المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ربيع أول - 1332ه - مجلة المنار - جـ ١٧

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (17)

- ‌المحرم - 1332ه

- ‌فاتحة السنة السابعة عشرة

- ‌كتاب مدارج السالكينبين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

- ‌إسلام اللورد هدليوما قاله وكتبه في سببه

- ‌تاريخ الجهمية والمعتزلة [*]

- ‌الباب الأول من كتاب الاعتصام [*]

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة [*]

- ‌الشيخ علي يوسف(3)

- ‌الجامعة الإسلامية والسياسية

- ‌انتقاد أجوبة المنارلمن سأل عن حكم الحج

- ‌صفر - 1332ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌ كتاب مدارج السالكينبين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

- ‌الرد المتين علىمفتريات المبشرين [*]

- ‌مقام عيسىيسوع المسيح عليه السلامفي النصرانية والإسلام

- ‌مطامع الدول فينا [*]

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌الأخبار والآراء

- ‌ربيع أول - 1332ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌ فتاوى المنار

- ‌ الانتقاد على المنار

- ‌الإسلام يقاوم نفوذ النصرانية [*]

- ‌اعتقاد الشيخية [*]

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة [*]

- ‌الإصلاح اللامركزيوطلابه في البلاد العربية

- ‌الشيخ علي يوسف(4)

- ‌ربيع الآخر - 1332ه

- ‌استفتاءفي فسخ نكاح المعسر

- ‌محاضرة الدكتور كريستيان سنوك هرغرنجالهولندي في الإسلام ومستقبل المسلمين

- ‌الباطنية وغلاة المتصوفة..بدعهم وتأويلاتهم

- ‌ كتاب (مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين)

- ‌أفضل الوسائل لإنهاض السلطنة

- ‌عبد العزيز بك علي المصري

- ‌التعصب على المنار

- ‌المسألتان الشرقية والصهيونية

- ‌السيدة نُعْمَى آل رضا

- ‌جمادى الأولى - 1332ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌حقيقة الإعجاز [*]

- ‌الرضا بقضاء الله تعالى وقدره

- ‌القول السديدفي بعض مسائل الاجتهاد والتقليد [*]

- ‌الصهيونية

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة [*]

- ‌مستقبل الدولة العثمانية وطلاب الإصلاح من العرب

- ‌جمادى الآخر - 1332ه

- ‌تلقين الميت

- ‌القول السديدفي بعض مسائل الاجتهاد والتقليد

- ‌ كتاب(مدارج السالكين بين منازلإياك نعبد وإياك نستعين)

- ‌تشريف أمير البلادمدرسة دار الدعوة والإرشاد

- ‌مصاب مصر والشامبرجال العلم وحملة الأقلام

- ‌محاربة متعصبي القبط وغيرهم للمنار

- ‌رجب - 1332ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌الدين والتدين والإلحاد والتعطيل

- ‌نموذج من إنشاء طلبةدار الدعوة والإرشاد

- ‌مصاب مصر والشامبرجال العلم وحملة الأقلام

- ‌شعبان - 1332ه

- ‌وجوب تعلم العربيةعلى كل مسلم

- ‌ترجمة الإمام الشاطبي

- ‌الجنسيات في المملكة العثمانية(2)

- ‌مصاب مصر والشامبرجال العلم وحملة الأقلام

- ‌رمضان - 1332ه

- ‌تفسير] لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ [[*]

- ‌السبي والرق في التوراة والإنجيل

- ‌أقوال علماء القرن الثالث الأثباتفي عقيدة السلف وإثبات الصفات(1)

- ‌الطامة الصغرى أو الحرب الكبرى

- ‌من كتاب الاعتصام في الابتداع

- ‌البروغرام الصهيوني السياسي

- ‌المراسلة والمناظرة

- ‌الحرب الأوربيةوالدولة العثمانية

- ‌شوال - 1332ه

- ‌علم الله بصفاتهالرضاع من الجدة

- ‌كلمات الاستقلالوالاعتماد على النفس والاجتهاد

- ‌شعر منثور في العربية والعرب

- ‌التعريف بكتاب الاعتصام

- ‌ترجمة الإمام الشاطبي

- ‌دخول الابتداع في العاديات [*]

- ‌أقوال علماء السلف الأثباتفي عقيدة السلف وإثبات الصفات(2)

- ‌المراسلة والمناظرة

- ‌جيوش الدول المتحاربة

- ‌منع المنار من السودان

- ‌ذو القعدة - 1332ه

- ‌صفات البارئ تعالى

- ‌فتاوى المنار

- ‌الامتيازاتوالشريعة الإسلامية [*]

- ‌تاريخ إعلان الدول الحرب

- ‌ذو الحجة - 1332ه

- ‌الحرب المدنية الكبرى

- ‌إلغاء الامتيازات الأجنبيةوالحذر من الفتن الأهلية

- ‌كيف دخلتالدولة العثمانية في الحرب

- ‌خاتمة السنة السابعة عشرة

الفصل: ‌ربيع أول - 1332ه

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فاتحة السنة السابعة عشرة

بسم الله الرحمن الرحيم

{قُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} (النمل:59) ، {وَقُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا

تَعْمَلُونَ} (النمل: 93) ، {فَلِلَّهِ الحَمْدُ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ

العَالَمِينَ * وَلَهُ الكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} (الجاثية:

36-

37) .

فنحمده بما حمد به نفسه، ونصلي ونسلم على خاتم أنبيائه ورسله، وصفوته

من بني آدم الذين فضلهم على كثير من خلقه، محمد النبي الأمي، العربي

الحجازي، الذي أرسله رحمة للعالمين، وأتم به نعمته في الدنيا والدين، وآله

الطيبين الطاهرين، وصحبه الهادين المهديين، والتابعين لهم في هدايتهم وهديهم

إلى يوم الدين.

وبعد فإننا نُذَكِّرُ قُرَّاءَ المنار على رأس سنته السابعة عشرة بنحو ما ذكَّرناهم

في السنين الخالية، من سوء عاقبة الإفراط والتفريط اللذين رُزِئَتْ بهما أمتهم

الجاهلة الغافلة: الإفراط في عبادة الهوى واتباع الشهوات، والانهماك في الفواحش

والمنكرات، والمحافظة على البدع وسيئ العادات. والتفريط في حقوق الله وحقوق

الأمة، وما يجب من التزام هدي الكتاب والسنة، ومجاراة الأمم بما يستطاع من

حول وقوة، ولا سيّما قوة الاعتصام والوحدة، وقوة العلم والمعرفة، وقوة الكسب

والثروة.

ثم نذكرهم بتلك الآيات والعبر، وهاتيك المواعظ والنذر، وبما يُفتنون به في

كل عام، وما تسلب من ملكهم الأمم والأقوام، وبيان سنن الله تعالى في الظالمين

والمسرفين، {وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إلَاّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} (الأنعام: 4) ، {قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ

عَنْ قَوْمٍ لَاّ يُؤْمِنُونَ} (يونس: 101)[1] ، {فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلَاّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ

خَلَوْا مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ المُنتَظِرِينَ} (يونس: 102) .

سبحان الله! إن من العقلاء من يتعظ بالعبارة، ومنهم من يكتفي بما توحيه

إليه الإشارة، وإنهم ليستنبطون من وقائع الأحوال ما يستعدون به لما ينتظر في

الاستقبال، ولو على سبيل الفرض والاحتمال، وإن الأمم أشد من الأفراد احتياطًا،

وأخفى حيلة وأدق استنباطًا، وأوسع في المستقبل آمالاً، وأكثر استعدادًا له وأعمالاً؛

لأنها أطول أعمارًا، وأشد قوة واقتدارًا، وأكثر أعوانًا وأنصارًا، فما بال أمتنا لا

تتعظ بكلام الله ولا بكلام البشر، ولا تعتبر بما تشاهده من الأحداث والعبر، وكلما

أنذرها الله بطشته تتمارى بالنُّذُر؛ {وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّنَ الأَنبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ

بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} (القمر: 4-5) ، {قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ

الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ} (الأنبياء: 45) .

تركت هذه الأمة هداية القرآن، ففاتها ما كانت نالت به من الملك والسلطان،

والعلم والعرفان، والبسطة في العمران، وأمست غافلة عن سبب ذلك التوفيق وهذا

الخذلان؛ بل أتى عليها أحقاب من الزمان، لا تشعر بكنه هذا الخسران، وقد

استيقظ فيها الشعور بما فسد من أمر دنياها، قبل الشعور بما كان سببًا له من فساد

أمر دينها، وبما خسرت من سلطانها وأملاكها، قبل الشعور بما خسرت من أخلاقها

وملكاتها. ولما شعرت بالخطر على حياتها المادية والسياسية، غافلة عن عللها

الروحية وأسبابها المعنوية، شرعت في شيء من الإصلاح الصوري، بدون أن

تؤديه بروح الإصلاح المعنوي، فعُدَّ السلطان محمود مصلحًا بتغيير الزي الرسمي

ونظام الجندية، والسلطان عبد المجيد مصلحًا بإعلان التنظيمات الخيرية،

والسلطان عبد الحميد مصلحًا بإنشاء نظارة العدلية، ومصطفى رشيد باشا مصلحًا

بإدخال الدولة العثمانية في سلك الدول الأوروبية، ومدحت باشا وأعوانه مصلحين

باقتباس القوانين الغريبة الغربية، ومحمد علي باشا وأحفاده مصلحين بِفَرْنَجَةِ البلاد

المصرية، والأمير عبد الرحمن خان مصلحًا بالتأليف بين القبائل الأفغانية. ولم

تتوجه همة أحد إلى إصلاح الأخلاق والعادات، وإزالة البدع والمنكرات، وجمع

الكلمة التي فرقتها المذاهب واللغات، فما زاد الأمة ذلك الإصلاح الصوري إلا

ضروبًا من الفساد، ولا أفاد الدولة إلا إضعاف الاستقلال وإضاعة البلاد، {بَلْ

مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ العُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ

أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الغَالِبُونَ} (الأنبياء: 44) .

لا أقول إن جميع ما قام به أولئك الرجال لم يكن مطلوبًا، ولا أقول إن

ضرره وما ترتب عليه من الفساد كان ذاتيًّا؛ بل أقول: إن أكثره كان ضروريًّا،

ولكنه لم يكن علاجًا لهذه الأمة من طبيب اجتماعي، عَرَف من أمراضها الظاهري

والباطني فوصف لها من الدواء ما يزيل العلة، ويحفظ البنية، ويقوي المنة، لذلك

رأيناها بعد هذه المعالجات لم تزدد إلا مرضًا، حتى كادت تكون حرضًا، ازدادت

ذلاًّ وفقرًا، وتفرقًا وضعفًا، وفسادًا في الأخلاق، وإسرافًا في النفاق، وكان ما

أُدخل فيها من علوم الأمم القوية وقوانينها وآدابها، كالجسم الغريب الذي يدخل في

البنية فيفسد مزاجها؛ لأنه لم يكن على حسب استعدادها وحاجها؛ بل كان تقليدًا

صوريًّا، أو عارضًا وقتيًّا؛ فمنه ما كان ضارًّا، ومنه ما كان نافعًا؛ فأما الضارّ

فأكبر ضرره التقاليد والقوانين الإفرنجية، التي قطعت كثيرًا من روابط الأمة المِلِّيَّة،

وأزالت ما أزالت من مقوّماتها ومشخصاتها الاجتماعية والأدبية، ولم تستبدل بها

ما يحل محلها من مقومات الأمم الأوروبية؛ بل صارت عيالاً عليهم في جميع

الشؤون، حتى انتهى ذلك إلى هذا الفتون، بأن فقدت الاستقلال، باسم النفوذ أو

الحماية أو الاحتلال، {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (الأنعام: 129) ، {ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} (الأنعام: 131) ، {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} (الأنعام: 132) .

وأما ما كان نافعًا من تلك الأعمال التي وسمت بسمة الإصلاح، فإنما كان

نفعه موضعيًّا، وعارضًا لا دائمًا، فكان كمداواة بعض أعراض الزهري (الداء

الإفرنجي) الظاهرة بما يزيلها، مع بقاء العلة في الباطن (كتسمم الدم) تصدر

عنها آثارها، فما زال منه بالمعالجة الموضعية اليوم، يظهر ما هو شر منه

وأعصى على العلاج في الغد (كلما داويت جرحًا سال جرح) ذلك مثل ما كان

في الدولة العثمانية، وهي أكبر مظاهر السلطة في الأمة الإسلامية، وخير منه ما

قام به الأمير عبد الرحمن، من جمع كلمة قبائل الأفغان، وتدريبها على القتال،

الذي يحفظ به الاستقلال، وكذا ما قام به الأمير محمد علي في مصر، فإنه بنى

ركني الثروة والقوة على أساس العلم، ولو أتم أحفاده ما بدأ به ببناء ركني الأخلاق

والآداب، على أساس الدين وسنن الاجتماع، لَتَمَّ لهم تكوين الأمة، ولاستقام لهم

بالأمة أمر الدولة، فهذا العصر عصر الأمم والشعوب، لا عصر الأمراء والملوك،

ولكن جميع أقيال المسلمين، كانوا - ولا يزالون - عن هذا غافلين، {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا

فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} (فاطر: 44) ، {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا

مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ} (غافر: 21) ، {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن

قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ

رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (الروم: 9) .

نعم، إنهم لم يسيروا في الأرض، لأجل الاعتبار بسنن الله في الكون،

فينظروا في سوء عاقبة الأمم الجاهلة النائمة، ومصير الدول المستبدة الظالمة،

وحسن عاقبة الأمم العالمة العاملة، وسيادة الدول المنظمة العادلة، وكيف أن

إصلاح الأرض وعمران الدور، لا يغني عن إصلاح الأخلاق وارتقاء الجمهور،

ولو ساروا لما نظروا، ولو نظروا لَمَا أبصروا، ولو أبصروا لَمَا اعتبروا، {أَفَلَمْ

يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى

الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: 46) ، وأي عمى أشد

من عمى الاستبداد؟ وهو مصدر كل فساد وأصفاد، حتى إنه يفسد الطباع، ويغير

الأوضاع، ويقطع رابطة الزوجية، ويزيل عاطفة الأبوة والبنوة، فيغري الولد

بقتل والده، والوالد بقتل ولده، وكيف يؤمن على حياة أمته، من لا يكبر عليه قتل

والده أو ولده؛ إذا هو نازعه في سلطته، أو عارضه في إرادته؟ فانتظار الأمم أن

يكون صلاحها ورشادها ممن لا حظَّ لهم من حياتهم إلا استذلالها واستعبادها، اتباعًا

لترفهم ونعيمهم، وافتتانًا بإطرائهم وتعظيمهم، يشبه طلب العلم من الجاهلين،

والتماس الهدى من الضالين {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ القُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ

الفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلَاّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا

فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود: 116- 117) .

ألا إنه لا بقاء مع ظلم وفساد، ولا عدل مع استبداد، ولا هلاك مع إصلاح،

ولا إصلاح للدولة إلا بصلاح الأمة، ولا صلاح لأمة إلا إذا كان فيها بقية من

أولي الرأي والعزم، يأمرون بالصلاح وينهون عن الفساد في الأرض، ولا تأثير

للأمر والنهي إلا بإجماع الأمر وإحكام الرأي، ولا يفيد الإحكام والإجماع، إلا مع

مراعاة سنن الاجتماع، لاختلاف استعداد الأقوام، باختلاف أحوال الزمان والمكان،

وزماننا هذا هو زمان الجماعات العلمية والأدبية والسياسية، والشركات الزراعية

والصناعية والتجارية، فحظ الأفراد الكثيرين من معنى الأمة، على قدر حظهم من

إقامة هذه الأركان الستة، ولا ينبغي أن يطلق هذا اللفظ، على من لا نصيب لهم

منها ولا حظَّ، إلا على سبيل التجوز في القول، كما يطلق اسم الشيء على صورة

الشيء، ومتى ملكت الأمة بالجمعيات أمورها المعنوية، وبالشركات أمورها المادية،

كانت جديرة بأن تقوم أمر حكومتها، وتقيمها على صراط شريعتها، لهذا كان

همنا منذ سنة المنار الأولى، أن نذكر أهل العلم والرأي من المسلمين بهذه الطريقة

المثلى؛ اهتداء بقوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى} (الأعلى: 9-10) وليس بعد إقامة حجة الله في الورى، إلا فلاح من اتبع الهدى،

وهلاك من آثر الهوى، {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ

عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (الجاثية: 23) .

ألا وإن أمر التربية والتعليم هو أهم ما يجب أن يوكل إلى الجماعات، ولا

يجوز أن يترك إلى الأفراد ولا إلى الحكومات؛ لأن المدارس للأفراد دكاكين لكسب

المال، وللحكومات معامل لسبك العُمَّال، فكل من الفريقين يتوخى في التعليم منفعته

الخاصة، وإن باينت مصلحة الأمة العامة، وإنما تطلب الحكومة عمالاً لها كالآلات،

لا إرادة لهم ولا رأي ولا استقلال، والأفراد يتبعون سننها ويسيرون على طريقها،

وإنما ربح تجارتهم برواج بضاعتهم في سوقها، وشر من ذلك ما ابتلي به

جماهير المسلمين، من ترك تربيتهم النفسية والعقلية إلى خصومهم في السياسة

والدين فكانوا بهذا الخزي من الأخسرين، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم

يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، فأنى تصلح أمة تركت تجديدها وتكوينها، إلى من

لا همَّ لهم إلا إزالة ملكها ودينها؟ ! كلا؛ إنها كرّة خاسرة، يخسرون بها الدنيا

والآخرة {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَاّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ

أَعْيُنٌ لَاّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَاّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ أُوْلَئِكَ

هُمُ الغَافِلُونَ} (الأعراف: 179) .

الأمم تصلح بالتربية ونحن قد أفسدنا المربون - الإفرنج والمتفرنجون -

وترتقي بالعلم ونحن قد دلَاّنا العلماء المقلدون المفتونون، وتقوى وتعتز بجمع

المدارس لكلمتها، ونحن قد أوهنتنا وشقَّت عصانا المدارس؛ لأنها إما معاهد

سياسية وإلحاد، وإما أديار وكنائس، قد قطعت روابط الأمة الدينية والمدنية،

وفتنتها بالأهواء والشهوات الحيوانية، وسرى سم تقليدها إلى المدارس الأميرية

والأهلية، فالمتخرجون فيها أقلهم الذين يسلمون، ومنهم الملحدون وأكثرهم

الفاسقون، يجرفون ثروة الأمة إلى الأجانب، ويقذفونها بالفجور والنفوذ الأجنبي

من كل جانب، ويتغلبون فيها على المناصب فينالون منها جميع المآرب، يحقرون

لها سلفها، ويعظمون في نفسها كل ما هو أجنبي عنها، فيقطعون جميع روابطها

المِلِّيَّة، ويزينون لها ذلك باسم المدنية، فهم المنافذ والكوى التي يدخل منها الفساد،

وهم الآلات التي يستعين بها الأجانب على إدارة أمر البلاد؛ لأنهم تربية مدارسهم،

بل صنع معاملهم، أو الجيش السلمي لثكناتهم، ولا يتم لهم ما يسمونه الفتح السلمي

بدونهم، ولأجل هذا ربوهم هذه التربية المذبذبة، وحشوا مخيلاتهم بمسائل

العلوم المضطربة، فلا هم صاروا بها أوربيين، ولا ظلوا مسلمين أو شرقيين،

ولكنهم لغرورهم باسم المدنية الإفرنجية يفسدون على الأمة أمرها، ويزعمون أنهم

هم المصلحون لشأنها، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ

مُصْلِحُونَ * ألَا إِنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِن لَاّ يَشْعُرُونَ} (البقرة: 11-12) .

هكذا ذفف على جرح هذه الأمة من جعلوا أنفسهم أُساة لها وأطباء، فكان أقتل

أدوائها ما عالجوها به من الدواء، ومن كان له عقل وبصيرة، فليتدبر ما تقوله

فيهم كتب الإفرنج وصحفهم الشهيرة [2] ومن أهمه ما نقلته مجلة العالم الإسلامي

الفرنسية، عن مجلة العالم الإسلامي الإنكليزية، في سياق الكلام على فتح العالم

الإسلامي (الذي نشرناه في ص 516 م15) وهذا نصه: (اتفقت آراء سفراء

الدول الكبرى في عاصمة السلطنة العثمانية على أن معاهد التعليم الثانوية التي

أسسها الأوربيون كان لها تأثير في حل المسألة الشرقية يرجح على تأثير العمل

المشترك الذي قامت به دول أوربة كلها) ! ! فإذا لم يكن للمسلمين مدارس مِلِّيَّة،

تديرها حكومة أو جماعات إسلامية، فتربيهم على ما يجمعون به مصالحهم الدينية

والدنيوية، وإذا كانوا لا يعرفون للتعليم غاية إلا المنفعة الشخصية، وما يتخيلون من

المنافع الخسيسة المادِّية، فإن أوربة تعرف كيف تنشئهم في مدارسها ومدارسهم

خلقًا جديدًا، يكونون بها على توهُّم الحرية خدما لها وعبيدًا، فهم مقادون من أمامهم،

ومسوقون من ورائهم، ولكن لا يدرون كيف بدؤوا ولا أين ينتهون {أَمْوَاتٌ غَيْرُ

أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} (النحل: 21) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا

بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لَا يَألُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا

تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} (آل عمران: 118) .

ألا إننا في أشد الحاجة إلى الصناعات الإفرنجية، وما تتوقف عليه من العلوم

والفنون العملية، وإلى الاعتبار بتاريخهم، وأطوار حكوماتهم وجماعاتهم، ولكن

يجب أن يقوم باقتباس ذلك جماعات منا، يجمعون بينه وبين حفظ مقوماتنا

ومشخصاتنا، وأركانها: اللغة والدين والشريعة والآداب [3] ، فمن فقد شيئًا من هذه

الأشياء فقد فقد جزءًا من نفسه، لا يمكن أن يستغني عنه بمثله من غيره، كما أنه

لا يستغني بعقل غيره عن عقله، ولا بجسم سواه عن جسمه، وإنما نستفيد من

العبرة بحالهم، كيف نرقي لغتنا كما رقوا، وكيف ننشر ديننا كما ينشرون دينهم،

وكيف نسهل طرق العمل بشريعتنا وآدابنا كما سهلوا طرق شرائعهم وآدابهم، ولنا

أن نستعين على ما نستمده منهم، بأهل الفضيلة والاستقلال من رجالهم، الذين ليس

لهم فينا أهواء دينية، ولا مطامع سياسية استعمارية، وبهذا نكون مهتدين بما أمرنا

الله به من السير في الأرض، والاعتبار بأحوال وبسنة سلفنا، في جعل الحكمة

ضالّتنا، واعتقاد أنها حيث وجدت فنحن أحق بها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ

وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ

تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَاّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ

العِقَابِ * وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ

فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا

تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (الأنفال: 24-27) .

الدعوة إلى انتقاد المنار

أمر الله تعالى بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر، وبالأمر بالمعروف

والنهي عن المنكر، ونهى عن الغِيبَةِ وتوعد المغتاب ومن يحب شيوع الفاحشة،

وأوعد الهُمَزَة اللُّمَزَة، بالويل الشديد والحطمة، فنحن نذكر كل من يطلع على

منارنا هذا بأمر الله ونهيه، ووعده ووعيده، وندعو من رأى فيه خطأ أن يذكرنا به

قولاً أو كتابة، مبينًا ذلك بالدليل والبرهان، لا بقول فلان ورأي فلان، مع أدب

العبارة، والاكتفاء منها بقدر الحاجة، ونحن ننشر - إن شاء الله تعالى - كل ما

يكتب إلينا، سواء كان لنا أو علينا، إذا التزم الكاتب ما شرطنا، ثم نبين ما عندنا فيه

من قبول وإذعان، أو ردّ أدبي مؤيَّد بالبرهان، وليعلم كل عاقل منصف أن من

يخطِّئنا ولا يكتب إلينا، فهو لا ثقة بعلمه ولا بدينه ولا بما يقوله فينا، وأنه

حاسد أو مدَّعٍ كذاب، وإلى الله المرجع والمآب، وهو سريع الحساب.

...

منشئ المنار ومحرره

...

...

...

محمد رشيد رضا الحسيني

_________

(1)

أي: لا يصدقون بما تدل عليه الآيات وما تخوفهم به النذر والمواعظ لجهلهم وعدم تدبرهم.

(2)

ومنها ما كتبه لورد كرومر في كتابه (مصر الحديثة) في سوء حال المتفرنجين.

(3)

هذا التقسيم بحسب عرف العصر والشريعة عند المسلمين بمعنى الدين، والمراد بها هنا أحكام المعاملات من السياسة والقضاء والإدارة والحرب، وهي موضع اجتهاد أولي الأمر في الدين الإسلامي، والآداب الإسلامية منبعها الدين وهي أعلى من آداب الإفرنج وأكمل.

ص: 1

الكاتب: ابن القيم الجوزية

‌كتاب مدارج السالكين

بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

هذا الكتاب للإمام الحافظ المحقق ابن قيم الجوزية، شرح فيه كتاب (منازل

السائرين) في التصوف لشيخ الإسلام أبي إسماعيل الهروي - شرحًا بيَّن فيه

غوامضه، وفصل بين ما يوافق الكتاب والسنة وما يخالفهما منه، فهو أفضل كتب

التصوف وأنفعها، وهو يطبع الآن في مطبعة المنار، وقد أوشك أن يتم طبع

الجزء الأول منه، وقد رأينا أن ننشر هذا الفصل منه تعجيلاً بالفائدة لقراء المنار،

ولشدة الحاجة إليه.

قال المصنف - رحمه الله تعالى - في سياق بيان أنواع الكفر:

فصل

وأما الشرك فهو نوعان: أكبر وأصغر. فالأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة منه،

وهو أن يتخذ من دون الله ندًّا يحبه كما يحب الله، وهو الشرك الذي تضمن تسوية

آلهة المشركين برب العالمين. ولهذا قالوا لآلهتهم في النار: {تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي

ضَلالٍ مُّبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ العَالَمِينَ} (الشعراء: 97-98) ، مع إقرارهم

بأن الله وحده خالق كل شيء وربه ومليكه، وأن آلهتهم لا تخلق ولا ترزق ولا

تحيي ولا تميت. وإنما كانت هذه التسوية في المحبة والتعظيم والعبادة كما هو حال

أكثر مشركي العالم، بل كلهم يحبون معبوديهم ويعظمونها ويوالونها من دون الله.

وكثير منهم - بل أكثرهم - يحبون آلهتهم أعظم من محبة الله، ويستبشرون

بذكرهم أعظم من استبشارهم إذا ذكر الله وحده، ويغضبون لمنتقص معبوديهم وآلهتهم

من المشايخ أعظم مما يغضبون إذا انتقص أحد رب العالمين، وإذا انتهكت حرمة من

حرمات آلهتهم ومعبوديهم غضبوا غضب الليث إذا حرد، وإذا انتهكت حرمات الله لم

يغضبوا لها؛ بل إذا قام المنتهك لها بإطعامهم شيئًا رضوا عنه ولم تتنكر له قلوبهم

. وقد شاهدنا هذا - نحن وغيرنا - منهم جهرة، وترى أحدهم قد اتخذ ذكر إلهه

ومعبوده من دون الله على لسانه إن أقام وإن قعد وإن عثر وإن مرض وإن استوحى [1]

فذكر إلهه ومعبوده من دون الله هو الغالب على قلبه ولسانه، وهو لا ينكر ذلك،

ويزعم أنه باب حاجته إلى الله وشفيعه عنده ووسيلته إليه - وهكذا كان عباد

الأصنام سواء - وهذا القدر هو الذي قام بقلوبهم، وتوارثه المشركون بحسب

اختلاف آلهتهم، فأولئك كانت آلهتهم من الحجر، وغيرهم اتخذوها [2] من البشر.

قال الله تعالى حاكيًا عن أسلاف هؤلاء المشركين: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ

مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (الزمر: 3) ، ثم شهد عليهم بالكفر والكذب وأخبر أنه لا يهديهم فقال [3] {إِنَّ اللَّهَ

لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (الزمر: 3) ، فهذه حال من اتخذ من دون الله وليًّا

يزعم أنه يقرِّبه إلى الله، وما أعز من يخلص من هذا؟ بل ما أعز من لا يعادي

من أنكره!

والذي في قلوب هؤلاء المشركين وسلفهم أن آلهتهم تشفع لهم عند الله ، وهذا

عين الشرك ، وقد أنكر الله عليهم ذلك في كتابه وأبطله، وأخبر أن الشفاعة كلها له،

وأنه لا يشفع عنده أحد إلا لمن أذن له أن يشفع فيه ورضي قوله وعمله، وهم

أهل التوحيد الذين لم يتخذوا من دون الله شفعاء، فإنه يأذن سبحانه لمن شاء في

الشفاعة لهم حيث لم يتخذوهم شفعاء من دونه، فيكون أسعد الناس بشفاعة من يأذن

الله به صاحب التوحيد الذي لم يتخذ شفيعًا من دون الله.

والشفاعة التي أثبتها الله ورسوله هي الشفاعة الصادرة عن إذنه لمن وحَّدَهُ،

والتي نفاها الله [4] الشفاعة الشِّركية التي في قلوب المشركين المتخذين من دون الله

شفعاء، فيعاملون بنقيض قصدهم من شفاعتهم ويفوز بها الموحدون ، فتأمل قول

النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة - وقد سأله: من أسعد الناس بشفاعتك

يا رسول الله؟ قال: (أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصًا من قلبه) -

كيف جعل أعظم الأسباب التي تنال به شفاعته تجريد التوحيد، عكس ما عند

المشركين إن الشفاعة تُنال باتخاذهم شفعاء وعبادتهم وموالاتهم من دون الله، فقلب

النبي صلى الله عليه وسلم ما في زعمهم الكاذب، وأخبر أن سبب الشفاعة تجريد

التوحيد، فحينئذ يأذن الله للشافع أن يشفع.

ومن جهل المشرك اعتقاده أن مَنْ اتخذه وليًّا أو شفيعًا أنه يشفع له وينفعه عند

الله كما يكون خواص الملوك والولاة تنفع شفاعتهم مَنْ والاهم، ولم يعلموا أن الله لا

يشفع عنده أحد إلا بإذنه، ولا يأذن في الشفاعة إلا لمن رضي قوله وعمله، كما قال

تعالى في الفصل الأول: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ اللَاّ بِإِذْنِهِ} (البقرة: 255)

وفي الفصل الثاني: {وَلَا يَشْفَعُونَ إلا َّ لِمَنِ ارْتَضَى} (الأنبياء: 28) ، وبقي

فصل ثالث، وهو أنه لا يرضى من القول والعمل إلا التوحيد واتباع الرسول،

وعن هاتين الكلمتين يَسأل الأولين والآخرين، كما قال أبو العالية: كلمتان يُسأل

عنهما الأولون والآخرون: ماذا كنتم تعبدون؟ [5] وماذا أجبتم المرسلين؟ فهذه

ثلاثة أصول تقطع شجرة الشرك من قلب من وعاها وعقلها: لا شفاعة إلا بإذنه،

ولا يأذن إلا لمن رضي قوله وعمله، ولا يرضى من القول والعمل إلا توحيده

واتباع رسوله [6] فالله تعالى لا يغفر شرك العادلين به غيره، كما قال تعالى: {ثُمَّ

الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} (الأنعام: 1) ، وأصح القولين أنهم يعدلون به غيره

في العبادة والموالاة والمحبة كما في الآية الأخرى، {تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ

* إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ العَالَمِينَ} (الشعراء: 97-98) ، وكما في آية البقرة

{يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} (البقرة: 165) .

وترى المشرك يكذب حاله وعمله لقوله؛ فإنه يقول: لا نحبهم كحب الله ولا

نسويهم بالله. ثم يغضب لهم ولحرماتهم إذا انتهكت - أعظم مما يغضبه لله،

ويستبشر بذكرهم ويتبشبش به [7] سيما إذا ذكر عنهم ما ليس فيهم من إغاثة اللهفات،

وكشف الكربات، وقضاء الحاجات، وأنهم باب بين الله وبين عباده. ترى

المشرك يفرح ويسرّ ويحنّ قلبه ويهيج منه لواعج التعظيم والخضوع لهم والموالاة،

وإذا ذكرت له الله وحده وجردت توحيده، لحقته وحشة وضيق وحرج [8] ورماك

بتنقص الإلهية [9] التي له، وربما عاداك.

رأينا - واللهِ - منهم هذا عيانًا، ورمونا بعداوتهم وبغوا لنا الغوائل [10] والله

مخزيهم [11] في الدنيا والآخرة، ولم تكن حجتهم إلا أن قالوا كما قال إخوانهم: عاب

آلهتنا. فقال هؤلاء: تنقصتم مشايخنا وأبواب حوائجنا إلى الله. وهكذا قال النصارى

للنبي صلى الله عليه وسلم لما قال لهم: إن المسيح عبد [12] قالوا: تنقصت المسيح

وعِبْته. وهكذا قال أشباه المشركين لمن منع اتخاذ القبور أوثانًا تعبد ومساجد، وأمر

بزيارتها على الوجه الذي أذن الله فيه ورسوله، قالوا: تنقصت أصحابها. فانظر إلى

هذا التشابه بين قلوبهم حتى كأنهم قد تواصوا به و {مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ المُهْتَدِ وَمَن

يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِياًّ مُّرْشِداً} (الكهف: 17) .

وقد قطع الله تعالى الأسباب التي تعلق بها المشركون جميعها قطعًا يعلم من

تأمله وعرفه أن من اتخذ من دون الله وليًّا أو شفيعًا فهو {كَمَثَلِ العَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ

بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ البُيُوتِ لَبَيْتُ العَنكَبُوتِ} (العنكبوت: 41) فقال تعالى: {قُلِ

ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ

وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ * وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ اللَاّ لِمَنْ أَذِنَ

لَهُ} (سبأ: 22-23) ، فالمشرك إنما يتخذ معبوده لِمَا يحصل له به من النفع.

والنفع لا يكون إلا ممن فيه خصلة من هذه الأربع: إما مالك لما يريده عابده منه،

فإن لم يكن مالكًا كان شريكًا للمالك، فإن لم يكن شريكًا له كان معينًا له وظهيرًا،

فإن لم يكن معينًا ولا ظهيرًا كان شفيعًا عنده. فنفى سبحانه المراتب الأربع نفيًا

مترتبًا متنقلاً [13] من الأعلى إلى ما دونه [14] فنفى الملك والشركة والمظاهرة

والشفاعة التي يظنها المشرك، وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك وهي الشفاعة

بإذنه، فكفى بهذه الآية نورًا وبرهانًا ونجاة وتجريدًا للتوحيد وقطعًا لأصول الشرك

ومواده لمن عقلها، والقرآن مملوء من أمثالها ونظائرها ولكن أكثر الناس لا يشعر [15]

بدخول الواقع تحته وتضمنه له، ويظنه في نوع، وقوم قد خلوا من قبل ولم

يعقبوا وارثًا، وهذا هو الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن. ولعَمْرُ الله إن كان

أولئك قد خلوا فقد ورثهم من هو مثلهم أو شر منهم أو دونهم. وتناول القرآن لهم

كتناوله لأولئك، ولكن الأمر كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنما

تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية [16] ؛

وهذا لأنه إذا لم يعرف الجاهلية والشرك. وما عابه القرآن وذمه، وقع فيه وأقره،

ودعا إليه وصوَّبه وحسَّنه وهو لا يعرف أنه هو الذي كان عليه أهل الجاهلية أو

نظيره، أو شر منه [17] أو دونَهُ، فينتقض [18] بذلك عرى الإسلام ويعود المعروف

منكرًا والمنكر معروفًا، والبدعة سنَّة والسنة بدعة، ويكفَّر الرجل بمحض الإيمان

وتجريد التوحيد، ويُبَدَّع بتجريد متابعة الرسول ومفارقة الأهواء والبدع،

ومن له بصيرة وقلب حيّ يرى ذلك عيانًَا والله المستعان. اهـ.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

كتب في هامش نسختنا (لعله وإن استوحش) وفي النسخة الثالثة (وإن استوى) أي جالسًا أو راكبًا أو قائمًا.

(2)

وفي نسخة (اتخذها) .

(3)

هذه الجملة بين طرفي الآية ساقطة من نسختنا.

(4)

المنار: نفى الله الشفاعة نفيًا مطلقًا ومقيدًا، فالمطلق كقوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَاّ بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ} (البقرة: 254)، والمقيد كقوله:{مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} (غافر: 18) ، ومنها ما أشار إليه المصنف.

(5)

كتب في هامش نسختنا هنا (تعلمون) .

(6)

وفي نسخة (رسله) .

(7)

يقال: تبشبش به إذا آنسه وواصله، وفي نسخة (ويستأنس) بدل (ويتبشبش) .

(8)

فات المصنف أن يستشهد هنا بقوله تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} (الزمر: 45) ، ولا فرق بين المشرك الذي لا يؤمن بالآخرة ألبتة، والمشرك الذي يؤمن بها على غير الوجه الذي بينه الرسول صلى الله عليه وسلم.

(9)

وفي نسخة (رماك بانتقاص الآلهة) .

(10)

يقول مصحح الكتاب: نحمد الله أن كان لنا في المصنف وأمثاله من الدعاة إلى توحيد الله

أسوة، فقد رأينا ما رأى وابتلينا بما ابتلي.

(11)

وفي نسخة (يجزيهم) .

(12)

وفي نسخة (عبد الله) .

(13)

وفي نسخة (مرتبًا منتقلاً) .

(14)

وفي نسخة (الأدنى) .

(15)

وفي نسخة (لا يشعر) .

(16)

وفي نسخة (من لم يعرف الجاهلية) .

(17)

وفي نسخة (أو أسوأ) .

(18)

وفي نسخة (فينقض) ولعله الأصل الصحيح.

ص: 30

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌إسلام اللورد هدلي

وما قاله وكتبه في سببه

خاضت جرائد العالم في إسلام اللورد (هدلي) الإنكليزي، فكتب بعضها ما

عليه كما هو على سبيل الخبر، وزعم بعضهم أن إسلامه إسلام سياسي

ليمثل المسلمين في مجلس اللوردات! وأبى بعض المتعصبين من النصارى إلا أن

يشوب الخبر بشوائب التلبيس وإيهام القارئ أن اللورد لا يزال نصرانيًّا يؤمن

بالثالوث ويجمع بين الضدين أو النقيضين (التوحيد والتثليث) .

وكأن هذا التلبيس والإيهام قد استنبط من كلمة عُزيت إلى اللورد. وإننا ننشر

ما نقلته جريدة مسيحية إنكليزية عن اللورد وما كتبه هو عن إسلامه؛ فتقول:

جاء في جريدة الديلي ميل الصدارة في 17 نوفمبر سنة 1913 تحت عنوان

(إسلام اللورد هدلي) ما يأتي:

اللورد هدلي هو البارون الخامس في بيته (عائلته) وقد ارتقى إلى هذه

الرتبة في يناير الماضي بعد وفاة ابن عمه. وقد أسلم هذا اللورد الآن وأعلن إسلامه

في حفلة للجمعية الإسلامية بلندن، وكان هو نفسه حاضرًا في وليمة الجمعية

السنوية.

قال في اجتماع البارحة: (إنني بإعلان إسلامي الآن لم أَحِد مطلقًا عما اعتقدته

منذ عشرين سنة، ولما دعتني الجمعية الإسلامية لوليمتها سررت جدًّا لأتمكن من

الذهاب إليهم وإخبارهم بالتصاقي الشديد بدينهم. وأنا لم أهتم بعمل أي شيء لإظهار

نبذي لعلاقتي بالكنيسة الإنكليزية التي نشأت في حجرها، كما أني لم أحفل

بالرسميات في إعلان إسلامي، وإن كان هو الدين الذي أتمسك به الآن.

إن عدم تسامح المتمسكين بالنصرانية كان أكبر سبب في خروجي عن

جامعتهم، فإنك لا تسمع أحدًا من المسلمين يذم أحدًا من أتباع الأديان الأخرى كما

تسمع ذلك من النصارى بعضهم في بعض، فإن المسلمين وإن كان يحزنهم عدم

اهتداء الناس إلى دينهم إلا أنهم لا يحكمون على كل من خالفهم بالهلاك الأبدي.

إن طهارة الإسلام وسهولته وبعده عن الأهواء والمذاهب الكهنوتية ووضوح

حجته كانت كل هذه الأشياء أكبر ما أثر في نفسي. وقد رأيت في المسلمين من

الاهتمام بدينهم والإخلاص ما لم أر مثله بين النصارى، فإن النصراني يحترم دينه

عادة يوم الأحد حتى إذا ما مضى الأحد نسي دينه طول الأسبوع. وأما المسلم

فبعكس ذلك، يحب دينه دائمًا، وسواءٌ عنده أكانَ اليوم يوم الجمعة أو غيره، ولا

يفتر لحظة عن التفكر في كل عمل يكون فيه عبادة الله.

وإني وإن كنت اعتنقت الإسلام إلا أني لا زلت نصرانيًّا، بمعنى أني لا زلت

مؤمنًا بالمسيح ومتبعًا تعاليم المسيح، فإن الإسلام يصدق بتعاليم جميع الأنبياء على

حدٍ سواء فلا يفرق بين موسى والمسيح ومحمد (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) .

اهـ كلام هدلي.

ثم قالت الجريدة المذكورة: إن اللورد هدلي هو مهندس. وفي المسابقة

الرياضية التي جرت في كمبردج حاز قَصَبَ السَّبْق في الملاكمة مثل المستر

ألنسون وين (winn Allanson) .

***

لماذا أسلمت؟

وجاء في جريدة الأبزيرفر الأسبوعية (observer the) في عددها

الصادر في 23 نوفمبر الماضي تحت عنوان (لماذا أسلمت) بقلم اللورد هدلي

(headley) ما ترجمته حرفيًّا:

(عقيدة الإسلام)

أخذت صحف عديدة تخوض في معتقدي الديني، ويسرني أن أرى أن جميع

الانتقادات التي وجهت إليّ للآن، كانت بلهجة لطيفة، وما كان ينتظر أن الخروج

عمّا ألفه الناس واعتادوه لا يلفت الأنظار إليه، وذلك ممّا يسرني، إني أحب مهنتي

ومولع بالألعاب الرياضية، ولم يكن لي في ذلك غرض لطلب الشهرة وبعد الصيت،

ولكن لو كان عملي في هذه الحالة سببًا في جعل الناس كبيري المدارك سمحاء فأنا

في غاية الاستعداد لأن أتحمل بكل صبر أي نوع من الإساءة والاستهزاء.

أتاني في يوم كتاب من نصراني متمسك بدينه يقول لي فيه: إن الإسلام هو

دين شهوات، وإنه كان لنبيه عدة زوجات. فما أعجبها من فكرة عن الإسلام! !

ولكنها هي الفكرة السائدة على عقول تسعة وتسعين من كل مائة بريطاني، فإنهم لا

يتعبون أنفسهم في البحث عن حقائق دين يدين به مائة مليون من إخوانهم الخاضعين

لهم.

نبيّ العرب المقدس كان على الأخص حصورًا عن الشهوات طاهرًا، فكان

مخلصًا لزوجته الوحيدة خديجة التي كانت أكبر منه بخمس عشرة سنة، وكانت أول

من آمنت ببعثته. وبعد موتها تزوج عائشة ثم تزوج أيضًا عدة أرامل لأصحابه

الذين قتلوا في الحرب، لا لأنه كان له أدنى رغبة فيهن بل ليعولهن ويقوم بكفالتهن

ويرفع مقامهن إلى منزلة ما كن يصلن إليها بغير ذلك. وكان عمله هذا ملتئمًا مع

بعده عن الأنانية، ومع حياته الشريفة العالية. وكان من شدة زهده في هذه الحياة

أنه ما كان يملك ما يكفيه من العيش.

نحن البريطانيين تعودنا أن نفخر بحبنا للإنصاف والعدل، ولكن أي ظلم

أعظم من أن نحكم - كما يفعل أكثرنا - بفساد الإسلام قبل أن نلم بشيء من عقائده،

بل قبل أن نفهم معنى كلمة الإسلام؟

***

القرآن والدعوة

من المحتمل أن بعض أصدقائي يتوهم أن المسلمين هم الذين أثَّروا فيّ،

ولكن هذا الوهم لا حقيقة له، فإن اعتقاداتي الحاضرة ليست إلا نتيجة تفكير قضيت

فيه عدة سنين. أما مذاكراتي الفعلية مع المتعلمين من المسلمين في موضوع الدين

فلم تبدأ إلا منذ أسابيع قليلة، ولا حاجة بي إلى القول بأني ملئت سرورًا حينما وجدت

نظرياتي ونتائجي متفقة تمام الاتفاق مع الدين الإسلامي. وأمّا صديقي الخوجة

كمال الدين فلم يحاول قط أن يكون له فيّ أقل تأثير، ولكنه كان حقيقة كقاموس حيّ

يفسر ويترجم لي - مع الصبر - ما لم يتضح لي من آيات القرآن. وكان سلوكه

هذا مسلك المبشر الإسلامي الحقيقي الذي لا يحاول إرغام سامعيه أو التأثير فيهم. فإن

الدخول في الإسلام يجب - كما يقول القرآن - أن يكون بإرادة الإنسان الحرة

وبرأيه الذاتي بدون أي وسيلة من وسائل الإكراه. وكذلك أراد عيسى أيضًا حينما

قال: (مر 6: 11 وكل من لا يقبلكم ولا يسمع لكم فأخرجوه من هناك ....) .

إني أعرف حوادث عديدة جدًّا لبعض البروتستانت المتحمسين الذين يظنون

أنه يجب أن يزوروا بيوت الكاثوليك ليحولوهم إلى مذهبهم، ومثل هذا التعدي

الجارح قبيح طبعًا. وقد أدى - في الأكثر - إلى إثارة الأحقاد التي نشأت عنها

مشاحنات وجعلت الدين يزدري. وإني ليحزنني أن أرى أن دعاة النصرانية قد

سلكوا هذا الطريق عينه مع إخوانهم المسلمين، ولا يمكنني أن أفهم كيف يريدون أن

يدعوا إلى النصرانية من هم في الحقيقة أفضل منهم نصرانية (أو قال: نصارى

أفضل منهم) لم أقل: (نصارى أفضل منهم) جزافًا فإن ما في الإسلام من الخير

والتسامح وسعة المدارك أقرب إلى ما دعا إليه المسيح من تلك العقائد الضيقة التي

أخذت بها فرق النصارى المختلفة.

***

عقيدة أثناسيوس [1]

أذكر مثلاً واحدًا وهو عقيدة أثناسيوس التي تشرح الثالوث شرحًا في غاية

التعقيد. في هذه العقيدة - وهي كبيرة الأهمية جدًّا وتنص على إحدى العقائد

الأساسية للكنائس المسيحية - ترى جليًّا أنها عقيدة الجمهور، وأننا إذا لم نأخذ بها

نهلك هلاكًا أبديًّا. ثم يقال لنا إنه: (يجب علينا أن لا نفكر في الثالوث بغير ذلك)

وبعبارة أخرى: إن الإله الذي نَصِفُه في لحظة بالرحمة والقدرة، نصفه في اللحظة

الثانية بالظلم والقسوة، وهو ما نتحامى أن نصف بها أقسى البشر السفاكين، فكأن الله

تعالى القديم الذي فوق كل شيء يكون خاضعًا لما يذهب إليه الهالك المسكين (يريد

الإنسان) في أمر الثالوث.

وهاك مثلاً آخر من أمثلة بعدهم عن الخير: أتاني كتاب بمناسبة ميلي للإسلام

يقول لي فيه كاتبه: إنني إن لم أومن بلاهوت المسيح فلا سبيل لي إلى الخلاص.

أما مسألة ألوهية المسيح هذه فلم يظهر لي أنها تقرب في أهميتها من تلك المسألة

الأخرى وهي: هل بلغ رسالة ربه للبشر؟ فلو كان عندي الآن أي شك في هذه

المسألة الأخيرة لضايقني كثيرًا، ولكني - ولله الحمد - لا أشك فيها، وأرجو أن

يكون إيماني بالمسيح - وبما أوحاه الله إليه - ثابتًا كإيمان أي مسلم أو أي

نصراني به. وكما قلت من قبل مرارًا إن الإسلام والنصرانية التي أتى بها المسيح

نفسه هما توأمان لم يفرق بينهما إلا الأهواء والاصطلاحات التي يحسن أن تنبذ

ظهريا في هذه الأيام. يميل الناس إلى الإلحاد حينما يطالبون بالأخذ بعقائد جامدة لا

تتحمل التسامح، وإن كانوا ولا شك لفي شوق إلى دين يذعن لحكم العقل كما يذعن

الوجدان. من سمع بمسلم انقلب ملحدًا؟ يجوز أن يوجد أحوال قلائل كهذه ولكنني

مع ذلك أشك في وجودها كل الشك.

***

خوف الانتقاد

إني أعتقد أنه يوجد ألوف من الرجال والنساء الذين يدينون بالإسلام في قلوبهم،

ولكن مخالفة الإجماع وخوف الانتقاد العدائي والرغبة في اجتناب كل ضيق أو

تغيير يحملهم على عدم الجهر بما في قلوبهم، قد سلكت الآن نفس هذا المسلك.

على أني أعلم أن كثيرًا من أصدقائي وأقربائي ينظرون إليّ كأي روح ضالة تستحق

الدعاء لها، مع أن عقيدتي الآن هي عين عقيدتي منذ عشرين سنة؛ ولكن جهري

بها هو الذي أفقدني حسن ظنهم بي؛ لأن الخوف هو السبب في وجود أحوال لا

تحصى من الشقاء والشر في هذا العالم، ولو اتبع الناس الصراحة في القول لقل

سوء التفاهم بينهم، ولزاد احترامهم، ولنقتبس هنا كلمة المستر (بلفور) الحكيمة

وهي قوله: (لا ناصح أضر من الفزع إلا اليأس) ولكن أفضل أن أقول في هذه

الحالة (هناك ناصح أضر وأشد خطرًا من الشك أو الكفر ألا وهو الخوف) .

وحيث إني قد أتيت هنا بملخص بعض الأسباب التي حملتني على اعتناق

الإسلام وقد بينت أني أعتبر نفسي بهذا العمل نصرانيًّا أكمل بكثير مما كنت من قبل،

فلذا أرجو أن يقتدي بي غيري في ذلك، فإنه خير لا شك فيه. وفيه السعادة لكل

من يرى أن عملي هذا ارتقاء لا يراد به أي عداء للنصرانية الصحيحة. اهـ.

(المنار)

في كلام أخينا اللورد هدلي كلمتان جديرتان بالاعتبار:

(إحداهما) قوله: إن الإسلام هو النصرانية التي كان عليها ودعا إليها

المسيح عليه السلام. وهذا حق فإن دين جميع رسل الله عليهم السلام واحد في

أصوله وجوهره، وإنما كان بيان خاتمهم (محمد صلى الله عليه وسلم أتم وأكمل

على سنة الارتقاء في الحياة، وقد حفظه الله من التحريف والتبديل والزيادة

والنقصان. وقد سبق لحكيمنا الكبير السيد جمال الدين الأفاغني - رحمه الله تعالى

كلمة مثل كلمة أخينا اللورد هدلي. ذلك أن سائلا سأله عن سبب الدعوة إلى المذهب

النيشري المادي في الهند فقال: إن الذين أرادوا حل رابطة المسلمين في الهند

دعوهم أولاً إلى النصرانية فلم تنجح دعوتهم لأن الإسلام مسيحية وزيادة، فإنه يقرر

الإيمان بالمسيح وبما جاء به من التوحيد والفضائل ويبطل ما زاده النصارى

في دينه من الخرافات - أي مع زيادة في المعارف الإلهية والآداب والفضائل

والهدي الكامل - فلما خابت هذه الدعوة رأوا أن يشككوكهم في الدين المطلق

إلخ ما

قاله، وقد ذكرناه بالمعنى. ولولا العصبيات المذهبية، والأحقاد السياسية، وسوء حال

مسلمي هذه الأزمنة وبعدهم عن حقيقة الديانة الإسلامية، وجهل الإفرنج بها وبلغتها

العربية، ثم هذا الحجاب الذي أسدلته العلوم والأعمال المادية، ومقت الدين الذي

أثارته الخرافات الكنيسية، وما كان قبل من قسوة السلطة البابوية، لكان

هؤلاء الإفرنج أجدر الناس في هذا العصر بالإسلام، دين العقل والعلم

والحضارة والسلام، الذي كشف ما غشي كتب الأنبياء من الخرافات والأوهام،

ورفع امتيازات الأجناس والأصناف والأقوام، ودعا الناس كافة إلى الإخاء والوحدة

والاعتصام. ولا بد أن يتجلى حقه لهم بعد أحقاب إن لم يكن بعد أعوام، وقد

ظهرت بوادر ذلك بما يكتشفون في هذه الأيام، من غرائب آياته تعالى في الأنفس

والعقول والقوى والأجسام، وقد قال في كتابه المجيد: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي

أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * أَلَا إِنَّهُمْ

فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ} (فصلت: 53-54) .

وأما الكلمة الثانية من كلمتي (اللورد هدلي) فهي إخباره بأن كثيرًا من قومه

مسلمون، أي قد ظهر لهم نور الإسلام، فانقشعت به ظلمات الأوهام، وتلك الظلمة

الوثنية التي غشيت تعليم المسيح النورانية، فعلموا أن دين محمد هو دين المسيح

عليهما السلام، ولكنه غير أديان الكنائس المنسوبة إلى المسيح. بيّن أنهم مسلمون

في باطنهم ولكنهم يخافون أن يظهروا إسلامهم كما كان يخاف هو مدة عشرين سنة،

إنما يخافون أن يحتقرهم قومهم، ويمتعض منهم أهلهم؛ لأن تعصبهم للدين

والمذهب شديد جدًّا، وإن خفي هذا عن سفهاء المتفرنجين منّا الذين يزعمون أن

جميع الإفرنج مارقون من الدين؛ لأنهم لميلهم إلى الإلحاد لا ينجذبون إلا إلى أهله،

وقد يحملون من الكلام عليه ما لا يراد به منه، كما أنهم لافتتانهم بالفسق يظنون أن

جميع نساء الإفرنج بغايا، وأنهم لا همّ لهم من حياتهم ولا اشتغال لهم إلا بالشهوات

البهيمية، وسبب ذلك أنهم لا يبحثون إلا عن ذلك، ولو كان همّ الذين يذهبون إلى

أوربة منهم موجهًا إلى علم من العلوم أو فن من الفنون أو صناعة من الصناعات، لبدا

لهم من اهتمام الإفرنج به ما يحملهم على الظن بأنه لا همّ لهم في غيره، على

أن في الإفرنج من يهتم بإفساد دين الشرقي لإفساد جامعته التي يعتصم بها.

وهذا وإننا كنا منذ ميزنا وعقلنا نسمع من أهلنا وأصحابنا أن كثيرًا من

نصارى بلادنا يوقنون بحقية الإسلام ويتجرؤون على إظهار ذلك لقومهم، ومنهم من

يدخل في الإسلام ويؤدي فرائضه كلها أو بعضها في الخفاء، حتى اتفق ذلك لبعض

رؤساء الأديار. وأخبرنا والدي - رحمه الله تعالى - أنه عاد فلانًا القائمقام في أحد

أقضية جبل لبنان في مرض موته - وكان صديقًا له - فخلا به فأشهده على نفسه أنه

مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. وأذكر أنني رأيت ذلك الرجل

وكنت طالب علم فسألني عن بعض الأحاديث النبوية وكان يذكر النبي - صلى الله

عليه وسلم - بتعظيم فوق المعتاد في مجاملة أدباء النصارى للمسلمين فحملت ذلك

على المبالغة في المجاملة.

وإنني أعرف أفرادًا من فضلاء النصارى المستقلين يودّون لو كان في البلاد

حرية دينية يعذرهم بها أهلهم إذا هم أسلموا، منهم من يود لو كان مسلمًا اعتقادًا منه

بأفضلية الإسلام ورجحانه على جميع الأديان ، ومنهم من يود ذلك لغرض سياسي

اجتماعي وهو التمكن من التأثير في إصلاح بلاده التي يجزم بأنها لا تصلح إلا إذا

صلح المسلمون وجاروا الأمم القوية في أسباب العزة والحضارة. وهذا الصنف

كثير جدًّا. ولو كان للإسلام حكومة تقيم بنيانه وتنفذ أحكامه، وتحمل الأمة على

فضائله، وتظهر للناس حقيقة عدله وسماحته، لرأيت الناس يدخلون فيه أفواجًا،

ولكن رؤساء المسلمين هم أشد تنفيرًا عن الإسلام من دعاة الأديان الأخرى

ورؤسائها، ومن كل أحد. وما هذه إلا عوارض لا تدوم، إذ وعد الله تعالى بأن

يظهره على الدين كله وكان الله قويًّا عزيزًا.

_________

(1)

حاشية للمترجم: عاش هذا الرجل بين سنة 296 - 373 م.

ص: 34

الكاتب: جمال الدين القاسمي

‌تاريخ الجهمية والمعتزلة [*]

(12)

ما نتج من تعصب الجهمية والأثرية، وبيان آفة الغلو في التعصب

(قال الإمام الغزالي) في إحياء علوم الدين: وأما الكلام - أي علم

الكلام - فمقصوده حماية المعتقدات التي نقلها أهل السنة من السلف الصالح لا

غير.

(ثم قال) : ويحتاج إليه لمناظرة مبتدع، ومعارضة بدعته بما يفسدها

وينزعها عن قلب العامي، وذلك لا ينفع إلا مع العوام قبل اشتداد تعصبهم. وأما

المبتدع بعد أن يعلم من الجدل ولو شيئًا يسيرًا، فقلّما ينفع معه الكلام، فإنك إن

أفحمته لم يترك مذهبه، وأحال بالقصور على نفسه وقدر أن عند غيره جوابًا ما،

وهو عاجز عنه، وإنما أنت ملبس عليه بقوة المجادلة. وأما العامي إذا صرف عن

الحق بنوع جدل يمكن أن يرد إليه بمثله قبل أن يشتد التعصب للأهواء، فإذا اشتد

تعصبهم وقع اليأس منهم؛ إذ التعصب سبب يرسخ العقائد في النفوس، وهو من

آفات علماء السوء، فإنهم يبالغون في التعصب للحق، وينظرون إلى المخالفين

بعين الازدراء والاستحقار، فينبعث منهم الدعوى بالمكافأة والمقابلة والمعاملة،

وتتوفر دواعيهم على طلب نصرة الباطل، ويقوى غرضهم في التمسك بما نسبوا

إليه، ولو جاؤوا من جانب اللطف والرحمة والنصح في الخلوة لا في معرض

التعصب والتحقير، لأنجحوا فيه؛ ولكن لما كان الجاه لا يقوم إلا بالاستتباع، ولا

يستميل الاتباع مثل التعصب واللعن والشتم للخصوم، اتخذوا التعصب عادتهم

وآلتهم، وسمّوه ذبًّا عن الدين، ونضالاً عن المسلمين، وفيه - على التحقيق -

هلاك الخلق، ورسوخ البدعة في النفوس. اهـ.

(وقال الغزالي) رحمه الله أيضًا؛ في الجدل المذموم ومضراته: وله

ضرر آخر في تأكيد اعتقاد المبتدعة للبدعة، وتثبيتها في صدورهم، بحيث تنبعث

دواعيهم، ويشتد حرصهم على الإصرار عليه؛ قال: ولكن هذا الضرر بواسطة

التعصب الذي يثور من الجدل، ولذلك ترى المبتدع العامي يمكن أن يزول اعتقاده

باللطف في أسرع زمان، إلا إذا كان نشوؤه في بلد يظهر فيها الجدل والتعصب،

فإنه لو اجتمع عليه الأولون والآخرون لم يقدروا على نزع البدعة من صدره، بل

الهوى والتعصب وبعض خصوم المجادلين وفرقة المخالفين يستولي على قلبه،

ويمنعه من إدراك الحق، حتى لو قيل له: هل تريد أن يكشف الله تعالى لك الغطاء،

ويعرفك بالعيان أن الحق مع خصمك؟ لكره ذلك خيفة أن يفرح به خصمه (قال)

وهذا هو الداء العظيم الذي استطار في البلاد والعباد، وهو نوع فساد أثاره

المجادلون بالتعصب فهذا ضرره. اهـ.

وقال العلامة المقبلي في العلم الشامخ: واعلم أن الخلاف والتعصب والتحزب

هو الذي حمل سيوف بعض المسلمين على بعض، وحلل دماءهم وأموالهم

وأعراضهم، وحرف الكتاب والسنة، ثم صيَّرهما كالعدم بسد باب الاجتهاد اهـ.

و (قال أيضًا) : ثم ترتب على الافتراق تقويم كل لعمود الشقاق، وصار كل

منهم إنما يعتز بمن مال إليه من الملوك على خصمه. اهـ.

وبالجملة فمن أعظم آفات التعصب ما نشأ عنه من التفرق والتعادي، بحيث

صار يرثه المتأخر عن المتقدم، حتى أصبح يبغض القريب قريبه إذا وجده يخالف

رأيه، ويلصق به كل تهمة شنعاء ولو أقام على صحة رأيه مئين من البراهين؛ بل

بلغ احتقار بعضهم لبعض مبلغًا دفع به أن يحنق على مخالفه، ويتحين الفرص

للإيقاف به، حتى إذا بدرت منه هفوة، أو ظهرت زلة - ولا معصوم إلا المعصوم -

رفع مخالفه عقيرته بتأنيبه، وملأ الأرض والسماء صراخًا بتشهيره، غير مبال

بما حظره الشرع مما يولد البغضاء والشحناء، ويفكك عرى الإخاء، ولا ملام على

الدهماء من ترويج مثل هذه الخطة الشائنة لغرقهم في بحار الجهل، وإنما يلام قادة

الأفكار على احتذائهم هذا الحذو، ونسجهم على هذا المنوال، إذ لولا صخب هؤلاء

الرهط، وبثهم هذه الألقاب في النفوس، لكانت الأمة متماسكة الأجزاء، متينة

عرى المحبة بين الأفراد.

نعم؛ لا بأس أن تُنْتَقَدَ الأَقْوَالُ، وتُضَعَّفَ بالبُرْهَانِ، ويُوَضَّحَ كلُّ خَطَأٍ يَنْجُمُ

عنها؛ ولكن الذي يجب التوقي منه هو أن يتشاحن قادة العقول ويتطاحنوا

ويتبغضوا لما لا يصح أن يكون سببًا معقولاً، وأن يثب كلٌّ على مخالفه وثبة الغادر

المنتقم، فيود أن ينكل به أو يمزقه شر ممزَّق، فيقتفي أثرهم مقلدها، فتصبح الأمة

أعداءً متشاكسة، وأحزابًا متنافرة، بشؤم التعصب الذميم، الذي لم يتمكن من أمة

إلا وذهب بها مذهب التفرق والانحطاط، وأضعف قواها، وأحاق بها الخطوب

والأرزاء، فمن الواجب العلم على ملاشاة الشحناء والشقاق، والقيام بالتحابّ

والاتفاق، وبالله التوفيق.

(13)

حظر الأئمة للمحققين، رمي فرق المسلمين بالكفر والفسق

من أعظم ما بليت به الفرق الإسلامية، رمي بعضها بعضًا بالفسق والكفر،

مع أن قصد كلٍّ الوصول إلى الحق، بما بذلوا جهدهم لتأييده واعتقاده، والدعوة

إليه، فالمجتهد منهم - وإن أخطأ - مأجور (وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية) في

كتابه موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول [1] عن الإمام الرازي (في نهاية العقول)

في مسألة التكفير ما مثاله: قال الشيخ أبو الحسن الأشعري في أول كتاب (مقالات

الإسلاميين) : اختلف المسلمون بعد نبيهم في أشياء ضلّل فيها بعضهم بعضًا وتبرّأ

بعضهم من بعض فصاروا فرقًا متباينين، إلا أن الإسلام يجمعهم فيعمهم. فهذا

مذهبه، وعليه أكثر الأصحاب، ومن الأصحاب من كفر المخالفين.

وأما الفقهاء، فقد نقل عن الشافعي رضي الله عنه قال: لا أردّ شهادة أهل

الأهواء إلا الخطّابية [2] ، فإنهم يعتقدون حل الكذب. وأما أبو حنيفة رضي الله عنه،

فقد حكى الحاكم صاحب المختصر في كتاب المنتقى عن أبي حنيفة أنه لم يكفر

أحدًا من أهل القبلة، وحكى أبو بكر الرازي عن الكرخي وغيره مثل ذلك.

وأما المعتزلة، فالذين كانوا قبل أبي الحسين تحامقوا وكفّروا أصحابنا في

إثبات الصفات وخلق الأعمال. وأما المشبِّهة فقد كفرهم مخالفوهم من أصحابنا ومن

المعتزلة، وكان الأستاذ أبو إسحاق يقول: أكفِّر من يكفِّرني، وكل مخالف يكفرنا

فنحن نكفره وإلا فلا.

ثم قال الرازي: والذي نختاره أن لا نكفر أحدًا من أهل القبلة، والدليل عليه

أن نقول: المسائل التي اختلف أهل القبلة فيها مثل أن الله تعالى هل هو مُوجِدٌ لأفعال

العباد أم لا؟ وأنه هل هو متحيز، وهل هو في مكانٍ وجِهَة، وهل هو مرئيّ أم لا؟

لا يخلو إما أن تتوقف صحة الدين على معرفة الحق فيها أو لا تتوقف، والأول

باطل؛ إذ لو كانت معرفة هذه الأصول من الدين، لكان الواجب على النبي -

صلى الله عليه وسلم أن يطالبهم بهذه المسائل؛ بل ما جرى حديث من هذه

المسائل في زمانه عليه السلام، ولا في زمان الصحابة والتابعين رضي الله عنهم،

علمنا أنه لا يتوقف صحة الإسلام على معرفة هذه الأصول، وإذا كان كذلك لم يكن

الخطأ في هذه المسائل قادحًا في حقيقة الإسلام، وذلك يقتضي الامتناع من تكفير

أهل القبلة. اهـ.

ثم قال الإمام ابن تيمية بعد ذلك: (والأصل في هذا الباب أن الألفاظ نوعان:

مذكور في كتاب الله وسنة رسوله، وكلام أهل الإجماع، فهذا يجب باعتبار معناه

وتعليق الحكم به، فإن كان المذكور به مدحًا استحق صاحبه المدح، وإن كان ذمًّا

استحق الذم، وإن أثبت شيئًا وجب إثباته وإن نفى شيئًا وجب نفيه؛ لأن كلام الله حق

وكلام رسوله حق، وكلام أهل الإجماع حق. ومن دخل في اسم مذموم في الشرع

كان مذمومًا؛ كاسم الكافر والمنافق والملحد ونحو ذلك، ومن دخل في اسم محمود في

الشرع كان محمودًا كاسم المؤمن والتقيّ والصدّيق ونحو ذلك) .

وأما الألفاظ التي ليس لها أصل في الشرع، فتلك لا يجوز تعليق المدح والذم

والإثبات والنفي على معناها، إلا أن يبين أنه يوافق الشرع، والألفاظ التي تعارض

بها النصوص هي من هذا الضرب كلفظ الجسم والحيز والجهة والجوهر والعَرَض،

فمن كانت معارضته بمثل الألفاظ؛ لم يجز له أن يكفر مخالفه إن لم يكن قوله مما

يبين الشرع أنه كفر؛ لأن الكفر حكم شرعي متلقى عن صاحب الشريعة، والعقل

قد يعلم به صواب القول وخطؤه، وليس كل ما كان خطأ في العقل يكون كفرًا في

الشرع، كما أنه ليس كل ما كان صوابًا في العقل يجب في الشرع معرفته، ومن

العجب قول من يقول من أهل الكلام: أن أصول الدين التي يكفر مخالفها هي علم

الكلام الذي يعرف بمجرد العقل، وأما ما لا يعرف بمجرد العقل فهي الشرعيات

عندهم، وهذه هي طريقة المعتزلة والجهمية ومن سلك سبيلهم كأتباع صاحب

الإرشاد وأمثالهم، فيقال لهم: هذا الكلام يتضمن شيئين: أحدهما أن أصول الدين هي

التي تعرف بالعقل المحض دون الشرع، والثاني أن المخالف لها كافر، وكل من

المقدمتين وإن كانت باطلة، فالجمع بينهما متناقض، وذلك أن ما لا يعرف إلا بالعقل

لا يعلم أن مخالفه كافر الكفر الشرعي، فإنه ليس في الشرع أن من خالف ما لا يعلم

إلا بالعقل يكفر، وإنما الكفر يكون بتكذيب الرسول فيما أخبر به، أو الامتناع عن

متابعته، مع العلم بصدقه، مثل كفر فرعون واليهود، ونحوهم.

وفي الجملة فالكفر متعلق بما جاء به الرسول لا بمجرد ما يعلم بالعقل، فكيف

يجوز أن يكون الكفر بأمور لا تعلم إلا بالعقل؟ إلا أن يدل الشرع على أن تلك الأمور

التي لا تعلم إلا بالعقل كفر، فيكون حكم الشرع مقبولاً، لكن معلوم أن هذا لا يوجد

في الشرع بل الموجود في الشرع تعليق الكفر بما يتعلق به الإيمان، وكلاهما متعلق

بالكتاب والرسالة، فلا إيمان مع تكذيب الرسول ومعاداته، ولا كفر مع

تصديقه وطاعته.

ومن تدبر هذا رأى أهل البدع من النفاة يعتمدون على مثل هذا فيبتدعون بدعًا

بآرائهم، وليس فيها كتاب ولا سنة، ثم يكفرون من خالفهم فيما ابتدعوه، وهذا

حال من كفر الناس بما أثبتوه من الأسماء والصفات التي يسميها هو تركيبًا وتجسيمًا

وإثباتًا لحلول الصفات والأعراض به ونحو ذلك من الأقوال التي ابتدعها الجهمية

والمعتزلة ثم كفَّروا من خالفهم فيها. اهـ كلام الإمام ابن تيمية رحمه الله.

ولب هذا كله قوله: (فلا إيمان مع تكذيب الرسول ومعاداته، ولا كفر مع

تصديقه وطاعته) وما ذكره ونقله قبل هو الفيصل في هذا الباب.

وقال رحمه الله في شرح الأصفهانية: (خاصة أهل السنة المتبعين للرسول -

صلى الله عليه وسلم هي أنهم يتبعون الحق ويرحمون من خالفهم باجتهاد، حيث

عذره الله ورسوله) اهـ.

وإنما رحموه لأنهم تجمعهم أخوة الإيمان، وقد قال تعالى:{رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (الفتح: 29) ، فالمؤمنون مهما اختلف اجتهادهم، وتباينت مداركهم، فهم إخوة

يتراحمون، يتآلفون ولا يتباغضون، ولا يلزم من اختلاف الرأي اختلاف القلوب،

وبالله التوفيق.

(14)

بيان أنه لا تضليل، لمن أصاره اجتهاده إلى التأويل

قدمنا أولاً أنا لم نرد في هذه الورقات ذكر عقائد الجهمية والمعتزلة، ولا

مناقشتهم؛ لأن لذلك مواضع معروفة، لا سيّما وهذا المقام طويل الذيل، متشعب

المناحي، ويكفي أنه لأجله صنّف ودوّن علم الكلام، وإنما أردنا تعرف شأن هاتين

الفرقتين من الوجهة التاريخية، وقد أتينا على جمل منها.

بقي التنبيه على النصفة مع مجتهدي فرق الإسلام ومجافاة التضليل عن كل

من التزم قانون التأويل، فنقول: قد وقَرَ في قلوب كثير من الناس رمي أمثال

المعتزلة بالمروق والضلال والزيغ، تقليدًا لمن ينبزهم بذلك من حشوية المتفيهقين،

وهذا من أغرب الغريب، إذ كيف يصح هذا وكان القائمون بمذهب المعتزلة خلفاء

الإسلام في العهد العباسي، وقضاتهم وعدة من علمائهم؟ وهم يحتجون لما يدعون،

ويبرهنون على ما يذهبون، لا جرم أنهم - وإن أخطؤوا - لمجتهدون.

وممّا يدل على أن هذا العقد بلغ تمكن صحته من نفوسهم منتهاه من اليقين

حملهم الخلفاء على إكراه الناس عليه ابتغاء نجاتهم - بزعمهم - بتصحيح عقيدتهم

على ما يرون، وجليّ أن كل من استدل على ما يراه، واحتج على دعواه، فقد آذن

في اجتهاده فيه، وتحرى الحق فيما يقصده ويبغيه، فقصارى أمره إذا نقض برهانه

ودحضت حجته؛ أن يكون مجتهدًا مخطئًا، وهو معذور بل مأجور، إذ لم يرد إلا

الحق، فمن أين يسوغ بعد ذلك قرض الأعراض بالتضليل والتفسيق، وتثوير

المنبوز على المقابلة بالمثل بل الأمثال، والخروج بالإقذاع عن آداب

المناظرة والجدال.

إنَّ نبز الفرق المتجادلة بتلك الألقاب أوجب أن تصرف الألباب عن النظر في

أدلة كل منها، لتزن المقبول منها بمعياره، والمردود بمقداره؛ لأنها حاولت الضغط

على الأفكار، وحرمانها من حرية البحث والنظر والتأمل، لتحملها على رأي واحد،

ومذهب منفرد، وذلك ما كان ولن يكون.

إن اختلاف الآراء لا يدعو بطبيعته إلى الحفائظ والأضغان، وغرس الأحقاد

والشنآن، ولكن أكثر الفرق استولت على مناظرتها الضغائن، فذهبت بهم مذهب

التشفي والانتقام، هذه بالنبز بالألقاب السوء، وتلك بها أو بسلطتها الجائرة،

واضطهادها لمخالفيها بضروب العذاب.

من عجيب أمر التنابز، أن الإغراق فيه قد يغري خلي الذهن بالبحث عن المنبوز

والتنقيب عنه، فيحمله على التأمل في مداركه، والتبصر في مآخذه، فربما انضم

إليه وشايعه تقليدًا أو نظرًا واستدلالاً.

فالمتحاملون على فئة قد يحببون فيها من حيث يريدون التنفير منها، ويجذبون

إليها مما يأملون به الإبعاد عنها، ويصدق فيهم قول القائل:

دع عنك لومي فإن اللوم إغراء

هؤلاء المتحاملون يرون أعظم منفر عن خصومهم هو التكفير، وفاتهم أن هذا

لا يغني من البرهان، ولا يجزئ من الحق شيئًا؛ بل قد يكون من أعظم أمانيّ

الخصوم، فإن الفكر الذي يحارب بهذا الاسم ربما يكون قد بلغ أشُدَّه واستوى،

ووصل إلى أعماق الرسوخ ورسا.

ولمّا حاول أعداء حجة الإسلام الغزالي - عليه الرحمة والرضوان - رميه

بالكفر (وما أسهل رميهم به لأمثاله) لمخالفته الأشعري، انتدب لتأليف كتاب يهدي

إلى حقيقة الكفر والزندقة، سمّاه (فيصل التفرقة، بين الإسلام والزندقة) ، قال في

خطبته: فهوِّن أيها الأخ المشفق على نفسك، لا يضيق به صدرك، وفلَّ من غربك

قليلاً، واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرًا جميلاً، واستحقرمن لا يحسد ولا

يقذف، واستصغر من بالكفر والضلال لا يعرف [3] .

ونقل الإمام الغزالي أيضًا في المستصفى أن عليًّا - كرم الله وجهه - استأذنه

قضاته في البصرة في القضاء بشهادة أهل البصرة من الخوارج وغيرهم أو ردّها،

فأمرهم بقبولها كما كان قبل الحرب؛ لأنهم حاربوا على تأويل، وفي رد شهادتهم

تعصب وتجديد خلاف. اهـ.

فانظر كيف تسامح مع أهل التأويل من المبدعين وقبل شهادتهم وزكاهم

وعدلهم، فهل يصح بعد هذا النبز بالتفسيق أو التضليل؟ حاشا وكلا! وهذا لمن

عرف الرجال بالحق، لا الحق بالرجال، والله المستعان.

(15)

ما وصى به الأئمة من اطِّراح أقوال العلماء بعضهم في بعض،

ومن التماس الحكمة أينما وجدت

روى الإمام حافظ المغرب يوسف بن عبد البر في كتابه (جامع العلم وفضله)

في باب حكم قول العلماء بعضهم في بعض عن ابن عباس رضي الله عنهما

قال: استمعوا علم العلماء، ولا تصدقوا بعضهم على بعض.

وعنه رضي الله عنه قال: خذوا العلم حيث وجدتم، ولا تقبلوا قول

الفقهاء بعضهم على بعض.

وعن مالك بن دينار قال: يؤخذ بقول العلماء والقراء في كل شيء إلا قول بعضهم في بعض.

وعن عبد العزيز بن أبي حازم قال: سمعت أبي يقول: العلماء كانوا فيما مضى من

الزمان إذا لقي العالم من هو فوقه في العلم كان ذلك يوم الغنيمة، وإذا لقي من هو

مثله ذاكره، وإذا لقي من هو دونه لم يُزْهَ عليه، حتى كان هذا الزمان، فصار

الرجل يعيب من هو فوقه ابتغاء أن ينقطع منه، حتى يرى الناس أنه ليس به حاجة

إليه، ولا يذاكر من هو مثله، ويزهى على من هو دونه، فهلك الناس.

(قال الإمام ابن عبد البر) : لقد تجاوز الناس الحد في الغِيبة والذم فلم

يقنعوا بذم العامّة دون الخاصة ولا بذم الجهّال دون العلماء، وهذا كله يحمل عليه

الجهل والحسد. ثم قال رحمه الله: ومن صحت عدالته، وعُلمت بالعلم عنايته،

وسلم من الكبائر ولزم المروءة، وكان خيره غالبًا، وشره أقل عمله، فهذا لا يقبل

فيه قول قائل لا برهان له به، فهذا هو الحق الذي لا يصح غيره إن شاء الله.

(وقال الذهبي) في ميزان الاعتدال - في ترجمة أبي نعيم أحد الأعلام:

صدوق تكلم فيه ابن منده بلا حجة كما تكلم هو في ابن منده. (قال الذهبي) : ولا

أقبل قول كل منهما في الآخر، بل هما عندي مقبولان. ثم قال: وكلام الأقران

بعضهم في بعض لا يعبأ به ولا سيّما إذا لاح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد ما

ينجو منه إلا من عصم اللهُ (قال) وما علمت أن عصرًا من الأعصار سلم أهله من

ذلك سوى الأنبياء والصديقين فلو شئت لسردت من ذلك كراريس. اهـ.

قال العلامة المقبلي: وأشدها عداوة ما كان من قبل المذهب لأنه يزعمه دينًا،

ويمرن عليه فيغر نفسه أنه دين، وحظ الهوى في ذلك أوفى وأوفر، نسأل الله

العافية، وأن يجعلنا ممن خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى.

وروى الإمام ابن عبد البر في كتاب (جامع العلم) في باب الحال التي ينال

بها العلم، عن علي - كرم الله وجهه - قال: العلم ضالة المؤمن فخذوه ولو من

أيدي المشركين ولا يأنف أحدكم أن يأخذ الحكمة ممن سمعها منه. وعنه كرم الله

وجهه قال: الحكمة ضالة المؤمن يطلبها ولو في أيدي الشُّرَط.

وروى ابن عبد البر قبل هذا الباب عن أيوب قال: إنك لا تعرف خطأ معلمك

حتى تجالس غيره. وعن علي رضي الله عنه قال: إن الناس أبناء ما يحسنون،

وقدر كل امرئ ما يحسن؛ فتكلموا في العلم تتبين أقداركم.

قال ابن عبد البر: إن قول علي بن أبي طالب (قيمة كل امرئ ما يحسنه)

لم يسبقه إليه أحد (قال) وقالوا: ليس كلمة أحض على طلب العلم منها (وقالوا)

ولا كلمة أضر بالعلم والعلماء والمتعلمين من قول القائل (ما ترك الأولُ للآخر شيئًا)

قال ابن عبد البر: قول علي رضي الله عنه (قيمة كل امرئ ما يحسن)

من الكلام المعجب الخطير وقد طار له الناس كل مطير، ونظمه جماعة من

الشعراء إعجابًا به، وكلفًا بحسنه، فمن ذلك ما يعزى إلى الخليل بن أحمد وهو

قوله:

لا يكون السّريّ مثلَ الدّنيّ

لا ولا ذو الذكاء مثل الغبِيّ

لا يكون الألدُّ ذو المقول المر

هف عند القياس مثل العَييّ

قيمة المرءِ كل ما يحسن المر

ءُ قضاء من الإمام عليّ

وقال غيره:

يلوم على أن رحت للعلم طالبًا

أجمع من عند الرواة فنونه

فيا لائمي دعني أغالي بقيمتي

فقيمة كل الناس ما يحسنونه

وقال أبو العباس الناشئ:

تأمل بعينيك هذا الأنا

م فكن بعض من صانه عقله

فحلية كل فتى فضله

وقيمة كل امرئ نبله

فلا تتكل في طلاب العلا

على نسب ثابت أصله

فما من فتى زانه قوله

بشيء يخالفه فعله

ومما ينسب لعلي رضي الله عنه:

الناس من جهة التمثال أكْفاء

أبوهم آدم والأم حواء

وإنما أمهات الناس أوعية

مستودَعات وللأحساب آباء

فإن يكن لهم من أصلهم شرف

يفاخرون به فالطين والماء

وأن أتيت بفخر من ذوي نسب

فإن نسبتنا جود وعلياء

ما الفضل إلا لأهل العلم إنهم

على الهدى لمن استهدى أدلاء

وقيمة المرء ما قد كان يحسنه

والجاهلون لأهل العلم أعداء

فقم بعلم ولا تبغ به بدلا

فالناس موتى وأهل العلم أحياء

وقد ورد في هذا الباب ما رواه الإمام مسلم في مقدمة صحيحه عن عائشة -

رضي الله عنها قالت: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل

الناس منازلهم. نسأله تعالى أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه {رَبَّنَا

اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا

إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (الحشر: 10) .

في جمادى الأولى سنة 1330

_________

(*) تابع لما نشر في ج 12 م 16 ص 913.

(1)

جزء 1 صفحة 49 وما بعدها من الطبعة الأميرية على حاشية منهاج السنة.

(2)

فرقة من غلاة الشيعة منسوبة إلى أبي الخطاب محمد بن مقلاص كان - قبحه الله - من الغلاة في جعفر الصادق عليه السلام ادعى له علم الغيب وغير لك حتى لعنه الصادق مرارًا لفساد عقيدته وخبثه وكذبه عليه وقد تبرأ الصادق عليه السلام منه، ومن أراد الوقوف على أخبار أبي الخطاب فليرجع إلى كتاب الشيعة للكشي فقد أسهب في شأنه في عدة أوراق) . اهـ.

(3)

يشير رحمه الله إلى أن ذلك صار وقفًا على أخبار العلماء وأعلام الجهابذة الحكماء، ولقد صدق رحمه الله وشاهده الاستقراء من لدن عصره وقبله إلى الآن.

ص: 41

الكاتب: أبو إسحاق الشاطبي

‌الباب الأول من كتاب الاعتصام [*]

في تعريف البدع وبيان معناها وما اشتق منه لفظًا

وأصل مادة (بدع) للاختراع على غير مثال سابق، ومنه قول الله تعالى:

{بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ} (البقرة: 117) ، أي مخترعهما من غير مثال سابق

متقدم، وقوله تعالى:{قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرُّسُلِ} (الأحقاف: 9) ، أي ما

كنت أول من جاء بالرسالة من الله إلى العباد بل تقدمني كثير من الرسل، ويقال:

ابتدع فلان بدعة يعني ابتدأ طريقة لم يسبقه إليها سابق، وهذا أمر بديع يقال في

الشيء المستحسن الذي لا مثال له في الحسن؛ فكأنه لم يتقدمه ما هو مثله ولا ما

يشبهه.

ومن هذا المعنى سميت البدعة بدعة، فاستخراجها للسلوك عليها هو الابتداع

وهيئتها هي البدعة، وقد يسمى العلم المعمول على ذلك الوجه بدعة، فمن هذا المعنى

سمي العمل الذي لا دليل عليه في الشرع بدعة، وهو إطلاق أخص منه في

اللغة حسبما يذكر بحول الله.

ثبت في علم الأصول أن الأحكام المتعلقة بأفعال العباد وأقوالهم ثلاثة: حكم

يقتضيه معنى الأمر كان للإيجاب أو الندب، وحكم يقتضيه معنى النهي كان

للكراهة أو التحريم، وحكم يقتضيه معنى التخيير وهو الإباحة. فأفعال العباد

وأقوالهم لا تعدو هذه الأقسام الثلاثة: مطلوب فعله، ومطلوب تركه، ومأذون في

فعله وتركه. والمطلوب تركه لم يطلب إلا لكونه مخالفًَا للقسمين الأخيرين، لكنه

على ضربين:

(أحدهما) : أن يطلب تركه وينهى عنه لكونه مخالفة خاصة مع تجرد

النظر عن غير ذلك، وهو إن كان محرمًا سُمي فعله معصية وإثمًا، وسمي فاعله

عاصيًا وآثمًا، وإلا لم يسم بذلك، ودخل في حكم العفو حسبما هو مبين في غير

هذا الموضع. ولا يسمى بحسب الفعل جائزًا ولا مباحًا لأن الجمع بين الجواز

والنهي جمع بين متنافيين.

(والثاني) : أن يطلب تركه وينهى عنه؛ لكونه مخالفة لظاهر التشريع من

جهة ضرب الحدود وتعيين الكيفيات والتزام الهيئات المعينة أو الأزمنة المعينة مع

الدوام ونحو ذلك.

وهذا هو الابتداع والبدعة ويسمى فاعله مبتدعًا - فالبدعة إذن عبارة عن

طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية، يقصد بالسلوك عليها في معنى البدعة

وإنما يخصها بالعبادات. وأما على رأي من أدخل الأعمال العادية في معنى البدعة

فيقول: (البدعة طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية، يقصد بالسلوك عليها

ما يقصد بالطريقة الشرعية) . ولا بد من بيان ألفاظ هذا الحد: فالطريقة والطريق

والسبيل والسنن هي بمعنى واحد، وهو ما رسم للسلوك عليه، وإنما قيدت بالدين

لأنها فيه تخترع وإليه يضيفها صاحبها، وأيضًا فلو كانت طريقة مخترعة في الدنيا

على خصوص لم تسم بدعة؛ كإحداث الصنائع والبلدان التي لا عهد بها فيما تقدم.

ولمّا كانت الطرائق في الدين تنقسم: فمنها ما له أصل في الشريعة، ومنها

ما ليس له أصل فيها - خص منها ما هو المقصود بالحد وهو القسم المخترع، أي

طريقة ابتدعت على غير مثال تقدمها من الشارع؛ إذ البدعة إنما خاصتها أنها

خارجة عمّا رسمه الشارع، وبهذا القيد انفصلت عن كل ما ظهر لبادي الرأي أنه

مخترع ممّا هو متعلق بالدين، كعلم النحو والتصريف ومفردات اللغة وأصول الدين،

وسائر العلوم الخادمة للشريعة. فإنها وإن لم توجد في الزمان الأول فأصولها

موجودة في الشرع؛ إذ الأمر بإعراب القرآن منقول وعلوم اللسان هادية للصواب

في الكتاب والسنة فحقيقتها إذًا أنها فقه التعبد الشرعية بالألفاظ الدالة على معانيها كيف

تؤخذ وتؤدّى.

وأصول الفقه إنما معناها استقراء كليات الأدلة حتى تكون عند المجتهد نصب

عين وعند الطالب سهلة الملتمس.

وكذلك أصول الدين - وهو علم الكلام - إنما حاصله تقرير لأدلة القرآن

والسنة، أوْ ما ينشأ عنها في التوحيد وما يتعلق به، كما كان الفقه تقريرًا لأدلتها في

الفروع العبادية.

(فإن قيل) . فإن تصنيفها على ذلك الوجه مخترع.

(فالجواب) : أنَّ له أصلاً في الشرع، ففي الحديث ما يدل عليه، ولو سلم

أنه ليس في ذلك دليل على الخصوص فالشرع بجملته يدل على اعتباره، وهو

مستمد من قاعدة المصالح المرسلة، وسيأتي بسطها بحول الله.

فعلى القول بإثباتها أصلاً شرعيًّا لا إشكال في أن كل علم خادم للشريعة داخل؛

تحت أدلته التي ليست بمأخوذة من جزئي واحد. فليست ببدعة ألبتة.

وعلى القول بنفيها لا بد أن تكون تلك العلوم مبتدعات. وإذا دخلت في علم

البدع كانت قبيحة؛ لأن كل بدعة ضلالة من غير إشكال، كما يأتي بيانه إن شاء

الله.

ويلزم من ذلك أن يكون كتب المصحف وجمع القرآن قبيحًا، وهو باطل

بإجماع، فليس إذًا ببدعة. ويلزم أن يكون له دليل شرعي، وليس إلا هذا النوع

من الاستدلال، وهو المأخوذ من جملة الشريعة.

وإذا ثبت جزئيٌّ في المصالح المرسلة، ثبت مطلق المصالح المرسلة؛ فعلى هذا لا ينبغي أن يسمى علم النحو أو غيره من علوم

اللسان أو علم الأصول أو ما أشبه ذلك من العلوم الخادمة للشريعة بدعة أصلاً.

ومن سمّاه بدعة فإمّا على المجاز؛ كما سمى عمر بن الخطاب - رضي الله

عنه - قيام الناس في ليالي رمضان بدعة. وإما جهلاً بمواقع السنة والبدعة، فلا

يكون قول من قال ذلك معتدًّا به ولا معتمدًا عليه.

وقوله في الحد (تضاهي الشرعية) يعني أنها تشابه الطريقة الشرعية من

غير أن تكون في الحقيقة كذلك، بل هي مضادة لها من أوجه متعددة.

منها وضع الحدود كالناذر للصيام قائمًا لا يقعد، ضاحيًا لا يستظل.

والاختصاص في الانقطاع للعبادة، والاقتصار من المأكل والملبس على صنف دون

صنف من غير علة.

ومنها التزام الكيفيات والهيآت المعينة، كالذكر بهيئة الاجتماع على صوت

واحد، واتخاذ يوم ولادة النبي صلى الله عليه وسلم عيدًا، وما أشبه ذلك.

ومنها التزام العبادات المعينة في أوقات معينة لم يوجد لها ذلك التعيين في

الشريعة، كالتزام صيام يوم النصف من شعبان، وقيام ليلته [1] .

وثَمَّ أوجه تضاهي بها البدعة الأمور المشروعة فلو كانت لا تضاهي الأمور

المشروعة لم تكن بدعة؛ لأنها تصير من باب الأفعال العادية.

وأيضًا فإن صاحب البدعة إنما يخترعها ليضاهي بها السنة؛ حتى يكون

ملبسًا بها على الغير، أو تكون هي ممّا تلتبس عليه بالسنة، إذ الإنسان لا يقصد

الاستتباع بأمر لا يشابه المشروع؛ لأنه إذ ذاك لا يستجلب به في ذلك الابتداع نفعًا،

ولا يدفع به ضررًا، ولا يجيبه غيره إليه. ولذلك تجد المبتدع ينتصر لبدعته

بأمور تخيل التشريع ولو بدعوى الاقتداء بفلان المعروف منصبه في أهل الخير.

فأنت ترى العرب الجاهلية في تغيير ملة إبراهيم عليه السلام كيف تأولوا فيما

أحدثوه احتجاجًا منهم، كقولهم في أصل الإشراك: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ

زُلْفَى} (الزمر: 3)، وترك الحُمْس الوقوف بعرفة لقولهم: لا نخرج من الحرم

اعتدادًا بحرمته. وطواف من طاف منهم بالبيت عريانًا قائلين: لا نطوف بثياب

عصينا الله فيها.

وما أشبه ذلك ممّا وجّهوه ليصيّروه بالتوجيه كالمشروع، فما ظنك بمن عُدَّ أو

عَدَّ نفسه من خواصّ أهل الملة؟ فهم أحرى بذلك، وهم المخطئون وظنهم الإصابة.

وإذا تبين هذا ظهر أن مضاهاة الأمور المشروعة ضرورية الأخذ في أجزاء الحد.

وقوله: (يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله تعالى) هو تمام معنى

البدعة إذ هو المقصود بتشريعها.

وذلك أن أصل الدخول فيها يحث على الانقطاع إلى العبادة والترغيب في ذلك؛

لأن الله تعالى يقول: {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات:

56) فكأن المبتدع رأى أن المقصود هذا المعنى، ولم يتبين له أن ما وضعه

الشارع فيه من القوانين والحدود كافٍ، فرأى من نفسه أنه لا بُدّ لما أطلق الأمر فيه

من قوانين منضبطة، وأحوال مرتبطة، مع ما يداخل النفوس من حب الظهور أو

عدم مظنته، فدخلت في هذا الضبط شائبة البدعة.

وأيضًا فإن النفوس قد تمل وتسأم من الدوام على العبادات المرتبة، فإذا جدد

لها أمر لا تعهده حصل لها نشاط آخر لا يكون لها مع البقاء على الأمر الأول،

ولذلك قالوا (لكل جديدة لذة) بحكم هذا المعنى، كمن قال: (كما تحدث للناس

أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور، فكذلك يحدث لهم مرغبات في الخير بقدر ما

حدث لهم من الفتور) .

وفي حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه: فيوشك قائل أن يقول: ما هم

بمتبعيّ فيتبعوني وقد قرأتك القرآن فلا يتبعني حتى أبتدع لهم غيره فإياكم وما ابتدع

فإن ما ابتدع ضلالة [2] .

وقد تبين بهذا القيد أن البدع لا تدخل في العادات، فكل ما اخترع من الطرق في

الدين مما يضاهي المشروع، ولم يقصد به التعبد فقد خرج عن هذه التسمية،

كالمغارم الملزمة على الأموال وغيرها على نسبة مخصوصة وقدر مخصوص مما

يشبه فرض الزكوات ولم يكن إليها ضرورة.

وكذلك اتخاذ المناخل وغسل اليد بالأُشنان وما أشبه ذلك من الأمور التي لم

تكن قبل، فإنها لا تسمى بدعًا على إحدى الطريقتين.

وأمّا الحدّ على الطريقة الأخرى فقد تبين معناه إلا قوله: (يقصد بها ما يقصد

بالطريقة الشرعية) . ومعناه أن الشريعة إنما جاءت لمصالح العباد في عاجلتهم

وآجلتهم لتأتيهم في الدارين على أكمل وجوهها، فهو الذي يقصده المبتدع ببدعته؛

لأن البدعة إمّا أن تتعلق بالعادات أو العبادات، فإن تعلقت بالعبادات فإنّما أراد بها

أن يأتي تعبده على أبلغ ما يكون في زعمه ليفوز بأتمّ المراتب في الآخرة في ظنه.

وإن تعلقت بالعادات فكذلك؛ لأنه إنما وضعها لتأتي أمور دنياه على تمام المصلحة

فيها. فمن يجعل المناخل في قسم البدع فظاهر أنّ التمتع عنده بلذّة الدقيق المنخول

أتمّ منه بغير المنخول.

وكذلك البناءات المشيدة المحتفلة، التمتع بها أبلغ منه بالحشوش والخرب.

ومثله المصادرات في الأموال بالنسبة إلى أولي الأمر، وقد أباحت الشريعة التوسع

في التصرفات، فيعد المبتدع هذا من ذلك.

وقد ظهر معنى البدعة وما هي في الشرع، والحمد لله.

***

فصل

وفي الحدّ أيضًا معنًى آخر ممّا ينظر فيه. وهو أن البدعة من حيث قيل فيها:

إنّها طريقة في الدين مخترعة

إلى آخره - يدخل في عموم لفظها البدعة التَّركية

كما يدخل فيه البدعة غير التركية، فقد يقع الابتداع بنفس الترك تحريمًا للمتروك أوْ

غير تحريم؛ فإن الفعل مثلاً قد يكون حلالاً بالشرع فيحرمه الإنسان على نفسهِ أو

يقصد تركه قصدًا.

فهذا الترك إمّا أنْ يكون لأمر يعتبر مثله شرعًا أو لا، فإن كان لأمر يعتبر فلا

حرج فيه، إذ معناه أنه ترك ما يجوز تركه أو ما يطلب بتركه [3] كالذي يحرِّم على

نفسه الطعام الفلاني من جهة أنه يضره في جسمه أو عقله أو دينه وما أشبه ذلك،

فلا مانع هنا من الترك. بل إن قلنا بطلب التداوي للمريض فإن الترك هنا مطلوب،

وإن قلنا بإباحة التداوي فالترك مباح، فهذا راجع إلى العزم على الحمية من

المضرات. وأصله قوله عليه السلام: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة

فليتزوج - إلى أن قال - ومن لم يستطع فعليه بالصوم) [4] الذي يكسر من شهوة

الشباب حتى لا تطغى عليه الشهوة فيصير إلى العنت.

وكذلك إذا ترك ما لا بأس به حذرًا مما به البأس فذلك من أوصاف المتقين،

وكتارك المتشابه حذرًا من الوقوع في الحرام واستبراءً للدين والعرض.

وإن كان الترك لغير ذلك، فإما أن يكون تدينًا أو لا. فإن لم يكن تدينًا

فالتارك عابث بتحريمه الفعل أو بعزيمته على الترك. لا يسمى هذا الترك بدعة

إذ لا يدخل تحت لفظ الحد إلا على الطريقة الثانية القائلة: أن البدعة تدخل في

العادات. وأمّا على الطريقة الأولى فلا يدخل. لكن هذا التارك يصير عاصيًا بتركه

أو باعتقاده التحريم فيما أحلّ الله.

وأما إن كان الترك تدينًا فهو الابتداع في الدين على كلتا الطريقتين، إذ قد

فرضنا الفعل جائزًا شرعًا فصار الترك المقصود معارضة للشارع في شرع التحليل [5]

وفي مثله نزل قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ

اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} (المائدة: 87) ، فنهى أولاً عن

تحريم الحلال. ثم جاءت الآية تشعر بأن ذلك اعتداء، وأن من اعتدى لا يحبه الله.

وسيأتي للآية تقرير إن شاء الله؛ لأن بعض الصحابة هَمّ أن يحرم على نفسه

النوم بالليل، وآخر الأكل بالنهار، وآخر إتيان النساء، وبعضهم هَمّ بالاختصاء،

مبالغة في ترك شأن النساء. وفي أمثال ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:

(من رغب عن سنتي فليس مني) .

فإذًا كل من منع نفسه عن تناول ما أحل الله من غير عذر شرعي فهو خارج

عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم. والعامل بغير السنة تدينًا هو المبتدع بعينه.

(فإن قيل) فتارك المطلوبات الشرعية ندبًا أو وجوبًا هل يسمى مبتدعًا أم لا؟

(فالجواب) إن التارك للمطلوبات على ضربين: (أحدهما) أن يتركها لغير

التدين إما كسلاً أو تضييعًا أو ما أشبه ذلك من الدواعي النفسية فهذا الضرب راجع

إلى المخالفة للأمر. فإن كان في واجب فمعصية، وإن كان في ندب فليس بمعصية

إذا كان الترك جزئيًّا، وإن كان كليًّا فمعصية حسبما تبيّن في الأصول،

(والثاني) أن يتركها تدينًا. فهذا الضرب من قبيل البدع حيث تدين بضد ما شرع

الله. ومثاله: أهل الإباحة القائلين بإسقاط التكليف إذا بلغ السالك عندهم المبلغ الذي

حَدُّوه:

فإذًا قوله في الحد (طريقة مخترعة تضاهي الشرعية) يشمل البدعة

التركية كما يشمل غيرها؛ لأن الطريقة الشرعية أيضًا تنقسم إلى ترك وغيره.

وسواء علينا قلنا إن الترك فعل؛ أم قلنا إنه نفي الفعل على الطريقتين

المذكورتين في أصول الفقه.

وكما يشمل الحد الترك يشمل أيضًا ضد ذلك، وهو ثلاثة أقسام: قسم الاعتقاد،

وقسم القول، وقسم الفعل. فالجميع أربعة أقسام. وبالجملة فكل ما يتعلق به

الخطاب الشرعي يتعلق به الابتداع. اهـ.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) الكتاب للإمام أبي إسحاق الشاطبي الأندلسي صاحب كتاب (الموافقات) في أصول الشريعة وحكمها، وهو يطبع الآن بمطبعة المنار على نفقة دار الكتب الخديوية التابعة لنظارة المعارف المصرية، فنبشر علماء الإسلام بذلك، وننشر لهم هذا النموذج منه.

(1)

هذا هو الصواب ولا يغترن أحد بترغيب الخطباء الجاهلين في ذلك، ولا بالحديث الذي

يذكرونه على منابرهم وهو: (إذا كانت ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها، فإن الله ينزل فيها لغروب الشمس إلى سماء الدنيا فيقول: ألا من مستغفر فأغفر له! ألا مبتلى فأعافيه! ألا كذا حتى يطلع الفجر) فإن هذا حديث واهٍ أو موضوع، رواه ابن ماجه وعبد الرزاق عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، وقد قال فيه ابن معين والإمام أحمد: إنه يضع الحديث. نقل ذلك محشي سنن ابن ماجه عن الزوائد، ووافقه الذهبي في الميزان في الإمام أحمد، وذكر عن ابن معين أنه قال فيه: ليس حديثه بشيء. وقال النسائي (متروك) .

(2)

كذا في الأصل فليراجع الحديث وليضبط.

(3)

لم يظهر لنا معنى الباء فالظاهر أنها زائدة من الناسخ.

(4)

تتمة الحديث بعد كلمة الصوم (فإنه له وجاء) فقوله (الذي يكسر من شهوة الشباب

إلخ)

من كلام المصنف يبين به علة كون الصوم وِجَاء. وهو إضعاف الشهوة على رأي الجمهور. وهو لا يظهر إلا في الصوم الكثير مع التقشف والاكتفاء عند الفطر بقليل الطعام، وإلا فإن الصوم من أسباب الصحة وزيادة القوة، حتى في المعيشة المعتدلة؛ وحينئذٍ يكون وجه الشبه بين الوجاء الذي هو دق عروق خصيتي الفحل المضعف أو المزيل لشهوته - وبين الصوم هو كون الصوم سبب التقوى، كما قال الله تعالى في تعليل فرضيته:[لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ](البقرة: 183) ؛ فمن أكثر من الصوم وترك ما يشتهي من الطعام والشراب المباحين لوجه الله تعالى يستفيد فائدتين: إحداهما ملكة مراقبة الله تعالى الذي يترك طعامه وشرابه لأجله. والثانية ملكة ترك الشهوات التي يحتاج إليها كل يوم فتقوى إرادته وعزيمته، فيسهل عليه ترك سائر الشهوات ومنه غض بصره وإحصان فرجه.

(5)

إن أهل الآستانة لا يأكلون لحم الحمام، فهو يعشش ويفرخ في مساجدهم وبيوتهم ولا يأكل أحد منه شيئًا، بل يتحرجون من ذلك وينكرونه، والظاهر أن عامتهم يعتقدون أن أكله حرام، أفلا يجب في هذه الحال على العلماء مقاومة هذه البدعة التركية بالقول والفعل.

ص: 54

الكاتب: صالح مخلص رضا

‌تقريظ المطبوعات الجديدة [*]

(كتاب الهدى إلى دين المصطفى)

(الجزء الأول منه لمؤلفه

النجفي في مدينة (سُرَّ مَنْ رَأَى) بالعراق، طبع بمطبعة العرفان طبعًا نظيفًا على ورق متوسط ص 392 بقطع المنار ثمنه 20 قرشًا، ويباع في مكتبة المنار بمصر) .

كثر دعاة النصرانية في هذه البلاد كما كثروا في كل بلد دخله النفوذ الغربي،

دخلوا القرى بدون إذن أهلها، وجاسوا خلال الديار رائدين الفتنة والتفريق، وقد

كان المسلمون - عامتهم وعلماؤهم - لا يحفلون بما يبثه هؤلاء الدعاة بين

المسلمين لسخافته وبداهة بطلانه، وليس في هذه البلاد من أثقله وزر آدم فيأتي هؤلاء

الذئابَ يحتمي منه في حظيرتهم، ولا من ضاق صدره بتوحيد الله عز وجل فيجيء

هؤلاء المعددين ليجد له عندهم متسعًا في ثالوثهم، ولا من حصر صدره بعصمة

الأنبياء الهداة حتى يتحكك بهؤلاء الكتبة؛ ليثلجوا صدره ويجرّؤه على المعاصي

بقصة نوح مع ولديه أو إبراهيم مع امرأته أو يهوذا مع كنَّته أو داود مع امرأة قائده

أو سليمان مع أصنام نسائه أو ابن يعقوب مع امرأة أبيه أو يعقوب مع ملاك ربه أو

لوط مع بنتيه.. إلخ. بل إن المسلمين ليسوا بمحتاجين مسيحهم الخيالي (وهو غير

مسيح الله عليه السلام الذي يدعي هؤلاء الصدوقيون أنهم يعبدونه وينكرون

سيرته الإنجيلية ويرون عصمته عن السكر وعن غسل أرجل التلاميذ وعن طرد

أمه وإخوته وإنكاره لها وعن البخل بهداية الكنعانية، إلى غير ذلك مما نراه في

أناجيلهم.

لا خوف من هذه التعاليم على عامة المسلمين فضلاً عن علمائهم، ولكن

السكوت على باطلهم خيَّل إليهم أنهم على حق فتفننوا في طرق دعوتهم حتى إنهم

ليصدرون بعض كراريسهم بالآيات القرآنية أو بخطب تضارع الخطب التي

اصطلح بعض الخطباء الرسميين على تلاوتها يوم العيد وأيام الجمع.. إلخ. كل

ذلك ليدخلوا إلى قلوب المسلمين فيفسدوا عليهم ما بقي لهم من دينهم، ويحلوا

الروابط التي تربطهم بأمتهم. ولذلك قام العلماء في جميع الأقطار يرسلون شهب

ردودهم فتخمد أنفاس شياطين التفريق، وأول من كتب في الرد عليهم في هذا

العصر بعقل وبحث وروية الشيخ رحمة الله الهندي ثم تبعه قوم آخرون هم عيال

عليه في هذا الباب. ثم رأينا مثالاً له في هذه الآونة من رسائل الدكتور صدقي

وكتاب النجفي، وهو هذا المؤلَّف الذي هو نتيجة بحث علمي وتمحيص المسائل

وتحقيقها.

فحيّا اللهُ العلامة النجفي فقد دحض مزاعم دعاة النصرانية بكتابه هذا وقذف

بحقه على باطلهم فإذا هو زاهق ولهم الويل مما يصفون.

وضع كتابه هذا ردًّا على كتاب (مقالة في الإسلام) لسايل الإنكليزي المترجم

بالعربية وعلى الكتاب البذيء المسمى بالهداية الموضوع للرد على كتاب (إظهار

الحق) ، وكتاب (السيف الحميدي) فهدم أركانها وقوّض بنيانها بالأدلة العقلية

والنقلية بعبارة طلية جلية، فيجدر بمن عني بالرد على هؤلاء المشاغبين أن يطلع

على هذا الكتاب.

***

(كشف الأستار عمّا لحقوق الدول من الأسرار)

الجزء الأول بقلم صبحي أباظه طبع بمطبعة العرفان بصيدا سنة 1331 ص

125 بقطع المنار ثمنه 20 قرشًا يطلب من مكتبة المنار بمصر.

اسم الكتاب يدل على موضوعه وفيه فوائد جمّة جاءت من طريق الاستطراد.

***

(في التربية والتعليم)

تأليف محمد أمين. طبع بمطبعة التقدم بمصر على ورق جيد. ص 114

بالقطع الصغير، ثمنه خمسة قروش ويطلب من مكتبة المنار بمصر.

مواضيع الكتاب - بعد مقدمة بقلم أحمد بك لطفي السيد مدير الجريدة -: (1)

الشكوى. (2) تشخيص العلة. (3) وصف الدواء؛ ثم الأطوار الثلاثة، في

البيت والمدرسة والمجتمع. (4) التربية الحسية والعملية والأخلاقية؛ ثم الخاتمة.

والكتاب مجموعة مقالات نشرت في الجريدة ثم طبعت على حِدَتها غير مصدَّرة

بالبسملة ولا الحمدلة، على سنة من يتفصون من كل ما يربطهم بالأمة الإسلامية

من الشعائر والمقومات والمشخصات.

***

مرشد المترجم الصغير (لطلبة الشهادة الابتدائية)

تأليف محمد السيد بك وكيل مدرسة المعلمين الناصرية وعوض إبراهيم بك

وكيل المدرسة السعيدية. طبع بمطبعة المعارف طبعًا نظيفًا ص 140 بالقطع

الوسط. ثمنه خمسة قروش، ويطلب من مكتبة المعارف ومكتبة المنار بمصر.

وضعه مؤلفها لطلبة الشهادة الابتدائية وتوخيًا في تذليل عقبات الترجمة من

العربية إلى الإنكليزية وبالعكس، وتسهيلها على التلميذ بشرح المفردات التي يهتدي

إليها بسهولة، وقد اطّلع عليه المستر استيفنز معلم الإنكليزية بمدرسة المعلمين

الناصرية. والكتاب يفيد التلميذ علمًا بالشئون الاجتماعية بمواضيعه المفيدة.

***

(الأجوبة المسكتة)

تأليف أحمد أفندي صابر من مستخدمي (نظارة الأوقاف) وقد طبع الطبعة

الثانية بمطبعة الجمالية بمصر؛ مع زيادات وتحسينات، ص 252 بقطع رسالة

التوحيد.

ثمنه خمسة قروش، ويطلب من مكتبة المنار بمصر، وهو غني عن التعريف.

***

(غاية الإنسان)

كتاب في الفلسفة الأدبية مفيد وضعه الفيلسوف جافينون وترجمته وسيلة محمد

مترجمة (روح الاعتدال) وناهيك بها سلاسة وجوده. ص 160 بقطع سابقه.

طبع بمطبعة المعارف طبعًا نظيفًا. ثمنه خمسة قروش ويطلب من مكتبة المعارف

ومكتبة المنار بمصر.

***

(أرجوزة ابن المعتز)

طبعت في المطبعة الجمالية بمصر سنة 1330 على نفقة ابن منصور في 24

ص بقطع رسالة التوحيد، على ورق جيد ثمنها قرش صحيح واحد، وتطلب من

المكاتب المصرية، وموضوع الأرجوزة تاريخ المعتضد بالله العباسي، وما هو

بالتاريخ الذي يعتد به.

***

نشوء الاجتماع (الجزء الأول منه)

تأليف بنيامين كد وتعريب محمد زكي صالح في طنطا طبع بمطبعة الأخبار

بمصر سنة 1913 على ورق جيد ص 135 بقطع (الإسلام والنصرانية) ثمنه

خمسة قروش، ويطلب من مكتبة المنار بمصر.

مواضيعه بعد مقدمة المترجم التي ألمت بموضوع الكتاب وآراء العلماء

والجرائد فيه هي: (1) الحاضر (2) أسباب الارتقاء (3) العقل لا يؤيد

أسباب الارتقاء (4) أجلى طبيعة في التاريخ الإنساني (5) وظيفة العقائد الدينية

في نشوء الاجتماع.

والكتاب مفيد في موضوعه، منبه للعقل موقظ للقوة المفكرة. وأرى أن

أستعير لتقريظه كلمة الأستاذ (ويسمن) الألماني التي كتبها في مقدمة الترجمة

الألمانية وهي: (لا أرمي إلى تحليل هذا الكتاب الفذ؛ بل أقول: إنه جدير بالنظر

والاعتبار

إلخ) والمرجو أن يظهر المعرب الجزء الثاني منه وأن يعتني

بترجمته وبتصحيحه ليسلم من مثل الأغلاط التي في الجزء الأول.

***

(كتاب آداب العرب)

تأليف إبراهيم بك العرب. طبعته نظارة المعارف على نفقتها في المطبعة

الأميرية سنة 1911 وقررت تدريسه في مدارسها الابتدائية وفي مدارس المعلمين

والمعلمات ويطلب من مخزن المعارف.

الكتاب مجموعة مواعظ منظومة على ألسن الحيوان والطير على نمط كتاب

الصادح والباغم.

***

(المطالعة الفصيحة لأمهات اليوم والغد)

الجزء الأول منه تأليف الشيخ مهدي أحمد خليل المدرس بمدرسة المعلمات في

بولاق. الطبعة الأولى منه سنة 1331 ص 205 بقطع رسالة التوحيد، ثمنه

خمسة قروش، ويطلب من مكتبة المنار بمصر.

الكتاب أدبي اجتماعي لغوي كبير الفائدة، ولذلك قررت نظارة المعارف

تدريسه لجميع تلميذات مدارس البنات العالية والابتدائية والخصوصية.

***

(محاسن الطبيعة وعجائب الكون)

تأليف اللورد (أفري) ترجمة وديع البستاني. ص 264 بالوسط طبع مطبعة

المعارف، وثمنه خمسة قروش، ويطلب من مكتبة المنار ومكتبة المعارف.

أبحاث الكتاب: تمهيد، عالم الحيوان، والنبات، والحقول والحراج، والماء،

والبحر، ثم القبة الزرقاء. وهو يجول في هذه الأبحاث جولة المفكر المتعقل

المعتبر. وإذا كان هذا الكتاب أسمى معاني وأكثر دقة من سائر ما قرأنا من مؤلفات

لورد أفري التي عربها وديع البستاني فإن ترجمته أصح وأسلم وأقل غلطًا من

جميعها أيضًا.

***

(رواية جزيرة الذهب)

مترجمة عن الألمانية بقلم ماري إبراهيم نجار، طبع الجزآن الأول والثاني

منها بمطبعة جريدة الهدي في نيويورك على نفقتها فكانت ص 254 بالقطع الوسط

وموضوعها تحويل الأفكار عن عبادة الذهب، وتضحية كل شيء في سبيل

الحصول عليه؛ إلى فكرة الإنسانية الراقية وما أجدر هذه المترجمة العاقلة الفاضلة،

باختيار هذه القصص المفيدة النافعة.

***

(مجلة العلوم الاجتماعية)

مجلة تصدر في بيروت تبحث في الحقوق والاقتصاد والاجتماع، سنتها

عشرة شهور شمسية تبتدئ من أيلول (سبتمبر) من كل سنة. الجزء منها 322

ص. منشئها المحامي توفيق أفندي الناطور المتخرج في مدرسة الحقوق في باريس،

ومدير تحريرها الشيخ محمد منيب أفندي الناطور من تلاميذ الأزهر ومدرسة

القضاء الشرعي.

قيمة اشتراكها في البلاد العثمانية ريالان مجيديان، وفي البلاد الأجنبية

عشرة فرنكات.

وإن في سعة منشئها ومديرها وتوخيهما النفع لها ما يوجب الإقبال عليها لما

يختاران نشره فيها من العلوم والفوائد التي أصبحت في هذا العصر حاجة من

حاجات الأمة، فنحن نرجو لها الرواج والنجاح، ونعده عنوانًا لاستعداد الأمة

للارتقاء. وقد فتحت بابًا لأدبيات اللغة العربية فضمت إلى فوائدها العلمية هذه

الفائدة اللغوية ويمكن الاشتراك فيها بواسطة مجلة المنار ومكتبته.

_________

(*) كتب تقاريظ هذا الجزء شقيقنا السيد صالح مخلص رضا.

ص: 63

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الشيخ علي يوسف

(3)

فصل في بقية الكلام على سياسته المصرية

بينَّا أن سياسة الشيخ في المؤيَّد كانت تدور في أول العهد على ثلاثة أقطاب:

(1)

تأييد سلطة الأمير ونفوذه (2) مقاومة نفوذ الاحتلال الإنكليزي (3)

الاعتماد في هذه المقاومة على نفوذ الدولة العثمانية وحقوقها الرسمية في مصر.

وكذا على نفوذ فرنسا ومصالحها السياسية فيها، وأنها بعد طول الاختبار وتغير

الحوادث طرأ عليها بعض التغيير. ونزيد ذلك بيانًا فنقول - وإن كررنا بعض

المعاني -:

إنه بعد حادثة فشودة علم المترجم أن الاتكال أو الاعتماد على عهود دولة

أوربية لا يكون إلا دون الاتكال على المواعيد العرقوبية، وأنه بعد اختبار السياسة

العثمانية بالغوص في أعماق الحوادث التي بيانها وبين أوربا، وبلقاء كبار رجالها

في الآستانة ومصر وأوربا، علم أنه لا يتكل عليها في شيء، وأن الذي يبني

عمله على الرجاء فيها فإنما يبني على شفا جرف؛ إذ لا يؤمن خذلانها له في كل

عمل، فاكتفى من خدمة الدولة فيما يسمونه المسألة المصرية بالمحافظة على حقوقها

الرسمية في مصر، وجعل فرماناتها الرسمية لأمراء مصر ركن استقلالها الركين،

الذي يصد به بعض ما يخشى من هجمات الاحتلال عليه. وأما فرنسة وسائر دول

أوربة فقد علم كما يعلم كل خبير بصير أنها دول تجارية تَتِّجر بالأمم والشعوب

والدول، وأنها لا تراعي في تجارتها حقًّا ولا عدلاً، ولا رحمة ولا فضلاً، وإنما

رأس مالها القوة والحيلة والأثرة، فلا يقدر أن يستفيد منها إلا من جعل منفعته

وسيلة إلى منفعتها، وهيهات أن يتسنى لأدنى أن يستخدم لمنافعه من هو أعلى منه

قوة وعلمًا. وما كل من تنفعه تقدر أن تستخدمه، وناهيك بدول أوربة ومعارضة

بعضها لبعض في سياستها أو مطامعها في بلادنا، فإذا أراد بعضها أن ينفعنا قليلاً

لينتفع منا كثيرًا، عارضه في ذلك من يكره لنا هذه المنفعة ويراها عقبة في طريق

مطامعه فينا.

وكان الفقيد يعلم أيضًا أن شعوب أوربة خير من حكوماتها، وأن فيهم كثيرًا

من الأحرار ومحبي الحق والخير لكل البشر، وأن رأي الشعب العام له السلطان

الأعلى على الحكومات؛ فلهذا كان يرى أخيرًا أنه ينبغي أن يكون للمصريين صلة

ببعض أهل الفضيلة من أحرار الإنكليز لعلهم يستعينون بهم على مقاصدهم،

وإيصال ما يشكون منه بحق من إنكليز مصر إلى إنكليز لندرة، حتى لا تكون

الشؤون المصرية محجوبة عن محبي الإنصاف، لا يعرفون منها إلا ما يكتبه عميد

إنكلترا في مصر إلى ناظر الخارجية في لندرة وبعض مراسلي الجرائد. والعلم بهذا

الرأي إما أن ينفع وإما أن لا يضر. ولكن عارضه فيه أحداث الوطنية في جريدة

اللواء وما أحدثوه بعد مصطفى كامل من الجرائد كدأبهم وعادتهم، وقد بينا وجه ذلك

عندهم في هذه الترجمة.

***

(الجرائد والأحزاب بمصر)

ونقول ههنا: إن السياسة في مصر لا مظهر لها إلا الجرائد، وقد تألفت

الأحزاب لأجل الجرائد ومديري سياسة الجرائد، ولم يستطع حزب من الأحزاب أن

يجعل جريدة أكثر رواجًا وقبولاً من جريدة أخرى عند الرأي العام بمصر.

وقد سبق القول بأن الجرائد العربية المؤثرة في الجمهور المصري كانت ثلاثة:

الأهرام والمقطم والمؤيد، وأن التنازع إنما كان أولاً بين الأهرام والمقطم؛ ثم

كانت الأهرام تشايع المؤيد بعد ظهوره لاتفاقه معها في الميل إلى السياسة الفرنسية

التي تعد الأهرام هي الركن الأول لها؛ ولأن مشايعته على المقطم كانت تعد من

آيات صدق الخدمة الوطنية لمصر. ولما انقطع أمل المصريين من فرنسة صارت

جريدة الأهرام في المرتبة الثانية بين الجرائد اليومية؛ بل كادت تموت من شدة

ضعفها؛ لولا أن تداركها همّة بشارة باشا تقلا القوية ومَن ساعده على تحريرها من

أذكياء الكتاب، وأعانه على ذلك ثقة جمهور التجار والزراع بأخبارها التجارية.

بذلك انتعشت بعد أن سقطت، وارتفعت بعد أن انخفضت، وحفظت مكانتها بين

الجرائد اليومية الكبرى، فإن لم تعد رأسًا في سياسة خاصة فهي رأس في الثروة

والمباحث العامة. ولا يضاهيها في هذين الأمرين إلا المقطم. فهما الآن في مقدمة

الجرائد المصرية في الثروة، وسعة الأخبار العامة، والقدرة على التصرف في

الكلام عن الشؤون المصرية، على أنهما لم تتألف لهما أحزاب، وإنما تلك كفاءة

أصحابهما ومحرريهما، والجمع بين حسن الإدارة، والبراعة في الكتابة.

وقد تألف في مصر ثلاثة أحزاب سياسية حول ثلاث جرائد يومية، هن أكبر

جرائد مسلمي هذا القطر وأوسعها انتشارًا: المؤيد واللواء والجريدة، ولم يكن لواحدة

منهن دخل يوازي دخل المقطم والأهرام إلا للمؤيد، فقد كان أوسع منهما انتشارًا

وعلى مقربة منهما في المال، ولو أتيح للمؤيد مدير مالي يسير بإدارته سيرة

أصحاب تينك الجريدتين لكان أوسع الجرائد ثروة، على أن الشيخ رحمه الله عاش

به في سعة ورخاء، كما يعيش الأمراء والكبراء، حتى تورط في شراء الدور

وأراضي البناء، في إبان إسراف الناس في التغالي بها، فركبته الديون وجاءت

سنوات العسرة المالية فأتت على تجميع ما في يده، وكادت تذهب بالمؤيد نفسه،

لولا أن تداركه بتأسيس شركة مساهمة له، فحالت دون موته، لا دون مرضه، فقد

مرض المؤيد أمراضًا أشرفت به على الموت عدة مرار، وصارت حركة ظهوره

كحركة المذبوح أو حركة الاستمرار، وهو لا يزال محتاجًا إلى تجديد الحياة، وإنما

يكون ذلك بحسن الإدارة والنظام، وجعل التحرير على الوجه الذي بيناه من قبل،

وهو ما به يظل المؤيد صاحب التأثير الأول في كل ما يتعلق بمصالح المسلمين في

مصر، وكذا في غيرها، ثم بالمصالح المصرية والعثمانية. فإذا قصَّر المؤيد في

هذا الأمر - الذي لم يكن لولاه أمرًا ذا بال - يحكم عليه الرأي العام الإسلامي بالعدم

والزوال، ويطلب بلسان حاله جريدة تحل محله حتى ينهض بها مَن يؤهله

الاستعداد من الشركات أو الأفراد.

وجملة ما نريد الاعتبار به أن المؤيد قد جعله مشربه الإسلامي والمصري

فوق جرائد القطر كلها، بل جعله حاجة طبيعية، مِنْ حَاج البلاد المصرية

فالإسلامية، ولقي من المساعدة والإقبال ما لم يلق غيره، ومع هذا كله لم يستطع

أن يكون في ثبات الأهرام والمقطم وفي مثل ثروتهما، ولا في المحافظة على

إشعار الجماهير بحاجاتهم إليه، وبأنه لا بد لهم في الحوادث الطارئة من رأيه،

وقد ألف صاحبه له حزبًا سياسيًّا سماه (حزب الإصلاح على المبادئ الدستورية)

فلم يفده قوة تذكر، ولا رد عنه غارة تشن، وإنما كانت قوته المعنوية في هجومه

ودفاعه سنان قلم الشيخ علي، وحسن استعماله لأسنة الأقلام التي كانت تساعده،

ومنها ما كان أنفذ من سنانه في بعض الشؤون وأقتل. فلما مرض الشيخ مرض

المؤيد، ولما مات خشي الناس أن يموت كما مات حزبه، ولكن الشركة المالية

تداركت حياته المادية، وعسى أن توفق لتدارك حياته المعنوي، فإن لم يتم هذا يفقد

مسلمو مصر الانتفاع بقوتهم المعنوية، ولا يبقى لهم قائد منهم في حياتهم السياسية

والأدبية، ولا مدافع يؤثر صوته في مصالحهم الدينية، فالشعب جريدة أحداث

جهال، والجريدة ليست إسلامية المشرب، والأهالي كذلك، على أنها ولدت سقطًا

كما قال أحد الأدباء. فالجريدة الإسلامية المصرية هي المؤيد، فإذا مات يعسر

وجود خلف له. وإنني بهذه الحرية في النصيحة، ربما أثير على نفسي حقدًا قديمًا

وعداوة جديدة، ولا أبالي ذلك في سبيل مصلحة المسلمين، على أنني لست على ثقة

من قبولها، والله الموفق.

وأما اللواء فقد بينا أن منشئه تربى في مدرسة المؤيد السياسية، فكان تلميذًا له،

إلا أنه عقه وكفره، وكان يحسب أنه يبذه أو يكون ناسخًا له؛ لأنه يبالغ ويغلو في

كل المقاصد التي صار المؤيد يسلك سبل الاعتدال فيها، كمدح السياسة الحميدية،

وذم الحكومة المصرية، ومقاومة الاحتلال بالذم والاحتجاج، وذلك أن الناس كانوا

قد ألفوا بعض المبالغة من المؤيد، فإذا أرجعته عنها الحكمة والخبرة، يعد عوامّهم

وشبانهم ذلك من تغيير الخطة، ومن دأب الأحداث والعوام، حب الإغراق والغلو

في الكلام، وناهيك بما يتعلق منه بالسياسة والحكام. وقد بذّ اللواءُ المؤيَّدَ في

المبالغة بهذه المقاصد، وانفرد دونه بدعوة مسلمي مصر إلى تكوين رابطة جنسية

وطنية، لكنها رابطة تنافي إخاء الإسلام ولا ترضي القبط وسائر طوائف النصرانية.

صادف اللواء من مساعدة الآستانة ومساعدة بعض أمراء مصر وأغنيائها ما لم

تصادفه جريدة أخرى. حتى كان يبذل له الذهب بالألوف، وهو على هذا كله لم

يتسع انتشاره إلا بعد سنين من إنشائه، ثم إنه غلب المؤيد على استمالة أكثر تلاميذ

المدارس وكثير من العوام، وصار المؤيد باعتداله -على رضاء أكثر العوام عنه-

جريدة الخواص.

لم يستطع اللواء أن يصل بكل ذلك إلى أن يكون كجريدة الأهرام أو المقطم

في ثباتهما وثروتهما، وقد ألف صاحبه له الحزب الوطني الحديث [1] وألف شركة

رأس مالها عشرون ألف جنيه لأجل إصدار لواء أو لوائين آخرين باللغتين

الفرنسية والإنكليزية، وإنما كانت هذه الشركة صورية لا غرض منها إلا بذل ذلك

المال لمصطفى كامل يتصرف فيه؛ كما يشاء كما يفهم من قانونها وقد فعل. أضاع

هذا المال - كما أضاع ما سبقه من الإعانات مع كل غلة اللواء ومطبعته - في

السرف والمخيلة والمضارات، وطفق ينشد في اللواء شركاء يشترون سهامًا

أخرى من الشركة؛ فلم يستجب لرقيته أحد، ولم يلبث مصطفى باشا كامل

أن مرض وضاعف ثقل المرض عليه همّ الدين والعوز، وفي أثناء مرضه ألف

الحزب الوطني الحديث [1] وكل ذلك لم يغن شيئًا. ومات (كما مات صاحب المؤيد

بعده) مثقلاً بالديون، فقد تبين أن عليه عشرات الألوف من الجنيهات. وقد حجز

الدائنون مطبعة اللواء، وبيع أثاث زعيم الوطنية في محل رجل رومي يبيع الأثاث

بالمزاد، ثم مات اللواء بعد أن اضطر أصحابه إلى استخدام بعض الكتاب من نصارى

السوريين لتحريره وقد كان أعدى أعدائهم، وبعد أن انشق الحزب وأنشأ - بسعي

محمد بك فريد؛ رئيسه - جريدة لتكون لسان حاله سماها العلم (بالتحريك) ناط

رياسة تحريرها بالشيخ عبد العزيز شاويش، فكانت دون اللواء؛ أحط منه في كل

شيء إلا الغلو والإسراف في الكذب، والإرجاف والطعن في الشعوب والأفراد.

لذلك اضطرت الحكومة إلى إلغائها بعد أن حوكم رئيس تحريرها (شاويش)

غير مرة، وحكم عليه بالسجن وسجن.

في أثناء هذه الحوادث كان المتحمسون من رجال الحزب الوطني وآخرون

ممن يودون استمالة محبي الرجل من التلاميذ يجمعون المال لنصب تمثال له،

يخلدون به ذكره، ولو راعوا الآداب الإسلامية لحافظوا بهذا المال على جريدة

اللواء، وانتقوا لها محررين من العقلاء الأدباء، فإن هذا هو الذي يحفظ ذكره كما

حفظ الأهرام اسمي سليم تقلا وبشارة تقلا، فما من يوم إلا ويقرأ الأهرام ألوف من

الناس يرون هذين الاسمين ويتذكرون مؤسسي هذه الجريدة المرتقية، وفي مصر

عدة تماثيل لا يخطر أصحابها لأحد على بال حتى عند رؤيتها ماثلة بالشوارع.

وأما (الجريدة) فالعبرة بها أعظم فقد أنشأها جماعة من سروات البلاد

أصحاب الثروة والمكانة الاجتماعية، وحصلوا لها رأس مال عظيم، ووضعوا لها

قبل إنشائها قانونًا من أدق القوانين، وأسسوا لها مطبعة من أرقى المطابع، وجعلوا

إدارتها ومطبعتها في قصر من أحسن القصور، واختاروا لها مديرًا من أذكى

الكتاب وأعلمهم بالسياسة والقوانين، واختار هو من المحررين من سبق لهم التمرن

على الكتابة حتى في إدارة الأهرام وإدارة المقتطف والمقطم.

وألف أولئك السروات المؤسسون لها حزبًا سياسيًّا يكفلها سموه (حزب الأمة)

فهي قد ولدت بالغة راشدة فلم تكن كالمؤيد واللواء طفلاً ينمو في إدارته رويدًا

رويدًا، ولكنها - على كل هذه المزايا - لم تستطع أن تجد لها مقعدًا ولا موقفًا من

المكان الفسيح الذي وجده قبلها المؤيد أو اللواء من قلب الرأي العام المصري، ولم

تستطع أن تنال من جيبه بعض ما ينال المقطم أو الأهرام، بل كانت تحتاج كل سنة

إلى إمداد أولئك السروات لها بمالهم، على أنها ليست في الحقيقة لسان حالهم، وسبب

ذلك كله أن الروح الذي نفخ في هذه الجريدة لتحيا به ليس إسلاميًّا، وإنما هو فلسفة

خاصة لا تكاد تتجاوز دماغ مدير الجريدة وأدمغة بعض أصدقائه من المحامين

وغيرهم (الذين هم حزب الجريدة المعنوي لا المالي) إلا بتدرج بطيء جدًّا، ثمّ إنه

لا يرجى أن يعم، وليس من الحكمة، ولا مما يبيح الاقتصاد أن يكون له جريدة توقف

عليه في مثل هذه البلاد التي لم تستعد لأن تعيش فيها جريدة أو مجلة خاصة بشيء

واحد ممّا تعمّ الحاجة إليه كالاقتصاد والزراعة أو الأدب، ودع الفلسفة بجملتها،

دون مذاهب الأفراد فيها فقط.

وجملة القول أن الجريدة لا ترمي عن قوس عقيدة مسلمي مصر، ولا تصلح

للتأثير بالرأي العام المصري ولا فيه، فهي لا تستطيع أن تخدمه كما يجب، ولا أن

تستخدمه كما نحب؛ لأن روحها غير إسلامي، فلا هي لسان حال المسلمين، ولا

لسان الذين أسست بأموالهم منهم، وهم لم يستمروا على الإنفاق عليها إلا لما

يشعرون به من الغضاضة عليهم إذا ألغوها وأبطلوها، ولا يرجى لها بهذا المشرب

أن تبلغ شأو المقطم أو الأهرام من نفوس الناس ولا من الرواج والربح.

فظهر ما شرحناه أن الأحزاب في مصر لا عمل لها ولا تأثير إلا بالجرائد،

وأن الجرائد بالرجال الذين يتولون سياستها وإدارتها، وأنه لم توجد بمصر جريدة

للمسلمين حسنة الإدارة والنظام اللهم إلا الجريدة في الجملة أو في ضبط الأعمال

المالية وأن جريدة المؤيد هي الجريدة الإسلامية السياسية التي أوجدتها الحوادث

وكفاءة الشيخ علي يوسف في مكانه من الرأي العام الإسلامي يعرفها لها أهل

السياسة في أوربة ويعدونها لسان حال مسلمي مصر وغير مصر أيضًا. وحذت

جريدة اللواء حذوها، ولم تبلغ شأوها؛ لأن صاحب المؤيد كان في السياسة الإسلامية

مستقلا، وصاحب جريدة اللواء كان فيها مقلدًا، وإنما كان حظه منها بقدر ما اقتبس

من سياسة المؤيد. وكل ما خالف المؤيد كان خطأ في جملته، إن لم يكن خطأ في

كل فروعه وجزئياته، ولكن الغيرية لا تكون إلا بالمخالفة في بعض الشؤون،

فصاحبا المؤيَّد واللواء هما أوجدا المؤيد واللواء، وقد كان لسوء تصرفهما المالي

دخل عظيم في إضعاف جريدتهما، حتى ماتت إحداهما بعد موت صاحبها بعدما

أشرفت على الموت المالي في عهده، ويخشى أن تموت الأخرى مثلها، إن لم يعن بها

أهل الغيرة والبصيرة عناية يراعى فيها ما بيناه في هذه الترجمة مرارًا.

فيجب على مسلمي مصر أن يتدبروا هذا النقص العظيم، وأن يتذكروا أن

شعبهم المستعد للعلم والأدب والتربية السياسية والاقتصادية، هو الذي جعل الأهرام

والمقطم أغنى الجرائد في بلاده، لأن أصحابهما عرفوا كيف يخاطبونه بحسب

استعداده، وهو قد ساعد المؤيد واللواء ما لم يساعدهما، فيجب على من يخدمه أن

يخاطبه بلسان استعداده. وأن يتذكروا أن (مصر) و (الوطن) الجريدتين

القبطيتين، تليان في الثروة والثبات الأهرام والمقطم السوريتين. ولولا صبيتهما

القبطية لما كانتا دونهما تأثيرًا في نفوس المسلمين. فمن النقص - بل من العار -

على المسلمين أن لا يكون لهم جريدة أو جرائد مثل هذه أو أرقى منها في النظام

والثروة، بله التأثير والحظوة.

إن لي أن أفاخر بكفاءة أصحاب المقطم والأهرام ومحرريهما وببراعتهم؛

لأنهم من أبناء وطني الأول الذي هو وطن المولد والمنشأ. وأود - واللهِ - أن أفخر

بمثل عملهم من أبناء ديني ووطني الثاني الذي هو وطن العمل. ولا يسرني من

مثل المقطم والأهرام في مصر إلا ما ينفع المصريين؛ لأن أبناء وطني السوريين

ليس لهم مصالح في مصر إلا ما ينفع المصريين، فهم غير محتاجين إلى جرائد

خالصة لهم من دون المصريين، لأجل هذا يهمني أمر المؤيد، ويسرني أن يكون

أرقى الجرائد المصرية تحريرًا ونظامًا وإفادة واستفادة؛ لأن المسلم أجدر بمعرفة

حاجة الجمهور المسلم وبيانها والدفاع عنها، من مثله في علمه وبيانه من غير

المسلمين، وأقدر على التأثير فيه بحمله على الخير أو صرفه عن الشر، وعلى

التأثير به يجعله مِجَنًّا يدفع به عنه ما يراه ضارّا به. وقد رأيت غير واحد من

المشتغلين بالعلم وبالسياسة من النصارى يتمنون لو ولدوا مسلمين؛ لأجل أن يكونوا

أقدر على خدمة وطنهم أو الشرق الإسلامي كله.

وما أطلت الكلام على الجرائد في ترجمة الشيخ علي يوسف إلا لأذكِّر إخواني

مسلمي مصر بما أراهم غافلين عنه، وهو أنه لم توجد لهم جريدة تصح أن تكون

لسان حالهم بحق إلا المؤيد، وأن الروح الذي كان به المؤيد هو المؤيد يجب أن

يبقى له، ويجب أن يكفل، وأن يكون لهيئة التحرير فيه مع الرئيس الكفؤ، مراقب

موثوق به، مثل سعد باشا زغلول الذي كان ركنًا من أركان تأسيس المؤيد.

وإلا خسر مسلمو مصر خسارة يصعب عليهم الاستعاضة عنها في سنة أو

سنين قليلة، وربّما حرموها الأجيال طويلة، وقد ذكرناهم بما يوجب العبرة من

تاريخ أعظم جرائدهم.

هذا وإن أية جريدة من جرائد المسلمين في مصر يتولى رياسة تحريرها كاتب

خبير بمصالح المسلمين غيور عليها، قادر على الدفاع عنها، يمكن أن تحل محل

المؤيد الأول وأن تكون أكمل منه فيه وأثبت، ولكنْ لا يكون ذلك إلا بعد ثقة

الجمهور المسلم بها، وهذه الثقة إذا استعادها المؤيد في سنة واحدة - لا تنالها جريدة

جديدة بعد سنين كثيرة أو قليلة، ومن ذا الذي ينفق على جريدة جديدة إلا بعد سنين

كثيرة أو قليلة، ومن ذا الذي ينفق على جريدة جديدة عدة سنين، منتظرًا طروء

الحوادث التي تقنع الرأي العام بأنها هي حاجته التي يطلبها لسان حاله واستعداده؟

(للترجمة بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

أول من ألف حزبًا سياسيًّا بمصر باسم الحزب الوطني حكيمنا السيد جمال الدين الأفغاني، والحزب الذي كان يذكره مصطفى كامل في حال صحته لم يكن حزبًا مكونًا بالفعل.

ص: 68

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الجامعة الإسلامية والسياسية

(جمعية إسلامية. مدرسة جامعة بالمدينة المنورة. استغلال الحجرة النبوية)

نجدد الخوض في ذكر الجامعة الإسلامية بما ظهر أخيرًا من عناية جمعية

الاتحاد والترقي بالاستفادة من نفوذ الدولة الديني؛ لِما ظهر لها من تأثير الدين في

السياسة، وضرر ما كان من إعراضها عنه، ومن اهتمام مسلمي الأرض كافة

بحرب طرابلس، وحرب البلقان، وبذلهم المال لإعانة الدولة على الحرب بقدر

الإمكان، ومطالبة مسلمي الهند لدولتهم البريطانية بمساعدتها، واستيائهم من ميلها

للبلقانيين، ففي أثناء الحرب ألّفوا في الآستانة جمعية إسلامية خيرية تحت رياسة

أو رعاية ولي عهد السلطنة. وكان أول من بذل المال لتأسيسها بعض وجهاء

المصريين، ويرجون أن يجمعوا لها مالاً جمًّا، وإن لم يعرف العالم الإسلامي أين

ذهب هذا المال وكيف ينفق؟

***

المدرسة الجامعة بالمدينة

وأذاعوا في الأقطار خبر تأسيس مدرسة جامعة في المدينة المنورة ويعبر عنها

الترك باسم (دار فنون) ثم أرسلوا وفدًا إليها في أثناء زيارة الحجاج لها للاحتفال

بالشروع في تأسيس هذه المدرسة المسوِّغ لفتح باب الإعانات لها. ونحن ننتظر أن

نرى نظم هذه المدرسة لنعلم هل موضوعها دار فنون جامعة لكل الفنون والعلوم العالية

كما يفهم من هذه التسمية أم لا، ولنعلم أي اللغات تكون لغة التعليم فيها؟ هل هي

العربية أم التركية؟ ومن أين يأتون بالتلاميذ الذين تلقوا التعليم الابتدائي والثانوي

ليدرسوا فيها الفنون والعلوم العالية؟ وليس في المدينة ولا في الحجاز شيء من هذا

التعليم، ولا نبحث عن المعلمين والكتب قبل أن نعرف لغة التعليم، فإن نظارة

المعارف العثمانية تعتذر عما نطلبه من جعل التعليم في ولايات بالدولة العربية بلغة

أهلها، وأظهر أعذارها عدم وجود الكتب والمعلمين. وقد أذاعت الجرائد من

بضعة أشهر أن النظارة ألفت لجنة فيها لأجل اختيار الكتب العربية الصالحة.

وعلمنا أنها طلبت نموذجًا من كتب التعليم التي تقرأ في المدارس المصرية

الأميرية فأرسل إليها. وإلى الآن لم نر لعمل اللجنة أثرًا يُذكر. وإذا كانوا يريدون التعليم في المدينة باللغة التركية فإن لنا في ذلك كلامًا آخر.

نقول هذا ونحن لا نعقل؛ فلا نصدق أن حكومتنا توجد في المدينة المنورة

مدرسة جامعة. ونرى ذلك غير مستطاع إن كان مرادًا، ولا نظن أنه مراد؛ ولكنها

قد تبني بناء فخمًا تسميه مدرسة جامعة، وتجلب إليه بعض الطلاب من بلاد مختلفة،

فيُعْطَون دروسًا ابتدائية أو فوق الابتدائية، حسب استعداد من يحضر، ثم تستندي

أكفّ أغنياء الحجاج وغيرهم لأجل ترقية المدرسة كما تستنديها الآن لأجل تأسيسها

بإعاناتهم. وأمّا كون المراد من هذه المدرسة بث فكرة الجامعة الإسلامية في نفوس

المسلمين - كما قالت الجرائد في هذه الأقطار وفي غيرها - فالظاهر أن السياسة

الاتحادية الأخيرة تودّ إذاعة هذا المعنى عنها، وتحض الذين يتولون إنشاء

المدرسة الآن على إقناع زوار المدينة المنورة وغيرهم بأن جمعية الاتحاد والترقي

تخدم الدولة والإسلام، وأنه يجب أن تساعد على ذلك بما يستطاع من النفوذ والمال،

وقد علم هذا من حال من اختارتهم الجمعية للشروع في العمل، ومن الاحتفال

الذي كان في المدينة المنورة، ومن حال المندوب الذي بقي هنالك بعد الاحتفال

(وهو الأمير شكيب أرسلان أحد أدباء طائفة الدروز في جبل لبنان) الذي كتب

الشعارات بل المئات من المقالات في إطراء الجمعية والطعن في طلاب الإصلاح

من العرب للبلاد العربية. أما الشيخ عبد العزيز شاويش رئيس لجنة ذلك الاحتفال

في المدينة المنورة ورفيقه عبد القادر أفندي المغربي فهما من غلاة أنصارها الذين

ثبتوا على خدمتها في الإقبال والأدبار، على اختلاف المظاهر والأطوار، ومن كان

هذا شأنه معها فيما رجعت عنه من سياستها القديمة، فكيف لا يكون كذلك في

سياستها الجديدة؟ !

أما أنا فأتمنى لو توجد مدرسة جامعة في المدينة المنورة، أو مدرسة ما مهما

كانت درجتها، ومهما كان الغرض من إنشائها، فإذا لم تكن كما نحب اليوم، فإننا

نرجو أن تكون كما نحب غدًا، ولهذا لم أكتب كلمة تحذير منها في المقالات التي

أنحيت بها على أعمال الجمعية، أيام كان الخلاف بينها وبين قومنا العرب على

أشده، حتى إنني عدت كما كنت في عهد عبد الحميد لا آمن على نفسي أن أحج

بيت الله الحرام، أو أزور حرم رسوله عليه الصلاة والسلام، وكانت تتمثل لي هذه

المدرسة عند سماع خبر العزم عليها كمسجد الضرار. وقد دخل قومنا معها الآن في

طور جديد تمنينا فيه بكل ما نطلب من الإصلاح، والله المسؤول أن تصدق الأماني

وتحصل الآمال.

وأما رأيي الذي أنصح به للدولة، فهو أن تصدي رجالها السياسيين لتحريك

أوتار الجامعة الإسلامية يضر الدولة كثيرًا ولا ينفعها إلا قليلاً، ويوشك أن تكون

هذه الأقوال التي قيلت في هذه المسألة - على قلة تأثيرها - من أسباب ما نراه من

شدة تحامل أوربة عليها، وأكتفي في هذا المقام بالمثل الذي يكرره الإمام الغزالي

في الإحياء: (كن يهوديًّا صِرفًا وإلا فلا تلعب بالتوراة) .

ومرادي من هذا أنه يجب عليها أحد أمرين:

(الأول) أن تؤسس حكومة إسلامية، خالية من التقاليد والقوانين الإفرنجية،

إلا ما كان من النظام، الذي يتفق مع الشرع ولا يختلف باختلاف الأقوام،

وتعطي مقام الخلافة حقه من إحياء دعوة الإسلام، وإقامة الحدود وحرية أهل

الأديان، ولا يعجزها حينئذ أن ترضي غير المسلمين من رعاياها الذين ليس لهم

أهواء سياسية، ولا ضلع مع الدول الأجنبية، بل يكون إرضاؤهم أسهل عليه منه

الآن إن شاءته. ولو كان لي رجاء في إصغائها إلى هذا الرأي، أو جعله محل النظر

والبحث، لبينت ذلك بالتفصيل، ولأوردت ما أعلمه من المشكلات والعقبات التي

تتعرض في طريق تنفيذه من داخلية وخارجية مع بيان المخرج منها، ثم ما يترتب

عليه من تجديد حياة الدولة، وكونه هو المنجي لها من الخطر، وإن تراءى لكثير

من الناس أنه هو المسرع بالخطر، ظنًّا منهم أن أوربة تعجل بالإجهاز على الدولة

إذا علمت بأنها شرعت بنهضة إسلامية؛ لعلمها بأنها هذه هي حياتها الحقيقية،

وكون حياتها بهذا هو ما يصرح به بعض أحرار الأوربيون [1] وإنْ خوف منه

بالتمويه والإيهام أكثر السياسيين.

(الثاني) أن تدع كل ما عدا الأمور الرسمية المعهودة لديها من أمور التدين

إلى الجمعيات الدينية الحرة، والأفراد الذين يدفعهم استعدادهم إلى هذه الخدمة، ولها

أن تساعد ما يستحق المساعدة من هذه الأعمال بالحماية، وكذا بالإعانات المالية من

أوقاف المسلمين الخيرية، (إذا كانت تريد بقاء الأوقاف العامة في يدها ولم تجب

طلاب الإصلاح إلى جعل أوقاف كل ولاية في أيدي أهلها) مع إبقائهم بمعزل عن

السياسة وأهلها، ولولا أن هذا هو رأيي لما اشترطت على رجال الدولة وجمعية

الاتحاد - إذ عرضت عليهم مشروع الدعوة والإرشاد - أن يكون في يد جماعة حرة

لا علاقة لها بالسياسة، وأن لا تخصص لها إعانة من خزينة الدولة، بل تكون

نفقاتها مما تجمعه هي من الإعانات بأنواعها، ومما تعطاه من أوقاف المسلمين

الخيرية {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} (غافر: 44) .

***

استغلال الحجرة النبوية

بلغنا - والعهدة على الرواة - أن بعض المنافقين الذين يتقربون إلى

(جمعية الاتحاد والترقي) باسم الدين، واستنباط الوسائل منه إلى استخراج المال من

جيوب المسلمين، قد زينوا لها أن تتخذ دفترًا تضعه في حجرة المصطفى عليه

أفضل الصلاة والسلام.

وتذيع في العالم الإسلامي كله أن من أراد أن يكتب اسمه في هذا الدفتر،

الذي وضع لدى قبر الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم فليبذل قطعة

من النقود الذهبية (كالجنيه الإنكليزي أو الليرة العثمانية) ونحن ننصح للدولة أو

الجمعية بأن تردّ هذا الاقتراح ولا تنفذه، مهما زينه المنافقون ووسعوا دائرة الأمانيّ

فيه، وأوهموها أن السواد الأعظم من المسلمين يقبلونه، ظانّين أنه يجعلهم

معروفين عند نبيهم صلى الله عليه وسلم محبوبين لديه، مقبولين عنده، وأنه

يمكن لمن يدعوهم إلى البذل أن يقول لهم: إنه صلى الله عليه وسلم ينظر في هذا

الدفتر كل يوم، ويقرأ هذه الأسماء ويدعو لأصحابها بخير.

هذه بدعة قبيحة لا نظن أن رجال الاتحاد يقبلون فيها قول المنافقين، أو

يحتاجون إلى نصح الناصحين، وهي على كونها حدثًا وبدعة في مسجد الرسول

صلى الله عليه وسلم، وعبثًا بالدين، تخل بتعظيمه وتكريم مقامه صلى الله عليه

وسلم وقد لعن من أحدث حدثًا في مسجده (وسيأتي الحديث فيه) وكذا في مدينته

وما حولها: روى الشيخان في صحيحيهما وغيرهما عن علي كرم الله وجهه أنه قال:

ما كتبنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا القرآن وما في هذه الصحيفة.

قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (المدينة حرم ما بين عَيْر إلى ثور [2] فمن

أحدث فيها حدثًا أو آوى مُحْدِثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل

منه صرف ولا عدل) الحديث.

لا يعجز أصحاب الجرأة من المنافقين أن يقولوا: إن استغلال حجرة

المصطفى وقبره صلى الله عليه وسلم بمثل هذا الدفتر لا يعد حدثًا ولا بدعة، لأنه

وسيلة إلى مساعدة الدولة على خدمة الدين (مثلاً) ويمكن أن يتقي فيه الكذب في

الدين وإيهام الباطل والكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم حتى لا يكون

توسلاً باسمه صلى الله عليه وسلم إلى أكل أموال الناس بالباطل.

ولكن أنصار السنة أنهض حجة وأقوم قيلاً، فلا يعجزهم أن يظهروا الدلائل

وآثار السلف التي تدحض هذه الشبهات، وأن يبينوا للناس أن كل بدعة حدثت في

الإسلام قد موهت بمثل هذا التمويه، وادَّعى محدوثها أنهم يخدمون بها الدين، كما

بينه الإمام الشاطبي في كتاب الاعتصام.

وإنني أنقل هنا أثرًا واحدًا من آثار السلف الصالح في التوقي من إحداث شيء

في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم أو مدينته حذرًا من لعنته. نقل الشاطبي في

بيان كون المبتدع ملعونًا ما يأتي:

قال أبو مصعب صاحب مالك: قدم علينا ابن مهدي - يعني المدينة - فصلَّى

ووضع رداءه بين يدي الصف، فلما سلّم الإمام رمقه الناس بأبصارهم ورمقوا مالكًا -

وكان قد صلى خلف الإمام - فلمّا سلّم قال: مَن هاهنا من الحرس؟ فجاءه نفسان،

فقال: خذا صاحب هذا الثوب فاحبساه. فحبس. فقيل له: إنه ابن مهدي [3]

فوجه إليه وقال له: أما خفت الله واتقيته أن وضعت ثوبك بين يديك في الصف،

وشغلت المصلين بالنظر إليه، وأحدثت في مسجدنا شيئًا ما كنا نعرفه؟ وقد قال

النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في مسجدنا حدثًا فعليه لعنة الله والملائكة

والناس أجمعين) فبكى ابن مهدي، وآلى على نفسه أن لا يفعل ذلك أبدًا في مسجد

النبي صلى الله عليه وسلم ولا في غيره.

(قال الشاطبي) : وهذا غاية في التوقي والتحفظ في ترك إحداث ما لم يكن؛

خوفًا من تلك اللعنة، فما ظنك بما سوى وضع الثوب؟ اهـ.

(ونقول) : فما ظنك ببدعة وحدث في حجرة الرسول صلى الله عليه وسلم

يتبعها الكذب عليه، وأكل أموال الناس باسمه، والزيادة في الدين الذي جاء به،

ولو لم يكن في ذلك من الزيادة في الدين إلا إحداث قربة جديدة، وعبادة مخترعة،

هي التقرب إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم؛ بكتابة أسماء الناس في

دفتر هنالك - لكفى، فإن قالوا: إننا لا نعده قربة ولا سببًا للثواب. قلنا: إذًا هو

غشٌّ واحتيال، لأجل سلب الأموال، فإن من يعلم أن كتابة اسمه لا تقربه إلى

الله ورسوله لا يدفع المال لأجلها.. هذا ولولا الإخلاص في النصيحة لله ولرسوله

وللدولة لما كتبت هذا قبل إحداث هذا الحدث المقترح، والله عليم خبير.

_________

(1)

قال لورد كتشنر لبعض مَن لقيه من العثمانيين المشتغلين بالسياسة: إن الدولة العثمانية لا تصلح بالقوانين التي تقتبسها منّا (أي الأوربيين) ونحن ما صلحت لنا هذه القوانين إلا بعد

تدريجية في عدة قرون كنا نغير فيها ونبدل بحسب اختلاف الأحوال، وإن عندكم شريعة عادلة موافقة لعقائدكم ولأحوالكم الاجتماعية فالواجب على الدولة أن تعمل بها وتترك قوانين أوربة؛ فتقيم العدل وتحفظ الأمن وتستغل بلادها الخصبة، وعندي أنها لا تصلح بغير هذا.

(2)

عَيْر وثور جبلان جعلهما صلى الله عليه وسلم حدين للمدينة وثور جبل بمكة أيضًا وقد اشتبه بعض شراح الحديث في هذا الذي في المدينة، ورجح بعضهم رواية (ما بين عَيْر وأُحُد) وإن كانت الأولى أصح سندًا، وقال بعضهم: ثور الذي يحد المدينة وراء أحد إلى الشمال وهو مدور ولونه إلى الحمرة فالظاهر أنه جبل صغير ظنه بعض الناس جزءًا من أحد.

(3)

هو عبد الرحمن بن مهدي الشهير بالصلاح والعلم والعمل، كان يختم القرآن كل ليلة ويتهجد بنصفه لهذا كان قولهم للإمام مالك (هذا ابن مهدي) سببًا لمبادرته إلى إخراجه من الحبس لعلمه أن كلمة حق واحدة تؤثر في نفسه، ما لا يؤثر الحبس الطويل في نفس غيره.

ص: 75

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌انتقاد أجوبة المنار

لمن سأل عن حكم الحج

كتب إلينا غير واحد من البحرين أن الذي سألنا عن حكم الحج وأسرار

المناسك لم يكن يريد الحج هو وأصحابه، وما أسئلتهم تلك إلا مظهر ما في

نفوسهم من الاعتراض على الدين وعدم الإذعان لأحكامه، وإنه ما كان ينبغي أن

يجابوا إلا أن يقال لهم: هذا ديننا، فإن كنتم من أهله فأقيموا أركانه وأدّوا فرائضه،

وإلا فالزموا شأنكم.

هذا معنى ما كتب إلينا، وصرّحوا بأن سبب سوء اعتقادهم في السائل - ومن

على شاكلته - أنهم قد تعلموا في مدرسة دعاة النصرانية (المبشرين) فأزاغوا

عقائدهم.

أما نحن فنقول: إن الأسئلة التي أرسلت إلينا تدل على أن السائل قد عرضت

له شبهات في هذه العبادة (الحج) فهو إما حريص على دينه يسأل العلماء ليأخذ

عنهم ما يدفعها بها ليكون على بصيرة من دينه، وإما معجز أو شاكّ يختبر علماء

المسلمين ليرى ما عندهم، حتى إذا عجزوا عن بيان حكم هذه المناسك عذر نفسه،

واطمأن بما عنده. والواجب علينا أن نغلّب حسن الظن ما وجدنا له منفذًا، وأن

نجيب طالب العلم مهما كان قصده، فإن كان مؤمنًا ازداد - ببيان حكمة الدين -

إيمانًا، وإن كان شاكًّا أو زائغًا يوشك أن يعود إلى الرشد، ويطمئن بما ظهر له من

الحق، ولا ينبغي لنا أن نتهم أحدًا في دينه بالشبهة، ولا أن ندع من يشككهم دعاة

النصرانية في الحق وشأنهم، بل ينبغي لنا أن نجذبهم إلينا، إذا هم أعرضوا عنا

وتركوا سؤالنا. فإذا ترك الحقُّ الباطلَ يصول بشبهاته على إحداث المسلمين،

يمرقون كلهم من الدين.

وإذا كان بعض أهل البحرين يعلمون مبلغ إفساد دعاة النصرانية في بلدهم،

فلماذا لا يحذرون الغافلين من إرسال أولادهم إلى مدارسهم، ويغنونهم عنها بمدرسة

إسلامية ينشئونها لهم، يعلمونهم فيها من علوم المعاش ما يعلمهم هؤلاء المفسدون،

ويزيدون عليهم تعليم عقائد الإسلام وأحكامه وحكمه وآدابه وتاريخه بدلاً من

النصرانية وشؤون أهلها؟ ألا يعلمون أنهم بترك معارضة هؤلاء المحاربين لدينهم

آثمون كلهم؟ وإن هذا الإثم لا يزول إلا بإنشاء مدرسة ينقذون فيها أولادهم من

مدرسة دعاة النصرانية التي ستلقي العداوة بينهم وبين أولادهم، وتقطع صلتهم بهم

في الدنيا والآخرة؟ ؟

وعسى أن يعتبر من يدعون في حضرموت وغيرها من أطراف جزيرة

العرب إلى جعل بلادهم للإنكليز أو تحت حمايتهم، ويفطنوا لما في ذلك من الخطر

على دينهم.

_________

ص: 80

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فتاوى المنار

(الموالد بدعة أم سنة)

(س1) من صاحب الإمضاء في فليمبغ (سومطرة)

من فليمبغ إلى القاهرة في 25 المحرم عام 1332هـ.

جناب الأستاذ مرشد الأمة ورشيدها سيدي محمد رشيد رضا أدام المولى

وجوده. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد

أرجو من فضلكم إجابة السؤال

الآتي على صفحات المنار. ما قول سيدي في قراءة القصص المسماة بالموالد هل هي

سنة أم بدعة؟ ومن أول من فعل ذلك؟ وأي الموالد المتداولة بين أيدينا أحرى بالقراءة

وأحسن؟ فإن كثيرين من رجال المناصب يزعمون أن مولد الديبعي هو أمثل الموالد

وأفضلها وأن روح النبي صلى الله عليه وسلم تحضر عند قراءته خلافًا للموالد

الأخرى. أرجو أن تتفضل بإزالة الإشكال، والجواب على هذا السؤال، ولكم

الفضل أولاً وآخرًا، ودمتم، والسلام.

(طالب الدعاء منكم السيد عقيل بن عبد الله بن عقيل الحبشي) .

(ج) هذه الموالد بدعة بلا نزاع، وأول من ابتدع الاجتماع لقراءة قصة

المولد النبوي أحد ملوك الشراكسة بمصر، وقد شرحنا ما في هذه الاحتفالات التي

يسمونها الموالد بمصر في مجلد السنة الأولى من المنار ثم في غيره من المجلدات.

ولم نطلع على قصة من قصص المولد النبوي الشريف إلا ورأينا فيها كثيرًا من

الأخبار الموضوعة. حتى جمع صديقنا عالم الشام الشيخ جمال الدين القاسمي من

كتب الصحاح والسنن أصح وأمثل ما ورد في ذلك و (شذرة من السيرة النبوية)

وقد طبع في مطبعتنا وصار محبو السنة ومبغضو البدعة يستغنون به عن تلك

القصص المشحونة بالموضوعات والأكاذيب التي يؤثرها الجهال؛ زعما منهم أنها

أكثر تعظيمًا للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد أغناه الله تعالى بفضله العظيم عليه عن

تعظيم غيره له بالكذب في سيرته. ولم نطلع على مولد الديبعي. فإن كان هو

المحدث المشهور فالمرجو أن يكون ما كتبه خاليًا من الموضوعات، وإن لم يخل

من الضعاف التي يتسامحون فيها في ذكر المناقب.

***

قراءة البخاري لطلب النصر في الحرب

(س2) من علي أفندي مهيب (بديوان عموم التلغرافات) بمصر (تأخر)

حضرة الأستاذ الفاضل الشيخ رشيد رضا المحترم.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛ فقد قرأت في الجرائد في الأيام

الأولى للحرب الحاضرة بين الدولة العلية ودول البلقان أن صاحب الفضيلة شيخ

الجامع الأزهر كلف حضرات العلماء بقراءة البخاري أمام القبلة؛ طلبًا للنصر من الله

سبحانه. فهل ورد شيء عن قراءة حديث الرسول صلى الله عليه وسلم أثناء

الحرب طلبًا للنصر؟ ولماذا لم يقرأ كلام الله سبحانه بالأولى إذا كانت التلاوة تغني

عن العمل؟ أرجو الإفادة على صفحات المنار الأغر ولحضرتكم جزيل الشكر.

(ج) جاءنا هذا السؤال في أثناء الحرب الأخيرة فوضعناه بين الأسئلة

الكثيرة ولم يتفق وقوعه بيدنا إلا الآن. وموضوعه يتكرر عند الحرب وغير

الحرب من المصائب كالوباء والقحط.

والجواب: إنه لا يعقل أن يكون قد ورد في الكتاب أو السنة أمر أو ترغيب

بقراءة أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم لطلب النصر أو رفع المصائب، ولا

أن يكون ذلك معروفًا في الصدر الأول. فإن الأحاديث لم تكن مدونة في زمن

الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، وإنما دونت في زمن التابعين، وأول من أمر

بجمعها ونشرها عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ولم يكن التابعون ولا تابعو

التابعين يقرؤونها لتكون قراءتها سببًا للنصر. وإنما فعل ذلك المتأخرون، ولا أدري

في أي زمن أحدثوا ذلك، وما أظن أن أحدًا من أهل العلم يقول إن هذا سنة أو

مأمور به شرعًا، ولعل أقوى ما يمكن أن يقولوه في سببه: إننا نجتمع للدعاء ونقرأ

قبل الدعاء طائفة من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم لما يرجى من تأثيرها

في حضور القلب، والخشوع للرب، الذي يرجى أن يكون سببًا لاستجابة الدعاء.

وعلى هذا يتجه السؤال الثاني وهو: (لماذا لا يقرأ كلام الله سبحانه؟) .

وما أظن أن أحدًا من أهل العلم يقول إن قراءة الحديث أو القرآن في المساجد

بِنِيَّة نصر المحاربين سبب لنصر المحاربين في ميدان القتال، وقد بين الله تعالى

أسباب النصر في كتابه وأمر بها، وأهمها: إعداد ما يستطاع من القوة في كل زمن

والثبات، وذكر المحاربين لله تعالى في قلوبهم عند لقاء العدو، كذكر وعده بإحدى

الحسنيين وثوابه للشهداء، وبألسنتهم كالتكبير فإنه يعلي الهمة ويقوي الأمل والرجاء،

وقد بينا ذلك بالتفصيل غير مرة. وقد ظهر المشركون على المسلمين في أُحُد

وحنين والنبي صلى الله عليه وسلم معهم وأنزل الله تعالى في أحد: {أَوَ لَمَّا

أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ} (آل عمران:

165) ؛ فراجع تفسيرها في المنار أو في الجزء الخامس من التفسير، إن شئت زيادة

الإيضاح والتفصيل.

_________

ص: 111

الكاتب: ابن القيم الجوزية

فصل من‌

‌ كتاب مدارج السالكين

بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

للإمام العلامة الحافظ ابن القيم رحمه الله تعالى

في مشاهد الخلق في المعصية وهي ثلاثة عشر مشهدًا [1] : مشهد الحيوانية

وقضاء الشهوة - ومشهد اقتضاء رسوم الطبيعة ولوازم الخلقة - ومشهد الجبر -

ومشهد القدر - ومشهد الحكمة - ومشهد التوفيق والخذلان - ومشهد التوحيد - ومشهد

الأسماء والصفات - ومشهد الإيمان وتعدد شواهده - ومشهد الرحمة - ومشهد العجز

والضعف - ومشهد الذل والافتقار - ومشهد المحبة والعبودية. فالأربعة الأول

للمنحرفين، والثمانية البواقي لأهل الاستقامة. وأعلاها المشهد العاشر. وهذا

الفصل من أجلِّ فصول الكتاب وأنفعها لكل أحد، وهو حقيق بأن تثنى عليه

الخناصر، ولعلك لا تظفر به في كتاب سواه، إلا ما ذكرناه في كتابنا المسمى بسفر

الهجرتين في طريق السعادتين.

***

فصل

فأما (مشهد الحيوانية وقضاء الشهوة) فمشهد الجهال، الذين لا فرق بينهم

وبين سائر الحيوان إلا في اعتدال القامة ونطق اللسان، ليس همهم إلا مجرد نيل

الشهوة بأي طريق أفضت إليها. فهؤلاء نفوسهم نفوس حيوانية، لم تترق عنها إلى

درجة الإنسانية، فضلاً عن درجة الملائكة. فهؤلاء حالهم أخس من أن تذكر، وهم

في أحوالهم متفاوتون بحسب تفاوت الحيوانات التي هم على أخلاقها وطباعها.

(فمنهم) من نفسه كلبية لو صادف جيفة تشبع ألف كلب لوقع عليها وحماها

من سائر الكلاب، ونبح كل كلب يدنو منها، فلا تقربها الكلاب إلا على كره منه

وغلبة، ولا يسمح لكلب بشيء منها، وهمه شبع بطنه من أي طعام اتفق: ميتة أو

مذكى، خبيث أو طيب، ولا يستحيي من قبيح، إن تحمل عليه يلهث أو تتركه

يلهث، إن أطعمته بصبص بذنبه ودار حولك، وإن منعته هرّك ونبحك.

(ومنهم) من نفسه حمارية لم تخلق إلا للكد والعلف، كلما زيد في علفه زيد

في كده، أبكم الحيوان وأقله بصيرة. ولهذا مثل الله سبحانه وتعالى به من حمله

كتابه فلم يعرفه معرفة ولا فقهًا ولا عملاً. ومثل بالكلب عالم السوء الذي آتاه الله

آياته فانسلخ منها وأخلد إلى الأرض واتبع هواه. وفي هذين المثلين أسرار عظيمة

ليس هذا موضع ذكرها.

(ومنهم) من نفسه سَبُعية غَضَبية، همته العدوان على الناس وقهرهم بما

وصلت إليه قدرته، طبيعته تتقاضى ذلك كتقاضي طبيعة السبع لما يصدر منه.

(ومنهم) من نفسه فاريَّة، فاسق بطبعه، مفسد لما جاوره، تسبيحه بلسان

الحال: سبحان من خلقه للفساد.

(ومنهم) من نفسه على نفوس ذوات السموم والحمات، كالحية والعقرب

وغيرهما، وهذا الضرب هو الذي يؤذي بعينه فيدخل الرجل القبر، والجَمَل القِدْر،

والعين وحدها لم تفعل شيئًا وإنما النفس الخبيثة السمية تكيفت بكيفية غضبية مع

شدة حسد وإعجاب، وقابلت المعين على غرة منه وغفلة، وهو أعزل من سلاحه،

فلدغته، كالحية التي تنظر إلى موضع مكشوف من بدن الإنسان فتنهشه، فإما

عطب وإما أذى. ولهذا لا يتوقف أذى العائن على الرؤية والمشاهدة، بل إذا

وصف له الشيء الغائب عنه وصل إليه أذاه. والذنب لجهل المعين وغفلته وغرته

عن حمل سلاحه كل وقت. فالعائن لا يؤثر في شاكي السلاح، كالحية إذا قابلت

درعًا سابغًا على جميع البدن ليس فيه موضع مكشوف، فحق على من أراد حفظ

نفسه وحمايتها أن لا يزال متدرعًا متحصنًا، لابسًا أداة الحرب، مواظبًا على أوراد

التعوذات والتحصينات النبوية التي في السنة والتي في القرآن [2] .

وعلى هذا الشبه اعتماد أهل التعبير للرؤيا في رؤية هذه الحيوانات في المنام

عند الإنسان وفي داره أو أنها تحاربه. وهو كما اعتمدوه. وقد وقع لنا ولغيرنا من

ذلك في المنام وقائع كثيرة. فكان تأويلها مطابقًا لأقوام على طباع تلك الحيوانات.

وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم في قصة أحد بقرًا تنحر، فكان ما أصيب من

المؤمنين بنحر الكفار، فإن البقر أنفع الحيوان للأرض وبها صلاحها وفلاحها مع ما

فيها من السكينة والمنافع والذِّل (بكسر الذال) فإنها ذلول مذللة منقادة غير أبية،

والجواميس كبارهم ورؤساؤهم [3] ورأى عمر بن الخطاب كأن ديكًا نقره ثلاث

نقرات، فكان طعن أبي لؤلؤة له. والديك رجل أعجمي شرير.

ومن الناس من طبعه طبع خنزير يمر بالطيبات فلا يلوي عليها، فإذا قام

الإنسان عن رَجِيعة قَمَّه. وهكذا كثير من الناس يسمع منك ويرى من المحاسن

أضعاف أضعاف المساوي، فلا يحفظها ولا ينقلها ولا تناسبه، فإذا رأى سقطة أو

كلمة عوراء وجد بغيته وما يناسبها فجعلها فاكهته ونُقْلَه.

(ومنهم) من هو على طبيعة الطاووس ليس له إلا التطوس والتزين بالريش

وما وراء ذلك شيء، ومنهم من هو على طبيعة الجمل أحقد الحيوان وأغلظه كبدًا.

(ومنهم) من هو على طبيعة الدب أبكم خبيث، وعلى طبيعة القرد [4] .

أحمد طبائع الحيوانات طبائع الخيل التي هي أشرف الحيوانات نفوسًا وأكرمها

طبعًا، وكذلك الغنم، وكل من ألف ضربًا من ضروب هذه الحيوانات اكتسب من

طبعه وخلقه، فإن تغذى لحمه كان الشبه أقوى. فإن الغاذي شبيه بالمتغذي [5] .

ولهذا حرم الله أكل لحوم السباع وجوارح الطير لما يورث آكله [6] من شبه نفوسها

بها والله أعلم. والمقصود أن أصحاب هذا المشهد ليس لهم شهود سوى ميل نفوسهم

وشهواتهم لا يعرفون ما وراء ذلك ألبتة.

***

فصل

المشهد الثاني: مشهد رسوم الطبيعة ولوازم الخلقة

كمشهد زنادقة الفلاسفة والأطباء الذين يشهدون أن ذلك من لوازم الخلقة

والطبيعة الإنسانية، وأن تركيب الإنسان من الطبائع الأربع وامتزاجها واختلاطها

كما يقتضي بغي بعضها على بعض وخروجه عن الاعتدال بحسب اختلاف هذه

الأخلاط، فكذلك تركيبه من البدن والنفس والطبيعة والأخلاط الحيوانية يتقاضاه إثر

هذه الخلقة ورسوم تلك الطبيعة، ولا تنقهر إلا بقاهر إما من نفسه وإما من خارج

عنه. وأكثر النوع الإنساني ليس له قاهر من نفسه، فاحتياجه إلى قاهر فوقه يدخله

تحت سياسة وإيالة ينتظم بها أمره ضرورية [7] كحاجته إلى مصالحه من الطعام

والشراب واللباس. وعند هؤلاء أن العاقل متى كان له وازع - من نفسه - قاهر لم

يحتج إلى أمر غيره ونهيه وضبطه [8] . فمشهد هؤلاء من حركات النفس الاختيارية

الموجبة للجنايات، كمشهدهم من حركات الطبيعة الاضطرارية الموجبة للتغيرات [9]

وليس لهم مشهد وراء ذلك.

***

فصل

المشهد الثالث: مشهد أصحاب الجبر

وهم الذين يشهدون أنهم مجبورون على أفعالهم، وأنها واقعة بغير قدرتهم،

بل لا يشهدون أنها أفعالهم ألبتة. ويقولون: إن أحدهم غير فاعل في الحقيقة ولا

قادر، وإن الفاعل فيه غيره والمحرك له سواه، وإنه آلة محضة، وحركاته بمنزلة

هبوب الرياح وحركات الأشجار، وهؤلاء إذا أنكرت عليهم أفعالهم احتجوا بالقدر

وحملوا ذنوبهم عليه، وقد يغلون في ذلك حتى يروا أفعالهم كلها طاعات خيرها

وشرها، لموافقته للمشيئة والقدر. ويقولون: كما أن موافقة الأمر طاعة، فموافقة

المشيئة طاعة. كما حكى الله تعالى عن المشركين إخوانهم أنهم جعلوا مشيئة الله

تعالى لأفعالهم دليلاً على أمره بها ورضاه.

وهؤلاء شر من القدرية النفاة، وأشد عداوة لله، ومناقضة لكتبه ورسله ودينه،

حتى إن من هؤلاء من يعتذر عن إبليس ويتوجع له ويقيم عذره بجهده، وينسب

ربه تعالى إلى ظلمه بلسان الحال والمقال، ويقول: ما ذنبه وقد صان وجهه عن

السجود لغير خالقه؟ وقد وافق حكمه ومشيئته فيه وإرادته منه؟ ثم كيف يمكنه

السجود وهو الذي منعه منه وحال بينه وبينه؟ وهل كان في ترك السجود لغير الله

إلا محسنًا؟ ولكن:

إذا كان المحب قليل حظ

فما حسناته إلا ذنوب

وهؤلاء أعداء الله حقًّا، وأولياء إبليس وأحباؤه وإخوانه. وإذا ناح منهم نائح

على إبليس رأيت من البكاء والحنين أمرًا عجيبًا، ورأيت من تظلم الأقدار، واتهام

الجبار، ما يبدو على فلتات ألسنتهم وصفحات وجوههم، وتسمع من أحدهم من

التظلم والتوجع ما تسمعه من الخصم المغلوب العاجز عن خصمه. فهؤلاء هم الذين

قال فيهم شيخ الإسلام ابن تيمية في تائيته:

ويدعى خصوم الله يوم معادهم

إلى النار طرًّا فرقة القدرية

***

فصل

المشهد الرابع: مشهد القدرية النفاة

ويشهدون أن هذه الجنايات والذنوب هم الذين أحدثوها، وأنها واقعة بمشيئتهم

دون مشيئة الله تعالى، وأن الله لم يقدر ذلك عليهم ولم يكتبه ولا شاءه ولا خلق

أفعالهم، وأنه لأي قدر أن يهدي أحدًا ولا يضله إلا بمجرد البيان، إلا أنّه يلهمه

الهدى والضلال، والفجور والتقوى، فيجعل ذلك في قلبه، ويشهدون أنه يكون في

ملك الله ما لا يشاؤه، وأنه يشاء ما لا يكون، وأن العباد خالقون لأفعالهم بدون مشيئة

الله. فالمعاصي والذنوب خلقهم وموجب مشيئتهم، لا أنها خلق الله ولا تتعلق

بمشيئته. وهم لذلك مبخوسو الحظ جدًّا من الاستعانة بالله والتوكل عليه والاعتصام

به، وسؤاله أن يهديهم، وأن يثبت قلوبهم وأن لا يزيغها، وأن يوفقهم لمرضاته

ويجنبهم معصيته؛ إذ هذا كله واقع بهم وعين أفعالهم لا يدخل تحت مشيئة الرب.

والشيطان قد رضي منهم بهذا القدر، فلا يؤزّهم إلى المعاصي ذلك الأزّ، ولا

يزعجهم إليها ذلك الإزعاج. وله في ذلك غرضان مهمان:

(أحدهما) أن يقرر في قلوبهم صحة هذا المشهد وهذه العقيدة، وأنكم

تاركون الذنوب [10] والكبائر التي يقع فيها أهل السنة. فدل على أن الأمر مفوض

إليكم، واقع بكم، وأنكم العاصمون لأنفسكم المانعون لها من المعصية.

(الغرض الثاني) أنه يصطاد على أيديهم الجهال، فإذا رأوهم أهل عبادة

وزهادة وتورع عن المعاصي وتعظيم لها قالوا: هؤلاء هم أهل الحق. والبدعة آثر

عنده وأحب إليه من المعصية، فإذا ظفر بها منهم، واصطاد الجهال على أيديهم،

كيف يأمرهم بالمعصية؟ بل ينهاهم عنها ويقبحها في أعينهم وقلوبهم، ولا يكشف

هذه الحقائق إلا أرباب البصائر.

***

فصل

المشهد الخامس وهو أحد مشاهد أهل الاستقامة: مشهد الحكمة

وهو مشهد حكمة الله في تقديره على عبده ما يبغضه سبحانه ويكرهه، ويلوم

ويعاقب عليه، وأنه لو شاء لعصمه منه، ولحال بينه وبينه، وأنه سبحانه لا

يعصى قسرًا، وأنه لا يكون في العالم شيء إلا بمشيئته {أَلَا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ

تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ العَالَمِينَ} (الأعراف: 54) .

وهؤلاء يشهدون أن الله سبحانه لم يخلق شيئًا عبثًا ولا سدًى، وأنه له الحكمة

البالغة في كل ما قدره وقضاه من خير وشر، وطاعة ومعصية، وحكمة باهرة

تعجز العقول عن الإحاطة بكنهها، وتكلّ الألسن عن التعبير عنها، فمصدر قضائه

وقدره لما يبغضه ويسخطه اسمه الحكيم الذي بهرت حكمته الألباب، وقد قال تعالى

لملائكته لما قالوا: {َتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ

وَنُقَدِّسُ لَكَ} (البقرة: 30) ؛ فأجابهم سبحانه بقوله: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (البقرة: 30) ، فللَّه سبحانه في ظهور المعاصي والذنوب والجرائم وترتب

آثارها من الآيات والحكم، وأنواع التعرفات إلى خلقه، وتنويع آياته، ودلائل

ربوبيته ووحدانيته، وإلهيته وحكمته وعزته، وتمام ملكه وكمال قدرته، وإحاطة

علمه، ما يشهده أولو البصائر عيانًا ببصائر قلوبهم {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً

سُبْحَانَكَ} (آل عمران: 191) ؛ إن هي إلا حكمتك الباهرة وآياتك الظاهرة.

ولله في كل تحريكة

وتسكينة أبدًا شاهد

وفي كل شيء له آية

تدل على أنه واحد

فكم من آية في الأرض بينة دالة على الله وعلى صدق رسله وعلى أن لقاءه

حق، كان سببها معاصي بني آدم وذنوبهم، كآيته في إغراق قوم نوح، وعلوّ الماء

على رؤوس الجبال، حتى أغرق جميع أهل الأرض، ونجى أولياءه وأهل معرفته

وتوحيده. فكم في ذلك من آية وعبرة، ودلالة باقية على ممر الدهور؟ وكذلك

إهلاك قوم عاد وثمود. وكم له من آية في فرعون وقومه من حين بعث موسى إليهم؟

بل قبل مبعثه إلى حين إغراقهم، لولا معاصيهم وكفرهم لم تظهر تلك الآيات

والعجائب. وفي التوراة أن الله تعالى قال لموسى: اذهب إلى فرعون فإني سأقسِّي

قلبه وأمنعه عن [11] الإيمان لأظهر آياتي وعجائبي بمصر. وكذلك فعل سبحانه

فأظهر من آياته وعجائبه بسبب ذنوب فرعون وقومه ما أظهر. وكذلك إظهاره

سبحانه ما أظهر من جعل النار بردًا وسلامًا على إبراهيم، بسبب ذنوب قومه

ومعاصيهم، وإلقائهم في النار، حتى صارت تلك آية، وحتى نال إبراهيم ما نال

من كمال الخلة.

وكذلك ما حصل للرسل من الكرامة والمنزلة والزلفى عند الله والوجاهة عنده

بسبب صبرهم على أذى قومهم وعلى محاربتهم لهم ومعاداتهم. وكذلك اتخاذ الله

تعالى الشهداء والأولياء والأصفياء من بني آدم، بسبب صبرهم على أذى بني آدم

من أهل المعاصي والظلم ومجاهدتهم في الله، وتحملهم لأجله من أعدائه ما هو

بعينه وعلمه، واستحقاقهم بذلك رفعة الدرجات. إلى غير ذلك من المصالح والحكم

التي وجدت بسبب ظهور المعاصي والجرائم، وكان من سببها تقدير ما يبغضه الله

ويسخطه، وكان ذلك محض الحكمة، لما يترتب عليه مما هو أحب إليه وآثر عنده

من فوته بتقدير عدم المعصية. فحصول هذا المحبوب العظيم، أحب إليه من فوات

ذلك المبغوض المسخوط، فإن فواته وعدمه وإن كان محبوبًا له؛ لكن حصول هذا

المحبوب الذي لم يكن يحصل بدون وجود ذلك المبغوض أحب إليه، فوات هذا

المحبوب أكره إليه من فوات ذلك المكروه المسخوط، وكمال حكمته تقتضي

حصول أحب الأمرين إليه بفوات أدنى المحبوبين، وأن لا يعطل هذا الأحب

بتعطيل ذلك المكروه. وفرض الذهن وجود هذا بدون هذا، كفرضه وجود

المسببات بدون أسبابها، والملزومات بدون لوازمها، مما تمنعه حكمة الله وكمال

قدرته وربوبيته.

ويكفي من هذا مثال واحد وهو أنه لولا المعصية من أبي البشر بأكله من

الشجرة لما ترتب على ذلك ما ترتب من وجود هذه المحبوبات العظام للرب تعالى،

من امتحان خلقه وتكليفهم، وإرسال رسله، وإنزال كتبه، وإظهار آياته وعجائبه،

وتنويعها وتصريفها، وإكرام أوليائه، وإهانة أعدائه، وظهور عدله وفضله،

وعزته وانتقامه، وعفوه ومغفرته، وصفحه وحلمه، وظهور من يعبده ويحبه

ويقوم بمراضيه بين أعدائه في دار الابتلاء والامتحان. فلو قدر أن آدم لم يأكل من

الشجرة ولم يخرج من الجنة هو وأولاده؛ لم يكن شيء من تلك، ولا ظهر من القوة

إلى الفعل ما كان كامنًا في قلب إبليس يعلمه الله ولا تعلمه الملائكة، ولم يتميز

خبيث الخلق من طيبه، ولم تتم المملكة حيث لم يكن هناك إكرام وثواب، وعقوبة

وإهانة، ودار سعادة وفضل، ودار شقاوة وعدل.

وكم في تسليط أوليائه على أعدائه، وتسليط أعدائه على أوليائه، والجمع

بينهما في دار واحدة، وابتلاء بعضهم ببعض، من حكمة بالغة، ونعمة سابغة؟

وكم في طيها من حصول محبوب للرب، وحمد لله من أهل سماواته وأرضه،

وخضوع له وتذلل، وتعبد وخشية وافتقار إليه، وانكسار بين يديه؟ أن لا يجعلهم

من أعدائه، إذ هم يشاهدونهم ويشاهدون خذلان الله لهم، وإعراضه عنهم، ومقته

لهم، وما أعد لهم من العذاب. وكل ذلك بمشيئته وإرادته، وتصرفه في مملكته،

فأولياؤه من خشية خذلانه خاضعون مشفقون، على أشد وجل وأعظم مخافة، وأتم

انكسار. فإذا رأت الملائكة إبليس وما جرى له، وهاروت وماروت، وضعت

رؤوسها بين يدي الرب خضوعًا لعظمته، واستكانة لعزته، وخشية من إبعاده

وطرده، وتذللاً لهيبته، وافتقارًا إلى عصمته ورحمته، وعلمت بذلك منته عليهم،

وإحسانه إليهم، وتخصيصه لهم بفضله وكرامته.

وكذلك أولياؤه المتقون، إذا شاهدوا أحوال أعدائه ومقته لهم، وغضبه عليهم،

وخذلانه لهم، ازدادوا له خضوعًا وذلاًّ، وافتقارًا وانكسارًا، وبه استعانةً، وإليه

إنابةً، وعليه توكلاً، وفيه رغبةً، ومنه رهبةً، وعلموا أنهم لا ملجأ لهم منه إلا

إليه، وأنهم لا يعيذهم من بأسه إلا هو، ولا ينجيهم من سخطه إلا مرضاته،

فالفضل بيده أولاً وآخرًا.

وهذه قطرة من بحر حكمته المحيطة بخلقه. والبصير يطالع ببصيرته ما

وراءه فيطلعه على عجائب من حكمته لا تبلغها العبارة، ولا تنالها الصفة. وأما

حظ العبد في نفسه وما يخصه من شهود هذه الحكمة فبحسب استعداده وقوة بصيرته،

وكمال علمه ومعرفته بالله وأسمائه وصفاته، ومعرفته بحقوق العبودية والربوبية،

وكل مؤمن له من ذلك شِرْبٌ معلوم، ومقام لا يتعداه ولا يتخطاه [12] .

***

فصل

المشهد السادس: مشهد التوحيد

وهو أن يشهد انفراد الرب تبارك وتعالى بالخلق والحكم، وأنه ما شاء كان

وما لم يشأ لم يكن، وأنه لا تتحرك ذرة إلا بإذنه، وأن الخلق مقهورون تحت

قبضته، وأنه ما من قلب إلا وهو بين أصابعه، إن شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاء

أن يزيغه أزاغه. فالقلوب بيده وهو مقلبها ومصرفها كيف شاء وكيف أراد، وأنه

هو الذي آتى نفوس المؤمنين تقواها، وهو الذي هداها وزكاها، وألهم نفوس

الفجار فجورها وأشقاها (من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له) يهدي

من يشاء بفضله ورحمته، ويضل من يشاء بعدله وحكمته. هذا فضله وعطاؤه، وما

فضل الكريم بممنون [13] وهذا عدله وقضاؤه {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (الأنبياء: 23) .

قال ابن عباس: الإيمان بالقدر نظام التوحيد، فمن كذب بالقدر نقض تكذيبه

توحيده، ومن آمن بالقدر صدق إيمانه توحيده. وفي هذا المشهد يتحقق للعبد مقام:

{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) ، علمًا وحالاً، فيثبت قدم العبد في

توحيده [14] الربوبية، ثم يرقى منه صاعدًا إلى توحيد الإلهية، فإنه إذا تيقن أن

الضر والنفع، والعطاء والمنع، والهدى والضلال، والسعادة والشقاء، كل ذلك بيد

الله لا بيد غيره، وأنه الذي يقلب القلوب ويصرفها كيف يشاء، وأنه لا موفق إلا

من وفقه وأعانه، ولا مخذول إلا من خذله وأهانه وتخلى عنه، وإن أصح القلوب

وأسلمها وأقومها، وأرقها وأصفاها، وأشدها وألينها، من اتخذه وحده إلهًا ومعبودًا،

فكان أحب إليه من كل ما سواه، وأخوف عنده من كل ما سواه، وأرجى له من كل

ما سواه، فتتقدم محبته في قلبه جميع المحاب، فتنساق المحاب تبعًا لها كما ينساق

الجيش تبعًا للسلطان، ويتقدم خوفه في قلبه جميع المخوفات، فتنساق المخاوف كلها

تبعًا لخوفه، ويتقدم رجاؤه في قلبه جميع الرجاء، فينساق كل رجاء تبعًا لرجائه.

فهذا علامة توحيد الإلهية في هذا القلب، والباب الذي دخل إليه منه توحيد

الربوبية، أي باب توحيد الإلهية توحيد الربوبية [15] فإن أول ما يتعلق القلب [16]

بتوحيد الربوبية ثم يرتقي إلى توحيد الإلهية، كما يدعو سبحانه عباده في كتابه بهذا

النوع من التوحيد إلى النوع الآخر، ويحتج عليهم به، ويقررهم به، ثم يخبر أنهم

ينقضونه بشركهم به في الإلهية.

وفي هذا المشهد يتحقق له مقام (إياك نعبد) قال الله تعالى: {وَلَئِن سَألْتَهُم

مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} (العنكبوت: 61) ؛ أي فمن أين يصرفون عن شهادة أن لا إله إلا الله، وعن

عبادته وحده، وهم يشهدون أنه لا رب غيره ولا خالق سواه [17] وكذلك قوله تعالى:

{سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (المؤمنون: 85) ؛ فتعلمون أنه إذا كان

وحده مالك الأرض ومن فيها، وخالقهم وربهم ومليكهم، فهو وحده إلههم ومعبودهم،

فكما لا رب لهم غيره، فهكذا لا إله لهم سواه {قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ

العَرْشِ العَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ

يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ} (المؤمنون: 86-88)

الآيات. وهكذا قوله في سورة

النمل: {قُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ *

أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ

مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} (النمل: 59-60) ،

إلى آخر الآيات، يحتج عليهم بأن من فعل هذا وحده، فهو الإله وحده، فإن كان

معه رب فعل هذا فينبغي أن تعبدوه، وإن لم يكن معه رب فعل هذا فكيف تجعلون

معه إلهًا آخر؟

ولهذا كان الصحيح من القولين في تقدير الآية: (أإله مع الله فعل هذا؟) حتى

يتم الدليل، فلا بد من الجواب بلا. فإذا لم يكن معه إله فعل كفعله فكيف تعبدون

آلهة أخرى سواه؟ فعلم أن إلهية ما سواه باطلة، كما أن ربوبية ما سواه باطلة

بإقراركم وشهادتكم. ومن قال: المعنى: هل مع الله إله آخر؟ من غير أن يكون

المعنى (فعل) فقوله ضعيف لوجهين: (أحدهما) أنهم كانوا يقولون: مع الله إلهة

أخرى، ولا ينكرون ذلك (الثاني) أنه لا يتم الدليل، ولا يحصل إفحامهم وإقامة

الحجة عليهم إلا بهذا التقدير؛ أي فإذا كنتم تقولون: إنه ليس معه إله آخر فعل مثل

فعله، فكيف تجعلون معه إلهًا آخر لا يخلق شيئًا وهو إعجاز؟ وهذا كقوله: {أَمْ

جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ

الوَاحِدُ القَهَّارُ} (الرعد: 16) . وقوله: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ

مِن دُونِهِ} (لقمان: 11) . وقوله: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لَاّ يَخْلُقُ} (النحل:

17) . وقوله: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} (النحل: 20)، وقوله:{وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} (الفرقان: 3) ، وهو كثير في القرآن وبه تتم الحجة كما تبين.

والمقصود أن العبد يحصل له هذا المشهد من مطالعة الجنايات والذنوب

وجريانها عليه وعلى الخليقة بتقدير العزيز الحكيم، وأنه لا عاصم من غضبه

وأسباب سخطه إلا هو، ولا سبيل إلى طاعته إلا بمعونته، ولا وصول إلى

مرضاته إلا بتوفيقه، فموارد الأمور كلها منه ومصادرها إليه، وأزِمَّة التوفيق

جميعها بيديه، فلا مستعان للعباد إلا به، ولا متكل إلا عليه [18] كما قال شعيب

خطيب الأنبياء: {وَمَا تَوْفِيقِي إلَاّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (هود: 88) .

***

فصل

المشهد السابع: مشهد التوفيق والخذلان

وهو من تمام هذا المشهد وفروعه، ولكن أفرد بالذكر لحاجة العبد إلى شهوده

وانتفاعه به. وقد أجمع العارفون بالله أن التوفيق هو أن لا يكلك الله إلى نفسك [19] ،

والخذلان هو أن يخلي بينك وبين نفسك. فالعبيد متقلبون بين توفيقه وخذلانه، بل

العبد في الساعة الواحدة ينال نصيبه من هذا وهذا، فيطيعه ويرضيه ويذكره ويشكره

بتوفيقه له، ثم يعصيه ويخالفه ويسخطه ويغفل عنه بخذلانه له. فهو دائر بين

توفيقه وخذلانه، فإن وفقه فبفضله ورحمته، وإن خذله فبعدله وحكمته، وهو

المحمود على هذا وهذا، له أتم حمد وأكمله، ولم يمنع العبد شيئًا هو له، وإنما

منعه ما هو مجرد فضله وعطائه، وهو أعلم حيث يضعه وأين يجعله. فمتى شهد

العبد هذا المشهد وأعطاه حقه، علم ضرورته وحاجته إلى التوفيق كل نفس وكل

لحظة وطرفة عين، وإن إيمانه وتوحيده بيده تعالى [20] لو تخلى عنه طرفة عين

لثُلَّ عرش توحيده، ولخرت سماء إيمانه على الأرض، وإن الممسك له من يمسك

السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه. فهجّيرَى قلبه [21] ودأب لسانه: (يا مقلّب

القلوب ثبت قلبي على دينك، يا مصرّف القلوب صرّف قلبي إلى طاعتك) ودعواه:

(يا حيّ يا قيوم يا بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام، لا إله إلا أنت

برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا إلى

أحد من خلقك) ، ففي هذا المشهد يشهد توفيق الله وخذلانه، كما يشهد ربوبيته

وخلقه، فيسأله توفيقه مسألة المضطر، ويعوذ به من خذلانه عياذ الملهوف، ويُلقي

نفسه بين يديه، طريحًا ببابه، مستسلمًا له، ناكس الرأس بين يديه، خاضعًا ذليلاً

مستكينًا، لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا، ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا.

والتوفيق إرادة الله من نفسه أن يفعل بعبده ما يصلح به العبد، بأن يجعله

قادرًا على فعل ما يرضيه، مريدًا له، محبًّا له، مؤثرًا له على غيره، ويبغض

إليه ما يسخطه ويكرهه إليه. وهذا مجرد فعله، والعبد محل له، قال تعالى:

{وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إلَيْكُمُ

الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إلَيْكُمُ الكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ*

فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (الحجرات: 7-8) . فهو سبحانه عليم

بمن يصلح لهذا الفضل ومن لا يصلح له، حكيم يضعه في مواضعه وعند أهله، لا

يمنعه أهله، ولا يضعه عند غير أهله. وذكر هذا عقيب قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ

رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} (الحجرات: 7) ، ثم جاء به [22]

بحرف الاستدراك فقال: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إلَيْكُمُ الإِيمَانَ} (الحجرات: 7) ؛

يقول سبحانه: لم تكن محبتكم للإيمان وإرادته وتزيينه في قلوبكم منكم، ولكن الله

هو الذي جعله في قلوبكم كذلك فآثرتموه ورضيتموه؛ فلذلك لا تقدموا بين يدي رسولي

ولا تقولوا حتى يقول ولا تفعلوا حتى يأمر. فالذي حبب إليكم الإيمان أعلم

بمصالح عباده منكم، وأنتم فلولا توفيقه لكم [23] لما أذعنت نفوسكم للإيمان، فلم يكن

الإيمان بمشورتكم وتوفيق أنفسكم، ولا تقدمتم به إليها، فنفوسكم تقصر وتعجز عن

ذلك ولا تبلغه، فلو أطاعكم رسولي في كثير مما تريدون لشق عليكم ذلك، ولهلكتم

وفسدت مصالحكم وأنتم لا تشعرون، ولا تظنوا أن نفوسكم تريد بكم الرشد

والصلاح، كما أردتم الإيمان، فلولا أني حببته إليكم وزينته في قلوبكم، وكرهت

إليكم ضده، لما وقع منكم ولا سمحت به أنفسكم.

وقد ضرب للتوفيق والخذلان مثلُ مَلِك أَرسل إلى أهل بلد من بلاده رسولا؛

وكتب معه [24] كتابًا يعلمهم أن العدو مصبحهم عن قريب، ومجتاحهم ومخرب البلد

ومهلك من فيها، وأرسل إليهم أموالاً ومراكبَ وزادًا وعدةً وأدلةً، وقال: ارتحلوا

إليّ مع هؤلاء الأدلة، وقد أرسلت إليكم جميع ما تحتاجون إليه. ثم قال لجماعة من

مماليكه: اذهبوا إلى فلان فخذوا بيده واحملوه [25] ولا تذروه يقعد، واذهبوا إلى

فلان كذلك وإلى فلان، وذروا من عداهم فإنهم لا يصلحون أن يساكنوني في بلدي.

فذهب خواص مماليكه إلى من أمروا بحملهم فلم يتركوهم يقرون، بل حملوهم حملاً

وساقوهم سوقًا إلى الملك، فاجتاح العدو من بقي في المدينة وقتلهم، وأسر من أسر.

فهل يعد الملك ظالمًا لهؤلاء أم عادلاً فيهم؟ نعم؛ خَصّ أولئك بإحسانه وعنايته

وحرمها من عداهم؛ إذ لا يجب عليه التسوية بينهم في فضله وإكرامه، بل ذلك

فضله يؤتيه من يشاء.

وقد فسرت القدرية الجبرية التوفيق بأنه خلق الطاعة، والخذلان (بأنه) خلق

المعصية. ولكن بنوا ذلك على أصولهم الفاسدة من إنكار الأسباب والحكم، وردوا

الأمر إلى محض المشيئة من غير سبب ولا حكمة. وقابلهم القدرية النفاة، ففسروا

التوفيق بالبيان العام، والهدي العام، والتمكن من الطاعة والإقبال عليها وتهيئة

أسبابها. وهذا حاصل لكل كافر ومشرك بلغته الحجة وتمكن من الإيمان. فالتوفيق

عندهم أمر مشترك بين الكفار والمؤمنين، إذ الأقدار والتمكين والدلالة والبيان قد

عمّ به الفريقين [26] ولم يفرد المؤمنين عندهم بتوفيق وقع به الإيمان منهم، والكفار

بخذلان امتنع به الإيمان منهم، ولو فعل ذلك لكان عندهم محاباة وظلمًا. والتزموا

لهذا الأصل لوازم قامت بها عليهم سوق الشناعة بين العقلاء ولم يجدوا بدًّا من

التزامها، فظهر فساد مذهبهم، وتناقض أقوالهم [27] لمن أحاط به علمًا وتصوره

حق تصوره، وعلم أنه من أبطل مذهب (؟) في العالم وأرداه.

وهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، والله يهدي من يشاء

إلى صراط مستقيم. فلم يرضوا بطريق هؤلاء ولا طريق هؤلاء، وشهدوا انحراف

الطريقين عن الصراط المستقيم، فأثبتوا القضاء والقدر وعموم مشيئة الله للكائنات

وأثبتوا الأسباب والحكم والغايات والمصالح، ونزهوا الله عز وجل أن يكون في

ملكه ما لا يشاء، أو أن يقدر خلقه على ما لا يدخل تحت قدرته ولا مشيئته، أو أن

يكون شيء من أفعالهم واقعًا بغير اختياره وبدون مشيئته. ومن قال ذلك فلم يعرف

ربه، ولم يثبت له كمال الربوبية. ونزهوه مع ذلك عن العبث وفعل القبيح وأن

يخلق شيئًا سدًى، وأن تخلو أفعاله عن حِكَم بالغة لأجلها أوجدها، وأسباب بها

سبّبها، وغايات جعلت طرقًا ووسائل إليها. وأن له في كل ما خلقه وقضاه حكمة

بالغة. وتلك الحكمة صفة له قائمة به ليست مخلوقة كما تقول القدرية النفاة للقدر

والحكمة في الحقيقة.

فأهل الصراط المستقيم بريئون من الطائفتين، إلا من حق تتضمنه مقالاتهم،

فإنهم يوافقونهم عليه ويجمعون حق كل منهما إلى حق الأخرى، ولا يبطلون ما

معهم من الحق لِمَا قالوه من الباطل، فهم شهداء الله على الطوائف أمناء عليهم،

حكام بينهم، حاكمون عليهم، ولا يحكم عليهم أحد منهم، يكشفون أحوال الطوائف،

ولا يكشفهم إلا من كشف له عن معرفة ما جاء به الرسول [28] وعرف الفرق بينه

وبين غيره ولم يلتبس عليه، وهؤلاء أفراد العالم ونخبته وخلاصته، ليسوا من

الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا، ولا من الذين تقطعوا أمرهم بينهم زبرًا، بل ممن

هو على بينة من ربه وبصيرة في إيمانه، ومعرفة بما عند الناس، والله الموفق.

***

فصل

المشهد الثامن: مشهد الأسماء والصفات

وهو من أجلّ المشاهد، وهو أعلى مما قبله وأوسع. والمطلع [29] على هذا

المشهد معرفة تعلق الوجود خلقًا وأمرًا بالأسماء الحسنى، والصفات العلى،

وارتباطه بها، وإن كان العالم بما فيه من بعض آثارها ومقتضياتها. وهذا من أجل

المعارف وأشرفها، وكل اسم من أسمائه سبحانه له صفة خاصة، فإن أسماءه

أوصاف مدح وكمال، وكل صفة لها مقتضٍ وفِعل: إما لازم وإما متعدٍّ، ولذلك

الفعل تعلق بمفعول هو من لوازمه، وهذا في خلقه وأمره وثوابه وعقابه، كل ذلك

آثار الأسماء الحسنى وموجباتها. ومن المحال تعطيل أسمائه عن أوصافها ومعانيها،

وتعطيل الأوصاف عما تقتضيه وتستدعيه من الأفعال، وتعطيل الأفعال عن

المفعولات، كما أنه يستحيل تعطيل مفعوله عن أفعاله، وأفعاله عن صفاته،

وصفاته عن أسمائه، وتعطيل أسمائه وأوصافه عن ذاته.

وإذا كانت أوصافه صفات كمال، وأفعاله حكمًا ومصالحَ، وأسماؤه حسنى،

ففرض تعطيلها عن موجباتها مستحيل في حقه. ولهذا ينكر سبحانه على من عطله

عن أمره ونهيه وثوابه وعقابه، وأنه نسبه إلى ما لا يليق به، ويتنزه عنه [30] وأن

ذلك حكم سيئ ممن حكم به عليه، وإن من نسبه إلى ذلك فما قدره حق قدره، ولا

عظمه حق تعظيمه، كما قال تعالى في حق منكري النبوة وإرسال الرسل وإنزال

الكتب: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} (الأنعام: 91)، وقال تعالى في حق منكري المعاد والثواب والعقاب: {وَمَا قَدَرُوا

اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (الزمر: 67) . وقال في حق من جوز عليه التسوية بين المختلفين كالأبرار

والفجار، والمؤمنين والكفار: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ

كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (الجاثية:

21) . فأخبر أن هذا حكم سيئ لا يليق به، تأباه أسماؤه وصفاته، وقال سبحانه:

{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ المَلِكُ الحَقُّ لَا إِلَهَ

إلا َّ هُوَ رَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ} (المؤمنون: 115-116) ، عن هذا الظن

والحسبان، الذي تأباه أسماؤه وصفاته.

ونظائر هذا في القرآن كثير، ينفي عن نفسه خلاف موجب أسمائه وصفاته،

إذ ذلك [31] مستلزم تعطيلها عن كمالها ومقتضياتها، فاسمه الحميد المجيد يمنع ترك

الإنسان سدًى مهملاً معطلاً، لا يؤمر ولا ينهى ولا يثاب ولا يعاقب، وكذلك اسمه

الحكيم، يأبى ذلك، وكذلك اسمه الملك، واسمه الحي يمنع أن يكون معطلاً من

الفعل بل حقيقة الحياة الفعل، فكل حيّ فعّال، وكونه سبحانه خالقًا قيومًا من

موجبات حياته ومقتضياتها، واسمه السميع البصير يوجب مسموعًا ومرئيًّا، واسمه

الخالق يقتضي مخلوقًا. وكذلك الرزاق. واسمه الملك يقتضي مملكةً وتصرفًا

وتدبيرًا وإعطاءً ومنعًا وإحسانًا وعدلاً وثوابًا وعقابًا. واسم البر المحسن المعطي

المنان ونحوها تقتضي آثارها وموجباتها.

إذا عرف هذا فمن أسمائه سبحانه الغفار التواب العفو [32] فلا بد لهذه الأسماء

من متعلقات، ولا بد من جناية تغفر، وتوبة تقبل، وجرائم يعفى عنها. ولا بد

لاسمه الحكيم من متعلق يظهر فيه حكمه [33] إذ اقتضاء هذه الأسماء لآثارها كاقتضاء

اسم الخالق الرازق المعطي المانع للمخلوق والمرزوق والمعطى والممنوع، وهذه

الأسماء كلها حسنى، والرب تعالى يحب ذاته وأوصافه وأسماءه. فهو عفو يحب

العفو، ويحب المغفرة ويحب التوبة، ويفرح بتوبة عبده حين يتوب إليه أعمّ فرح

يخطر بالبال. وكان تقدير ما يغفره ويعفو عن فاعله ويحلم عنه ويتوب عليه

ويسامحه من موجب أسمائه وصفاته، وحصول ما يحبه ويرضاه من ذلك، وما

يحمد به نفسه ويحمده به أهل سماواته وأهل أرضه، ما هو من موجبات كماله

ومقتضى حمده. وهو سبحانه الحميد المجيد، وحمده ومجده يقتضيان آثارهما ومن

آثارهما مغفرة الزلات، وإقالة العثرات، والعفو عن السيئات، والمسامحة على

الجنايات، هذا [34] مع كمال القدرة على استيفاء الحق، والعلم منه سبحانه بالجناية

ومقدار عقوبتها، فحلمه بعد علمه، وعفوه بعد قدرته، ومغفرته عن كمال عزته

وحكمته، كما قال المسيح صلى الله عليه وسلم {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن

تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} (المائدة: 118) . أي فمغفرتك عن كمال

قدرتك وحكمتك، لست كمن يغفر عجزًا، ويسامح جهلاً بقدر الحق، بل أنت عليم

بحقك، قادر على استيفائه، حكيم في الأخذ به.

فمن تأمل سريان آثار الأسماء والصفات في العالم وفي الأمر تبين له أن

مصدر قضاء هذه الجنايات من العبيد، وتقديرها هو من كمال الأسماء والصفات

والأفعال، وغاياتها أيضًا مقتضى حمده ومدده، كما هو مقتضى ربوبيته وإلهيته،

فله في كل ما قضاه وقدره الحكمة البالغة، والآيات الباهرة، والتعرفات إلى عباده

بأسمائه وصفاته، واستدعاء محبتهم له وذكرهم له وشكرهم له، وتعبدهم له بأسمائه

الحسنى، إذ كل اسم فله تعبد مختص به علمًا ومعرفةً وحالاً، وأكمل الناس عبودية

المتعبد بجميع الأسماء والصفات التي يطلع عليها البشر، فلا يحجبه عبودية اسم

عن عبودية اسم آخر، كمن يحجبه التعبد باسمه القدير، عن التعبد باسمه الحكيم

الرحيم، أو يحجبه عبودية اسمه المعطي من عبودية اسمه المانع، أو عبودية اسمه

الرحيم والعفو والغفور عن اسمه المنتقم، أو التعبد بأسماء التودد والبر واللطف

والإحسان عن أسماء العدل والجبروت والعظمة والكبرياء ونحو ذلك. وهذه طريقة

الكمّل من السائرين إلى الله، وهي طريقة مشتقة من قلب القرآن. قال الله تعالى:

{وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (الأعراف: 180) ، والدعاء بها يتناول

دعاء المسألة ودعاء الثناء ودعاء التعبد. وهو سبحانه يدعو عباده إلى أن يعرفوه

بأسمائه وصفاته، ويثنوا عليه بها، ويأخذوا بحظهم من عبوديتها، وهو سبحانه

يحب موجب أسمائه وصفاته. فهو عليم يحب كل عليم، وجوَادٌ يحب كل جواد،

وتْرٌ يحب الوتر، جميل يحب الجمال، عفو يحب العفو وأهله، حيي يحب الحياء

وأهله، بر يحب الأبرار، شكور يحب الشاكرين، صبور يحب الصابرين، حليم

يحب أهل الحلم، فلمحبته سبحانه للتوبة والمغفرة والعفو والصفح خلق من يغفر له

ويتوب عليه ويعفو عنه، وقدر عليه ما يقتضي وقوع المكروه والمبغوض له،

ليترتب عليه المحبوب له المرضي له، فتوسطه كتوسط الأسباب المكروهة

المفضية إلى المحبوب.

فربما كان مكروه النفوس إلى

محبوبها سببًا ما مثله سبب

والأسباب مع مسبباتها أربعة أنواع: محبوب يفضي إلى محبوب، ومكروه

يفضي إلى محبوب. وهذان النوعان عليهما مدار أقضيته وأقداره سبحانه بالنسبة

إلى ما يحبه ويكرهه. والثالث مكروه يفضي إلى مكروه. والرابع محبوب يفضي

إلى مكروه. وهذان النوعان ممتنعان في حقه سبحانه، إذ الغايات المطلوبة من

قضائه وقدره - الذي خلق ما خلق وقضى ما قضى لأجل حصولها - لا تكون إلا

محبوبة للرب مرضية له، والأسباب الموصلة إليها منقسمة إلى محبوب له

ومكروه له. فالطاعات والتوحيد أسباب محبوبة له موصلة إلى الإحسان والثواب

المحبوب له أيضًا، والشرك والمعاصي أسباب مسخوطة له، موصلة إلى العدل

المحبوب له، وإن كان الفضل أحب إليه من العدل؛ فاجتماع العدل والفضل أحب

إليه من انفراد أحدهما، لما فيهما من كمال الملك والحمد، وتنوع الثناء وكمال

القدرة.

فإن قيل: كان يمكن حصول هذا المحبوب من غير توسط المكروه. قيل هذا

سؤال باطل لأن وجود الملزوم بدون لازمه ممتنع، والذي يقدر الذهن وجوده شيء

آخر غير هذا المطلوب المحبوب للرب، وحكم الذهن عليه بأنه محبوب للرب حكم

بلا علم، بل قد يكون مبغوضًا للرب تعالى لمنافاته حكمته، فإذا حكم الذهن عليه

بأنه محبوب له كان نسبة له إلى ما لا يليق به ويتعالى عنه. فليعط اللبيب هذا

الموضع حقه من التأمل فإنه مزلة أقدام، ومضلة إفهام، ولو أمسك عن الكلام من

لا يعلم لقل الخلاف. وهذا المشهد أجل من أن يحيط به كِتاب، أو يستوعبه خطاب،

وإنما أشرنا منه إلى أدنى إشارة تطلع على ما وراءها، والله الموفق [35] .

***

فصل

المشهد التاسع: مشهد زيادة الإيمان وتعدد شواهده

وهذا من ألطف المشاهد وأخصها بأهل المعرفة. ولعل سامعه يبادر إلى

إنكاره ويقول: كيف يشهد زيادة الإيمان من الذنوب والمعاصي؟ ولا سيما ذنوب [36]

العبد ومعاصيه، وهل ذلك إلا منقص للإيمان؟ فإنه بإجماع السلف يزيد

بالطاعة وينقص بالمعصية. فاعلم أن هذا حاصل من التفات العارف إلى الذنوب

والمعاصي منه ومن غيره، وإلى ترتب آثارها عليها. وترتب هذه الآثار عليها علم

من أعلام النبوة، وبرهان من براهين صدق الرسل وصحة ما جاءوا به. فإن

الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أمروا العباد بما فيه صلاح ظواهرهم وبواطنهم

في معاشهم ومعادهم، ونهوهم عما فيه فساد ظواهرها وبوطنهم في المعاش والمعاد،

وأخبروهم عن الله عز وجل أنه يحب كذا وكذا [37] وأنه يبغض كيت وكيت،

ويعاقب عليه بكيت وكيت، وأنه إذا أطيع بما أمر به شكر عليه بالإمداد، والزيادة

والنعم في القلوب والأبدان والأموال، ووجد العبد زيادته وقوته في حاله كلها، وإنه

إذا خولف أمره ونهيه ترتب عليه من النقص والفساد والضعف والذل والنهاية

والحقارة وضيق العيش وتنكد الحياة ما ترتب، كما قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً

مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا

يَعْمَلُونَ} (النحل: 97)، وقال: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم

مَّتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} (هود: 3) . وقال

تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى} (طه: 124) ؛ وفسرت المعيشة الضنك بعذاب القبر؛ والصحيح أنها في الدنيا

وفي البرزخ، فإن من أعرض عن ذكره الذي أنزله فله من ضيق الصدر ونكد العيش

وكثرة الخوف وشدة الحرص والتعب على الدنيا والتحسر على فواتها قبل حصولها

وبعد حصولها، والآلام التي في خلال ذلك - ما لا يشعر به القلب - لسكرته

وانغماسه في السكر، فهو لا يصحو ساعة إلا أحس وشعر بهذا الألم فبادر إلى

إزالته بسكر ثانٍ، فهو هكذا مدة حياته. وأي عيشة أضيق من هذه لو كان للقلب

شعور فقلوب أهل البدع والمعرضين عن القرآن وأهل الغفلة عن الله وأهل

المعاصي في جحيم قبل الجحيم الكبرى، وقلوب الأبرار في نعيم قبل النعيم الأكبر،

{إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} (الانفطار: 13-14) ، هذا

في دورهم الثلاث ليس مختصًّا بالدار الآخرة، وإن كان تمامه وكماله وظهوره إنما

هو في الدار الآخرة [38] وفي البرزخ دون ذلك، كما قال تعالى: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ

ظَلَمُوا عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (الطور: 47)، وقال تعالى:

{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ

الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} (النمل: 71-72) ، وفي هذه الدار دون ما في البرزخ، ولكن

يمنع من [39] الإحساس به الاستغراق في سكرة الشهوات، وطرح ذلك عن القلب

وعدم التفكير فيه. والعبد قد يصيبه ألم حسي فيطرحه عن قلبه ويقطع التفاته عنه،

ويجعل إقباله على غيره لئلا يشعر به جملةً، فلو زال عن ذلك الالتفات لصاح من

شدة الألم فما الظن بعذاب القلوب وآلامها؟ !

وقد جعل الله سبحانه للحسنات والطاعات آثارًا محبوبة لذيذة طيبة لذاتها فوق

لذة المعصية بأضعاف مضاعفة لا نسبة لها إليها، وجعل للسيئات والمعاصي آلامًا

وآثارًا مكروهةً، وحرازات تربي على لذة تناولها بأضعاف مضاعفة. قال ابن

عباس: إن للحسنة نورًا في القلب، وضياءً في الوجه، وقوةً في البدن، وزيادةً

في الرزق، ومحبةً في قلوب الخلق. وإن للسيئة سوادًا في الوجه وظلمةً في القلب

ووهنًا في البدن، ونقصًا في الرزق، وبغضةً في قلوب الخلق. وهذا يعرفه

صاحب البصيرة ويشهده من نفسه ومن غيره، فما حصل للعبد حال مكروهة قط إلا

بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر. قال الله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا

كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} (الشورى: 30) ، وقال لخيار خلقه وأصحاب

نبيه: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} (النساء:

79) ، والمراد بالحسنة والسيئة هنا النعم والمصائب التي تصيب العبد من الله.

ولهذا قال (ما أصابك) ولم يقل: ما أصبت. فكل نقص وبلاء وشر في الدنيا

والآخرة فسببه الذنوب ومخالفة أوامر الرب، فليس في العالم شر قط إلا الذنوب

وموجباتها.

وآثار الحسنات والسيئات في القلوب والأبدان، والأموال أمر مشهود في العالم،

لا ينكره ذو عقل سليم، بل يعرفه المؤمن والكافر، والبر والفاجر، وشهود العبد

هذا في نفسه وفي غيره وتأمله ومطالعته مما يقوي إيمانه بما جاءت به الرسل،

وبالثواب والعقاب، فإن هذا عدل مشهود محسوس في هذا العالم، ومثوبات

وعقوبات عاجلة دالة على ما هو أعظم منها لمن كانت له بصيرة، كما قال بعض

الناس: إذا صدر مني ذنب ولم أبادره ولم أتدراكه بالتوبة انتظرت أثره السيئ،

فإذا أصابني أو فوقه أو دونه كما حسبت، يكون هجيراي: (أشهد أن لا إله إلا الله،

وأشهد أن محمدًا رسول الله) ويكون ذلك من شواهد الإيمان وأدلته، فإن الصادق

مني أخبرك إنك إذا فعلت كذا وكذا ترتب عليه من المكروه كذا وكذا، فجعلت كلما

فعلت شيئًا من ذلك حصل ما قال من المكروه لم تزدد إلا علمًا بصدقه وبصيرةً فيه،

وليس هذا لكل أحد، بل أكثر الناس يرين الذنوب على قلبه فلا يشهد شيئًا من ذلك

ولا يشعر به ألبتة. وإنما يكون هذا لقلب فيه نور الإيمان، وأهوية الذنوب

والمعاصي تعصف فيه، فهو يشاهد هذا وهذا، ويرى حال مصباح إيمانه مع قوة

تلك الأهوية والرياح، فيرى نفسه كراكب البحر عند هيجان الرياح وتقلب السفينة

وتكفئها، ولا سيّما إذا انكسرت به وبقي على لوح تلعب به الرياح، فهكذا المؤمن

يشاهد نفسه عند ارتكاب الذنوب، إذا أريد به الخير، وإن أريد به غير ذلك فقلبه

في وادٍ آخر.

ومتى انفتح هذا الباب للبعد انتفع بمطالعة تاريخ العالم وأحوال الأمم،

ومجريات الخلق، بل انتفع بمجريات أهل زمانه وما يشاهده من أحوال الناس،

وفهم حينئذ معنى قوله تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} (الرعد

: 33) ، وقوله: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إلا َّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا العِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ

لَا إِلَهَ إلا َّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} (آل عمران: 18) ، فكل ما تراه في الوجود من

شر وألم وعقوبة وجدب ونقص في نفسك وفي غيرك فهو من قيام الرب تعالى

بالقسط، وهو عدل الله وقسطه، وإن أجراه على يدِ ظالم فالمُسَلِّط له أعدل العادلين،

كما قال تعالى لمن أفسد في الأرض: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً

لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ} (الإسراء: 5)

الآية، فالذنوب مثل

السموم مضرة بالذات، فإن تداركها من سقي بالأدوية المقاومة لها

، وإلا قهرت

القوة الإيمانية وكان الهلاك، كما قال بعض السلف: المعاصي بريد الكفر، كما أن

الحمى بريد الموت فشهود العبد نقص حاله إذا عصى ربه، وتغير القلوب عليه

وجفولها منه، وانسداد الأبواب في وجهه، وتوعر المسالك عليه وهو أنه على أهل

بيته وأولاده وزوجته وإخوانه [40] وتطلبه ذلك حتى يعلم من أين أتى، ووقوعه على

السبب الموجب لذلك مما يقوي إيمانه. فإن أقلع وباشر الأسباب التي تفضي به إلى

ضد هذه الحال، ورأى العز بعد الذل، والغنى بعد الفقر، والسرور بعد الحزن،

والأمن بعد الخوف، والقوة في قلبه - بعد ضعفه ووهنه - ازداد إيمانًا مع إيمانه،

فتقوى شواهد الإيمان في قلبه، وبراهينه وأدلته في حال معصيته وطاعته، فهذا

من الذين {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا

يَعْمَلُونَ} (الزمر: 35) ، وصاحب هذا المشهد متى تبصر فيه وأعطاه حقه

صار من أطباء القلوب العالمين بدائها ودوائها، فنفعه الله في نفسه ونفع به من شاء

من خلقه، والله أعلم.

***

فصل

المشهد العاشر: مشهد الرحمة

فإن العبد إذا وقع في الذنب خرج من قلبه تلك الغلظة والقسوة، والكيفية

الغضبية التي كانت عنده لمن صدر منه ذنب، حتى لو قدر عليه لأهلكه، وربما دعا

الله عليه أن يهلكه ويأخذه غضبًا منه لله وحرصًا على أن لا يعصى، فلا يجد في

قلبه رحمة للمذنبين الخاطئين ولا يراهم إلا بعين الاحتقار والازدراء، ولا يذكرهم

إلا بلسان الطعن فيهم والعيب لهم والذم، فإذا جرت عليه المقادير وخلي ونفسه

استغاث بالله والتجأ إليه، وتململ بين يديه تململ السليم، ودعاه دعاء المضطر،

فتبدلت تلك الغلظة على المذنبين رقة، وتلك القساوة على الخاطئين رحمة ولينًا،

مع قيامه بحدود الله، وتبدل دعاؤه عليهم دعاءًا لهم، وجعل لهم وظيفة من عمره؛

يسأل الله فيه أن يغفر لهم، فما أنفعه له من مشهد، وما أعظم جدواه عليه! والله

أعلم.

***

فصل

فيورثه ذلك (المشهد الحادي عشر)

وهو مشهد العجز والضعف، وأنه أعجز شيء عن حفظ نفسه وأضعفه، وأنه

لا قوة له ولا قدرة ولا حول إلا بربه، فيشهد قلبه كريشة ملقاة بأرض فلاة تقلبها

الرياح يمينًا وشمالاً، ويشهد نفسه كراكب سفينة في البحر تهيج بها الرياح،

وتتلاعب بها الأمواج، ترفعها تارة وتخفضها تارة أخرى، تجري عليه أحكام القدر

وهو كالآلة طريحًا بين يدي وليه ملقى ببابه، واضعًا خده على ثرى أعتابه، لا

يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا، ليس له من نفسه إلا

الجهل والظلم وآثارهما ومقتضياتهما، فالهلاك أدنى إليه من شراك نعله، كشاة ملقاة

بين الذئاب والسباع لا يردهم عنها إلا الراعي، فلو تخلى عنها طرفة عين

لتقاسموها أعضاءً. هكذا حال العبد ملقى بين الله وبين أعدائه من شياطين الإنس

والجن، فإن حماه منهم وكفهم عنه لم يجدوا إليه سبيلاً، إن تخلى عنه ووكله إلى

نفسه طرفة عين لم ينقسم عليهم بل هو نصيب من ظفر به منهم.

وفي هذا المشهد يعرف نفسه حقًّا، ويعرف ربه، وهذا أحد التأويلات للكلام

المشهور (من عرف نفسه عرف ربه) وليس هذا حديثًا عن رسول الله صلى الله

عليه وسلم، إنما هو أثر إسرائيلي بغير هذا اللفظ أيضًا (يا إنسان اعرف نفسك

تعرف ربك) وفيه ثلاث تأويلات:

(أحدها) أن من عرف نفسه بالضعف؛ عرف ربه بالقوة، ومن عرفها

بالعجز؛ عرف ربه بالقدرة، ومن عرفها بالذل؛ عرف ربه بالعز، ومن عرفها

بالجهل؛ عرف ربه بالعلم، فإن الله سبحانه استأثر بالكمال المطلق والحمد والثناء

والمجد والغنى، والعبد فقير ناقص محتاج، وكلما ازدادت معرفة العبد بنقصه

وعيبه وفقره وذله وضعفه، ازدادت معرفته لربه بأوصاف كماله.

(التأويل الثاني) أن من نظر إلى نفسه وما فيها من الصفات الممدوحة من

القوة والإرادة والكلام والمشيئة والحياة، عرف أن من أعطاه ذلك وخلقه فيه أولى

به، فمعطي الكمال أحق بالكمال، فكيف يكون العبد حيًّا متكلمًا سميعًا بصيرًا مريدًا

عالمًا، يفعل باختياره، ومن خلقه وأوجده لا يكون أولى بذلك منه؟ . فهذا من

أعظم المحال، بل من جعل العبد متكلمًا أولى أن يكون هو متكلمًا، ومن جعله حيًّا

عليمًا سميعًا بصيرًا فاعلاً قادرًا، أولى أن يكون كذلك. فالتأويل الأول من باب

الضد وهذا من باب الأولوية.

(والتأويل الثالث) أن هذا من باب النفي. أي كما أنك لا تعرف نفسك التي

هي أقرب الأشياء إليك، فلا تعرف حقيقتها ولا ماهيتها ولا كيفيتها، فكيف تعرف

ربك وكيفية صفاته؟ . والمقصود أن في هذا المشهد يعرف العبد أنه عاجز ضعيف،

فيزول عنه رعونات الدعاوى والإضافات إلى نفسه، ويعلم أنه ليس له من الأمر

شيء وليس بيده شيء؛ إن هو إلا محض الفقر والعجز والضعف.

(للبحث بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) تابع لما نشر في ص 113 من المجلد السابع عشر.

(1)

المعنى المراد من لفظ المشهد: هو ما يغلب على اعتقاد الإنسان أو وجدانه وشعوره في معصيته أو معصية غيره، ومثله كل عامل في عمله، ويعبر بعض الناس الآن عن مثل هذا المعنى بالملاحظة. فيقال على عُرفهم: إن العامي الجاهل لا يلاحظ في المعصية إلا إرضاء

شهوته. ولكن الطبيب الجاهل يلاحظ معنى آخر مع قصد الشهوة وهو أن هذا العمل من الوظائف الطبيعية لبعض أعضاء الجسم. وعلى ذلك فقس.

(2)

حذفنا من هذا الموضع بحثًا وجيزًا في عقاب من ثبت أنه يؤذي بعينه، وأنه إن قتل بالعين لا يقتل بالسيف؛ لأن الجزاء من جنس العمل.

(3)

أي كبار الناس النافعين ورؤساؤهم. أي تعتبر رؤيتها في المنام بذلك.

(4)

أي في إفساد كل ما تصل إليه يده.

(5)

وفي نسخة (المغتذي) .

(6)

وفي نسخة (أكلها) .

(7)

كان الظاهر أي يقال (ضروري) ؛ لأنه خبر قوله فاحتياجه.

(8)

كذا.

(9)

وفي نسخة التغيرات.

(10)

وفي نسخة (تاركو الذنوب) .

(11)

وفي نسخة (من) .

(12)

بقي من بيان حكمة الله تعالى في تقدير الكفر والمعاصي كلمة ضرورية لا يتم بدونها. وهي معنى ذلك التقدير، وكونه لا دلالة فيه ولا اقتضاء للجبر والإكراه على الفعل. وذلك أنه تعالى خلق الناس مختارين في أفعالهم، يعملونها بإرادتهم، حسب علمهم أو ظنهم بأن فعل كذا أو تركه خير لهم. فكل عمل من أعمالهم حلقة من سلسلة الأسباب والمسببات قبله حلقة الاختيار، وهذا الترتيب هو التقدير، فالقدر جعل المسببات على قدر الأسباب، وانتظام الجميع في سلسلة واحدة ، وضده الخلق الأنف الذي هو مذهب القدرية. ومعناها أن الله تعالى يخلق كل شيء يقع في الكون ابتداءً واستئنافًا لا يكون شيء من الحوادث مبنيًّا على تقدير ونظام سابق، تكون فيه الأسباب على قدر المسببات، والنتائج أثرًا لترتيب المقدمات. فكل مخلوق له علم وإرادة واختيار يطيع أو يعصي باختياره الذي هو من قدر الله، ولا يخلق الله كل عمل يصدر منه خلقًا مستأنفًا كما يزعم منكرو القدر العميان. وله في هذا التقدير حِكَم كثيرة أشار المصنف إلى طائفة منها، والله عليم حكيم.

(13)

وفي نسخة بزيادة (أي مقطوع) وهو تفسير لممنون.

(14)

وفي نسخة (توحيد) بدون هاء.

(15)

وبعبارة أخرى توحيد الربوبية، باب يدخل منه إلى توحيد الإلهية.

(16)

وفي نسخة (العبد) .

(17)

وفي نسخة (وأنه لا خالق سواه) .

(18)

أي أن الذي يدرك حقيقة معنى القدر يعلم أن ما آتاه الله تعالى إياه من هدايات الحواس والعقل والوجدان، وما يصل إليه علمه المكتسب بها والضروري الذي هو أقوى منه، كل ذلك لا يكفي لتصريف إرادته واختياره دائمًا فيما هو خير له، فإنه مهما اتسع علمه واختياره يختار لنفسه أحيانًا كثيرة ما هو شر له في دينه ودنياه وعاجل أمهر وآجله، فإذا فقه هذا علم عِلْمَ شهود أنه لا يستغني طرفة عين عن توفيق الله وعنايته.

(19)

هذا تفسير باللازم، وأما الملزوم فكون الأسباب المكسوبة وغير المكسوبة موافقة للمصلحة الصحيحة.

(20)

وفي النسخة الثانية (وتوحيده ممسك بيد غيره بيده تعالى) .

(21)

هجيرى الإنسان (بكسر الهاء وتشديد الجيم المكسورة والقصر) دأبه الذي يلازمه ولا يتركه. ويسميها الناس في بعض البلاد في هذا العصر (لازمة) فالذي يكثر في كلامه من كلمة (مثلاً) يقولون: لازمته مثلاً.

(22)

سقط من النسخة الثانية لفظ (به) .

(23)

سقط من النسخة الثانية لفظ (لكم) .

(24)

وفي نسخة (له) .

(25)

وفي نسخة (فاحملوه) .

(26)

وفي نسخة (بين الفريقين)

(27)

وفي نسخة (قولهم)

(28)

وفي نسخة (الرسل) .

(29)

المطلع بفتح اللام. وخبره معرفة تعلق الوجود.

(30)

وفي نسخة: (بل يتنزه عنه) .

(31)

ونسخة (ذاك) .

(32)

وفي نسخة بواو العطف في هذه الأسماء الثلاثة الأخيرة. وهنا محل الشاهد.

(33)

وفي نسخة (حكمة) .

(34)

سقط لفظ (هذا) من النسخة الثانية.

(35)

وفي نسخة زيادة (المعين) .

(36)

وفي نسخة (من ذنوب) .

(37)

وفي نسخة زيادة (فيثيب عليه) .

(38)

ما رأيت أحدًا سبقني إلى تقرير هذا المعنى والاستدال عليه بالقرآن مثل المصنف.

(39)

وفي نسخة بسقوط (من) .

(40)

هذه الآثار التي تترتب على الذنب لا يشهدها كلها إلا المؤمن الذي يعيش بين المؤمنين الصادقين. وأما الجاحدون والمنافقون والفاسقون المصرون، فلا تتغير قلوب بعضهم على بعض لأجل المعصية، ولا يشعرون بهوانهم على أهل بيوتهم، إلا قليلاً وفي بعض المعاصي. دون بعض؛ فالذين اعتادوا شرب الخمر في بيوتهم، وغير بيوتهم يعدونها هم وأهلوهم كشرب

الماء. وللمعاصي آثار أخرى في الأخلاق وفي الصحة لا يغفل عن قبحها وشؤمها إلا من هو أجهل من الأنعام.

ص: 113

الكاتب: محمد طاهر التنير

‌الرد المتين على

مفتريات المبشرين [*]

لقد اطّلعنا على المجلة المدعوة (الشرق والغرب) التي يطبعها المبشرون

بمصر وقرأنا العدد الأول الذي صدر في 1 كانون الثاني سنة 1914 والعدد الثاني

الذي صدر في 15 من الشهر المذكور، وإذا فيهما - على زعم أولئك المبشرين -

تفنيد لما كتبناه في كتابنا الذي سميناه: (العقائد الوثنية في الديانة النصرانية) ،

وجميع ما قالوه ينحصر في خمسة أمور:

(الأول منها) : تطاولهم واستبحاتهم لكلام البذاء والتطاول. وهذا ليس له

عندنا جواب فليفرحوا وليتنعموا به.

(الأمر الثاني) : ادّعاؤهم أننا اعتمدنا في كتابنا على أقوال علماء نصارى

أوروبيين ملحدين. وهذا نجاوبهم عليه بأن لهم الخيار بما يصفونهم به. أما نحن

فنقول بحقهم أنهم علماء مستقلون قالوا الحق الذي وصل إليه علمهم بشأن ديانة

المبشرين غير مبالين بمن لا يرضاه منهم.

(الأمر الثالث) : عدم تصديقهم باطّلاعنا على الكتب التي ذكرناها في أول

الكتاب. وهذا أيضًا لهم الخيار فيه صدقوا أم لم يصدّقوا. ونقول لهم ولمن هم على

شاكلتهم: ها هي ذي مكتبتنا حاضرة لكل من يروم الاطلاع عليها، ونزيدهم -

وربنا شهيد - إنه عندنا عدة كتب غير التي ذكرناها لم ننقل منها كلمة واحدة؛ لشدة

اعتراضاتها على الديانة النصرانية. وجميعها تأليف علماء مسيحيين أوربيين. وإن

أحبوا فإننا مستعدون لذكر أسمائها، وأسماء المدن التي طبعت فيها مع أسماء

الطابعين.

(الأمر الرابع) : قولهم ما نصه بالحرف (فإذا استزادنا حضرته من نقد

بقية ما في كتابه فربما عدنا إليه في فرصة أخرى. ولكن ليسمح لنا الآن بهذه

النصيحة وهي أن لا يحشر نفسه بين العلماء الباحثين، بل ليدع ذلك لرجال العلم

وليبحث له عن شغل يرتزق منه والله يهدي سواء السبيل) .

أما من جهة نقدهم لبقية ما في كتابنا فإننا نشكره لهم سلفًا، فإننا لم نأت بكلمة

واحدة من عندنا، ولا بكلمة واحدة من كلام علماء المسلمين رضي الله عنهم، بل

جميع ما ذكرناه مأخوذ من كتب علماء الغرب المسيحيين خاصة، وأما أمرهم إيانا

بأن لا نحشر نفسنا بين العلماء الباحثين بل لندع ذلك لرجال العلم، وأن نبحث عن

شغل نرتزق منه! فأجيبهم عنه بأسف عظيم: أن والدي منذ نعومة أظفاري

وضعني بمدارس المبشرين، ولم يعلم أن الدارس فيها يخرج محبًّا للكسل والبطالة

واللهو والسباحة والتسول، وأكره شيء عليه السعي وراء شغل يرتزق منه،

ويفضل الخمول على السعي، والفاقة على الغنى؛ لرسوخ ما علموه إياه في عقله

كتعليمهم لتلاميذهم الصغار (فلا تهتموا للغد لأن الغد يهتم بما لنفسه) وكذلك (لا

تهتموا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون) وكذلك (انظروا إلى طيور السماء إنها لا

تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن، وأبوكم السماوي يقوتها) .

وكذلك فقال يسوع لتلاميذه: (الحق أقول لكم إنه يعسر أن يدخل غني إلى

ملكوت السماوات؟ وأقول لكم أيضًا: إن مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن

يدخل غني إلى ملكوت السموات. فأجاب بطرس حينئذ وقال له: ها نحن تركنا

كل شيء وتبعناك، فإذًا يكون لنا. وكل من ترك بيوتًا أو إخوةً أو أخواتٍ أو أبًا

أو أمًّا أو امرأةً أو أولادًا أو حقولاً من أجل اسمي يأخذ مئة ضعف ويرث الحيوة

الأبدية) . وغير ذلك كثير مما هو على هذا النمط، أما لو وضعني بمدارس

المسلمين، لكنت لكم من الشاكرين، لأن نصحكم يكون تذكيرًا لي بما درسته فيها

من آيات القرآن المجيد، والحديث الشريف، كقوله تعالى:] فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ

فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ [، وكقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ

الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (الجمعة: 10) ،

وكقوله تعالى: {وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً} (نوح: 12)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:(كاد الفقر أن يكون كفرًا)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (اعمل عمل امرئ يظن أنه لن يموت أبدًا، واحذر حذر

امرئ يخشى أن يموت غدًا) [1] وقوله صلى الله عليه وسلم: (ما أكل أحد قط خيرًا

من أن يأكل من عمل يده) [2] .

وكذلك أيضًا: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسًا مع أصحابه ذات يوم

فنظروا إلى شاب ذي جَلَدٍ وقوة وقد بكَّر يسعى فقالوا: ويح هذا لو كان شبابه وجلده

في سبيل الله. فقال صلى الله عليه وسلم: لا تقولوا هذا فإنه إن كان يسعى

على نفسه ليكفها عن المسألة ويغنيها عن الناس فهو في سبيل الله، وإن كان يسعى

على أبوين ضعيفين، أو ذرية ضعاف ليغنيهم ويكفيهم فهو في سبيل الله) [3]

واحسرتاه! ليته وضعني بمدارس تعلم القرآن المجيد، والحديث الشريف، أي

تعلم الحكمة، والهمة والرحمة، ولا كان وضعني بمدارس تعلم الكسل والخمول

والبلادة وحب التسول والفاقة وبغض المجد وكره الغنى.

(الأمر الخامس) : اعتراضهم على بعض علماء المسلمين الكرام

وتصريحهم باسم الأمير صاحب التآليف المشهورة المبنية على آيات القرآن المجيد

والحديث الشريف، ويكفهم ردًّا على اعتراضهم وتحاملهم ما أبدوه من العداوة

والبغضاء للحق وأهله.

أما اعتراضهم على آيات القرآن المجيد؛ كقولهم ما نصه بالحرف: (ولا نحن

نطلب من إخواننا المسلمين أن يبينوا لنا كيف يصح القول بأن هامان كان وزيرَ

فرعون، وأن مريم العذراء كانت أخت موسى وهارون، على ما يستفاد من

القرآن، ولا غير ذلك من المشاكل التي يستحيل التوفيق بينها وبين التاريخ) .

على رِسلِكُمْ يا أيها المبشرون الزاعمون إنكم لا تقولون إلا الحق المبين: فما

معنى ذكر مثل هذه المسائل وما مدخلها مع تفنيدكم لكتابنا؟ أَمَا آن لكم أن تتركوا

المغالطات والسفسطات والتمويهات وتمقتوها؟ أما آن لكم أن تتركوا التشدق بما

يعود عليكم بالخيبة والخذلان؟ واللهِ لو كان قصدكم الاستفهام حقيقةً لَمَا كنا نتأثر

باعتراضاتكم وتشدقاتكم، ولكن نعلم أن قصدكم بها إغواء عباد الله تعالى وتشكيك

عوامّ المسلمين في دينهم. ومع ذلك نقول لكم يا مرحبًا! سلوا عما تشاءون من

المشاكل التي تظنون استحالة التوفيق بينها وبين التاريخ الذي كتبته أيدي الصادقين.

ونقول لكم - مع أننا نعلم أنكم قصدتم بالتجاهل الإغواء وتشكيك عباد الله

تعالى -: إن المقصود من أخوية مريم العذراء هو أخوية تشبيه لا أخوية ولادة من

أب وأم، وهذا التشبيه كثير ومشهور في اللغات الشرقية، ولقد جاء مثله في إنجيل

متى ففي الفصل الثاني عشر من عدد 46 إلى 50: (وفيما يكلم الجموع إذا أمه

وإخوته قد وقفوا خارجًا طالبين أن يكلموه فأجاب وقال للقائل له: من هي أمي ومن

هم إخوتي؟ ثم مد يده نحو التلاميذ وقال: ها أمي وإخوتي؛ لأن من يصنع مشيئة

أبي الذي في السموات هو أخي وأختي وأمي) وجاء مثله في إنجيل مرقص

(راجع الفصل الثالث من عدد 32 إلى 34) .

وهكذا أخوة مريم لهارون عليهما السلام أي كأخوة المسيح عليه السلام لمن

أشار إليهم بيده. وكما يشبهون الصالح بأحد المشهورين بالتقوى والعفاف في الأيام

الخالية كذلك يشبهون الشرير المشهور بالخيانة في القرون الماضية كقولهم: (أخو

الحارث بن ظالم) وهكذا.

ولنا على الأعداد التي ذكرناها من الإنجيل سؤالات عديدة نود الاستفسار عنها

من حضرة المبشرين الذين انتقدوا إطلاق لقب (أخت هارون) على مريم ولكن

خوفًا من أن يتوهم أحد المسيحيين الشرقيين بأننا نقصد الحط من المعتقدات

النصرانية كما توهموه لمّا قلنا عن البلغاريين وحلفائهم إنهم كفار ظالمون لاستباحتهم

سفك دماء نساء وبنات وأولاد المسلمين ودفنهم جرحى العساكر العثمانية تحت

التراب وهم أحياء يقاسون ألم الجراح وألم الموت خنقًا، وإحراقهم النساء المسلمات،

وغير ذلك من الأعمال الوحشية التي لم يرو التاريخ صدور مثلها حتى ولا من

القبائل المتوحشة في إفريقية. لذلك نكتفي بهذين السؤالين مؤملين من حضرتهم

إفادتنا عنهما وهما:

(1)

إنهم يقولون عن مريم العذراء عليها السلام أنها لم تلد أحدًا غير

المسيح عليه السلام، والأناجيل تقول: إنه كان لها أولاد، فهل نصدق كلامهم

ونضرب بكلام الإنجيل عرض الحائط أم نصدق كلام الإنجيل ونكذب كلامهم.

(2)

يظهر من كلام الإنجيل أنها أي أمه لم تكن مؤمنة به ولا صانعة إرادة

مرسلة كتلاميذه، ولولا ذلك لَمَا تبرأ منها هي ومن معها من إخوته أشار نحو

الحاضرين بأنهم هم إخوته وأخواته وأمه. فلو كانت مؤمنة به لما فعل هذا لأن فيه

إهانة عظيمة لها، كما هو المتبادر من عبارة الإنجيل لكل من يقرؤه. ومعلوم أننا

نحن لا نؤمن بهذه القصة التي سموها إنجيلاً، بل نؤمن بأن أمه كانت مؤمنة تقية،

وأنه كان برًّا بها كما حكى الله عنه في قوله: {وَبَراًّ بِوَالِدَتِي} (مريم: 32) .

وقد أرسلنا إليهم كتاب (تاريخ الفحشاء) هدية كي يتسلوا به إلى أن نختصر

بعض فصول كتابنا الذي سميناه (مقام عيسى المسيح عليه السلام في النصرانية

والإسلام) لتنشر في المنار الأغر أدام الله شمس صدقه منيرة سماء العدل والمدنية.

وأما اعتراضهم على مسألة تحديد تعدد الزوجات، وأقوال الصوفي المتنصر

وغير ذلك مما ذكروه بمجلتهم فسنرد عليه في الفصول الآتية إن شاء الله تعالى.

محمد طاهر التنير

(المنار) :

نشرنا هذه النبذة ويتلوها الفصل الأول من الكتاب الذي أشار إليه الكاتب،

وقد تصرفنا في العبارة بعض التصرّف فإن في الأصل شدة في العبارة لا حاجة

إليها. وسنعلق على الفصل الآتي كلامًا نبين فيه الغرض من نشر أمثال هذه

المقالات.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) لصاحب الإمضاء من متخرجي الكلية الأمريكانية ببيروت.

(1)

المنار: رواه البيهقي عن عبد الله بن عمرو.

(2)

رواه البخاري عن المقدام.

(3)

رواه الطبراني عن كعب بن عجرة.

ص: 138

الكاتب: محمد طاهر التنير

‌مقام عيسى

يسوع المسيح عليه السلام

في النصرانية والإسلام

الفصل الأول في نسبه

(تنبيه مهم)

إن إهانة الناس واحتقار أديانهم لَمِنْ أقبح الأعمال وأعظمها كرهًا ومقتًا

عند المسلمين كافة، ولا يتأتى عنها إلا العداوة والبغضاء، على مخالفتها للشريعة

الغرَّاء، قال الله تعالى:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} (البقرة:

256) ، وكل من يتدبر الحقائق بعين الصدق والإنصاف يرى أن جميع ما كتبه

علماء المسلمين رضي الله عنهم قديمًا وحديثًا بشأن النصرانية لم يكن سوى رد

على المفتريات التي رمى الظالمون بها دين الإسلام المبين، بغيًا وعدوانًا حينًا بعد

حين، وهذا الافتراء الذي اتخذه المبشرون وغيرهم من قسيسي الفرق النصرانية

مهنة لهم في هذه الأيام هو الذي اضطرنا إلى كتابة هذه الكتب وهي: (العقائد

الوثنية، في الديانة النصرانية. ومقام عيسى عليه السلام في النصرانية والإسلام)

و (آداب الإسلام وتعليم التوراة والإنجيل) و (أخلاق عيسى المسيح عليه السلام

في الأناجيل وفي القرآن المجيد) ولم يطبع منها سوى (كتاب العقائد الوثنية) وإن

شاء الله تعالى سنطبع البقية بأقرب وقت بعد ما ننشر أكثر فصولها باختصار في

المنار الأغر.

وقد بيّنا الحقائق - ولله الحمد - بطريقة ترضي حتى أشد الناس عداوة لدين

الإسلام المبين؛ إذ لا خير يرجى من كتابة ما يغضب الناس ولا سيّما في الأمور

الدينية التي هي أعز شيء عند الإنسان، مهما كان دينه. قال الله تعالى: {ادْعُ

إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ

أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (النحل: 125) فالحمد لله على

نعم تعليم القرآن المجيد، الذي لولاه لكنا مثل أولئك المبشرين ومن ينحو نحوهم،

الذين ألفوا تلك الكتب السافلة المشحونة بالباطل والتطاول والافتراء وغير ذلك ممّا

هو من أخلاقهم وخصالهم.

وإنَّا نلفت نظر القارئ الفاضل إلى أمر ذي بال وهو اقتصارنا على ما جاء

في التوراة والإنجيل كي لا يقدر أحد منهم على نسبة الكلام إلينا كما فعلوا بنسبة

كلام العلماء الأوروبيين الذين استشهدنا بكلامهم في كتابنا (العقائد الوثنية) إلينا،

مع أننا ذكرنا أسماءهم بالعربية والإفرنجية، ولننظر الآن ماذا يقول أولئك القوم

الذين ألفوا تلك الكتب السافلة ضد دين الإسلام المبين.

***

الجد الأول من جدود الزنا

عقد الفصل الـ 38 من سفر التكوين من أوله إلى آخره لبيان زنا القديس

(يهوذا) بكنَّته (ثامار) وحملها منه، وأنها وضعت ولدين ذكرين سماهما (فارص)

و (زارح) والمبشرون المؤلفون لتلك الكتب والرسائل يقولون: إن فاديهم

ومخلصهم وخالقهم (يسوع المسيح) من سلالة (فارص) المباركة وبما أن هذه

القصة الشريفة لها علاقة مهمة مع هذا الرب المختار الولادة من الزنا نأتي عليها

باختصار، ومن يحب الزيادة فليقرأ الفصل المذكور يرى فيه ما ملخصه أن يهوذا

نزل عند رجل عدلامي اسمه (حيرة) فرأى ابنة رجل كنعاني اسمه (شوع)

فأخذها ودخل عليها وولدت له ثلاثة أولاد ذكور اسم الكبير (عير) والثاني (أوثان)

والثالث (شيلة) ولما كبر عير أخذ له زوجة من بنات الكنعانيين اسمها (ثامار)

فعمل الشر بعيني الرب فأهلكه فأمر يهوذا ابنه (أوثان) بأن يأخذ زوجة أخيه ويقيم

له نسلاً فتزوجها أوثان.

وبما أن النسل الذي يأتيه منها يعد نسل أخيه لا نسله صار إذا ضاجعها يفسد

على الأرض (أي يعزل ماءه) لئلا تحمل منه فأماته رب التوراة وأبقى أباه القديس

لأنه لما زنى بها لم يفسد على الأرض ولما مات أمرها يهوذا بأن تقعد أرملة ببيت

أبيها وأنه متى كبر ابنه شيلة يعطيها إياه زوجًا لها وقال في نفسه: ربما يعمل كما

عمل أخواه فيميته الرب مثلهما. فذهبت إلى بيت أبيها ومضت الأيام وكبر (شيلة)

ولم يعطه لها. وبلغها أن حماها المذكور (القديس يهوذا) ذاهب إلى (تمنة) مع

صاحبه العدلامي ليقص صوف غنمه فخلعت ثياب ترملها وغطت وجهها وجلست

على طريق (تمنة) فلما رآها ظنها هذا القديس زانية وراودها عن نفسها فقالت له:

ماذا تعطيني؟ فقال لها أعطيك جدي معز أبعثه لك. فقالت له: أعطني رهنًا

فأعطاها عصابته وخاتمه وعصاه وزنى بها. ولما وصل إلى تمنة أرسل لها الجدي

مع صديقه العدلامي لِيَفْتَكَّ الرهن. فلم يجدها فرجع وأخبر يهوذا. فقال له: لتذهب

بما معها كي لا يلحقنا عار. فحبلت منه ووضعت ولدين ذكرين سمتهما (فارص)

و (زارح) ويسوع المسيح من نسل فارص المبارك.

ولنا على هذه القصة عدة أسئلة وملاحظات مهمة ذكرناها في كتابنا (مقام

عيسى المسيح عليه السلام في النصرانية والإسلام) نذكر منها هنا مسألتين فقط؛ لأن

قصدنا الاختصار كي لا نضيع كثيرًا من صفحات المنار الأغر لأن عليه أداء

خدمات إسلامية مهمة.

(أولاهما) تقول التوراة إنه ظنها زانية لأنها كانت مغطية وجهها. وهذا

باطل عقلاً ويكفي لرده وإظهار بطلانه ما جاء في التوراة والإنجيل (منها) في

قول سفر التكوين (24: 64 و 65) : (ورفعت رفقة عينها فرأت إسحاق فنزلت

عن الجمل وقالت للعبد: من هذا الرجل الماشي في الحقل للقائنا؟ فقال العبد: هو

سيدي. فأخذت البرقع وتغطت) . وجاء في الرسالة الأولى إلى أهل كورنتوس

(11: 16) : (لأن المرأة إن لم تتغط فليقص شعرها أو يحلق، وإن كان عيبًا على

المرأة أن يقص شعرها أو يحلق فلتتغط) فالحجاب عَلَم المخَدَّرات الطاهرات، وسِيمَة

الخيِّرات الطيبات، كما أن التبرج والابتذال من علامات الفواجر الزانيات.

(ثانيتها) تخبرنا التوراة عن ذهاب يهوذا مع صاحبه العدلامي، وأنه كان

معه لما راودها عن نفسها، وأنه أرسل الجدي الوديع معه، وأنه لم يجدها وغير

ذلك، لكنها لم تذكر هل زنى بها هذا العدلامي أيضًا أم لا؟ ويدل العقل والعادة بين

الفساق في هذه الأمور التي يشتركون فيها وإرسال الأجرة - أي الجدي - إليها معه

على أنه زنى بها مع يهوذا. وإذا صح هذا فمن المحال معرفة ممن كان الحمل

وربما حملت من كل واحد بولد، ولا يبعد حينئذ أن يكون زارح بن يهوذا،

وفارص بن العدلامي. وكيفما كان فإن هذا المجد الأعلى للمسيح قد خلق من ماء

الزنا.

***

الجد الثاني

جاء في سفر يشوع بن نون ما نصه (2: 1) (فأرسل يشوع بن نون

رجلين من شطين جاسوسين تحت الخفاء قائلاً: امضيا انظرا الأرض وأريحا.

فانطلقا ودخلا بيت امرأة زانية اسمها راحاب وباتا عندها) وجاء في هذا السفر ذاته

(6: 17) (ولتكن المدينة بكل ما فيها مبسلة للرب، ولكن راحاب الزانية تحيا

هي وجميع من معها في بيتها) انتهى.

وهذه راحاب الزانية زنى بها سلمون وهو من سلالة فارص الذي هو الأصل

الأول من أصول الزنا المقدس. فحبلت ووضعت (بوعز) الذي من سلالته جاء

(حمل الله الوديع) وما قلناه بخصوص عدم معرفة الحمل ممن كان عند ذكرنا الجد

الأول، هل كان من يهوذا أو من العدلامي؟ نقوله هنا أيضًا؛ لأن كلا الجاسوسين

باتا عند هذه الزانية فكيف يعرف ممن علقت؟

(الشاهد الثالث) في سفر الملوك الثاني (11: 2 - 5) نقلنا هذه الأعداد

عن التوراة المطبوعة بمطبعة اليسوعيين بمدينة بيروت. واسم هذا السفر في توراة

الابروسطانت (سفر صموئيل الثاني) : (وكان عند المساء أن داود قام عن سريره

وتمشى على سطح بيت الملك فرأى عن السطح امرأة تستحم، وكانت المرأة جميلة

جدًّا، فأرسل داود وسأل عن المرأة فقيل له هذه بتشابع بنت إليعام امرأة أوريا

الحثي، فأرسل داود رسلاً وأخذها فدخلت عليه فدخل بها، وتطهرت من نجاستها

ورجعت إلى بيتها، وحملت المرأة فأرسلت وأخبرت داود وقالت إنني حامل)

انتهى؛ فوضعت ولدًا ومات ثم زنى بها ثانية (على زعمهم) فحبلت ووضعت

سليمان وهو الأصل الثالث من الثالوث الزاني.

وبما أننا قصدنا الاختصار بقدر الإمكان لذلك لم نكتب ما جاء في تفاسيرهم

على التوراة والإنجيل وإن كان موجودًا في كتابنا؛ لأن على المنار الأغر خدمات

عظيمة فلا نضيع من صفحاته أكثر من هذا القدر.

فهذا ما عندهم وهذا ما يدعون الناس إلى الإيمان والاهتداء به، وأما ما عندنا

وندعو إليه أهل الفضل والعقل بعد تبرئة أنبياء الله من الفسق والفجور فهو:

***

اعتقاد المسلمين طهارة نسب عيسى

المسيح عليه السلام

قال الله تعالى في سورة آل عمران: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ

إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ

قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ

السَّمِيعُ العَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ

وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ

* فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا} (آل عمران: 33-37) .

وقال الله تعالى في سورة العنكبوت بعد ذكر إبراهيم عليه وعلى آله الصلاة

والسلام: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ

أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} (العنكبوت: 27) .

الله أكبر! فلينظر المبشرون والأب لويس شيخو - الذي ألف رسالة منذ بضع

سنين وسماها (خرافات القرآن) وقد ترجمها المبشر المدعو (زويمر)[1] ونشرها

في مجلته (العالم الإسلامي) - إلى اعتقاد المسلمين بطهارة نسب عيسى المسيح

عليه السلام. فإنهم إذا نظروه من جهة القرآن المجيد يرونه من سلالة طيبة زكية

حماها الحي القيوم من التلطخ بأقذار وأدران الزنا والسفاح.

فلينظروا أي الوصفين أحب إليهم بحق هذه الذات الشريفة وليتمسكوا به.

وايم الله إننا ما كنا نحب كتابة ما ذكرناه على هذا الموضوع غير أن ضرورة الحال

تمنعنا.

***

اعتقاد المبشرين أن المسيح إلههم صار لعنة

والعياذ بالله تعالى

قال مقدسهم بولس في رسالته إلى أهل غلاطية الإصحاح الثالث العدد (3:

13) : (المسيح افتدانا من لعنة الناموس إذ صار لعنة لأجلنا لأنه مكتوب: ملعون

كل من علق على خشبة) .

يعلم الناس أن النصارى يعتقدون أن المسيح هو إلههم وربهم وخالقهم

ومخلصهم، وكتابهم المقدس يلقنهم أنه (صار لعنة) ، واللعنة غاية المبالغة في

الشتم والازدراء وليس بعدها زيادة لمستزيد، وأي شيء يمكن أن يؤتى به ويكون

أشد قبحًا من قول مقدسهم: إنه (صار لعنة) ؛ أي أنه نفس اللعنة؟ فما هذا الحب

الذي قادهم إلى القول بألوهيته من جهة ثم قادهم إلى القول بأنه (صار لعنة) من

جهة أخرى؟ . دع اعتقادهم بأنه من سلالة زناء مثلث كما بيناه سابقًا، فهم - والحالة

هذه - أسوأ حالاً من أشد أعدائه؛ لأن مقام العداوة لا يطلب إلا أقبح الأوصاف، ومقام

المحبة لا يطلب إلا أحسنها وأكملها، فهم يدّعون محبته عليه السلام ويعتقدون أنه

خالقهم ورازقهم وفاديهم ومخلصهم، ثم يصفونه بهذا الوصف

فما بالهم لا

يتدبرون ما يعتقدون.

وبما أنه إله على حسب اعتقادهم - والعياذ بالله تعالى - فمَنْ ذا الذي صيّره

لعنةً؟ هذا ما نود إيضاحه منهم! وأغرب من ذلك اعتقادهم أن الإله ذو ثلاثة أقانيم

(أي أشخاص) وهي الآب والابن والروح القدس، وإن هذه الأقانيم الثلاثة هي إله

واحد. فكيف صار الابن الذي هو ثلث إلههم (لعنة) دون الثلثين الآخرين، أي

الأب والروح القدس؟ وما داموا يقولون بأن الثلاثة واحد حقيقة فلا بد من دخولهم

جميعًا تحت اللعن بهذا الاتحاد! ! فتدبر هذا وسلهم: من اللاعن؟ ومن هو يا ترى؟

(ستأتي البقية)

...

...

...

...

...

...

عبد الوهاب وولده محمد طاهر

(المنار)

قد غلا دعاة النصرانية في العام الماضي وفي هذا العام في الطعن

بالإسلام قولاً وكتابةً، فلم يكتفوا بصحفهم الدورية، ولا بالكتب التي نشروها من

قبل، بل هم يلفقون رسائل جديدة بمعنى ما تقدمها في الطعن والقدح والتمويه ولكن

تختلف أسماؤها وأساليبها. وأكثروا المحافل والمجتمعات في القاهرة وسائر البلاد

والقرى لأجل الدعوة إلى النصرانية. ومن العجائب أنهم كانوا من قبل أصحاب

صبر وأناة فخانهم الصبر في هذه السنة حتى صاروا يهينون من يرد عليهم في

المجتمعات إهانةً شديدة. وقد خدعوا أفرادًا من فقراء العامة بالمال وإدرار الرزق

فأظهروا التنصر، ثم بدا لهم وندموا، فصار من يريد الرجوع إلى حظيرة الإسلام

يهدد بالإيذاء، حتى أخبرنا بعضهم أنه لا يمكنه إلا أن يفر من القاهرة إلى بلد آخر

يظهر إسلامه فيه.

لأجل هذا العدوان وجب علينا أن لا نقف عند حد رد مطاعنهم التي يكرّرونها

كما كنا نفعل من قبل، وأن نبين لإخواننا المسلمين حقيقة دينهم والمقابلة بينها وبين

ديننا، وبيان أننا نحن نعظم المسيح ونكرمه بالحق، فلا نحتاج إلى من يدعونا إلى

الإيمان به إيمانًا يجمع النقائض ككونه واحدًا وثلاثةً، ومقدسًا ولعنةً، برّأه الله ممّا

قالوا. وهذا مما يجب علينا شرعًا كالصلاة وغيرها من الفرائض؛ ولهذا نشرنا هذه

الرسالة بعد تصحيحها.

نعم إنهم هددونا بالسلطة الإنكليزية، وأغروا المعتمد الإنكليزي بنا عسى أن

يأمر الحكومة المصرية بإقفال المنار ومقاومة (مدرسة دار الدعوة والإرشاد) ومنع

نظارة الأوقاف أن تساعدها بشيء من أوقاف المسلمين بعد أن صارت الأوقاف

تحت سيطرته؛ ليتسنى لهم أن يقولوا: إن جميع المسلمين في مصر عجزوا عن

الرد عليهم، وليكتفوا مؤنة من يرد عليهم في المستقبل إذا نجحت مدرسة دار

الدعوة والإرشاد {فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} (الحشر: 2) .

_________

(1)

هو زويمر الذي جرأ دعاة النصرانية في مصر وبلاد العرب على الغلو في الطعن في الإسلام وإهانة المسلمين وتهييج العداوة بينهم وبين النصارى.

ص: 142

الكاتب: الموسيو فلورنش

‌مطامع الدول فينا [*]

وضعت الحرب أوزارها، وأخمدت المدافع أنفاسها، وأعيدت السيوف إلى

أغمادها، وعادت الدول المتناجزة بالأمس عن ميادين القتال إلى ردهات المجلس

فعقدت بعضها مع بعض معاهدات تضمن صيانة السلام إلى حين. ثم خلت كل

واحدة إلى نفسها تناقشها الحساب، وتبحث في ما نالها من الغُنم. فكانت الهمة

الأولى منصرفة إلى اقتسام الأراضي المكتسبة. ثم إلى النظر في ما ثغرته النفقات

الحربية في ميزانياتها، وما يقتضيه سد تلك الثغور من الأموال الطائلة، وهي لا

سبيل إليها إلا بعقد القروض.

ولو انحصر الأمر في الدول الخارجة من ميدان القتال لهان الخطب، ولكن

ثمت دولاً أخرى أبت إلا أن يكون لها من الغنيمة نصيب.

تنازلت تركيا لإيطاليا عن ولاياتها الأفريقية. ثم تخلت لحكومات البلقان

عن ولاياتها الأوربية غير ولاية أدرنة. ثم تقاسمت الدول ما بقي بشكل مناطق نفوذ

كل واحدة بحسب ما توحيه إليها مطامعها في العلانية والجهر.

ورضيت إنكلترا نصيبًا لها سواحل خليج العجم من الأوقيانس الهندي إلى

البحر الأحمر. فأصبحت سلطتها مبسوطة على البلاد العربية من البصرة إلى

السويس ومن الخليج العجمي إلى ترعة السويس. وأصبحت في يدها الطريقان

البحريتان الموصلتان من أملاكها الشرقية إلى أملاكها الغربية. واتصلت

إمبراطوريتها الأسيوية (الهند) بملكها الأفريقي (مصر) .

أما إيطاليا ولية أمر طرابلس الغرب والواضعة يدها على جزيرة رودس وما

جاورها من جزر البحر المتوسط فإنها فازت بهذه البقعة الآهلة باليونانيين والأروام،

والقائمة بين خط بغداد والأرخبيل، ومعها ميناء أضاليا وخط حديد يمتد إلى

الداخلية، ويتصل بالخطوط الألمانية؛ خط بغداد وخط أزمير.

وأما ألمانيا فكان نصيبها هذا الخط البغدادي الكبير بجملته لا مسيطر عليها فيه

ولا مهيمن، وهو الذي طمحت إليه، ومن ورائه ما بين النهرين وكل البلاد الواقعة

بين أسكودرا والبصرة من البوسفور إلى الخليج العجمي.

وإن اتفاق بوتسدام مهّد للألمانيين السبيل إلى بلاد إيران؛ إذ خوّلهم حق تمديد

خط حديدي من بغداد إلى طهران. وفي مقابل ذلك جعلت حصة روسيا أرمينيا

الكبرى. وهي تتناول الأراضي الواقعة إلى شمال الخط البغدادي وإلى جنوبه

بجملتها بين أنقره وبغداد.

على أن ثمت عقبة كان لا مندوحة عن تذليلها. فإن الاستئثار بتلك البقاع

الواسعة كان لا بد من تمويهه بحجة من الحجج ووسيلة من الوسائل فكانت هذه

الوسيلة الأشغال العمومية والمشروعات النافعة الواجب إجراؤها. بيْد أن روسيا لم

يخطر لها أن تبذل أموالها الخاصة في هذا السبيل بل لجأت إلى فرنسا. أفليست

هي على الدوام مستعدة لبذل أموالها استعداد تركيا للتخلي عن أراضيها؟ وعلى هذه

الصورة تم الاتفاق على أن فرنسا تتولى إنشاء مينائي يني بولي وهر كله (على

البحر الأسود) والخطوط الحديدية (سمسون سيواس - ديار بكر، وديار بكر -

أرضروم - طرابزون) مع العلم بقلة إيراداتها المتوقعة؛ لأنها لازمة لروسيا تأييدًا

لموقفها السياسي والاقتصادي والحربي أيضًا، وإن كان لا فائدة لنا نحن منه على

الإطلاق. وإنما أعطينا في مقابل ذلك البقعة السورية في جنوبي غربي خط بغداد،

مع حق إنشاء مينائي حيفا ويافا وتمديد خط رياق الحديدي إلى القدس، ثم الاتفاق

على اقتسام النقل بين خط دمشق - حماه والخط الحجازي، وكلاهما متصل

بالسواحل السورية: الأول في بيروت والثاني في حيفا. وكلها امتيازات لا نفع لنا

منها ما دمت حكومتنا متغاضية عن معاهدنا الكاثوليكية في الشرق، ضاربة بما لنا من

الحق في حماية الأراضي المقدسة وحماية المارونيين عرض الحائط، ومهدت

للإيطاليين قطع السبيل علينا بما ينشئونه لأنفسهم في رودس وأضاليا وطبرق

وسراقوسه.

لا يتوهمن متوهّم أن الدولة العثمانية بذلت كل ما تملك للآخذين على أنفسهم

صيانة كيانها. كلا! فهي لا تزال باقية لها الأراضي الواقعة على ضفتي المضايق.

وما زالت في عهدتها حماية البوسفور والدردنيل (! !) وإنه لشرف عظيم (! !)

وفخر باق وإن كان يلقي على كاهل صاحبه مسؤوليات عظمى. ثم إنهم لا

يزالون مالكين أدرنه والآستانة وبروسة وأزمير وأسقاعًا متراميةَ الأطراف خصبة

التربة تكفي إيراداتها - فيما يقولون - لدفع فوائد ديونها المتراكمة (! !) .

بهذا الثمن نجت الدولة العثمانية من الطور الثاني، وأعني به طور التقسيم أو

طور التجزئة. بقي الطور الثالث وأعني الحاجة إلى المال. ومعلوم أننا نحن

معاشر الفرنسيس لا نبرح أبدًا من بال أحد متى بلغت المسائل هذا الطور وأعني

طور الدفع. إذن إلى فرنسا اتجهت الأبصار للمطالبة بسد الفراغ الذي سببته

هفوات وجنون بل جنايات الآخرين حتى يتهيأ لأرباب الجشع والطمع ممن ذكر أن

يستتبعوا تحقيق مطامعهم. أما ما يطالبوننا به هذه المرة فثماني مئة مليون فرنك.

ولقد غامرت الأمة الفرنسوية إلى هذا الحين بمبالغ طائلة من توفيرات أبنائها

في المشروعات العثمانية فلا ينكر عليها حق السعي في استرداد ذلك المال. ولكن

هذا لا يجب أن يتخذ ذريعة لتضحية مصالح البلاد في سبيل منافع بعض الماليين،

فبعد نكبات الجيوش العثمانية اتفقت الصحافة وأجمع الرأي العام في فرنسا والعالم

كله على إلقاء تبعة تلك الانكسارات على عاتق جمعية الاتحاد والترقي. فإن

الاتحاديين هم المسؤولون عن سوء انتظام الجيش وسوء الإدارة وضياع أموال

الحكومة. وإن هؤلاء الاتحاديين هم أنفسهم المتقلدون الأحكام اليوم وفي أيديهم

التصرف بالأموال العمومية. وهم أنفسهم الذين يتطلبون اليوم الأموال الفرنسوية

في حين أن لاستعمالها في فرنسا وجهة أولى وأنفع، ولكن ما ثَمَّ مَنْ يعترف، فإن

قلم المراقبة في وزارة الداخلية كان قد ألغي، فأعاده المتمولون - على شكل أضمن

لمصلحتهم.

ومن أهم ما يتهمون به جمعية الاتحاد والترقي نزعاتها الألمانية وهي تكاد

تكون تحرشاً بنا. ثم يتهمونها بأنها ألقت بين يدي الضباط الألمانيين تنظيم جنديتها

حتى ألقى بعضهم على الجنرال فندر غولتز تبعة انكسارات العثمانيين في قرق

كليسة ولوله برغاس.

فلما استعاد الاتحاديون السلطة كان أول عمل قاموا به انتداب بعثة ألمانية

جديدة لتنظيم الجيش العثماني. ورضي العاهل الألماني بإيفاد ثلاثة وأربعين رجلاً

من ضباط جيشه إلى الآستانة، ولكنه اشترط أن تكون لهم مع تحمل المسئولية

السلطة الفعلية، وأن تكون القيادة العليا لزعيم البعثة، وأن يكون الضباط العثمانيون

في الجيش خاضعين للضباط الألمانيين. ولما كان الخط البغدادي الذي يجتاز آسيا

الصغرى من أدناها إلى أقصاها - من خليج العجم إلى البوسفور - وكل الخطوط

الحديدية الأخرى فروع له، هو الوسيلة الوحيدة لتعبئة الجيش وحشده، فإن الجيش

العثماني بقيادة الضباط الألمانيين سيكون بمنزلة إحدى فرق الجيش الألماني،

والثماني مئة مليون فرنك التي تطالبنا الحكومة العثمانية بها اليوم ستنفق في تسليح

وتجهيز وتنظيم وتدريب جيش يكون في طليعة الجيوش المهاجمة لنا في أول حرب

نخوض غمراتها. وتكون أموالنا نحن الفرنسويين قد تحولت إلى حديد ورصاص

يخترق صدور أبنائنا.

ولقد بلغ من حرج الموقف أن الحكومة الروسية مع عدم رغبتها في انتهاج

خطة المجافاة والمشاكسة لم يسعها إلا إقامة الحجة في عاصمة السلطنة. وليست

وزارتنا الحربية والخارجية في فرنسا ببعيدتين عن وزارة المالية فجدير بوزيريهما

أن يجتمعا بزميلهما ويكاشفاه بأن في الحياة مواقف لا يجوز فيها تضحية الوطنية في

سبيل مصالح بعض الأفراد، وأن بعض القروض يجب مجانبة قبولها في بورصة

باريز.

أما أنا فإني لا أبذل فلسًا واحدًا من مالي للذين يساومون في تربة الوطن وفي

موارده الطبيعية تزلفًا لبعض العظماء، ولا أعتبر من يجود بأموال الأمة على هذه

الصورة مؤتمنًا أمينًا.

رُبَّ قائل يقول: ليس في الأمر شيء مما تخشاه، وكل ما هنالك تفاهم بتبيين

مناطق نفوذ كل دولة. نعم؛ ولكن لتحدث غدًا فتنةٌ أو ثورةٌ أو مذبحة - وليس ذلك

بالأمر النادر حدوثه في آسيا الصغرى - إذن لا نلبث أن نرى العمارة الإيطالية في

أضاليا، والإنكليز في الكويت، والألمان في مرسين، والفرنسويين في بيروت،

والروسيين في طرابزون. ومتى وطئت أقدامهم الأرض فهيهات أن تتزحزح عنها.

وإن لدينا في موقف إيطاليا اليوم في جزر بحر إيجه خير شاهد، فالأمر إذن ليس

بمنحصر في تبيين مناطق النفوذ، بل هو يتجاوزه إلى تقسيم الأملاك العثمانية

الأسيوية والسلام.

...

...

...

... (الأهرام)

ثم علقت الأهرام عليه بما يلي:

هذا هو كلام ذلك الوزير وهو لا يقول لنا شيئًا لا نعرفه ولكنه يقوله لنا

ونردده على أنفسنا لنتعظ ونتخذ الحيطة ونعمل بقول الشاعر:

ما حكَّ جِلْدَك مثلُ ظفرِك

فتولَّ أنت جميعَ أمرِك

(المنار)

صدقت الأهرام، إن هذا السياسي الكبير لا يقول لنا شيئًا لا نعرفه؛ أي لا

يعرفه أهل البصيرة منا، ولكنهم - واحسرتاه - قليلون فينا، والجمهور

مغرور بما يرى حينًا بعد حين من إيماض الذبال قبل الخمود، كلما أومض إيماضة

حسبوا أنهم في عالم الحياة النورانية داخلون، وإذا أظلم عليهم عادوا في ظلمتهم

يعمهون، وإذا صاح بهم المنذرون: يا قومنا فروا إلى النجاة فإنكم إلى الذبح

تساقون - وسوس لهم الموسوسون: إن هؤلاء قوم غاشّون، وعن حظيرة الإخلاص

للاتحاد خارجون، وبألسنة أعدائنا الإفرنج ينطقون، أمَا ترون وميض أنوار

التجديد، يلوح لأعينكم من بعيد، فابذلوا لهؤلاء المجددين كل ما تملكون من المال،

تنالون جميع الآمال! !

بيَّنا في المجلد الماضي وفيما قبله ما وصلنا إليه من الخطر القريب، وبيَّنا أن

الأوربيين لا يقبلون أن يأخذوا بلادنا إلا بالفتح السلمي المعبر عنه بمناطق الاقتصاد

والنفوذ، وبيَّنا طريقة النجاة ولكن لمن لا يسمع ولا يبصر، وها نحن أولاء

نرى غير الرسميين من ساسة الإفرنج يصرحون بذهاب ملكنا تصريحًا،

والرسميين منهم يصرحون بالعمل ويعرّضون بالقول تعريضًا، وحسبنا أَنْ نصحنا

وأدينا الأمانة. وإن عرضنا نفسنا للأذى والإهانة.

_________

(*) بقلم الموسيو فلورنش وزير خارجية فرنسا وترجمة جريدة الأهرام.

ص: 148

الكاتب: صالح مخلص رضا

‌تقريظ المطبوعات الجديدة

(تاريخ حرب البلقان الأولى بين الدولة العلية والاتحاد البلقاني)

عني يوسف أفندي البستاني أحد محرري الجريدة اليوم، بتتبع حوادث هذه

الحرب من أول المهد بشبوب نارها، إلى أن خدمت ووضعت أوزارها، وقرأ ما

كتبه أشهر كُتَّاب الإفرنج في الجرائد الأوروبية، وما ألفوه من الكتب في ذلك، وما

كانت تنشره الجرائد العربية لمراسليها في الآستانة وغيرها؛ فاتخذ ذلك مادة لوضع

تاريخ لهذه الحرب كتبه بمداد الروية والاعتدال؛ فجاء تاريخًا مفيدًا جامعًا لما فيه

العبرة النافعة، والموعظة الصادقة، بعيدًا عن لغو القول وهرائه وبلغت صفحاته

327 ماعدا صفحات المقدمة والصور والرسوم. (وفيه 40 رسمًا وخريطتان) وقد

كتب في الحرب عدة مصنفات عربية لا تعد شيئًا مذكورًا مع هذا الكتاب فينبغي أن

يكون معول قراء العربية عليه دونها.

وهو يطلب من مكتبة المنار بمصر وثمن النسخة منه خمسة عشر قرشًا خلا

أجرة البريد.

(بيكي مجموعة سي)

مجلة علمية شهرية تركية تصدر في الآستانة العلية صفحاتها 96 قيمة

اشتراكها في الممالك العثمانية - عن سنة واحدة - نصف ليرة عثمانية، وفي

روسيا خمس رابل ونصف، و15 فرنكًا في سائر الممالك وهي مطبوعة طبعًا جيدًا

على ورق نظيف وثمن العدد الواحد خمسة قروش عثمانية.

(مجلة الناشئة)

مجلة شهرية تبحث في الناشئة وشؤونها يحررها طلاب المدرسة العلمية

الوطنية في دمشق، قيمة الاشتراك السنوي 15 قرشًا ولتلاميذ المدرسة 10

قروش، ويضاف إلى ذلك أجرة البريد للخارج. وصفحاتها 32 بالقطع الصغير،

فنحثّ على مطالعتها تنشيطًا لمحرريها واطّلاعًا على سير العلم في نابتة الأمة.

(لسان العرب)

مجلة تاريخية اجتماعية أدبية مصورة لمنشئها أحمد عزت الأعظمي صفحاتها

65 مطبوعة على ورق جيد، قيمة اشتراكها السنوي ثلاثة ريالات مجيدية في

الممالك الأجنبية وللطلبة بنصف القيمة، وعنوانه: (الآستانة. شارع أبو السعود،

صندوق البريد عدد 149) . ولهذه المجلة مكانة في نفسي أرجو أن أوفق إلى

قراءة ما لدي من أعدادها فأعود إلى تقريظها بالتفصيل الذي يليق بها.

(مجلة كمال)

مجلة أدبية فكاهية شهرية (سنتها عشرة أشهر) مطبوعة على ورق نظيف

طبعًا نظيفًا صفحاتها 96 بقطع المنار. ويصدرها في بيروت كمال أفندي عباس.

قيمة اشتراكها في البلاد العثمانية ريالان مجيديان وفي مصر والبلاد الأجنبية

عشرة فرنكات.

(المرآة)

جريدة أسبوعية مصورة سنتها خمسون عددًا، صفحاتها 28 وهي في شكل

مجلة من المجلات ذات الصفحات الكبيرة يصدرها في بيروت خليل أفندي زينية

المعروف لدى كتّاب وقرّاء العربية، قيمة اشتراكها السنوي في بيروت 80 قرشًا

وفي سوريا وفي لبنان وسائر الولايات العثمانية 20 فرنكًا وفي الخارج 25 فرنكًا.

_________

(*) كتب تقاريظ هذا الجزء شقيقنا السيد صالح مخلص رضا.

ص: 152

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الأخبار والآراء

(لا بابوية في الإسلام ولا تُباع شفاعة خير الأنام)

ذكرنا في الجزء الماضي أن بعض المنافقين زين للاتحاديين أن يستغلوا

حجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم بوضع دفاتر فيها، يكتب فيها أسماء الناس

الذين يبذلون لهم الذهب الأحمر لتكتب أسماؤهم في تلك الدفاتر، وبيّنا قباحة هذه

البدعة المشتملة على عدة جرائم منكرة، وبينا أن سلف الأمة الصالح ما كانوا

يتسامحون في إحداث بدعة من العادات المباحة في مسجد الرسول صلى الله عليه

وسلم لئلا يدخل محدث ذلك، والراضي به في عموم قوله صلى الله عليه وسلم:

(من أحدث في مسجدنا هذا حدثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) ؛ وهو

الحديث الذي احتج به الإمام مالك على ابن مهدي العالم الزاهد لمَّا صلى على ثوبه.

وبنينا على ذلك أننا لا نظن أن جمعية الاتحاد والترقي تقبل هذا الاقتراح، ولا أن

الحكومة تنفذه.

ثم بلغنا بعد ذلك أن موضوع المشروع أن تسمى تلك الدفاتر دفاتر المستشفعين؛

أي أن كتابة الأسماء في تلك الدفاتر طريق أو سبب لشفاعة النبي صلى الله عليه

وسلم فهي إذًا عبارة عن بيع شفاعة المصطفى صلى الله عليه وسلم لِمَنْ يريد أن

يشتري، وأن أقل ثمن لها ليرة عثمانية.

الشفاعة لا تملك فتباع، ومن يدعي أن كتابة اسم أحد ووضعه في الحجرة

النبوية يكون سببًا لشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم له فهو مفترٍ على الله

ورسوله؛ لأن هذا أمر لا يُعلم إلا بوحي من الله، ولو أنزل الله تعالى فيه شيئًا يدل

عليه بالنص أو الفحوى لكان أجدر الناس بمعرفته والعمل به الصحابة - رضي الله

عنهم - ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم.

لهذا ننصح للذين لا يعرفون أصول الدين وفروعه من رجال الدولة الاتحاديين

أن يتجنبوا هذه البدعة، فليست هذه المسألة كغيرها من الأمور التي تجرءوا عليها.

وليتذكروا أن مسألة بيع البابوات للغفران هي التي أحدثت الانقلاب الديني

العظيم الذي آل إلى سلب السلطة السياسية من البابوات، بعد حروب شابت من

هولها الولدان، على أن بيع الغفران له وجه ما في دين النصارى؛ إذ يحتجون

عليه بقول أناجيلهم أن ما يحلونه أو يعقدونه في الأرض يكون كذلك في السماء،

وبيع الشفاعة بدعة في الإسلام ليس لها وجه ولا شبهة؛ بل تدل الحجج الكثيرة

على بطلانه. وقرنه بالشرك بالله تعالى لأنه قول على الله بغير علم، وشرع لم

يأذن به الله، وزيادة في الدين الذي أكمله، وداخل في عموم الأحداث والبدع التي

نهى وحذر الشارع منها ولعن مُحْدِثَها.

والآيات والأحاديث في هذا كثيرة، تدعمها الآيات الناطقة بأن يوم القيامة لا

يملك فيه أحد لأحد شيئًا لا شفاعة ولا غيرها وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ للَّهِ وحده فلا يشفع أحد

عنده إلا بإذنه ولا يأذن إلا لمن رضي له قولاً {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا

يَشْفَعُونَ} (الأنبياء: 28) وأجمع المسلمون على أنه ليس لأحد أن يجزم بمستقبل

أحد في الآخرة إلا بنص من الشارع، فليس لأحد من رجال الحكومة العثمانية ولا

غيرهم أن يدعي أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع له أو لأحد معين، فمن لا

يملك الشفاعة لنفسه، كيف يبيعها لغيره؟

فإن كانوا في شكٍّ من نصحنا لديننا ولهم في هذه المسألة فليعرضوها على

علماء الفاتح وعلماء السليمانية في عاصمتهم ويطلبوا منهم إبداء رأيهم فيها بالحرية

التامة، وربما نعود إلى بيان ذلك بالتفصيل، ودلائل السنة والتنزيل {وَاللَّهُ يَقُولُ

الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: 4) .

***

(جمعية خدام الكعبة في الهند)

جاءنا من هذه الجمعية رسالة وجيزة ملخصها أن الدولة العثمانية أصبحت

على خطر مما يبيّت لها الأعداء، وأن أكبر أماني المسلمين أن تكون غنية قوية،

وأن مؤسسي الجمعية أحسوا بما سيصيب الحرمين الشريفين من المصائب الحاضرة

فأسسوا هذه الجمعية لا يقصدون منها (إلا مساعدة الدولة العثمانية في المحافظة

على الحرمين الشريفين وبذل المال والنفس في سبيل حمايتها من الغوائل) ومن

ذلك تعليم العرب الذين يقطعون السبل على الحجاج. كل هذا حسن؛ ولكن جاء

بعده أن الجمعية تريد إنشاء جريدة باللغتين العربية والأوردية.

قال الكاتب: (حتى ننشر أفكارنا في جميع البلاد الإسلامية وننبه المسلمين

إلى ما يجب عليهم نحو دينهم ودولتهم الوحيدة

إلخ) ، وهذا هو الأمر الذي لم

نفهمه: جمعية خدام الكعبة أنشئت لخدمة الحرمين الشريفين فكيف يجوز لها صرف

المال الذي تجمعه للحرمين الشريفين في إنشاء جريدة سياسية، وما هي هذه الأفكار

التي يريد رئيس تحرير الجريدة أن يبثها في العالم الإسلامي؟ هل هي أفكاره أم أفكار

الذين يتبرعون بالمال لخدمة الحرمين الشريفين؟ ومن أين وقف على أفكارهم؟

وهل دفعوا المال لأجل نشر الأفكار السياسية أم لأجل خدمة الحرمين؟

قد بينا رأينا من قبل في هذه الجمعية وفيما يجب أن تكون عليه فلا نعيده.

ونقول الآن: إنه لا يجوز لها - بحسب قانونها الذي نشرناه وبحسب ما اقترحناه

من تعديله - أن تنفق شيئًا من مالها على إنشاء الجرائد، فهذه الفكرة الجديدة

قد أزالت ثقتنا بالجمعية إلا أن يرجعوا عنها.

أما مساعدة الدولة العثمانية بالمال والنفس فهو عمل نشكره لكل من قام به في

الهند وغيرها، فمن شاء فليؤلف له جمعية مستقلة ولينشئ له ما شاء من الجرائد بما

شاء من اللغات، وأما خدمة الكعبة والحرمين الشريفين فيجب أن يكون بمعزل عن

السياسة وأهلها، وهو عمل تخدمه جميع الجرائد الإسلامية في جميع الأقطار، وتنشر

لجمعيته ما شاءت من غير أجرة فلا يحتاج إلى جريدة خاصة.

إن مساعدة الدولة بالمال والنفس وبث فكرة الجامعة الإسلامية يوشك أن

تقاومه حكومة تلك البلاد وتبطله وتصادر جريدته، فإذا كان ملصقًا بجمعية خدام

الكعبة يوشك أن يكون شؤمًا عليها وسببًا لزوالها؛ لأجل هذا نحب أن تكون بمعزل

عن السياسة. وما دمنا نرى هذا الرأي فإننا ننصح لكل مسلم أن يقاوم هذه الفكرة

الجديدة التي عزمت عليها جمعية خدام الكعبة؛ لتكون جمعية خيرية محضة.

والسلام على من اتبع الهدى، ورجّح الحق والمصلحة على الهوى.

***

(مفاسد المتفرنجين في أمر الاجتماع والدين)

يهاجم الإسلام والمسلمين جيش خارجي من دعاة النصرانية، وجيش

آخر داخلي من دعاة التقاليد الإفرنجية. والثاني أنكى من الأول وأضرّ، وأدهى

وأمرّ؛ لأن جُلّ أفراده من المارقين الذين يعدهم المسلمون منهم وما هم منهم،

ولسبعون عدوًّا خارج الدار أهون من عدو واحد في الدار فقد تمر السنون ودعاة

النصرانية تبحّ أصواتهم من الصياح بالخطب والجدل؛ ولا يقع في شركهم في القطر

الكبير إلا واحد أو آحاد يلجئهم الفقر إلى أن يكونوا من خِرَافِهم؛ لأنهم يجدون من

المرعى عندهم ما لا يجدون عند غيرهم. وقد ورد في الحديث: (كاد الفقر أن يكون

كفرًا) وقلَّما تجد واحدًا من هؤلاء الخِراف يأنس مرعًى له خارج دمنتهم إلا ويتفلت

منها.

وأما هؤلاء المنافقون المتفرنجون فإنهم يغشون المسلمين بأنهم منهم، ينفعهم

ما ينفعهم ويضرهم ما يضرهم، وإنهم إنما يدعونهم إلى الترقي عمّا هم عليه إلى

مدنية أعلى وحضارة أسمى، وهي أن يكونوا مثل الإفرنج في عزهم وثروتهم

وزخرفهم، ويحسبون - لصغر عقولهم وقصر نظرهم - أن ما يفوقنا به الإفرنج من

الثروة وأسباب القوة، قد جاءهم من رقص نسائهم مع رجالهم، ومن اختلاطهن بهم

في مجامعهم ومحافلهم، أو من عدم مبالاة كثير منهم بالدين، وإن كان الأكثرون

يتعصبون له ويبذلون له الملايين، أو من عاداتهم في طعامهم وشرابهم وأزيائهم،

وفسقهم وفجورهم، واجتماعهم وافتراقهم، فطفقوا يقلدونهم في شر ما عندهم،

ويدْعون المسلمين إلى تقليدهم في أمثال هذه الظواهر، على أن منها ما هو من

سيئات مدنيتهم وقبائحها التي ينكرها عليهم حكماؤهم وعقلاؤهم، ومنها ما هو

مناسب لطبيعة بلادهم وأجيالهم دوننا، ومنها ما لا نفع فيه ولا ضر لذاته ولكنه

يضرنا من حيث هو تقليد لهم يضعف روابطنا القومية، ومشخصاتنا الاجتماعية،

ويحقر أمتنا في أنفسنا ويعظم أممهم فيها، فيكون تمهيدًا لقبول سيادتهم علينا بغير

امتعاض، دع ما يتوقف عليه البقاء من الجهاد.

وقد قوي هجوم هؤلاء المتفرنجين في فاتحة هذا العام فكان أشد مما كان عليه

في العام الماضي، فكان شأنهم عنا كشأن دعاة النصرانية سواء. ومنبت هذه الفتن

ومطلع رؤوس شياطينها الآستانة ومصر، وقد اشتركت المدينتان في مسألة الدعوة

إلى تهتك النساء باسم تحرير المرأة، وامتازت الآستانة بالغلو في عصبية الجنسية،

وقطع ما أمر الله به أن يوصل من الوشائج الدينية، بمثل كتاب (قوم جديد)

و (ترجمة القرآن) بالتركية وغير ذلك.

***

(مسألة تحرير المرأة أو تهتكها)

إن الآستانة ومصر فرسا رهانٍ في تهتّك النساء وفي تجريء المتفرنجين على

ذلك، وقد نشر بعض الشبان في الجرائد المصرية دعوة إلى جمعية تسعى لهتك ما

بقي من آثار الحشمة التي يسمونها حجابًا وإبطال ذلك بالفعل، وعقدوا اجتماعًا في

إدارة (الجريدة) التي هي لسان حالهم وأقنعوا بعض النساء بحضوره حاسرات

فهجم بعض الشبان عليهن لمعانقتهن وتقبيلهن فمنعهم آخرون.

وقد اختلفت الروايات علينا في تفصيل ما كان في هذا الاجتماع فلا نجزم

بشيء منه، ولا فائدة في شرحه.

قام هؤلاء الشبان بهذه الدعوة في وقت جاءتنا فيه البرقيات الأوروبية ببيان

ضرب من ضروب فضائح اختلاط النساء بالرجال ما كان يذاع مثله من قبل، وهو

أنه قد افتض عدة من العذارى اللواتي يتلقين العلوم العالية في مدارس ألمانيا الجامعة.

هذا وإن الألمانيين أشد عناية من السكسونيين - دع اللاتينيين - في التربية الدينية

والصيانة المنزلية. وإن كثيرًا من الدعاة إلى هتك النساء الذي يعبرون عنه بتحرير

المرأة، لا يبغون إلا أن يمهدوا السبيل لأنفسهم للتمتع بالحسان من ثيبات وأبكار،

وقليل منهم يريد الظهور بلباس المصلح المدني وهو عاجز عن كل إصلاح، فلا يرى

أهون عليه من اللغط بالكلام في هذه المسألة؛ لأنه لا يتوقف على علم ولا عمل،

فما على اللاغط إلا أن يبرز ما كتب غيره من قبل في قالب جديد، ويزيد عليه من

لغو الكلام ما يشاء أن يزيد.

يقول لي أهل الصيانة: ما لك لا تردّ على ما يكتب هؤلاء المفسدون، فمنك

نطلب، وإياك نرجو، أن تتبّع عوارهم، وتقلّم أظفارهم. وإني أرى أن الذين

قاموا في وجههم صائحين متهكمين قد كالوا لهم الصاع صاعين أو عدة آصع،

وليس عندهم شبهات قوية تحتاج إلى علم واسع وحجج قيمية؛ بل لا يكاد يفهم

مرادهم من كلامهم، ولا أراهم يبينون ما يريدون. فليست المرأة مستعبدة فيكون

طلبهم تحريرها طلب حق لها شرعي أو عقلي، وليست محجوبة في مصر حجابًا

مانعًا لها من التصرف والرياضة ولا التبرج المذموم أو غير المذموم بل هي تفعل ما

تشاء. إلا أن القاعدة العامة في نساء الأغنياء والمتوسطين في المدن أنهن لا

يحضرن أندية الرجال ومجامعهم العامة، وأما المجالس الخاصة والمحاكم ومحالّ

التجارة فيحضرها كثير منهن، وأنهن لا يخلون بالرجال الأجانب في البيوت إلا

شذوذًا. فالظاهر أن هؤلاء المتفرنجين يطلبون الآن إبطال هاتين العادتين دفعة

واحدة.

ولا يشك ذو عقل أن ذلك مما يستشرى به الفساد، وتتفاقم به فوضى

الأعراض، وليس له حسنة تمحو سيئة من سيئاته. على أن دفع المفاسد مقدم عقلاًً

ونقلاً على جلب المصالح، وأين هي في مسألتنا؟

إن نساءنا في حاجة إلى علم وأدب تثقف بهما عقولهن، وتصلح بهما عاداتهن،

ويقدرون بهما على تدبير المنازل وتربية الأولاد، ويكن عونًا للرجال على تجديد

حياة الأمة الاجتماعية بمقوماتها ومشخصاتها من الدين واللغة والعادات الحسنة، ولا

يتم هذا إلا بتأليف جمعية من أهل البصيرة والرأي تنشئ المدارس الداخلية للتعليم

والتربية الدينية والمدنية بالعلم، وجمعية أخرى للنساء المتعلمات المهذبات غير

المفتونات بالتفرنج للبحث في إصلاح البيوت الموقت. والمتفرنجون لا يطلبون هذا

وإنما يودون أن ينسلخ جميع نساء المدن مما بقي من عاداتهن، ويقلدن نساء الإفرنج

في الاختلاط بالرجال غير المحارم في البيوت والمجامع والأندية والملاعب

والملاهي والمتنزهات، وما يتبع ذلك من العادات في الزي والمعيشة.

ولو فرضنا أن جميع ما ينسلخن منه بهذه الصفة قبيح أو ضار من بعض

الوجوه، وجميع ما يدخلن فيه حسن في ذاته ونافع لأهله، لما صدنا ذلك عن إنكار

هذا التحول والانقلاب، لما يترتب على التغيرات القومية من المضار وضعف

مقومات الأمة ومشخصاتها، وتراخي روابطها وانفصام عرى جامعتها. وناهيك به

إذا كان تقليدًا لأمة أخرى تراها أرقى منها. فكيف إذا كان ما يطلب من نسائنا

التحول إليه إما قبيح ضار لذاته أو ضار بأمتنا دون الإفرنج.

إن الضرر في تفرنج نسائنا أنواع: ديني وسياسي واجتماعي واقتصادي،

ولا يمكن شرح هذا في عجالة كهذه؛ ولكن التفرنج فتنة، ولكل جديد لذة، ونحن

نرى أن ما يطلبه المتفرنجون لنسائهم من هتك الحجاب الرقيق الحائل دون تمام

التمتع - وهو ما ذكرناه من بقايا العادات - قريب غير بعيد، فقد بدأ به بعضهم - ولا

أحد يقاوم سريان التقليد فيه -: بأن الذين يسافرون بنسائهم إلى أوربة يلبس نساؤهم

ما يلبس نساء الإفرنج ويأكلن مع الرجال ويجلسن معهم في الملاهي والملاعب.

ومنهم الذين يأمرون نساءهم بلقاء أصدقائهم ومجالستهم ومؤاكلتهم، يكون هذا بينهم

بالمبادلة. وكل هذا لم يرض بعض الشبان لأنه تدريج وهم يطلبون الطَّفْرة. ومَنْ

تتبّع عورات أولئك الهاتكين لأحسن ما بقي من عادات نسائهم - لرأى وسمع من

الفضائح ما يستحيا من نشره وتدوينه، وإنا ليحزننا أن نرى هذه العدوى قد سَرَتْ

إلى بعض البيوت الطاهرة أيضًا.

وجملة القول أن متفرنجي مصر والآستانة يستعجلون بتغيير عادات

النساء والجمع بينهن وبين الرجال تقليدًا للإفرنج، على أنه ليس لهم ولا

لنسائهم من عِلم الإفرنج وتربيتهم وآدابهم وأخلاقهم الموروثة ما يجعل المقلِّد التابع

كإمامه المقلد المتبوع، فنحن لا نُعنى بأشد ما نحتاج إلى أنواع مثله من مزايا

الإفرنج وفضائلهم لأن في تحصيله مشقة، بل نُعنى بمحاكاتهم في مظاهر الزينة

واللذة، وطالما أهلكت اللذة والزينة الأمم القوية، فكيف يكون فعلها بالأمم

الضعيفة؟

إن مسلمي الهند من أشد أهل الأرض مبالغة في حجب النساء ولم يمنع ذلك

الطبقة العصرية منهم أن تكون أرقى من مثلها في الآستانة ومصر. ولكن من كان

له هوًى في شيء لا يلتفت إلى ما يخالف هواه، وإن كان مؤيدًا بأقوى الحجج،

ومبينًا بأوضح الشواهد والأمثال. فالمصريون والترك يريدون بالتفرنج أن يكونوا

مثل الإفرنج؛ وهو الذي يبعدهم عن أن يكونوا مثلهم، بما يجعلهم عالة عليهم،

ويذهب بما بقي من استقلالهم السياسي؛ لأنه منوط باستقلالهم الاجتماعي والخلقي.

إن السواد الأعظم من الشعب التركي والشعب المصري يمقت هذا التفرنج،

ولكن ليس للسواد الأعظم زعماء يستعملون قوته المعنوية في المحافظة على

مقومات الأمة ومشخصاتها مع اقتباس ما يقويها من الفنون والصناعات العصرية،

وأما المتفرنجون فهم على قلتهم يعتزون بالإفرنج أنفسهم، وناهيك بنفوذهم

وسلطانهم، وكون جُلّ رجال الحكومة من سبك معاملهم، ولا حظ لهؤلاء الإفرنج

إلا جعل جميع ممالك الشرق مزارع ومناجم لهم، وأهلها فَعَلَة لخدمتهم، وسوقًا

لأنواع سلعهم؛ وللهِ دَرُّهُمْ! فإن أرقى ما وصلوا إليه من العقل والعلم هو ما جعلهم

يتصرفون في الأمم والشعوب كما يتصرفون في الحيوان والنبات والجماد.

هذا ما أحببت أذكر به الكارهين لهذا الغلو والاستعجال، بالجمع بين النساء

والرجال، وهو لا يغير شيئًا من هذه الأحوال، وإنما الذي يمكن أن يغيرها هو

العمل الذي أشرنا إليه دُون سواه.

***

(العصبية الجنسية)

إن روح التعليم الأوربي والسياسة الأوربية أحدث في أمم الشرق كلها نزعة

جنسية، وقد كان المسلمون أبعد الناس عن هذه النزعة فلذلك كانوا ضعافًا فيها،

وكان العرب أشدهم بعدًا عنها وضعفًا فيها، ولذلك كتبت في مقالات (العرب

والترك) - التي نشرتها في الآستانة ثم في المنار - أن تكوين عصبية جنسية

للعرب لا يمكن أن يكون إلا من عمل الآستانة.

إن في الترك من غلاة العصبية الجنسية من يعز نظيرهم في غيرهم، واتفق

أن كان زعماء جمعية الاتحاد والترقي من هؤلاء الغلاة، فلما صار إليهم أمر الدولة

اندفعوا اندفاعًا شديدًا في تقوية العصبية التركية، ومحاولة تتريك جميع الشعوب

العثمانية، فهيّجوا بذلك عصبية هذه الشعوب حتى نجمت قرون الفتن، وسفكت

الدولة دماءً غزيرة في بلاد الأرنؤوط وبلاد العرب، وانتهت سياسة الشدة والقوة

بحرب البلقان التي خذلت بها الدولة، وورث البلقانيون جميع ولاياتها الأوربية إلا

(أدرنة) فبقيت لها، وبلاد الأرنؤوط فإنها استقلت بنفسها، فاضطر الاتحاديون

إلى سياسة المداراة وتعزيز الجنسية التركية في نفسها بالمدارس ونشر الكتب

والرسائل والصحف، مع ترك سائر الشعوب العثمانية تتخبط بجهلها إذا لم ترض

الاصطباغ بالجنسية التركية في مدارس الدولة الرسمية، والمدارس الأهلية التركية،

التي يجمعون لها الإعانات بنفوذ الدولة والخلافة من العثمانيين ومن مسلمي

الممالك الأجنبية.

يرى هؤلاء العاملون أنه ليس في طريقهم عقبة تحول دون بلوغ المقصد

بالسرعة التي يبغون من وراء هذا العمل إلا حاجة الترك إلى اللغة العربية لأجل

الدين. ويرون أن هذا الدين ولغته مما يعيق تكوين أمة تركية ودولة تركية محضة

على الطراز الإفرنجي الفرنسي، فاجتهدوا في إزالة هذا المانع بمزيلين:

(أحدهما) ترجمة القرآن بالتركية ودعوة الترك إلى الاستغناء عن القرآن

العربي بما سمّوه القرآن التركي، وإذا استغنوا عن القرآن يستغنون بالأولى عن

غيره من كتب الحديث والتفسير والفقه وسائر العلوم والفنون العربية.

(الثاني) نشر الكتب والرسائل التي تجعل الجنسية التركية أعلى وأسمى في

النفوس من رابطة الدين تمهيدًا لنسخ الثانية بالأولى، بمعونة الكتب الكثيرة التي

تطعن في الإسلام ككتاب عبد الله بك جودت؛ بالتركية، فكان له تأثير شديد عند طلبة

المدارس العالية ولاسيّما مدرستي الطب والحربية، الذين لا يكادون يعرفون من

الإسلام شيئًا.

وقد نشروا في الآستانة كتابًا تركيًّا اسمه: (قوم جديد) كان أفصح معبّر عن

رأي هؤلاء المتفرنجين من الترك، ومما جاء فيه الإنكار الشديد على وضع أسماء

الخلفاء الراشدين وسبطي الرسول (رضوان الله عليهم) في ألواح معلقة في قباب

المساجد التركية مع أن أولئك الرجال من العرب، فالكتاب ينكر عليهم ذلك ويقول

للترك: أليس عندكم من الخلفاء والرجال العظام من الترك من هم خير من أولئك

العرب؟ ! انزعوا هذه الأسماء وضعوا مكانها أسماء عظام الترك مثل طلعت بك

وفتحي بك وأنور بك (صلوات الله عليهم)(! !) .

ويقول: إن كل من يساعد رجال الدولة على الأعمال العسكرية يكون أفضل من

الأئمة المجتهدين ومن شيخ الأولياء العارفين الشيخ عبد القادر الكيلاني

إلخ، وهذا

قليل من كثير، والأمر لله العلي الكبير.

_________

ص: 153