الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد بن عبد العظيم المكي الحنفي ابن المقدسي
القول السديد
في بعض مسائل الاجتهاد والتقليد
فصل [*]
وكذلك مسألة التحرير أيضًا - وهي التي عبّر عنها بعضهم بقوله: (لا تقليد
بعد العلم) - فيها نظر هو أن هذه العبارة لها معنيان:
(أحدهما) أنه إذا عمل وصادف الصحة على مذهب إمام ولم يكن عالمًا
بذلك، والحال أنه على مقتضى مذهبه بطل ذلك العمل، فهل له أن يقول: أخذت
بمذهب مَن يرى صحة ذلك، أم لا؟ فعلى ما ذكر ليس له ذلك على تقدير تفسير
العبارة بهذا المعنى
أقول: وفرع أبو يوسف المنقول في مسألة الفأرة يردّه؛ إذ هو عين التقليد
بعد انتهاء العمل، وهو الذي أذهب إليه وأقول به؛ بل قد اختار عالم قطر اليمن
في زمانه؛ الإمام العلامة الفقيه عبد الرحمن بن زياد الشافعي في فتاويه: أن العامي
إذا وافق فعله مذهب إمام من الأئمة الذين يجوز تقليدهم صحّ وإن لم يقلده؛
توسعة على العباد، واختلاف الأئمة رحمة. وقال المحقق ابن حجر: لا يكون
صحيحًا إلا إن قلّد ذلك القائل بالصحة؛ لأن تقليده لإمام من الأئمة المذكورين التزام
متابعته في الأحكام كلها، فلا يجزئ في خلاف ذلك إلا بتقليد صحيح.
وقد ذكر بعض أولياء الله تعالى الصالحين أنه كشف له أن الله لا يعذب من
عمل في المسألة بقول إمامٍ مجتهد من الذين يجوز تقليدهم، وهم الآن الأئمة الأربعة
المدونة مذاهبهم، والمحررة أصول وفروع مسائلهم، أما المجتهدون السابقون فلا؛
للجهل بضوابط الأحكام عندهم، لفقد التدوين؛ لتطاول السنين. كذا رأيت ما حكيته
في بعض المجاميع.
قلت: وفي تخصيص الأئمة الأربعة كلام لا يسع في هذا المحل بيانه، ثم
رأيت في البحر الرائق شرح الكنز للعلامة ابن نجيم في باب قضاء الفوائت عند
قوله: ويسقط بضيق الوقت والنسيان، ما نصه: وإن كان عاميًّا ليس له مذهب
معين فمذهبه فتوى مفتيه - كما صرّحوا به - فإن أفتاه حنفيّ أعاد العصر والمغرب،
وإن أفتاه شافعيّ فلا يعدهما ولا عبرة برأيه، وإن لم يستفت أحدًا وصادف الصحة
على مذهب مجتهد أجزأه، ولا إعادة عليه؛ انتهى. وهذا موافق لما اختاره عالم
قطر اليمن في زمانه وفقيهه؛ العلامة عبد الرحمن بن زياد الشافعي رحمه الله تعالى.
والمعنى الثاني: أنه ليس للإنسان إذا عمل في مسألةٍ بمذهبٍ أن يعمل بخلافه
فيها ثانيًا، وهذا أيضًا مدفوع من وجوه:
(الأول) : أنه لم يقم عليه دليل إلا لزوم صورة التلاعب، وذلك لا يلزم إلا
لو قصد به ذلك، أو دلت عليه قرائن أحوال، أو مكلف ضاق به الحال فالتجأ إلى
الأخذ فيها في المرة الثانية بقول إمامٍ آخر؛ لدفع ضرورةٍ ألجأته إلى ذلك والغرض
صحيح - فلا ينسب إلى التلاعب، وقد صحّ وثبت عن عمر بن الخطاب - رضي
الله عنه - أنه رجع عن قوله في مسألةٍ كان حكم فيها بحكم، ثم تكررت فتبدل
نظره فيها فحكم بخلافه، وقال: تلك على ما قضينا وهذه على ما نقضي.
فإن قلت: إنه مجتهد، وهذا حال المجتهد: أنه يجب عليه الرجوع إلى ما سنح
له من الدليل بخلاف المقلّد. قلت: مهلاً يا أخي! فإن المقلِّد لم يظهر له بالدليل
صحة ما قلّد فيه أولاً كما ظهر للمجتهد، وهنا مجتهد آخر قائل بخلافه فهو
أحرى بتجويز الانتقال له.
ثُم ظهر لي بعد مدة مِن تسطيري هذه الأسطر ظهورًا بينًا منكشفًا لا ريب فيه؛
أن مرادهم من قولهم: لا تقليد بعد العمل؛ أنه إذا عمل مرّة في مسألةٍ بمذهب في
طلاق أو عتاق أو غيرها، واعتقده وأمضاه، ففارق الزوجة مثلاً، واجتنبها،
وعاملها معاملة من حرمت عليه، واعتقد البينونة بينه وبينها بما جرى منه من اللفظ
مثلاً، فليس له أن يرجع عن ذلك، ويبطل ما أمضاه، ويعود إليها بتقليده ثانيًا إمامًا
غير الإمام الأول الذي قلده فيها، حيث كان الثاني يرى خلاف ما رآه الإمام الأول،
فهذا معنى قولهم ليس له التقليد بعد العمل، ولا يرجع عما قلد فيه وعمل به، ونحو
ذلك من العبارات، فأما إذا وقعت تلك الواقعة مرةً ثانية مع امرأة أخرى أو مع
زواجها بنكاحٍ جديد، فله الأخذ بقول إمامٍ آخر، ولا مانع - كما سيأتي قريبًا؛ على
أنه قد نقل العلامة ابن أمير الحاج الحلبي الحنفي تلميذ المحقق ابن الهمام عن
الزركشي من أئمة الشافعية في شرح التحرير أن في كلام بعض الأئمة ما يقتضي
جريان الخلاف في جواز التقليد بعد العمل أيضًا وأن منعه ليس باتفاق؛ فاعلمه، وقد
نقل صاحب الفتاوى الصرفية عن الظهيرية والنسفية والنصاب - واللفظ من
الظهيرية - أنه سئل شيخ الإسلام عطاء بن حمزة السندي، عن الصغيرة إذا زوجها
أبوها من صغير وقبل أبوه وكبر الصغير وبينهما غيبة منقطعة وقد كان التزويج
بشهادة الفسقة: فهل يجوز للقاضي أن يبعث إلى شافعي المذهب ليبطل هذا النكاح
بينهما بهذا السبب؟ قال: نعم، وللحنفي أن يفعل ذلك بنفسه أيضًا أخذًا بمذهب
الخصم، وإن لم يكن ذلك مذهبه؛ انتهى.
ثُم أورد في المحيط والظهيرية مسألة أبي يوسف في الفأرة عقبها مستشهدًا؛
فاعلم ذلك. وكذا مولانا خاتمة المتأخرين العلامة ابن نجيم رحمه الله في البحر
الرائق في مسألة اليمين المضافة عن البزازية عن أصحابنا: أنه لو استفتى فقيهًا عدلاً
فأفتى ببطلان اليمين: هل له العمل بفتواه وإمساكها؟ وروى أوسع من هذا، وهو أنه
لو أفتاه مفتٍ بالحل، ثُم أفتاه آخر بالحرمة بعدما عمل بفتوى الأول فإنه يعمل
بفتوى الثاني في حق امرأة أخرى لا في حق الأولى، أي في هذه المرأة التي
مضت - كما نبهتك عليه قريبًا - وانظره فقد صرَّح بجواز العمل بخلاف ما عمل
للعامّي، وإنما منع من أن يفتي به المفتي لئلا ينسب إلى الغرض والتشهي
والتلاعب، ولئلا ينسب العلماء إلى التناقض من جهة العوام، فافهم [1] . هذا ما قام
عندي في وجه ذلك، ورأيت في عبارة بعضهم تعليله (بكيلا يتطرق به إلى هدم
مذهب أصحابنا) أو نحو ذلك من العبارة، والله أعلم.
واعلم أن من المسائل ما يقع التصريح بها من بعضًا المتأخرين رحمة الله
عليهم أجمعين، وخصوصًا في الأصول التي ألفها المتأخرون وليست بمرضية؛ بل
ربما يقع التصريح بخلافها من المتقدمين، ويوجد من هذا النوع في كتاب التحرير
الذي ألفه المحقق وجمع فيه من مقالات المتأخرين من فضلاء عصره فمن قبلهم
بقليل حتى من كلام أرباب المذاهب غير مذهبنا، فلا علينا أن نأخذ بما ظهر لنا
صواب خلافه [2] إن أنعم الله علينا بحصول ضربٍ من النظر يمكن الوقف به على
الصواب. وهذا ونحن مع ذلك بحمد الله تعالى لا نخرج عن درجة التقليد لإمامنا
الأعظم أبي حنيفة رحمة الله عليه، ونحن مقلدون له ولكبار أصحابه ومَن بعدهم مِن
كبار أئمتنا كشمس الأئمة وأضرابه [3] وأما ما يبحثه ويقرره المتأخرون من أهل
التاسع والعاشر [4] من فضلاء المذهب فلنا النظر فيه إن أمكن، وعلينا التمسك بما
هو منقول عن المتقدمين وخصوصًا إذا انتهض متمسكًا لنا فيما نرتضيه. والله
الموفق إلى الصواب وبه الاعتصام.
***
فصل
ومما ينشأ من الجهل والتعصب تفويت فرض من فروض الله تعالى مع إمكان
إقامته على رأي مجتهدٍ جليل؛ بل على رأي جمعٍ من المجتهدين، وذلك أن جهلة
المتعصبين يمتنعون ويمنعون من جمع الصلاتين في السفر التي ذهب إلى جوازها
الإمام الشافعي وغيره من صدر الإسلام رحمة الله عليهم، ويؤدي ذلك إلى تفويت
الغرض رأسًا، وذلك أنهم لما يعزمون على السير عند الزوال مثلاً فيصلون الظهر [5]
لأول وقتها ويمتنعون من جمع العصر إليها، فيركبون ويسيرون بناءً على أنهم
ينزلون قبل المغرب آخر وقت العصر فيدركونها، والحال أنهم قد لا يتهيأ لهم
النزول إلا مع المغرب أو الغروب بحيث لا يتسع الوقت إلى الطهارة والصلاة [6]
وخصوصًا في حق مَن تتعسر الطهارة عليه فتفوتهم الفرصة، وقد كانوا يمكنهم
أداؤها في المنزل [7] مجموعة جمع تقديم إلى الظهر على مذهب الإمام الشافعي
رحمة الله عليه، وعلى مذهب غيره ممن جوّز الجمع لأجل السفر، فيمتنعون عن
ذلك ويرضون بتفويتها، ولا بفعلها [8] على مذهب مجتهدٍ يجوز لهم أو عليهم يجب
اتباعه، والحال ما قرّر؛ لأن تحصيل الفرض من وجه مقدم على تفويته من كلّ
وجه، وما هذا إلا محض التعصب والجهل. وقد ذكر الإمام الأجلّ ظهير الدين
الكبير المرغيناني عن أستاذه السيد الإمام أبي شجاع رحمه الله تعالى: أنه سئل
شمس الأئمة الحلواني عن كسالى بخارى أنهم يصلون الفجر والشمس طالعة: فهل
نمنعهم من ذلك؟ فقال: لا يمنعون؛ لأنهم لو منعوا يتركونها أصلاً ظاهرًا (أي
مما يظهر من حالهم) ولو صلوها تجوز عند أصحاب الحديث ، ولا شك أن الأداء
الجائز عند البعض أولى [9] من الترك أصلاً. هذا جواب الحلواني، وناهيك به إذ
هو شيخ المذهب في عصره تخرج به الفحول النظار من أئمتنا كشمس الأئمة
السرخسي وفخر الإسلام البزدوي صاحب المبسوطين، وأضرابهم من رؤساء
المذهب الذين هم قدماء الدهر، وعظماء ما وراء النهر.
هذا مع أن الجاهل المتعصب الغبي يكفيه إيقاعها مجموعة مع الظهر تقليد
الإمام [10] الشافعي وغيره، ثُم إنْ أراد الاحتياط وأدرك في الوقت فسحة أعادها على
مذهبه أو قضاها بعد المغرب احتياطًا إنْ لم تطعه نفسه في أدائها مجموعة مع
الظهر، والله أعلم والموفق لا ربَّ غيره وهو حسبي ونعم الوكيل.
قال جامعها محمد عبد العظيم المكي الحنفي غفران الله تبارك وتعالى له
ولوالديه ولسائر المسلمين: ثُم بعد تسطير هذه الأسطر ظفرت في أثناء المطالعة
بعدةٍ من النقول تؤيد ما ذكرته بهذه الرسالة وتشهد له، لم أنشط لإلحاقها. ثُم رأيت
كلامًا للإمام الكبير المجتهد في العلوم رأس الفقهاء والمحدثين الشهير بابن تيمية
الحنبلي رحمه الله تعالى، فأحببت تعليقه في ذيل هذه الرسالة وهو مؤيد لما أشرنا
إليه مطابق إلى جميع [11] ما أوردته فيها، فالحاصل وإن كان في كلامي زيادة
إيضاح وبيان فهو لا يخالفه؛ بل يعضده ويؤيده. ولفظ ما رأيته:
سئل الإمام العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن
عبد السلام بن تيمية الحنبلي - رحمه الله تعالى - عن أهل المذاهب الأربعة: هل
يصح اقتداء بعضهم ببعض في الصلوات المفروضة وغيرها أم لا؟ وهل قال أحد
من السلف أنه لا يصلي بعض المسلمين خلف بعض إذا اختلفت مذاهبهم أو لا؟
وهل قائل ذلك مبتدع أم لا؟ وإذا فعل الإمام ما يعتقد أن صلاته صحيحة والمأموم
يعتقد خلاف ذلك؛ مثل أن يكون الإمام تقايأ أو رعف أو احتجم أو لمس النساء بشهوةٍ
أو مس ذكره أو قهقه في صلاته أو أكل ما مسته النار أو أكل لحم الإبل وصلى ولم
يتوضأ، وهو لا يعتقد وجوب الوضوء من ذلك، أو كان الإمام لا يقرأ البسملة أو لم
يتشهد التشهد الأخير أو لم يسلم من الصلاة والمأموم يعتقد وجوب ذلك؛ فهل تصح
صلاة المأموم والحالة هذه؟ أفتونا مأجورين ولكم الثواب.
أجاب رحمه الله تعالى: الحمد لله رب العالمين. نعم تجوز صلاة المسلمين
بعضهم خلف بعض كما كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان ومَن بعدهم من الأئمة
الأربعة رضوان الله عليهم أجمعين يصلي بعضهم خلف بعض مع تنازعهم في هذه
المسائل المذكورة وغيرها، ولم يقل أحد من السلف الصالح رحمهم الله تعالى: إنه
لا يصلي بعضهم خلف بعض. ومَن أنكر ذلك فهو مبتدع ضال مخالف للكتاب
والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها، وكان الصحابة والتابعون ومَن بعدهم منهم من
يقرأ البسملة ومنهم مَن لا يقرأها ومنهم مَن يجهر بها ومنهم مَن لا يجهر بها، وكان
منهم مَن يقنت في الفجر ومنهم من لا يقنت، ومنهم مَن يتوضأ مِن الحجامة
والرعاف والقيء ومنهم مَن لا يتوضأ من ذلك، ومنهم مَن يتوضأ من لمس النساء
بشهوة ومس الذكر، ومنهم مَن لا يتوضأ من جميع ذلك، ومنهم مَن يتوضأ مما مسته
النار، ومنهم من لا يتوضأ من ذلك، ومنهم مَن يتوضأ من أكل لحوم الإبل ومنهم مَن
لا يتوضأ من ذلك، ومع هذا كان بعضهم يصلي خلف بعض، مثل ما كان أبو
حنيفة وأصحابه والشافعي وغيرهم - رضوان الله عليهم أجمعين - يصلون خلف
الأئمة المرتبة من المالكية وغيرهم وإن كانوا لا يقرؤون البسملة لا سرًّا ولا جهرًا،
وصلّى الرشيد إمامًا وكان قد احتجم فصلى الإمام أبو يوسف خلفه ولم يعد صلاته،
وكان أفتاه الإمام مالك بأنه لا وضوء عليه، وكان الإمام أحمد بن حنبل يرى الوضوء
من الرعاف والحجامة، فقيل له في ذلك: إذا كان الإمام قد خرج منه الدم ولم يتوضأ
تصلي خلفه؟ فقال: كيف لا أصلي خلف مالك وسعيد بن المسيب [12] .
وفي الجملة فهذه المسائل لها صورتان:
(إحداهما) : أن لا يعرف المأموم أن أمامه فعل ما يبطل الصلاة، فهذا
يصلي خلفه باتفاق السلف والأئمة الأربعة وغيرهم، وليس في هذا خلاف متقدم،
وإنما خالف بعض المتعصبين من المتأخرين فزعموا أن الصلاة خلف الحنفي لا
تصح وإن أتى بالواجبات - قال - لأنه أداها وهو لا يعتقد وجوبها. وقائل هذا
القول - إلى أن يستتاب كما يستتاب أهل البدع - أحوج منه إلى أن يعتد بخلافه [13]
فإنه مازال المسلمون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد خلفائه -
رضي الله عنهم يصلي بعضهم ببعض، وأكثر الأئمة لا يميزون بين المسنون
والمفروض؛ بل يصلون الصلوات الشرعية، ولو كان العلم بهذا واجبًا لبطلت
صلاة أكثر المسلمين ولم يمكن الاحتياط، فإن كثيرًا من هذا فيه نزاع وأدلة ذلك
خفية، وأكثر ما يمكن المتقدمين أن يُحتاطَ من الخلاف، وهو لا يجزم بأحد
القولين؛ وإن كان الجزم بأحدهما واجبًا؛ فأكثر الخلق لا يمكنهم الجزم بذلك،
وهذا القائل ليس معه إلا تقليد بعض الفقهاء، ولو طولب بأدلة شرعية تدل على
صحة قول إمامه دون غيره لعجز عن ذلك؛ ولهذا لا يعتد بنقل مثل هذا فإنه ليس
من أهل الاجتهاد.
(والصورة الثانية) أن يتيقن المأموم أن الإمام فعل ما لا يسوغ عنده،
مثل أن يمس ذكره أو يلمس النساء بشهوة، أو يحتجم، أو يتقايأ ثم يصلي بلا
وضوء، فهذه الصورة فيها نزاع مشهور، فأحد القولين: لا تصح صلاة المأموم؛
لأنه يعتقد بطلان صلاة إمامه كما قال ذلك جماعة من أصحاب أبي حنيفة والشافعي
وأحمد رحمهم الله تعالى. والقول الثاني: تصح صلاة المأموم؛ وهو قول جمهور
السلف، وهو مذهب مالك رحمه الله، وأحد قولي الشافعي وأحمد؛ بل وأبي حنيفة،
وأكثر نصوص الإمام أحمد على هذا، وهذا هو الصواب، لما ثبت في الصحيح
وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يصلون بكم فإن أصابوا فلكم
ولهم وإن أخطأوا فلكم وعليهم) . فقد بين صلى الله عليه وسلم أن خطأ الإمام
لا يتعدى إلى المأموم، ولأن المأموم يعتقد أن ما فعله سائغ له، وأنه لا إثم عليه
فيما فعل فإنه مجتهد، أو مقلد مجتهد، وهو يعلم أن هذا قد غفر الله له خطأه، فهو
يعتقد صحة صلاته، وأنه لا يأثم إذا لم يعدها؛ بل لو حكم حاكم بمثل هذا لم يجز
له نقض حكمه؛ بل كان ينفذه، وإذا كان الإمام قد فعل باجتهاده - ولا يكلف الله
نفسًا إلا وسعها - والمأموم قد فعل ما يجب عليه كانت صلاة كل منهما صحيحة،
وكان كل منهما قد أدى ما يجب عليه، وقد حصلت موافقة الإمام في الأفعال
الظاهرة.
وقول القائل: (إن المأموم يعتقد بطلان صلاة الإمام) ؛ خطأ منه لأن المأموم
يعتقد أن الإمام قد فعل ما وجب عليه، وأن الله قد غفر له ما أخطأ فيه، وأنه لا
تبطل صلاته لأجل ذلك، ولو أخطأ الإمام والمأموم فسلَّم الإمام خطأ واعتقد المأموم
جواز متابعته فسلم كما سلم المسلمون خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من
ركعتين سهوًا مع علمهم بأنه إنما صلى ركعتين، وكما لو صلى خمسًا سهوًا فصلوا
خلفه سهوًا مع علمهم بأنه صلى خمسًا لاعتقادهم جواز ذلك؛ فإنه تصح صلاة المأموم
في هذه الحالة، فكيف إذا كان المخطئ هو الإمام وحده؟ وقد اتفقوا كلهم على أن
الإمام لو سلم خطأ لا تبطل صلاة المأموم إذا لم يتابعه، فدل ذلك على أن ما فعله
الإمام خطأ لا يلزم فيه بطلان صلاة المأموم؛ والله أعلم.
انتهى بلفظه فانظره فإنه مطابق ومؤيد لما ذكرته في هذه الرسالة، ولله الحمد
على موافقة مَن مضى من كبار الأئمة.
وكثيرًا ما أختار شيئًا إلا فأجد مَن قد سبقني إلى اختياره الفحول من الرجال
الأئمة [14] أو استشكل شيئًا فأجد استشكاله منقولاً عن كبار المتقدمين، وكذلك إذا
أبديت قولاً لم يكن وقف من رأى كلامي على نقله فيقع منهم موقع الإنكار ويحملهم
الجهل والتعصب على رده ثُم أجده منقولاً بعد ذلك بعينه أو بما يوافقه عن السلف
فمن بعدهم من كبار الأئمة؛ وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء؛ بل ربما أفعل أمورًا
من الأمور العادية فيستغربه الناس ويتعجبون من صدوره مني، وربما عِيبَ عليّ؛
بل ربما أُنسب به عند بعض الجهال إلى سخافة العقل ثُم أجده أو مثله محكيًّا عن
بعض الصحابة رضي الله عنهم أو عن التابعين أو بعض الخلفاء أو السلاطين
الكبار المُجمع على إصابة فعلهم وجلالتهم، والحمد لله رب العالمين.
ثُم لخص لي تلخيصًا شافيًا شافعيُّ زمانه السيد الجليل عمر بن عبد الرحيم
البصري المكي رحمه الله تعالى، ومِن خَطّه الكريم نقلت ما نصه: (قال الإمام
الرافعي في [15] إن كانت صلاته صحيحة في اعتقاد الإمام دون المأموم أو بالعكس،
فإن كان الاختلاف في الفروع كما إذا مس الحنفي فرجه وصلى، أو ترك الاعتدال
أو قرأ غير الفاتحة: ففي صحة اقتداء الشافعي به وجهان:
(أحدهما) : يصح؛ وبه قال القفال؛ لأن خطأه غير مقطوع به.
(والثاني) : وبه قال الشيخ أبو حامد: لا يصح لفسادها عند المأموم؛
فأشبه ما لو اختلف اجتهاد رجلين في القبلة لا يقتدي أحدهما بالآخر، وهو أظهر
الأكثرين؛ انتهى.
قال الإمام الزركشي في الخادم ما حاصله:
وخلاصة ما رجحه ونقله عن الأكثرين غير مسلم فإنما تعرض له طائفة
كالبرزنجي والروياني في الحلية والبغوي وصاحب الكافي والغزالي في فتاويه،
ولم يذكر المسألة طائفة كالماوردي والدارمي والشيخ في المهذب والتنبيه، وكلام
الشيخ أبي حامد فيها محتمل فإنه قال: لو اقتدى به وهو يحتمل الكراهة وعليها
جرى الروياني في البحر، ولم يصح عن القاضي أبي الطيب شيء؛ بل حكي عن
الدارمي الجواز، وعن أبي إسحاق المنع، والقائلون به لم يقفوا للشافعي على نص؛
بل قالوا: إن قياس مذهبه في المختلفين في القبلة والأواني. وهذا ممنوع نقلاً
وتوجيهًا. (أما) النقل، فإن المنصوص للشافعي - ما نقله القفال - الصحة،
ومما يشهد للصحة ما حكاه المحاملي في المجموع قال: قال الشافعي رحمه الله
تعالى في الأمالي: وإذا دخل الرجل بلدًا فنوى أن يقيم أربعين يومًا، وكان يرى
جواز القصر حينئذٍ، ومعه رجل يعتقد عدم جوازه فيكره له أن يقدمه ويصلي خلفه؛
لأنه يعتقد أن صلاته المقصورة لا تجوز، فإن قدمه وصلى خلفه جاز؛ لأنه
محكوم بصحة صلاته في حقه. هكذا حكاه القاضي أبو الطيب عن الأمالي.
ولو كانت العبرة باعتقاد المأموم لكان اقتداؤه به باطلاً؛ لأن عند المأموم أن
نية القصر لا تنعقد معها الصلاة. ومع ذلك صحح الشافعي الاقتداء به اعتبارًا
باعتقاد الإمام، وهذا النص ذكره الإمام النووي أيضًا في باب صلاة المسافر في
شرح المهذب، ووقع في بعض نسخ شرح المذهب هكذا: (والمختار والظاهر قول
القفال) فلم تزل الأئمة المختلفون في الفروع يصلي بعضهم خلف بعض، ويشهد له
تصحيحهم أن الماء الذي توضأ منه الحنفي وغيره - ممن لا يرى وجوب النية -
مستعمل وإن لم ينوِ على الأصح، وهذا هو الصواب الذي ينبغي أن تكون الفتوى
عليه، وقد كان الإمام الشافعي رحمه الله تعالى يصلي خلف أئمة المدينة ومصر
وكانوا لا يسلمون؛ ولم ينقل عنه الامتناع عن الاقتداء بهم، وصح عن ابن مسعود -
رضي الله عنه أنه ائتم بمنىً مع عثمان رضي الله عنه مع إنكاره عليه
ذلك؛ فقيل له في ذلك، فقال: الخلاف شرُّ فتنة.
وأما توجيه المانعين بقولهم: (إن المأموم يعتقد بطلان صلاة الإمام) فمردود،
فإنها مسألة اجتهاد واعتقاد، والخطأ فيها لا يسوغ كما في غيرها من المسائل
الاجتهادية، كالحكم بصحة حكمه وامتناع نقضه بشرطه، وأما قياسهم على
المجتهدين في القبلة أو في الأواني فيصرف بأن الإمام والمأموم فيهما يعتقدان فساد
صلاة من صلى بطهارةٍ من إناء نجس، أو صلى إلى غير القبلة، بخلاف المأموم
في اقتدائه بتارك الفاتحة فإنه لا يعتقد بطلان صلاته مع تركها؛ لأنه مستند لاجتهاد
من جملة عقيدة المأموم التي يدين بها ربه اعتقاد صحته؛ وبأن المجتهد لو بان له
في مسألتي الأواني والقبلة أن الأمر على خلاف ظنه يقينًا لزمته الإعادة، بخلاف
المجتهد في الفروع لو عثر على نصٍّ جليّ مخالف لاجتهاده السابق، لا تلزمه إعادة
ما صلاّه بالاجتهاد السابق؛ وسر ذلك أن الاجتهاد الأول مستند إلى أمرٍ عادي
وقرائن تشير [16] الظن اكتفى بها الشارع تخفيفًا على الأمة، فإن تحقق الخطأ فيها
رجع إلى الأصل وتبين عدم صلاحيتها لمن ظن بها، بخلاف الاجتهاد الثاني، فإنه
مستند إلى أمر شرعي أوجب الشارع عليه اتباعه، فلم يقع عمله السابق على
خلاف حكم الله تبارك وتعالى، وإن فرض وصرّح النص الثاني المعثور عليه
بحيث أفاد اليقين أو ما قاربه من الظن القوي، وأيضًا الاجتهاد الأول يمكن
التوصل [17] إلى القطع بالخطأ فيه بالخلاف الثاني.
وممن اختار ذلك من المتأخرين صاحب الذخائر وأفرد المسألة بتصنيف سمّاه
(بيان المشروع في الاقتداء بالمخالفين في الفروع) ، وقال ابن أبي الدم في باب
الجنائز من شرح الوسيط: لعل الأصح الصحة مطلقًا، وأقام الدليل على الجواز من
وجوه، ثُم نبّه على أمرٍ حسن فقال: وهذا الخلاف كله في المجتهدين، وأما عوام
الناس فليسوا مقصودين في الخلاف فإنهم لا مذهب لهم يعوّلون عليه، وإنما فرضهم
التقليد عند نزول المنازعة فمن أفتاهم من أهل الفتوى وجب عليهم قبول قوله؛
وانتسابهم إلى المذاهب عصبية، ومعناه ارتضى أن يعمل في عبادته وكل أحواله
بقول إمامٍ انتسب إليه، فهؤلاء يصح قدوة كل منهم بأي إمام كان من غير تفصيل.
ونقل عن الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله تعالى - أنه كان يرى الوضوء
من الدم الكثير فقيل له: إذا كان الإمام لا يتوضأ من ذلك أتصلي خلفه؟ فقال:
سبحان الله تعالى! أقول: إنه لا يصلى خلف سعيد بن المسيب ومالك رضي الله
عنهما؟
وكان القاضي أبو عصام العامري الحنفي مارًّا في باب مسجد القَفَّال والمؤذن
يؤذن المغرب فنزل عن دابته ودخل المسجد، فلما رآه القفال أمر المؤذن أن يثني في
الإقامة، وقدم القاضي أبا عصام فتقدم وصلى وجهر بالبسملة، وأمَّ بشعار الشافعية
في صلاته، وكان ذلك منهما تهوينًا لأمر الخلاف في الفروع. وقال القاضي الحسن
في تعليقه: والمختار أن كل مجتهد مصيب، إلا أن أحدهم أصاب الحق عند الله
والباقون أصابوا الحق عند أنفسهم. وقال ابن السمعاني: قال علماؤنا: مَن أخطأ
كان مخطئًا للحق عند الله مصيبًا في حق عمل نفسه، حتى إن عمل نفسه يقع
صحيحًا عند الله شرعًا كأنه أصاب الحق عند الله.
وقد حكى الإمام الشافعي - رحمة الله عليه - الإجماع على أن كل مجتهد أداه
اجتهاده إلى أمر فهو حكم الله تعالى في حقّه ولا يشرع له العلم بغيره حينئذٍ، فمَن
صلَّى بحكم اجتهاده فصلاته صحيحة عنده وعند مَن يخالفه في المسألة لاعتقاده أن
ذلك حكم الله تعالى عنده، وصلاته صحيحة لإتيانه بها على الوجه المأمور به حينئذٍ،
فكيف يمنع الاقتداء به مع الحكم بصحة صلاته في نفسه؟ انتهى مع تلخيص
وتحرير، واقتضى نسخه إلى هنا، انتهى ما رأيته بخط المذكور؛ دامت إفادته. وقد
أَرْسَلَ به إليّ في ذيل نسخة من هذه الرسالة بعد إمرار نظره السعيد عليها، وهذا
بحمد الله تعالى أيضًا مؤيد لما أشرت إليه، واعتمدت فيها عليه، والله الموفق إلى
الصواب.
قال جامعها ومؤلفها محمد بن عبد العظيم المكي الحنفي بن المقدسي الميروز
الملاّ فروخ بن عبد المحسن الرومي الموروي حفظه الله تعالى في نفسه وأولاده
وجميع نعم الله تعالى عليه، وأحياه حياةً طيبة سالمةً من الأسواء فيما وصل ويصل
من منة الله إليه، بعد أن علم بأنه مرّ عليه مطالعةً وتصحيحًا وتتمةً في يوم الجمعة
الثانية من شوال سنة اثنتين وخمسين وألف من الهجرة النبوية، والحمد لله على
ذلك، وصلى الله على نبيه كذلك.
_________
(*) تابع لما نشر في ص 368 ج 5.
(1)
هذا التعليل ضعيف وأضعف منه ما يذكره بعده عن بعضهم، وله تعليل آخر أقوى منهما وهو أن تقليده الثاني يجب أن يبطل عمله بالتقليد الأول بعد التزامه لأنه تناقض فيحقه ولا يباح لأحد أن يلتزم التناقض ويعمل به ويتحقق إلا في الموضوع الواحد والمسألة الواحدة كالطلاق والعتق الذي أمضاه بالفعل، ومثله المجتهد إذا تغيّر رأيه في المسألة بعد إمضائها لا ينقض اجتهاده الثاني ما أمضاه بالأول.
(2)
يوشك أن يكون قد سقط بعض الكلم من هذا السياق.
(3)
يريد بتقليده العمل بأصولهم والسير على طريقتهم في الفهم والعمل.
(4)
أي أهل القرنين التاسع والعاشر والمصنف من أهل القرن الحادي عشر فهو يعد أهل ذينك القرنين كأهل قرنه لغلبة التقليد المحض عليهم وبعدهم عن الاستقلال والاجتهاد حتى في المذهب.
(5)
كان الظاهر أن يقول: وذلك أنهم عندما يعزمون على السفر بعد الزوال يصلون الظهر
…
إلخ.
(6)
الصواب: للطهارة والصلاة؛ يقال: اتسع لكذا - لا إلى كذا.
(7)
لعلّ أصله: (في المنزل الأول) ؛ أي من منازل السفر.
(8)
لعل أصله (ولا يرضون بفعلها) إلخ.
(9)
لعل الأصل: (وهو أولى من الترك) .
(10)
لا بد أن يكون الأصل: بتقليد الإمام - أو - تقليدًا للإمام
…
إلخ.
(11)
الصواب: (لجميع) .
(12)
كأن سقط من هذه العبارة كلمات أو فقرات من نسختنا فأتممناها من أصل فتاوى ابن تيمية، وفي الأصل تقديم سعيد بن المسيب على مالك؛ لأنه أعلم التابعين.
(13)
هذا نص الفتوى، وعبارة نسختنا:(إلى أن يعتقد بطلانها) .
(14)
كلمة (إلا) وكلمة (من) قبل الأئمة زائدتان، أي كثيرًا ما أختار شيئًا فأجد الذين قد سبقوني إلى اختياره هم الفحول من الرجال والأئمة، وسبب موافقة المصنف في كثير من المسائل لهؤلاء عدم التعصب للمذهب وحب الإنصاف، ولو عني بالتفسير والحديث كما عني بالفقه الحنفي مع زيادة إتقانٍ للعربية لكان مجتهد مستقلاً تمام الاستقلال.
(15)
بياض في الأصل والذي سقط اسم الكتاب ولعله (الشرح الكبير) للوجيز ولا يبعد أن يكون مما سقط اسم الباب أو البحث.
(16)
سقط من هنا كلام والمعنى أن الاجتهاد الأول مبني على قرائن ظنية لا هي علم ولا شرع وإنما أجازها الشرع للضرورة.
(17)
لعلّ الأصل (يمكن التوصل به) .
الكاتب: أبو إسحاق الشاطبي
الابتداع بالتشدد في الدين
والتزام ما لم يرد وتتبع آثار الصالحين
فصل من كتاب الاعتصام
للإمام الشاطبي
ثبت بمضمون هذه الفصول المتقدمة آنفًا أن الحرج منفي عن الدين جملةً
وتفصيلاً - وإن كان قد ثبت أيضًا في الأصول الفقهية على وجهٍ من البرهان أبلغ -
فلنبن عليه فنقول:
قد فَهَمَ قوم مِن أصول [1] السلف الصالح وأهل الانقطاع إلى الله ممّن ثبتت
ولايتهم أنهم كانوا يشددون على أنفسهم، ويلزمون غيرهم الشدة أيضًا، والتزام
الحرج ديدنًا في سلوك طريق الآخرة. وعدّوا مَن لم يدخل تحت هذا الالتزام
مقصرًا مطرودًا ومحرومًا، وربما فهموا ذلك من بعض الإطلاقات الشرعية،
فرشحوا بذلك ما التزموه، فأفضى الأمر بهم إلى الخروج عن السنّة إلى البدعة
الحقيقية أو الإضافية.
فمن ذلك أن يكون للمكلف طريقان في سلوكه للآخرة، أحدهما سهل والآخر
صعب، وكلاهما في التوصل إلى المطلوب على حدّ واحد فيأخذ بعض المتشددين
بالطريق الأصعب الذي يشق على المكلف مثله، ويترك الطريق الأسهل بناءً على
التشديد على النفس، كالذي يجد للطهارة ماءين سخن وبارد؛ فيتحرى البارد الشاق
استعماله، ويترك الآخر. فهذا لم يعط النفس حقها الذي طلبه الشارع منه. وخالف
دليل رفع الحرج من غير معنى زائد؛ فالشارع لم يرض بشرعية مثله، وقد قال
تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} (النساء: 29) فصار متَّبِعًا
لهواه، ولا حجة له في قوله عليه السلام: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا
ويرفع به الدرجات؟ إسباغ الوضوء عند الكريهات) - الحديث. من حيث كان
الإسباغ مع كراهية النفس سببًا لمحو الخطايا ورفع الدرجات، ففيه دليل على أن
للإنسان أن يسعى في تحصيل هذا الأجر بإكراه النفس، ولا يكون إلا بتحري إدخال
الكراهية عليها؛ لأنّا نقول: لا دليل في الحديث على ما قلتم؛ وإنما فيه أن الإسباغ
مع وجود الكراهية، ففيه أمر زائد، كالرجل يجد ماءً باردًا في زمان الشتاء ولا
يجده سخنًا فلا يمنعه شدة برده عن كمال الإسباغ.
وأما القصد إلى الكراهية فليس في الحديث ما يقتضيه؛ بل في الأدلة المتقدمة
ما يدل على أنه مرفوع عن العباد، ولو سلم أن الحديث يقتضيه لكانت أدلة رفع
الحرج تعارضه، وهي قطعية وخبر الواحد ظني، فلا تعارض بينهما للاتفاق على
تقديم القطعي. ومثل الحديث قول الله تعالى:] ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ
وَلَا مَخْمَصَةٌ [
…
الآية (التوبة: 120) .
ومن ذلك الاقتصار من المأكول على أخشنه وأفظعه لمجرّد التشديد لا لغرضٍ
سواه، فهو النمط المذكور فوقه؛ لأن الشرع لم يقصد إلى تعذيب النفس في التكليف؛
وهو أيضًا مخالف لقوله عليه السلام: (إن لنفسك عليك حقًّا) ، وقد كان النبي -
صلى الله عليه وسلم يأكل الطيب إذا وجده، وكان يحب الحلواء والعسل،
ويعجبه لحم الذراع، ويستعذب له الماء، فأين التشديد من هذا؟ !
ولا يدخل الاستعمال المباح في قوله تعالى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ
الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا} (الأحقاف: 20) ؛ لأن المراد به الإسراف الخارج عن حد
المباح، بدليل ما تقدم، فإذًا الاقتصار على البشيع في المأكول من غير عذرٍ تنطع؛
وقد مر ما فيه في قوله تعالى:] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ
اللَّهُ لَكُمْ [
…
الآية (المائدة: 87) .
ومن ذلك: الاقتصار في الملبس على الخشن من غير ضرورة؛ فإنه من قبيل
التشديد والتنطع المذموم. وفيه أيضًا من قصد الشهرة ما فيه.
وقد روى عن الربيع بن زياد الحارثي أنه قال لعلي بن أبي طالب رضي الله
عنه: اغد بي على أخي عاصم، قال: ما باله؟ قال: لبس العباء يريد النسك.
فقال علي رضي الله عنه: عليَّ به. فأُتيَ به مؤتزرًا بعباءة مرتديًا بالأخرى، شعث
الرأس واللحية، فعبس في وجهه وقال: ويحك! أما استحييت من أهلك؟ أما
رحمت ولدك؟ أترى الله أباح لك الطيبات وهو يكره أن تنال منها شيئًا؟ ! بل أنت
أهون على الله من ذلك، أما سمعت الله يقول في كتابه:{وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ} (الرحمن: 10) - إلى قوله - {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} (الرحمن:
22) ؟ أفترى الله أباح هذا لعباده إلا ليبتذلوه [2] ويحمدوا الله عليه فيثيبهم عليه؟
وأن ابتذالك نِعَم الله بالفعل خير منه بالقول. قال عاصم: فما بالك في خشونة
مأكلك وخشونة ملبسك؟ قال: ويحك! إن الله فرض على أئمة الحق أن يقدروا
أنفسهم بضعفة الناس.
فتأملوا كيف لم يطالب الله العباد بترك الملذوذات! وإنما طالبهم بالشكر عليها
إذا تناولوها، فالمتحري للامتناع من تناول ما أباحه الله من غير موجب شرعي
مفتات على الشارع [3] وكل ما جاء عن المتقدمين من الامتناع عن بعض المتناولات
من هذه الجهة وإنما [4] امتنعوا منه لعارضٍ شرعي يشهد الدليل باعتباره، كالامتناع
من التوسع لضيق الحال في يده، أو لأن المتناول ذريعة إلى ما يكره أو يمنع، أو
لأن في المتناول وجه شبهة تفطن إليه التارك ولم يفطن إليه غيره ممن علم بامتناعه،
وقضايا الأحوال لا تعارض الأدلة بمجردها، لاحتمالها في أنفسها. وهذه المسألة
مذكورة على وجهها في كتاب الموافقات.
ومن ذلك الاقتصار في الأفعال والأحوال على ما يخالف محبة النفوس، حملها
على ذلك في كل شيء من غير استثناء، فهو مع قبيل التشديد. ألا ترى أن الشارع
أباح أشياء مما فيه قضاء نهمة النفس وتمتعها واستلذاذها؟ فلو كانت مخالفتها بِرًّا
لشرع، ولندب الناس إلى تركه فلم يكن مباحًا؛ بل مندوب الترك أو مكروه الفعل.
وأيضًا فإن الله تعالى وضع في الأمور المتناولة إيجابًا أو ندبًا أشياء من
المستلذات الحاملة على تناول تلك الأمور، لتكون تلك اللذات كالحادي إلى القيام
بتلك الأمور، كما جعل في الأوامر إذا امتثلت، وفي النواهي إذا اجتنبت أجورًا
منتظرة، ولو شاء لم يفعل؛ وجعل في الأوامر إذا تركت والنواهي إذا ارتكبت
جزاءً على خلاف الأول؛ ليكون جميع ذلك منهضًا لعزائم المكلفين في الامتثال، حتى
إنه وضع لأهل الامتثال الثائرين على المبايعة [5] في أنفس التكاليف أنواعًا من
اللذات العاجلة، والأنوار الشارحة للصدور، ما لا يعدله من لذات الدنيا شيء؛
حتى يكون سببًا لاستلذاذ الطاعة والفرار إليها وتفضيلها على غيرها، فيخف على
العامل العمل؛ حتى يتحمل منه ما لم يكن قادرًا قبْلُ على تحمّله إلا بالمشقة المنهي
عنها؛ فإذا سقطت سقط النهي.
بل تأملوا كيف وضع للأطعمة على اختلافها لذَّات مختلفات الألوان،
وللأشربة كذلك، وللوقاع الموضوع سببًا لاكتساب العيال - وهو أشدَّ تعبًا عن
النفس - لذة أعلى من لذة المطعم والمشرب؛ إلى غير ذلك من الأمور الخارجة عن
نفس المتناول، كوضع القبول في الأرض وترفيع المنازل، والتقدم على سائر
الناس في الأمور العظائم؛ وهي أيضًا تقتضي لذات تستصغر في جنبها لذات الدنيا.
وإذا كان كذلك، فأين هذا الموضع الكريم، من الرب اللطيف الخبير؟ فمن
يأتي متعبدًا بزعمه بخلاف ما وضع الشارع له من الرفق والتيسير والأسباب
الموصلة إلى محبته؛ فيأخذ بالأشق والأصعب، ويجعله هو السلم الموصل
والطريق الأخص: هل هذا كله إلا غاية في الجهالة، وتلف في تيه الضلالة؟
عافانا الله من ذلك بفضله.
فإذا سمعتم بحكاية تقتضي تشديدًا على هذا السبيل، أو يظهر منها تنطع أو
تكلف؛ فإما أن يكون صاحبها ممن يعتبر كالسلف الصالح، أو من غيرهم ممن لا
يعرف ولا ثبت اعتباره عند أهل الحل والعقد من العلماء، فإن كان الأول فلا بد أن
يكون على خلاف ما ظهر لبادئ الرأي - كما تقدم - وإن كان الثاني فلا حجة فيه،
وإنما الحجة في المقتدين برسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه خمسة في التشديد
في سلوك طريق الآخرة يقاس عليها ما سواها.
***
فصل
قد يكون أصل العلم مشروعًا؛ ولكنه يصير جاريًا مجرى البدعة من باب
الذرائع، ولكن على غير الوجه الذي فرغنا من ذكره. وبيانه أن العلم يكون مندوبًا
إليه - مثلاً - فيعمل به العامل في خاصة نفسه على وضعه الأول من الندبية، فلو
اقتصر العامل على هذا المقدار لم يكن به بأس، ويجري مجراه إذا دام عليه في
خاصيته غير مظهر له دائمًا؛ بل إذا أظهره لم يظهره على حكم الملتزمات من
السنن الرواتب والفرائض اللوازم، فهذا صحيح لا إشكال فيه. وأصله ندب رسول
الله صلى الله عليه وسلم لإخفاء النوافل والعمل بها في البيوت، وقوله:
(أفضل الصلاة صلاتكم في بيوتكم إلا المكتوبة) ؛ فاقتصر في الإظهار على
المكتوبات كما ترى؛ وإن كان ذلك في مسجده عليه السلام أو في المسجد الحرام أو
في مسجد بيت المقدس، حتى إن النافلة في البيت أفضل منها في أحد هذه المساجد
الثلاثة بما اقتضاه ظاهر الحديث. وجرى مجرى الفرائض في الإظهار
السنن كالعيدين والخسوف والاستسقاء وشبه ذلك؛ فبقي ما سوى ذلك
حكمه، ومِنْ هنا ثابر السلف الصالح رضي الله عنهم على إخفاء الأعمال فيما
استطاعوا أو خفَّ عليهم اقتداءً بالحديث وبفعله عليه السلام؛ لأنه القدوة والأسوة.
ومع ذلك فلم يثبت فيها إذا عمل بها في البيوت دائمًا أن يقام جماعة في
المساجد ألبتة، ما عدا رمضان - حسبما تقدم - ولا في البيوت دائمًا، وإن وقع ذلك
في الزمان الأول في الفرط [6] كقيام ابن عباس رضي الله عنهما مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم عندما ما بات عند خالته ميمونة، وما ثبت من قوله عليه
السلام: (قوموا فلأصلي لكم) .
وما في الموطأ من صلاة يرفا [7] مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه
وقت الضحى، فمن فعله في بيته وقتًا ما فلا حرج، ونص العلماء على جواز ذلك
بهذا القيد المذكور، وإن كان الجواز قد وقع في المدونة مطلقًا فما ذكره تقييد له،
وأظن ابن حبيب نقل [8] عن مالك مقيدًا؛ فإذا اجتمع في النافلة أن تلتزم التزام
السنن الرواتب إما دائمًا وإما في أوقات محدودة وعلى وجه محدود، وأقيمت في
الجماعة في المساجد التي تقام فيها الفرائض، أو المواضع التي تقام فيها السنن
الرواتب، فذلك اتباع [9] والدليل عليه أنه لم يأت عن رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - ولا عن أصحابه ولا عن التابعين لهم بإحسان فعل هذا المجموع هكذا
مجموعًا، وإن أتى مطلقًا من غير تلك التقيدات؛ فالتقييد في المطلقات التي لم يثبت
بدليل الشرع تقييدها رأي في التشريع؛ فكيف إذا عارضه الدليل، وهو الأمر
بإخفاء النوافل مثلاً؟
ووجه دخول الابتداع هنا أن كل ما واظب عليه رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - من النوافل وأظهره في الجماعات فهو سنة؛ فالعمل بالنافلة التي ليست
بسنة على طريق العلم بالسنة، إخراج للنافلة عن مكانها المخصوص بها شرعًا، ثُم
يلزم من ذلك اعتقاد ما ليس بسنة والعمل بها على حد العلم بالسنة نحو من تبديل
الشريعة؛ كما لو اعتقد في الفرض أنه ليس بفرض، أو بما ليس بفرض أنه فرض،
ثم عمل على وفق اعتقاده فإنه فاسد، فهب العمل في الأصل صحيحًا فإخراجه عن
بابه اعتقادًا وعملاً من باب إفساد الأحكام الشرعية. ومن هنا ظهر عذر السلف
الصالح في تركهم سننًا قصدًا لئلا يعتقد الجاهل أنها من الفرائض كالأضحية
وغيرها كما تقدم ذلك.
ولأجله أيضًا نهى أكثرهم على اتباع الآثار، كما خرج الطحاوي وابن
وضاح وغيرهما عن معرور بن سويد الأسدي قال: وافيت الموسم مع أمير
المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلما انصرفنا إلى المدينة انصرفت معه،
فلما صلى لنا صلاة الغداة قرأ فيها: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ} (الفيل: 1)
و {لإِيلَافِ قُرَيْشٍ} (قريش: 1) ثم رأى ناسًا يذهبون مذهبًا، فقال: أين
يذهب هؤلاء؟ قالوا: يأتون مسجدًا ها هنا صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فقال: إنما هلك مَن كان قبلكم بهذا؛ يتبعون آثار أنبيائهم فاتخذوها كنائس وبيعًا،
مَن أدركته الصلاة في شيء من هذه المساجد التي صلى بها رسول الله صلى الله
عليه وسلم فليصل فيها وإلا فلا يتعمدها.
وقال ابن وضاح: سمعت عيسى بن يونس مفتي أهل طرسوس يقول: أمر
عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي صلى
الله عليه وسلم، فقطعها لأن الناس كانوا يذهبون فيصلون تحتها فخاف عليهم الفتنة.
قال ابن وضَّاح: وكان مالك بن أنس وغيره من علماء المدينة يكرهون إتيان
تلك الآثار للنبي صلى الله عليه وسلم ما عدا قباء وحده - وقال - وسمعتهم
يذكرون أن سفيان دخل مسجد بيت المقدس فصلى فيه ولم يتبع تلك الآثار ولا
الصلاة فيها، وكذلك فعل غيره أيضًا ممَّن يقتدى به؛ وقدم وكيع أيضًا مسجد بيت
المقدس فلم يعدُ فعل سفيان. قال ابن وضاح فعليكم بالاتباع لأئمة الهدى المعروفين،
فقد قال بعض من مضى: كم من أمر هو اليوم معروف عند كثير من الناس كان
منكرًا عند من مضى؟
وقد كان مالك يكره كل بدعة وإن كانت في خير. وجميع هذا ذريعة لئلا يتخذ
سنة ما ليس بسنة، أو يعد مشروعًا ما ليس معروفًا.
وقد كان مالك يكره المجيء إلى بيت المقدس خيفة أن يتخذ ذلك سنة؛ وكان
يكره مجيء قبور الشهداء، ويكره مجيء قباء خوفًا من ذلك، مع ما جاء في الآثار
من الترغيب فيه.
ولكن لما خاف العلماء عاقبة ذلك تركوه.
وقال ابن كنانة وأشهب: سمعنا مالكًا يقول: لما أتاه سعد بن أبي وقاص قال:
وددت أن رجلي تكسرت وأني لم أفعل.
وسئل ابن كنانة عن الآثار التي تركوا بالمدينة فقال: أثبت ما في ذلك عندنا
قباء، إلا أن مالكًا كان يكره مجيئها خوفًا أن يُتَّخَذَ سنّة.
وقال سعيد بن حسان: كنت أقرأ على ابن نافع، فلما مررت بحديث التوسعة
ليلة عاشوراء قال لي: حرق عليه [10] قلت: ولم ذلك يا أبا محمد؟ قال خوفًا من
أن يُتَّخَذَ سنّة.
فهذه أمور جائزة أو مندوب إليها، ولكنهم كرهوا فعلها خوفًا من البدعة؛ لأن
اتخاذها سنة إنما هو بأن يواظب الناس عليها مظهرين لها؛ وهذا شأن السنّة، وإذا
جرت مجرى السنن صارت من البدع بلا شك.
فإن قيل: كيف صارت هذه الأشياء من البدع الإضافية؟ والظاهر منها أنها
بدع حقيقية؛ لأن تلك الأشياء إذا عمل بها على اعتقاد أنها سنة فهي حقيقية؛ إذ لم
يضعها صاحب السنة رسول الله صلى عليه وسلم؛ على هذا لم توجه [11] فصارت
مثل ما إذا صلى الظهر على أنها غير واجبة واعتقدها عبادة، فإنها بدعة من غير
إشكال؛ هذا إذا نظرنا إليها بمالها، وإذا نظرنا إليها أولاً فهي مشروعة من غير
نسبة إلى بدعة أصلاً.
فالجواب أن السؤال صحيح، إلا أن لوضعها أولاً نظرين:(أحدهما) من
حيث هي مشروعة فلا كلام فيها. و (الثاني) من حيث صارت كالسبب الموضوع
لاعتقاد البدعة، أو للعمل بها على غير السنة، فهي من هذا [12] غير مشروعة؛
لأن وضع الأسباب للشارع لا للمكلف، والشارع لم يضع الصلاة في مسجد قباء أو
بيت المقدس - مثلاً - سببًا لأن تتخذ سنة، فوضع المكلف لها كذلك رأي غير
مستند إلى الشرع، فكان ابتداعًا.
وهذا معنى كونها بدعة إضافية. أما إذا استقر السبب وظهر مسببه الذي هو
اعتقاد العمل سنة والعمل على وفقه، فذلك بدعة حقيقة لا إضافية؛ ولهذا الأصل
أمثلة كثيرة وقعت الإشارة إليها في أثناء الكلام، فلا معنى للتكرار.
وإذا ثبت في الأمور المشروعة أنها قد تعد بدعًا بالإضافة، فما ظنك بالبدع
الحقيقية؟ فإنها قد تجتمع فيها أن تكون حقيقية وإضافية معًا، لكن من جهتين، فإذًا
بدعة (أصبح ولله الحمد) في نداء الصبح ظاهرة. ثُم لمّا عمل بها في المساجد
والجماعات مواظبًا عليها لا تترك كما لا تترك الواجبات وما أشبهها، كان تشريعًا
أولاً يلزمه أن يعتقد فيها الوجوب أو السنّية، وهذا ابتداع ثانٍ إضافي؛ ثُم إذا اعتقد
فيها ثانيًا السنية أو الفرضية صارت بدعة من ثلاثة أوجه. ومثله يلزم في كل بدعة
أظهرت والتزمت، وأما إذا خفيت واختص بها صاحبها فالأمر عليه أخف؛ فيا لله ويا
للمسلمين! ماذا يجني المبتدع على نفسه مما لا يكون في حسابه!! وقانا الله
شرور أنفسنا بفضله.
***
فصل
من تمام ما قبله
وذلك أنه وقعت نازلة: إمام مسجد ترك ما عليه الناس بالأندلس من الدعاء
للناس بآثار الصلوات بالهيئة الاجتماعية على الدوام - وهو أيضًا معهود في أكثر
البلاد، فإن الإمام إذا سلم من الصلاة يدعو للناس ويؤمن الحاضرون - وزعم
التارك أن تركه بناء منه على أنه لم يكن من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم،
ولا فعل الأئمة بعده، حسبما نقله العلماء في دواوينهم عن السلف والفقهاء. أما إنه
لم يكن من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فظاهر؛ لأن حاله عليه السلام
في أدبار الصلوات مكتوبات أو نوافل - كانت بين أمرين: إما أن يذكر الله تعالى
ذكرًا هو في العرف غير دعاء، فليس للجماعة منه حظ، إلا أن يقولوا مثل قوله أو
نحوًا من قوله كما في غير أدبار الصلوات، كما جاء أنه كان يقول في دبر كل
صلاة: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء
قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد) .
وقوله: (اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت وتعاليت يا ذا الجلال
والإكرام) . وقوله: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} (الصافات: 180)
الآية، ونحو ذلك، فإنما كان يقوله في خاصة نفسه كسائر الأذكار، فمن قال مثل
قوله فحسن؛ ولا يمكن في هذا كله هيئة اجتماع.
وإن كان دعاء فعامة ما جاء من دعائه عليه السلام بعد الصلاة مما سمع منه
إنما كان يخص به نفسه دون الحاضرين، كما في الترمذي عن علي بن أبي طالب
رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قام إلى الصلاة
المكتوبة رفع يديه - الحديث إلى قوله: ويقول عند انصرافه من الصلاة: (اللهم
اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت، أنت إلهي لا إله الا أنت)
حسن صحيح. وفي رواية أبي داود: كان رسول صلى الله عليه وسلم إذا سلم من
الصلاة قال: (اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما
أسرفت وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله الا أنت) .
وخرَّج أبو داود: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول دبر كل صلاة:
(اللهم ربنا ورب كل شيء أنا شهيد أن محمدًا عبدك ورسولك، اللهم ربنا ورب كل
شيء أنا شهيد أن العباد كلهم إخوة، اللهم ربنا ورب كل شيء اجعلني مخلصًا لك
وأهلي في كل ساعة في الدنيا والآخرة، يا ذا الجلال والإكرام اسمع واستجب، الله
أكبر الله أكبر، الله نور السموات والأرض، الله أكبر الله أكبر، حسبي الله ونعم
الوكيل) .
ولأبي داود في رواية [13] : (رب أعني ولا تعن علي، وانصرني ولا تنصر
علي، وأمكن لي ولا تمكن علي، واهدني ويسر هداي إليّ، وانصرني على مَن
بغى عليّ) - إلى آخر الحديث.
وفي النسائي أنه عليه السلام كان يقول في دبر الفجر إذا صلى: (اللهم إني
أسألك علمًا نافعًا، وعملاً متقبلاً، ورزقًا طيبًا) . وعن بعض الأنصار قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دبر الصلاة: (اللهم اغفر لي
وتب علي إنك أنت التواب الغفور) حتى يبلغ مائة مرة.
وفي رواية إن هذه الصلاة كانت صلاة الضحى.
فتأملوا سياق هذه الأدعية كلها مساق تخصيص نفسه بها دون الناس! فيكون
مثل هذا حجة لفعل الناس اليوم؟ إلا أن يقال: قد جاء الدعاء للناس في مواطن،
كما في الخطبة التي استسقى فيها، ونحو ذلك. فيقال: نعم، فأين التزام ذلك جهرًا
للحاضرين في دبر كل صلاة؟
ثُم نقول: إن العلماء يقولون في مثل الدعاء والذكر الوارد على إثر الصلاة:
إنه مُستحَب لا سنّة ولا واجب. وهو دليل على أمرين: (أحدهما) أن هذه
الأدعية لم تكن منه عليه السلام على الدوام. (والثاني) أنه لم يكن يجهر بها دائمًا
ولا يظهرها للناس في غير مواطن التعليم؛ إذ لو كانت على الدوام وعلى الإظهار
لكانت سنة، ولم يسع العلماء أن يقولوا فيها بغير السنة؛ إذ خاصيته - حسبما
ذكروه - الدوام والإظهار في مجامع الناس، ولا يقال: لو كان دعاؤه عليه السلام لم
يؤخذ عنه؛ لأنّا نقول: مَن كانت عادته الإسرار فلا بد أن يظهر منه، أو يظهر منه
ولو مرة، أمّا [14] بحكم العادة بقصد التنبيه على التشريع.
فإن قيل: ظواهر الأحاديث تدل على الدوام بقول الرواة: (كان يفعل) فإنه
يدل على الدوام كقولهم: (كان حاتم يكرم الضيفان) . قلنا: ليس كذلك؛ بل يطلق
على الدوام وعلى الكثير والتكرار على الجملة، كما جاء في حديث عائشة - رضي
الله عنها - أنه عليه السلام كان إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ وضوءه للصلاة.
وروت أيضًا أنه كان عليه السلام ينام وهو جنب من غير أن يمس ماء؛ بل قد
يأتي في بعض الأحاديث (كان يفعل فيما لم يفعله إلا مرة واحدة) ؛ نص عليه
أهل الحديث.
ولو كان يداوم [15] المداومة التامة للحق بالسنن كالوتر وغيره، ولو سلم:
فأين هيئة الاجتماع؟
فقد حصل أن الدعاء بهيئة الاجتماع دائمًا لم يكن من فعل رسول الله صلى الله
عليه وسلم. كما لم يكن من قوله ولا إقراره.
وروى البخاري من حديث أم سلمة أنه صلى الله عليه وسلم كان يمكث إذا سلم
يسيرًا. قال ابن شهاب: حتى ينصرف الناس فيما نرى. وفي مسلم عن عائشة
رضي الله عنها: كان إذا سلم لم يقعد إلا مقدار ما يقول: (اللهم أنت السلام ومنك
السلام. تباركت يا ذا الجلال والإكرام) .
وأما فعل الأئمة بعده فقد نقل الفقهاء من حديث أنس في غير كتب الصحيح:
صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم، فكان إذا سلم يقوم وصليت خلف أبي بكر
رضي الله عنه فكان إذا سلم وثب كأنه على رضفة (يعني الحجر المحمى) ونقل
ابن يونس الصقلي عن ابن وهب عن خارجة أنه كان يعيب على الأئمة قعودهم بعد
السلام، وقال: إنما كانت الأئمة ساعة تسلم تقوم. وقال ابن عمر: جلوسه بدعة.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: لأن يجلس على الرضف خير له من ذلك.
وقال مالك في المدونة: إذا سلم فليقم ولا يقعد إلا أن يكون في سفر أو في فنائه.
وعد الفقهاء إسراع القيام ساعة يسلم من فضائل الصلاة، ووجهوا ذلك بأن
جلوسه هنالك يدخل عليه فيه كبر وترفع على الجماعة، وانفراده بموضع عنهم
يرى به الداخل أنه إمامهم، وأما انفراده به حال الصلاة فضروري. قال بعض
شيوخنا الذين استفدنا منهم: وإذا كان هذا في انفراده في الموضع، فيكف بما
انضاف إليه من تقدمه أمامهم في التوسل به بالدعاء والرغبة وتأمينهم على دعائه
جهرًا، - قال - ولو كان هذا حسنًا لفعله النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه
رضي الله عنهم، ولم ينقل أحد من العلماء مع تواطئهم على نقل جميع أموره،
حتى: هل كان ينصرف من الصلاة عن اليمين أو عن الشمال.
وقد نقل ابن بطال عن علماء السلف إنكار ذلك والتشديد فيه على مَن فعله بما
فيه كفاية.
هذا ما نقله الشيخ بعد أن جعل الدعاء بإثر الصلاة بهيئة الاجتماع دائمًا بدعة
قبيحة، واستدل على عدم ذلك في الزمان الأول؛ بسرعة القيام والانصراف؛ لأنه
منافٍ للدعاء لهم وتأمينهم على دعائه، بخلاف الذكر ودعاء الإنسان لنفسه، فإن
الانصراف وذهاب الإنسان لحاجته غير منافٍ لهما. فبلغت الكائنة بعض شيوخ
العصر، فردي على ذلك الإمام ردًّا أمرع فيه على خلاف ما عليه الراسخون، وبلغ
من الرد - على زعمه - إلى أقصى غاية ما قدر عليه، واستدل بأمور إذا تأملها
الفطن عرف ما فيها، كالأمر بالدعاء إثر الصلاة قرآنًا وسنة، وهو كما تقدم لا
دليل فيه، ثُم ضم إلى ذلك جواز الدعاء بهيئة الاجتماع في الجملة إلا في أدبار
الصلوات، ولا دليل فيه أيضًا - كما تقدم لاختلاف المتأصلين. وأمّا في التحصيل
فزعم أنه ما زال معمولاً به في جميع أقطار الأرض أو في جُلِّها من الأئمة في
مساجد الجماعات من غير نكير إلا نكير أبي عبد الله، ثُم أخذ في ذمه. وهذا النقل
تهور بلا شك؛ لأنه نقل إجماع يجب على الناظر فيه والمحتج به قبل التزام عهدته
أن يبحث عنه بحث أصل عن الإجماع؛ لأنه لا بد من النقل عن جميع المجتهدين
من هذه الأمة من أول زمان الصحابة رضي الله عنهم إلى الآن. هذا أمر
مقطوع به. ولا خلاف أنه لا اعتبار بإجماع العوام وإن ادّعوا الإمامة.
وقوله: (من غير نكير) تجوز؛ بل ما زال الإنكار عليهم من الأئمة، فقد
نقل الطرطوشي عن مالك في ذلك أشياء تخدم المسألة، فحصل إنكار مالك لها في
زمانه، وإنكار الإمام الطرطوشي في زمانه، واتبع هذا أصحابه وهذا أصحابه.
ثُم القرافي قد عد ذلك من البدع المكروهة على مذهب مالك، وسلمه ولم ينكره
عليه أهل زمانه - فيما نعلمه - مع زعمه أن من البدع ما هو حسن.
ثُم الشيوخ الذين كانوا بالأندلس حين دخلتها هذه البدعة - حسبما يذكر بحول
الله - قد أنكروها، وكان من معتقدهم في ذلك أنه مذهب مالك. وكان الزاهد أبو
عبد الله بن مجاهد وتلميذه أبو عمران الميرتلي - رحمهما الله - ملتزمين لتركها،
حتى اتفق للشيخ أبي عبد الله في ذلك ما سنذكره إن شاء الله.
قال بعض شيوخنا رادًّا على بعض مَن نصر هذا العمل: فإنا قد شاهدنا العمل
الأئمة [16] الفقهاء الصلحاء المتبعين للسنة المتحفظين بأمور دينهم يفعلون ذلك أئمة
ومأمومين، ولم نر من ترك ذلك إلا من شذ في أحواله. فقال: وأما احتجاج منكر
ذلك بأن هذا لم يزل الناس يفعلونه فلم يأت بشيء؛ لأن الناس الذين يقتدى بهم ثبت
أنهم لم يكونوا يفعلونه. قال: ولما كانت البدع والمخالفات وتواطأ الناس عليها صار
الجاهل يقول لو كان هذا منكرًا لما فعله الناس. ثُم حكي أثر الموطأ (ما أعرف
شيئًا مما أدركت عليه الناس إلا النداء بالصلاة) - قال - فإذا كان هذا في عهد
التابعين يقول: كثرت الإحداثات؛ فكيف بزماننا؟ ثُم هذا الإجماع لو ثبت لزم منه
محظور؛ لأنه مخالف لما نقل عن الأولين من تركه، فصار نسخ إجماع بإجماع،
وهذا محال في الأصول.
وأيضًا فلا تكون مخالفة المتأخرين لإجماع المتقدمين على سنة حجة على تلك
السنة أبدًا، فما أشبه بهذه المسألة بما حكي عن أبي علي بشاذان [17] بسند يرفعه إلى
أبي عبد الله بن إسحاق الجعفري، قال: كان عبد الله بن الحسن - يعني ابن
الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم يكثر الجلوس إلى ربيعة، فتذاكروا
يومًا، فقال رجل كان في المجلس: ليس العمل هذا [18] فقال عبد الله: أرأيت إن
كَثُرَ الجهال حتى يكونوا هم الحكام، أفهم الحجة على السنة؟ فقال ربيعة: أشهد أن
هذا كلام أبناء الأنبياء؛ انتهى.
إلا أني أقول: أرأيت إن كثر المقلدون ثُم أحدثوا بآرائهم فحكموا بها، أفهم
الحجة على السنة ولا كرامة؟
ثُم عضد ما ادَّعاه بأشياء من جملتها (قوله) : ومن أمثال الناس (أخطئ مع
الناس ولا تصب وحدك أي إن خطأهم هو الصواب، وصوابك هو الخطأ.
قال: ومعنى ما جاء في حديث: (عليك بالجماعة فإنما يأكل القاصية)[19] فجعل
تارك الدعاء على الكيفية المذكورة مخالفًا للإجماع - كما ترى - وحض على اتباع
الناس وترك المخالفة لقوله عليه السلام: (لا تختلفوا فتختلف قلوبكم) وكل ذلك
مبني على الإجماع الذي ذكروا [20] .
إن الجماعة هم جماعة الناس كيف كانوا. وسيأتي معنى الجماعة المذكورة في
حديث الفرق، وأنها المتبعة للسنة وإن كانت رجلاً واحدًا في العالم.
قال بعض الحنابلة: لا تعبأ بما يعرض من المسائل ويدّعى فيها الصحة
بمجرد التهويل، أو بدعوى أن لا خلاف في ذلك. وقائل ذلك لا يعلم أحدًا قال فيها
بالصحة فضلاً عن نفي الخلاف فيها، وليس الحكم فيها من الجليات التي لا يقدر
المخالف [21]- قال - وفي مثل هذه المسائل قال الإمام أحمد بن حنبل: من ادعى
الإجماع فهو كاذب وإنما هذه دعوى كثير وابن علية يريدون أن يبطلوا السنن بذلك.
يعني أحمد أن المتكلمين في الفقه على أهل البدع إذا ناظرتهم بالسنن والآثار قالوا:
هذا خلاف الإجماع. وذلك القول الذي يخالف ذلك الحديث لا يحفظونه إلا عن
بعض فقهاء المدينة أو فقهاء الكوفة - مثلاً - فيدعون الإجماع من قلة معرفتهم
بأقاويل العلماء واجترائهم على رد السنن بالآراء، حتى كان بعضهم تسرد عليه
الأحاديث الصحيحة في خيار المجلس ونحوه من الأحكام فلا يجد لها معتصمًا إلا أن
يقول: هذا لم يقل به أحد من العلماء، وهو لا يعرف إلا أبا حنيفة أو مالكًا، لم
يقولوا بذلك، ولو كان له علم لرأى من الصحابة والتابعين وتابعيهم ممن قال بذلك
خلقًا كثيرًا.
ففي هذا الكلام إرشاد لمعنى ما نحن فيه، وأنها لا ينبغي أن ينقل حكم شرعي
عن أحد من أهل العلم إلا بعد تحققه والتثبت؛ لأنه مخبر عن حكم الله فإياكم
والتساهل؛ فإنه مظنة الخروج عن الطريق الواضح إلى البيّنات.
ثُم عد من المفاسد في مخالفة الجمهور أنه يرميهم بالتجهيل والتضليل، وهذا
دعوى من خالفه فيما قال، وعلى تسليمها، فليست بمفسدة على فرض اتباع السنة،
وقد جاء عن السلف الحض على العمل بالحق، وعدم الاستيحاش من قلة أهله.
وأيضًا فمَن شنّع على المبتدع بلفظ الابتداع فأطلق العبادة بالنسبة إلى
المجتمعين يوم عرفة بعد العصر للدعاء في غير عرفة - إلى نظائرها - فتشنيعه
حق كما يقوله بالنسبة إلى بشر المريسي ومعبد الجهني وفلان وفلان، ولا يدخل
بذلك - إن شاء الله - في حديث: (من قال: هلك الناس فهو أهلكهم) ؛ لأن
المراد أن يقول ذلك ترفعًا على الناس واستحقارًا، وأما إن قاله تحزنًا وتحسرًا فلا
بأس. قال بعضهم: ونحن نرجو أن نعرج على ذلك - إن شاء الله - فالاستدلال
به ليس على وجهه.
وعدّ من المفاسد الخوف من فساد نيته بما يدخل عليه من العجب والشهرة
المنهي عنها، فكأنه يقول: أترك اتباع السنة في زمان الغربة خوف الشهرة ودخول
العجب. وهذا شديد من القول وهم معارض بمثله؛ فإن انتصابه لا يكون داعيًا
للناس بإثر صلواتهم دائمًا مظنة لفسادِ نيّته بما يدخل عليه من العجب والشهرة،
وهو تعليل القرافي، وهو أولى في طريق الاتباع، فصار تركه للدعاء لهم مقرونًا
بالاقتداء، بخلاف الداعي فإنه في غير طريق مَن تقدم، فهو أقرب إلى فساد النية.
وعد منها ما يظن به مِن القول برأي أهل البدع القائلين بأن الدعاء غير نافع،
وهذا كالذي قبله؛ لأنه يقول للناس: اتركوا اتباع النبي صلى الله عليه وسلم
في ترك الدعاء بهيئة الاجتماع بعد الصلوات لئلا يظن بك [22] الابتداع. وهذا كما
ترى.
قال ابن العربي: ولقد كان شيخنا أبو بكر الفهري يرفع يديه عند الركوع
وعند رفع الرأس منه، وهو مذهب مالك والشافعي، وتفعله الشيعة. قال: فحضر
عندي يومًا في محرس أبي الشعراء بالثغر موضع تدريسي عند صلاة الظهر،
ودخل المسجد من المحرس المذكورة، فتقدم إلى الصف الأول ، وأنا في مؤخره على
طاقات البحر، أتنسم الريح من شدة الحر، ومعي في صف واحد أبو ثمنة رئيس
البحر وقائده في نفر من أصحابه ينتظر الصلاة، ويتطلع على مراكب المنار، فلما
رفع الشيخ الفهري يديه في الركوع وفي رفع الرأس منه، قال أبو ثمنة وأصحابه:
ألا ترى إلى هذا المشرقي كيف دخل مسجدنا، قوموا إليه فاقتلوه وارموا به في
البحر فلا يراكم أحد. فطار قلبي من بين جوانحي، وقلت: سبحان الله! هذا
الطرطوشي فقيه الوقت، فقالوا لي: ولم يرفع يديه؟ فقلت: كذلك كان النبي - صلى
الله عليه وسلم - يفعل وهو مذهب مالك في رواية أهل المدنية عنه، وجعلت
أسكتهم وأسكنهم حتى فرغ من صلاته، وقمت معه إلى المسكن من الحرس، ورأى
تغير وجهي فأنكره، وسألني فأعلمته فضحك، وقال: مِن أين لي أن أقتل على سنة؟
فقلت: ويحل لك هذا؟ فإنك بين قوم إن قمت بها قاموا عليك، وربما ذهب دمك
فقال: دع هذا الكلام وخذ في غيره.
فتأملوا في هذه القصة ففيها الشفاء؛ إذ لا مفسدة في الدنيا توازي مفسدة إماتة
النفس، وقد حصلت النسبة إلى البدعة، ولكن الطرطوشي رحمه الله يرى ذلك
شيئًا [23] فكلامه للاتباع [24] أولى من كلام هذا الراد؛ إذ بينهما في العلم ما بينهما.
وأيضًا فلو اعتبر ما قال لزام اعتباره بمثله في كل من أنكر الدعاء بهيئة
الاجتماع يوم عرفة في غير عرفه. ومنهم نافع مولى ابن عمر ومالك والليث
وعطاء وغيرهم من السلف، ولما كان ذلك غير لازم فمسألتنا كذلك.
ثُم ختم هذا الاستدلال الإجماعي بقوله: وقد اجتمع أئمة الإسلام في مساجد
الجماعات في هذه الأعصار في جميع الأقطار على الدعاء أدبار الصلاة، فيشبه أن
يدخل ذلك مدخل حجة إجماعية عصرية.
فإن أراد الدعاء على هيئة الاجتماع دائمًا لا يترك كما يفعل بالسنن - وهي
مسألتنا المفروضة - فقد تقدم ما فيه.
(انتهى الفصل والبحث طويل)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
كلمة (أصول) لا يظهر لما معنى هنا ولعلها أحوال.
(2)
الابتذال ضد الصون، وما يستعمل يبتذل، فالمراد استعمال النعم والطيبات والانتفاع بها ويستعمل الابتذال في لازمه وهو الامتهان والاحتقار، وليس بمراد هنا.
(3)
يقال: أفتأت على فلان افتئاتًا وافتات افتياتًا إذا تصرف بشيء من شؤونه بدون إذنه ولا رضاه.
(4)
لعل الأصل (فإنما) والجملة خبر قوله: (وكل ما جاء عنه المتقدمين) ويبعد أن يكون خبر المبتدأ قوله: (من الجهة) .
(5)
لعل أصله: السائرين أو المثابرين على المتابعة.
(6)
كذا ولا يظهر لهذه الكلمة هنا معنى، والمثل الذي ذكره ثابت في الصحيح هو أن ابن عباس أراد أن يعرف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الليل فبات عند خالته ميمونة في ليلتها، فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم من الليل قام معه واقتدى به فصلى إحدى عشرة ركعة فهي قيامه ووتره.
(7)
كذا في الأصل.
(8)
لعله (نقله) أو نقل ذلك.
(9)
كذا وصوابه (ابتداع) ؛ إذ لا تصح تسميته اتباعًا إلا بتمحل بعيد.
(10)
لعلها حوق بالواو، يقال: حوق عليه الكلام، إذا خلطه وأفسده عليه بحيث لا يفهم، أو لا يقرأ إذا كان مكتوبًا وهو من الحواقة أي الكناسة التي يختلط بما يكنس بعضها ببعض يقال حاق الدار بالمحوقة: كنسها ومما حفظته من صبيان المكتب إذ كنا نتعلم الخط (حوق) عليه أي السطر (مثلاً) أي رمجه أو جعل حوله خطًا ليعلم أنه غير مقصود وهو استعمال عربي وأما حرّق عليه بالراء فلا يظهر له معنى هنا إلا إذا كانوا استعملوا التحريق بمعنى برد المعدن بالمبرد في حك الحروف المكتوبة بمبراة القلم ولم أره.
(11)
لعله (على هذا الوجه) .
(12)
لعل الأصل (من هذا القبيل) أو (من هذا الوجه) وكتب في الأصل (فهي من هذه البدعة غير شرعية) ووضع فوق كلمة (البدعة) علامة الترميج.
(13)
حذف لفظ رواية من نسختنا.
(14)
يظهر أن العبارة تحريفا وحذفا ولعل الأصل: (فلا بد أن يظهر منه إما بحكم العادة وأما بقصد التنبيه على التشريع) .
(15)
أي على ما ذكر من الأدعية والأذكار ويوشك أن يكون قد سقط من الناسخ ما يدل على ذلك والمداومة والاجتماع لا تكون إلا لشعائر الدين وإنما تثبت الشعائر بعمل الرسول.
(16)
لعله (من الأئمة) .
(17)
شاذان لقب رجلين من رواة الحديث أحدهما الأسود بن عامر أبو عبد الرحمن الشامي نزيل بغداد مات سنة 208 وثانيهما عبد العزيز بن عثمان بن جبلة مات سنة 221 وظاهر أن في عبارة نسختنا تحريفًا.
(18)
لعل الأصل (ليس العمل على هذا) أي الذي تقولونه.
(19)
لفظ الحديث: (فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية) .
(20)
كذا في نسختنا، والظاهر أن الناسخ قد اسقط كلامًا من هذا الموضع وأقل ما يفهم به الكلام أن يقال:(وإن الجماعة) إلخ.
(21)
كذا في نسختنا، ولعله: لا يعذر المخالف بجهله.
(22)
المناسب لقوله: (اتركوا) أن يقول هنا (بكم) ويعبر عن هذه المعني بعبارة أخرى فيقال ابتدعوا بالفعل لئلا يظن باطلاً أنكم ابتدعتم أو اتركوا السنة بالفعل، لئلا تتهموا بتركها بسوء الظن.
(23)
كذا في نسختنا، والسياق يقتضي النفي أي كان لا يرى ذلك شيئًا - وإلا ظهر أن تكون العبارة: لم ير ذلك شيئًا.
(24)
لعله بالاتباع.