فأراد أن
يزحف عليهم لفتح مكة، وكان لحاطب أهل ومال بمكة خاف عليهم لأنه ليس لهم
أحد يحميهم، فكتب إلى أهل مكة يخبرهم بعزم النبي صلى الله عليه وسلم، فعلم
النبي صلى الله عليه وسلم بما كان، وأرسل مَن أخذ الكتاب مِن امرأة كانت تحمله
في عقاص شعرها، وسأل حاطبًا عن ذلك فاعترف واعتذر بالخوف على أهله
وولده وأنه عمل ما لا يضر الله ولا رسوله؛ فقبل عذره، وأراد عمر بن الخطاب
الذي تضرب الأمم بعدله المثل أن يقتله؛ لأن إفشاء سر الحرب من أكبر الذنوب
العسكرية فجعله عمر دليل النفاق، واستأذن النبي صلى الله عليه وسلم بقتله
فلم يأذن له، وقال (إنه شهد بدرًا) .
عدّ النبي صلى الله عليه وسلم شهود غزوة بدر مِن أقوى آيات الإيمان،
والصدق والإخلاص في الإسلام، لأن المسلمين كانوا وقتئِذٍ في قلة عدد، وقلة مال،
وقلة طعام، وقلة ركائب؛ كانوا في أشد الضعف، وكان المشركون في أَوَجِّ
قوتهم، فمَن بذل نفسه في سبيل الله في مثل تلك الحال لا يبذلها إلا بباعث الإيمان
وحافز الإخلاص، وتلك الحسنة تتضاءل بإزائها أي سيئة من السيئات.
فلنفرض أن عبد العزيز المصري قد اجترح ذنبًا عسكريًّا كبيرًا (كذنب
حاطب أو ماليًّا كذنب زُهرَة بن حوية، أو شخصيًّا كذنب أبي محجن رضي الله
عنهم) وأن ذلك الواشي الخبيث صادق فيما رماه به - وما كان الواشي النمّام
الخبيث إلا كذوبًا فاسقًا - أليس له مِن الجهاد في سبيل الحكومة الدستورية عند
تكوينها، ومِن الدفاع عنها أيام كان الخطر محدقًا بها، ما يشبه حسنة حاطب في
شهود غزوة بدر؟ وما كان حاطب ممتازًا فيها بشيء انفرد به دون سائر مَن
حضرها، ولا كان في مقدمة الذين أبْلَوا فيها وأثخنوا؟ وأما عبد العزيز المصري
فكان في مقدمة الضباط الذين أَبْلوا في فتح الآستانة، وفي غيرها من الأعمال
العسكرية التي أيدت الحكومة الحاضرة. فهو جدير بأن يكتفى منه بالأعذار، إذا
فرضنا أنه ارتكب بعض الأوزار، دع خدمته للدولة في عقد الصلح بينها وبين إمام
اليمن، بعد حرب استمرت عدة أجيال، سفكت فيها دماء مئات الألوف مِن الرجال،
وضاع بها القناطير المقنطرة من الأموال، ولم تستفد الدولة مِن ذلك فائدةً ما،
فكان ذلك الصلح من أفضل الأعمال وأنفعها للدولة ولأهل اليمن، ثُم دع خدمته في
قتال الجيش الإيطالي في برقة.
وإذا كان هذا الاجتماع العظيم قد عُقِد لأجل التشاور في إنصاف هذا الرجل،
أو إنقاذه من الخطر، قد جعل تحت رياسة الأستاذ الأكبر شيخ جامع الأزهر،
وشهده طائفة من أكبر علمائه، مع هذا الجمع العظيم من خواص البلاد؛ فالذي أراه
وأقترحه هو أن ترسل برقية بإمضاء الأستاذ الرئيس إلى مولانا السلطان المُعَظم
يخاطبه فيها بعنوان الخلافة، ويفتتحها بقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (الأحزاب: 21) ، ويطلب منه بأن لا يؤاخذ عبد العزيز بك
المصري بما عسَاه ينسبه إليه ديوان الحرب من ذنبٍ أو تقصيرٍ؛ لإخلاصه وسابق
خدمته للدولة، اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم في مسألة حاطب،
وبأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في إمضاء سلب الجالينوس
لزُهرَة بن حَويِة، وبسعد بن أبي وقاص في مسألة أبي محجن رضي الله عنهم
أجمعين) ، ويظهر له رغبته ورغبة هذا الجمع الكبير مِن علماء مصر وفضلائها
في ذلك. وأكبر ظني أن هذا هو أرجى ما يرجى نفعه في الآستانة.
هذا وإنني أختم كلمتي بالشكر لكم أيها الفضلاء الذين قصدتم هذا المكان
للسعي في إنقاذ أخٍ لكم من الهلاك، فإن هذا خدمةٌ للإنسانية، ومحافظةٌ على حقوق
البشر في الحياة والحرية. وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ
جَمِيعاً} (المائدة: 32)، قال بعض مفسري السلف: إحياؤها السعي في إنقاذها من
الموت والسلام.
هذا وإن لجنة الاجتماع لم تعمل بهذا الاقتراح لأنها كانت قد وضعت صورة
برقية باسم الصدر الأعظم تتضمن معنى شفاعة الأمة المصرية بالرجل، فجاءها
جواب أنور باشا ناظر الحربية، ملخصه أن المجلس الحربي مستقل تمام الاستقلال
لا يطرأ عليه أقل تأثير! !
_________
(1)
لفظ سعد رضي الله عنه: الضبر ضبر البلقاء، والطفر: طفر أبي محجن
…
إلخ والضبر بالضاد المعجمة: كر الخيل وعدوها، والطفر: الوثوب.
(2)
كلمته المأثورة (بهرجتني) ونحن ذكرنا المعنى المراد من هذه الكلمات ليفهمها جميع الحاضرين وقد أشكل على بعض الناس ترك سعد إقامة الحد وجهلوا سببه، وهو أن الحدود لا تقام في الحرب ولا دار الحرب، كما تراه في الفتوى الملحقة بالتفسير من هذا الجزء، وسعد يعلم هذا، وهو مما وصى به عمر، ولا يبعد أن لا يعرف مثل أبي محجن.
(3)
الفوق بالضم: موضع الوتر من السهم، ويطلق على السهم بمعنى الحظ وبمعنى أعلى الفضائل.
الكاتب: محمد رشيد رضا
التعصب على المنار
هاج بعض غلاة التعصب على المسلمين هيجة شؤمى على المنار في هذا
العام، وجدّدوا السعي إلى الوكالة البريطانية أولاً وبالذات، وإلى الحكومة المصرية
ثانيًا وبالتبع، لتبطش بصاحب المنار فتلقيه في غيابة السجن، أو تنفيه من أرض
مصر، استعانوا على محلهم وسعاتهم ببعض القسيسين وغير القسيسين من الأجانب
والوطنيين، ونفثوا سموم تعصبهم في جرائد القبط وبعض الجرائد الإفرنجية التي
يحرر فيها بعض السوريين. وكان محضاء نار هذه الفتنة، والمدبر الأول لهذه
المكيدة، يوسف الخازن اللبناني الذي يعيش من التحرير في جريدة الوطن القبطية،
وجريدة دوكير الفرنسية، وهو الراسخ في بُغْضِ المسلمين الذي نُقل عنه أنه قال:
إذا صافحه مسلم تضطرب أعصابه، ولهذا لا تكاد تراه يبدأ مسلمًا من معارفه
بالمصافحة.
وقد عرف القرَّاء مما كتبناه في الجزء الماضي شيئًا من خبر هذه الهيجة
التعصبية على المنار، ولعل أن أدباء القراء ظنوا أن ما كتبناه في الجزء الماضي
قد أطفأ - بما يتجلى فيه من حسن نيتنا - نيرانهم، واستخرج بحججه وسماحته
أضغانهم، كلا؛ إنه لم يزدهم بغيًا وعدوانًا، وسعايةً ووشايةً وزورًا وبهتانًا، فنحن
نثبت من تاريخنا وممّا كتبناه في المنار من أول نشأته إلى الآن، أننا طلاب تسامح
ووفاق، وهم يريدون أن يتبدلوا الشيء بضده فيوهموا مَن يسمع كلامهم أننا دعاة
عداوة وافتراق، نَحْقِر النصارى وندعو المسلمين إلى بغضهم وعداوتهم لأجل دينهم!!
حَسْب الإنسان أن يُعلم من نفسه ومن نيته السعي للخير، والإخلاص في
العمل، فإن كان يبالي باطلاع الناس على عمله ومظاهر حسن قصده، لأجل
الأسوة الحسنة، والتعاون على الخدمة العامة، فحسبه أن يعرف أهل الإخلاص
وحسن النية منه ما يعرفه من نفسه.
ونحن ولله الحمد والمنّة أصحاب تاريخ معروف، وأثر في السعي إلى
الإصلاح والاتفاق مدوّن مطبوع، يعرفه قراء العربية، ولا يجهله خواص الأمم
الإفرنجية، وحسبك ما نَوَّهَ به - في العام الماضي - أصحاب المجلة الفرنسية
المصرية بمصر، وجريدة فرنسا الإسلامية في باريس، من حسن تأثير خدمة
المنار في المسلمين بحملهم على التسامح والمدنية، وما سمّوه (المدرسة العبدية)
هو ما بثه المنار من مشرب شيخنا الأستاذ الإمام من إثبات التسامح الإسلامي
والدعوة إليه، والتأليف بين قواعد الإسلام الثابتة، وبين المدنية الصحيحة. وما
قالته هاتان الصحيفتان أخيرًا هو صدى ما كتب في جريدة الطان من بضع سنين في
سياق الكلام عن مسلمي تونس، وما كتبه لورد كرومر عن حزب الشيخ محمد عبده
في تقريره الذي ذكره في عقب وفاته، وهل لمشرب الشيخ محمد عبده وآرائه
مظهر عرفت به في الأقطار، غير مجلة المنار؟ ؛ بل نقول إن هذا المشرب مما
اتفق فيه رأينا مع رأي الأستاذ رحمه الله تعالى، ولم يكن مما تلقيناه عنه، وما لنا
فيه من القول والسعي أكثر مما كان له.
ومن الشواهد على ذلك ما كتبناه في فاتحة العدد الأول من المنار، وفي أول
نبذة فيه بعد الفاتحة، ولم نكن يومئذٍ تلقينا عن الأستاذ درسًا، ولا بسطنا معه في
هذه المسألة وأمثالها قولاً.
قلنا في بيان خطة الصحيفة وما أنشئت لأجله ما نصه: (وتحاول إقناع
أرباب النِّحَل المتباينة، والمذاهب المختلفة، أن الله تعالى شرع الدين للتحابّ
والتوادّ والبر والإحسان، وأن المعارضة والمناهضة، والمناصبة والمواثبة،
تفضي إلى خراب الأوطان وتقضي على هدي الأديان) .
وبينت في النبذة التي بعد المقدمة أن لفظ الكفر لم يستعمل في الكتاب والسنة
للإهانة؛ بل لبيان حقيقة من الحقائق. وأنه يستعمل الآن في غير ما كان يستعمل
من قبل، ومنه إرادة السب والشتم، فلا يجوز أن يوجه بهذا المعنى في الخطاب
بنداء أو وصف إلى مَن حرَّم الشرع إيذاءَهم وجعل لهم حقوقًا محترمةً من الذمّيين
والمعاهدين (الأجانب الذي بينهم وبين المسلمين عهود على ترك الحرب أي غير
المحاربين) واستخرجت نصًّا من كتب الفقهاء على ذلك لا حاجةَ لإعادة ذكرِه هنا.
بعد هذا التمهيد أقول ليوسف الخازن وأصحاب الجرائد القبطية من غلاة
التعصب ومبغضي المسلمين كيفما كانوا، ولجميع ما هو مثلهم من وطني أو أجنبي:
قولوا فينا ما شئتم، وظنوا ما شئتم، واعتقدوا ما شئتم، وهيجوا مَن شئتم،
ولتدب عقارب سعايتكم إلى مَن شئتم، فنحن لا نبالي بكم، ولا نأبه لرضاكم ولا
لسخطكم، فمَن أخطأ إلى مثلكم فهو الذي يحسن منه أن يصرَّ ولا يعتذر؛ إذ لا
صارف لكم عن شيء من الشرّ، إلا مكانتكم من الضعف والعجز، وها أنتم أولاء
قد أجمعتم كيدكم، وبذلتم في سبيل إيذائنا جهدكم، فما كنتم إلا خائبين مخذولين؛
{إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ المُفْسِدِينَ} (يونس: 81) نعم، لو كان ساسة الإنكليز
كساسة القبط في عقولهم وأخلاقهم، وكان لورد كتشنر كيوسف الخازن في تعصبه
وحنقه على المسلمين، لأقفل المنار، ونفي صاحبه من هذه الديار، وتبعه إقفال
الأزهر بعد دار الدعوة والإرشاد، ولو رأيت من جمهور المشاركين لكم بلقب الدين ما
رأيت منكم، لقلت للمسلمين إنه قد ظهر لي في السنة السابعة عشرة من دعوتي
إياكم إلى الاتفاق والتعاون مع هؤلاء الناس على ترقية البلاد، إنهم لا يمكن أن
يتفقوا معكم، ولا يرضيهم منكم إلا خروجكم من دينكم، أو إقامتكم فيه على خوف،
لا تدفعون عنه بحق، ولا تقابلون محاولي إبطاله وإخراجكم منه بالمثل ولا دون
المثل؛ ولكن من فضل الله على عباده أن مثل هؤلاء الغلاة قليل، ولهذا لا نيأس
من خطتنا، ولا نرجع عن قاعدتنا وهي:
(نتعاون على ما نشترك فيه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما نختلف فيه) .
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
المسألتان الشرقية والصهيونية
ما تبددت ثروة شريف باشا الكبير في مصر إلا وكان بددها مكونًا لثروات
جديدة لم تكن، ومددًا لثروات أخرى ومزيدًا فيها، ذهبت تلك الثروة الكبيرة ممن
عجزوا عن حفظها بله تنميتها، إلى أيدي القادرين على ذلك. وكذلك تتبدد الدول
فتتألف من الكبيرة منها دول متعددة، وتنمى وتتسع دول أخرى - سنة الله في تغذي
الأحياء بفرائسها - من أفراد الجنة (الميكروبات) والهوام إلى جماعات
البشر؛ أرقى أنواع الحيوان.
ومن عجائب العِبَر في تفاوت همم البشر، أن ترى كاتبًا صغيرًا في خدمة
غني كبير يطمع أن يرث ثروته أو ينشئ لنفسه مثلها، وذلك الغني يائس مِن حفظ
ثروته واستبقائها وإن تعجب من تكون ممالك البلغار واليونان والصرب والجبل
الأسود والألبان مِن أملاك الدولة العثمانية في أوربا، وتغذي الدول الكبرى بأملاكها
في إفريقية وفتح أفواههن لابتلاع أملاكها في آسية.
فأعجب من ذلك كله تصدي جمعية من يهود أوربة لتكوين دولة جديدة في
البلاد المقدسة من هذه المملكة تتألف من مهاجرة فقراء اليهود الممزقين في جميع
أطراف الأرض بمساعدة هذه الجمعية؟ فكيف تسمو همة جمعية أسسها رجل من
اليهود إلى تكوين دولة من أوزاع المهاجرين الفقراء في بلاد تتنازع على شبر
الأرض فيها أقوى الأمم والدول وتسفل همة أصحاب هذه البلاد عن حفظها لأنفسهم،
دع سمو الهمة إلى تأسيس ملك جديد، في قطرٍ قريبٍ أو بعيدٍ، وهكذا تموت
الناس وتحيا، وهكذا تردى وترقى، وأسباب ذلك ظاهرة لا محل هنا لشرحها،
وكلها تدور حول العلم أو الجهل، وعلو الهمة أو وطوؤها، وكبر المقاصد
وصغرها. (والعلم ما يعرّفك مَن أنت ممن معك) .
علم الصهيونيون أن الدول الكبرى لا يسمحن لواحدة منهن بامتلاك مهبط
الوحي ومصدر الدين الموسوي والعيسوي، وأنه إذا زال ملك الترك من بلاد
فلسطين فلا بد أن تكون مستقلة تحت حماية جميع الدول (وهذا رأي بعضهم في
الحجاز أيضًا) فطمعوا في إرضاء الدول بأن تحل أشكال التنازع بين الدول
والمذاهب المسيحية بأن يكون اليهود هم أصحاب الملك في هذه المملكة؛ بل طمعوا
أيضًا في إرضاء جمعية الاتحاد والترقي بذلك؛ بل يقال: إنهم أقنعوها به فهي
تساعدهم على التمهيد له لتقطع الطريق على العرب وتكثر خصومهم في بلادهم،
ولا محل هنا للبحث في إثبات هذا القول أو نفيه، وإنما جئنا بهذه المقدمة كلها
لأجل تذكير الذين أكثروا القول في المسألة الصهيونية من كتّاب العرب بأنهم ما
فتئوا يدورون حولها ولمّا يدخلوا فيها.
يجب على زعماء العرب أهل البلاد أحد أمرين: إمّا عقد اتفاق مع زعماء
الصهيونيين على الجمع بين مصلحة الفريقين في البلاد إن أمكن - وهو ممكن
قريب إذا دخلوا عليه من بابه، وطلبوه بأسبابه - وإما جمع قواهم كلها لمقاومة
الصهيونيين بكل طرق المقاومة، وأولها تأليف الجمعيات والشركات، وآخرها
تأليف العصابات المسلحة التي تقاومهم بالقوة - وهو ما تحدّث به بعضهم على أن
يكون أول ما يعمل، وإنما هو الكيّ - والكيّ آخر العلاج كما يقال.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
السيدة نُعْمَى آل رضا
في النصف الثاني من ليلة الأحد سادسة ليالي شهر ربيع الأنور وهبنا الله تعالى
بنتًا، سمّيناها نُعْمَى، واللهَ نسأل أن يحقق معنى الاسم في المسمّى، وقد فاتنا أن نذكر
ذلك في الجزء الماضي.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
فتاوى المنار
حديث صحيفة علي كرّم الله وجهه
(س12) من صاحب الإمضاء بمصر
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ وبعد فأرجوكم شرح حديث علي الذي
نقلتموه في (ص483 م 16) من المنار وقوله فيه: (وما في هذه الصحيفة:
العقل وفكاك الأسير ولا يقتل مسلم بكفار) فما الذي تعرفه عن هذه الصحيفة؟ وأين
هي؟ ولماذا أهملها المسلمون؟ وهل ما فيها متفق عليه في جميع المذاهب؟ وإن لم
يكن متفقًا عليه فلِمَ ذلك؟ ولماذا أمر صلى الله عليه وسلم بكتابتها مع أنه نهى
عن كتابة شيء عنه غير القرآن؟ ومتى أمر بكتابتها؟ ومَن كتبها وأين؟ وكيف
لا يقتل المسلم بالكافر؟ فالرجاء الإجابة الشافية عن كل هذه الأسئلة كعادتكم حتى لا
نحتاج لمزيد بيان بعد ذلك.
(المخلص محمد توفيق صدقي)
(ج) الحديث رواه الجماعة؛ أحمد والشيخان وأصحاب السنن بألفاظ
متقاربة.
أمّا البخاري فقد روى الحديث عن أبي جحيفة في كتاب العلم بلفظ: (قلت
لعلي: هل عندكم كتاب؟ قال: لا إلا كتاب الله، أو فهم أعطيه رجل مسلم، أو ما
في هذه الصحيفة. قلت وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل وفكاك الأسير ولا يقتل
مسلم بكافر) . ورواية الكشميهني (وأن لا يقتل
…
إلخ) .
وفي باب فكاك الأسير من كتاب الجهاد بلفظ: (قلت لعلي: هل عندكم شيء
من الوحي إلا ما في كتاب الله؟ قال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، ما أعلمه،
إلا فهمًا يعطيه الله رجلاً في القرآن، وما في هذه الصحيفة. قلت: وما في هذه
الصحيفة؟ قال العقل وفكاك الأسير وأن لا يقتل مسلمٌ بكافرٍ) .
وفي باب الدِيَات بلفظ: (سألت عليًّا رضي الله عنه: هل عندكم شيء ممّا
ليس في القرآن؟ - وقال ابن عيينة مرةً: ممّا ليس عند الناس - فقال: والذي فلق
الحبة وبرأ النسمة، ما عندنا إلا ما في القرآن، إلا فهمًا يعطى رجل في كتابه،
وما في هذه الصحيفة. قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل وفكاك الأسير
…
إلخ) .
ورواه في باب حرم المدينة من كتاب الحج عن إبراهيم التيمي عن أبيه بلفظ:
عن علي رضي الله عنه قال: ما عندنا شيء إلا كتاب الله، وهذه الصحيفة
عن النبي صلى الله عليه وسلم: (المدينة حرم ما بين عائر إلى كذا من أحدث فيها
حدثًا، أو آوى محدثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف
ولا عدل. (وقال) : وذمة المسلمين واحدة، فمن أخفر مسلمًا فعليه لعنة الله
والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل، ومَن تولّى بغير إذن
مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل) .
وفي باب ذمّة المسلمين من كتاب الجزية بلفظ (خطبنا علي فقال: ما عندنا
كتاب نقرؤه إلا كتاب الله وما في هذه الصحيفة. قالوا: وما في هذه الصحيفة؟ فقال
فيها الجراحات وأسنان الإبل، والمدينة حرام ما بين عير إلى كذا، فمَن أحدث فيها
حدثًا أو آوى فيها محدثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه
صرف ولا عدل. ومتى تولى غير مواليه فعليه مثل ذلك وذمة المسلمين واحدة،
فمَن أخفر مسلمًا فعليه ذلك) .
وفي باب إثْم مَن عاهد ثم غدر بلفظ: عن علي قال: ما كتبنا عن النبي -
صلى الله عليه وسلم إلا القرآن وما في هذه الصحيفة. قال النبي صلى الله عليه
وسلم: (المدينة حرام ما بين عائر إلى كذا، فمَن أحدث حدثًا أو آوى محدثًا فعليه
لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه عدل ولا صرف، وذمّة المسلمين
واحدة يسعى بها أدناهم، فمَن أخفر مسلمًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين
لا يقبل منه صرف ولا عدل، ومَن والى قومًا بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله
والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل) .
وفي باب إثم مَن تبرّأ مِن مواليه بلفظ: ما عندنا كتاب نقرؤه إلا كتاب الله
غير هذه الصحيفة، (قال) فأخرجها فإذا فيها أشياء مِن الجراحات وأسنان الإبل،
(قال) وفيها المدينة حرام
…
إلخ) وذكر مسألة الولاء فمسألة الذمة بمثل ما
تقدم) .
وفي باب كراهة التعمق والتنازع والغلوّ في الدين مِن كتاب الاعتصام بلفظ:
خطبنا علي على منبر من آجرّ فقال: والله ما عندي مِن كتابٍ يُقرأ إلا كتاب الله
وما في هذه الصحيفة، فنشرها فإذا فيها أسنان الإبل، وإذا فيها المدينة حرم من
عير إلى كذا، فمَن أحدث فيها حدثًا فعليه لعنة الله -
…
وإذا فيه: ذمّة المسلمين
واحدة يسعى بها أدناهم فمَن أخفر مسلمًا فعليه
…
(إلا أنه قال) : لا يقبل الله منه
صرفًا ولا عدلاً.
وروايات مسلم وأصحاب السنن بمعنى روايات البخاري، وصّرح مسلم
بِحَدَّي المدينة وهما عير وثور (جبلان) ، قال الحافظ في فتح الباري في الكلام
على حديث علي من طريق إبراهيم التيمي عن أبيه:
وسبب قول علي هذا يظهر مما أخرجه أحمد من طريق قتادة عن أبي حسان
الأعرج أن عليًّا كان يأمر بالأمر فيقال له: (فعلناه) . فيقول: صدق الله ورسوله.
فقال له الأشتر: إن هذا الذي تقول؛ أهو شيء عهده إليك رسول الله صلى الله
عليه وسلم؟ فقال: ما عهد إليّ شيئًا خاصةً دون الناس إلا شيئًا سمعته منه فهو في
صحيفة في قراب سيفي، فلم يزالوا به حتى أخرج الصحيفة فإذا فيها - فذكرت
الحديث - وزاد فيه: (المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يدٌ
على مَن سِواهم. ألا لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهدٍ في عهده. (وقال فيه) :
إن إبراهيم حرّم مكة، وإنّي أحرم المدينة ما بين حَرَّتَيْها وحماها كله، لا يُختلى
خلاها ولا يُنفّر صيدُها، ولا تُلتقط لقطتُها، ولا يُقطع منها شجرةٌ، إلا أن يعلف
رجلٌ بعيره، ولا يُحمل فيها السلاح لقتالٍ) ، والباقي نحوه. وذكر في موضعٍ آخر
أن سبب سؤال علي زَعْم بعضهم أن النبي خصه بشيء دون الناس.
وقال في الكلام على حديث في باب إثم مَن تَبَرّأ من غير مواليه: وكان فيها
أيضًا ما مضى في الخمس من حديث محمد ابن الحنفية أن أباه علي بن أبي طالب
أرسله إلى عثمان بصحيفةٍ فيها فرائض الصدقة، فإن رواية طارق بن شهاب عن
علي في نحو حديث الباب عند أحمد أنه كان في صحيفته فرائض الصدقة.
وقال الحافظ: إن الصحيفة كانت مشتملة على كل ما ورد؛ أي فكان يذكر كل
راوٍ منها شيئًا، إمّا لاقتضاء الحال ذكره دون غيره، وإمّا لأن بعضه ملمٌّ يحفظ كل
ما فيها أو لم يسمعه، ولا شك أنهم نقلوا ما نقلوه بالمعنى دون التزام اللفظ كله،
ولذلك وقع الخلاف في ألفاظهم، ولم يقل الرواة: إنه قرأها عليهم برمّتها فحفظوها أو
كتبوها عنه؛ بل تدل ألفاظهم على أنه كان يذكر ما فيها أو بعضه من حفظه، ومَن
قرأها لهم كلها أو بعضها لم يكتبوها؛ بل حدّثوا بما حفظوا، ومنه ما هو من لفظ
الرسول صلى الله عليه وسلم ومنه ما هو إجمالٌ للمعنى كقوله: (العقل وفكاك
الأسير) ؛ فإن المراد بالعقل: دِيَةُ القتل. وسميت عقلاً لأن الأصل فيها أن تكون
إبلاً تعقل؛ أي تربط بالعقل في فِنَاء دار المقتول أو عصبته المستحقين لها.
وقوله: (أسنان الإبل) في بعض الروايات معناه ما يشترط في أسنان إبل
الدية أو الصدقة. وفكاك الأسير ما يفك به من الأسير من فداءٍ أو مالٍ. ففي
الصحيفة بيان ذلك، لا لفظ (العقل، وفكاك السير وأسنان الإبل) . وجملة القول
أننا لا نعلم أن أحدًا كتبَ عن أمير المؤمنين ما كان في تلك الصحيفة بنصه، ولا
أنه هو كتبها بأمر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قال في رواية قتادة عن أبي
حسان أنه سمع شيئًا فكتبه.
وأمّا كتابة الصحيفة مع ما ورد من النهي عن كتابة شيء عن النبي - صلى
الله عليه وسلم - غير القرآن، فيقال فيه: إن النهي عن الكتابة معارض بالأمر بها
كحديث (اكتبوا لأبي شاه) وغيره، والكتابة لأهل اليمن، وكتاب الصدقات الذي
كتبه أبو بكر رضي الله عنه إلى أنس لمّا وجّهه إلى البحرين؛ أي عاملاً على
الصدقة. فإنه قال فيه: (إن هذه فريضة وفي رواية فرائض الصدقة التي فرض
رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين والتي أمر بها رسوله
…
إلخ)
ورواه الشافعي وأحمد والبخاري وأبو داود والنسائي وغيرهم. وروى أبو داود
والترمذي وابن ماجهْ عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي
الله عنه قال: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب الصدقة فلم يخرجه
إلى عماله حتى قُبِضَ فقرنه بسيفه. فعمل به أبو بكر حتى قُبِضَ ثُم عمل به عمر
حتى قُبِضَ
…
إلخ. هذا لفظ أبي داود ثم بيّنه بنحو حديث أنس مختصرًا ولم يذكر
الزهري البقر. وفي رواية عن يونس بن يزيد عن الزهري قال هذه نسخة كتاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتبه في الصدقة وهو عند آل عمر بن
الخطاب، قال ابن شهاب: أقرأنيها سالم بن عبد الله بن عمر فوعيتها على وجهها،
ثُم ذكر أن عمر بن عبد العزيز انتسخها. وقد تفرّد بوصل هذا الحديث سفيان بن
حسين وهو من رجال مسلم إلا أنه ضعيف فيما يرويه عن الزهري خاصة، وتابعه
سليمان بن كثيرٍ مِن رجال الصحيحين، وفي رواية أبي داود لحديثِ أنس أن الكتاب
كان عليه ختم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك مما ورد في
الكتابة.
فمِن الناس مَن يجعل الإذن ناسخًا، ومنهم مَن يجعل أحد النصين مطلقًا
والآخر مقيدًا كتقييد كون الكتابة عنه لتبليغ نصّها والتعبد بلفظها عنه كالقرآن، لئلا
يشتبه بعض الناس، فيمتنع التنافي بينهما حينئذٍ. وقد سَبَقَ للمنار البحث في ذلك
كما يعلم السائل.
وأمّا الأخذ بالأحكام المرْوية عن تلك الصحيفة: هل هو متفق عليه أم لا؟
فجوابه: إن العلماء لم يتفقوا على العمل بها، فمنهم مَن لم يحرم المدنية كمكة،
ومنهم مَن يقول: يقتل المؤمن بالكافر؛ كالحنفية، ومَن خالف مِن العلماء شيئًا مِمَّا
في الصحيفة فله مِن الدليل المعارض له ما يراه مرجحًا عليه، كاحتجاجهم بإقرار
النبي صلى الله عليه وسلم لِمَن صاد النغر (طائر أحمر المنقار كالعصفور) على
جواز صيد المدنية، على أن تلك واقعة حال مجهول تاريخها، وكاحتجاجهم على
قتل المؤمن بالكافر بأن النبي صلى الله عليه وسلم قتل مسلمًا بمعاهد وقال: (أنا
أكرم من وفى بذمته) . رواه البيهقي من حديث عبد الرحمن البيلماني مرسلاً وهو
ضعيف. وبقوله في بعض روايات حديث الصحيفة وفي أحاديث أخرى (لا يقتل
مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده) قالوا معناه المناسب لعطفه على منع قتل
المؤمن بالكافر: ولا يقتل معاهد حال كونه في عهده لم ينقضه بكافر. وحينئذٍ يكون
المراد بالكافر الحربي، أي من كان محاربًا للمسلمين بالفعل أو بالقوة بأن لم يكن
بينه وبينهم عهدٌ ولا ذمةٌ. لأنَّ المعاهد والذميَّ لا يقتل بالحربي إجماعًا، وبعموم
أدلة القصاص، وليس هذا محل تحرير هذا البحث، وإنك تجد تحرير الأدلة فيه
من غير تعصبٍ في (فتح الباري) و (نيل الأوطار) .
فمَن صح عنده قتل المسلم بالكافر فله أن يعدَّه من عجائب مبالغة الإسلام في
العدل والمساواة، ومَن صح عنده خلافه فلا يراه بدعًا في أعمال الأمم الفاتحة،
والزمن زمن الأحكام العرفية أو العسكرية؛ بل ترى الإفرنج لا يقبلون أن يكونوا
مساويين لأمم الشرق والجنوب في الدماء لا في البلاد التي يفتحونها فتحًا حربيًا ولا
سلميًّا ولا في البلاد التي يكونون فيها نزلاء معاهدين كالضيوف. أمّا أحكامهم
العرفية فحسبك نموذجًا منها ما جرى في (دنشواي) من هذه البلاد من تمزيق جلود
بعض المصريين بالضرب المُبرح بالسياط ذات العقد، ثُم شنقهم وصلبهم على أعين
الناس من رجالٍ ونساءٍ وأطفال مِن أهلهم وغيرِ أهْلهم؛ لأنهم تجرَّؤوا على بعض
عسكر الإنكليز الذين صادوا حمامهم عن بيادرهم بالمقاومة والضرب المعتاد الذي لا
يُقصد به القتل، ولا يقتل مثله. هذا وقد اشتهر الإنكليز بأنهم أعدل الأوربيين
وأقربهم إلى الرحمة. وحجّة الإفرنج في تمييز أنفسهم على الشرقيين أنهم أرقى
منهم عدلاً وفضيلةً، وهكذا كان المسلمون فوق جميع الأمم عدلاً وفضيلةً بشهادة
جميع مؤرخي الأمم. وإنما ذكرت السائل بمسألة الأحكام العرفية وبهذا الشاهد منها،
وبما يعاملنا به الإفرنج في بلادنا، ليحاجَّ به مَن يجادل في أمثال هذه المسائل مِن
المخالفين أو متفرنجة المسلمين، محجوبين بنظريات الحقوق عن سيرة العالم
العملي. ومَن لم يسدل على نظره هذا الحجاب يقول كما قال غوستاف لوبون
الحكيم الفرنسي: (ما عرف التاريخ فاتحًا أعدل ولا أرحم من العرب) . وكذا
سائر المسلمين كانوا في فتوحاتهم أعدل وأرحم من غيرهم وإن كانوا دون العرب.
***
دليل منع الحائض من الصلاة وحكمته
(س13) من صاحب الإمضاء في (ههيا - شرقية)
سيدي الأستاذ الرشيد المرشد
السلام عليكم ورحمة الله. وبعد فقد قرأت مباحثكم الرائقة الحكيمة في
موضوع الوضوء والطهارة في المنار فأعجبتني جدًّا، واستفدت منها الشيء الكثير،
فجزاكم الله عني وعن الإسلام والمسلمين خير الجزاء. وإنني لمناسبة هذا المقام
لسؤالٍ عندي قديم، أنتهز هذه الفرصة لأبديه، عسى أن تتكرَّموا بالجواب على
طريقتكم العصرية فأقول:
هل سقوط فريضة الصلاة عن المرأة وهي حائض أو في نفاس من الأشياء
المجمع عليها بين جميع فرق المسلمين، وإذا كانت كذلك أو كانت صحيحة فلِمَ لَمْ
تُذكر في القرآن؛ مع أنه تعالى نهى عن الجماع في الحيض فكان مِن باب أَوْلى أن
ينهى عن الصلاة في مثل هذه الحالة لو كان أراد سبحانه وتعالى أن يكون النهي
لكل زمانٍ ومكانٍ، كما ذكر مسوغات عدم الحج بقوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ
البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} (آل عمران: 97) ومسوغات عدم الصيام أو
بالأحرى ما يمنع الصيام بقوله تعالى: {وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ
أَيَّامٍ أُخَر} (البقرة: 185) .
لم تذكر موانع للصلاة مطلقًا، وإنما ذكرت أعمال يؤتى بها قبل الشروع فيها،
فلا الخوف من الأعداء أو غيرهم في الحرب أو غيرها مسوغ لترك أو تأجيل
الصلاة، فكيف يكون دم الحيض وهو ذلك الدم الذي يتغذى منه الجنين في بطن أمه
مانعًا مِن الصلاة؟ فإنْ صحَّ أن يقال إنه نجس، يصح أن يقال: إن جسم الطفل؛ بل
جسم كل إنسانٍ نجس؛ لأن أصله من ذلك الدم.
العلم الحديث لم يثبت أن في دَمِ الحيض عناصر خبيثة في ذاتها؛ بل أثبت أن
الإتيان أثناء وجوده ضار جدًّا بالمرأة، لأن أعضاءها التناسلية تكون في حالة
احتقان، والأوعية الدموية فيها تكون ممتدة، فيسهل حصول نزيف بسبب حركة
عنيفة، كما يسهل جدًّا دخول مكروبات الأمراض، فتحدث التهابات موضعية
وغيرها قد تذهب بحياة المرأة أو تورثها العقم الدائم مع الآلام الشديدة؛ ولا سيّما عند
مجيء الحيض في كل شهر. والرجل لا يخلو أيضًا من الضرر، فقد يدخل بعض
السائل من الحيض في مجرى البول من القضيب فيحدث التهابًا يشبه السيلان.
وهذا كله ينطبق على قوله عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى
فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي المَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ
حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ} (البقرة: 222) .
فأين هذا من نهي الحائض عن الصلاة وهي عماد الدين؟ ومثلها في طهارة
الأرواح كمثل الماء في طهارة الأجسام، على أن حركاتها من قيامٍ وركوعٍ وسجودٍ
لا تضر الحائض غالبًا، وإن خيف منها الضرر فيمكن أن تؤتى بشكل خالٍ من كُل
مضرة، وليكن أخذ ذلك من قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ
الوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ * فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا
عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} (البقرة: 238-239) .
الحيض لا يمكن اعتباره إلا مرضًا شهريًّا مِن أخفِّ الأمراض فِلَمَ تؤمر المرأة
بالصلاة في أشدّ الأمراض وأكثرها أذًى لها ولغيرها؛ وتنهى عنها في الحيض الذي
لا ينهى عن القيام بأكثر أعمالها اليومية؟ فما رأيكم دام فضلكم.
…
...
…
...
…
المستفيد من علمكم والمستضيء بمناركم
…
...
…
...
…
... الدكتورعبده إبراهيم
(ج) : نقل الحافظ إجماع المسلمين على أن الحائض لا يشرع لها الصلاة ولا
الصيام، وأنها تقضي الصيام دون الصلاة. إلا أنهم نقلوا أن سمرة بن جندب - من
الصحابة رضي الله عنه كان يقول بمطالبة المرأة بقضاء الصلاة أيضًا فأنكرت
ذلك عليه أم المؤمنين أمّ سلمة رضي الله عنها. ونقلوا أيضًا مثل ذلك عن بعض
الخوارج ولم يعتدوا به ولا رأوه مخلاًّ بالإجماع. وأما مخالفة سمرة فهي تخرق
الإجماع، وظاهر كلامهم أنه رجع إلى قول أم سلمة لأن أمهات المؤمنين هن القدوة
فيما يروينه من هذه الأحكام المتعلقة بالنساء؛ إذ لا يجوز أن يوجب الله على النساء
قضاء الصلاة ولا يأمرهن به النبي صلى الله عليه وسلم؛ بل لا يجوز منه السكوت
عن ذلك أو إقراراهن عليه. وقد جعل العلماء حجة الإجماع على ذلك ما ورد فيه
من الحديث.
ويمكن أن يستنبط الدليل من القرآن على منع الحائض من الصلاة، فإنه
تعالى قد اشترط الطهارة للصلاة، والطهارة متعذرة على الحائض مع استمرار
سببها وهو نزول الدم. أما الطهارة المشترطة للصلاة إجماعًا؛ فهي الوضوء من
الحدث الأصغر والغسل من الحدث الأكبر، وأما المشترطة عند الأكثرين فقط
فطهارة البدن والثوب والمكان. وقد صرح القرآن في آيتي الوضوء والتيمم بأن
طهارة الجنب الغسل، والحائض ملحقة بالجنب لأن حدثها كحدثه في تأثيره في
الروح والجسد، كلاهما يحدث في الجسد ضربًا من الضعف والفتور يزيله تعميم
البدن بالماء، كما بيّناه في حكمة الوضوء والغسل، وكلاهما يضعف الروحانية. وقد
ثبت في السنة والإجماع القولي والعملي المتواترين أن المراد بقوله تعالى: في بيان
طهارة الحيض؛ {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} (البقرة: 222) فإذا اغتسلن، فطهارتهن
الغسل بالكتاب والسنة والإجماع، وهي متعذرة مع وجود سببها، وإنما تجب بزواله،
فإذا تعذرت الطهارة تعذرت الصلاة شرعًا لأنها مشروطة بها. وتتعذَّر عليها
الطهارة من الخبث كما تتعذر عليها الطهارة من الحدث، فإن الدم نجس شرعًا
وعرفًا لأنه مستقذر جدًّا باتفاق الطباع السليمة من كل الأمم. ولا يلزم من نجاسته
نجاسة الجنين الذي يتغذى به، كما لا يلزم أن يكون النبات الذي يتغذى بالعذرة
والروث وغيرهما من الأقذار نجسًا، فالنجاسة في الشرع والعرف لا تبنى على
قواعد الطب، فإن جميع أدباء البشر؛ بل جميع طبقاتهم تستقذر الملطخ بالدم
وتعاف مجالسته ومواكلته ومصاحبته، وإن لم يضرهم ذلك الدم بإفساد صحتهم
عليهم، وخروج المني يوجب الغسل وهو طاهر عند بعض الأئمة. وصرّح الفقهاء
بأن الدم وغيره لا يحكم بنجاسته في معدنه من البدن؛ بل بعد خروجه. ومتى خرج
دم الحيض صار قذرًا ولم يعد غذاء للأجنة.
وقد علم مما تقدم أن ما ثبت في السنة العملية والإجماع مِن سقوط الصلاة عن
الحائض له مأخذٌ ما مِن القرآن، والقرآن لم يبين أحكام الصلاة التفصيلية بل تركه
لبيان النبي صلى الله عليه وسلم الذي خاطبه بقوله: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ
لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44) ؛ إذ يشمل هذا بيان الذكر المنزل
وتبليغه، وبيان المُجْمَل منه، وما يستنبط من دقائق تعبيره وأساليبه - كاستنباط
النبي صلى الله عليه وسلم تحريم الأكل والشرب في أواني الذهب والفضة من
قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ} (الأعراف:
31) ، بجعل الإسراف في لزوم الشيء ومتعلقاته كالإسراف فيه نفسه، واستنباطه
تحريم الجمع بين المرأة وعمّتها أو خالتها من تحريم الله الجمع بين الأختين، لاتحاد
العلة، واطراد الحكمة.
ولم نذكر في سياق هذا الاستدلال ما عليه السواد الأعظم من المسلمين من
تحريم قراءة القرآن على الجنب والحائض، والقرآن ركن من أركان الصلاة لا تقام
بدونه؛ لأنه وقع فيه خلاف ما. ولهذا مأخذ من القرآن وإن لم يكن نصًّا فيه، وهو
قوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَاّ المُطَهَّرُونَ} (الواقعة: 79) .
وجملة القول أن الصلاة أكمل العبادات إذا لم تصح مع الجنابة فلا تصح مع
الحيض بالأَوْلى، وكِلا السائلين فيهما من أسباب النسل. والحيض مرض قد تضر
معه الصلاة كما قلتم، والفرق بينه وبين سائر الأمراض التي تسقط معها الصلاة أنه
طبيعي دائم وسائر الأمراض ليست كذلك، وهي خلاف الأصل ومقتضى الطبيعة
المعتدلة. وإذا أسقطها الشرع عن المرأة تخفيفًا عليها، فإن لها من العبادة المزكية
للروح ما لا يشترط فيه ما يشترط فيها وهو ذكر الله عز وجل بالقلب واللسان
والتفكر في خلق السموات والأرض {اتْلُ مَا أُوحِيَ إلَيْكَ مِنَ الكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ
الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} (العنكبوت: 45) .
_________
الكاتب: مصطفى صادق الرافعي
حقيقة الإعجاز [*]
أما الذي عندنا في وجه إعجاز القرآن، وما حققناه بعد البحث، وانتهينا إليه
بالتأمل وتصفح الآراء وإطالة الفكر وإنضاج الروية. وما استخرجناه من القرآن
نفسه في نظمه ووجه تركيبه واطراد أسلوبه، ثُمّ ما تعاطيناه لذلك من التنظير
والمقارنة واكتناه الروح التاريخية في أوضاع الإنسان وآثاره، وما نتج لنا من تتبع
كلام البلغاء في الأغراض التي يقصد إليها، والجهات التي يعمل عليها، وفي رد
وجوه البلاغة إلى أسرار الوضع اللغوي التي مرجعها إلى الإبانة عن حياة المعنى
بتركيب حي من الألفاظ يطابق سنن الحياة في دقّة التأليف وإحكام الوضع وجمال
التصوير وشدّة الملاءمة، حتى يكون أصغر شيء فيه كأكبر شيء فيه - نقول:
إن الذي ظهر لنا بعد كل ذلك واستقرّ معنا أن هذا القرآن معجزٌ بالمعنى الذي
يُفهم من لفظ الإعجاز على إطلاقه. فهو أمر لا تبلغ منه الفطرة الإنسانية مبلغًا، وليس إلى ذلك مأتى ولا جهة، وإنما هو أثر كغيره من الآثار الإلهية يشاركها في
إعجاز الصنعة وهيئة الوضع، وينفرد عنها بأن له مادة من الألفاظ كأنها مفرغة
إفراغًا مِن ذوب تلك المواد كلها. وما نظنه إلا الصورة الروحية للإنسان. إذا كان
الإنسان في تركيبه هو الصورة الروحية للعالم كله، فالقرآن معجزٌ في تاريخه دون
سائر الكتب، ومعجزٌ في أثره الإنساني، ومعجزٌ في حقائقه. وهذه وجوه عامة
لا تخالف الفطرة الإنسانية في شيء، فهي باقية ما بقيت. وقد أشرنا إليها في بعض
الفصول المتقدمة، على أنها ليست من غرضنا في هذا الباب. وإنما مذهبنا بيان إعجازه في نفسه من حيث هو كلام عربي؛ لأننا إنما نكتب في تاريخ
الآداب. ونحن في كل ما نضعه من هذا الكتاب إنما نسلك الجانب الضيق من
الطريق، ونقتص الأثر الطامس، ونلتزم الخطة التي تحمل عليها النفس حملاً.
وقد كان فيما قدمناه؛ بل فيما دونه مقنع لو آثرنا ما تستوطئه النفس. وعطفنا على ما
تنازع إليه من السكون، كلما انتهت إلى حجة واضحة أو استبانت لائحة مسفرة،
ولكنّا نمضي ما اعتزمنا فاللهم عونك واللهم عونك.
هذا ولا بدّ لنا قبل الترسل في بيان ذلك الإعجاز أن نوطئ بنُبَذٍ من الكلام في
الحالة اللغوية التي كان عليها العرب عندما نزل القرآن فسنقلب من كتاب الدهر
ثلاث عشرة صفحة تحتوي ثلاثة عشر قرنًا لنتصل بذلك العهد. حتى نخبر عنه
كأننا من أهله وكأنه رأي العين. وإنما سبيل الصحة فيما نحن فيه أن يشهد عليه
الشاهدان (العين والأذن) إذ كان من شأنهما أن لا تثبت دعوى في حادثة دون أن
يشهد عليها أحدهما أو كلاهما.
بلغ العرب في عهد القرآن مبلغًا من الفصاحة لم يُعرف في تاريخهم من قبل،
فإن كل ما وراءه إنما كان أدوارًا من نشوء اللغة وتهذيبها وتنقيحها واطرادها على
سنن الاجتماع، فكانوا قد أطالوا الشعر وأُفتنوا فيه وتوافى عليه من شعرائهم أفراد
معدودون، كان كل واحد منهم كأنه عصر من تاريخه، بما زاد في محاسنه وابتدع
من أغراضه ومعانيه، وما نفض عليه من الصبغ والرونق، ثم كان لهم من تهذيب
اللغة واجتماعهم على نمطٍ من القرشية يرونه مثالاً لكمال الفطرة الممكن أن يكون،
وأخذهم في هذا السمت ما جعل الكلمة نافذة في أكثرهم، لا يصدها اختلافٌ من
اللسان، ولا يعترضها تناكرٌ في اللغة، فقامت فيهم بذلك دولةُ الكلام، ولكنها بقيت
بلا ملك حتى جاءهم القرآن.
وكل مَن يبحث في تاريخ العرب وآدابهم وينفذ إلى ذلك من حيث تنفذ به
الفطنة وتتأتى حكمة الأشياء، فإنه يرى كل ما سبق على القرآن من أمر الكلام
العربي وتاريخه إنما كان توطيدًا له، وتهيئة لظهوره، وتناهيًا إليه، ودُربة
لإصلاحهم به، وليس في الأرض أمة كانت تربيتها لغوية غير أهل هذه الجزيرة،
فما كان فيهم كالبيان آنَقَ منظرًا وأبدع مظهرًا، وأمدّ سببًا إلى النفس، وأردّ عليها
بالعاقبة، ولا كان لهم كذلك البيان أزكى في أرضهم فرعًا، وأقْوم في سمائهم شرعًا،
وأوفر في أنفسهم ريعًا، وأكثر في سوقهم شراءً وبيعًا. وهذا موضع عجيب
للتأمل ما ينفد عجبه على طرح النظر وإبعاده، وإطالة الفكر وترداده، وأي شيء
في تاريخ الأمم أعجب من نشأة لغوية، تنتهي بمعجزة لغوية، ثم يكون الدين والعلم
والسياسة وسائر مقومات الأمة مما تنطوي عليه هذه المعجزة، وتأتي به على أكمل
وجوهه وأحسنها، وتخرج به للدهر خير أمة كان عملها في الأمم صورة أخرى من
تلك المعجزة؟
هذا على أنه - كما علمت - أنشأهم على الكبر، ولم يجر معهم على المألوف
من مذاهب تربية الأمم، ولا هو كان طباقًا لروح الأخلاق التاريخية فيهم التي
تظهرها العادات على كل دين وشريعة وسياسة؛ إذ كانت ميراث الدهر، وكانت
مستقرة في كل عرق سار، وفي كل شبه نازع. وكانت روح المجموع لا تكون إلا
منها، ولا تعرف إلا به، ولا تظهر إلا فيها. فما عدا أن سفَّهَ أحلامَهم، ونكَّس
أصنامهم، وأزرى عليهم وعلى آبائهم الأولين وقام على رؤوسهم بالتقريع والتأنيب،
وهم أهل الحمية والحفاظ، وأهل النفوس التي تصب كالمعاني في الألفاظ، ثم
ذهب بطريقة كانت لهم معروفة، وعادات كانت لهم مألوفة، وأرسلهم في طريق
العمر إلى الفناء، فكأنما طلع بهم من أولها، وكأنهم بعد ذلك على آدابه نشأوا وهم
أغفال وأحداث؛ بل كأنهم سلالة أجيال كان القرآن في أوليتهم المتقادمة فكانوا هم
الوارثين لا الموروثين، والناشئين لا المنشئين، مصداقًا للحديث الشريف: (خير
القرون قرني ثم الذي يليه) .
ولَعَمْرُكَ إن هذا لعجيب، وليس أعجب منه إلا أن أول جيل أنسل من هؤلاء
القوم كان هو الذي تناول مفتاح العالم فأداره. وقد خرج للغاية التي جاء بها القرآن،
وكأنه دار معها في الأصلاب دهرًا طويلاً، حتى أحكمته الوراثة الزمنية، وردّت
عليه من الطباع ما لا يتهيأ إلا في سلالةٍ بعد سلالة وجيلٍ بعد جيل، من قوم قد
مرّوا منذ أولهم في أدوار الارتقاء. على سنن واضح وطريق نهج، لم ينتقض لهم
في أثناء ذلك طبع من طباع الاجتماع، ولا رذلت شيمة، ولا التَوَت طريقة، ولا
سقطت مروءة، ولا ضلّ عقل، ولا غوت نفس. ولا عُرض لهم بغي ولا أفسدتهم
عادة. وأين هذا كله أو بعضه من قوم كانوا بالأمس عاكفين على الأوثان يأكل
بعضهم بعضًا. ولهم العادات المرذولة، والعقائد السخيفة، والطباع الممزوجة -
إلى غيرها ممّا يحمل عليه الإفراط فيما زعموه فضيلةً. كحمية الأنف واستقلال
النفس، ومما كان من عكس ذلك كالتسليم للعادة والانقياد لطبيعة التاريخ. والمضي
على ما وجدوا؛ ثم الموت على ما وُلِدُوا؟
لا جَرَم أن في ذلك سرًّا من أسرار الفطرة. فلولا أن أكبر الأمر بينهم كان
للفصاحة وأساليبها بما استقام لهم من شأن الفطرة اللغوية وما بلغوا منها كما فصّلناه
في بابه، حتى صارت هذه الأساليب كأنها أعصاب نفسية في أذهانهم. تنبعث فيها
الإرادة بأخلاق مِن معاني الكلام الذي يجري فيها، وتعتزهم على أخلاقهم وطباعهم
فتصرفهم إلى كل وجه، كأنها إرادة جبّار معتزم لا يلوي ولا يستأني ولا يتئد.
ولولا أن القرآن الكريم قد ملك سرّ هذه الفصاحة وجاءهم منها بما لا قبل لهم
بردّه، ولا حيلة لهم معه. مما يشبه على التّمام أساليبَ الاستواء في علم النفس.
فاستبد بإرادتهم، وغلب على طباعهم، وحال بينهم وبين ما نزعوا إليه من خلافه.
حتى انعقدت قلوبهم عليه وهم يجهدون في نقضها، واستقاموا لدعوته وهم يبالغون
في رفضها، فكانوا يفرّون منه في كل وجه ثم لا ينتهون إلا إليه؛ لأنه أخذ عليهم
بفصاحته وإحكام أساليبه جهات النفس العربية. والمكابرة في الأمور النفسية لا
تتجاوز أطراف الألسنة، فإن اللسان وحده هو الذي يستطيع أن يتبرأ من الشعور،
إذ هو أداة مغلبة تتعاورها الألفاظ، والألفاظ كما يرمى بها في حقٍّ أو باطلٍ، لا
تمتنع على مَن أرادها لأحدهما أو لهما جميعًا.
قلنا: لولا أن ذلك على وجهه الذي عرفت لَمَا صار أمر القرآن إلى أكثر مما
ينتهي إليه أمر كل كتاب في الأرض؛ بل لَمَا كان له في أولئك العرب أمرٌ ألبتة؛
لأنهم قومٌ أمّيُّون قد تأثلت فيهم طباع هذه الأمية، وكان لهم الشيء الكثير من
العادات والأخبار والتواريخ، وبينهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ثم هم لم
يعدموا الحكماء من خطبائهم وشعرائهم، ومن جنح إلى التأله منهم، كأمية بن أبي
الصلت وقس بن ساعدة وغيرهما.
وما جاءهم القرآن بشيء لا يفهمونه ولا يثبتون معناه على مقدار ما يفهمون،
ولا كان هذا القرآن كتاب سياسة ولا نظام دولة، ولو كان أمرًا من ذلك ما حفلوا به
ولا استدعى هو منهم الإجابة؛ لأن لهم منزعًا في الحرية لم تغلبهم عليه دولة من
دول الأرض، ولا أفلح في ذلك مَن حاوله مِن ملوك هذه الدول في الأكاسرة
والقياصرة والتبابعة، بل خلقوا عربًا يشرقون ويغربون مع الشمس حيث أرادوا
وحيث ارتادوا. وهم على ذلك لم يجمعهم ولم يخرجهم إلى الدنيا ولم يقلبهم على
تصاريف الأمور غير القرآن.
فلو أن هذا القرآن غير فصيح، أو كانت فصاحته غير معجزة في أساليبها
التي ألقيت إليهم. لَمَا نال منهم على الدهر منالاً، ولخلا منه موضعه الذي هو فيه،
ثم لكان سبيله بينهم سبيل القصائد والخطب والأقاصيص. وهو لم يخرج عن
كونه في الجملة كأنه موجود فيها بأكثر معانيه. قبل أن يوجد بألفاظه وأساليبه، ثم
لَنَقَضُوه كلمةً كلمةً وآيةً وآيةً ، دون أن تتخاذل أرواحهم، أو تتراجع طباعهم.
ولكان لهم وله شأنٌ غير ما عُرف، ولكن اللهَ بالغُ أمره.
وقد أومأنا في بعض ما سلف إلى أن هذا القرآن يكبر أن يكون حيًا بروح
عصره الذي أنزل فيه. فلا يستطيع من يقول بإعجازه أن يقصره على زمن
الجاهلية، أو يتعلل في ذلك. وهو بعد من الإحكام والسمو وشرف الغاية وحسن
المطابقة، بحيث تتعرف منه روح كل أمة قد فرعت الأمم واستولت على الأمد
التاريخي، ونالت ما لا ينال إلا مع بَسْطة في العلم، وزيادة في المعرفة بوجوه
العمل، وفضل من القوة، ومع كمال المنزلة في كل ذلك وأشباهه من مقومات
الأمة، فذلك ما علمت.
وإن ههنا وجهًا آخر هو أعجب ما أومأنا إليه، على أنه ضريبة في الحكمة
وقسيمة في الاعتبار. إذ هو متعلقٌ بطبيعة الأرض كما أن ذلك متعلقٌ بطبيعة أهلها،
فإن من الثابت البيّن أن لهيئة الطبيعية جهة من التأثير في تهيئة الأخلاق، فترى
في الجهات المقفرة أو المخوفة. أو التي يلقي منظرها في نفسك أُهْبَة دون المحبَّة،
والفزع دون الاطمئنان. أقوامًا كأنما نشأوا في المعابد وولِدوا في الصوامع، فليس
في أخلاقهم إلا الاستسلام للوهم والتخيل، وإلا الخوف مِن كل شيء تكون فيه روح
الطبيعة، كما زعم العرب من البيات مع الغيلان وتزوج السعالي ومجاوبة الهواتف،
والروغان عن الجن إلى الحن، واصطياد الشق ومحاربة النسناس وصحبة الرئيّ،
وما كان لهم من خدع الكاهن وتدسيس العرّاف، ومن العيافة والتنجيم والزجر
والطَرْق بالحصى [1] وغيرها من خرافاتهم، ثم الخوف من كل شيء تعرف فيه
روح الطبيعة كالأوثان وسائر ما قدّسته العادات والشعائر، وإن كانوا في غير ذلك
أهل جلد ونجدة ومضاء وبديهة وعارضة؛ لأن هذه الصفات وأمثالها تكتسب من
طبيعة الخيال حدّة وشدّة، وأنت واجدٌ عكس ذلك فيمن تكون طبيعة أرضهم ساكنة
مطمئنة لا تجتاح أهلها ولا ترميهم بالفزع، فإنهم لا يقرّون على خوفٍ وتوثب،
ولا يكون في أخلاقهم الجنوح إلى عبادةِ ما يخيفهم، أو تقديس ما اتصلت به روح
الطبيعة، ثم لا يكونون إلا أهل عمل بالحواس دون التخيل. قد غبر أحدهم دهره
عاملاً فليس يبالي إلا بالحاضر الذي تتعلق به روح العمل، دون الماضي الذي
يجتمع عليه حرص أولئك؛ لأنه غيب الطبيعة التي يقدّسونها. فكان من أخلاق
العرب ما هو مشهور عنهم من التفاخر بالآباء والأجداد، والذهاب مع الوهم في كل
مذهب وعدم المبالاة إلا بما يلحقهم بآبائهم ويجعلهم في عداد الماضين؛ ليكون لهم
فيمن يخلفهم من الشأن والتقديس والتعظيم بهم ما كان فيهم لِمَن تقدمهم، فيتّقون سوء
القالة وخبث الأحدوثة، وسائر ما يفسد عليهم هذا الشأن بكل ما وسعهم، لا يألون
في ذلك جهدًا ولا يغمضون فيه، ولا يتقدّمون في سدّ غيره قبل إحكامه واستفراغ
قولتهم له، إلى غير هذا مما هو معروفٌ متظاهرٌ عنهم.
ثُم كان هواهم كله في الشعر لأنه عبادة أرواحهم لطبيعة أرضهم، وهو الصلة
المحفوظة بينهم وبين ماضيهم فجاء القرآن يسفِّه تلك الطباع منهم، ويحول بينهم
وبين ذلك الماضي، ويصرفهم إلى العمل، ويذهب عنهم نخوة الجاهلية وتعظمها
بالآباء، ويأتيهم بالبصائر من ربهم، ويهديهم بالعقل إلى أسرار الطبيعة، ليعلموا
أنها مسخرة لهم فلا يسخِّروا أنفسهم لها، وحرَّم عليهم التقديس وما في حكمه،
وبصَّرهم بما مسَّهم من طائف الشيطان وما نزغهم من أمره خيالاً أو وهمًا أو شعرًا
أو عبادةً، وجعل أفضل الفضائل في الذي قام يدعوهم وهو النبي صلى الله عليه
وسلم أنه ابن يومه وابن عمله وابن عقله فلا هو مفاخر ولا واهم ولا شاعر، وتلك
أخص فضائلهم الاصطلاحية، وخاطبه بهذه الآية الكريمة التي هي روح الثبات في
أمم العلم والعمل وهي قوله: {وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُم بَرِيئُونَ
مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ} (يونس: 41) فكيف يمكن أن يكون هذا
القرآن مع ذلك كله مما يطابق أرض العرب في طبيعتها وهي ما علمت، وكيف
يتفق أن يكون كل ذلك من صنعة رجل قد نشأ فيهم واتصل بهم، وذهبت عروقه
بينهم واشجة، وهو من صميمهم نسبًا ووراثة، يعرفون ويحققون جملة أمره، ولم
يخرج عنهم قط للعلم أو الطلب، ولا طرأ عليهم من غير أرضهم، ولا أنكروا عليه
أمرًا من لدن نشأته إلى حدّ الكهولة وإلى أن دبّ الشيب في عذاريه، وهم مستيقنون
أنه ما كان يتلو من قبله من كتابٍ ولا يخطّه؟
وما عهدنا رجلاً من عظماء التاريخ قد أهاب بأمةٍ طبيعية كالعرب ذات بأسٍ
وصرامةٍ وحميةٍ وحفاظٍ، وذات خيالٍ وتصوّرٍ - يدعوها أن تخلع نفسها مما هي فيه؛
وأن تضع أعناقها للحق الذي لم تألفه حقًّا، وأن تعطيه مع ذلك محض ضمائرها
وتسوغه تاريخها وعاداتها، وما هو أكبر من تاريخها وعاداتها. وهم لا يرونه في
ذلك إلا مسخوط الرأي، ذاهب الوهم، بعيدًا منهم ومن نفسه ومن الحقيقة جميعًا.
ولا يرون من أمره ذلك إلا قلّة وضرعًا وهوانًا واستخفافًا، وإن كانوا يعرفونه من
قبل بحسن الخلق وصفاء الذمّة وتخشّع السمت، ويعرفون أنه لا يريد مُلكًا ولا يبغي
دولةً، ولا يتصنع لحدثٍ من الأحداث السياسية، ولا يهتبل غرّة ذاهلة، ولا يستعد
لنهزة سانحة {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا اللَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا
وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} (فصلت: 5) .
ثُم هو على هذا كله من أمره وأمرهم لا يتأتى إليهم بالتمويه، ولا يدخلهم
بالنفاق، ولا يتألفهم على باطلهم، ولا ينزل في العقيدة على حكمهم، ولا يداهن في
خطابهم، ولا يرفق بهم فيما يتخيلون وما يعبدون، ولا يحكم ذلك الأمر من ناحية
الدهاء والمخاتلة، فيقرّهم على طباعهم وعاداتهم، ويستدرجهم من حيث لا يعلمون،
ويمد لهم في الغيّ مدًّا مِن أمرِ ما أعجبهم، ومِن شأن ما استخفهم، كما يصنع
دهاة السياسة وقادة الأمم، وكما صنع داهية أوربا نابليون الذي انتحل الكثلكة في
حرب الفنديين، وأسلم في مصر، وجهر بعصمة البابا في حرب إيطاليا، وقال مع
ذلك: لو كنت أحكم شعبًا يهوديًّا لأعدت هيكل سليمان
…
ثُم يكون مع هذا كله من
فعله وفعلهم أن يثوب إليه الأمر، ويستوثق على ما أراد، وأن تعطيه تلك الأمة عن
يدٍ وهي صاغرة للحق، وتبذل نصرها له بعد التخذيل عنه، وتسكن إليه بعواطفها
المستنفرة، وتعطف عليه بقلوبها الجامحة، وهو الراغب عن سننهم، والمسفِّه
لأحلامهم، والطاعن عليهم وعلى آبائهم، والمفارق لشرائعهم وعادتهم. وهو الذي
خرج من الأمة أولاً، ثُم أخرج الأمة كلها من نفسه آخرًا، كما اتفق للنبي صلى الله
عليه وسلم.
ما عهدنا ذلك، ولا عهدنا أن الأمم تخرج عن طبائعها النفسية وتستقيم لِمَن
يلتوي لها مثل هذا الالتواء؛ وتدخل في أمره وتَثبُت على طاعته ومحبته، وهو
أضعف ناصرًا وأقل عددًا، إلا أن يغلبها على أنفسها ويمتلك خيالها ويستبدّ
بتصوّرها. وكيف له أن يغلب على النفس، بتنفيرها ويمتلك الخيال بالعنف عليه،
ويستبد بالتصور وهو يسترذله؟ ومِن أين له ذلك إلا أن يأتي الفطرة التي هي
أساس هذه كلها فيملكها؛ ثم يصوغها ثم يصرفها؟ فإن الذي لا يدفع الطبع لا يدفع
الرغبة، ومن لم يقد الأمة من رغائبها لم يقد في زمامه غير نفسه، وإن كان بعد
ذلك مَن كان؟
وهذا الذي وصفناه أمرٌ لو ذهبت تلتمسه في تاريخ الأرض كلها ما رأيت
أسبابه الفطرية في غير أولئك العرب، ولا رأيت تحقيقه في العرب، إلا من ناحية
القرآن وإعجازه بنظمه وأساليبه، وافتنانه على هذه الوجوه المعجزة التي أقل ما
توصف بها أنها السحر؛ بل السحر بعضها [2] .
وليت شعري ما هو أمر المعجز في العقل إن لم يكن هذا من أمره؟ {ذَلِكَ
بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ البَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ} (الحج: 62) .
* * *
(المنار) :
إن مسألة إعجاز القرآن قد صارت من المسائل المعلومة بالضرورة بعجز
العرب والمستعربين عن الإتيان بمثله، ووقوفهم حيارى منبهري الأنفاس خاشعي
الأبصار ناكسي الرؤوس في نور شمسه.
ولإعجازه وجوه كثيرة يعقل كل ذي علم وبصيرة منها مقدار ما يتوجه إليه
ذهنه، مما استعد لإدراكه عقله، ومن الناس من لا يدرك من ذلك شيئًا، كالأطفال
والعوام الذين لا يدركون علل عجز ضعفاء البنائين الأميين بغير نظام ولا هندسة
عن بناء هرم مثل هرم الجيزة في عظمته، وما روعي فيه من دقائق الهندسة،
والإشارات العمرانية، والتقاليد الدينية، والمقاصد الخفية، وإنما يفهم وجوه هذا
العجز الرياضي والفلكي والعالم بتاريخ مصر وآثارها، كلٌّ بقدر بحثه في فنه.
وقد كتب كثير من العلماء في بيان وجوه إعجاز القرآن، وما أطالوا إلا في
شرح فصاحته وبلاغته، وقد تعب مصنف هذا الكتاب (تاريخ آداب العرب) في
تصفح ما كتبوا، وتتبع ما صنفوا، ولم يعجزه مع ذلك أن يكون مصداق المثل
السائر (كم ترك الأول للآخر) ، فجعل 288 صفحة من الجزء الثاني من كتابه في
إعجاز القرآن وباقيه إلى ص 364 في البلاغة النبوية. وإذا كان قد انفرد ببيان
نُكت ودقائق لم تعرف لغيره، فقد جلى بعض ما سبقه إليه من النكت والوجوه من
قبله، بعبارةٍ مؤثرة بما ألبسها من حلل الخيال، حتى تحلت في أربع مثال. وثَمَّ
مباحث مفيدة في هذا الباب، تراها في الفصول الكثيرة من الكتاب، وسترى
الإشارة إليها في تقريظه من جزء آخر من المنار.
بعد هذا كله نقول إنه قد بقي من وجوه الإعجاز ما لم يغص المؤلف بحره،
حتى يستخرج دُرَّه، وقد أجملنا في (عقيدة الإسلام) التي كتبناها لطلاب المدارس
الوسطى من هذه الوجوه ما يمكن شرحه في سفر أو أسفار. والتحقيق أن إعجاز
القرآن بمعانيه من الهداية والعلم أعظم من إعجازه بفصاحة عبارته وبلاغة أسلوبه،
وهي التي كانت سبب بقاء الدين في العرب والعجم بعد أن قل من يذوق طعم تلك
البلاغة.
_________
(*) فصل من الجزء الثاني من كتاب آداب لغة العرب لمصطفى صادق أفندي الرافعي.
(1)
للعرب مذاهب كثيرة من مثل ما وصفنا ولا محل لبسط القول فيها، ولكنا نقتصر على تعريف ما أتينا به تعريفًا لفظيًّا، فالغيلان: إناث الجن والسعالى. جمع سعلاة وهي سحرة الجن، ويقال: إن الغيلان من السعالى، والهواتف جمع هاتف وهي الجن تهتف بهم وتنذرهم. والجن نوع من الجن، والشق جنس من أجناسهم والنسناس جنس من الخلق يعد فيهم الرئيّ جني يكون لبعض الناس فيخبره بالغيب، والكاهن مَن يتنبأ بما سيقع والعرّاف مَن يستدل بالأسباب والحوادث ويتنبأ من ذلك والعِيَافة: التكهن بالطير أو غيرها والزَجْر: أن يزجر الطير ليتسعد أو يتشأم إذا أراد أن يهم بأمر والطَرْق بالحصى وسيلة من وسائل التكهن وفي كل ذلك شرح طويل واختلاف كثير.
(2)
وذلك فيما نرى إنما هو وجه الحكمة في نشأة هذا الدين عربيًّا واختصاص العرب بالقرآن دون غيرهم من الأمم، وإفراد قريش بذلك دون غيرها من العرب، ومن يقرأ صدر التاريخ في الإسلام، ويعتبر حوادثه ويتدبر آثار القرآن في قبائل العرب، يرَ أنَّ شدَّة الإيمان كانت عند شدَّة الفصاحة، وأن خلوص الضمائر كان يتبع خلوص اللغة، وأن القائمين بهذا الدين والذين أفاضوه وصرفوا إليه جمهور العرب وقاتلوهم عليه وجمعوا ألفتهم وقوّموا أودّهم إنما كانوا أهل الفصاحة الخالصة، من قريش إلى سرة البادية، وأن الفتن إنما استطارت في الجزيرة استطارة الحريق فيمن وراء هؤلاء إلى أطراف اليمن، فكانوا قومًا مدخولين منقوصين، وما كان ضعف اعتقادهم إلا في وزن الضعف من لغتهم وقد أسلفنا في غير هذا الموضع أن غربة الدين ما تزال تتبع غربة العربية ولمّا مات رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عمرو بن العاص بعمان، فأقبل منها إلى المدينة يخترق بلاد العرب فأطافت به قريش وسألوه فقال لهم إن العساكر معسكرة من دبا (سوق بعمان) إلى حيث انتهيت إليكم فتفرّقوا حِلقًا، ومرَّ عمر بن الخطاب بجماعة فسألهم فِيمَ أنتم؟ فلم يجيبوه فقال: أظن قلتم ما أخوفنا على قريش من العرب قالوا صدقت، قال: فلا تخافوا هذه المنزلة. إنا والله منكم على العرب أخوف مني من العرب عليكم، والله لو تدخلون معاشر قريش جحرًا لدخلته العرب في آثاركم. اهـ. وحسبك من أثر القرآن في العرب الفصحاء وصوغ فطرتهم وتصريفها أن أحدهم كان إذا اتهم في بعض أخلاقه لم ينكر ذلك بأشد من قوله: بئس حامل القرآن أنا إذن! ولما أعطي سالم مولى أبي حذيفة راية المسلمين يوم قتال مسيْلمة الكذاب، وكان من أشد الأيام وأعظمها نكاية قال لأصحابه: ما أعلمني لأي شيء أعطتيمونيها! قلتم صاحب قرآن وسيثبت كما ثبت صاحبها قبله حتى مات؟ قالوا: أجل فانظر كيف تكون؟ قال: بئس واللهِ حامل القرآن أنا إن لم أثبت فتأمّل؛ وكان صاحب الراية قبله
عبد الله بن حفص، وفي هذه الموقعة صاح أبو حذيفة وقد اضطرب المسلمون: يا أهل القرآن، زينوا القرآن بالفعال، ثم حمل على القوم فحازهم حتى أنقذهم، ولو أن هذا المعنى من غرض كتابنا لبسطناه بسطاً، ولكن القول فيه يتسع بما يخرجنا إلى تاريخ الإسلام وفلسفة آدابه ومعانيه
الاجتماعية، وهي أغراض إنما نلمُّ بها إلمامًا في هذا الكتاب كما عرفت.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الرضا بقضاء الله تعالى وقدره
قد اضطربت في هذه المسألة الأفهام، وزَلَّت فيها أقلام وأقدام، وأوردوا فيه
أبياتًا ليهودي حقيقة أو حكاية يقول فيها: إذا قضى الله أن يكون يهوديًّا وأمَره أن
يرضى بقضائه فما حيلته في ذلك؟ وأوردوا له أجوبة لم يرها الكثيرون مقنعة.
ولذلك طلب الشعراني في بعض كتبه ممن ظفر بجواب أحسن مما أورده أن يلحقه
بما ذكره منها. ولم نر لأحد من العلماء تحريرًا لهذه المسألة كتحرير ابن القيم لها
في كتاب (مدارج السالكين) وأين نجد كابن القيم في المحققين المحررين؟ قال
قدّس الله روحه في شرح كلام الهروي من الجزء الثاني:
قوله: (وهو الرضاء عنه في كل ما قضى) هاهنا ثلاثة أمور: الرضاء بالله
ربًّا [1] ، والرضاء عن الله، والرضاء بقضاء الله. فالرضاء به فرض، والرضاء
عنه، وإن كان من أجَلّ الأمور وأشرف أنواع العبودية - فلم يطالب به العموم
لعجزهم ومشقته عليهم - وأوجبته طائفة كما أوجبوا الرضاء به، واحتجّوا بحجج
(منها) : أنه إذا لم يكن راضيًا عن ربه فهو ساخط عليه؛ إذ لا واسطة بين الرضاء
والسخط، وسخط العبد على ربّه منافٍ لرضائه به ربًّا. قالوا: وأيضًا فعدم رضائه
عنه يستلزم سوء ظنّه ومنازعته له في اختياره لعبده، وإن الربّ تبارك وتعالى
يختار شيئًا ويرضاه ولا يختاره العبد ولا يرضاه، وهذا منافٍ للعبودية. قالوا -
وفي بعض الآثار الإلهية (من لم يرض بقضائي، ولم يصبر على بلائي، فليتخذ
له [2] ربًّا سواي) ولا حجّة في شيء مِن ذلك. أمّا قوله [3] : (لم يتخلص من
السخط على ربه إلا بالرضاء عنه إذ لا واسطة بين الرضاء والسخط) فكلام
مدخول، لأن السخط بالمقضي لا يستلزم السخط على مَن قضاه، كما أن
كراهة المقضي وبغضه والنفرة عنه لا يستلزم تعلّق ذلك بالذي قضاه وقدّره،
فالمقضي قد يسخطه العبد وهو راضٍ عمن قضاه وقدّره؛ بل يجتمع تسخطه
والرضا بنفس القضا - كما سيأتي إن شاء الله - وأما قولكم [4] : (إنه يستلزم سوء
ظن العبد بربه ومنازعته له في اختياره) فليس كذلك؛ بل هو حسن الظن بربه في
الحالتين، وإنه إنما يسخط المقدور وينازعه بمقدور آخر، كما ينازع القدر الذي
يكرهه ربه بالقدر الذي يحبه ويرضاه، فينازع قدر الله بالله لله [5] ، كما
يستعيذ برضاه من سخطه، وبمعافاته من عقوبته، ويستعيذ به منه.
فأما (كونه يختار لنفسه خلاف ما يختاره الرب) فهذا موضع تفصيل لا
يحسب عليه ذيل النفي والإثبات. فاختيار الرب تعالى لعبده نوعان:
(أحدهما) : اختيار ديني شرعي، فالواجب على العبد أن لا يختار في هذا
النوع غير ما اختاره له سيده، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى
اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (الأحزاب: 36) ، فاختيار
العبد ذلك منافٍ لإيمانه وتسليمه ورضاه بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمدٍ رسولاً.
(النوع الثاني) : اختيار كونيّ قدريّ لا يسخطه الرب؛ كالمصائب التي يبتلي
الله بها عبده، فهذا لا يضره فراره منها إلى القدر الذي يرفعها عنه ويدفعها ويكشفها،
وليس في ذلك منازعة للربوبية - وإن كان فيه منازعة للقدر بالقدر - فهذا يكون تارةً
واجبًا، وتارةً مستحبًّا، وتارةً يكون مباحًا مستوي الطرفين، وتارةً يكون مكروهًا،
وتارةً يكون حرامًا.
وأمّا القدر الذي لا يحبه ولا يرضاه، مثل قدر المعايب والذنوب، فالعبد
مأمور بسخطها ومنهي عن الرضاء بها.
وهذا هو التفصيل الواجب في الرضاء بالقضاء، وقد اضطرب الناس في
ذلك اضطرابًا عظيمًا ونجا منه أصحاب الفرق والتفصيل، فإن لفظ الرضا بالقضاء
لفظ محمود مأمور به، وهو من مقامات الصديقين، فصارت له حرمة أوجبت
لطائفة قبوله من غير تفصيل، وظنوا أن كل ما كان مخلوقًا للرب تعالى فهو
مرضي له ينبغي الرضا به، ثُم انقسموا فرقتين، فقالت فرقة: إذا كان القضاء
والرضاء متلازمين فمعلوم أنّا مأمورون ببُغْضِ المعاصي والكفر والظلم، فلا تكون
مقضية مقدرة. وفرقة قالت: قد دل العقل والشرع على أنها واقعة بقضاء الله وقدره
فنحن نرضى بها. والطائفتان منحرفتان جائرتان عن قصد السبيل، أولئك
أخرجوها عن قضاء الرب وقدره، وهؤلاء رضوا بها ولم يسخطوها. هؤلاء
خالفوا الرب تعالى في رضائه وسخطه، وخرجوا عن شرعه ودينه، وأولئك
أنكروا تعلّق قضائه وقدره بها.
واختلفت طرق أهل الإثبات للقدر والشرع في جواب الطائفتين، فقالت طائفة:
لم يقم دليلٌ مِن الكتاب ولا السنة ولا الإجماع على جواز الرضا بكل قضاء فضلاً
عن وجوبه واستحبابه، فأين أمر الله عباده أو رسوله أن يرضوا بكل ما قضاه الله
وقدّره؟ وهذه طريقة كثير مِن أصحابنا وغيرهم، وبه أجاب القاضي أبو يعلى
وابن الباقلاني قال: فإن قيل: أفترضون بقضاء الله وقدره؟ قيل له: نرضى
بقضاء الله الذي هو خلقه الذي أمرنا أن نرضى به، ولا نرضى من ذلك ما نهانا
عنه أن نرضى به، ولا نتقدم بين يدي الله، ولا نعترض على حكمه.
وقالت طائفة أخرى: يطلق الرضا بالقضا في الجملة دون تفاصيل المقضي
المقدّر. فنقول: نرضى بقضاء الله جملة ولا نسخطه، ولا نطلق الرضا على كل
واحد من تفاصيل المقضي كما يقول المسلمون: كل شيء يبيد ويهلك، ولا يقولون:
حجج الله تبيد وتهلك، ويقولون: الله رب كل شيء، ولا يضيفون ربوبيته إلى
الأعيان المستخبثة المستقذرة بخصوصها.
وقالت طائفة أخرى: بل نرضى بالقضاء ونسخط المقضي، فالرضاء
والسخط لم يتعلقا بشيء واحد.
وهذه الأجوبة لا يتمشى شيءٌ منها على أصول مَن يجعل محبة الله ورضاءه
ومشيئته واحدة - كما هو أحد قولي الأشعري وأكثر أتباعه - فإن هؤلاء يقولون:
إن كل ما شاءه وقضاه فقد أحبه ورضيه، وإذا كان الكون محبوبًا له مرضيًّا فنحن
نحب ما أحبه ونرضى ما رضيه. وقولكم: إن الرضا بالقضاء يطلق جملةً ولا يطلق
تفصيلاً. فذلك لا يمنع دخوله في جملة المرضى به، فيعود الأشكال. وقولكم
نرضى به من جهة كونها خلقًا لله، ونسخطها من جهة كونها كسبًا للعبد، فكسب
العبد إن كان أمرًا وجوديًّا فهو خلق لله فيرضى به، وإن كان أمرًا عدميًّا فلا حقيقة
له ترضي ولا تسخط. وأمّا قولكم: ترضى بالقضاء دون المقضي. فهذا إنما
يصح على قول مَن جعل القضاء غير المقضي، والفعل غير المفعول، وأما مَن لم
يفرّق بينهما فكيف يصح هذا على أصله؟
وقد أورد القاضي أبو بكر على نفسه هذا السؤال فقال: فإن قيل: القضاء
عندكم هو المقضي أو غيره؟ قيل: هو على ضربين، فالقضاء بمعنى الخلق هو
المقضي، لأن الخلق هو المخلوق، والقضاء الذي هو الإلزام والإعلام والكتابة
غير المقضي؛ لأن الأمر غير المأمور والخبر غير المخبر عنه. وهو الجواب لا
يخلصه أيضًا؛ لأن الكلام ليس في الإلزام والإعلام والكتابة، وإنما الكلام في نفس
الفعل المقدّر المُعلم به المكتوب: هل مقدره وكاتبه سبحانه راضٍ به أم لا؟ وهل
العبد مأمور بالرضاء به نفسه أم لا؟ هذا حرف المسألة.
وقد أنكر الله سبحانه وتعالى على مَن جعل مشيئته وقضاءه مستلزمًا لمحبته
ورضائه، فيكف بمن جعل ذلك شيئًا واحدًا؟ قال الله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ
أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن
قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَإِنْ
أَنتُمْ إِلَاّ تَخْرُصُونَ} (الأنعام: 148)، وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ
شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ
كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} (النحل: 35) ، {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم
مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْم} (الزخرف: 20) ، فهم استدلوا على محبته ورضاه
لشركهم بمشيئته؛ لذلك عارضوا بهذا الدليل أمره ونهيه. وفيه أبين الرد لقول مَن
جعل مشيئته غير محبته ورضاه، فالإشكال إنما نشأ مِن جعْلهم المشيئة نفس المحبة،
ثُم زادوه بجعلهم الفعل نفس المفعول، والقضاء عين المقضي، فنشأ من ذلك
إلزامهم بكونه تعالى راضيًا محبًّا لذلك، والتزام رضائهم به.
والذي يكشف هذه الغمة، ويبصر من هذه العماية، وينجي من هذه الورطة
التفريق بين ما فرّق الله بينه، وهو المشيئة والمحبة، فإنهما ليسا واحدًا ولا هما
متلازمين؛ بل قد يشاء ما لا يحبه ويحب ما لا يشاء كونه (فالأول) : كمشيئه
لوجود إبليس وجنوده، ومشيئته العامة لجميع ما في الكون مع بغضه لبعضه،
(والثاني) : كمحبته إيمان الكفار، وطاعات الفجار، وعدل الظالمين وتوبة الفاسقين،
ولو شاء ذلك لوجد كله وكان جميعه، فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
فإذا تقرّر هذا الأصل، وأن الفعل غير المفعول، والقضاء غير المقضي،
وأن الله سبحانه لم يأمر عباده بالرضاء بكل ما خلقه وشاءه - زالت الشبهات،
وانحلت الإشكالات، ولله الحمد، ولم يبق بين شرع الرب وقدره تناقض بحيث
يظن إبطال أحدهما للآخر؛ بل القدر ينصر الشرع والشرع يصدق القدر، وكل
منهما يحقق الآخر.
إذا عرف هذا فالرضا بالقضاء الديني الشرعي واجب وهو أساس الإسلام
وقاعدة الإيمان، فيجب على العبد أن يكون راضيًا به بلا حرج ولا منازعة ولا
معارضة لا اعتراض، قال الله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا
شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء:
65) . فأقسم أنهم لا يؤمنون حتى يحكموا رسوله، ويرتفع الحرج من نفوسهم من
حكمه، ويسلّموا الحكم تسليمًا. وهذا حقيقة الرضاء بحكمه، فالتحكيم في مقام
الإسلام، وانتفاء الحرج في مقام الإيمان [6] ، والتسليم في مقام الإحسان. ومتى خالط
القلب بشاشة الإيمان، واكتحلت بصيرته بحقيقة اليقين، وحيي بروح
الوحي، وتمهدت طبيعته، وانقلبت النفس الأمارة مطمئنة راضية وادعة، وتلقّى
أحكام الرب تعالى بصدر واسع منشرح مسلّم، فقد رضي كل الرضا بهذا القضاء
الديني المحبوب لله ورسوله.
والرضاء بالقضاء الكوني القدري الموافق لمحبة العبد وإرادته ورضاه من
الصحة والغنى والعافية واللذّة أمرٌ لازم بمقتضى الطبيعة؛ لأنه ملائم للعبد،
محبوب له، فليس في الرضاء به عبودية؛ بل العبودية في مقابلته بالشكر
والاعتراف بالمنّة، ووضع النعمة مواضعها التي يحب الله أن توضع فيها، وأن لا
يعصى المنعم بها، ويرى التقصير في جميع ذلك.
والرضاء بالقضاء الكوني القدري الجاري على خلاف مراد العباد ومحبته مما
لا يلائمه ولا يدخل تحت اختياره مستحب، وهو من مقامات أهل الإيمان، وفي
وجوبه قولان، وهذا كالمرض والفقر وأذى الخلق له، والحر والبرد والآلام ونحو
ذلك.
والرضاء بالقدر الجاري عليه باختياره مما يكرهه الله ويسخطه وينهى عنه،
كأنواع الظلم والفسوق والعصيان حرام يعاقب عليه وهو مخالفة لربه تعالى، فإن
الله لا يرضى بذلك ولا يحبه، فكيف تتفق المحبة ورضاء ما يسخطه الحبيب
ويبغضه؟ ! فعليك بهذا التفصيل في مسألة الرضا بالقضا.
فإن قلت: كيف يريد الله سبحانه أمرًا لا يرضاه ولا يحبه؟ وكيف يشاؤه
ويكونه؟ وكيف تجتمع إرادة الله وبغضه وكراهيته؟ قيل: هذا السؤال هو الذي
افترق الناس لأجله فرقًا، وتباينت عنه طرقهم وأقوالهم. فاعلم أن المراد نوعان:
مراد لنفسه ومراد لغيره، فالمراد لنفسه مطلوب محبوب لذاته وما فيه من الخير،
فهو مراد إرادة الغايات والمقاصد، والمراد لغيره قد لا يكون في نفسه مقصودًا
للمريد، ولا فيه مصلحة له بالنظر إلى ذاته، وإن كان وسيلة إلى مقصوده ومراده
فهو مكروه له من حيث نفسه وذاته، مراد له من حيث إفضاؤه وإيصاله إلى مراده،
فيجتمع فيه الأمران بغضه وإرادته، ولا يتنافيان لاختلاف متعلقهما، وهذا كالدواء
المتناهي في الكراهة إذا علم متناوله أن فيه شفاءه، وكقطع العضو المتآكل إذا علم
أن في قطعه بقاء جسده، وكقطع المسافة الشاقة جدًّا إذا علم أنها توصله إلى مراده
ومحبوبه؛ بل العاقل يكتفي في إيثار هذا المكروه وإرادته بالظن الغالب وإن خفيت
عنه عاقبته وطويت عنه مغبته، فكيف بمن لا تخفى عليه العواقب؟ فهو سبحانه
وتعالى يكره الشيء ويبغضه في ذاته، ولا ينافي ذلك إرادته لغيره [7] وكونه سببًا
إلى ما هو أحب إليه من فوته.
مثال ذلك أنه سبحانه خلق إبليس الذي هو مادة لفساد الأديان والأعمال
والاعتقادات والإرادات، وهو سبب شقاوة العبيد وعملهم بما يُغضب الرب تبارك
وتعالى، وهو الساعي في وقوع خلاف ما يحبه الله ويرضاه بكل طريق وكل حيلة؛
فهو مبغوض للرب سبحانه وتعالى مسخوط له، لعنه الله ومقته وغضب عليه،
ومع هذا فهو وسيلة إلى محابّ كثيرة للرب تعالى ترتبت على خلقه، وجودها أحب
إليه من عدمها.
(منها) : أن تظهر للعباد قدرة الرب تعالى على خلق المتضادات المتقابلات،
فخلق هذه الذات التي هي من أخبث الذوات وشرها، وهي سبب كل شر، في
مقابلة ذات جبرائيل صلى الله عليه وسلم التي هي أشرف الذوات وأطهرها
وأزكاها، وهي مادة من كل خير، فتبارك الله خالق هذا وهذا. كما ظهرت لهم
قدرته التامة في خلق الليل والنهار، والضياء والظلام، والداء والدواء، والحياة
والموت، والحر والبرد، والحسن والقبيح، والأرض والسماء، والماء والنار،
والخير والشر، وذلك من أدل الدلائل على كمال قدرته وعزته وسلطانه وملكه،
فإنه خلق هذه المتضادات وقابل بعضها ببعض وسلّط بعضها على بعض، وجعلها
محال تصرفه وتدبيره وحكمته، فخلوّ الوجود عن بعضها بالكلية تعطيل لحكمته
وكمال تصرفه وتدبيره مملكته.
(ومنها) : ظهور آثار أسمائه القهرية، مثل القهار والمنتقم والعدل والضار،
وشديد العقاب، وسريع الحساب، وذي البطش الشديد والخافض والمذل، فإن
هذه الأسماء والأفعال كمال فلا بد من وجود متعلقها، ولو كان الخلق كلهم على
طبيعة الملك لم يظهر أثر هذه الأسماء والأفعال.
(ومنها) : ظهور آثار أسمائه المتضمنة لحلمه وعفوه ومغفرته وستره
وتجاوزه عن حقه وعتقه لمن شاء من عبيده، فلولا خلق ما يكرهه من الأسباب
المفضية إلى ظهور آثار هذه الأسماء لتعطلت هذه الحكم والفوائد، وقد أشار النبي -
صلى الله عليه وسلم إلى هذا بقوله: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم
يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم) .
(ومنها) : ظهور آثار أسماء الحكمة والخبرة، فإنه سبحانه الحكيم الخبير
الذي يضع الأشياء مواضعها وينزلها منازلها اللائقة بها، فلا يضع الشيء في غير
موضعه، ولا ينزله غير منزلته، التي يقتضيها كمال علمه وحكمته وخبرته، فلا
يضع الحرمان والمنع موضع العطاء والفضل، ولا الفضل والعطاء موضع
الحرمان والمنع، ولا الثواب موضع العقاب ولا العقاب موضع الثواب، ولا
الخفض موضع الرفع ولا الرفع موضع الخفض، ولا العز مكان الذل، ولا الذل
مكان العز، ولا يأمر بما ينبغي النهي عنه، ولا ينهى عن ما ينبغي الأمر به. فهو
أعلم حيث يجعل رسالاته، وأعلم بمن يصلح لقبولها ويشكره على إنهائها إليه
ووصولها، وأعلم بمن لا يصلح لذلك ولا يستأهله، وأحكم من أن يمنعها أهلها
ويضعها عند غير أهلها، فلو قدر عدم الأسباب المكروهة البغيضة له لتعطلت هذه
الآثار ولم تظهر لخلقه، ولفاتت الحكمة والمصالح المرتبة عليها وفواتها شر من
حصول تلك الأسباب، فلو عطلت تلك الأسباب لما فيها من الشر لتعطل الخير الذي
هو أعظم من الشر الذي في تلك الأسباب. وهذا كالشمس والمطر والرياح التي فيها
من المصالح ما هو أضعاف أضعاف ما يحصل بها من الشر والضرر، فلو قدر
تعطيلها لئلا يحصل منها ذلك الشر الجزئي لتعطل من الخير ما هو أعظم من ذلك
الشر بما لا نسبة بينه وبينه.
***
فصل
(ومنها) : حصول العبودية المتنوعة التي لولا خلق إبليس لَمَا حصلت،
ولكان الحاصل بعضها لا كلها، فإن عبودية الجهاد من أحب أنواع العبودية إليه
سبحانه، ولو كان الناس كلهم مؤمنين لتعطلت هذه العبودية وتوابعها من الموالاة فيه
سبحانه والمعاداة فيه والحب فيه والبغض فيه. وبذل النفس له في محاربة عدوّه،
وعبودية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعبودية الصبر ومخالفة الهوى،
وإيثار محابّ الرب على محابّ النفس.
(ومنها) : عبودية التوبة والرجوع إليه واستغفاره، فإنه سبحانه يحب
التوابين ويحب توبتهم، فلو عطّلت الأسباب التي يثاب منها لتعطلت عبودية التوبة
والاستغفار منها.
(ومنها) : عبودية مخالفة عدوه ومراغمته في الله وإغاظته فيه، وهي من
أحب أنواع العبودية إليه، فإنه سبحانه يحب من وليه أن يغيظ عدوه ويراغمه
ويسوءه، وهذه عبودية لا يتفطن لها إلا الأكياس.
(ومنها) : أن يتعبد له بالاستعاذة من عدوّه وسؤاله أن يجيره منه ويعصمه
من كيده وأذاه.
(ومنها) : أن عبيده يشتدُّ خوفهم وحذرهم إذا رأوا ما حلّ بعدوه بمخالفته
وسقوطه من المرتبة الملكية إلى المرتبة الشيطانية، فلا يخلدون إلى غرور الأمل
بعد ذلك.
(ومنها) : أنهم ينالون ثواب مخالفته ومعاداته الذي حصوله مشروط
بالمعاداة والمخالفة، فأكثر عبادات القلوب والجوارح مرتبة على مخالفته.
(ومنها) : أن نفس اتخاذه عدوًّا من أكبر أنواع العبودية وأجلها، قال الله
تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} (فاطر: 6) ، فاتخاذه عدوًّا أنفع
شيء للعبد وهو محبوب للرب.
(ومنها) : أن الطبيعة البشرية مشتملة على الخير والشر، والطيب
والخبيث، وذلك كامن فيها كمون النار في الزناد، فخُلِقَ الشيطان مستخرجًا ما في
طبائع أهل الشر من القوة إلى الفعل، وأرسلت الرسل تستخرج ما في طبيعة أهل
الخير من القوة إلى الفعل، فاستخرج أحكم الحاكمين ما في قوى هؤلاء من الخير
الكامل فيها ليترتب عليه آثاره، وما في أولئك من الشر ليترتب عليه آثاره،
وتظهر حكمته في الفريقين وينفذ حكمته فيهما، ويظهر ما كان معلومًا له مطابقًا
لعلمه السابق. وهذا هو السؤال الذي سألته ملائكته حين قالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن
يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (البقرة: 30) فظنت الملائكة أن وجود من يسبّح بحمده ويطيعه ويعبده أولى
من وجود من يعصيه ويخالفه، فأجابهم سبحانه بأنه يعلم من الحكم والمصالح
والغايات المحمودة في خلق هذا النوع ما لا تعلمه الملائكة.
(ومنها) : أن ظهور كثير من آياته وعجائب صنعه حصل بسبب وقوع
الكفر والشر من النفوس الكافرة والظالمة، كآية الطوفان، وآية الريح، وآية
إهلاك ثمود وقوم لوط، وآية انقلاب النار على إبراهيم بردًا وسلامًا، والآيات التي
أجراها الله تعالى على يد موسى، وغير ذلك من آياته التي يقول سبحانه عقيب ذكر
كل آية منها: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العَزِيزُ
الرَّحِيمُ} (الشعراء: 8-9) ، فلولا كُفر الكافرين وعناد الجاحدين، لَمَا ظهرت
هذه الآيات الباهرة التي يتحدث بها الناس جيلاً بعد جيل إلى الأبد.
(ومنها) : أن خلق الأسباب المتقابلة التي يقهر بعضها بعضًا، ويكسر
بعضها بعضًا، هو من شأن كمال الربوبية، والقدرة النافذة، والحكمة التامة،
والملك الكامل، وإن كان شأن الربوبية كاملاً في نفسه ولو لم يخلق هذه الأسباب؛
لكن خَلْقها من لوازم كماله وملكه، وقدرته وحكمته، فظهور تأثيرها وأحكامها في
عالم الشهادة تحقيق لذلك الكمال، وموجب من موجباته، فتعمير مراتب الغيب
والشهادة بأحكام الصفات من آثار الكمال الإلهي المطلق بجميع وجوهه وأقسامه
وغايته.
وبالجملة: فالعبودية والآيات والعجائب التي ترتبت على خلق ما لا يحبه ولا
يرضاه وتقديره ومشيئته، أحب إلى الله سبحانه وتعالى من فواتها وتعطيلها بتعطيل
أسبابها.
فإن قلت: فهل كان يمكن وجود تلك الحكم بدون هذه الأسباب؟ فهذا سؤال
باطل؛ إذ هو فرض وجود الملزوم بدون لازمه، كفرض وجود الابن بدون الأب
والحركة بدون المتحرك، والتوبة بدون التائب.
فإن قلت: فإذا كانت هذه الأسباب مراده لما تفضي إليه من الحكم، فهل تكون
مرضية محبوبة من هذا الوجه؟ أم هي مسخوطة من جميع الوجوه؟ قلت هذا
السؤال يورد على وجهين:
(أحدهما) : من جهة الرب سبحانه وتعالى. وهل يكون محبًّا لها من جهة
إفضائها إلى محبوبه وإن كان بغضها لذاتها؟
(والثاني) : من جهة العبد، وهو أنه له يسوغ هل الرضاء بها من تلك
الجهة أيضًا؟ فهذا سؤال له شأن.
فاعلم أن الشر كله يرجع إلى العدم، أعني عدم الخير وأسبابه المفضية إليه،
وهو من هذه الجهة شر، وأما من جهة وجوده المحض فلا شرَّ فيه؛ مثاله أن النفس
الشريرة وجودها خير من حيث هي موجودة إنما حصل لها الشر بقطع مادة الخير
عنها، فإنها به [8] خلقت في الأصل متحركة لا تسكن، فإن أعينت بالعلم وإلهام
الخير تحركت [9] وإن تركت تحركت بطبعها إلى خلافه، وحركتها من حيث هي
حركة خير، وإنما تكون شرًّا بالإضافة؛ لا من حيث هي حركة. والشر كله
ظلم، وهو وضع الشيء في غير موضعه، فلو وضع في موضعه لم يكن شرًّا،
فعلم أن جهة الشر فيه بنسبته بمشيئته [10] إضافية، ولهذا كانت العقوبات الموضوعات
في محالها خيرًا في نفسها وإن كانت شرًّا بالنسبة إلى المحل الذي حلت به، لِمَا أحدثت فيه من الألم الذي كانت الطبيعة قابلة لضده من اللذة، مستعدة له،
فصار ذلك الألم شرًّا بالنسبة إليها، وهو خير بالنسبة إلى الفاعل، حيث وضعه
موضعه، فإنه سبحانه لا يخلق شرًّا محضًا من جميع الوجوه والاعتبارات [11] فإن حكمته تأبى ذلك؛ بل قد يكون ذلك المخلوق شرًّا ومفسدةً ببعض الاعتبارات،
وفي خلقه مصالح وحكم باعتبارات أخر أرجح من اعتبارات مفاسده؛ بل الواقع
منحصر في ذلك، فلا يمكن في جناب الحق جل جلاله أن يريد شيئًا يكون فسادًا من
كل وجه بكل اعتبار لا مصلحة في خلقه بوجهٍ ما، هذا من أبين المحال، فإنه سبحانه
بيده الخير والشر ليس إليه، بل كل ما إليه فخير، والشر إنما حصل لعدم هذه
الإضافة والنسبة إليه، فلو كان إليه لم يكن شرًّا، فتأمله، فانقطاع نسبته إليه هو
الذي صيّره شرًّا.
فإن قلت: لم تقطع نسبته إليه خلقًا ومشيئةً. قلت: هو من هذه الجهة ليس
بشرّ، فإن وجوده هو المنسوب إليه، وهو من هذه الجهة ليس بشر، والشر الذي
فيه من عدم إمداده بالخير وأسبابه، والعدم ليس بشيء [12] حتى ينسب إلى مَن بيده
الخير.
فإن أردت مزيد إيضاح لذلك، فاعلم أن أسباب الخير ثلاثة: الإيجاد،
والإعداد، والإمداد. فهذه هي الخيرات وأسبابها، فإيجاد هذا السبب خير وهو إلى
الله، وإعداده خير وهو إليه أيضًا، وإمداده خير وهو إليه، فإذا لم يحدث فيه
إعدادًا ولا إمدادًا حصل فيه الشر بسبب هذا العدم الذي ليس إلى الفاعل وإنما إليه
ضده.
فإن قلت: فهلاّ أَمَدَّهُ إِذْ أَوْجَدَهُ؟ قلت: ما اقتضت الحكمة إيجاده وإمداده فإنه
سبحانه يوجده ويمده، وما اقتضت الحكمة إيجاده وترك إمداده أوجده بحكمته ولم
يمده بحكمته، فإيجاده خير، والشر وقع من عدم إمداده.
فإن قلت: فهلاّ أمد الموجودات كلها؟ فهذا سؤال فاسد، يظن مورده أن
التسوية بين الموجودات أبلغ في الحكمة، وهذا عين الجهل؛ بل الحكمة كل الحكمة
في هذا التفاوت العظيم الواقع بينهما، وليس في خلق كل نوع منها تفاوت فكل نوع
منها ليس في خلقه من تفاوت، والتفاوت إنما وقع بأمور عدمية لم يتعلق بها الخلق،
وإلا فليس في الخلق من تفاوت، فإن اعتاص ذلك عليك ولم تفهمه حق الفهم
فراجع قول القائل:
إذا لم تستطع شيئًا فدعه
…
وجاوزه إلى ما تستطيع
كما ذكر أن الأصمعي اجتمع بالخليل بن أحمد وحرص على فهم العَرُوض
وأعياه ذلك، فقال له الخليل يومًا: قطّع لي هذا البيت، وأنشده (إذا لم تستطع)
البيت، ففهم ما أراد فأمسك عنه ولم يشتغل به.
وسر المسألة أن الرضاء بالله يستلزم الرضاء بصفاته وأفعاله وأسمائه وأحكامه،
ولا يستلزم الرضاء بمفعولاته كلها؛ بل حقيقة العبودية أن يوافقه عبده في رضاه
وسخطه، فيرضى منها بما يرضى به ويسخط منها [13] ما سخطه. فإن قيل: فهو
سبحانه يرضى عقوبة مَن يستحق العقوبة. فكيف يمكن العبد أن يرضى بعقوبته له؟
قيل: لو وافقه في رضاه بعقوبته لانقلبت لذةً وسرورًا، ولكن لا يقع ذلك [14] فإنه لم
يوافقه في محبته وطاعته التي هي سرور النفس وقُرَّة العين وحياة القلب، فكيف
يوافقه في محبته للعقوبة التي هي أكره شيء إليه، وأشق شيء عليه؟ بل كان
كارهًا لِمَا يحبه من طاعته وتوحيده، فلا يكون راضيًا مما يختاره من عقوبته، ولو
فعل ذلك لارتفعت عنه العقوبة.
فإن قلت: فكيف يجتمع الرضا بالقضا الذي يكرهه العبد من المرض والفقر
والألم مع كراهته؟ قلت: لا تنافي في ذلك فإنه يرضى به من جهة إفضائه إلى ما
يحب، ويكرهه من جهة تأمله به، كالدواء الكريه الذي يعلم أن فيه شفاءه، فإنه
يجتمع فيه رضاؤه به وكراهته له.
فإن قلت: كيف يرضى لعبده شيئًا ولا يعينه عليه؟ قلت: لأن إعانته عليه قد
تستلزم فوات محبوب له أعظم من حصول تلك الطاعة التي رضيها له، وقد يكون
وقوع تلك الطاعة منه يتضمن مفسدة هي أكره إليه سبحانه من محبته لتلك الطاعة،
بحيث يكون وقوعها منه مستلزمًا لمفسدةٍ راجحةٍ، ومفوتًا لمصلحة راجحة، وقد
أشار تعالى إلى ذلك في قوله: {وَلَوْ أَرَادُوا الخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ
انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ القَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَاّ خَبَالاً
وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} (التوبة
: 46-47) فأخبر سبحانه أنه كره انبعاثهم مع رسول الله للغزو وهو طاعة
وقربة، وقد أمرهم به، فلما كرهه منهم ثَبَّطَهُم عنه، ثم ذكر سبحانه بعض المفاسد
التي كانت تترتب على خروجهم لو خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛
فقال: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَاّ خَبَالاً} (التوبة: 47) أي فسادًا
{وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ} (التوبة: 47) أي سعوا فيما بينكم بالفساد والشر يبغونكم
الفتنة وفيكم سمّاعون لهم أي قابلون منهم مستجيبون لهم، فيتولد من بين سعي
هؤلاء بالفساد وقبول أولئك منهم من الشر ما هو أعظم من مصلحة خروجهم،
فاقتضت الحكمة والرحمة أن منعهم من الخروج وأقعدهم عنه، فاجعل هذا المثال
أصلاً لهذا الباب وقِسْ عليه.
فإن قلت: قد تصوّر لي هذا في رضاء الرب تعالى لبعض ما يخلقه من وجهٍ
وكراهته من وجه، فكيف لي بأن يجتمع الأمران في حقي بالنسبة إلى المعاصي
والفسوق؟ قلت: هو متصوّر ممكن؛ بل واقع، فإن العبد يسخط ذلك ويبغضه
ويكرهه من حيث هو فعل له واقع بسببه وإراداته واختياره، ويرضى بعلم الله
وكتابته ومشيئته وإذنه الكوني فيه، فيرضى بما من الله، ويسخط ما هو منه. فهذا
مسلك طائفة من أهل العرفان، وطائفة أخرى رأوا كراهية ذلك مطلقًا، وعدم
الرضاء من كل وجه، وهؤلاء في الحقيقة لا يخالفون أولئك، فإن العبد إذا كرهها
مطلقًا فإن الكراهة إنما تنفع على الاستياء من المكروه منها، وهؤلاء لم يكرهوا علم
الرب وكتابته ومشيئته وإلزامه حكمه [15] الكوني، وأولئك لم يرضوا بها من الوجه
الذي سخطها الرب وأبغضها لأجله.
وسر المسألة أن الذي إلى الرب منها غير مكروه، والذي إلى العبد منها هو
المكروه والمسخوط، فإن قلت: ليس إلى العبد شيء منها. قلت: هذا هو الجبر
الباطل الذي لا يمكن صاحبه التخلص من هذا المكان الضيق، والقدري أقرب إلى
التخلص منه من الجبري، وأهل السنة المتوسطون بين القدرية والجبرية هم أسعد
بالتخلص منه من الفريقين.
فإن قلت: كيف يتأتى الندم والتوبة مع شهود الحكمة في التقدير، ومع شهود
القومية والمشيئة النافذة؟ قلت: هذا الذي أوقع مَن عميت بصيرته في شهود الأمر
على خلاف ما هو عليه، فرأى تلك الأفعال طاعات لموافقته فيها المشيئة والقدر،
وقال: إن عصيت أمره فقد أطعت إرادته في ذلك. قيل:
أصبحت منفعلاً لما تختاره
…
مني ففعلي كله طاعات
وهؤلاء أعمى الخلق بصائر، وأجهلهم بالله وأحكامه الدينية والكونية؛ فإن
الطاعة هي موافقة الأمر لا موافقة القدر والمشيئة، ولو كانت موافقة القدر طاعة لله
لكان إبليس مِن أعظم المطيعين لله، وكان قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وقوم
فرعون كلهم مطيعين له، فيكون قد عذبهم أشد العذاب على طاعته، وانتقم منهم
لأجلها، وهذا غاية الجهل بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله.
فإن قلت: ومع ذلك فاجمع لي بين الندم والتوبة وبين مشهد القيومية والحكمة.
قلت: العبد إذا شهد عجز نفسه ونفوذ الأقدار فيه، وكمال فقره إلى ربه، وعدم
استغنائه عن عصمته وحفظه طرفة عين؛ كان [16] بالله في هذه الحال لا بنفسه،
فوقوع الذنب منه لا يتأتى في هذه الحال ألبتة، فإن عليه حصنًا حصينًا مِن: (فبي
يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي) فلا يتصوّر منه الذنب في هذه الحال،
فإذا حجب عن هذا المشهد وسقط إلى وجوده الطبيعي وبقي بنفسه استولى عليه
حكم النفس والطبع والهوى، وهذا الوجود الطبيعي قد نصبت فيه الشباك والأشراك،
وأرسلت عليه الصيادون، فلا بد أن يقع في شبكة من تلك الشباك، وشرك من
تلك الأشراك، وهذا الوجود وهو حجاب بينه وبين ربه، فعند ذلك يقع الحجاب
ويقوى المقتضي، ويضعف المانع، وتشتد الظلمة، وتضعف القوى، فأنى له
بالخلاص من تلك الأشراك والشباك؟ فإذا انقشع ضباب ذلك الوجود الطبيعي
وانجاب ظلامه، زال قتامه، وصرت بربك ذاهبًا عن نفسك وطبعك:
بدا لك سر طال عنك اكتتامه
…
ولاح صباح كنت أنت ظلامه
فإن غبت عنه حل فيه وطنبت
…
على منكب الكشف المصون خيامه
فأنت حجاب القلب عن سر غيبه
…
ولولاك لم يطبع عليه ختامه
وجاء حديث لا يمل سماعه
…
شهي إلينا نثره ونظامه
إذا ذكرته النفس زال عناؤها
…
وزال عن القلب المُعَنَّى قتامه
فهنالك يحضره الندم والتوبة والإنابة، فإنه كان في المعصية [17] بنفسه،
محجوبًا فيها عن ربه وعن طاعته، فلما فارق ذلك الوجود وصار في وجود آخر
بقي بربه لا بنفسه، وإذا عرف هذا فالتوبة والندم يكونان في هذا الوجود الذي هو
فيه بربه، وذلك لا ينافي مشهد الحكمة والقيومية؛ بل يجامعه ويستمدّ منه. وبالله
التوفيق.
_________
(1)
سقط من البغدادية كلمة (ربا) .
(2)
سقط من البغدادية كلمة (له) .
(3)
وفيها (إنه لم) .
(4)
في البغدادية هنا (قولهم) ونص نسختنا (قولكم) ، وفيها القولة السابقة (قوله) فيهما وكان الأولى أن تكون (قولهم) فيهما.
(5)
نص البغدادية (فينازع قدر الله بقدر بالله ولله) .
(6)
نص نسختنا والحجازية (والرضاء في مقام الإيمان) فاعتمدنا نص البغدادية.
(7)
أي لأجل أمر غيره وهو ما بينه بقوله: وكونه سببًا
…
إلخ.
(8)
حذف من البغدادية كلمة (به) ولعلّه الصواب.
(9)
في الحجازية (تحركت في الخير) .
(10)
حذف من البغدادية كلمة (بمشيئه) .
(11)
في الحجازية (من جميع وجوه الاعتبارات) وفي البغدادية (من جميع الوجوه والاعتبارات) وانفردت نسختنا بالغلط ونصها (من جميع الوجوه الاعتبارات) .
(12)
في البغدادية (بشر) .
(13)
حذف من البغدادية كلمة (منها) .
(14)
وفيها (منه ذلك) .
(15)
في البغدادية (وحكمه الكوني) .
(16)
جواب (إذا) .
(17)
سقط من الحجازية (في المعصية) .
الكاتب: محمد بن عبد العظيم المكي الحنفي ابن المقدسي
القول السديد
في بعض مسائل الاجتهاد والتقليد [*]
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين وعليه نتوكل
اللهم أرنا الحق حقًّا واهدِنَا لاتَّباعِه، وأرنا الباطل باطلاً ووفقنا لاجتنابِه
الحمد لذاته وجميل صفاته، والشكر له على آلائه ونعمائه وعطائه وهباته،
والصلاة والسلام على عبده ورسوله المبعوث بالدين المتين، والكتاب المبين،
سيدنا ومولانا ونبينا محمد الرسول الأمين، وعلى آله وأصحابه الهداة المهتدين.
أما بعد؛ فهذه تعليقة موسومة (بالقول السديد في بعض مسائل الاجتهاد
والتقليد) أذكر فيها ما حضرني من بعض مسائل الاجتهاد، واقتداء المقلد بإمام
يرى خلاف قول مقلده - بفتح اللام - إما اجتهادًا أو تقليدًا ما سنح للخاطر الفاتر،
في الوقت الحاضر من غير تقيد بمراجعة في ذلك وهي نبذة يسيرة من شيء كثير،
فأقول وبالله الإعانة الكلام في هذه المسائل على فصول:
الفصل الأول
اعلم أنه لم يكلف الله أحدًا من عباده بأن يكون حنفيًّا أو مالكيًّا أو شافعيًّا
وحنبليًّا؛ بل أوجب عليهم الإيمان بما بعث به محمدًا صلى الله عليه وسلم، والعلم
بشريعته؛ غير أن العلم بها متوقف على الوقوف عليها، والوقوف له طرق، فما
كان منها ممّا يشترك به العوام وأهل النظر كالعلم بفريضة الصلاة والزكاة والصوم
والحج والوضوء إجمالاً، وكالعلم بحرمة الزنا والخمر واللواطة وقتل النفس،
وغير ذلك مما عُلِمَ من الدين بالضرورة، فذلك لا يتوقف فيه على اتباع مجتهد
ومذهب معين؛ بل كل مسلم عليه اعتقاد ذلك. فمَن كان في العصر الأول فلا يخفى
وضوح ذلك في حقه، ومَن كان في الأَعصار المتأخرة، فلوصول ذلك إلى علمه
ضرورة من الإجماع والتواتر وسماع الآيات والسنن، أي الأحاديث الشريفة
المستفيضة المصرّحة بذلك في حق مَن وصلت إليه.
وأمَّا ما لا يتوصل إليه إلا بضرب من النظر والاستدلال فمَن كان قادرًا عليه
بتوفر آلاته وجب عليه فعله، كالأئمة المجتهدين رضوان الله عليهم أجمعين، ومَن
لم يكن له قدرة عليه وجب عليه الاتباع إلى من يرشده [1] إلى ما كُلِّفَ به ممّن هو
أهل النظر والاجتهاد والعدالة، وسقط عن العاجز تكليفه بالبحث والنظر لعجزه
بقوله تبارك وتعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَاّ وُسْعَهَا} (البقرة: 286) ، وقوله
عزَّ مِن قائل: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (النحل: 43) ، وهي
الأصل في اعتماد التقليد، كما أشار إليه المحقق الكمال بن الهمام في التحرير [2] .
***
فصل
إذا علمت ذلك؛ فاعلم أن أبا حنيفة ومالكًا والشافعي وأحمد بن محمد بن
حنبل رحمة الله عليهم أجمعين، كلٌّ كان من أهل الذكر الذين وجب سؤالهم لمن لم
يصل إلى درجة النظر والاستدلال، فإذا عمل أحد من المقلدين في طهارته وصلاته
أو شيء مما جرى به التكليف بقول واحد منهم مقلدًا له فيه - لو صادف قوله، ولو لم
يعلم به حين العمل فقلده فيه بعد انقضائه على ما ظهر لي في المسألة، كما يدل عليه
ما استشهد به في المسألة بعد هذا - فقد أدّى ما عليه، وليس لأحدٍ ممّن هو في درجته
التقليد له. قلت: بل ولا للمجتهد الإنكار عليه، كما صرّح به في غير كتب عندنا من
تصانيف الصدر الشهيد حسام الدين وغيره من كتب المذهب المعتبرة، كالتجنيس
والمؤيد لشيخ الإسلام برهان الدين صاحب الهداية كما نقلته بخطي عنها في
مظانّه.
إذا ثَبَتَ ذلك فليس لحنفيّ أو مالكيّ أو شافعيّ من المُقَلدين أن يمتنع من
الاقتداء بالإمام المخالف لمذهبه، وليس له أن يحتج بأني لمّا قلدت الشافعي وأبا
حنيفة - مثلاً - فقد وجب علي الحكم ببطلان ما خالف اجتهاده؛ لأننا نقول: إنما
أبيح التقليد بقدر الضرورة، وذلك يندفع بتقليدك له في عملك وكيفيته فقط، وإن
شئت قل: في كيفية إيقاع ما كلفت به فقط، وأما الحكم ببطلان مخالفه فليس ذلك
إليك؛ بل للكلام مجال في تسويغ ذلك للمجتهد الذي قلدته. وأما أنت - ومَن هو في
مرتبتك من المقلدين - فقول (كل مجتهد) ؛ عنده على حدّ سواء؛ إذ ليس الترجيح
بالدليل من وظائفك، وإلا كنت في درجتهم ووجب عليك الاجتهاد وارتفع التقليد،
ولكن لا بد للعمل في تصحيحه من مستند، فأنت استندت إلى إمامك - ونعم الإمام -
وهذا الآخر استند إلى إمامٍ في فعله مثل إمامك أو أعلى منه، فلا يمكنك الحكم
على عمله بالبطلان ألبتة، فلست حينئذٍ في تخلفك عن الاقتداء به إلا عاملاً بمحض
التعصب، وقد نص علماؤنا وغيرهم من أصحاب المذاهب على حرمة التعصب،
وتصويب الصلابة في المذهب. ومعنى الصلابة أي [3] الثبات على ما ظهر للمجتهد
من الدليل، وليس ذلك إلا للمجتهد نفسه أو لِمَن هو مِن أهل النظر ممن أُخِذَ بقوله.
والتعصب: هو الميل مع الهوى لأجل نصرة المذهب ومعاملة الإمام الآخر
ومقلديه بما يحطط عنهم. وقد نصّ في جواهر الفتاوى وغيرها من كتب أصحابنا
أن الإمام الشافعي - رحمه الله تعالى - لم يكن له تعصب على أئمتنا رحمهم الله
تعالى.
***
فصل
وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يقتدي بعضهم ببعض، وكذا التابعون
لهم، وفيهم المجتهدون ولم يُنَقل عن أحد من السلف - رحمهم الله تعالى - أنه كان
لا يرى الاقتداء بمَن يخالف قوله في بعض المسائل؛ ولو في خصوص الطهارة
والصلاة؛ بل يقتدي بعضهم ببعض، وربّما اعتقد بعضهم ولاية بعض؛ حتى إن
الشافعي رضي الله عنه بَعث يطلب قميص الإمام أحمد بن حنبل من بغداد
يستشفي به في مدّة مرضه بغسله وشرب مائه - كما رأيته مثبتًا في مناقب أحمد
رضي الله عنه وقد روي ذلك بالعكس [4] ، وكذلك كان الصحابة - رضي الله
عنهم - يعامل بعضهم بعضًا، كما يُعْلَمُ ذلك من سيرهم وأحوالهم.
ولا يلتفت إلى ما قد تمسك به مَن لا معرفة عنده بأن الاختلاف بينهم لم يكن
بينهم بهذه الصفة التي عليها المذاهب الآن؛ لأنَّا قد قررنا أن ذلك لا يمنع؛ لأن
الكل كانوا في طلب الحق على حدّ متساوٍ، واجتهاد كل واحد منهم يحتمل الخطأ
كغيره بعد تسليم بلوغهم درجة الاجتهاد، وإن تفاوتوا فيه.
فَإِنْ قُلْتَ: قد نقل الإمام حافظ الدين النسفي صاحب الكنز والكافي في مصفّاه
عن المشايخ المتقدمين: إنّا إذا سُئلنا عمّا ذهبنا إليه في الفروع نجيب بأن ما ذهبنا
إليه صواب يحتمل الخطأ، وما ذهب إليه الغير خطأ يحتمل الصواب. انتهى
بمعناه، وإن لم يكن بلفظه. وهذا يوجب امتناع المقلد من اتباع إمام يرى مخالفة
قول إمامه لكونه خطأ، وما قلد فيه صواب عنده.
قلنا: المراد من هذا تخصيص أن ما ذهب إليه أئمتنا هو صواب عندهم مع
احتمال الخطأ؛ إذ كل مجتهد قد يصيب وقد يخطئ في نفس الأمر. وأما بالنظر
إلينا فهو مصيب في اجتهاده، وهو معنى ما روي أن كل مجتهد مصيب؛ فليس
معناه أن الحق يتعدد.
وينبغي أن يكون قد أراد الكلام [5] أن للمجتهد الحكم ظنّا لا قطعيّا بأن اجتهاد
غيره خطأ. وأما نفس المجتهد المخالف فهو مصيب في العمل باجتهاد نفسه لا
مخطئ في ذلك، وإن كان محكومًا بخطأ اجتهاده عند غيره؛ لأنه مأمور باجتهاد
نفسه كما لا يخفى.
قال الإمام فخر الإسلام علي بن محمد البزدوي في شرح الجامع الصغير في
مسألة التحري بالقبلة في الليلة المظلمة: وهذا نص من أصحابنا على أنهم لم يقولوا:
كل مجتهد مصيب؛ خلافًا للمعتزلة، فإن من نسب ذلك إليهم فقد تقوّل عليهم،
هذا لفظ فخر الإسلام رحمة الله عليه.
قلت: وقد ذهب بعضهم إلى أن الحق يتعدد في المسألة، وهو ما أدى إليه
اجتهاد كل مجتهد فيها، فقد جعل الله تبارك وتعالى حكم المسألة ما أدى إليه اجتهاد
كل مجتهد. ولكن لا نقول به؛ بل معناه أنه مصيب في اجتهاده ثم العلم به، والحق
عند الله واحد، ولكن لمّا ظهر لهم بالدليل حكمٌ من الأحكام وجب عليهم اتباع الدليل،
ومن ضرورة وجوب الاتباع التصويب، وإلا فالشرع لا يأمر باتّباع الخطأ. ثُم
من ضرورة تصويب قولهم تخطئة قول مخالفهم مع احتمال الإصابة من مخالفهم؛
لأن المجتهد لم يحصل له إلا الظن لا القطع بذلك، ولهذا لو حكم بشيء من
القطعيات في العقائد يجزم بالإصابة وبتخطئة المخالف، كما ذكره النسفي في تلك
المسألة في المصفى أيضًا.
فالحاصل أن المراد من أئمتنا ومَن أخذ بقولهم من أهل النظر كمشايخ المذهب
الكبار المتقدمين، كالشيخ أبي الحسن الكرخي والإمام أبي جعفر الطحاوي،
والمتأخرين مثل شمس الأئمة الحلواني وتلميذه السرخسي وفخر الإسلام البزدوي
وأمثالهم من النظّار في القرن الخامس، والإمام قاضي خان وخسرويه صاحب
الهداية، وأضرابهما من أهل الأنظار ذوي القدر الخطير في القرن السادس - لو
سُئلوا لكان جوابهم ما ذكره. ويرشد إلى ذلك تعبيره بقوله: (لو سئلنا) . وقوله:
(عمّا ذهبنا) . إلى آخره. ولم يقل: لو سئل المقلد. فهذا الجواب مقدّر من جانب
الأئمة أنفسهم فيما ذهبوا إليه، وليس المراد أن يكلف كل مقلد أن يعتقد ذلك فيما قلد
فيه؛ إذ ذلك تقليد فيما لا يحتاج إليه، وهو ممنوع، كما أفدتك من قبل أن التقليد
إنما يسوغ بقدر الضرورة، وهو محتاج إلى العلم؛ فلا بد من التقليد في كيفية
حصوله، وأما اعتقاد صحة ما قلد فيه ولا يدري [6] بطلان كل ما عداه فليس مكلّفًا.
فَإِنْ قُلْتَ: بل هو مكلّف، وإلا لَزِمَ إذًا التكليف مع اعتقاد عدم صحتها.
قلت: لا يلزم ذلك إلا لو اعتقد عدم صحة ما قلّد فيه، ونحن لا نقول به؛ بل
هو على الصواب ظاهرًا حيث فعل ما عليه، وهو الأخذ بقول مجتهد، وأما تخطئة
مَن أخذ بخلاف قول مقلده فما هو مكلف بها.
وإذا تقرّر هذا فلا يسوغ لحنفي أو شافعي وَجد في المسجد إمامًا على خلاف
مذهبه بعد أن كان من أهل السنة والجماعة ترك الاقتداء به، نظرًا إلى عدم صحة
صلاته على مقتضى مذهب إمامه [7] .
***
فصل
يؤيد ما ذكرته ما نقله التقي الشهني في شرح المختصر والشيخ عثمان
الزيلعي وصاحب البحر الرائق وغيرهم عن الإمام الجليل أبي بكر الرازي رحمه
الله من صحة الاقتداء بإمام رعف ولم يتوضأ، وهذا يشعر بالاكتفاء باعتقاد الإمام
نفسه في صحة صلاته، ولا عبرة حينئذٍ بفسادها في اعتقاد المقتدي، كما أشار إليه
النسفي أيضًا، وهذا القول هو المقصود روايته وإن اعتمد خلافة روايةً عندنا.
وهو الذي أميل إليه، وعليه يتمشى ما ذهبنا إليه في هذه الوريقات؛ بل أزيد وأقول:
والذي يقتضيه النظر فيما ذهبنا إليه لا ينبغي تخصيص عقيدة الإمام بالاعتبار في
الصحة؛ بل يقول: يكفي حصول الصحة على قول مجتهد، سواء في ذلك مطابقة
عقيدة الإمام والمأموم أو غير مطابقة؛ كمثل شافعي مسَّ فرجه وصلَّى ناسيًا إمامًا،
واقتدى الحنفي بالشافعي ثُم نسي ودخل في الصلاة، والحنفي كان عالمًا بمسّه وهو
ذاكرٌ له، فنقول: له أن يقتدي به؛ لأنه في حالته بعد المس، وهو متوضئ في
اعتقاد الحنفي المقتدي فيكفي ذلك.
وقد قال المحقق في فتح القدير في مثل هذه الصورة: إن الأكثر على الصحة؛
خلافًا للهندواني وغيره، ففي هذه الصورة قد اعتبرنا اعتقاد الحنفي المقتدي،
واكتفينا بصحتها في عقيدته، وصححنا الاقتداء، كما أنه في مسألة اقتداء الحنفي
بالإمام الذي رعف ولم يتوضأ اكتفينا بصحتها في عقيدة الإمام الراعف، وصححنا
الاقتداء به، وهو الذي نقلوه عن الإمام الرازي.
وقد ذكر الشيخ الإمام المحقق كمال الدين بن الهمام في شرحه على الهداية عن
شيخه الإمام سراج الدين الشهير بقارئ الهداية أنه كان يعتقد قول أبي بكر الرازي،
وأنه أنكر مرة أن يكون فساد الصلاة بذلك مرويًّا عن المتقدمين. انتهى.
ورأيت في رسالة لبعض الفضلاء أن بعض الفضلاء كانوا يرجحون قول أبي
بكر الرازي بناءً على قوة دليله ووضوح بيانه، وهو أن شرط صحة صلاة المأموم
صحة صلاة الإمام في نفسها، وصلاة كل مكلف إنما تصح في نفسها - إمامًا
ومأمومًا - باعتبار رأيه ومذهبه، لا على مذهب الغير؛ إذ كل مجتهد مطاع
في حكمه، ومجزي عن عمله الذي رآه ومثاب عليه - وإن لم يصب الحق - فالحنفي
لا يجزم بفساد صلاة مجتهد خرج منه الدم وهو يرى أنه غير ناقض، وإن قطع بفسادها من حنفي ابتلي به - على رأيه -.
قوله: لا يجزم. وقوله: وإن قطع. لا يخفى أنه لا جزم ولا قطع في
الظنيات، فالصواب أن يقال: لا يحكم، أو لا يقول بفسادها. وكذا أن يقول: وإن
حكم - أو - وإن قال بفسادها، بدل قوله: وإن قطع. قال جامعها: وإن قطع
بفسادها من حنفي ابتلي به بناء على رأيه ومذهبه
…
إلى آخر ما ذكره مما تركت
ذكره قصد الاقتصار على ما هو المقصود منه.
وكذلك أيضًا أجاب عنه الشهني في شرح المختصر، وغيره من المصنفين
في مسألة صحة اقتداء مقلد أبي حنيفة في الوتر بمَن يرى عدم وجوبه؛ بأنه لا
يجب عليه اعتقاد الوجوب. يدل أيضًا على ما أرشدتك إليه من أن التقليد إنما هو بقدر
الحاجة، واعتقاد الوجوب في عمل لم يجمعوا على وجوبه لا يجب؛ بل ربما لا
يسوغ؛ كما سيأتي قريبًا. فلذلك نقول: المقلد محتاج إلى إيقاع ما كلف به بطريقه لا
غير، فتنبه! فقد نقل صاحب البحر الرائق - وهو خاتمة المتأخرين - مولانا
العلامة ابن نجيم رحمه الله تعالى في (البحر الرائق شرح كنز الدقائق) عن شرح
(منية المصلي) : أنه صرّح بعض مشايخنا بأنه لا ينوي في الوتر أنه واجب
للاختلاف في وجوبه. ونقل هو أيضًا عن المحيط والبدائع أنه ينوي صلاة الوتر
والعيد فقط. انتهى. وهذا نصّ فيما أشرت إليه.
***
فصل
قد استفاض عند فضلاء العصر منع التلفيق في التقليد، وذلك بأن يعمل -
مثلاً - في بعض أعمال الطهارة والصلاة أو أحدهما بمذهب إمام، وفي بعض
العبادات بمذهب إمام آخر. ولم أجد على امتناع ذلك برهانًا؛ بل قد أشار إلى عدم
منعه المحقق في التحرير، وأنه لم يرد ما يمنع، ونقل منع التلفيق عن بعض
المتأخرين. قال شارح تحريره العلامة ابن أمير حاج: القائل بالمنع العلامة
القرافي رحمه الله تعالى.
قلت: والقرافي رجل من فضلاء الأصوليين من المالكية، ولا علينا أن نأخذ
بقوله، خصوصًا وقد وجدت عن بعض أئمتنا ما يدل على جوازه؛ بل على وقوعه،
وهو ما نقل في البزازية أن من علماء خوارزم من أصحابنا مَن اختار عدم فساد
الصلاة بالخطأ في القراءة فيها أخذًا بمذهب الإمام الشافعي رحمه الله. فقيل له:
مذهبه في غير الفاتحة [8]، فقال: اخترت من مذهبه الإطلاق، وتركت القيد [9] ؛ لما
تقرر في كلام محمد [10] رحمه الله تعالى: أن المجتهد يتبع الدليل لا القائل، حتى
صحّ القضاء بصحة النكاح بعبارة النساء على الغائب. انتهى، نقله عنهما العلامة
خاتمة المتأخرين ابن نجيم في بعض رسائله في الوقف. فانظر كيف لفق أخذًا
بمذهبه بأن الفاتحة ليست بركن فلا يضر نقصان بعضها فيما أخطأ فيه؛ أعني خطأ
فاحشًا، كمن قال:(إيّاك نعبا وإياك نستعين) ؛ فسبقه اللسان خطأ. فإن الفاتحة
نقصت كلمة نعبد فلم تجز صلاته على مذهب الإمام الشافعي رحمه الله ما لم
يُعِدْ قراءة نعبد، فإذا أعادها صحت صلاته ولم تفسد عنده بهذا الخطأ؛ لأن عنده
الكلام الخطأ لا يفسد إذا كان قليلاً، وعندنا هو مفسد، فإذا أعادها على الصحة لا
يفيد لأن الصلاة قد فسدت. هذا وقد قال بعدم الفساد عندنا بعض المشايخ إن أعادها
على الصحة كما نقله الزاهدي، ولكن ظاهر ما في البزازية عن بعض علماء
خوارزم أنه لا تفسد ولو لم يعد على الصحة، وإن أخذه بمذهب الشافعي في عدم
الفساد بالخطأ، وهو عين التلفيق.
فإن قلت: إن ذلك البعض من علماء خوارزم لعله إنما قال بذلك اجتهادًا، بدليل
قوله: إن المجتهد يتبع الدليل لا القائل، قلت: يمنع مِن ذلك قولُه: أخذًا بمذهب
الشافعي، فإن المتبادر من ذلك أنه قلده في ذلك. ومعنى قوله حينئذٍ: لِمَا تقرّر من
كلام محمد - إلى آخره - يعني أن المجتهد كما يتبع ما دلّ عليه الدليل باجتهاد لا
باتباع مَن قال بمثل ما أدّاه إليه اجتهاده، فكذلك المقلّد إنما يلزمه خصوص ما قلّد
فيه لا اتباع ذلك المجتهد الذي قلّده في جميع ما قال به، وخصوص ما قلت فيه إنما
هو عدم الفساد بالخطأ في القراءة مطلقًا، سواء كان ذلك في الفاتحة أو غيرها،
وذلك هو مذهب الشافعي رحمه الله تعالى ورضي عنه، وعن سائر الأئمة
المجتهدين.
وفساد الصلاة بوقوع الخطأ في الفاتحة عنده ليس لخصوص كونه في الفاتحة؛
بل لفوات بعض الفاتحة عنده في الصلاة، ولهذا لو أتى بما أخطأ فيه منها على
الصحة فإنه لا يقول بفساد صلاته حينئذٍ. والخوارزمي لم يقلده في ركنية الفاتحة؛
بل قلده في عدم الفساد بالخطأ في القراءة - أعني الشافعي رحمه الله تعالى يقول
بإطلاقه، وقول القائل:(له مذهبه في غير الفاتحة) ؛ غير صحيح - كما تقدّم
بيانه، وكذلك قول الخوارزمي له، وتركه القيد واقع في غير محله؛ لأنه لم يقيده
الشافعي بغير الفاتحة؛ بل خرج ذلك من الخوازرمي للمشاكلة في الجواب لِمَن نسب
إليه القيد - أي إلى الشافعي - وذلك إما جهل من ذلك القائل بمذهب الشافعي، أو
توسع في العبارة وتسامح؛ لأنه لما كان الشافعي يقول بالفساد بوقوع الخطأ في
الفاتحة إذا لم يعد على الصحة، فكأن غير الفاتحة صار كالقيد لإطلاق الجواز،
وليس قيدًا حقيقةً كما بيّنته في أول الكلام؛ فافهم.
والحاصل أنه لم يثبت من كل وجه كون الخوارزمي قال بذلك الاجتهاد، ولو
فرضنا ثبوت ذلك فما ضرنا ذلك فيما قصدنا إليه من جواز التلفيق، فكما أنه لو
حصل التلفيق بالاجتهاد حكمنا بالصحة؛ فكذلك إذا حصل التلفيق بالتقليد حكمنا
بالصحة؛ لأن الاجتهاد أصل في العمل والتقليد فرع. التكليف في الأصل إنما هو
بالاجتهاد عند عدم النص، فإن عجز عن ذلك الاجتهاد نزل إلى التقليد، ففي كل
موضع قلنا بالصحة مع الاجتهاد نقول بها مع التقليد عند العجز عنه من غير زيادة
أمر آخر، وما زاد على ذلك فهو قول مخترع لا يقوم به دليل مرضي، ولا تنهض
به حجة.
وما يزعمه من منع التلفيق من أن كلاّ من المجتهدَيْن اللذَيْن قلدهما - مثلاً -
يقول ببطلان صلاته الملفقة - مثلاً - أو سئل عنها بانفراده، فمغالطة مدفوعة بما
لا يسع هذا المحل بيانه.
وإجمال ذلك: أنه إنما يقول له: إنها باطلة إن كنت أخذت في ذلك الأمر الذي
حكمت إذًا ببطلانه من أجله بمذهبي وأمّا إن كنت قلدت فيه غيري فلا أحكم
ببطلانها حينئذٍ في حقّك إن كنت متمسكًا بقول مجتهد. وكذلك يقول له الآخر
والآخر والآخر، فبطل إطلاق قولهم: يمنع التلفيق بأن كلاّ من المجتهدين حاكمٌ
ببطلان صلاته مثلاً؛ بل يقيد الحكم منه ببطلانها بما إذا كان متمسكًا فيها بمذهبه
فيما يرى ذلك المجتهد بطلانها بسبب فعله أو تركه لا أن قلد غيره فيه؛ فافهم ما فيه؛
فتندفع تلك المغالطة التي حكم مَن حكم بمنع التلفيق بسببها. فإن أبيت وقلت: لا؛
بل المجتهد يطلق القول ببطلانها على رأيه. فنقول: لا يليق هذا الإبطال بما إذا
قلد مجتهدًا غيره في الأمر الذي أبطلها بسببه، كما لا يليق إبطاله بنقض قول ذلك
المجتهد المصحح لها مع وجود ذلك الأمر الذي أبطلها بسببه ذلك المجتهد الآخر،
فسلمت له صلاته - أي المقلد - بتقليده لها كل أمر من أمورها مجتهدًا يرى صحة
ذلك، فصار حكم المجتهد المبطل في مصروفًا عنه بتقليده مَن يرى الصحة بذلك
الأمر، وبذلك ينصرف عنه حكم كل المجتهدين، وببطلانها بيان قول المانع فيما
إذا قلد المكلف أبا حنيفة رضي الله عنه في أن المس غير ناقضٍ مثلاً، وقلد
الشافعي - رحمه الله تعالى - في الاكتفاء بمسح بعض شعرات من الرأس لا تبلغ
الربع، أو مقدار ثلاثة أصابع باعتبار الرواية الأخرى في مذهب أبي حنيفة -
رحمة الله عليه - في المقدار المفروض في مسح الرأس، فإن المانع يقول: إن أبا
حنيفة والشافعي حاكمان ببطلان صلاته، فأبو حنيفة لفقد مسح المقدار المفروض
عنده، والشافعي لوجود المس، فهي غير جائزة عندهما.
أقول: وجوابه ما بيّناه بأن هذه مغالطة، وإطلاق في محل تقييد؛ بل الحكم
ببطلانها عند كل منهما مقيد بما إذا كان آخذا في ذلك الأمر الذي حكم من حكم
ببطلانها بسببه بمذهب المبطل - كما تقدم بيانه قريبًا - فافهم؛ والله أعلم بالصواب.
اللهم لو ذهب مجتهد إلى أن المفروض من الرأس في المسح مقدار ما قال به
الشافعي، وإلى أن المس غير ناقض، وإلى أن الدلك والموالاة في الوضوء لا يلزمان
، لم يسوغ المانع له حينئذٍ اجتهاده؟ [11] فكذلك عليه أن يسوغ للمقلد تقليده في كل
واحد من المذكورات لمجتهد قال بذلك؛ كما لا يخفى، فإن تَأَبَّى مُتَأَبٍّ عن تلقي هذا
البيان بالقَبول بعد صحته ووضوحه فاقرعه بما تقدم قريبًا من عدم لحوق الإبطال
من المجتهد بالمقلد لغيره فيما أبطله بسببه، وإن صادف حكمه عنه بذلك.
ثُم نرجع ونقول: وكذلك مسألة النكاح؛ فإنه لا يصح بعبارة النساء على
الغائب، وعندنا الحكم بالعكس في المسألتين، فإذا حكم بصحته بعد وقوعه بعبارة
النساء على الغائب فقد لفق، ومع هذا فقد حكموا بصحة هذا الحكم الملفق من
المذهبين، وكذلك مسألة الإمام أبي يوسف - رحمه الله تعالى - لمّا صلى بالناس
الجمعة فأخبر بوجود فأرة في ماء الحمام الذي كان اغتسل منه للجمعة، فقال: نأخذ
بقول إخواننا من أهل المدينة: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثًا) . قال في
المحيط البرهاني والفتاوى الظهيرية وغيرهما من كتاب النكاح مستشهدًا بها في
مسألة من مسائل النكاح سيأتي ذكرها: للحنفي أن يعمل فيها بغير مذهبه.
أقول: فهذا أبو يوسف رحمه الله إمام المذهب وكبيره، المجتهد الكامل -
قد قلد عند الضرورة ولم يكن ذلك مذهبًا له؛ بل مذهبه تنجس الماء القليل وإن لم
يتغير بوقوع ما ينجسه فيه، ولا شك أن الظاهر أنه فعل الطهارة وصلى الصلاة على
مقتضى مذهبه، وإنما قلد في خصوص الماء، فقد حصل التلفيق منه، وهو أوفى
حجة لنا، ويستفاد منه أيضًا أنه يقلد إذا احتاج، إذ هو الظاهر من فعله هنا، وإن كان
نقل في جواهر الفتاوى عن الحاوي من كتبنا: أن أبا يوسف رحمه الله بقي على
هذا المذهب ستة أشهر، ثُم رجع إلى مذهب أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - في
المسألة؛ فإنه يحتمل أنه ظهر له بالدليل بعد التقليد صحة ما ذهب إليه غيره ممّن
قلده في المسألة خصوصًا، ولفظ نقل المحيط والظهيرية: (ولم يكن ذلك مذهبًا له؛
بل يدل على وقوعه تقليدًا) .
وهذه المسألة وهي: هل للمجتهد أن يقلد مجتهدًا في مسألة فيها خلاف؟
المشهور أنه ليس له ذلك، وروي عن الإمام محمد رحمه الله جواز تقليد
العالم للأعلم، والفقيه للأفقه، وفرع أبي يوسف هذا يوافقه، ثُم رأيت في أصول
الإمام شمس الأئمة أبي بكر بن محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي رحمهم الله
تعالى - وهو صاحب المبسوط - ما نصه: على أصل أبي حنيفة رحمه الله
تعالى - إذا كان عند مجتهدٍ أن من يخالفه في الرأي أعلم بطريق الاجتهاد فإنه مقدّم
عليه في العلم فإنه يدع رأيه لرأي مَن عرف زيادة قوة في اجتهاده - إلى أن قال -:
وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى: (لا يدع المجتهد في زماننا
رأيه لرأي مَن هو مقدّم عليه في الاجتهاد من أهل عصره) ، إلى آخر ما ذكره.
فأفاد عن محمد خلاف ما رأيته عنه، فلعل أن له في المسألة روايتين. ونقل
صاحب الفتاوى الصيرفية عن فوائد تجنيس الملتقط: اشترى الإمام الشافعي -
رحمه الله تعالى - الباقلاء من منادي السكك، فأكل وأكلوا وصلوا بعدما حلق وعلى
ثوبه شعر كثير، فقيل له في ذلك، فقال: حين ابتلينا انحططنا إلى مذهب أهل
العراق. وهو يفهم بظاهره أنه قلد في ذلك.
فقد تلخص من المنقول عن الأئمة أن التلفيق [12] من مسئلتي أبي يوسف
وبعض علماء خوارزم، ومسألة صحة الحكم على الغائب بصحة النكاح بعد وقوعه -
كما سبق في المسألة التي ذكروها - واستئناسي بمقالة المحقق في التحرير، وما
على الإنسان أن يختار الأسهل في العمل.
ثُم وجدت شيخ الإسلام خاتمة الأئمة المتأخرين مولانا العلامة زين الدين ابن
نجيم صرّح في رسالة ألّفها في بيع الوقوف على وجه الاستبدال بأن ما وقع في
آخر التحرير من منع التلفيق فإنما عزاه إلى بعض المتأخرين وليس هذا المذهب.
انتهى. فحمدت الله تبارك وتعالى على موافقة ما ادعيته لما نص عليه مولانا
العلامة ابن نجيم.
(للرسالة بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(*) هذه الرسالة هي تأليف الفقيه الأصولي الشيخ محمد بن عبد العظيم المكي الحنفي ابن المقدسي المبروز الملاّ فروخ بن عبد المحسن الرومي الموروي، أتم تأليفه سنة 1052 للهجرة ظفر بنسخة خطية منها صديقنا الشيخ مصطفى بن محمد سليم الغلاييني؛ فأرسلها إلينا فاستحببنا نشرها في المنار لفوائدها وللاستشهاد بها على وجود العلماء المنصفين الميسرين الجامعين للكلمة في كل شعب إسلامي وكل عصر من عصور ضعف العلم.
(1)
المنار: حق العبارة أن تكون: (اتباع من يرشده) .
(2)
المنار: التقليد: الأخذ بالرأي من غير دليل. وإنما تدل الآية على السؤال عن الدليل، وهو ما تواتر عند أهل الكتاب من كون جميع الرسل كانوا رجالاً، ومثله طلب النصر دون الرأي، هذا وإن الاجتهاد يتجزأ، فمَن لم يقدر على معرفة جميع الأحكام أو أكثرها بالنظر والاستدلال يجوز أن يقدر على ما يحتاج إليه منها كله أو بعضه، وحينئذٍ يمتنع عليه أن يأخذ فيه برأي غيره واجتهاده، كما ثبت في علم الأصول.
(3)
لفظ (أي) لا حاجة إليه فعله سبق قلم من الناسخ أو المؤلف.
(4)
في طبقات الشافعية الكبرى للسبكي أن الشافعي أرسل إلى أحمد كتابًا من مصر وهو ببغداد مع الربيع يذكر له فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يكتب إليه: (إنك ستُمتحن وتدعى إلى القول بخلق القرآن فلا تجبهم، فيرفع الله لك علمًا إلى يوم القيامة) وأن أحمد أعطى الربيع قميصه بشارة، وأن الشافعي قال للربيع لما عاد: ليس نفجعك به؛ ولكن بلّه وارفع إليّ الماء لأتبرك به. فهذا أصل الحكاية، وبعض الناس يتصرفون فيها. والسند الذي ذكره السبكي لا يصح، ولكنه يقبلون مثله في المناقب.
(5)
المنار: كانت هذه الجملة إلى الأربعة الأسطر موضوعة في الفصل السابق قبل قوله: (وأما
أنت
…
إلخ) ولا معنى لها هناك، ولا مرجع لضميرَيْ (يكون) و (أراد) .
(6)
المنار: كذا في الأصل ولعل في الكلام حذفًا، والمراد ظاهر؛ أي: وأما اعتقاد صحة ما قلد فيه ولا يدري ما دليله، وبطلان كل ما عداه فليس مما يكلفه.
(7)
تقييده بأهل السنة فيه بحث؛ فقد أجازوا الاقتداء بالفاسق ولو في الاعتقاد كالمبتدع ولكن مع الكارهة، وهذا مما يتحقق به كونهم أهل الجماعة أي يجمعون كلمة المسلمين ولا يفرقونها.
(8)
أي ذل مذهبه في غير الفاتحة.
(9)
سينقل المصنف قريبًا قول الخوارزمي في هذا السياق: (وتركها لقيد في غير محله) - أي
الشافعي - فهل هو عين هذه العبارة ووقعت هنا محرفة؟ أم سقط من الكلام هنا؟ .
(10)
سيعيد العبارة بلفظ: (من كلام محمد) .
(11)
قوله: (لم يسوغ
…
إلخ) جواب لو، ومعنى النفي باطل؛ لأن مانع التلفيق لا يمنع المجتهد من القول بهذه المسائل، ولا يصح المعنى إلا إذا جعلت الجملة للاستفهام، ولا تبعد على المصنف لضعفه في العربية، وإلا فالعبارة محرفة.
(12)
كذا، والمعنى مأخوذ من مسألتي أبي يوسف
…
إلخ.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الصهيونية
(ننقل هذا الفصل من جزء نوفمبر سنة 1913 لمجلة الهلال المفيدة لاطّلاع
مَن لم يطّلع عليه من قرائنا في هذه الأيام التي كثر فيها الخوض في هذه
المسألة) .
تاريخها وأعمالها:
الصهيونية: دعوة اجتماعية سياسية؛ انتشرت في الأمة الإسرائيلية بأواخر
القرن الماضي، وكثر تحدث الناس فيها بالأعوام الأخيرة. وقد همَّنا
أمرها على الخصوص في أثناء رحلتنا بفلسطين. ولا بد لنا في بحثنا عن أحوال
تلك البلاد الاجتماعية والاقتصادية من الإشارة إلى هذه الدعوة وتأثيرها الشديد في تلك
الأحوال. فرأينا أن نأتي على خلاصة تاريخها وحقيقة غرضها؛ لزيادة الإيضاح
فنقول:
موضوعها:
قد تقدم في كلامنا عن تاريخ فلسطين في الهلال الماضي كيف تشتت اليهود
في أنحاء العالم بعد أن جاهدوا في الدفاع عن أورشليم دفاع الأسود. وقد مضى
عليهم في هذه الهجرة نحو 19 قرنًا وهم يندبون وطنهم ودولتهم وهياكلهم؛ ولا سِيَّما
هيكل سليمان الباقية آثاره في القدس إلى الآن كما سنبينه مصورًا في رحلتنا. وقد
حاولوا استرداد ذلك الوطن عبثًا، ونظموا الأشعار في رثائه. ولا يزالون إلى اليوم
يبكون ذلك المجد الذاهب كل أسبوع عند أحجار يعتقدون أنها من بقايا هيكل سليمان.
وقد حاول اليهود المهاجرون السعي في استرجاع ذلك الوطن غير مرة
بأساليب مختلفة، آخرها الحركة الصهيوينة التي نحن في صددها.
ولا بد لكل دعوة اجتماعية أو سياسية من غرض ترمي إليه، وغرض
الصهيوينة (جمع الشعب الإسرائيلي في فلسطين وجعلها وطنًا خاصًّا به) ، وهي
مبنية من الوجهة الدينية على آياتٍ جاءت في سفر أرميا الفصل 30 عدد 10 حيث
يقول: (لا تخف يا عبدي يعقوب يقول الرب ولا تفزع يا إسرائيل فإني أخلصك
من الغربة وذريتك من أرض جلائهم، فيرجع يعقوب ويستقر في الراحة والخصب
ولا يرعبه أحد) . وفي حزقيال 39 عدد 28: (فيعلمون أني أنا الرب إلههم
بإجلائي إيّاهم إلى الأمم ثُم جمعي إياهم إلى أرضهم، بحيث لا أبقي هناك منهم أحدًا
من بعد) وفي عاموس قول صريح ص (9: 14) : (وأردّ شعبي إسرائيل فيبنون
المدن المخربة ويسكنونها ويغرسون كرومًا يشربون من خمرها وينشئون جنات
يأكلون من ثمرها وأغرسهم على أرضهم فلا يقتلعون فيما بعد من أرضهم
التي أعطيتها لهم) .
وهناك نبوءات أخرى بهذا المعنى أو نحوه في زكريا وأشعيا وميخا وغيرها.
غير ما عندهم من الاعتقاد بالمسيح الذي سيأتي ويجمع بني إسرائيل حوله
ويزحف على القدس ويعيد العبادة للهياكل، وغير ذلك مما جاء في التلمود.
على أن هذه الأقوال وأمثالها لا تكفي لإجماع الأمة على العمل بها إن لم يتوقع
أصحابها نفعًا اقتصاديًّا أو سياسيًّا من ورائها، أو أن يدفعهم للعمل جوع أو اضطهاد
أو ظلم. وكم من اعتقاد يعتقده الناس ولا يجتمعون للعمل به؛ لعجزهم عن ذلك أو
لعدم الاضطرار إليه؟ وإنما يجتمعون للعمل في ما يرون لهم فيه مصلحةً حقيقيةً.
ويتذرّعون إلى الاجتماع غالبًا بأسبابٍ دينية يتوكؤون عليها ويأولونها إلى ما
يساعدهم على ذلك القيام.
ولا بد في مثل هذه الحال مِن محرّكٍ يبعث على النهوض، وقد بعث اليهود
على هذه الحركة أمران:
الأول: تمكن الروح الملّية من نفوسهم على أثر الارتقاء الاجتماعي والعلمي
في العالم المتمدن؛ فإن شيوع الحرية الشخصية ولّد في نفوس الأمم عصبية
عنصرية غلبت على الجامعات الأخرى، وبهذه العصبية يطلب المجر التخلص من
النمسا، ويحاول البلقانيون الخروج من سلطة تركيا. والبلقانيون أنفسهم يتحاربون
الآن باسم العنصرية مع أنهم من مذهب واحد وإقليم واحد.
والأمر الثاني: مبالغة الأمم النصرانية في امتهان اليهود باسم الأنتسميتزم
(antisemitism) ومعنى اللفظ: (مقاومة الساميين) ؛ لكنهم يريدون بهم
اليهود خاصة. فآل ذلك طبعًا إلى اجتماع كلمة اليهود بأوربا، وفيهم طائفة حسنة من
أصحاب الأموال ورجال الساسة والعلم وأهل الهمة والنشاط، فأخذوا يبحثون في
الدفاع عن أمتهم، وآنسوا في أنفسهم المقدرة على العمل بتلك الآيات، فوجّهوا
عنايتهم إليها؛ فأخذ كُتَّابُهم يحرّضون قومهم على الاستعمار في فلسطين للتخلص
من اضطهاد الأمم لهم. وقال بعضهم: إذا لم يكن ابتياع فلسطين ممكنًا فلنطلب
وطنًا في مكانٍ آخر على وجه هذه البسيطة.
ونشط آخرون لاستنصار الجمعيات الخيرية الإسرائيلية - كجمعية الاتحاد
الإسرائيلي - على القيام بهذا العمل سنة 1863؛ ولكن هذه الجمعية غرضها الرئيسي
تهذيب الشبيبة اليهودية، وحاول غيرهم استنهاض جمعية اليهود الإنكليزية في لندن
وجمعيتهم في برلين، فترتب على ذلك تأسيس الجمعية العمومية الفلسطينية وجمعية
الاستعمار الفلسطيني؛ لكنَّ الدعوة لم تكن نضجت بعد فلم تأت هذه المساعي
بثمرة. فوجّهوا التفاتهم إلى وادي الفرات لعله يصح أن يكون مهجرًا لهم. وبذل
السياسي أولفانت الإنكليزي جهده في نيل امتياز خط حديدي في ذلك الوادي ليسكن
فيه مهاجرو اليهود من روسيا، واقترح إنشاء مهجر يهودي في فلسطين
بنواحي السلط، على أن تتألف جمعية رأس مالها عشرة ملايين فرنك تبتاع مليون
فدان يستثمرها يهود بولندا ورومانيا والأناطول فلم يأذن لهم السلطان، وقِسْ
على ذلك سائر مساعيهم في هذا السبيل.
لكن روح الصهيونية أخذت تتمكن من قلوب اليهود؛ وهم يزدادون تمسكًا
بالعنصرية كلما زاد مقاوموهم شدة، فكثرت الجمعيات التي تألفت لهذه الغاية.
وأول جمعية أفلحت في استثمار أرض فلسطينية نشأت سنة 1879 ولما التأم
المؤتمر الإسرائيلي سنة 1884 وأوشكوا أن يبلغوا غايتهم لكن العثمانيين انتبهوا
لأغراضهم فحالوا بينهم وبين ما يريدون. ولم يستقر عملهم على قواعد متينة إلا
بعد ظهور الدكتور تيودور هرتزل صاحب الدعوة الصهيونية.
وهو رجل نمساوي شديد الغيرة على العنصر الإسرائيلي عالي الهمة قوي
الحجة، كتب وهو في باريس سنة 1895 كتابًا في استعمار اليهود سماه (الوطن
الإسرائيلي) ، لم يزعم أنه يستنهض به الهمم أو يستثير العزائم؛ بل قال: إنه كتبه
لنفسه ولإيقاف بعض أصدقائه على آرائه، ولكن الكتاب ما لبث أن طبع في فيينا
بالنمساوية حتى نقل إلى الفرنساوية والإنكليزية والعبرانية، وأعيد طبعه مرارًا وراج
رواجًا عظيمًا. وحرك الهمم فوق ما كان يتوقع الناس منه، وقد عارضه كثيرون،
لكن المجاري الاجتماعية اقتضت ظهور ثمره؛ لأن فكرة استعمار اليهود لفلسطين
كانت قد نضجت واستعدت لها الأذهان وتاقت إليها النفوس.
وخلاصة آراء هرتزل في ذلك الكتاب: (إن أعداء الساميين آخذون في
الازدياد، ولا يستطيع اليهود مقاومتهم لتشتت شملهم في الأرض، فهم في حاجة إلى
الاجتماع في وطنٍ خاص بهم) ؛ فاقترح إنشاء شركة يهودية اقتصادية رأسمالها
50.
000.000 جنيه مركزها لندن. وأن تتألف جمعية سياسية يهودية تدير أعمال هذه الشركة وتشير عليها بما ينبغي عمله.
واقترح للقيام بذلك ابتياع فلسطين أو الأرجنتين على أن ينتقل إليها اليهود
انتقالاً منتظمًا. ثُم عدل هرتسل رأيه هذا فحصر طلبه باستعمار فلسطين دون
سواها؛ لعلمه أن الناس لا يساقون بمثل الشعائر الدينية، واليهود هجروا فلسطين
وقلوبهم في هيكل سليمان.
ولم تمض سنة على نشر آراء هرتسل حتى أقبلت الجمعيات على الأخذ بها
وأول من فعل ذلك جمعية اليهود النمساوية؛ فوقع بضعة آلاف منهم سنة 1896
على خطاب يطلبون فيه تأسيس جمعية يهودية في لندن، غير مَن أخذ برأيه وتعصب
له من الناشئة المتألمين من مقاومة اليهود. على أن طائفة كبيرة من الحاخامين في
روسيا وألمانيا والنمسا وإنكلترا عارضوه في بادئ الرأي؛ لأنه لم يعتبر الوجهة
الدينية من المسألة كما ينبغي؛ ولأن أتباعه أكثرهم من الشبان المتنورين [1]
واتهموهم بكل قبيح. وكان المسيحيون أشد عطفًا على الصهيونية من أولئك
الحاخامين فنصروها بأقلامهم وألسنتهم.
ومن جملة العقبات التي قامت في طريق الصهيونية مسألة التعليم؛ لأن
الحاخامين اعتبروا نشر العلوم العصرية من قبيل الخروج عن الآداب الدينية،
وأشاعوا أن الصهيونية من آلات الكفر؛ فلما انعقد المؤتمر الثاني رأى هرتسل من
الحكمة مسالمة رجال الدين؛ فاعترف أن الصهيونية تشمل السعي في إحياء شعائر
الدين فضلاً عن الاقتصاد والسياسة.
أعمال الصهاينة ووسائلها:
قد يستغرب القارئ نجاح هذه الدعوة في هذه المدة القصيرة؛ لكنه إذا علم
الغرض والوسيلة هان عليه ذلك.
دعا هرتسل الشعب اليهودي من أنحاء العالم المتمدن إلى مؤتمر اجتمع في
باسل سنة 1897 حضره نيف ومئتا عضو بعضهم يمثلون جماعات. وكانت
الأذهان متأهبة لقبول الدعوة فلم يكتفوا بإعلانها - وهي إيجاد وطن شرعي للشعب
الإسرائيلي في فلسطين - بل بحثوا في الوسائل المؤدية إلى نشرها وتأييدها؛ فقرّروا
لذلك ثلاث وسائل من أرقى الوسائل المؤدية إلى النجاح وهي:
(1)
إحياء آداب العبرانية ونشرها.
(2)
إنشاء مدارس لتعليم اللغة العبرانية.
(3)
إنشاء مالية مشتركة لليهود.
وأخذوا بعد انفضاض هذا المؤتمر في تأييد هذه القرارات بنشر الكتب وإلقاء
الخطب في اللغات العبرانية والألمانية والفرنسية والإنكليزية والعربية، وشكلوا عمدة
للاستعمار الإسرائيلي. فلما انعقد المؤتمر الثاني في فيينا ثم في باسل سنة 1898
ظهر في التقارير التي تليت في ذلك الاجتماع أن الجمعيات الصهيوينة القائمة بذلك
العلم تضاعفت كثيرًا وأصبح عددها 1150 جمعية، فأخذ أعداؤها يتقرّبون منها،
وآمن بمبادئها كثيرون من رجال الدين. وتقرر في هذا المؤتمر تعيين جمعية خاصة
بالاستعمار غرضها توسيع نطاقه وأن تكون اللغة العبرانية هي لغة اليهود حيثما
وجدوا.
وقِسْ على ذلك ما جرى في المؤتمرات التالية. فانعقد المؤتمر الثالث في
باسل أيضًا وكانت أبحاثه أكثرها في نيل امتياز من السلطان عبد الحميد لم يسفر
عن نتيجة، وبلغ عدد الجمعيات الروسية فقط 877 جمعية، وعدد المنتظمين في
عضوية الجمعية 250000 نفس. وانعقد المؤتمر الرابع في لندن سنة 1900
والخامس في باسل سنة 1901، وفي هذا المؤتمر تقرر عقد مؤتمر عمومي كل
سنتين - غير المؤتمرات الفرعية في أثناء السنتين - وقرروا إنشاء مكاتب
للمطالعة ومدارس وتأليف دائرة معارف عبرانية. وانعقد المؤتمر السادس في باسل
سنة 1903 وتقرر فيه إرسال لجنة إلى أوغندا تبحث في: هل تصلح تلك البلاد
للاستعمار. وقرر تخصيص 200000 جنيه لشراء أرض في فلسطين وسوريا.
وفي السنة التالية 1904 تُوفي الدكتور هرتسل صاحب هذه الدعوة؛ فانتخبوا
مكانه الدكتور نوردو رئيسًا. وعرضت إنكلترا في ذلك العام على الصهيونيين
أرضًا في شرقي إفريقيا الإنكليزية على سكة حديد أوغندة بين نيروبي وماو؛
لأجل إنشاء مستعمرة يهودية مستقلة بأحكامها تحت رعاية الدولة الإنكليزية. فعينت
لجنة للبحث؛ فقررت أن البقعة ضيقة لا تكفي فرفضوها. وقِسْ على ذلك سائر
مؤتمرات الصهيونية وآخرها المؤتمر الحادي عشر الذي انعقد هذا العام في فيينا
برئاسة الموسيو ولنسن، وقد جاء فيه أن الصهيونية سائرة على قدم النجاح وأن
سلامتها مرتبطة بسلامة الدولة العثمانية؛ لأن المسألة اليهودية والمسألة العربية
متفقتان. وقرر أشياء أخرى أهمها إنشاء جامعة في أورشليم لتعليم العلوم العالية
باللغة العبرانية، وفي جملتها اللغات الشرقية والفلسفة القديمة والحديثة. غير
المؤتمرات الفرعية التي كانت تعقد في أنحاء العالم المتمدن، ومنها مؤتمر عقد في
زمارين من أعمال فلسطين حضره 50 عضوًا وشرط للدخول في الجمعية خمسة
قروش يدفعها الطالب.
وقسموا فلسطين من حيث الصهيونية إلى ست مناطق وتقرّر تأليف جمعيات
وفروع للأخذ بناصرها.
ومن قرارات المؤتمر السابع - من حيث العمل في فلسطين - السعي في
التنقيب عن الآثار وترويج الزراعة والصناعة وتحسين سائر الأحوال الاقتصادية
وترقية الهيئة الاجتماعية اليهودية وغير ذلك. وبلغت الجمعيات الصهيونية الآن
ألُوفًا عديدة ترجع في أعمالها إلى قرارات المؤتمرات العامة.
وللجمعية مصارف مالية لترويج أغراضها منها: (المصرف اليهودي
الاستعماري) ؛ وغرضه سياسي، وهو أهم أدوات الجمعية في موضوعها الأساسي،
والغرض منه: (تنشيط الاستعمار الإسرائيلي في فلسطين وسوريا وسائر أنحاء
تركيا وفي جزيرة سيناء وقبرص) . وهو بنك مساهمة؛ عدد المساهمين فيه نحو
135000 وله شعبة في يافا باسم الشركة الإنكليزية الفلسطينية لها فروع في أكثر
مدائن فلسطين. وزاد رأس ماله على 120000 جنيه. والبنك اليهودي الملّيّ؛
والغرض منه جمع رأس مال يكون ملك الصهيونية يستخدم لابتياع الأرضين في
فلسطين. واشترطوا أن رأس ماله لا يمسّ حتى يبلغ 50000 جنيه، وقد زاد الآن
على 120000 جنيه.
غير ما أنشأته الجمعية من وسائل التعليم والتهذيب كالمكاتب والمدارس
والجمعيات الأدبية والصحية للرجال والنساء، وعزَّزُوا شأن المرأة وأعطوها حق
التصويت والانتخاب لعضوية المؤتمر؛ فألّفت الجمعيات النسائية الأدبية والتهذيبية
والاجتماعية.
وناهيك بما أنشأوه من الصحف الكبرى لخدمة أغراض الجمعية في روسيا
والنمسا وألمانيا وإيطاليا وإنكلترا ومصر وبلغاريا وغيرها. وانتشرت الدعوة
الصهيونية بذلك في أنحاء العالم المتمدن إلى الصين واليابان وتركستان وفيلبين
فضلاً عن ممالك أوربا وأميركا وغيرهما.
وأصبح أنصارهما يعدون بالملايين. وهي مؤلفة من أحزاب وفِرق تتناقش
وتتباحث سعيًا في المصلحة العامة وتأييد الغرض الأصلي المراد بها. فهي أشبه
بدولة ديموقراطية منها بجمعية سياسية اجتماعية. وقد اتخذت أحسن الوسائل
المؤدية إلى تقوية البدن وتوسيع العقل وتأييد المبدأ فأفلحت مساعيها. وأنشأت في
فلسطين مستعمرات يهودية في أطيب أرضها، وأكثرت مِن المدارس والمزارع
والجمعيات والمكاتب والمصارف والمعامل الصحيّة والطبية. وأهم تلك المساعي
من الوجهة الاجتماعية أحباء اللغة العبرانية وآدابها؛ ممّا سنأتي على أمثلة منه في
الكلام عن أحوال فلسطين الاقتصادية والاجتماعية من رحلتنا لهذا العام.
_________
(1)
لعلها المتهورين كما يقتضيه السياق.
(2)
المنار ليعتبر بهذه الهمة العالية مَن كان له قلب يشعر وعقل يفكر، وليتعلم من سيرة هؤلاء اليهود كيف تحيا الأمم بعد موتها وتعز بعد ذلها، وليحث في أفواه اليائسين التراب قبل أن يحثي على أجسادهم لعنة الله عليهم أجمعين.
الكاتب: صالح مخلص رضا
تقريظ المطبوعات الجديدة [*]
(أعيان البيان، من صبح القرن الثالث عشر الهجري إلى اليوم)
كتاب خاص بتاريخ الآداب العربية في هذا العصر، وتراجم نوابغ الأدباء
والشعراء تأليف حسن أفندي السندوبي. طبع بمطبعة الجمالية بالقاهرة سنة
1332هـ و 1914 مالية صفحاته 432 بقطع المنار بحرف متوسط الحجم على
ورق جيّد ثمنه 10 قروش خلا أجرة البريد ويطلب من مكتبة المنار بشارع عبد
العزيز بمصر.
اندفع كُتّاب العربية في هذه السنين الأخيرة إلى تدوين آداب اللغة العربية
وتاريخها فكتب جرجي بك زيدان والشيخ أحمد الإسكندري ومصطفى أفندي صادق
الرافعي وغيرهم. وألقى أشهر علماء الأدب بمصر الشيخ محمد المهدي أستاذ هذا
الفن في الجامعة المصرية ومدرسة القضاء الشرعي دروسًا في الجامعة المصرية
وغيرها في الموضوع تبلغ أسفارًا، واتجهت نفوس الأساتذة والطلبة إلى استخراج
جواهر هذا الفن من قواميس جهابذة العربية وأساطينها. فتسابق المؤلفون
والمدرسون في هذا المضمار.
وكان مؤلف هذا الكتاب حسن أفندي السندوبي يراقب هذه الحركة، وضم إلى
مطالعة كتب الأدب القديمة مطالعة هذه المكتوبات الحديثة، وأعد العدة إلى تأليف
كتاب في ركن من أركن الموضوع لم يطرقه المعاصرون وهو تراجم أشهر أدباء
هذا القرن، والذي قبله فأثبتها ذاكرًا مميزات المترجَم فمؤلفاته فنبذًا من آثاره القلمية
نثرًا ونظمًا.
وقد جعل كتابه هدية لمليك البلاد - أعزّه الله - وصدره بمقدمة شعرية
تاريخية أجمل فيها تطورات الأدب العربي في ست عشرة صفحة أوجز فيها
واختصر، فالكتاب مفيد وليس له في بابه نظير من المؤلفات العصرية، وإني لأرجو
أن أوفق إلى مطالعته لأعطيه حقه من التقريظ والنقد.
***
(ديوان المازني)
الجزء الأول منه نظم إبراهيم عبد القادر المازني؛ طُبِعَ بمطبعة البسفور
صفحاته 157 بقطع رسالته التوحيد بحرف كبير ثمنه خمسة قروش، ويطلب من
مكتبة المنار بمصر.
صدر المازني ديوانه بمقدمة عنوانها: (الطبع والتقليد في الشعر العصري) ،
من إنشاء عباس محمود العقاد أبدع فيها وإن يكن قد جار في بعض أحكامه؛ إلا
أنه تكلَّم على سير الأدب كلام ذي ذوق وتطرّق إلى أسلوب الشاعر (المازني)
بالنظم على أوزان لم تكن مسبوقة سيرًا مع العصر وفكّا لقيود أخنى عليها الدهر.
هذا وقد جرى بعض كتّاب العصر على سُنَّة سيئة تنافي سيرتهم الأولى
وطريقة آبائهم المثلى؛ وهي ترك مكتوباتهم بتراء جذماء لا بسملة فيها ولا حمدلة،
وعلى هذه السنة جرى شاعرنا المازني وكاتب المقدمة. على أن كتبة الفرنجة الذين
يكتبون بالعربية قلّما يدعون كتبهم غفلاً، فكان على كتّابنا أحد أمرين: إمّا السير
على سنن الأولين. وإما تقليد المعاصرين تقليدًا أعمى.
هذا وإن المازني قد طرق عدة مواضيع أجاد النظم فيها، وإن شعره يشعر
بأن هلال أدبه سيكون بدرًا.
***
(فتاة النيل)
مجلة نسائية علمية تاريخية أدبية صحية تصدرها في مصر الفاضلة سارة
الميهية في أول كل شهر عربي قيمة اشتراكها في مصر والسودان
50 قرشًا، وفي الخارج 15 فرنكًًا صفحاتها 40 مطبوعة على ورق جيد.
للفاضلة سارة الميهية مباحث يعرفها قراء العربية بما كانت تنشره في
الصحف السيارة باسم (فتاة النيل) وقد رحب القطر المصري بمجلتها (فتاة النيل)
لتسد فراغًا في عالم الأدب بصدور هذه المجلة، فنحث التلميذات والمعلمات على
قراءتها كما نحث أرباب العائلات على ذلك.
***
(الرشديات)
مجلة تاريخية أدبية شهرية لصاحبها زكريا أحمد رشدي تصدر في
مدينة الإسكندرية. قيمة اشتراكها السنوي في مصر 30 قرشًا وفي
الخارج 12 فرنكًا. صفحاتها 32. صدر منها العددان الأول في غرة شعبان،
والثاني في غرة رمضان سنة 1331، ولم نرَ من أعدادها بعد ذلك شيئًا فأتمنى لها
الحياة ودوام الانتشار لأنها ذات مواضيع مفيدة.
***
(البشير)
صحيفة تخدم العرب والعربية والملة تصدر في كل شهر عربي مرتين في
فيلمبغ (صومترا) ، لمنشئها محمد بن هاشم بن طاهر ذات أربع صفحات أو
خمس قيمة اشتراكها في هولندا ومستعمراتها ثلاث روبيات هولندية.
من أجل الخدمات التي قام بها السيد محمد بن طاهر بن هاشم للدين والعرب
والعربية هذه الجريدة وهو يكتبها باللغة العربية ولغة البلاد فهي عامل من عوامل
الرقي هناك ويمكن الحصول عليها بواسطة إدارة ومكتبة المنار بمصر.
(دروس الديانة والتهذيب)
الجزء الأول منه، طبعة ثانية سنة 1914، صفحاته 45 بالقطع الصغير،
والجزء الثاني منه تحت الطبع، ويطلب من مكتبة المنار بمصر.
***
(مقرر السنة الأولى لتلاميذ المكاتب منه)
مواضيعه معرفة الله، والرسل، رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم،
سيدنا آدم، سيدنا نوح، نجاة سيدنا إبراهيم من النار، سيدنا يوسف وإخوته،
اجتماع يوسف مع أبيه وإخوته، سيدنا موسى والعصا، هجرة سيدنا محمد إلى
المدينة، نواقض الوضوء، الأشياء اللازمة لكل صلاة، كيفية الصلوات الخمس.
***
(مقرر السنة الثانية لتلاميذ المكاتب أيضًا)
سيرة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ولادته، أعماله، أخلاقه قبل
الرسالة، هجرته إلى المدينة، مقابلة أهل المدينة له، انتشار الدين الإسلامي بعد
الهجرة، الإسلام بعد فتح مكة، وفاته صلى الله عليه وسلم، قواعد الإسلام
الخمس، الشهادتان، الصلاة وأوقاتها، شروط صحتها، مبطلات الصلاة،
الصوم، الزكاة الحج، الأخلاق الفاضلة المأخوذة من القرآن الكريم.. إلخ.
***
(كتاب المطالعة السهلة)
الجزآن الثاني والثالث مقرران للفرقتين الثالثة والرابعة من المكاتب. طبع
طبعة ثانية سنة 1914 منقحًا على حسب ما رأته نظارة المعارف. صفاته 69،
يطلب من مكتبة المنار بمصر، ومن المؤلفين؛ وهو مجموعة حكايات ومحادثات
ونبذ علمية واجتماعية وأخلاقية وإدارية إلى غير ذلك.
***
(دروس الحساب)
هو كتاب على أسلوب سهل، الجزء الأول منه للفرقة الأولى، والثاني للثانية
من تلاميذ المكاتب، وهكذا إلى الرابع.
هذه الكتب الثلاثة تأليف الأستاذين العالمين الشيخ مصطفى العناني المدرس
بمدرسة المعلمين الناصرية، والشيخ عطية الأشقر مساعد مفتش بنظارة المعارف
العمومية، وناهيك بكتب يضعها للتعليم من اشتغل فيه عدة سنين في مدارس متفرّقة،
فأحر بهذه الكتب أن تنتشر في الآفاق العربية وأن تستعملها الحكومة العثمانية في
مدارسها؛ على أنني لم أطلع بعد على جميع الأجزاء وبما رأيته كفاية.
***
(عظة الناشئين)
كتاب أخلاق وآداب واجتماع تأليف الشيخ مصطفى الغلاييني أستاذ اللغة
العربية في المكتب السلطاني في بيروت. طبع في مطبعة الثبات في بيروت
سنة 1331. صفحاته 160 بالقطع الصغير، ويطلب من المكتبة الأهلية في
بيروت.
الكتاب مجموعة ما كان يكتبه صديقنا الأستاذ الغلاييني في جريدة المفيد، وقد
جعله هدية لروح فقيد الأدب، وريحانة نابتة العرب؛ فؤاد أفندي حنتس أحد
صاحبي المفيد، ولا حاجة بي إلى مدح الكتاب بأكثر من أنه من إنشاء مَن عرفه
جمهور قراء العربية بعلمه وفضله وتحريه النفع فيما يكتب، وثمنه خمسة قروش.
***
(الفرائد)
هو مختار ما كتبه الشيخ محمد مصطفى الههياوي في الأدب والأخلاق
والاجتماع، ونشره في الجرائد. طبع على ورق جيد طبعا نظيفًا بمطبعة أبي الهول
بمصر سنة 1331، صفحاته 189 بقطع رسالة التوحيد. يطلب من مكتبة
المنار، وثمنه خمسة قروش.
فصول الكتاب شتّى ومعظمها شكاية من الدهر وبنيه وأبيهم الأول فكأنما نفخ
فيه من روح المعري وتسربل برداء ابن الهبارية.
***
كتاب المؤتمر العربي الأول
المنعقد في باريس من 13 رجب سنة 1331 إلى 18 منه
صدرته اللجنة العليا لحزب اللامركزية في مصر مزينًا بالصور مفتتحًا
بمقدمتين - إحداهما لمنشئ هذه المجلة، والثانية لجامعه محب الدين الخطيب -عن
فكرة المؤتمر ونتيجته وتاريخ الحركة العربية، ويتخللهما صورة الاتفاق الذي تم بين
المؤتمر ومندوب جمعية الاتحاد والترقي. وفيه محاضر جلسات المؤتمر الأربع وما
دار فيها من المناقشات، وفيه خطب: السيد الزهراوي، العريسي، مطران،
دياب، طباره، عمون، مكرزل، بيهم، دباس غانم، وفيه 18 رسالة بريدية
وبرقية من 420 جمعية وجماعة وشخص في تأييد المؤتمر، وفي آخره قصيدة مهداة
من فؤاد الخطيب للمؤتمر، ثم بيان حزب اللامركزية ومظاهرته السلمية برفع
برقيات الاحتجاج إلى الصدارة بطلب اللامركزية، وقد وقع في 234 صفحة كبيرة
وطبع على ورق جيد، ثمنه 8 قروش مصرية وأجرة البريد قرشان، ويطلب من
مكتبة المنار بمصر.
فالكتاب اجتماعي سياسي إداري يمثل شعور الأمة بحاجيات الحياة والارتقاء
فيها، وضرورة الائتمار بين أولي الأمر، ومداولات أصحاب العقول الراجحة
والأفكار الثاقبة، ويجلي سر تطور الأمم وانتقالها في الاجتماع والسياسة من طورٍ
إلى طور.
ويشخص بالإجمال أمراض الاجتماع في المملكة العثمانية وشعوبها المتعددة
المتباينة، ويصف أنجع دواء يحفظ حياتها ويشد عضدها؛ لتقف في صف الأحياء
العاملة؛ فتناضل عن حوزتها، وتحفظ بقيتها، وتدافع عن مُلْكِهَا ومَلِكِهَا، فأجدر
بكل مَن يقرأ العربية أن يطلع على هذا الكتاب وخصوصًا العثمانيين حاكمهم
ومحكومهم، عربهم وعجمهم؛ فإنه ألصق بهم من غيرهم، وجميع أبحاثه تدور
على محور مصلحتهم.
_________
(*) كتب تقاريظ هذا الجزء شقيقنا السيد صالح مخلص رضا.
الكاتب: محمد رشيد رضا
مستقبل الدولة العثمانية وطلاب الإصلاح من العرب
كنا نسمع ونقرأ منذ وعينا أن لكل دولة من الدول الأوربية مطمعًا في ولاية أو
قطر من المملكة العثمانية. سمعنا كثيرًا أن مملكة طرابلس الغرب ستكون لإيطاليا.
وقرأنا في تاريخ الأفغان للسيد جمال الدين أن إنكلترا لم تروها مياه النمس والكنج
ففغرت فاها لتجرع مياه النيل ونهر جيحون (يعني الاستيلاء على مصر وبلاد
الأفغان لأن نهر جيحون على التخم الشمالي الشرقي من تلك المملكة) كتب السيد
هذا بمصر في عهد إسماعيل باشا. وقد احتلت إنكلترة مصر وإيطالية طرابلس
فصدق ما كان يقال.
وكنّا لا نزال نسمع ونقرأ أن فرنسا ترى أن سوريا لها، وأن إنكلترة ترى أن
البصرة وبغداد وجميع سواحل جزيرة العرب لها - والداخلية تتبع السواحل بالطبع -
كما صرنا نسمع أن لألمانيا قلب الأناطول إلى العراق. ولروسية شمال الأناطول
إلى الآستانة؛ على الخلاف في الغاية؛ أتدخل في المغيا أم لا؟ فما يؤمننا أن يحل
بهذه البلاد ما حل بما قبلها؟ ولا سيما بعد أن رأينا ما حل بولايات مكدونية، ونحن
ننشد في أمثالنا:
من حلقت لحية جار له
…
فليسكب الماء على لحيته
إن جميع من نعرف من عقلائنا في خوف ووجل من قرب تلك الساعة،
والعرب منهم موقنون بأن الدولة إن قدرت على إيجاد أسطول يحمي سواحل البلاد
التركية القريبة من الآستانة وجزائرها من اليونان أو البلقان، فلن تقدر به عن
حماية سواحل سورية من فرنسة ولا سواحل العراق أو اليمن والحجاز من إنكلترة،
فما حظ بلادهم من الأسطول الذي يبذلون لتأسيسه الإعانات الاختيارية وغير
الاختيارية؟
هذا الخوف على البلاد هو الذي حمل بعض أهل الغيرة على تأسيس الحزب
اللامركزية، وكان المحرك لهم على ذلك صوت رسمي سمعوه من باريس تذكر فيه
فرنسة حقها في سورية
…
وكان أول سعيهم الفزع إلى صاحب الدولة رؤوف باشا
المعتمد (القومسير) العثماني بمصر، ومكاشفته بخوفهم على سورية أن تُغِير عليها
فرنسة كما أغارت إيطاليا على طرابلس، وبكونهم ألّفوا من أنفسهم لجنة للسعي إلى
الدفاع سورية، وطلبوا منه أن يكتب إلى الباب العالي بذلك وبما يطلبون من
المساعدة على الاستعداد للدفاع الوطني عن البلاد. ولكن المعتمد لم يجبهم إلى
طلبهم، ولا يزال القرار الذي كتبوه بذلك وما كتبوه في مسألة تنفيذه محفوظًا عندهم.
سمع بعد ذلك الصوت الفرنسي صوت ألماني من برلين معارض له، فاطمأن
القوم بعض الاطمئنان الموقوت، وقويت في نفوسهم فكرة وجوب الاستعداد للدفاع
الوطني - أو المِلي كما يسميه الترك - ووجوب قضاء شبان كل قطر خدمة
العسكرية في قطرهم لأجل ذلك، وعقدوا عدة اجتماعات للمذاكرة في ذلك استطردوا
فيها من مسألة الدفاع ومسألة المال الذي يتوقف عليه كل شيء إلى الجزم بوجوب
ترقية كل قطر بأهله، وتوقف ذلك على الإدارة اللامركزية؛ فوضعوا برنامج
حزب اللامركزية؛ رجاء أن يقنعوا به جميع الأمة العثمانية، لا العرب خاصة.
وفي أثناء ذلك قامت ضجة في بيروت كان من أثرها تأسيس الجمعية
الإصلاحية بإذن والي الولاية، وكان من غرضها أن اتفاق المسلمين والنصارى
على الإصلاح هو الذي يسد ذريعة الاعتداء الأجنبي على البلاد، ثم قامت ضجة
أخرى في العراق وتألفت جمعية إصلاحية عراقية في البصرة.
تلا ذلك صوت عربي من باريس يدعو إلى عقد مؤتمر سوري عربي يكون
أهم مقاصده مقاومة الاحتلال الأجنبي للبلاد. وكان من أمر انعقاده ما هو معروف،
ولم يكن المؤتمر ولا الجمعية الإصلاحية والبيروتية ولا العراقية ولا حزب
اللامركزية سببًا لمداخلة أجنبية قولية ولا فعلية؛ لأن غرض أربابها دفع التدخل
الأجنبي، والمقدمات السلبية لا تنتج نتيجة موجبة.
قام المنافقون للحكومة طلاب الدراهم والوظائف والمناصب يلعنون طلاب
الإصلاح؛ زاعمين أن طلبهم له في تلك الأوقات يحرج الحكومة ويكون ذريعة
لافتئات الأجانب عليها، ولم نر أحدًا منهم شتم الأرمَن ولا لعنهم على استغاثتهم
بأعدى أعداء الدولة من الأجانب ونيلهم ما طلبوا بسعيها! ! وقد كذبهم الحق الواقع
ولا يزالون يهذون بزعمهم أن طلب الإصلاح على قاعدة اللامركزية يفضي إلى
إضاعة البلاد واستيلاء الدول عليها. ومنهم من يخص حزب اللامركزية بهذا
الطعن لاعتقاد أن جمعيتي بيروت والبصرة قد انحلتا. والمنافق الذي يكتب ما لا
يعتقد لأجله إرضاء من ينتفع منهم لا يستحي أن يحول الشيء إلى ضده بالسفسطة
والتمويه.
نرى طلاب اللامركزية موقنين بأنهم لا يعرفون طريقة لبقاء الدولة وحفظ
البلاد ثُم عمرانها إلا ما يطلبونه، ونرى حجتهم ناهضة يذعن لها المنصفون من
غيرهم، وهم يطلبون من كل ذي رأي أن يقنعهم بطريقة يمكن بها حفظ البلاد
العربية من استيلاء الدول الطامعة فيها عليها، ولما يجدوا مقنعًا.
كنت مرة في دار المعتمد العثماني (القومسيرية) بمصر أتكلم في شؤون
الدولة مع إسماعيل حقي بك القائم بأعمال المعتمد الآن، فجاءنا فؤاد بك سليم
(قنصل الدولة الجنرال في سلانيك الآن) ودخل معنا في الحديث، فانتقد فؤاد بك ما
كان من عقد المؤتمر العربي بباريس والمطالبة بالإصلاح في وقت الحرب بمثل ما
كان ينتقده به المعارضون المعتدلون.
فقلت له: كان هذا يقال ويعد محل نظر وبحث في الوقت الذي انعقد فيه
المؤتمر إذا كان سيئو الظن وسيئو القصد يقولون إنه يمكن أن يفضي إلى إتعاب
الدولة أو إيقاعها في مشكلة سياسية، وكان القائمون بالعلم يدفعون هذا ليقينهم بحسن
نيتهم واحتياطهم في عملهم، ثم أيدهم الحق الواقع فانقضت الحرب وانقضى
المؤتمر ولم يكن شيء من عمل طلاب الإصلاح متعبًا للدولة في شيء، وقد قبلوا
كل ما عرضه على المؤتمر مندوب جمعية الاتحاد والترقي، فدل ذلك على حسن
نيتهم، وبراءتهم من المشاغبة ومن المطالب البعيدة عن المعقول حتى عند
الاتحاديين. وانتقدت أنا بعض أعمال الاتحاديين بما عز الجواب المقنع عنه. ثم
انتقلنا إلى المسألة الكبرى.
قال فؤاد بك: إن ما مضى فات خطأً كان أو صوابًا، فما الرأي الآن لسلامة
الدولة وإعلاء شأنها الذي يجب على الجميع السعي له؟
قلت: إن لي في ذلك آراء أشرت إليها في المنار غير مرة ولو علمت أن رجال
الدولة يقبلونها وينفذونها لفصلتها لهم تفصيلاً، وأهمها مسألة سلامة الدولة، فأنا أرى
أن ما توجهت إليه الدولة من اقتراض عشرات الملايين من أوربا لأجل سد عجز
ميزانيتها والقيام بمشروعاتها سيفضي إلى أكبر الأخطار، وأن نظارتي الحربية
والبحرية مهما عملنا لا تستطيع الدولة أن تحمي بها سواحل سورية والحجاز واليمن
والعراق، ولا أن تحول دون احتلال كل دولة من الدول لما تطمع فيه.
قال: إنا نوافقك على هذا فما المخرج منه؟
قلت: لم يبق لنا وسيلة فما أرى إلا مسألة الدفاع الملي؛ لأن الدولة الكبرى
التي نخافها لا تحارب بلادًا لأجل البطش والانتقام والتخريب كما كان يفعل الملوك
في التاريخ القديم، ولا كما يفعل وحوش البلقان، وإنما تفعل هذه الدول كل ما تفعله
لأجل الكسب، فمتى كان أهل البلاد مسلحين مستعدين للدفاع عن بلادهم إذا احتلها
الأجنبي تمتنع الدول عن الاعتداء عليهم؛ وإن كانت ترى أنها لا تعجز عنهم؛ لأن
معاداة الأهالي وتخريب بلادهم يحول دون الانتفاع منها ومنهم
…
إلخ. فوافقني
فؤاد بك وكذا إسماعيل بك على ما قلت في هذه المسألة وفي غيرها مما لا حاجة إلى
ذكره.
وجملة القول أن طلاب الإدارة اللامركزية إنما يطلبونها لأنهم يعتقدون أنها
هي المنجية لدولتهم ولبلادهم من الخطر الأجنبي، وأن البلاد لا تعمر إلا بها،
وليس في مطالبهم شيء يمنع أن تكون مقاليد القوة البرية والبحرية والسياسية للدولة
وأن تكون في يد العاصمة.
ولمّا وعدتهم جمعية الاتحاد المتصرفة في الدولة بإجابتهم إلى بعض مطالبهم
رضوا وصبروا وانتظروا. وقد مرّت السنة على انتظارهم ولم يحدثوا شغبًا داخليًّا،
ولا توسطوا الأجانب في شيء من مطالبهم، وهذه جرائد الشرق والغرب تصخّ
مسامعهم بخبر اتفاق الدولة مع الدول الكبرى على جميع سواحل البلاد العربية،
وبإعطائهن الامتيازات فيها، وبإرهاق الولايات كلها بالديون الفاحشة - وتلك طرق
الدول وسلاحها في الفتح السلمي - فيزدادون خوفًا ورعبًا من سوء العاقبة وخطر
المستقبل. أفليس من سنة الله في غرائز البشر وفطرهم وممّا توجبه عليهم أديانهم
وشرائعهم، وما تطالبهم به حقوق أمتهم وبلادهم، أن يبحثوا عن المأمن من الخوف
والموئل من الفزع، والمنجاة من الخطر؟ ؟ أَوَليس من مقتضى الفطرة والشريعة
أن يطالب الإنسان لنفسه - فوق تجنب الهلكة - عيشةً راضية، وحالة حسنة
عزيزة؟
عقدت جمعية الاتحاد الاتفاق بين مندوبها (مدحت بك شكري) ومندوب
حزب اللامركزية في المؤتمر العربي (السيد الزهراوي) وصدقت حكومتها على
بعض ما وقع عليه الاتفاق وصدرت به الإرادة السلطانية. ثُم عينت الحكومة
السيد الزهروي عضوًا في مجلس الأعيان فقبل ذلك ليكون مطلعًا ومساعدًا على
تنفيذ الإصلاح الموعود به قولاً وكتابةً. فلم يستفد حزب اللامركزية من ذلك إلا لوم
كثير من الأصدقاء وذم كثير من غير الأصدقاء واتهامه بأنه يسعى للمناصب
والوظائف خلافًا للعهود والوعود. وقد احتمل الحزب كل هذا لتكون له الحجة على
الأمة إذا نفذت الحكومة الإصلاح، والحجة على الحكومة إذا لم تنفذه، وهو لا
حجة عليه مطلقًا.
الحزب لم يقل إنه لا يقبل الوظائف ولكنه فعل، فلم يدخل أحد من أعضائه
في خدمة الحكومة. وقد بينا قضية السيد الزهراوي من قبل، ونزيده بيانًا.
الرجل ثقة مقبول الرواية عند الحزب. وقد كتب إلى الحزب أنه آنس من الحكومة
عزمًا على الإصلاح المطلوب وأنها تريد أن تعتمد على الثقات المخلصين من
العرب وتستعين بهم على إصلاح بلادهم، وأنها تكن معذورة في قبول المنافقين إذا
تجنبتها فئة المصلحين الصادقين. ولما تكررت هذه الكتابة منه رغب إليه رئيس
الحزب وغيره من أصدقائه بأن يزور مصر قبل افتتاح المجلس ويوقف إخوانه على
حقيقة ما رآه، ويفسّر لهم ما أَشْكَل عليهم من أعمال الحكومة (كتقوية إمام اليمن
على السيد الإدريسي وتسليح ابن الرشيد أمام ابن سعود وغير ذلك مع قدرتها على
الإصلاح بين الجميع والاستفادة منهم) فأجاب الدعوة، وتكرم بالزيارة، وأكّد بلسانه
مضمون ما كان يكتبه بقلمه؛ مِن أن الدولة تريد إصلاح بلاد العرب ولكنها لا تقدر
على تنفيذ ذلك إلا بالتدريج، ووعد بأن يراجع أصحاب الشأن في المسائل التي لم
يقف على حقيقتها كمسألة جزيرة العرب وأمرائها، ويوقف إخوانه على ما يقف
عليه منها.
والخلاصة أن طلاب الإصلاح اللامركزي في مصر وغيرها من الأقطار لا
يزالون في خوف ووجل على بلادهم ودولتهم، ولم يسمعوا قولاً ولا رأوا فعلاً يفيد
الاطمئنان؛ فالأقوال مضطربة، والأفعال مشتبهة.
لا ننكر أن الوزارة الحاضرة قد هبت للعمل هبّةً شديدة، ووثبت في سياستها
وثبةً بعيدة، وأظهر أفرادها من الهمّة والذكاء والجرأة ما لا نعرف له نظيرًا في
تاريخ هذه الدولة، فأقدموا على اقتراض عشرات الملايين من أوربة، وإعطاء
حكوماتها وشركاتها الامتيازات الكثيرة، والمساعدة على إزالة التنازع والخلاف
الذي بين الدول على منافع بلادها، ونفوذهن الاقتصادي والسياسي فيها، وتمهيد
السبيل للصهيونيين لاستعمار مملكة فلسطين، والشروع في تقوية الأسطول،
وفتح المدارس الكثيرة في الآستانة والأناطول، وإيجاد مشروعات الصناعة
والزراعة الحديثة في البلاد التركية، وإجابة الأرمن إلى ما طلبوا لبلادهم، ووعد
العرب بالتفضل عليهم ببعض مطالبهم وإرضاء بعض الأذكياء الظاهرين منهم
بالوظائف، وتفننت في جمع الإعانات من الأمة بأسماء مختلفة، وأساليب متعددة؛
من وطنية ودينية جائزة وغير جائزة، كل ذلك من مظاهر الذكاء والهمة والإقدام،
ولكن طلاب الإصلاح ازدادوا به خوفًا على البلاد لِمَا تجدد من زيادة حقوق الأجانب
فيها وديونهم عليها. مع الجزم بأن كل ما شرع فيه من وسائل القوى، لا يجعل
الدولة كفؤًا لدولة من هذه الدول الطامعة، فكيف والدول لا تعمل إلا مجتمعة متفقة؟
ولا هو وسيلة لعمران المملكة، واتحاد عناصرها المختلفة.
وإنما الإصلاح الذي يعقلونه هو أن تكون قوة كل قطر فيه وعمرانه بأيدي
أهله، وأن نجتنب الديون الأجنبية قدر الطاقة، ويكون حظ البلاد التي تحمل هذا
الدين مقسومًا بينها بنسبة ما تحمله منه. وأن توجه العناية والهمة والذكاء والإقدام
إلى استثمار الأمة بمساعدة الدولة لخيرات البلاد. فهذه الينابيع الكثيرة لزيت
البترول في العراق وغيره (مثلاً) لا تحتاج إلى نفقات كثيرة، ولا إلى علوم
وفنون كثيرة، وهي ثروة ستضاعف على مرّ السنين لأنها ستحل محل الفحم
الحجري في السفن الحربية وغيرها؛ فلماذا تمنحها الدولة للأجانب دون الأهالي؟
ولماذا لا تخصص من هذه الملايين التي تقترضها جزءًا قليلاً لتعليم مئات من شبان
الأمة ما يلزم من الفنون لاستخراجها.
وقصارى القول: إن طلاب الإصلاح لا يرجعون عن شيء من مطالبهم
بشتم بعض السفهاء لهم، وإنما يرجعون عمّا تقوم الحجة على ضرره، ويساعدون
الدولة على كل ما يقوم عندهم الدليل على نفعه، وهكذا شأن المخلصين، والعاقبة
للمتقين.
_________