المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ذو الحجة - 1332ه - مجلة المنار - جـ ١٧

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (17)

- ‌المحرم - 1332ه

- ‌فاتحة السنة السابعة عشرة

- ‌كتاب مدارج السالكينبين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

- ‌إسلام اللورد هدليوما قاله وكتبه في سببه

- ‌تاريخ الجهمية والمعتزلة [*]

- ‌الباب الأول من كتاب الاعتصام [*]

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة [*]

- ‌الشيخ علي يوسف(3)

- ‌الجامعة الإسلامية والسياسية

- ‌انتقاد أجوبة المنارلمن سأل عن حكم الحج

- ‌صفر - 1332ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌ كتاب مدارج السالكينبين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

- ‌الرد المتين علىمفتريات المبشرين [*]

- ‌مقام عيسىيسوع المسيح عليه السلامفي النصرانية والإسلام

- ‌مطامع الدول فينا [*]

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌الأخبار والآراء

- ‌ربيع أول - 1332ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌ فتاوى المنار

- ‌ الانتقاد على المنار

- ‌الإسلام يقاوم نفوذ النصرانية [*]

- ‌اعتقاد الشيخية [*]

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة [*]

- ‌الإصلاح اللامركزيوطلابه في البلاد العربية

- ‌الشيخ علي يوسف(4)

- ‌ربيع الآخر - 1332ه

- ‌استفتاءفي فسخ نكاح المعسر

- ‌محاضرة الدكتور كريستيان سنوك هرغرنجالهولندي في الإسلام ومستقبل المسلمين

- ‌الباطنية وغلاة المتصوفة..بدعهم وتأويلاتهم

- ‌ كتاب (مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين)

- ‌أفضل الوسائل لإنهاض السلطنة

- ‌عبد العزيز بك علي المصري

- ‌التعصب على المنار

- ‌المسألتان الشرقية والصهيونية

- ‌السيدة نُعْمَى آل رضا

- ‌جمادى الأولى - 1332ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌حقيقة الإعجاز [*]

- ‌الرضا بقضاء الله تعالى وقدره

- ‌القول السديدفي بعض مسائل الاجتهاد والتقليد [*]

- ‌الصهيونية

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة [*]

- ‌مستقبل الدولة العثمانية وطلاب الإصلاح من العرب

- ‌جمادى الآخر - 1332ه

- ‌تلقين الميت

- ‌القول السديدفي بعض مسائل الاجتهاد والتقليد

- ‌ كتاب(مدارج السالكين بين منازلإياك نعبد وإياك نستعين)

- ‌تشريف أمير البلادمدرسة دار الدعوة والإرشاد

- ‌مصاب مصر والشامبرجال العلم وحملة الأقلام

- ‌محاربة متعصبي القبط وغيرهم للمنار

- ‌رجب - 1332ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌الدين والتدين والإلحاد والتعطيل

- ‌نموذج من إنشاء طلبةدار الدعوة والإرشاد

- ‌مصاب مصر والشامبرجال العلم وحملة الأقلام

- ‌شعبان - 1332ه

- ‌وجوب تعلم العربيةعلى كل مسلم

- ‌ترجمة الإمام الشاطبي

- ‌الجنسيات في المملكة العثمانية(2)

- ‌مصاب مصر والشامبرجال العلم وحملة الأقلام

- ‌رمضان - 1332ه

- ‌تفسير] لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ [[*]

- ‌السبي والرق في التوراة والإنجيل

- ‌أقوال علماء القرن الثالث الأثباتفي عقيدة السلف وإثبات الصفات(1)

- ‌الطامة الصغرى أو الحرب الكبرى

- ‌من كتاب الاعتصام في الابتداع

- ‌البروغرام الصهيوني السياسي

- ‌المراسلة والمناظرة

- ‌الحرب الأوربيةوالدولة العثمانية

- ‌شوال - 1332ه

- ‌علم الله بصفاتهالرضاع من الجدة

- ‌كلمات الاستقلالوالاعتماد على النفس والاجتهاد

- ‌شعر منثور في العربية والعرب

- ‌التعريف بكتاب الاعتصام

- ‌ترجمة الإمام الشاطبي

- ‌دخول الابتداع في العاديات [*]

- ‌أقوال علماء السلف الأثباتفي عقيدة السلف وإثبات الصفات(2)

- ‌المراسلة والمناظرة

- ‌جيوش الدول المتحاربة

- ‌منع المنار من السودان

- ‌ذو القعدة - 1332ه

- ‌صفات البارئ تعالى

- ‌فتاوى المنار

- ‌الامتيازاتوالشريعة الإسلامية [*]

- ‌تاريخ إعلان الدول الحرب

- ‌ذو الحجة - 1332ه

- ‌الحرب المدنية الكبرى

- ‌إلغاء الامتيازات الأجنبيةوالحذر من الفتن الأهلية

- ‌كيف دخلتالدولة العثمانية في الحرب

- ‌خاتمة السنة السابعة عشرة

الفصل: ‌ذو الحجة - 1332ه

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فاتحة السنة السابعة عشرة

بسم الله الرحمن الرحيم

{قُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} (النمل:59) ، {وَقُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا

تَعْمَلُونَ} (النمل: 93) ، {فَلِلَّهِ الحَمْدُ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ

العَالَمِينَ * وَلَهُ الكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} (الجاثية:

36-

37) .

فنحمده بما حمد به نفسه، ونصلي ونسلم على خاتم أنبيائه ورسله، وصفوته

من بني آدم الذين فضلهم على كثير من خلقه، محمد النبي الأمي، العربي

الحجازي، الذي أرسله رحمة للعالمين، وأتم به نعمته في الدنيا والدين، وآله

الطيبين الطاهرين، وصحبه الهادين المهديين، والتابعين لهم في هدايتهم وهديهم

إلى يوم الدين.

وبعد فإننا نُذَكِّرُ قُرَّاءَ المنار على رأس سنته السابعة عشرة بنحو ما ذكَّرناهم

في السنين الخالية، من سوء عاقبة الإفراط والتفريط اللذين رُزِئَتْ بهما أمتهم

الجاهلة الغافلة: الإفراط في عبادة الهوى واتباع الشهوات، والانهماك في الفواحش

والمنكرات، والمحافظة على البدع وسيئ العادات. والتفريط في حقوق الله وحقوق

الأمة، وما يجب من التزام هدي الكتاب والسنة، ومجاراة الأمم بما يستطاع من

حول وقوة، ولا سيّما قوة الاعتصام والوحدة، وقوة العلم والمعرفة، وقوة الكسب

والثروة.

ثم نذكرهم بتلك الآيات والعبر، وهاتيك المواعظ والنذر، وبما يُفتنون به في

كل عام، وما تسلب من ملكهم الأمم والأقوام، وبيان سنن الله تعالى في الظالمين

والمسرفين، {وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إلَاّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} (الأنعام: 4) ، {قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ

عَنْ قَوْمٍ لَاّ يُؤْمِنُونَ} (يونس: 101)[1] ، {فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلَاّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ

خَلَوْا مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ المُنتَظِرِينَ} (يونس: 102) .

سبحان الله! إن من العقلاء من يتعظ بالعبارة، ومنهم من يكتفي بما توحيه

إليه الإشارة، وإنهم ليستنبطون من وقائع الأحوال ما يستعدون به لما ينتظر في

الاستقبال، ولو على سبيل الفرض والاحتمال، وإن الأمم أشد من الأفراد احتياطًا،

وأخفى حيلة وأدق استنباطًا، وأوسع في المستقبل آمالاً، وأكثر استعدادًا له وأعمالاً؛

لأنها أطول أعمارًا، وأشد قوة واقتدارًا، وأكثر أعوانًا وأنصارًا، فما بال أمتنا لا

تتعظ بكلام الله ولا بكلام البشر، ولا تعتبر بما تشاهده من الأحداث والعبر، وكلما

أنذرها الله بطشته تتمارى بالنُّذُر؛ {وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّنَ الأَنبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ

بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} (القمر: 4-5) ، {قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ

الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ} (الأنبياء: 45) .

تركت هذه الأمة هداية القرآن، ففاتها ما كانت نالت به من الملك والسلطان،

والعلم والعرفان، والبسطة في العمران، وأمست غافلة عن سبب ذلك التوفيق وهذا

الخذلان؛ بل أتى عليها أحقاب من الزمان، لا تشعر بكنه هذا الخسران، وقد

استيقظ فيها الشعور بما فسد من أمر دنياها، قبل الشعور بما كان سببًا له من فساد

أمر دينها، وبما خسرت من سلطانها وأملاكها، قبل الشعور بما خسرت من أخلاقها

وملكاتها. ولما شعرت بالخطر على حياتها المادية والسياسية، غافلة عن عللها

الروحية وأسبابها المعنوية، شرعت في شيء من الإصلاح الصوري، بدون أن

تؤديه بروح الإصلاح المعنوي، فعُدَّ السلطان محمود مصلحًا بتغيير الزي الرسمي

ونظام الجندية، والسلطان عبد المجيد مصلحًا بإعلان التنظيمات الخيرية،

والسلطان عبد الحميد مصلحًا بإنشاء نظارة العدلية، ومصطفى رشيد باشا مصلحًا

بإدخال الدولة العثمانية في سلك الدول الأوروبية، ومدحت باشا وأعوانه مصلحين

باقتباس القوانين الغريبة الغربية، ومحمد علي باشا وأحفاده مصلحين بِفَرْنَجَةِ البلاد

المصرية، والأمير عبد الرحمن خان مصلحًا بالتأليف بين القبائل الأفغانية. ولم

تتوجه همة أحد إلى إصلاح الأخلاق والعادات، وإزالة البدع والمنكرات، وجمع

الكلمة التي فرقتها المذاهب واللغات، فما زاد الأمة ذلك الإصلاح الصوري إلا

ضروبًا من الفساد، ولا أفاد الدولة إلا إضعاف الاستقلال وإضاعة البلاد، {بَلْ

مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ العُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ

أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الغَالِبُونَ} (الأنبياء: 44) .

لا أقول إن جميع ما قام به أولئك الرجال لم يكن مطلوبًا، ولا أقول إن

ضرره وما ترتب عليه من الفساد كان ذاتيًّا؛ بل أقول: إن أكثره كان ضروريًّا،

ولكنه لم يكن علاجًا لهذه الأمة من طبيب اجتماعي، عَرَف من أمراضها الظاهري

والباطني فوصف لها من الدواء ما يزيل العلة، ويحفظ البنية، ويقوي المنة، لذلك

رأيناها بعد هذه المعالجات لم تزدد إلا مرضًا، حتى كادت تكون حرضًا، ازدادت

ذلاًّ وفقرًا، وتفرقًا وضعفًا، وفسادًا في الأخلاق، وإسرافًا في النفاق، وكان ما

أُدخل فيها من علوم الأمم القوية وقوانينها وآدابها، كالجسم الغريب الذي يدخل في

البنية فيفسد مزاجها؛ لأنه لم يكن على حسب استعدادها وحاجها؛ بل كان تقليدًا

صوريًّا، أو عارضًا وقتيًّا؛ فمنه ما كان ضارًّا، ومنه ما كان نافعًا؛ فأما الضارّ

فأكبر ضرره التقاليد والقوانين الإفرنجية، التي قطعت كثيرًا من روابط الأمة المِلِّيَّة،

وأزالت ما أزالت من مقوّماتها ومشخصاتها الاجتماعية والأدبية، ولم تستبدل بها

ما يحل محلها من مقومات الأمم الأوروبية؛ بل صارت عيالاً عليهم في جميع

الشؤون، حتى انتهى ذلك إلى هذا الفتون، بأن فقدت الاستقلال، باسم النفوذ أو

الحماية أو الاحتلال، {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (الأنعام: 129) ، {ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} (الأنعام: 131) ، {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} (الأنعام: 132) .

وأما ما كان نافعًا من تلك الأعمال التي وسمت بسمة الإصلاح، فإنما كان

نفعه موضعيًّا، وعارضًا لا دائمًا، فكان كمداواة بعض أعراض الزهري (الداء

الإفرنجي) الظاهرة بما يزيلها، مع بقاء العلة في الباطن (كتسمم الدم) تصدر

عنها آثارها، فما زال منه بالمعالجة الموضعية اليوم، يظهر ما هو شر منه

وأعصى على العلاج في الغد (كلما داويت جرحًا سال جرح) ذلك مثل ما كان

في الدولة العثمانية، وهي أكبر مظاهر السلطة في الأمة الإسلامية، وخير منه ما

قام به الأمير عبد الرحمن، من جمع كلمة قبائل الأفغان، وتدريبها على القتال،

الذي يحفظ به الاستقلال، وكذا ما قام به الأمير محمد علي في مصر، فإنه بنى

ركني الثروة والقوة على أساس العلم، ولو أتم أحفاده ما بدأ به ببناء ركني الأخلاق

والآداب، على أساس الدين وسنن الاجتماع، لَتَمَّ لهم تكوين الأمة، ولاستقام لهم

بالأمة أمر الدولة، فهذا العصر عصر الأمم والشعوب، لا عصر الأمراء والملوك،

ولكن جميع أقيال المسلمين، كانوا - ولا يزالون - عن هذا غافلين، {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا

فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} (فاطر: 44) ، {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا

مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ} (غافر: 21) ، {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن

قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ

رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (الروم: 9) .

نعم، إنهم لم يسيروا في الأرض، لأجل الاعتبار بسنن الله في الكون،

فينظروا في سوء عاقبة الأمم الجاهلة النائمة، ومصير الدول المستبدة الظالمة،

وحسن عاقبة الأمم العالمة العاملة، وسيادة الدول المنظمة العادلة، وكيف أن

إصلاح الأرض وعمران الدور، لا يغني عن إصلاح الأخلاق وارتقاء الجمهور،

ولو ساروا لما نظروا، ولو نظروا لَمَا أبصروا، ولو أبصروا لَمَا اعتبروا، {أَفَلَمْ

يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى

الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: 46) ، وأي عمى أشد

من عمى الاستبداد؟ وهو مصدر كل فساد وأصفاد، حتى إنه يفسد الطباع، ويغير

الأوضاع، ويقطع رابطة الزوجية، ويزيل عاطفة الأبوة والبنوة، فيغري الولد

بقتل والده، والوالد بقتل ولده، وكيف يؤمن على حياة أمته، من لا يكبر عليه قتل

والده أو ولده؛ إذا هو نازعه في سلطته، أو عارضه في إرادته؟ فانتظار الأمم أن

يكون صلاحها ورشادها ممن لا حظَّ لهم من حياتهم إلا استذلالها واستعبادها، اتباعًا

لترفهم ونعيمهم، وافتتانًا بإطرائهم وتعظيمهم، يشبه طلب العلم من الجاهلين،

والتماس الهدى من الضالين {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ القُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ

الفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلَاّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا

فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود: 116- 117) .

ألا إنه لا بقاء مع ظلم وفساد، ولا عدل مع استبداد، ولا هلاك مع إصلاح،

ولا إصلاح للدولة إلا بصلاح الأمة، ولا صلاح لأمة إلا إذا كان فيها بقية من

أولي الرأي والعزم، يأمرون بالصلاح وينهون عن الفساد في الأرض، ولا تأثير

للأمر والنهي إلا بإجماع الأمر وإحكام الرأي، ولا يفيد الإحكام والإجماع، إلا مع

مراعاة سنن الاجتماع، لاختلاف استعداد الأقوام، باختلاف أحوال الزمان والمكان،

وزماننا هذا هو زمان الجماعات العلمية والأدبية والسياسية، والشركات الزراعية

والصناعية والتجارية، فحظ الأفراد الكثيرين من معنى الأمة، على قدر حظهم من

إقامة هذه الأركان الستة، ولا ينبغي أن يطلق هذا اللفظ، على من لا نصيب لهم

منها ولا حظَّ، إلا على سبيل التجوز في القول، كما يطلق اسم الشيء على صورة

الشيء، ومتى ملكت الأمة بالجمعيات أمورها المعنوية، وبالشركات أمورها المادية،

كانت جديرة بأن تقوم أمر حكومتها، وتقيمها على صراط شريعتها، لهذا كان

همنا منذ سنة المنار الأولى، أن نذكر أهل العلم والرأي من المسلمين بهذه الطريقة

المثلى؛ اهتداء بقوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى} (الأعلى: 9-10) وليس بعد إقامة حجة الله في الورى، إلا فلاح من اتبع الهدى،

وهلاك من آثر الهوى، {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ

عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (الجاثية: 23) .

ألا وإن أمر التربية والتعليم هو أهم ما يجب أن يوكل إلى الجماعات، ولا

يجوز أن يترك إلى الأفراد ولا إلى الحكومات؛ لأن المدارس للأفراد دكاكين لكسب

المال، وللحكومات معامل لسبك العُمَّال، فكل من الفريقين يتوخى في التعليم منفعته

الخاصة، وإن باينت مصلحة الأمة العامة، وإنما تطلب الحكومة عمالاً لها كالآلات،

لا إرادة لهم ولا رأي ولا استقلال، والأفراد يتبعون سننها ويسيرون على طريقها،

وإنما ربح تجارتهم برواج بضاعتهم في سوقها، وشر من ذلك ما ابتلي به

جماهير المسلمين، من ترك تربيتهم النفسية والعقلية إلى خصومهم في السياسة

والدين فكانوا بهذا الخزي من الأخسرين، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم

يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، فأنى تصلح أمة تركت تجديدها وتكوينها، إلى من

لا همَّ لهم إلا إزالة ملكها ودينها؟ ! كلا؛ إنها كرّة خاسرة، يخسرون بها الدنيا

والآخرة {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَاّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ

أَعْيُنٌ لَاّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَاّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ أُوْلَئِكَ

هُمُ الغَافِلُونَ} (الأعراف: 179) .

الأمم تصلح بالتربية ونحن قد أفسدنا المربون - الإفرنج والمتفرنجون -

وترتقي بالعلم ونحن قد دلَاّنا العلماء المقلدون المفتونون، وتقوى وتعتز بجمع

المدارس لكلمتها، ونحن قد أوهنتنا وشقَّت عصانا المدارس؛ لأنها إما معاهد

سياسية وإلحاد، وإما أديار وكنائس، قد قطعت روابط الأمة الدينية والمدنية،

وفتنتها بالأهواء والشهوات الحيوانية، وسرى سم تقليدها إلى المدارس الأميرية

والأهلية، فالمتخرجون فيها أقلهم الذين يسلمون، ومنهم الملحدون وأكثرهم

الفاسقون، يجرفون ثروة الأمة إلى الأجانب، ويقذفونها بالفجور والنفوذ الأجنبي

من كل جانب، ويتغلبون فيها على المناصب فينالون منها جميع المآرب، يحقرون

لها سلفها، ويعظمون في نفسها كل ما هو أجنبي عنها، فيقطعون جميع روابطها

المِلِّيَّة، ويزينون لها ذلك باسم المدنية، فهم المنافذ والكوى التي يدخل منها الفساد،

وهم الآلات التي يستعين بها الأجانب على إدارة أمر البلاد؛ لأنهم تربية مدارسهم،

بل صنع معاملهم، أو الجيش السلمي لثكناتهم، ولا يتم لهم ما يسمونه الفتح السلمي

بدونهم، ولأجل هذا ربوهم هذه التربية المذبذبة، وحشوا مخيلاتهم بمسائل

العلوم المضطربة، فلا هم صاروا بها أوربيين، ولا ظلوا مسلمين أو شرقيين،

ولكنهم لغرورهم باسم المدنية الإفرنجية يفسدون على الأمة أمرها، ويزعمون أنهم

هم المصلحون لشأنها، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ

مُصْلِحُونَ * ألَا إِنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِن لَاّ يَشْعُرُونَ} (البقرة: 11-12) .

هكذا ذفف على جرح هذه الأمة من جعلوا أنفسهم أُساة لها وأطباء، فكان أقتل

أدوائها ما عالجوها به من الدواء، ومن كان له عقل وبصيرة، فليتدبر ما تقوله

فيهم كتب الإفرنج وصحفهم الشهيرة [2] ومن أهمه ما نقلته مجلة العالم الإسلامي

الفرنسية، عن مجلة العالم الإسلامي الإنكليزية، في سياق الكلام على فتح العالم

الإسلامي (الذي نشرناه في ص 516 م15) وهذا نصه: (اتفقت آراء سفراء

الدول الكبرى في عاصمة السلطنة العثمانية على أن معاهد التعليم الثانوية التي

أسسها الأوربيون كان لها تأثير في حل المسألة الشرقية يرجح على تأثير العمل

المشترك الذي قامت به دول أوربة كلها) ! ! فإذا لم يكن للمسلمين مدارس مِلِّيَّة،

تديرها حكومة أو جماعات إسلامية، فتربيهم على ما يجمعون به مصالحهم الدينية

والدنيوية، وإذا كانوا لا يعرفون للتعليم غاية إلا المنفعة الشخصية، وما يتخيلون من

المنافع الخسيسة المادِّية، فإن أوربة تعرف كيف تنشئهم في مدارسها ومدارسهم

خلقًا جديدًا، يكونون بها على توهُّم الحرية خدما لها وعبيدًا، فهم مقادون من أمامهم،

ومسوقون من ورائهم، ولكن لا يدرون كيف بدؤوا ولا أين ينتهون {أَمْوَاتٌ غَيْرُ

أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} (النحل: 21) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا

بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لَا يَألُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا

تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} (آل عمران: 118) .

ألا إننا في أشد الحاجة إلى الصناعات الإفرنجية، وما تتوقف عليه من العلوم

والفنون العملية، وإلى الاعتبار بتاريخهم، وأطوار حكوماتهم وجماعاتهم، ولكن

يجب أن يقوم باقتباس ذلك جماعات منا، يجمعون بينه وبين حفظ مقوماتنا

ومشخصاتنا، وأركانها: اللغة والدين والشريعة والآداب [3] ، فمن فقد شيئًا من هذه

الأشياء فقد فقد جزءًا من نفسه، لا يمكن أن يستغني عنه بمثله من غيره، كما أنه

لا يستغني بعقل غيره عن عقله، ولا بجسم سواه عن جسمه، وإنما نستفيد من

العبرة بحالهم، كيف نرقي لغتنا كما رقوا، وكيف ننشر ديننا كما ينشرون دينهم،

وكيف نسهل طرق العمل بشريعتنا وآدابنا كما سهلوا طرق شرائعهم وآدابهم، ولنا

أن نستعين على ما نستمده منهم، بأهل الفضيلة والاستقلال من رجالهم، الذين ليس

لهم فينا أهواء دينية، ولا مطامع سياسية استعمارية، وبهذا نكون مهتدين بما أمرنا

الله به من السير في الأرض، والاعتبار بأحوال وبسنة سلفنا، في جعل الحكمة

ضالّتنا، واعتقاد أنها حيث وجدت فنحن أحق بها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ

وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ

تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَاّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ

العِقَابِ * وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ

فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا

تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (الأنفال: 24-27) .

الدعوة إلى انتقاد المنار

أمر الله تعالى بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر، وبالأمر بالمعروف

والنهي عن المنكر، ونهى عن الغِيبَةِ وتوعد المغتاب ومن يحب شيوع الفاحشة،

وأوعد الهُمَزَة اللُّمَزَة، بالويل الشديد والحطمة، فنحن نذكر كل من يطلع على

منارنا هذا بأمر الله ونهيه، ووعده ووعيده، وندعو من رأى فيه خطأ أن يذكرنا به

قولاً أو كتابة، مبينًا ذلك بالدليل والبرهان، لا بقول فلان ورأي فلان، مع أدب

العبارة، والاكتفاء منها بقدر الحاجة، ونحن ننشر - إن شاء الله تعالى - كل ما

يكتب إلينا، سواء كان لنا أو علينا، إذا التزم الكاتب ما شرطنا، ثم نبين ما عندنا فيه

من قبول وإذعان، أو ردّ أدبي مؤيَّد بالبرهان، وليعلم كل عاقل منصف أن من

يخطِّئنا ولا يكتب إلينا، فهو لا ثقة بعلمه ولا بدينه ولا بما يقوله فينا، وأنه

حاسد أو مدَّعٍ كذاب، وإلى الله المرجع والمآب، وهو سريع الحساب.

...

منشئ المنار ومحرره

...

...

...

محمد رشيد رضا الحسيني

_________

(1)

أي: لا يصدقون بما تدل عليه الآيات وما تخوفهم به النذر والمواعظ لجهلهم وعدم تدبرهم.

(2)

ومنها ما كتبه لورد كرومر في كتابه (مصر الحديثة) في سوء حال المتفرنجين.

(3)

هذا التقسيم بحسب عرف العصر والشريعة عند المسلمين بمعنى الدين، والمراد بها هنا أحكام المعاملات من السياسة والقضاء والإدارة والحرب، وهي موضع اجتهاد أولي الأمر في الدين الإسلامي، والآداب الإسلامية منبعها الدين وهي أعلى من آداب الإفرنج وأكمل.

ص: 1

الكاتب: ابن القيم الجوزية

‌كتاب مدارج السالكين

بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

هذا الكتاب للإمام الحافظ المحقق ابن قيم الجوزية، شرح فيه كتاب (منازل

السائرين) في التصوف لشيخ الإسلام أبي إسماعيل الهروي - شرحًا بيَّن فيه

غوامضه، وفصل بين ما يوافق الكتاب والسنة وما يخالفهما منه، فهو أفضل كتب

التصوف وأنفعها، وهو يطبع الآن في مطبعة المنار، وقد أوشك أن يتم طبع

الجزء الأول منه، وقد رأينا أن ننشر هذا الفصل منه تعجيلاً بالفائدة لقراء المنار،

ولشدة الحاجة إليه.

قال المصنف - رحمه الله تعالى - في سياق بيان أنواع الكفر:

فصل

وأما الشرك فهو نوعان: أكبر وأصغر. فالأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة منه،

وهو أن يتخذ من دون الله ندًّا يحبه كما يحب الله، وهو الشرك الذي تضمن تسوية

آلهة المشركين برب العالمين. ولهذا قالوا لآلهتهم في النار: {تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي

ضَلالٍ مُّبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ العَالَمِينَ} (الشعراء: 97-98) ، مع إقرارهم

بأن الله وحده خالق كل شيء وربه ومليكه، وأن آلهتهم لا تخلق ولا ترزق ولا

تحيي ولا تميت. وإنما كانت هذه التسوية في المحبة والتعظيم والعبادة كما هو حال

أكثر مشركي العالم، بل كلهم يحبون معبوديهم ويعظمونها ويوالونها من دون الله.

وكثير منهم - بل أكثرهم - يحبون آلهتهم أعظم من محبة الله، ويستبشرون

بذكرهم أعظم من استبشارهم إذا ذكر الله وحده، ويغضبون لمنتقص معبوديهم وآلهتهم

من المشايخ أعظم مما يغضبون إذا انتقص أحد رب العالمين، وإذا انتهكت حرمة من

حرمات آلهتهم ومعبوديهم غضبوا غضب الليث إذا حرد، وإذا انتهكت حرمات الله لم

يغضبوا لها؛ بل إذا قام المنتهك لها بإطعامهم شيئًا رضوا عنه ولم تتنكر له قلوبهم

. وقد شاهدنا هذا - نحن وغيرنا - منهم جهرة، وترى أحدهم قد اتخذ ذكر إلهه

ومعبوده من دون الله على لسانه إن أقام وإن قعد وإن عثر وإن مرض وإن استوحى [1]

فذكر إلهه ومعبوده من دون الله هو الغالب على قلبه ولسانه، وهو لا ينكر ذلك،

ويزعم أنه باب حاجته إلى الله وشفيعه عنده ووسيلته إليه - وهكذا كان عباد

الأصنام سواء - وهذا القدر هو الذي قام بقلوبهم، وتوارثه المشركون بحسب

اختلاف آلهتهم، فأولئك كانت آلهتهم من الحجر، وغيرهم اتخذوها [2] من البشر.

قال الله تعالى حاكيًا عن أسلاف هؤلاء المشركين: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ

مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (الزمر: 3) ، ثم شهد عليهم بالكفر والكذب وأخبر أنه لا يهديهم فقال [3] {إِنَّ اللَّهَ

لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (الزمر: 3) ، فهذه حال من اتخذ من دون الله وليًّا

يزعم أنه يقرِّبه إلى الله، وما أعز من يخلص من هذا؟ بل ما أعز من لا يعادي

من أنكره!

والذي في قلوب هؤلاء المشركين وسلفهم أن آلهتهم تشفع لهم عند الله ، وهذا

عين الشرك ، وقد أنكر الله عليهم ذلك في كتابه وأبطله، وأخبر أن الشفاعة كلها له،

وأنه لا يشفع عنده أحد إلا لمن أذن له أن يشفع فيه ورضي قوله وعمله، وهم

أهل التوحيد الذين لم يتخذوا من دون الله شفعاء، فإنه يأذن سبحانه لمن شاء في

الشفاعة لهم حيث لم يتخذوهم شفعاء من دونه، فيكون أسعد الناس بشفاعة من يأذن

الله به صاحب التوحيد الذي لم يتخذ شفيعًا من دون الله.

والشفاعة التي أثبتها الله ورسوله هي الشفاعة الصادرة عن إذنه لمن وحَّدَهُ،

والتي نفاها الله [4] الشفاعة الشِّركية التي في قلوب المشركين المتخذين من دون الله

شفعاء، فيعاملون بنقيض قصدهم من شفاعتهم ويفوز بها الموحدون ، فتأمل قول

النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة - وقد سأله: من أسعد الناس بشفاعتك

يا رسول الله؟ قال: (أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصًا من قلبه) -

كيف جعل أعظم الأسباب التي تنال به شفاعته تجريد التوحيد، عكس ما عند

المشركين إن الشفاعة تُنال باتخاذهم شفعاء وعبادتهم وموالاتهم من دون الله، فقلب

النبي صلى الله عليه وسلم ما في زعمهم الكاذب، وأخبر أن سبب الشفاعة تجريد

التوحيد، فحينئذ يأذن الله للشافع أن يشفع.

ومن جهل المشرك اعتقاده أن مَنْ اتخذه وليًّا أو شفيعًا أنه يشفع له وينفعه عند

الله كما يكون خواص الملوك والولاة تنفع شفاعتهم مَنْ والاهم، ولم يعلموا أن الله لا

يشفع عنده أحد إلا بإذنه، ولا يأذن في الشفاعة إلا لمن رضي قوله وعمله، كما قال

تعالى في الفصل الأول: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ اللَاّ بِإِذْنِهِ} (البقرة: 255)

وفي الفصل الثاني: {وَلَا يَشْفَعُونَ إلا َّ لِمَنِ ارْتَضَى} (الأنبياء: 28) ، وبقي

فصل ثالث، وهو أنه لا يرضى من القول والعمل إلا التوحيد واتباع الرسول،

وعن هاتين الكلمتين يَسأل الأولين والآخرين، كما قال أبو العالية: كلمتان يُسأل

عنهما الأولون والآخرون: ماذا كنتم تعبدون؟ [5] وماذا أجبتم المرسلين؟ فهذه

ثلاثة أصول تقطع شجرة الشرك من قلب من وعاها وعقلها: لا شفاعة إلا بإذنه،

ولا يأذن إلا لمن رضي قوله وعمله، ولا يرضى من القول والعمل إلا توحيده

واتباع رسوله [6] فالله تعالى لا يغفر شرك العادلين به غيره، كما قال تعالى: {ثُمَّ

الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} (الأنعام: 1) ، وأصح القولين أنهم يعدلون به غيره

في العبادة والموالاة والمحبة كما في الآية الأخرى، {تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ

* إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ العَالَمِينَ} (الشعراء: 97-98) ، وكما في آية البقرة

{يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} (البقرة: 165) .

وترى المشرك يكذب حاله وعمله لقوله؛ فإنه يقول: لا نحبهم كحب الله ولا

نسويهم بالله. ثم يغضب لهم ولحرماتهم إذا انتهكت - أعظم مما يغضبه لله،

ويستبشر بذكرهم ويتبشبش به [7] سيما إذا ذكر عنهم ما ليس فيهم من إغاثة اللهفات،

وكشف الكربات، وقضاء الحاجات، وأنهم باب بين الله وبين عباده. ترى

المشرك يفرح ويسرّ ويحنّ قلبه ويهيج منه لواعج التعظيم والخضوع لهم والموالاة،

وإذا ذكرت له الله وحده وجردت توحيده، لحقته وحشة وضيق وحرج [8] ورماك

بتنقص الإلهية [9] التي له، وربما عاداك.

رأينا - واللهِ - منهم هذا عيانًا، ورمونا بعداوتهم وبغوا لنا الغوائل [10] والله

مخزيهم [11] في الدنيا والآخرة، ولم تكن حجتهم إلا أن قالوا كما قال إخوانهم: عاب

آلهتنا. فقال هؤلاء: تنقصتم مشايخنا وأبواب حوائجنا إلى الله. وهكذا قال النصارى

للنبي صلى الله عليه وسلم لما قال لهم: إن المسيح عبد [12] قالوا: تنقصت المسيح

وعِبْته. وهكذا قال أشباه المشركين لمن منع اتخاذ القبور أوثانًا تعبد ومساجد، وأمر

بزيارتها على الوجه الذي أذن الله فيه ورسوله، قالوا: تنقصت أصحابها. فانظر إلى

هذا التشابه بين قلوبهم حتى كأنهم قد تواصوا به و {مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ المُهْتَدِ وَمَن

يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِياًّ مُّرْشِداً} (الكهف: 17) .

وقد قطع الله تعالى الأسباب التي تعلق بها المشركون جميعها قطعًا يعلم من

تأمله وعرفه أن من اتخذ من دون الله وليًّا أو شفيعًا فهو {كَمَثَلِ العَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ

بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ البُيُوتِ لَبَيْتُ العَنكَبُوتِ} (العنكبوت: 41) فقال تعالى: {قُلِ

ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ

وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ * وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ اللَاّ لِمَنْ أَذِنَ

لَهُ} (سبأ: 22-23) ، فالمشرك إنما يتخذ معبوده لِمَا يحصل له به من النفع.

والنفع لا يكون إلا ممن فيه خصلة من هذه الأربع: إما مالك لما يريده عابده منه،

فإن لم يكن مالكًا كان شريكًا للمالك، فإن لم يكن شريكًا له كان معينًا له وظهيرًا،

فإن لم يكن معينًا ولا ظهيرًا كان شفيعًا عنده. فنفى سبحانه المراتب الأربع نفيًا

مترتبًا متنقلاً [13] من الأعلى إلى ما دونه [14] فنفى الملك والشركة والمظاهرة

والشفاعة التي يظنها المشرك، وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك وهي الشفاعة

بإذنه، فكفى بهذه الآية نورًا وبرهانًا ونجاة وتجريدًا للتوحيد وقطعًا لأصول الشرك

ومواده لمن عقلها، والقرآن مملوء من أمثالها ونظائرها ولكن أكثر الناس لا يشعر [15]

بدخول الواقع تحته وتضمنه له، ويظنه في نوع، وقوم قد خلوا من قبل ولم

يعقبوا وارثًا، وهذا هو الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن. ولعَمْرُ الله إن كان

أولئك قد خلوا فقد ورثهم من هو مثلهم أو شر منهم أو دونهم. وتناول القرآن لهم

كتناوله لأولئك، ولكن الأمر كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنما

تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية [16] ؛

وهذا لأنه إذا لم يعرف الجاهلية والشرك. وما عابه القرآن وذمه، وقع فيه وأقره،

ودعا إليه وصوَّبه وحسَّنه وهو لا يعرف أنه هو الذي كان عليه أهل الجاهلية أو

نظيره، أو شر منه [17] أو دونَهُ، فينتقض [18] بذلك عرى الإسلام ويعود المعروف

منكرًا والمنكر معروفًا، والبدعة سنَّة والسنة بدعة، ويكفَّر الرجل بمحض الإيمان

وتجريد التوحيد، ويُبَدَّع بتجريد متابعة الرسول ومفارقة الأهواء والبدع،

ومن له بصيرة وقلب حيّ يرى ذلك عيانًَا والله المستعان. اهـ.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

كتب في هامش نسختنا (لعله وإن استوحش) وفي النسخة الثالثة (وإن استوى) أي جالسًا أو راكبًا أو قائمًا.

(2)

وفي نسخة (اتخذها) .

(3)

هذه الجملة بين طرفي الآية ساقطة من نسختنا.

(4)

المنار: نفى الله الشفاعة نفيًا مطلقًا ومقيدًا، فالمطلق كقوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَاّ بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ} (البقرة: 254)، والمقيد كقوله:{مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} (غافر: 18) ، ومنها ما أشار إليه المصنف.

(5)

كتب في هامش نسختنا هنا (تعلمون) .

(6)

وفي نسخة (رسله) .

(7)

يقال: تبشبش به إذا آنسه وواصله، وفي نسخة (ويستأنس) بدل (ويتبشبش) .

(8)

فات المصنف أن يستشهد هنا بقوله تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} (الزمر: 45) ، ولا فرق بين المشرك الذي لا يؤمن بالآخرة ألبتة، والمشرك الذي يؤمن بها على غير الوجه الذي بينه الرسول صلى الله عليه وسلم.

(9)

وفي نسخة (رماك بانتقاص الآلهة) .

(10)

يقول مصحح الكتاب: نحمد الله أن كان لنا في المصنف وأمثاله من الدعاة إلى توحيد الله

أسوة، فقد رأينا ما رأى وابتلينا بما ابتلي.

(11)

وفي نسخة (يجزيهم) .

(12)

وفي نسخة (عبد الله) .

(13)

وفي نسخة (مرتبًا منتقلاً) .

(14)

وفي نسخة (الأدنى) .

(15)

وفي نسخة (لا يشعر) .

(16)

وفي نسخة (من لم يعرف الجاهلية) .

(17)

وفي نسخة (أو أسوأ) .

(18)

وفي نسخة (فينقض) ولعله الأصل الصحيح.

ص: 30

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌إسلام اللورد هدلي

وما قاله وكتبه في سببه

خاضت جرائد العالم في إسلام اللورد (هدلي) الإنكليزي، فكتب بعضها ما

عليه كما هو على سبيل الخبر، وزعم بعضهم أن إسلامه إسلام سياسي

ليمثل المسلمين في مجلس اللوردات! وأبى بعض المتعصبين من النصارى إلا أن

يشوب الخبر بشوائب التلبيس وإيهام القارئ أن اللورد لا يزال نصرانيًّا يؤمن

بالثالوث ويجمع بين الضدين أو النقيضين (التوحيد والتثليث) .

وكأن هذا التلبيس والإيهام قد استنبط من كلمة عُزيت إلى اللورد. وإننا ننشر

ما نقلته جريدة مسيحية إنكليزية عن اللورد وما كتبه هو عن إسلامه؛ فتقول:

جاء في جريدة الديلي ميل الصدارة في 17 نوفمبر سنة 1913 تحت عنوان

(إسلام اللورد هدلي) ما يأتي:

اللورد هدلي هو البارون الخامس في بيته (عائلته) وقد ارتقى إلى هذه

الرتبة في يناير الماضي بعد وفاة ابن عمه. وقد أسلم هذا اللورد الآن وأعلن إسلامه

في حفلة للجمعية الإسلامية بلندن، وكان هو نفسه حاضرًا في وليمة الجمعية

السنوية.

قال في اجتماع البارحة: (إنني بإعلان إسلامي الآن لم أَحِد مطلقًا عما اعتقدته

منذ عشرين سنة، ولما دعتني الجمعية الإسلامية لوليمتها سررت جدًّا لأتمكن من

الذهاب إليهم وإخبارهم بالتصاقي الشديد بدينهم. وأنا لم أهتم بعمل أي شيء لإظهار

نبذي لعلاقتي بالكنيسة الإنكليزية التي نشأت في حجرها، كما أني لم أحفل

بالرسميات في إعلان إسلامي، وإن كان هو الدين الذي أتمسك به الآن.

إن عدم تسامح المتمسكين بالنصرانية كان أكبر سبب في خروجي عن

جامعتهم، فإنك لا تسمع أحدًا من المسلمين يذم أحدًا من أتباع الأديان الأخرى كما

تسمع ذلك من النصارى بعضهم في بعض، فإن المسلمين وإن كان يحزنهم عدم

اهتداء الناس إلى دينهم إلا أنهم لا يحكمون على كل من خالفهم بالهلاك الأبدي.

إن طهارة الإسلام وسهولته وبعده عن الأهواء والمذاهب الكهنوتية ووضوح

حجته كانت كل هذه الأشياء أكبر ما أثر في نفسي. وقد رأيت في المسلمين من

الاهتمام بدينهم والإخلاص ما لم أر مثله بين النصارى، فإن النصراني يحترم دينه

عادة يوم الأحد حتى إذا ما مضى الأحد نسي دينه طول الأسبوع. وأما المسلم

فبعكس ذلك، يحب دينه دائمًا، وسواءٌ عنده أكانَ اليوم يوم الجمعة أو غيره، ولا

يفتر لحظة عن التفكر في كل عمل يكون فيه عبادة الله.

وإني وإن كنت اعتنقت الإسلام إلا أني لا زلت نصرانيًّا، بمعنى أني لا زلت

مؤمنًا بالمسيح ومتبعًا تعاليم المسيح، فإن الإسلام يصدق بتعاليم جميع الأنبياء على

حدٍ سواء فلا يفرق بين موسى والمسيح ومحمد (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) .

اهـ كلام هدلي.

ثم قالت الجريدة المذكورة: إن اللورد هدلي هو مهندس. وفي المسابقة

الرياضية التي جرت في كمبردج حاز قَصَبَ السَّبْق في الملاكمة مثل المستر

ألنسون وين (winn Allanson) .

***

لماذا أسلمت؟

وجاء في جريدة الأبزيرفر الأسبوعية (observer the) في عددها

الصادر في 23 نوفمبر الماضي تحت عنوان (لماذا أسلمت) بقلم اللورد هدلي

(headley) ما ترجمته حرفيًّا:

(عقيدة الإسلام)

أخذت صحف عديدة تخوض في معتقدي الديني، ويسرني أن أرى أن جميع

الانتقادات التي وجهت إليّ للآن، كانت بلهجة لطيفة، وما كان ينتظر أن الخروج

عمّا ألفه الناس واعتادوه لا يلفت الأنظار إليه، وذلك ممّا يسرني، إني أحب مهنتي

ومولع بالألعاب الرياضية، ولم يكن لي في ذلك غرض لطلب الشهرة وبعد الصيت،

ولكن لو كان عملي في هذه الحالة سببًا في جعل الناس كبيري المدارك سمحاء فأنا

في غاية الاستعداد لأن أتحمل بكل صبر أي نوع من الإساءة والاستهزاء.

أتاني في يوم كتاب من نصراني متمسك بدينه يقول لي فيه: إن الإسلام هو

دين شهوات، وإنه كان لنبيه عدة زوجات. فما أعجبها من فكرة عن الإسلام! !

ولكنها هي الفكرة السائدة على عقول تسعة وتسعين من كل مائة بريطاني، فإنهم لا

يتعبون أنفسهم في البحث عن حقائق دين يدين به مائة مليون من إخوانهم الخاضعين

لهم.

نبيّ العرب المقدس كان على الأخص حصورًا عن الشهوات طاهرًا، فكان

مخلصًا لزوجته الوحيدة خديجة التي كانت أكبر منه بخمس عشرة سنة، وكانت أول

من آمنت ببعثته. وبعد موتها تزوج عائشة ثم تزوج أيضًا عدة أرامل لأصحابه

الذين قتلوا في الحرب، لا لأنه كان له أدنى رغبة فيهن بل ليعولهن ويقوم بكفالتهن

ويرفع مقامهن إلى منزلة ما كن يصلن إليها بغير ذلك. وكان عمله هذا ملتئمًا مع

بعده عن الأنانية، ومع حياته الشريفة العالية. وكان من شدة زهده في هذه الحياة

أنه ما كان يملك ما يكفيه من العيش.

نحن البريطانيين تعودنا أن نفخر بحبنا للإنصاف والعدل، ولكن أي ظلم

أعظم من أن نحكم - كما يفعل أكثرنا - بفساد الإسلام قبل أن نلم بشيء من عقائده،

بل قبل أن نفهم معنى كلمة الإسلام؟

***

القرآن والدعوة

من المحتمل أن بعض أصدقائي يتوهم أن المسلمين هم الذين أثَّروا فيّ،

ولكن هذا الوهم لا حقيقة له، فإن اعتقاداتي الحاضرة ليست إلا نتيجة تفكير قضيت

فيه عدة سنين. أما مذاكراتي الفعلية مع المتعلمين من المسلمين في موضوع الدين

فلم تبدأ إلا منذ أسابيع قليلة، ولا حاجة بي إلى القول بأني ملئت سرورًا حينما وجدت

نظرياتي ونتائجي متفقة تمام الاتفاق مع الدين الإسلامي. وأمّا صديقي الخوجة

كمال الدين فلم يحاول قط أن يكون له فيّ أقل تأثير، ولكنه كان حقيقة كقاموس حيّ

يفسر ويترجم لي - مع الصبر - ما لم يتضح لي من آيات القرآن. وكان سلوكه

هذا مسلك المبشر الإسلامي الحقيقي الذي لا يحاول إرغام سامعيه أو التأثير فيهم. فإن

الدخول في الإسلام يجب - كما يقول القرآن - أن يكون بإرادة الإنسان الحرة

وبرأيه الذاتي بدون أي وسيلة من وسائل الإكراه. وكذلك أراد عيسى أيضًا حينما

قال: (مر 6: 11 وكل من لا يقبلكم ولا يسمع لكم فأخرجوه من هناك ....) .

إني أعرف حوادث عديدة جدًّا لبعض البروتستانت المتحمسين الذين يظنون

أنه يجب أن يزوروا بيوت الكاثوليك ليحولوهم إلى مذهبهم، ومثل هذا التعدي

الجارح قبيح طبعًا. وقد أدى - في الأكثر - إلى إثارة الأحقاد التي نشأت عنها

مشاحنات وجعلت الدين يزدري. وإني ليحزنني أن أرى أن دعاة النصرانية قد

سلكوا هذا الطريق عينه مع إخوانهم المسلمين، ولا يمكنني أن أفهم كيف يريدون أن

يدعوا إلى النصرانية من هم في الحقيقة أفضل منهم نصرانية (أو قال: نصارى

أفضل منهم) لم أقل: (نصارى أفضل منهم) جزافًا فإن ما في الإسلام من الخير

والتسامح وسعة المدارك أقرب إلى ما دعا إليه المسيح من تلك العقائد الضيقة التي

أخذت بها فرق النصارى المختلفة.

***

عقيدة أثناسيوس [1]

أذكر مثلاً واحدًا وهو عقيدة أثناسيوس التي تشرح الثالوث شرحًا في غاية

التعقيد. في هذه العقيدة - وهي كبيرة الأهمية جدًّا وتنص على إحدى العقائد

الأساسية للكنائس المسيحية - ترى جليًّا أنها عقيدة الجمهور، وأننا إذا لم نأخذ بها

نهلك هلاكًا أبديًّا. ثم يقال لنا إنه: (يجب علينا أن لا نفكر في الثالوث بغير ذلك)

وبعبارة أخرى: إن الإله الذي نَصِفُه في لحظة بالرحمة والقدرة، نصفه في اللحظة

الثانية بالظلم والقسوة، وهو ما نتحامى أن نصف بها أقسى البشر السفاكين، فكأن الله

تعالى القديم الذي فوق كل شيء يكون خاضعًا لما يذهب إليه الهالك المسكين (يريد

الإنسان) في أمر الثالوث.

وهاك مثلاً آخر من أمثلة بعدهم عن الخير: أتاني كتاب بمناسبة ميلي للإسلام

يقول لي فيه كاتبه: إنني إن لم أومن بلاهوت المسيح فلا سبيل لي إلى الخلاص.

أما مسألة ألوهية المسيح هذه فلم يظهر لي أنها تقرب في أهميتها من تلك المسألة

الأخرى وهي: هل بلغ رسالة ربه للبشر؟ فلو كان عندي الآن أي شك في هذه

المسألة الأخيرة لضايقني كثيرًا، ولكني - ولله الحمد - لا أشك فيها، وأرجو أن

يكون إيماني بالمسيح - وبما أوحاه الله إليه - ثابتًا كإيمان أي مسلم أو أي

نصراني به. وكما قلت من قبل مرارًا إن الإسلام والنصرانية التي أتى بها المسيح

نفسه هما توأمان لم يفرق بينهما إلا الأهواء والاصطلاحات التي يحسن أن تنبذ

ظهريا في هذه الأيام. يميل الناس إلى الإلحاد حينما يطالبون بالأخذ بعقائد جامدة لا

تتحمل التسامح، وإن كانوا ولا شك لفي شوق إلى دين يذعن لحكم العقل كما يذعن

الوجدان. من سمع بمسلم انقلب ملحدًا؟ يجوز أن يوجد أحوال قلائل كهذه ولكنني

مع ذلك أشك في وجودها كل الشك.

***

خوف الانتقاد

إني أعتقد أنه يوجد ألوف من الرجال والنساء الذين يدينون بالإسلام في قلوبهم،

ولكن مخالفة الإجماع وخوف الانتقاد العدائي والرغبة في اجتناب كل ضيق أو

تغيير يحملهم على عدم الجهر بما في قلوبهم، قد سلكت الآن نفس هذا المسلك.

على أني أعلم أن كثيرًا من أصدقائي وأقربائي ينظرون إليّ كأي روح ضالة تستحق

الدعاء لها، مع أن عقيدتي الآن هي عين عقيدتي منذ عشرين سنة؛ ولكن جهري

بها هو الذي أفقدني حسن ظنهم بي؛ لأن الخوف هو السبب في وجود أحوال لا

تحصى من الشقاء والشر في هذا العالم، ولو اتبع الناس الصراحة في القول لقل

سوء التفاهم بينهم، ولزاد احترامهم، ولنقتبس هنا كلمة المستر (بلفور) الحكيمة

وهي قوله: (لا ناصح أضر من الفزع إلا اليأس) ولكن أفضل أن أقول في هذه

الحالة (هناك ناصح أضر وأشد خطرًا من الشك أو الكفر ألا وهو الخوف) .

وحيث إني قد أتيت هنا بملخص بعض الأسباب التي حملتني على اعتناق

الإسلام وقد بينت أني أعتبر نفسي بهذا العمل نصرانيًّا أكمل بكثير مما كنت من قبل،

فلذا أرجو أن يقتدي بي غيري في ذلك، فإنه خير لا شك فيه. وفيه السعادة لكل

من يرى أن عملي هذا ارتقاء لا يراد به أي عداء للنصرانية الصحيحة. اهـ.

(المنار)

في كلام أخينا اللورد هدلي كلمتان جديرتان بالاعتبار:

(إحداهما) قوله: إن الإسلام هو النصرانية التي كان عليها ودعا إليها

المسيح عليه السلام. وهذا حق فإن دين جميع رسل الله عليهم السلام واحد في

أصوله وجوهره، وإنما كان بيان خاتمهم (محمد صلى الله عليه وسلم أتم وأكمل

على سنة الارتقاء في الحياة، وقد حفظه الله من التحريف والتبديل والزيادة

والنقصان. وقد سبق لحكيمنا الكبير السيد جمال الدين الأفاغني - رحمه الله تعالى

كلمة مثل كلمة أخينا اللورد هدلي. ذلك أن سائلا سأله عن سبب الدعوة إلى المذهب

النيشري المادي في الهند فقال: إن الذين أرادوا حل رابطة المسلمين في الهند

دعوهم أولاً إلى النصرانية فلم تنجح دعوتهم لأن الإسلام مسيحية وزيادة، فإنه يقرر

الإيمان بالمسيح وبما جاء به من التوحيد والفضائل ويبطل ما زاده النصارى

في دينه من الخرافات - أي مع زيادة في المعارف الإلهية والآداب والفضائل

والهدي الكامل - فلما خابت هذه الدعوة رأوا أن يشككوكهم في الدين المطلق

إلخ ما

قاله، وقد ذكرناه بالمعنى. ولولا العصبيات المذهبية، والأحقاد السياسية، وسوء حال

مسلمي هذه الأزمنة وبعدهم عن حقيقة الديانة الإسلامية، وجهل الإفرنج بها وبلغتها

العربية، ثم هذا الحجاب الذي أسدلته العلوم والأعمال المادية، ومقت الدين الذي

أثارته الخرافات الكنيسية، وما كان قبل من قسوة السلطة البابوية، لكان

هؤلاء الإفرنج أجدر الناس في هذا العصر بالإسلام، دين العقل والعلم

والحضارة والسلام، الذي كشف ما غشي كتب الأنبياء من الخرافات والأوهام،

ورفع امتيازات الأجناس والأصناف والأقوام، ودعا الناس كافة إلى الإخاء والوحدة

والاعتصام. ولا بد أن يتجلى حقه لهم بعد أحقاب إن لم يكن بعد أعوام، وقد

ظهرت بوادر ذلك بما يكتشفون في هذه الأيام، من غرائب آياته تعالى في الأنفس

والعقول والقوى والأجسام، وقد قال في كتابه المجيد: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي

أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * أَلَا إِنَّهُمْ

فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ} (فصلت: 53-54) .

وأما الكلمة الثانية من كلمتي (اللورد هدلي) فهي إخباره بأن كثيرًا من قومه

مسلمون، أي قد ظهر لهم نور الإسلام، فانقشعت به ظلمات الأوهام، وتلك الظلمة

الوثنية التي غشيت تعليم المسيح النورانية، فعلموا أن دين محمد هو دين المسيح

عليهما السلام، ولكنه غير أديان الكنائس المنسوبة إلى المسيح. بيّن أنهم مسلمون

في باطنهم ولكنهم يخافون أن يظهروا إسلامهم كما كان يخاف هو مدة عشرين سنة،

إنما يخافون أن يحتقرهم قومهم، ويمتعض منهم أهلهم؛ لأن تعصبهم للدين

والمذهب شديد جدًّا، وإن خفي هذا عن سفهاء المتفرنجين منّا الذين يزعمون أن

جميع الإفرنج مارقون من الدين؛ لأنهم لميلهم إلى الإلحاد لا ينجذبون إلا إلى أهله،

وقد يحملون من الكلام عليه ما لا يراد به منه، كما أنهم لافتتانهم بالفسق يظنون أن

جميع نساء الإفرنج بغايا، وأنهم لا همّ لهم من حياتهم ولا اشتغال لهم إلا بالشهوات

البهيمية، وسبب ذلك أنهم لا يبحثون إلا عن ذلك، ولو كان همّ الذين يذهبون إلى

أوربة منهم موجهًا إلى علم من العلوم أو فن من الفنون أو صناعة من الصناعات، لبدا

لهم من اهتمام الإفرنج به ما يحملهم على الظن بأنه لا همّ لهم في غيره، على

أن في الإفرنج من يهتم بإفساد دين الشرقي لإفساد جامعته التي يعتصم بها.

وهذا وإننا كنا منذ ميزنا وعقلنا نسمع من أهلنا وأصحابنا أن كثيرًا من

نصارى بلادنا يوقنون بحقية الإسلام ويتجرؤون على إظهار ذلك لقومهم، ومنهم من

يدخل في الإسلام ويؤدي فرائضه كلها أو بعضها في الخفاء، حتى اتفق ذلك لبعض

رؤساء الأديار. وأخبرنا والدي - رحمه الله تعالى - أنه عاد فلانًا القائمقام في أحد

أقضية جبل لبنان في مرض موته - وكان صديقًا له - فخلا به فأشهده على نفسه أنه

مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. وأذكر أنني رأيت ذلك الرجل

وكنت طالب علم فسألني عن بعض الأحاديث النبوية وكان يذكر النبي - صلى الله

عليه وسلم - بتعظيم فوق المعتاد في مجاملة أدباء النصارى للمسلمين فحملت ذلك

على المبالغة في المجاملة.

وإنني أعرف أفرادًا من فضلاء النصارى المستقلين يودّون لو كان في البلاد

حرية دينية يعذرهم بها أهلهم إذا هم أسلموا، منهم من يود لو كان مسلمًا اعتقادًا منه

بأفضلية الإسلام ورجحانه على جميع الأديان ، ومنهم من يود ذلك لغرض سياسي

اجتماعي وهو التمكن من التأثير في إصلاح بلاده التي يجزم بأنها لا تصلح إلا إذا

صلح المسلمون وجاروا الأمم القوية في أسباب العزة والحضارة. وهذا الصنف

كثير جدًّا. ولو كان للإسلام حكومة تقيم بنيانه وتنفذ أحكامه، وتحمل الأمة على

فضائله، وتظهر للناس حقيقة عدله وسماحته، لرأيت الناس يدخلون فيه أفواجًا،

ولكن رؤساء المسلمين هم أشد تنفيرًا عن الإسلام من دعاة الأديان الأخرى

ورؤسائها، ومن كل أحد. وما هذه إلا عوارض لا تدوم، إذ وعد الله تعالى بأن

يظهره على الدين كله وكان الله قويًّا عزيزًا.

_________

(1)

حاشية للمترجم: عاش هذا الرجل بين سنة 296 - 373 م.

ص: 34

الكاتب: جمال الدين القاسمي

‌تاريخ الجهمية والمعتزلة [*]

(12)

ما نتج من تعصب الجهمية والأثرية، وبيان آفة الغلو في التعصب

(قال الإمام الغزالي) في إحياء علوم الدين: وأما الكلام - أي علم

الكلام - فمقصوده حماية المعتقدات التي نقلها أهل السنة من السلف الصالح لا

غير.

(ثم قال) : ويحتاج إليه لمناظرة مبتدع، ومعارضة بدعته بما يفسدها

وينزعها عن قلب العامي، وذلك لا ينفع إلا مع العوام قبل اشتداد تعصبهم. وأما

المبتدع بعد أن يعلم من الجدل ولو شيئًا يسيرًا، فقلّما ينفع معه الكلام، فإنك إن

أفحمته لم يترك مذهبه، وأحال بالقصور على نفسه وقدر أن عند غيره جوابًا ما،

وهو عاجز عنه، وإنما أنت ملبس عليه بقوة المجادلة. وأما العامي إذا صرف عن

الحق بنوع جدل يمكن أن يرد إليه بمثله قبل أن يشتد التعصب للأهواء، فإذا اشتد

تعصبهم وقع اليأس منهم؛ إذ التعصب سبب يرسخ العقائد في النفوس، وهو من

آفات علماء السوء، فإنهم يبالغون في التعصب للحق، وينظرون إلى المخالفين

بعين الازدراء والاستحقار، فينبعث منهم الدعوى بالمكافأة والمقابلة والمعاملة،

وتتوفر دواعيهم على طلب نصرة الباطل، ويقوى غرضهم في التمسك بما نسبوا

إليه، ولو جاؤوا من جانب اللطف والرحمة والنصح في الخلوة لا في معرض

التعصب والتحقير، لأنجحوا فيه؛ ولكن لما كان الجاه لا يقوم إلا بالاستتباع، ولا

يستميل الاتباع مثل التعصب واللعن والشتم للخصوم، اتخذوا التعصب عادتهم

وآلتهم، وسمّوه ذبًّا عن الدين، ونضالاً عن المسلمين، وفيه - على التحقيق -

هلاك الخلق، ورسوخ البدعة في النفوس. اهـ.

(وقال الغزالي) رحمه الله أيضًا؛ في الجدل المذموم ومضراته: وله

ضرر آخر في تأكيد اعتقاد المبتدعة للبدعة، وتثبيتها في صدورهم، بحيث تنبعث

دواعيهم، ويشتد حرصهم على الإصرار عليه؛ قال: ولكن هذا الضرر بواسطة

التعصب الذي يثور من الجدل، ولذلك ترى المبتدع العامي يمكن أن يزول اعتقاده

باللطف في أسرع زمان، إلا إذا كان نشوؤه في بلد يظهر فيها الجدل والتعصب،

فإنه لو اجتمع عليه الأولون والآخرون لم يقدروا على نزع البدعة من صدره، بل

الهوى والتعصب وبعض خصوم المجادلين وفرقة المخالفين يستولي على قلبه،

ويمنعه من إدراك الحق، حتى لو قيل له: هل تريد أن يكشف الله تعالى لك الغطاء،

ويعرفك بالعيان أن الحق مع خصمك؟ لكره ذلك خيفة أن يفرح به خصمه (قال)

وهذا هو الداء العظيم الذي استطار في البلاد والعباد، وهو نوع فساد أثاره

المجادلون بالتعصب فهذا ضرره. اهـ.

وقال العلامة المقبلي في العلم الشامخ: واعلم أن الخلاف والتعصب والتحزب

هو الذي حمل سيوف بعض المسلمين على بعض، وحلل دماءهم وأموالهم

وأعراضهم، وحرف الكتاب والسنة، ثم صيَّرهما كالعدم بسد باب الاجتهاد اهـ.

و (قال أيضًا) : ثم ترتب على الافتراق تقويم كل لعمود الشقاق، وصار كل

منهم إنما يعتز بمن مال إليه من الملوك على خصمه. اهـ.

وبالجملة فمن أعظم آفات التعصب ما نشأ عنه من التفرق والتعادي، بحيث

صار يرثه المتأخر عن المتقدم، حتى أصبح يبغض القريب قريبه إذا وجده يخالف

رأيه، ويلصق به كل تهمة شنعاء ولو أقام على صحة رأيه مئين من البراهين؛ بل

بلغ احتقار بعضهم لبعض مبلغًا دفع به أن يحنق على مخالفه، ويتحين الفرص

للإيقاف به، حتى إذا بدرت منه هفوة، أو ظهرت زلة - ولا معصوم إلا المعصوم -

رفع مخالفه عقيرته بتأنيبه، وملأ الأرض والسماء صراخًا بتشهيره، غير مبال

بما حظره الشرع مما يولد البغضاء والشحناء، ويفكك عرى الإخاء، ولا ملام على

الدهماء من ترويج مثل هذه الخطة الشائنة لغرقهم في بحار الجهل، وإنما يلام قادة

الأفكار على احتذائهم هذا الحذو، ونسجهم على هذا المنوال، إذ لولا صخب هؤلاء

الرهط، وبثهم هذه الألقاب في النفوس، لكانت الأمة متماسكة الأجزاء، متينة

عرى المحبة بين الأفراد.

نعم؛ لا بأس أن تُنْتَقَدَ الأَقْوَالُ، وتُضَعَّفَ بالبُرْهَانِ، ويُوَضَّحَ كلُّ خَطَأٍ يَنْجُمُ

عنها؛ ولكن الذي يجب التوقي منه هو أن يتشاحن قادة العقول ويتطاحنوا

ويتبغضوا لما لا يصح أن يكون سببًا معقولاً، وأن يثب كلٌّ على مخالفه وثبة الغادر

المنتقم، فيود أن ينكل به أو يمزقه شر ممزَّق، فيقتفي أثرهم مقلدها، فتصبح الأمة

أعداءً متشاكسة، وأحزابًا متنافرة، بشؤم التعصب الذميم، الذي لم يتمكن من أمة

إلا وذهب بها مذهب التفرق والانحطاط، وأضعف قواها، وأحاق بها الخطوب

والأرزاء، فمن الواجب العلم على ملاشاة الشحناء والشقاق، والقيام بالتحابّ

والاتفاق، وبالله التوفيق.

(13)

حظر الأئمة للمحققين، رمي فرق المسلمين بالكفر والفسق

من أعظم ما بليت به الفرق الإسلامية، رمي بعضها بعضًا بالفسق والكفر،

مع أن قصد كلٍّ الوصول إلى الحق، بما بذلوا جهدهم لتأييده واعتقاده، والدعوة

إليه، فالمجتهد منهم - وإن أخطأ - مأجور (وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية) في

كتابه موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول [1] عن الإمام الرازي (في نهاية العقول)

في مسألة التكفير ما مثاله: قال الشيخ أبو الحسن الأشعري في أول كتاب (مقالات

الإسلاميين) : اختلف المسلمون بعد نبيهم في أشياء ضلّل فيها بعضهم بعضًا وتبرّأ

بعضهم من بعض فصاروا فرقًا متباينين، إلا أن الإسلام يجمعهم فيعمهم. فهذا

مذهبه، وعليه أكثر الأصحاب، ومن الأصحاب من كفر المخالفين.

وأما الفقهاء، فقد نقل عن الشافعي رضي الله عنه قال: لا أردّ شهادة أهل

الأهواء إلا الخطّابية [2] ، فإنهم يعتقدون حل الكذب. وأما أبو حنيفة رضي الله عنه،

فقد حكى الحاكم صاحب المختصر في كتاب المنتقى عن أبي حنيفة أنه لم يكفر

أحدًا من أهل القبلة، وحكى أبو بكر الرازي عن الكرخي وغيره مثل ذلك.

وأما المعتزلة، فالذين كانوا قبل أبي الحسين تحامقوا وكفّروا أصحابنا في

إثبات الصفات وخلق الأعمال. وأما المشبِّهة فقد كفرهم مخالفوهم من أصحابنا ومن

المعتزلة، وكان الأستاذ أبو إسحاق يقول: أكفِّر من يكفِّرني، وكل مخالف يكفرنا

فنحن نكفره وإلا فلا.

ثم قال الرازي: والذي نختاره أن لا نكفر أحدًا من أهل القبلة، والدليل عليه

أن نقول: المسائل التي اختلف أهل القبلة فيها مثل أن الله تعالى هل هو مُوجِدٌ لأفعال

العباد أم لا؟ وأنه هل هو متحيز، وهل هو في مكانٍ وجِهَة، وهل هو مرئيّ أم لا؟

لا يخلو إما أن تتوقف صحة الدين على معرفة الحق فيها أو لا تتوقف، والأول

باطل؛ إذ لو كانت معرفة هذه الأصول من الدين، لكان الواجب على النبي -

صلى الله عليه وسلم أن يطالبهم بهذه المسائل؛ بل ما جرى حديث من هذه

المسائل في زمانه عليه السلام، ولا في زمان الصحابة والتابعين رضي الله عنهم،

علمنا أنه لا يتوقف صحة الإسلام على معرفة هذه الأصول، وإذا كان كذلك لم يكن

الخطأ في هذه المسائل قادحًا في حقيقة الإسلام، وذلك يقتضي الامتناع من تكفير

أهل القبلة. اهـ.

ثم قال الإمام ابن تيمية بعد ذلك: (والأصل في هذا الباب أن الألفاظ نوعان:

مذكور في كتاب الله وسنة رسوله، وكلام أهل الإجماع، فهذا يجب باعتبار معناه

وتعليق الحكم به، فإن كان المذكور به مدحًا استحق صاحبه المدح، وإن كان ذمًّا

استحق الذم، وإن أثبت شيئًا وجب إثباته وإن نفى شيئًا وجب نفيه؛ لأن كلام الله حق

وكلام رسوله حق، وكلام أهل الإجماع حق. ومن دخل في اسم مذموم في الشرع

كان مذمومًا؛ كاسم الكافر والمنافق والملحد ونحو ذلك، ومن دخل في اسم محمود في

الشرع كان محمودًا كاسم المؤمن والتقيّ والصدّيق ونحو ذلك) .

وأما الألفاظ التي ليس لها أصل في الشرع، فتلك لا يجوز تعليق المدح والذم

والإثبات والنفي على معناها، إلا أن يبين أنه يوافق الشرع، والألفاظ التي تعارض

بها النصوص هي من هذا الضرب كلفظ الجسم والحيز والجهة والجوهر والعَرَض،

فمن كانت معارضته بمثل الألفاظ؛ لم يجز له أن يكفر مخالفه إن لم يكن قوله مما

يبين الشرع أنه كفر؛ لأن الكفر حكم شرعي متلقى عن صاحب الشريعة، والعقل

قد يعلم به صواب القول وخطؤه، وليس كل ما كان خطأ في العقل يكون كفرًا في

الشرع، كما أنه ليس كل ما كان صوابًا في العقل يجب في الشرع معرفته، ومن

العجب قول من يقول من أهل الكلام: أن أصول الدين التي يكفر مخالفها هي علم

الكلام الذي يعرف بمجرد العقل، وأما ما لا يعرف بمجرد العقل فهي الشرعيات

عندهم، وهذه هي طريقة المعتزلة والجهمية ومن سلك سبيلهم كأتباع صاحب

الإرشاد وأمثالهم، فيقال لهم: هذا الكلام يتضمن شيئين: أحدهما أن أصول الدين هي

التي تعرف بالعقل المحض دون الشرع، والثاني أن المخالف لها كافر، وكل من

المقدمتين وإن كانت باطلة، فالجمع بينهما متناقض، وذلك أن ما لا يعرف إلا بالعقل

لا يعلم أن مخالفه كافر الكفر الشرعي، فإنه ليس في الشرع أن من خالف ما لا يعلم

إلا بالعقل يكفر، وإنما الكفر يكون بتكذيب الرسول فيما أخبر به، أو الامتناع عن

متابعته، مع العلم بصدقه، مثل كفر فرعون واليهود، ونحوهم.

وفي الجملة فالكفر متعلق بما جاء به الرسول لا بمجرد ما يعلم بالعقل، فكيف

يجوز أن يكون الكفر بأمور لا تعلم إلا بالعقل؟ إلا أن يدل الشرع على أن تلك الأمور

التي لا تعلم إلا بالعقل كفر، فيكون حكم الشرع مقبولاً، لكن معلوم أن هذا لا يوجد

في الشرع بل الموجود في الشرع تعليق الكفر بما يتعلق به الإيمان، وكلاهما متعلق

بالكتاب والرسالة، فلا إيمان مع تكذيب الرسول ومعاداته، ولا كفر مع

تصديقه وطاعته.

ومن تدبر هذا رأى أهل البدع من النفاة يعتمدون على مثل هذا فيبتدعون بدعًا

بآرائهم، وليس فيها كتاب ولا سنة، ثم يكفرون من خالفهم فيما ابتدعوه، وهذا

حال من كفر الناس بما أثبتوه من الأسماء والصفات التي يسميها هو تركيبًا وتجسيمًا

وإثباتًا لحلول الصفات والأعراض به ونحو ذلك من الأقوال التي ابتدعها الجهمية

والمعتزلة ثم كفَّروا من خالفهم فيها. اهـ كلام الإمام ابن تيمية رحمه الله.

ولب هذا كله قوله: (فلا إيمان مع تكذيب الرسول ومعاداته، ولا كفر مع

تصديقه وطاعته) وما ذكره ونقله قبل هو الفيصل في هذا الباب.

وقال رحمه الله في شرح الأصفهانية: (خاصة أهل السنة المتبعين للرسول -

صلى الله عليه وسلم هي أنهم يتبعون الحق ويرحمون من خالفهم باجتهاد، حيث

عذره الله ورسوله) اهـ.

وإنما رحموه لأنهم تجمعهم أخوة الإيمان، وقد قال تعالى:{رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (الفتح: 29) ، فالمؤمنون مهما اختلف اجتهادهم، وتباينت مداركهم، فهم إخوة

يتراحمون، يتآلفون ولا يتباغضون، ولا يلزم من اختلاف الرأي اختلاف القلوب،

وبالله التوفيق.

(14)

بيان أنه لا تضليل، لمن أصاره اجتهاده إلى التأويل

قدمنا أولاً أنا لم نرد في هذه الورقات ذكر عقائد الجهمية والمعتزلة، ولا

مناقشتهم؛ لأن لذلك مواضع معروفة، لا سيّما وهذا المقام طويل الذيل، متشعب

المناحي، ويكفي أنه لأجله صنّف ودوّن علم الكلام، وإنما أردنا تعرف شأن هاتين

الفرقتين من الوجهة التاريخية، وقد أتينا على جمل منها.

بقي التنبيه على النصفة مع مجتهدي فرق الإسلام ومجافاة التضليل عن كل

من التزم قانون التأويل، فنقول: قد وقَرَ في قلوب كثير من الناس رمي أمثال

المعتزلة بالمروق والضلال والزيغ، تقليدًا لمن ينبزهم بذلك من حشوية المتفيهقين،

وهذا من أغرب الغريب، إذ كيف يصح هذا وكان القائمون بمذهب المعتزلة خلفاء

الإسلام في العهد العباسي، وقضاتهم وعدة من علمائهم؟ وهم يحتجون لما يدعون،

ويبرهنون على ما يذهبون، لا جرم أنهم - وإن أخطؤوا - لمجتهدون.

وممّا يدل على أن هذا العقد بلغ تمكن صحته من نفوسهم منتهاه من اليقين

حملهم الخلفاء على إكراه الناس عليه ابتغاء نجاتهم - بزعمهم - بتصحيح عقيدتهم

على ما يرون، وجليّ أن كل من استدل على ما يراه، واحتج على دعواه، فقد آذن

في اجتهاده فيه، وتحرى الحق فيما يقصده ويبغيه، فقصارى أمره إذا نقض برهانه

ودحضت حجته؛ أن يكون مجتهدًا مخطئًا، وهو معذور بل مأجور، إذ لم يرد إلا

الحق، فمن أين يسوغ بعد ذلك قرض الأعراض بالتضليل والتفسيق، وتثوير

المنبوز على المقابلة بالمثل بل الأمثال، والخروج بالإقذاع عن آداب

المناظرة والجدال.

إنَّ نبز الفرق المتجادلة بتلك الألقاب أوجب أن تصرف الألباب عن النظر في

أدلة كل منها، لتزن المقبول منها بمعياره، والمردود بمقداره؛ لأنها حاولت الضغط

على الأفكار، وحرمانها من حرية البحث والنظر والتأمل، لتحملها على رأي واحد،

ومذهب منفرد، وذلك ما كان ولن يكون.

إن اختلاف الآراء لا يدعو بطبيعته إلى الحفائظ والأضغان، وغرس الأحقاد

والشنآن، ولكن أكثر الفرق استولت على مناظرتها الضغائن، فذهبت بهم مذهب

التشفي والانتقام، هذه بالنبز بالألقاب السوء، وتلك بها أو بسلطتها الجائرة،

واضطهادها لمخالفيها بضروب العذاب.

من عجيب أمر التنابز، أن الإغراق فيه قد يغري خلي الذهن بالبحث عن المنبوز

والتنقيب عنه، فيحمله على التأمل في مداركه، والتبصر في مآخذه، فربما انضم

إليه وشايعه تقليدًا أو نظرًا واستدلالاً.

فالمتحاملون على فئة قد يحببون فيها من حيث يريدون التنفير منها، ويجذبون

إليها مما يأملون به الإبعاد عنها، ويصدق فيهم قول القائل:

دع عنك لومي فإن اللوم إغراء

هؤلاء المتحاملون يرون أعظم منفر عن خصومهم هو التكفير، وفاتهم أن هذا

لا يغني من البرهان، ولا يجزئ من الحق شيئًا؛ بل قد يكون من أعظم أمانيّ

الخصوم، فإن الفكر الذي يحارب بهذا الاسم ربما يكون قد بلغ أشُدَّه واستوى،

ووصل إلى أعماق الرسوخ ورسا.

ولمّا حاول أعداء حجة الإسلام الغزالي - عليه الرحمة والرضوان - رميه

بالكفر (وما أسهل رميهم به لأمثاله) لمخالفته الأشعري، انتدب لتأليف كتاب يهدي

إلى حقيقة الكفر والزندقة، سمّاه (فيصل التفرقة، بين الإسلام والزندقة) ، قال في

خطبته: فهوِّن أيها الأخ المشفق على نفسك، لا يضيق به صدرك، وفلَّ من غربك

قليلاً، واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرًا جميلاً، واستحقرمن لا يحسد ولا

يقذف، واستصغر من بالكفر والضلال لا يعرف [3] .

ونقل الإمام الغزالي أيضًا في المستصفى أن عليًّا - كرم الله وجهه - استأذنه

قضاته في البصرة في القضاء بشهادة أهل البصرة من الخوارج وغيرهم أو ردّها،

فأمرهم بقبولها كما كان قبل الحرب؛ لأنهم حاربوا على تأويل، وفي رد شهادتهم

تعصب وتجديد خلاف. اهـ.

فانظر كيف تسامح مع أهل التأويل من المبدعين وقبل شهادتهم وزكاهم

وعدلهم، فهل يصح بعد هذا النبز بالتفسيق أو التضليل؟ حاشا وكلا! وهذا لمن

عرف الرجال بالحق، لا الحق بالرجال، والله المستعان.

(15)

ما وصى به الأئمة من اطِّراح أقوال العلماء بعضهم في بعض،

ومن التماس الحكمة أينما وجدت

روى الإمام حافظ المغرب يوسف بن عبد البر في كتابه (جامع العلم وفضله)

في باب حكم قول العلماء بعضهم في بعض عن ابن عباس رضي الله عنهما

قال: استمعوا علم العلماء، ولا تصدقوا بعضهم على بعض.

وعنه رضي الله عنه قال: خذوا العلم حيث وجدتم، ولا تقبلوا قول

الفقهاء بعضهم على بعض.

وعن مالك بن دينار قال: يؤخذ بقول العلماء والقراء في كل شيء إلا قول بعضهم في بعض.

وعن عبد العزيز بن أبي حازم قال: سمعت أبي يقول: العلماء كانوا فيما مضى من

الزمان إذا لقي العالم من هو فوقه في العلم كان ذلك يوم الغنيمة، وإذا لقي من هو

مثله ذاكره، وإذا لقي من هو دونه لم يُزْهَ عليه، حتى كان هذا الزمان، فصار

الرجل يعيب من هو فوقه ابتغاء أن ينقطع منه، حتى يرى الناس أنه ليس به حاجة

إليه، ولا يذاكر من هو مثله، ويزهى على من هو دونه، فهلك الناس.

(قال الإمام ابن عبد البر) : لقد تجاوز الناس الحد في الغِيبة والذم فلم

يقنعوا بذم العامّة دون الخاصة ولا بذم الجهّال دون العلماء، وهذا كله يحمل عليه

الجهل والحسد. ثم قال رحمه الله: ومن صحت عدالته، وعُلمت بالعلم عنايته،

وسلم من الكبائر ولزم المروءة، وكان خيره غالبًا، وشره أقل عمله، فهذا لا يقبل

فيه قول قائل لا برهان له به، فهذا هو الحق الذي لا يصح غيره إن شاء الله.

(وقال الذهبي) في ميزان الاعتدال - في ترجمة أبي نعيم أحد الأعلام:

صدوق تكلم فيه ابن منده بلا حجة كما تكلم هو في ابن منده. (قال الذهبي) : ولا

أقبل قول كل منهما في الآخر، بل هما عندي مقبولان. ثم قال: وكلام الأقران

بعضهم في بعض لا يعبأ به ولا سيّما إذا لاح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد ما

ينجو منه إلا من عصم اللهُ (قال) وما علمت أن عصرًا من الأعصار سلم أهله من

ذلك سوى الأنبياء والصديقين فلو شئت لسردت من ذلك كراريس. اهـ.

قال العلامة المقبلي: وأشدها عداوة ما كان من قبل المذهب لأنه يزعمه دينًا،

ويمرن عليه فيغر نفسه أنه دين، وحظ الهوى في ذلك أوفى وأوفر، نسأل الله

العافية، وأن يجعلنا ممن خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى.

وروى الإمام ابن عبد البر في كتاب (جامع العلم) في باب الحال التي ينال

بها العلم، عن علي - كرم الله وجهه - قال: العلم ضالة المؤمن فخذوه ولو من

أيدي المشركين ولا يأنف أحدكم أن يأخذ الحكمة ممن سمعها منه. وعنه كرم الله

وجهه قال: الحكمة ضالة المؤمن يطلبها ولو في أيدي الشُّرَط.

وروى ابن عبد البر قبل هذا الباب عن أيوب قال: إنك لا تعرف خطأ معلمك

حتى تجالس غيره. وعن علي رضي الله عنه قال: إن الناس أبناء ما يحسنون،

وقدر كل امرئ ما يحسن؛ فتكلموا في العلم تتبين أقداركم.

قال ابن عبد البر: إن قول علي بن أبي طالب (قيمة كل امرئ ما يحسنه)

لم يسبقه إليه أحد (قال) وقالوا: ليس كلمة أحض على طلب العلم منها (وقالوا)

ولا كلمة أضر بالعلم والعلماء والمتعلمين من قول القائل (ما ترك الأولُ للآخر شيئًا)

قال ابن عبد البر: قول علي رضي الله عنه (قيمة كل امرئ ما يحسن)

من الكلام المعجب الخطير وقد طار له الناس كل مطير، ونظمه جماعة من

الشعراء إعجابًا به، وكلفًا بحسنه، فمن ذلك ما يعزى إلى الخليل بن أحمد وهو

قوله:

لا يكون السّريّ مثلَ الدّنيّ

لا ولا ذو الذكاء مثل الغبِيّ

لا يكون الألدُّ ذو المقول المر

هف عند القياس مثل العَييّ

قيمة المرءِ كل ما يحسن المر

ءُ قضاء من الإمام عليّ

وقال غيره:

يلوم على أن رحت للعلم طالبًا

أجمع من عند الرواة فنونه

فيا لائمي دعني أغالي بقيمتي

فقيمة كل الناس ما يحسنونه

وقال أبو العباس الناشئ:

تأمل بعينيك هذا الأنا

م فكن بعض من صانه عقله

فحلية كل فتى فضله

وقيمة كل امرئ نبله

فلا تتكل في طلاب العلا

على نسب ثابت أصله

فما من فتى زانه قوله

بشيء يخالفه فعله

ومما ينسب لعلي رضي الله عنه:

الناس من جهة التمثال أكْفاء

أبوهم آدم والأم حواء

وإنما أمهات الناس أوعية

مستودَعات وللأحساب آباء

فإن يكن لهم من أصلهم شرف

يفاخرون به فالطين والماء

وأن أتيت بفخر من ذوي نسب

فإن نسبتنا جود وعلياء

ما الفضل إلا لأهل العلم إنهم

على الهدى لمن استهدى أدلاء

وقيمة المرء ما قد كان يحسنه

والجاهلون لأهل العلم أعداء

فقم بعلم ولا تبغ به بدلا

فالناس موتى وأهل العلم أحياء

وقد ورد في هذا الباب ما رواه الإمام مسلم في مقدمة صحيحه عن عائشة -

رضي الله عنها قالت: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل

الناس منازلهم. نسأله تعالى أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه {رَبَّنَا

اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا

إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (الحشر: 10) .

في جمادى الأولى سنة 1330

_________

(*) تابع لما نشر في ج 12 م 16 ص 913.

(1)

جزء 1 صفحة 49 وما بعدها من الطبعة الأميرية على حاشية منهاج السنة.

(2)

فرقة من غلاة الشيعة منسوبة إلى أبي الخطاب محمد بن مقلاص كان - قبحه الله - من الغلاة في جعفر الصادق عليه السلام ادعى له علم الغيب وغير لك حتى لعنه الصادق مرارًا لفساد عقيدته وخبثه وكذبه عليه وقد تبرأ الصادق عليه السلام منه، ومن أراد الوقوف على أخبار أبي الخطاب فليرجع إلى كتاب الشيعة للكشي فقد أسهب في شأنه في عدة أوراق) . اهـ.

(3)

يشير رحمه الله إلى أن ذلك صار وقفًا على أخبار العلماء وأعلام الجهابذة الحكماء، ولقد صدق رحمه الله وشاهده الاستقراء من لدن عصره وقبله إلى الآن.

ص: 41

الكاتب: أبو إسحاق الشاطبي

‌الباب الأول من كتاب الاعتصام [*]

في تعريف البدع وبيان معناها وما اشتق منه لفظًا

وأصل مادة (بدع) للاختراع على غير مثال سابق، ومنه قول الله تعالى:

{بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ} (البقرة: 117) ، أي مخترعهما من غير مثال سابق

متقدم، وقوله تعالى:{قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرُّسُلِ} (الأحقاف: 9) ، أي ما

كنت أول من جاء بالرسالة من الله إلى العباد بل تقدمني كثير من الرسل، ويقال:

ابتدع فلان بدعة يعني ابتدأ طريقة لم يسبقه إليها سابق، وهذا أمر بديع يقال في

الشيء المستحسن الذي لا مثال له في الحسن؛ فكأنه لم يتقدمه ما هو مثله ولا ما

يشبهه.

ومن هذا المعنى سميت البدعة بدعة، فاستخراجها للسلوك عليها هو الابتداع

وهيئتها هي البدعة، وقد يسمى العلم المعمول على ذلك الوجه بدعة، فمن هذا المعنى

سمي العمل الذي لا دليل عليه في الشرع بدعة، وهو إطلاق أخص منه في

اللغة حسبما يذكر بحول الله.

ثبت في علم الأصول أن الأحكام المتعلقة بأفعال العباد وأقوالهم ثلاثة: حكم

يقتضيه معنى الأمر كان للإيجاب أو الندب، وحكم يقتضيه معنى النهي كان

للكراهة أو التحريم، وحكم يقتضيه معنى التخيير وهو الإباحة. فأفعال العباد

وأقوالهم لا تعدو هذه الأقسام الثلاثة: مطلوب فعله، ومطلوب تركه، ومأذون في

فعله وتركه. والمطلوب تركه لم يطلب إلا لكونه مخالفًَا للقسمين الأخيرين، لكنه

على ضربين:

(أحدهما) : أن يطلب تركه وينهى عنه لكونه مخالفة خاصة مع تجرد

النظر عن غير ذلك، وهو إن كان محرمًا سُمي فعله معصية وإثمًا، وسمي فاعله

عاصيًا وآثمًا، وإلا لم يسم بذلك، ودخل في حكم العفو حسبما هو مبين في غير

هذا الموضع. ولا يسمى بحسب الفعل جائزًا ولا مباحًا لأن الجمع بين الجواز

والنهي جمع بين متنافيين.

(والثاني) : أن يطلب تركه وينهى عنه؛ لكونه مخالفة لظاهر التشريع من

جهة ضرب الحدود وتعيين الكيفيات والتزام الهيئات المعينة أو الأزمنة المعينة مع

الدوام ونحو ذلك.

وهذا هو الابتداع والبدعة ويسمى فاعله مبتدعًا - فالبدعة إذن عبارة عن

طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية، يقصد بالسلوك عليها في معنى البدعة

وإنما يخصها بالعبادات. وأما على رأي من أدخل الأعمال العادية في معنى البدعة

فيقول: (البدعة طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية، يقصد بالسلوك عليها

ما يقصد بالطريقة الشرعية) . ولا بد من بيان ألفاظ هذا الحد: فالطريقة والطريق

والسبيل والسنن هي بمعنى واحد، وهو ما رسم للسلوك عليه، وإنما قيدت بالدين

لأنها فيه تخترع وإليه يضيفها صاحبها، وأيضًا فلو كانت طريقة مخترعة في الدنيا

على خصوص لم تسم بدعة؛ كإحداث الصنائع والبلدان التي لا عهد بها فيما تقدم.

ولمّا كانت الطرائق في الدين تنقسم: فمنها ما له أصل في الشريعة، ومنها

ما ليس له أصل فيها - خص منها ما هو المقصود بالحد وهو القسم المخترع، أي

طريقة ابتدعت على غير مثال تقدمها من الشارع؛ إذ البدعة إنما خاصتها أنها

خارجة عمّا رسمه الشارع، وبهذا القيد انفصلت عن كل ما ظهر لبادي الرأي أنه

مخترع ممّا هو متعلق بالدين، كعلم النحو والتصريف ومفردات اللغة وأصول الدين،

وسائر العلوم الخادمة للشريعة. فإنها وإن لم توجد في الزمان الأول فأصولها

موجودة في الشرع؛ إذ الأمر بإعراب القرآن منقول وعلوم اللسان هادية للصواب

في الكتاب والسنة فحقيقتها إذًا أنها فقه التعبد الشرعية بالألفاظ الدالة على معانيها كيف

تؤخذ وتؤدّى.

وأصول الفقه إنما معناها استقراء كليات الأدلة حتى تكون عند المجتهد نصب

عين وعند الطالب سهلة الملتمس.

وكذلك أصول الدين - وهو علم الكلام - إنما حاصله تقرير لأدلة القرآن

والسنة، أوْ ما ينشأ عنها في التوحيد وما يتعلق به، كما كان الفقه تقريرًا لأدلتها في

الفروع العبادية.

(فإن قيل) . فإن تصنيفها على ذلك الوجه مخترع.

(فالجواب) : أنَّ له أصلاً في الشرع، ففي الحديث ما يدل عليه، ولو سلم

أنه ليس في ذلك دليل على الخصوص فالشرع بجملته يدل على اعتباره، وهو

مستمد من قاعدة المصالح المرسلة، وسيأتي بسطها بحول الله.

فعلى القول بإثباتها أصلاً شرعيًّا لا إشكال في أن كل علم خادم للشريعة داخل؛

تحت أدلته التي ليست بمأخوذة من جزئي واحد. فليست ببدعة ألبتة.

وعلى القول بنفيها لا بد أن تكون تلك العلوم مبتدعات. وإذا دخلت في علم

البدع كانت قبيحة؛ لأن كل بدعة ضلالة من غير إشكال، كما يأتي بيانه إن شاء

الله.

ويلزم من ذلك أن يكون كتب المصحف وجمع القرآن قبيحًا، وهو باطل

بإجماع، فليس إذًا ببدعة. ويلزم أن يكون له دليل شرعي، وليس إلا هذا النوع

من الاستدلال، وهو المأخوذ من جملة الشريعة.

وإذا ثبت جزئيٌّ في المصالح المرسلة، ثبت مطلق المصالح المرسلة؛ فعلى هذا لا ينبغي أن يسمى علم النحو أو غيره من علوم

اللسان أو علم الأصول أو ما أشبه ذلك من العلوم الخادمة للشريعة بدعة أصلاً.

ومن سمّاه بدعة فإمّا على المجاز؛ كما سمى عمر بن الخطاب - رضي الله

عنه - قيام الناس في ليالي رمضان بدعة. وإما جهلاً بمواقع السنة والبدعة، فلا

يكون قول من قال ذلك معتدًّا به ولا معتمدًا عليه.

وقوله في الحد (تضاهي الشرعية) يعني أنها تشابه الطريقة الشرعية من

غير أن تكون في الحقيقة كذلك، بل هي مضادة لها من أوجه متعددة.

منها وضع الحدود كالناذر للصيام قائمًا لا يقعد، ضاحيًا لا يستظل.

والاختصاص في الانقطاع للعبادة، والاقتصار من المأكل والملبس على صنف دون

صنف من غير علة.

ومنها التزام الكيفيات والهيآت المعينة، كالذكر بهيئة الاجتماع على صوت

واحد، واتخاذ يوم ولادة النبي صلى الله عليه وسلم عيدًا، وما أشبه ذلك.

ومنها التزام العبادات المعينة في أوقات معينة لم يوجد لها ذلك التعيين في

الشريعة، كالتزام صيام يوم النصف من شعبان، وقيام ليلته [1] .

وثَمَّ أوجه تضاهي بها البدعة الأمور المشروعة فلو كانت لا تضاهي الأمور

المشروعة لم تكن بدعة؛ لأنها تصير من باب الأفعال العادية.

وأيضًا فإن صاحب البدعة إنما يخترعها ليضاهي بها السنة؛ حتى يكون

ملبسًا بها على الغير، أو تكون هي ممّا تلتبس عليه بالسنة، إذ الإنسان لا يقصد

الاستتباع بأمر لا يشابه المشروع؛ لأنه إذ ذاك لا يستجلب به في ذلك الابتداع نفعًا،

ولا يدفع به ضررًا، ولا يجيبه غيره إليه. ولذلك تجد المبتدع ينتصر لبدعته

بأمور تخيل التشريع ولو بدعوى الاقتداء بفلان المعروف منصبه في أهل الخير.

فأنت ترى العرب الجاهلية في تغيير ملة إبراهيم عليه السلام كيف تأولوا فيما

أحدثوه احتجاجًا منهم، كقولهم في أصل الإشراك: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ

زُلْفَى} (الزمر: 3)، وترك الحُمْس الوقوف بعرفة لقولهم: لا نخرج من الحرم

اعتدادًا بحرمته. وطواف من طاف منهم بالبيت عريانًا قائلين: لا نطوف بثياب

عصينا الله فيها.

وما أشبه ذلك ممّا وجّهوه ليصيّروه بالتوجيه كالمشروع، فما ظنك بمن عُدَّ أو

عَدَّ نفسه من خواصّ أهل الملة؟ فهم أحرى بذلك، وهم المخطئون وظنهم الإصابة.

وإذا تبين هذا ظهر أن مضاهاة الأمور المشروعة ضرورية الأخذ في أجزاء الحد.

وقوله: (يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله تعالى) هو تمام معنى

البدعة إذ هو المقصود بتشريعها.

وذلك أن أصل الدخول فيها يحث على الانقطاع إلى العبادة والترغيب في ذلك؛

لأن الله تعالى يقول: {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات:

56) فكأن المبتدع رأى أن المقصود هذا المعنى، ولم يتبين له أن ما وضعه

الشارع فيه من القوانين والحدود كافٍ، فرأى من نفسه أنه لا بُدّ لما أطلق الأمر فيه

من قوانين منضبطة، وأحوال مرتبطة، مع ما يداخل النفوس من حب الظهور أو

عدم مظنته، فدخلت في هذا الضبط شائبة البدعة.

وأيضًا فإن النفوس قد تمل وتسأم من الدوام على العبادات المرتبة، فإذا جدد

لها أمر لا تعهده حصل لها نشاط آخر لا يكون لها مع البقاء على الأمر الأول،

ولذلك قالوا (لكل جديدة لذة) بحكم هذا المعنى، كمن قال: (كما تحدث للناس

أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور، فكذلك يحدث لهم مرغبات في الخير بقدر ما

حدث لهم من الفتور) .

وفي حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه: فيوشك قائل أن يقول: ما هم

بمتبعيّ فيتبعوني وقد قرأتك القرآن فلا يتبعني حتى أبتدع لهم غيره فإياكم وما ابتدع

فإن ما ابتدع ضلالة [2] .

وقد تبين بهذا القيد أن البدع لا تدخل في العادات، فكل ما اخترع من الطرق في

الدين مما يضاهي المشروع، ولم يقصد به التعبد فقد خرج عن هذه التسمية،

كالمغارم الملزمة على الأموال وغيرها على نسبة مخصوصة وقدر مخصوص مما

يشبه فرض الزكوات ولم يكن إليها ضرورة.

وكذلك اتخاذ المناخل وغسل اليد بالأُشنان وما أشبه ذلك من الأمور التي لم

تكن قبل، فإنها لا تسمى بدعًا على إحدى الطريقتين.

وأمّا الحدّ على الطريقة الأخرى فقد تبين معناه إلا قوله: (يقصد بها ما يقصد

بالطريقة الشرعية) . ومعناه أن الشريعة إنما جاءت لمصالح العباد في عاجلتهم

وآجلتهم لتأتيهم في الدارين على أكمل وجوهها، فهو الذي يقصده المبتدع ببدعته؛

لأن البدعة إمّا أن تتعلق بالعادات أو العبادات، فإن تعلقت بالعبادات فإنّما أراد بها

أن يأتي تعبده على أبلغ ما يكون في زعمه ليفوز بأتمّ المراتب في الآخرة في ظنه.

وإن تعلقت بالعادات فكذلك؛ لأنه إنما وضعها لتأتي أمور دنياه على تمام المصلحة

فيها. فمن يجعل المناخل في قسم البدع فظاهر أنّ التمتع عنده بلذّة الدقيق المنخول

أتمّ منه بغير المنخول.

وكذلك البناءات المشيدة المحتفلة، التمتع بها أبلغ منه بالحشوش والخرب.

ومثله المصادرات في الأموال بالنسبة إلى أولي الأمر، وقد أباحت الشريعة التوسع

في التصرفات، فيعد المبتدع هذا من ذلك.

وقد ظهر معنى البدعة وما هي في الشرع، والحمد لله.

***

فصل

وفي الحدّ أيضًا معنًى آخر ممّا ينظر فيه. وهو أن البدعة من حيث قيل فيها:

إنّها طريقة في الدين مخترعة

إلى آخره - يدخل في عموم لفظها البدعة التَّركية

كما يدخل فيه البدعة غير التركية، فقد يقع الابتداع بنفس الترك تحريمًا للمتروك أوْ

غير تحريم؛ فإن الفعل مثلاً قد يكون حلالاً بالشرع فيحرمه الإنسان على نفسهِ أو

يقصد تركه قصدًا.

فهذا الترك إمّا أنْ يكون لأمر يعتبر مثله شرعًا أو لا، فإن كان لأمر يعتبر فلا

حرج فيه، إذ معناه أنه ترك ما يجوز تركه أو ما يطلب بتركه [3] كالذي يحرِّم على

نفسه الطعام الفلاني من جهة أنه يضره في جسمه أو عقله أو دينه وما أشبه ذلك،

فلا مانع هنا من الترك. بل إن قلنا بطلب التداوي للمريض فإن الترك هنا مطلوب،

وإن قلنا بإباحة التداوي فالترك مباح، فهذا راجع إلى العزم على الحمية من

المضرات. وأصله قوله عليه السلام: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة

فليتزوج - إلى أن قال - ومن لم يستطع فعليه بالصوم) [4] الذي يكسر من شهوة

الشباب حتى لا تطغى عليه الشهوة فيصير إلى العنت.

وكذلك إذا ترك ما لا بأس به حذرًا مما به البأس فذلك من أوصاف المتقين،

وكتارك المتشابه حذرًا من الوقوع في الحرام واستبراءً للدين والعرض.

وإن كان الترك لغير ذلك، فإما أن يكون تدينًا أو لا. فإن لم يكن تدينًا

فالتارك عابث بتحريمه الفعل أو بعزيمته على الترك. لا يسمى هذا الترك بدعة

إذ لا يدخل تحت لفظ الحد إلا على الطريقة الثانية القائلة: أن البدعة تدخل في

العادات. وأمّا على الطريقة الأولى فلا يدخل. لكن هذا التارك يصير عاصيًا بتركه

أو باعتقاده التحريم فيما أحلّ الله.

وأما إن كان الترك تدينًا فهو الابتداع في الدين على كلتا الطريقتين، إذ قد

فرضنا الفعل جائزًا شرعًا فصار الترك المقصود معارضة للشارع في شرع التحليل [5]

وفي مثله نزل قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ

اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} (المائدة: 87) ، فنهى أولاً عن

تحريم الحلال. ثم جاءت الآية تشعر بأن ذلك اعتداء، وأن من اعتدى لا يحبه الله.

وسيأتي للآية تقرير إن شاء الله؛ لأن بعض الصحابة هَمّ أن يحرم على نفسه

النوم بالليل، وآخر الأكل بالنهار، وآخر إتيان النساء، وبعضهم هَمّ بالاختصاء،

مبالغة في ترك شأن النساء. وفي أمثال ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:

(من رغب عن سنتي فليس مني) .

فإذًا كل من منع نفسه عن تناول ما أحل الله من غير عذر شرعي فهو خارج

عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم. والعامل بغير السنة تدينًا هو المبتدع بعينه.

(فإن قيل) فتارك المطلوبات الشرعية ندبًا أو وجوبًا هل يسمى مبتدعًا أم لا؟

(فالجواب) إن التارك للمطلوبات على ضربين: (أحدهما) أن يتركها لغير

التدين إما كسلاً أو تضييعًا أو ما أشبه ذلك من الدواعي النفسية فهذا الضرب راجع

إلى المخالفة للأمر. فإن كان في واجب فمعصية، وإن كان في ندب فليس بمعصية

إذا كان الترك جزئيًّا، وإن كان كليًّا فمعصية حسبما تبيّن في الأصول،

(والثاني) أن يتركها تدينًا. فهذا الضرب من قبيل البدع حيث تدين بضد ما شرع

الله. ومثاله: أهل الإباحة القائلين بإسقاط التكليف إذا بلغ السالك عندهم المبلغ الذي

حَدُّوه:

فإذًا قوله في الحد (طريقة مخترعة تضاهي الشرعية) يشمل البدعة

التركية كما يشمل غيرها؛ لأن الطريقة الشرعية أيضًا تنقسم إلى ترك وغيره.

وسواء علينا قلنا إن الترك فعل؛ أم قلنا إنه نفي الفعل على الطريقتين

المذكورتين في أصول الفقه.

وكما يشمل الحد الترك يشمل أيضًا ضد ذلك، وهو ثلاثة أقسام: قسم الاعتقاد،

وقسم القول، وقسم الفعل. فالجميع أربعة أقسام. وبالجملة فكل ما يتعلق به

الخطاب الشرعي يتعلق به الابتداع. اهـ.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) الكتاب للإمام أبي إسحاق الشاطبي الأندلسي صاحب كتاب (الموافقات) في أصول الشريعة وحكمها، وهو يطبع الآن بمطبعة المنار على نفقة دار الكتب الخديوية التابعة لنظارة المعارف المصرية، فنبشر علماء الإسلام بذلك، وننشر لهم هذا النموذج منه.

(1)

هذا هو الصواب ولا يغترن أحد بترغيب الخطباء الجاهلين في ذلك، ولا بالحديث الذي

يذكرونه على منابرهم وهو: (إذا كانت ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها، فإن الله ينزل فيها لغروب الشمس إلى سماء الدنيا فيقول: ألا من مستغفر فأغفر له! ألا مبتلى فأعافيه! ألا كذا حتى يطلع الفجر) فإن هذا حديث واهٍ أو موضوع، رواه ابن ماجه وعبد الرزاق عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، وقد قال فيه ابن معين والإمام أحمد: إنه يضع الحديث. نقل ذلك محشي سنن ابن ماجه عن الزوائد، ووافقه الذهبي في الميزان في الإمام أحمد، وذكر عن ابن معين أنه قال فيه: ليس حديثه بشيء. وقال النسائي (متروك) .

(2)

كذا في الأصل فليراجع الحديث وليضبط.

(3)

لم يظهر لنا معنى الباء فالظاهر أنها زائدة من الناسخ.

(4)

تتمة الحديث بعد كلمة الصوم (فإنه له وجاء) فقوله (الذي يكسر من شهوة الشباب

إلخ)

من كلام المصنف يبين به علة كون الصوم وِجَاء. وهو إضعاف الشهوة على رأي الجمهور. وهو لا يظهر إلا في الصوم الكثير مع التقشف والاكتفاء عند الفطر بقليل الطعام، وإلا فإن الصوم من أسباب الصحة وزيادة القوة، حتى في المعيشة المعتدلة؛ وحينئذٍ يكون وجه الشبه بين الوجاء الذي هو دق عروق خصيتي الفحل المضعف أو المزيل لشهوته - وبين الصوم هو كون الصوم سبب التقوى، كما قال الله تعالى في تعليل فرضيته:[لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ](البقرة: 183) ؛ فمن أكثر من الصوم وترك ما يشتهي من الطعام والشراب المباحين لوجه الله تعالى يستفيد فائدتين: إحداهما ملكة مراقبة الله تعالى الذي يترك طعامه وشرابه لأجله. والثانية ملكة ترك الشهوات التي يحتاج إليها كل يوم فتقوى إرادته وعزيمته، فيسهل عليه ترك سائر الشهوات ومنه غض بصره وإحصان فرجه.

(5)

إن أهل الآستانة لا يأكلون لحم الحمام، فهو يعشش ويفرخ في مساجدهم وبيوتهم ولا يأكل أحد منه شيئًا، بل يتحرجون من ذلك وينكرونه، والظاهر أن عامتهم يعتقدون أن أكله حرام، أفلا يجب في هذه الحال على العلماء مقاومة هذه البدعة التركية بالقول والفعل.

ص: 54

الكاتب: صالح مخلص رضا

‌تقريظ المطبوعات الجديدة [*]

(كتاب الهدى إلى دين المصطفى)

(الجزء الأول منه لمؤلفه

النجفي في مدينة (سُرَّ مَنْ رَأَى) بالعراق، طبع بمطبعة العرفان طبعًا نظيفًا على ورق متوسط ص 392 بقطع المنار ثمنه 20 قرشًا، ويباع في مكتبة المنار بمصر) .

كثر دعاة النصرانية في هذه البلاد كما كثروا في كل بلد دخله النفوذ الغربي،

دخلوا القرى بدون إذن أهلها، وجاسوا خلال الديار رائدين الفتنة والتفريق، وقد

كان المسلمون - عامتهم وعلماؤهم - لا يحفلون بما يبثه هؤلاء الدعاة بين

المسلمين لسخافته وبداهة بطلانه، وليس في هذه البلاد من أثقله وزر آدم فيأتي هؤلاء

الذئابَ يحتمي منه في حظيرتهم، ولا من ضاق صدره بتوحيد الله عز وجل فيجيء

هؤلاء المعددين ليجد له عندهم متسعًا في ثالوثهم، ولا من حصر صدره بعصمة

الأنبياء الهداة حتى يتحكك بهؤلاء الكتبة؛ ليثلجوا صدره ويجرّؤه على المعاصي

بقصة نوح مع ولديه أو إبراهيم مع امرأته أو يهوذا مع كنَّته أو داود مع امرأة قائده

أو سليمان مع أصنام نسائه أو ابن يعقوب مع امرأة أبيه أو يعقوب مع ملاك ربه أو

لوط مع بنتيه.. إلخ. بل إن المسلمين ليسوا بمحتاجين مسيحهم الخيالي (وهو غير

مسيح الله عليه السلام الذي يدعي هؤلاء الصدوقيون أنهم يعبدونه وينكرون

سيرته الإنجيلية ويرون عصمته عن السكر وعن غسل أرجل التلاميذ وعن طرد

أمه وإخوته وإنكاره لها وعن البخل بهداية الكنعانية، إلى غير ذلك مما نراه في

أناجيلهم.

لا خوف من هذه التعاليم على عامة المسلمين فضلاً عن علمائهم، ولكن

السكوت على باطلهم خيَّل إليهم أنهم على حق فتفننوا في طرق دعوتهم حتى إنهم

ليصدرون بعض كراريسهم بالآيات القرآنية أو بخطب تضارع الخطب التي

اصطلح بعض الخطباء الرسميين على تلاوتها يوم العيد وأيام الجمع.. إلخ. كل

ذلك ليدخلوا إلى قلوب المسلمين فيفسدوا عليهم ما بقي لهم من دينهم، ويحلوا

الروابط التي تربطهم بأمتهم. ولذلك قام العلماء في جميع الأقطار يرسلون شهب

ردودهم فتخمد أنفاس شياطين التفريق، وأول من كتب في الرد عليهم في هذا

العصر بعقل وبحث وروية الشيخ رحمة الله الهندي ثم تبعه قوم آخرون هم عيال

عليه في هذا الباب. ثم رأينا مثالاً له في هذه الآونة من رسائل الدكتور صدقي

وكتاب النجفي، وهو هذا المؤلَّف الذي هو نتيجة بحث علمي وتمحيص المسائل

وتحقيقها.

فحيّا اللهُ العلامة النجفي فقد دحض مزاعم دعاة النصرانية بكتابه هذا وقذف

بحقه على باطلهم فإذا هو زاهق ولهم الويل مما يصفون.

وضع كتابه هذا ردًّا على كتاب (مقالة في الإسلام) لسايل الإنكليزي المترجم

بالعربية وعلى الكتاب البذيء المسمى بالهداية الموضوع للرد على كتاب (إظهار

الحق) ، وكتاب (السيف الحميدي) فهدم أركانها وقوّض بنيانها بالأدلة العقلية

والنقلية بعبارة طلية جلية، فيجدر بمن عني بالرد على هؤلاء المشاغبين أن يطلع

على هذا الكتاب.

***

(كشف الأستار عمّا لحقوق الدول من الأسرار)

الجزء الأول بقلم صبحي أباظه طبع بمطبعة العرفان بصيدا سنة 1331 ص

125 بقطع المنار ثمنه 20 قرشًا يطلب من مكتبة المنار بمصر.

اسم الكتاب يدل على موضوعه وفيه فوائد جمّة جاءت من طريق الاستطراد.

***

(في التربية والتعليم)

تأليف محمد أمين. طبع بمطبعة التقدم بمصر على ورق جيد. ص 114

بالقطع الصغير، ثمنه خمسة قروش ويطلب من مكتبة المنار بمصر.

مواضيع الكتاب - بعد مقدمة بقلم أحمد بك لطفي السيد مدير الجريدة -: (1)

الشكوى. (2) تشخيص العلة. (3) وصف الدواء؛ ثم الأطوار الثلاثة، في

البيت والمدرسة والمجتمع. (4) التربية الحسية والعملية والأخلاقية؛ ثم الخاتمة.

والكتاب مجموعة مقالات نشرت في الجريدة ثم طبعت على حِدَتها غير مصدَّرة

بالبسملة ولا الحمدلة، على سنة من يتفصون من كل ما يربطهم بالأمة الإسلامية

من الشعائر والمقومات والمشخصات.

***

مرشد المترجم الصغير (لطلبة الشهادة الابتدائية)

تأليف محمد السيد بك وكيل مدرسة المعلمين الناصرية وعوض إبراهيم بك

وكيل المدرسة السعيدية. طبع بمطبعة المعارف طبعًا نظيفًا ص 140 بالقطع

الوسط. ثمنه خمسة قروش، ويطلب من مكتبة المعارف ومكتبة المنار بمصر.

وضعه مؤلفها لطلبة الشهادة الابتدائية وتوخيًا في تذليل عقبات الترجمة من

العربية إلى الإنكليزية وبالعكس، وتسهيلها على التلميذ بشرح المفردات التي يهتدي

إليها بسهولة، وقد اطّلع عليه المستر استيفنز معلم الإنكليزية بمدرسة المعلمين

الناصرية. والكتاب يفيد التلميذ علمًا بالشئون الاجتماعية بمواضيعه المفيدة.

***

(الأجوبة المسكتة)

تأليف أحمد أفندي صابر من مستخدمي (نظارة الأوقاف) وقد طبع الطبعة

الثانية بمطبعة الجمالية بمصر؛ مع زيادات وتحسينات، ص 252 بقطع رسالة

التوحيد.

ثمنه خمسة قروش، ويطلب من مكتبة المنار بمصر، وهو غني عن التعريف.

***

(غاية الإنسان)

كتاب في الفلسفة الأدبية مفيد وضعه الفيلسوف جافينون وترجمته وسيلة محمد

مترجمة (روح الاعتدال) وناهيك بها سلاسة وجوده. ص 160 بقطع سابقه.

طبع بمطبعة المعارف طبعًا نظيفًا. ثمنه خمسة قروش ويطلب من مكتبة المعارف

ومكتبة المنار بمصر.

***

(أرجوزة ابن المعتز)

طبعت في المطبعة الجمالية بمصر سنة 1330 على نفقة ابن منصور في 24

ص بقطع رسالة التوحيد، على ورق جيد ثمنها قرش صحيح واحد، وتطلب من

المكاتب المصرية، وموضوع الأرجوزة تاريخ المعتضد بالله العباسي، وما هو

بالتاريخ الذي يعتد به.

***

نشوء الاجتماع (الجزء الأول منه)

تأليف بنيامين كد وتعريب محمد زكي صالح في طنطا طبع بمطبعة الأخبار

بمصر سنة 1913 على ورق جيد ص 135 بقطع (الإسلام والنصرانية) ثمنه

خمسة قروش، ويطلب من مكتبة المنار بمصر.

مواضيعه بعد مقدمة المترجم التي ألمت بموضوع الكتاب وآراء العلماء

والجرائد فيه هي: (1) الحاضر (2) أسباب الارتقاء (3) العقل لا يؤيد

أسباب الارتقاء (4) أجلى طبيعة في التاريخ الإنساني (5) وظيفة العقائد الدينية

في نشوء الاجتماع.

والكتاب مفيد في موضوعه، منبه للعقل موقظ للقوة المفكرة. وأرى أن

أستعير لتقريظه كلمة الأستاذ (ويسمن) الألماني التي كتبها في مقدمة الترجمة

الألمانية وهي: (لا أرمي إلى تحليل هذا الكتاب الفذ؛ بل أقول: إنه جدير بالنظر

والاعتبار

إلخ) والمرجو أن يظهر المعرب الجزء الثاني منه وأن يعتني

بترجمته وبتصحيحه ليسلم من مثل الأغلاط التي في الجزء الأول.

***

(كتاب آداب العرب)

تأليف إبراهيم بك العرب. طبعته نظارة المعارف على نفقتها في المطبعة

الأميرية سنة 1911 وقررت تدريسه في مدارسها الابتدائية وفي مدارس المعلمين

والمعلمات ويطلب من مخزن المعارف.

الكتاب مجموعة مواعظ منظومة على ألسن الحيوان والطير على نمط كتاب

الصادح والباغم.

***

(المطالعة الفصيحة لأمهات اليوم والغد)

الجزء الأول منه تأليف الشيخ مهدي أحمد خليل المدرس بمدرسة المعلمات في

بولاق. الطبعة الأولى منه سنة 1331 ص 205 بقطع رسالة التوحيد، ثمنه

خمسة قروش، ويطلب من مكتبة المنار بمصر.

الكتاب أدبي اجتماعي لغوي كبير الفائدة، ولذلك قررت نظارة المعارف

تدريسه لجميع تلميذات مدارس البنات العالية والابتدائية والخصوصية.

***

(محاسن الطبيعة وعجائب الكون)

تأليف اللورد (أفري) ترجمة وديع البستاني. ص 264 بالوسط طبع مطبعة

المعارف، وثمنه خمسة قروش، ويطلب من مكتبة المنار ومكتبة المعارف.

أبحاث الكتاب: تمهيد، عالم الحيوان، والنبات، والحقول والحراج، والماء،

والبحر، ثم القبة الزرقاء. وهو يجول في هذه الأبحاث جولة المفكر المتعقل

المعتبر. وإذا كان هذا الكتاب أسمى معاني وأكثر دقة من سائر ما قرأنا من مؤلفات

لورد أفري التي عربها وديع البستاني فإن ترجمته أصح وأسلم وأقل غلطًا من

جميعها أيضًا.

***

(رواية جزيرة الذهب)

مترجمة عن الألمانية بقلم ماري إبراهيم نجار، طبع الجزآن الأول والثاني

منها بمطبعة جريدة الهدي في نيويورك على نفقتها فكانت ص 254 بالقطع الوسط

وموضوعها تحويل الأفكار عن عبادة الذهب، وتضحية كل شيء في سبيل

الحصول عليه؛ إلى فكرة الإنسانية الراقية وما أجدر هذه المترجمة العاقلة الفاضلة،

باختيار هذه القصص المفيدة النافعة.

***

(مجلة العلوم الاجتماعية)

مجلة تصدر في بيروت تبحث في الحقوق والاقتصاد والاجتماع، سنتها

عشرة شهور شمسية تبتدئ من أيلول (سبتمبر) من كل سنة. الجزء منها 322

ص. منشئها المحامي توفيق أفندي الناطور المتخرج في مدرسة الحقوق في باريس،

ومدير تحريرها الشيخ محمد منيب أفندي الناطور من تلاميذ الأزهر ومدرسة

القضاء الشرعي.

قيمة اشتراكها في البلاد العثمانية ريالان مجيديان، وفي البلاد الأجنبية

عشرة فرنكات.

وإن في سعة منشئها ومديرها وتوخيهما النفع لها ما يوجب الإقبال عليها لما

يختاران نشره فيها من العلوم والفوائد التي أصبحت في هذا العصر حاجة من

حاجات الأمة، فنحن نرجو لها الرواج والنجاح، ونعده عنوانًا لاستعداد الأمة

للارتقاء. وقد فتحت بابًا لأدبيات اللغة العربية فضمت إلى فوائدها العلمية هذه

الفائدة اللغوية ويمكن الاشتراك فيها بواسطة مجلة المنار ومكتبته.

_________

(*) كتب تقاريظ هذا الجزء شقيقنا السيد صالح مخلص رضا.

ص: 63

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الشيخ علي يوسف

(3)

فصل في بقية الكلام على سياسته المصرية

بينَّا أن سياسة الشيخ في المؤيَّد كانت تدور في أول العهد على ثلاثة أقطاب:

(1)

تأييد سلطة الأمير ونفوذه (2) مقاومة نفوذ الاحتلال الإنكليزي (3)

الاعتماد في هذه المقاومة على نفوذ الدولة العثمانية وحقوقها الرسمية في مصر.

وكذا على نفوذ فرنسا ومصالحها السياسية فيها، وأنها بعد طول الاختبار وتغير

الحوادث طرأ عليها بعض التغيير. ونزيد ذلك بيانًا فنقول - وإن كررنا بعض

المعاني -:

إنه بعد حادثة فشودة علم المترجم أن الاتكال أو الاعتماد على عهود دولة

أوربية لا يكون إلا دون الاتكال على المواعيد العرقوبية، وأنه بعد اختبار السياسة

العثمانية بالغوص في أعماق الحوادث التي بيانها وبين أوربا، وبلقاء كبار رجالها

في الآستانة ومصر وأوربا، علم أنه لا يتكل عليها في شيء، وأن الذي يبني

عمله على الرجاء فيها فإنما يبني على شفا جرف؛ إذ لا يؤمن خذلانها له في كل

عمل، فاكتفى من خدمة الدولة فيما يسمونه المسألة المصرية بالمحافظة على حقوقها

الرسمية في مصر، وجعل فرماناتها الرسمية لأمراء مصر ركن استقلالها الركين،

الذي يصد به بعض ما يخشى من هجمات الاحتلال عليه. وأما فرنسة وسائر دول

أوربة فقد علم كما يعلم كل خبير بصير أنها دول تجارية تَتِّجر بالأمم والشعوب

والدول، وأنها لا تراعي في تجارتها حقًّا ولا عدلاً، ولا رحمة ولا فضلاً، وإنما

رأس مالها القوة والحيلة والأثرة، فلا يقدر أن يستفيد منها إلا من جعل منفعته

وسيلة إلى منفعتها، وهيهات أن يتسنى لأدنى أن يستخدم لمنافعه من هو أعلى منه

قوة وعلمًا. وما كل من تنفعه تقدر أن تستخدمه، وناهيك بدول أوربة ومعارضة

بعضها لبعض في سياستها أو مطامعها في بلادنا، فإذا أراد بعضها أن ينفعنا قليلاً

لينتفع منا كثيرًا، عارضه في ذلك من يكره لنا هذه المنفعة ويراها عقبة في طريق

مطامعه فينا.

وكان الفقيد يعلم أيضًا أن شعوب أوربة خير من حكوماتها، وأن فيهم كثيرًا

من الأحرار ومحبي الحق والخير لكل البشر، وأن رأي الشعب العام له السلطان

الأعلى على الحكومات؛ فلهذا كان يرى أخيرًا أنه ينبغي أن يكون للمصريين صلة

ببعض أهل الفضيلة من أحرار الإنكليز لعلهم يستعينون بهم على مقاصدهم،

وإيصال ما يشكون منه بحق من إنكليز مصر إلى إنكليز لندرة، حتى لا تكون

الشؤون المصرية محجوبة عن محبي الإنصاف، لا يعرفون منها إلا ما يكتبه عميد

إنكلترا في مصر إلى ناظر الخارجية في لندرة وبعض مراسلي الجرائد. والعلم بهذا

الرأي إما أن ينفع وإما أن لا يضر. ولكن عارضه فيه أحداث الوطنية في جريدة

اللواء وما أحدثوه بعد مصطفى كامل من الجرائد كدأبهم وعادتهم، وقد بينا وجه ذلك

عندهم في هذه الترجمة.

***

(الجرائد والأحزاب بمصر)

ونقول ههنا: إن السياسة في مصر لا مظهر لها إلا الجرائد، وقد تألفت

الأحزاب لأجل الجرائد ومديري سياسة الجرائد، ولم يستطع حزب من الأحزاب أن

يجعل جريدة أكثر رواجًا وقبولاً من جريدة أخرى عند الرأي العام بمصر.

وقد سبق القول بأن الجرائد العربية المؤثرة في الجمهور المصري كانت ثلاثة:

الأهرام والمقطم والمؤيد، وأن التنازع إنما كان أولاً بين الأهرام والمقطم؛ ثم

كانت الأهرام تشايع المؤيد بعد ظهوره لاتفاقه معها في الميل إلى السياسة الفرنسية

التي تعد الأهرام هي الركن الأول لها؛ ولأن مشايعته على المقطم كانت تعد من

آيات صدق الخدمة الوطنية لمصر. ولما انقطع أمل المصريين من فرنسة صارت

جريدة الأهرام في المرتبة الثانية بين الجرائد اليومية؛ بل كادت تموت من شدة

ضعفها؛ لولا أن تداركها همّة بشارة باشا تقلا القوية ومَن ساعده على تحريرها من

أذكياء الكتاب، وأعانه على ذلك ثقة جمهور التجار والزراع بأخبارها التجارية.

بذلك انتعشت بعد أن سقطت، وارتفعت بعد أن انخفضت، وحفظت مكانتها بين

الجرائد اليومية الكبرى، فإن لم تعد رأسًا في سياسة خاصة فهي رأس في الثروة

والمباحث العامة. ولا يضاهيها في هذين الأمرين إلا المقطم. فهما الآن في مقدمة

الجرائد المصرية في الثروة، وسعة الأخبار العامة، والقدرة على التصرف في

الكلام عن الشؤون المصرية، على أنهما لم تتألف لهما أحزاب، وإنما تلك كفاءة

أصحابهما ومحرريهما، والجمع بين حسن الإدارة، والبراعة في الكتابة.

وقد تألف في مصر ثلاثة أحزاب سياسية حول ثلاث جرائد يومية، هن أكبر

جرائد مسلمي هذا القطر وأوسعها انتشارًا: المؤيد واللواء والجريدة، ولم يكن لواحدة

منهن دخل يوازي دخل المقطم والأهرام إلا للمؤيد، فقد كان أوسع منهما انتشارًا

وعلى مقربة منهما في المال، ولو أتيح للمؤيد مدير مالي يسير بإدارته سيرة

أصحاب تينك الجريدتين لكان أوسع الجرائد ثروة، على أن الشيخ رحمه الله عاش

به في سعة ورخاء، كما يعيش الأمراء والكبراء، حتى تورط في شراء الدور

وأراضي البناء، في إبان إسراف الناس في التغالي بها، فركبته الديون وجاءت

سنوات العسرة المالية فأتت على تجميع ما في يده، وكادت تذهب بالمؤيد نفسه،

لولا أن تداركه بتأسيس شركة مساهمة له، فحالت دون موته، لا دون مرضه، فقد

مرض المؤيد أمراضًا أشرفت به على الموت عدة مرار، وصارت حركة ظهوره

كحركة المذبوح أو حركة الاستمرار، وهو لا يزال محتاجًا إلى تجديد الحياة، وإنما

يكون ذلك بحسن الإدارة والنظام، وجعل التحرير على الوجه الذي بيناه من قبل،

وهو ما به يظل المؤيد صاحب التأثير الأول في كل ما يتعلق بمصالح المسلمين في

مصر، وكذا في غيرها، ثم بالمصالح المصرية والعثمانية. فإذا قصَّر المؤيد في

هذا الأمر - الذي لم يكن لولاه أمرًا ذا بال - يحكم عليه الرأي العام الإسلامي بالعدم

والزوال، ويطلب بلسان حاله جريدة تحل محله حتى ينهض بها مَن يؤهله

الاستعداد من الشركات أو الأفراد.

وجملة ما نريد الاعتبار به أن المؤيد قد جعله مشربه الإسلامي والمصري

فوق جرائد القطر كلها، بل جعله حاجة طبيعية، مِنْ حَاج البلاد المصرية

فالإسلامية، ولقي من المساعدة والإقبال ما لم يلق غيره، ومع هذا كله لم يستطع

أن يكون في ثبات الأهرام والمقطم وفي مثل ثروتهما، ولا في المحافظة على

إشعار الجماهير بحاجاتهم إليه، وبأنه لا بد لهم في الحوادث الطارئة من رأيه،

وقد ألف صاحبه له حزبًا سياسيًّا سماه (حزب الإصلاح على المبادئ الدستورية)

فلم يفده قوة تذكر، ولا رد عنه غارة تشن، وإنما كانت قوته المعنوية في هجومه

ودفاعه سنان قلم الشيخ علي، وحسن استعماله لأسنة الأقلام التي كانت تساعده،

ومنها ما كان أنفذ من سنانه في بعض الشؤون وأقتل. فلما مرض الشيخ مرض

المؤيد، ولما مات خشي الناس أن يموت كما مات حزبه، ولكن الشركة المالية

تداركت حياته المادية، وعسى أن توفق لتدارك حياته المعنوي، فإن لم يتم هذا يفقد

مسلمو مصر الانتفاع بقوتهم المعنوية، ولا يبقى لهم قائد منهم في حياتهم السياسية

والأدبية، ولا مدافع يؤثر صوته في مصالحهم الدينية، فالشعب جريدة أحداث

جهال، والجريدة ليست إسلامية المشرب، والأهالي كذلك، على أنها ولدت سقطًا

كما قال أحد الأدباء. فالجريدة الإسلامية المصرية هي المؤيد، فإذا مات يعسر

وجود خلف له. وإنني بهذه الحرية في النصيحة، ربما أثير على نفسي حقدًا قديمًا

وعداوة جديدة، ولا أبالي ذلك في سبيل مصلحة المسلمين، على أنني لست على ثقة

من قبولها، والله الموفق.

وأما اللواء فقد بينا أن منشئه تربى في مدرسة المؤيد السياسية، فكان تلميذًا له،

إلا أنه عقه وكفره، وكان يحسب أنه يبذه أو يكون ناسخًا له؛ لأنه يبالغ ويغلو في

كل المقاصد التي صار المؤيد يسلك سبل الاعتدال فيها، كمدح السياسة الحميدية،

وذم الحكومة المصرية، ومقاومة الاحتلال بالذم والاحتجاج، وذلك أن الناس كانوا

قد ألفوا بعض المبالغة من المؤيد، فإذا أرجعته عنها الحكمة والخبرة، يعد عوامّهم

وشبانهم ذلك من تغيير الخطة، ومن دأب الأحداث والعوام، حب الإغراق والغلو

في الكلام، وناهيك بما يتعلق منه بالسياسة والحكام. وقد بذّ اللواءُ المؤيَّدَ في

المبالغة بهذه المقاصد، وانفرد دونه بدعوة مسلمي مصر إلى تكوين رابطة جنسية

وطنية، لكنها رابطة تنافي إخاء الإسلام ولا ترضي القبط وسائر طوائف النصرانية.

صادف اللواء من مساعدة الآستانة ومساعدة بعض أمراء مصر وأغنيائها ما لم

تصادفه جريدة أخرى. حتى كان يبذل له الذهب بالألوف، وهو على هذا كله لم

يتسع انتشاره إلا بعد سنين من إنشائه، ثم إنه غلب المؤيد على استمالة أكثر تلاميذ

المدارس وكثير من العوام، وصار المؤيد باعتداله -على رضاء أكثر العوام عنه-

جريدة الخواص.

لم يستطع اللواء أن يصل بكل ذلك إلى أن يكون كجريدة الأهرام أو المقطم

في ثباتهما وثروتهما، وقد ألف صاحبه له الحزب الوطني الحديث [1] وألف شركة

رأس مالها عشرون ألف جنيه لأجل إصدار لواء أو لوائين آخرين باللغتين

الفرنسية والإنكليزية، وإنما كانت هذه الشركة صورية لا غرض منها إلا بذل ذلك

المال لمصطفى كامل يتصرف فيه؛ كما يشاء كما يفهم من قانونها وقد فعل. أضاع

هذا المال - كما أضاع ما سبقه من الإعانات مع كل غلة اللواء ومطبعته - في

السرف والمخيلة والمضارات، وطفق ينشد في اللواء شركاء يشترون سهامًا

أخرى من الشركة؛ فلم يستجب لرقيته أحد، ولم يلبث مصطفى باشا كامل

أن مرض وضاعف ثقل المرض عليه همّ الدين والعوز، وفي أثناء مرضه ألف

الحزب الوطني الحديث [1] وكل ذلك لم يغن شيئًا. ومات (كما مات صاحب المؤيد

بعده) مثقلاً بالديون، فقد تبين أن عليه عشرات الألوف من الجنيهات. وقد حجز

الدائنون مطبعة اللواء، وبيع أثاث زعيم الوطنية في محل رجل رومي يبيع الأثاث

بالمزاد، ثم مات اللواء بعد أن اضطر أصحابه إلى استخدام بعض الكتاب من نصارى

السوريين لتحريره وقد كان أعدى أعدائهم، وبعد أن انشق الحزب وأنشأ - بسعي

محمد بك فريد؛ رئيسه - جريدة لتكون لسان حاله سماها العلم (بالتحريك) ناط

رياسة تحريرها بالشيخ عبد العزيز شاويش، فكانت دون اللواء؛ أحط منه في كل

شيء إلا الغلو والإسراف في الكذب، والإرجاف والطعن في الشعوب والأفراد.

لذلك اضطرت الحكومة إلى إلغائها بعد أن حوكم رئيس تحريرها (شاويش)

غير مرة، وحكم عليه بالسجن وسجن.

في أثناء هذه الحوادث كان المتحمسون من رجال الحزب الوطني وآخرون

ممن يودون استمالة محبي الرجل من التلاميذ يجمعون المال لنصب تمثال له،

يخلدون به ذكره، ولو راعوا الآداب الإسلامية لحافظوا بهذا المال على جريدة

اللواء، وانتقوا لها محررين من العقلاء الأدباء، فإن هذا هو الذي يحفظ ذكره كما

حفظ الأهرام اسمي سليم تقلا وبشارة تقلا، فما من يوم إلا ويقرأ الأهرام ألوف من

الناس يرون هذين الاسمين ويتذكرون مؤسسي هذه الجريدة المرتقية، وفي مصر

عدة تماثيل لا يخطر أصحابها لأحد على بال حتى عند رؤيتها ماثلة بالشوارع.

وأما (الجريدة) فالعبرة بها أعظم فقد أنشأها جماعة من سروات البلاد

أصحاب الثروة والمكانة الاجتماعية، وحصلوا لها رأس مال عظيم، ووضعوا لها

قبل إنشائها قانونًا من أدق القوانين، وأسسوا لها مطبعة من أرقى المطابع، وجعلوا

إدارتها ومطبعتها في قصر من أحسن القصور، واختاروا لها مديرًا من أذكى

الكتاب وأعلمهم بالسياسة والقوانين، واختار هو من المحررين من سبق لهم التمرن

على الكتابة حتى في إدارة الأهرام وإدارة المقتطف والمقطم.

وألف أولئك السروات المؤسسون لها حزبًا سياسيًّا يكفلها سموه (حزب الأمة)

فهي قد ولدت بالغة راشدة فلم تكن كالمؤيد واللواء طفلاً ينمو في إدارته رويدًا

رويدًا، ولكنها - على كل هذه المزايا - لم تستطع أن تجد لها مقعدًا ولا موقفًا من

المكان الفسيح الذي وجده قبلها المؤيد أو اللواء من قلب الرأي العام المصري، ولم

تستطع أن تنال من جيبه بعض ما ينال المقطم أو الأهرام، بل كانت تحتاج كل سنة

إلى إمداد أولئك السروات لها بمالهم، على أنها ليست في الحقيقة لسان حالهم، وسبب

ذلك كله أن الروح الذي نفخ في هذه الجريدة لتحيا به ليس إسلاميًّا، وإنما هو فلسفة

خاصة لا تكاد تتجاوز دماغ مدير الجريدة وأدمغة بعض أصدقائه من المحامين

وغيرهم (الذين هم حزب الجريدة المعنوي لا المالي) إلا بتدرج بطيء جدًّا، ثمّ إنه

لا يرجى أن يعم، وليس من الحكمة، ولا مما يبيح الاقتصاد أن يكون له جريدة توقف

عليه في مثل هذه البلاد التي لم تستعد لأن تعيش فيها جريدة أو مجلة خاصة بشيء

واحد ممّا تعمّ الحاجة إليه كالاقتصاد والزراعة أو الأدب، ودع الفلسفة بجملتها،

دون مذاهب الأفراد فيها فقط.

وجملة القول أن الجريدة لا ترمي عن قوس عقيدة مسلمي مصر، ولا تصلح

للتأثير بالرأي العام المصري ولا فيه، فهي لا تستطيع أن تخدمه كما يجب، ولا أن

تستخدمه كما نحب؛ لأن روحها غير إسلامي، فلا هي لسان حال المسلمين، ولا

لسان الذين أسست بأموالهم منهم، وهم لم يستمروا على الإنفاق عليها إلا لما

يشعرون به من الغضاضة عليهم إذا ألغوها وأبطلوها، ولا يرجى لها بهذا المشرب

أن تبلغ شأو المقطم أو الأهرام من نفوس الناس ولا من الرواج والربح.

فظهر ما شرحناه أن الأحزاب في مصر لا عمل لها ولا تأثير إلا بالجرائد،

وأن الجرائد بالرجال الذين يتولون سياستها وإدارتها، وأنه لم توجد بمصر جريدة

للمسلمين حسنة الإدارة والنظام اللهم إلا الجريدة في الجملة أو في ضبط الأعمال

المالية وأن جريدة المؤيد هي الجريدة الإسلامية السياسية التي أوجدتها الحوادث

وكفاءة الشيخ علي يوسف في مكانه من الرأي العام الإسلامي يعرفها لها أهل

السياسة في أوربة ويعدونها لسان حال مسلمي مصر وغير مصر أيضًا. وحذت

جريدة اللواء حذوها، ولم تبلغ شأوها؛ لأن صاحب المؤيد كان في السياسة الإسلامية

مستقلا، وصاحب جريدة اللواء كان فيها مقلدًا، وإنما كان حظه منها بقدر ما اقتبس

من سياسة المؤيد. وكل ما خالف المؤيد كان خطأ في جملته، إن لم يكن خطأ في

كل فروعه وجزئياته، ولكن الغيرية لا تكون إلا بالمخالفة في بعض الشؤون،

فصاحبا المؤيَّد واللواء هما أوجدا المؤيد واللواء، وقد كان لسوء تصرفهما المالي

دخل عظيم في إضعاف جريدتهما، حتى ماتت إحداهما بعد موت صاحبها بعدما

أشرفت على الموت المالي في عهده، ويخشى أن تموت الأخرى مثلها، إن لم يعن بها

أهل الغيرة والبصيرة عناية يراعى فيها ما بيناه في هذه الترجمة مرارًا.

فيجب على مسلمي مصر أن يتدبروا هذا النقص العظيم، وأن يتذكروا أن

شعبهم المستعد للعلم والأدب والتربية السياسية والاقتصادية، هو الذي جعل الأهرام

والمقطم أغنى الجرائد في بلاده، لأن أصحابهما عرفوا كيف يخاطبونه بحسب

استعداده، وهو قد ساعد المؤيد واللواء ما لم يساعدهما، فيجب على من يخدمه أن

يخاطبه بلسان استعداده. وأن يتذكروا أن (مصر) و (الوطن) الجريدتين

القبطيتين، تليان في الثروة والثبات الأهرام والمقطم السوريتين. ولولا صبيتهما

القبطية لما كانتا دونهما تأثيرًا في نفوس المسلمين. فمن النقص - بل من العار -

على المسلمين أن لا يكون لهم جريدة أو جرائد مثل هذه أو أرقى منها في النظام

والثروة، بله التأثير والحظوة.

إن لي أن أفاخر بكفاءة أصحاب المقطم والأهرام ومحرريهما وببراعتهم؛

لأنهم من أبناء وطني الأول الذي هو وطن المولد والمنشأ. وأود - واللهِ - أن أفخر

بمثل عملهم من أبناء ديني ووطني الثاني الذي هو وطن العمل. ولا يسرني من

مثل المقطم والأهرام في مصر إلا ما ينفع المصريين؛ لأن أبناء وطني السوريين

ليس لهم مصالح في مصر إلا ما ينفع المصريين، فهم غير محتاجين إلى جرائد

خالصة لهم من دون المصريين، لأجل هذا يهمني أمر المؤيد، ويسرني أن يكون

أرقى الجرائد المصرية تحريرًا ونظامًا وإفادة واستفادة؛ لأن المسلم أجدر بمعرفة

حاجة الجمهور المسلم وبيانها والدفاع عنها، من مثله في علمه وبيانه من غير

المسلمين، وأقدر على التأثير فيه بحمله على الخير أو صرفه عن الشر، وعلى

التأثير به يجعله مِجَنًّا يدفع به عنه ما يراه ضارّا به. وقد رأيت غير واحد من

المشتغلين بالعلم وبالسياسة من النصارى يتمنون لو ولدوا مسلمين؛ لأجل أن يكونوا

أقدر على خدمة وطنهم أو الشرق الإسلامي كله.

وما أطلت الكلام على الجرائد في ترجمة الشيخ علي يوسف إلا لأذكِّر إخواني

مسلمي مصر بما أراهم غافلين عنه، وهو أنه لم توجد لهم جريدة تصح أن تكون

لسان حالهم بحق إلا المؤيد، وأن الروح الذي كان به المؤيد هو المؤيد يجب أن

يبقى له، ويجب أن يكفل، وأن يكون لهيئة التحرير فيه مع الرئيس الكفؤ، مراقب

موثوق به، مثل سعد باشا زغلول الذي كان ركنًا من أركان تأسيس المؤيد.

وإلا خسر مسلمو مصر خسارة يصعب عليهم الاستعاضة عنها في سنة أو

سنين قليلة، وربّما حرموها الأجيال طويلة، وقد ذكرناهم بما يوجب العبرة من

تاريخ أعظم جرائدهم.

هذا وإن أية جريدة من جرائد المسلمين في مصر يتولى رياسة تحريرها كاتب

خبير بمصالح المسلمين غيور عليها، قادر على الدفاع عنها، يمكن أن تحل محل

المؤيد الأول وأن تكون أكمل منه فيه وأثبت، ولكنْ لا يكون ذلك إلا بعد ثقة

الجمهور المسلم بها، وهذه الثقة إذا استعادها المؤيد في سنة واحدة - لا تنالها جريدة

جديدة بعد سنين كثيرة أو قليلة، ومن ذا الذي ينفق على جريدة جديدة إلا بعد سنين

كثيرة أو قليلة، ومن ذا الذي ينفق على جريدة جديدة عدة سنين، منتظرًا طروء

الحوادث التي تقنع الرأي العام بأنها هي حاجته التي يطلبها لسان حاله واستعداده؟

(للترجمة بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

أول من ألف حزبًا سياسيًّا بمصر باسم الحزب الوطني حكيمنا السيد جمال الدين الأفغاني، والحزب الذي كان يذكره مصطفى كامل في حال صحته لم يكن حزبًا مكونًا بالفعل.

ص: 68

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الجامعة الإسلامية والسياسية

(جمعية إسلامية. مدرسة جامعة بالمدينة المنورة. استغلال الحجرة النبوية)

نجدد الخوض في ذكر الجامعة الإسلامية بما ظهر أخيرًا من عناية جمعية

الاتحاد والترقي بالاستفادة من نفوذ الدولة الديني؛ لِما ظهر لها من تأثير الدين في

السياسة، وضرر ما كان من إعراضها عنه، ومن اهتمام مسلمي الأرض كافة

بحرب طرابلس، وحرب البلقان، وبذلهم المال لإعانة الدولة على الحرب بقدر

الإمكان، ومطالبة مسلمي الهند لدولتهم البريطانية بمساعدتها، واستيائهم من ميلها

للبلقانيين، ففي أثناء الحرب ألّفوا في الآستانة جمعية إسلامية خيرية تحت رياسة

أو رعاية ولي عهد السلطنة. وكان أول من بذل المال لتأسيسها بعض وجهاء

المصريين، ويرجون أن يجمعوا لها مالاً جمًّا، وإن لم يعرف العالم الإسلامي أين

ذهب هذا المال وكيف ينفق؟

***

المدرسة الجامعة بالمدينة

وأذاعوا في الأقطار خبر تأسيس مدرسة جامعة في المدينة المنورة ويعبر عنها

الترك باسم (دار فنون) ثم أرسلوا وفدًا إليها في أثناء زيارة الحجاج لها للاحتفال

بالشروع في تأسيس هذه المدرسة المسوِّغ لفتح باب الإعانات لها. ونحن ننتظر أن

نرى نظم هذه المدرسة لنعلم هل موضوعها دار فنون جامعة لكل الفنون والعلوم العالية

كما يفهم من هذه التسمية أم لا، ولنعلم أي اللغات تكون لغة التعليم فيها؟ هل هي

العربية أم التركية؟ ومن أين يأتون بالتلاميذ الذين تلقوا التعليم الابتدائي والثانوي

ليدرسوا فيها الفنون والعلوم العالية؟ وليس في المدينة ولا في الحجاز شيء من هذا

التعليم، ولا نبحث عن المعلمين والكتب قبل أن نعرف لغة التعليم، فإن نظارة

المعارف العثمانية تعتذر عما نطلبه من جعل التعليم في ولايات بالدولة العربية بلغة

أهلها، وأظهر أعذارها عدم وجود الكتب والمعلمين. وقد أذاعت الجرائد من

بضعة أشهر أن النظارة ألفت لجنة فيها لأجل اختيار الكتب العربية الصالحة.

وعلمنا أنها طلبت نموذجًا من كتب التعليم التي تقرأ في المدارس المصرية

الأميرية فأرسل إليها. وإلى الآن لم نر لعمل اللجنة أثرًا يُذكر. وإذا كانوا يريدون التعليم في المدينة باللغة التركية فإن لنا في ذلك كلامًا آخر.

نقول هذا ونحن لا نعقل؛ فلا نصدق أن حكومتنا توجد في المدينة المنورة

مدرسة جامعة. ونرى ذلك غير مستطاع إن كان مرادًا، ولا نظن أنه مراد؛ ولكنها

قد تبني بناء فخمًا تسميه مدرسة جامعة، وتجلب إليه بعض الطلاب من بلاد مختلفة،

فيُعْطَون دروسًا ابتدائية أو فوق الابتدائية، حسب استعداد من يحضر، ثم تستندي

أكفّ أغنياء الحجاج وغيرهم لأجل ترقية المدرسة كما تستنديها الآن لأجل تأسيسها

بإعاناتهم. وأمّا كون المراد من هذه المدرسة بث فكرة الجامعة الإسلامية في نفوس

المسلمين - كما قالت الجرائد في هذه الأقطار وفي غيرها - فالظاهر أن السياسة

الاتحادية الأخيرة تودّ إذاعة هذا المعنى عنها، وتحض الذين يتولون إنشاء

المدرسة الآن على إقناع زوار المدينة المنورة وغيرهم بأن جمعية الاتحاد والترقي

تخدم الدولة والإسلام، وأنه يجب أن تساعد على ذلك بما يستطاع من النفوذ والمال،

وقد علم هذا من حال من اختارتهم الجمعية للشروع في العمل، ومن الاحتفال

الذي كان في المدينة المنورة، ومن حال المندوب الذي بقي هنالك بعد الاحتفال

(وهو الأمير شكيب أرسلان أحد أدباء طائفة الدروز في جبل لبنان) الذي كتب

الشعارات بل المئات من المقالات في إطراء الجمعية والطعن في طلاب الإصلاح

من العرب للبلاد العربية. أما الشيخ عبد العزيز شاويش رئيس لجنة ذلك الاحتفال

في المدينة المنورة ورفيقه عبد القادر أفندي المغربي فهما من غلاة أنصارها الذين

ثبتوا على خدمتها في الإقبال والأدبار، على اختلاف المظاهر والأطوار، ومن كان

هذا شأنه معها فيما رجعت عنه من سياستها القديمة، فكيف لا يكون كذلك في

سياستها الجديدة؟ !

أما أنا فأتمنى لو توجد مدرسة جامعة في المدينة المنورة، أو مدرسة ما مهما

كانت درجتها، ومهما كان الغرض من إنشائها، فإذا لم تكن كما نحب اليوم، فإننا

نرجو أن تكون كما نحب غدًا، ولهذا لم أكتب كلمة تحذير منها في المقالات التي

أنحيت بها على أعمال الجمعية، أيام كان الخلاف بينها وبين قومنا العرب على

أشده، حتى إنني عدت كما كنت في عهد عبد الحميد لا آمن على نفسي أن أحج

بيت الله الحرام، أو أزور حرم رسوله عليه الصلاة والسلام، وكانت تتمثل لي هذه

المدرسة عند سماع خبر العزم عليها كمسجد الضرار. وقد دخل قومنا معها الآن في

طور جديد تمنينا فيه بكل ما نطلب من الإصلاح، والله المسؤول أن تصدق الأماني

وتحصل الآمال.

وأما رأيي الذي أنصح به للدولة، فهو أن تصدي رجالها السياسيين لتحريك

أوتار الجامعة الإسلامية يضر الدولة كثيرًا ولا ينفعها إلا قليلاً، ويوشك أن تكون

هذه الأقوال التي قيلت في هذه المسألة - على قلة تأثيرها - من أسباب ما نراه من

شدة تحامل أوربة عليها، وأكتفي في هذا المقام بالمثل الذي يكرره الإمام الغزالي

في الإحياء: (كن يهوديًّا صِرفًا وإلا فلا تلعب بالتوراة) .

ومرادي من هذا أنه يجب عليها أحد أمرين:

(الأول) أن تؤسس حكومة إسلامية، خالية من التقاليد والقوانين الإفرنجية،

إلا ما كان من النظام، الذي يتفق مع الشرع ولا يختلف باختلاف الأقوام،

وتعطي مقام الخلافة حقه من إحياء دعوة الإسلام، وإقامة الحدود وحرية أهل

الأديان، ولا يعجزها حينئذ أن ترضي غير المسلمين من رعاياها الذين ليس لهم

أهواء سياسية، ولا ضلع مع الدول الأجنبية، بل يكون إرضاؤهم أسهل عليه منه

الآن إن شاءته. ولو كان لي رجاء في إصغائها إلى هذا الرأي، أو جعله محل النظر

والبحث، لبينت ذلك بالتفصيل، ولأوردت ما أعلمه من المشكلات والعقبات التي

تتعرض في طريق تنفيذه من داخلية وخارجية مع بيان المخرج منها، ثم ما يترتب

عليه من تجديد حياة الدولة، وكونه هو المنجي لها من الخطر، وإن تراءى لكثير

من الناس أنه هو المسرع بالخطر، ظنًّا منهم أن أوربة تعجل بالإجهاز على الدولة

إذا علمت بأنها شرعت بنهضة إسلامية؛ لعلمها بأنها هذه هي حياتها الحقيقية،

وكون حياتها بهذا هو ما يصرح به بعض أحرار الأوربيون [1] وإنْ خوف منه

بالتمويه والإيهام أكثر السياسيين.

(الثاني) أن تدع كل ما عدا الأمور الرسمية المعهودة لديها من أمور التدين

إلى الجمعيات الدينية الحرة، والأفراد الذين يدفعهم استعدادهم إلى هذه الخدمة، ولها

أن تساعد ما يستحق المساعدة من هذه الأعمال بالحماية، وكذا بالإعانات المالية من

أوقاف المسلمين الخيرية، (إذا كانت تريد بقاء الأوقاف العامة في يدها ولم تجب

طلاب الإصلاح إلى جعل أوقاف كل ولاية في أيدي أهلها) مع إبقائهم بمعزل عن

السياسة وأهلها، ولولا أن هذا هو رأيي لما اشترطت على رجال الدولة وجمعية

الاتحاد - إذ عرضت عليهم مشروع الدعوة والإرشاد - أن يكون في يد جماعة حرة

لا علاقة لها بالسياسة، وأن لا تخصص لها إعانة من خزينة الدولة، بل تكون

نفقاتها مما تجمعه هي من الإعانات بأنواعها، ومما تعطاه من أوقاف المسلمين

الخيرية {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} (غافر: 44) .

***

استغلال الحجرة النبوية

بلغنا - والعهدة على الرواة - أن بعض المنافقين الذين يتقربون إلى

(جمعية الاتحاد والترقي) باسم الدين، واستنباط الوسائل منه إلى استخراج المال من

جيوب المسلمين، قد زينوا لها أن تتخذ دفترًا تضعه في حجرة المصطفى عليه

أفضل الصلاة والسلام.

وتذيع في العالم الإسلامي كله أن من أراد أن يكتب اسمه في هذا الدفتر،

الذي وضع لدى قبر الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم فليبذل قطعة

من النقود الذهبية (كالجنيه الإنكليزي أو الليرة العثمانية) ونحن ننصح للدولة أو

الجمعية بأن تردّ هذا الاقتراح ولا تنفذه، مهما زينه المنافقون ووسعوا دائرة الأمانيّ

فيه، وأوهموها أن السواد الأعظم من المسلمين يقبلونه، ظانّين أنه يجعلهم

معروفين عند نبيهم صلى الله عليه وسلم محبوبين لديه، مقبولين عنده، وأنه

يمكن لمن يدعوهم إلى البذل أن يقول لهم: إنه صلى الله عليه وسلم ينظر في هذا

الدفتر كل يوم، ويقرأ هذه الأسماء ويدعو لأصحابها بخير.

هذه بدعة قبيحة لا نظن أن رجال الاتحاد يقبلون فيها قول المنافقين، أو

يحتاجون إلى نصح الناصحين، وهي على كونها حدثًا وبدعة في مسجد الرسول

صلى الله عليه وسلم، وعبثًا بالدين، تخل بتعظيمه وتكريم مقامه صلى الله عليه

وسلم وقد لعن من أحدث حدثًا في مسجده (وسيأتي الحديث فيه) وكذا في مدينته

وما حولها: روى الشيخان في صحيحيهما وغيرهما عن علي كرم الله وجهه أنه قال:

ما كتبنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا القرآن وما في هذه الصحيفة.

قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (المدينة حرم ما بين عَيْر إلى ثور [2] فمن

أحدث فيها حدثًا أو آوى مُحْدِثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل

منه صرف ولا عدل) الحديث.

لا يعجز أصحاب الجرأة من المنافقين أن يقولوا: إن استغلال حجرة

المصطفى وقبره صلى الله عليه وسلم بمثل هذا الدفتر لا يعد حدثًا ولا بدعة، لأنه

وسيلة إلى مساعدة الدولة على خدمة الدين (مثلاً) ويمكن أن يتقي فيه الكذب في

الدين وإيهام الباطل والكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم حتى لا يكون

توسلاً باسمه صلى الله عليه وسلم إلى أكل أموال الناس بالباطل.

ولكن أنصار السنة أنهض حجة وأقوم قيلاً، فلا يعجزهم أن يظهروا الدلائل

وآثار السلف التي تدحض هذه الشبهات، وأن يبينوا للناس أن كل بدعة حدثت في

الإسلام قد موهت بمثل هذا التمويه، وادَّعى محدوثها أنهم يخدمون بها الدين، كما

بينه الإمام الشاطبي في كتاب الاعتصام.

وإنني أنقل هنا أثرًا واحدًا من آثار السلف الصالح في التوقي من إحداث شيء

في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم أو مدينته حذرًا من لعنته. نقل الشاطبي في

بيان كون المبتدع ملعونًا ما يأتي:

قال أبو مصعب صاحب مالك: قدم علينا ابن مهدي - يعني المدينة - فصلَّى

ووضع رداءه بين يدي الصف، فلما سلّم الإمام رمقه الناس بأبصارهم ورمقوا مالكًا -

وكان قد صلى خلف الإمام - فلمّا سلّم قال: مَن هاهنا من الحرس؟ فجاءه نفسان،

فقال: خذا صاحب هذا الثوب فاحبساه. فحبس. فقيل له: إنه ابن مهدي [3]

فوجه إليه وقال له: أما خفت الله واتقيته أن وضعت ثوبك بين يديك في الصف،

وشغلت المصلين بالنظر إليه، وأحدثت في مسجدنا شيئًا ما كنا نعرفه؟ وقد قال

النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في مسجدنا حدثًا فعليه لعنة الله والملائكة

والناس أجمعين) فبكى ابن مهدي، وآلى على نفسه أن لا يفعل ذلك أبدًا في مسجد

النبي صلى الله عليه وسلم ولا في غيره.

(قال الشاطبي) : وهذا غاية في التوقي والتحفظ في ترك إحداث ما لم يكن؛

خوفًا من تلك اللعنة، فما ظنك بما سوى وضع الثوب؟ اهـ.

(ونقول) : فما ظنك ببدعة وحدث في حجرة الرسول صلى الله عليه وسلم

يتبعها الكذب عليه، وأكل أموال الناس باسمه، والزيادة في الدين الذي جاء به،

ولو لم يكن في ذلك من الزيادة في الدين إلا إحداث قربة جديدة، وعبادة مخترعة،

هي التقرب إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم؛ بكتابة أسماء الناس في

دفتر هنالك - لكفى، فإن قالوا: إننا لا نعده قربة ولا سببًا للثواب. قلنا: إذًا هو

غشٌّ واحتيال، لأجل سلب الأموال، فإن من يعلم أن كتابة اسمه لا تقربه إلى

الله ورسوله لا يدفع المال لأجلها.. هذا ولولا الإخلاص في النصيحة لله ولرسوله

وللدولة لما كتبت هذا قبل إحداث هذا الحدث المقترح، والله عليم خبير.

_________

(1)

قال لورد كتشنر لبعض مَن لقيه من العثمانيين المشتغلين بالسياسة: إن الدولة العثمانية لا تصلح بالقوانين التي تقتبسها منّا (أي الأوربيين) ونحن ما صلحت لنا هذه القوانين إلا بعد

تدريجية في عدة قرون كنا نغير فيها ونبدل بحسب اختلاف الأحوال، وإن عندكم شريعة عادلة موافقة لعقائدكم ولأحوالكم الاجتماعية فالواجب على الدولة أن تعمل بها وتترك قوانين أوربة؛ فتقيم العدل وتحفظ الأمن وتستغل بلادها الخصبة، وعندي أنها لا تصلح بغير هذا.

(2)

عَيْر وثور جبلان جعلهما صلى الله عليه وسلم حدين للمدينة وثور جبل بمكة أيضًا وقد اشتبه بعض شراح الحديث في هذا الذي في المدينة، ورجح بعضهم رواية (ما بين عَيْر وأُحُد) وإن كانت الأولى أصح سندًا، وقال بعضهم: ثور الذي يحد المدينة وراء أحد إلى الشمال وهو مدور ولونه إلى الحمرة فالظاهر أنه جبل صغير ظنه بعض الناس جزءًا من أحد.

(3)

هو عبد الرحمن بن مهدي الشهير بالصلاح والعلم والعمل، كان يختم القرآن كل ليلة ويتهجد بنصفه لهذا كان قولهم للإمام مالك (هذا ابن مهدي) سببًا لمبادرته إلى إخراجه من الحبس لعلمه أن كلمة حق واحدة تؤثر في نفسه، ما لا يؤثر الحبس الطويل في نفس غيره.

ص: 75

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌انتقاد أجوبة المنار

لمن سأل عن حكم الحج

كتب إلينا غير واحد من البحرين أن الذي سألنا عن حكم الحج وأسرار

المناسك لم يكن يريد الحج هو وأصحابه، وما أسئلتهم تلك إلا مظهر ما في

نفوسهم من الاعتراض على الدين وعدم الإذعان لأحكامه، وإنه ما كان ينبغي أن

يجابوا إلا أن يقال لهم: هذا ديننا، فإن كنتم من أهله فأقيموا أركانه وأدّوا فرائضه،

وإلا فالزموا شأنكم.

هذا معنى ما كتب إلينا، وصرّحوا بأن سبب سوء اعتقادهم في السائل - ومن

على شاكلته - أنهم قد تعلموا في مدرسة دعاة النصرانية (المبشرين) فأزاغوا

عقائدهم.

أما نحن فنقول: إن الأسئلة التي أرسلت إلينا تدل على أن السائل قد عرضت

له شبهات في هذه العبادة (الحج) فهو إما حريص على دينه يسأل العلماء ليأخذ

عنهم ما يدفعها بها ليكون على بصيرة من دينه، وإما معجز أو شاكّ يختبر علماء

المسلمين ليرى ما عندهم، حتى إذا عجزوا عن بيان حكم هذه المناسك عذر نفسه،

واطمأن بما عنده. والواجب علينا أن نغلّب حسن الظن ما وجدنا له منفذًا، وأن

نجيب طالب العلم مهما كان قصده، فإن كان مؤمنًا ازداد - ببيان حكمة الدين -

إيمانًا، وإن كان شاكًّا أو زائغًا يوشك أن يعود إلى الرشد، ويطمئن بما ظهر له من

الحق، ولا ينبغي لنا أن نتهم أحدًا في دينه بالشبهة، ولا أن ندع من يشككهم دعاة

النصرانية في الحق وشأنهم، بل ينبغي لنا أن نجذبهم إلينا، إذا هم أعرضوا عنا

وتركوا سؤالنا. فإذا ترك الحقُّ الباطلَ يصول بشبهاته على إحداث المسلمين،

يمرقون كلهم من الدين.

وإذا كان بعض أهل البحرين يعلمون مبلغ إفساد دعاة النصرانية في بلدهم،

فلماذا لا يحذرون الغافلين من إرسال أولادهم إلى مدارسهم، ويغنونهم عنها بمدرسة

إسلامية ينشئونها لهم، يعلمونهم فيها من علوم المعاش ما يعلمهم هؤلاء المفسدون،

ويزيدون عليهم تعليم عقائد الإسلام وأحكامه وحكمه وآدابه وتاريخه بدلاً من

النصرانية وشؤون أهلها؟ ألا يعلمون أنهم بترك معارضة هؤلاء المحاربين لدينهم

آثمون كلهم؟ وإن هذا الإثم لا يزول إلا بإنشاء مدرسة ينقذون فيها أولادهم من

مدرسة دعاة النصرانية التي ستلقي العداوة بينهم وبين أولادهم، وتقطع صلتهم بهم

في الدنيا والآخرة؟ ؟

وعسى أن يعتبر من يدعون في حضرموت وغيرها من أطراف جزيرة

العرب إلى جعل بلادهم للإنكليز أو تحت حمايتهم، ويفطنوا لما في ذلك من الخطر

على دينهم.

_________

ص: 80

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فتاوى المنار

(الموالد بدعة أم سنة)

(س1) من صاحب الإمضاء في فليمبغ (سومطرة)

من فليمبغ إلى القاهرة في 25 المحرم عام 1332هـ.

جناب الأستاذ مرشد الأمة ورشيدها سيدي محمد رشيد رضا أدام المولى

وجوده. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد

أرجو من فضلكم إجابة السؤال

الآتي على صفحات المنار. ما قول سيدي في قراءة القصص المسماة بالموالد هل هي

سنة أم بدعة؟ ومن أول من فعل ذلك؟ وأي الموالد المتداولة بين أيدينا أحرى بالقراءة

وأحسن؟ فإن كثيرين من رجال المناصب يزعمون أن مولد الديبعي هو أمثل الموالد

وأفضلها وأن روح النبي صلى الله عليه وسلم تحضر عند قراءته خلافًا للموالد

الأخرى. أرجو أن تتفضل بإزالة الإشكال، والجواب على هذا السؤال، ولكم

الفضل أولاً وآخرًا، ودمتم، والسلام.

(طالب الدعاء منكم السيد عقيل بن عبد الله بن عقيل الحبشي) .

(ج) هذه الموالد بدعة بلا نزاع، وأول من ابتدع الاجتماع لقراءة قصة

المولد النبوي أحد ملوك الشراكسة بمصر، وقد شرحنا ما في هذه الاحتفالات التي

يسمونها الموالد بمصر في مجلد السنة الأولى من المنار ثم في غيره من المجلدات.

ولم نطلع على قصة من قصص المولد النبوي الشريف إلا ورأينا فيها كثيرًا من

الأخبار الموضوعة. حتى جمع صديقنا عالم الشام الشيخ جمال الدين القاسمي من

كتب الصحاح والسنن أصح وأمثل ما ورد في ذلك و (شذرة من السيرة النبوية)

وقد طبع في مطبعتنا وصار محبو السنة ومبغضو البدعة يستغنون به عن تلك

القصص المشحونة بالموضوعات والأكاذيب التي يؤثرها الجهال؛ زعما منهم أنها

أكثر تعظيمًا للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد أغناه الله تعالى بفضله العظيم عليه عن

تعظيم غيره له بالكذب في سيرته. ولم نطلع على مولد الديبعي. فإن كان هو

المحدث المشهور فالمرجو أن يكون ما كتبه خاليًا من الموضوعات، وإن لم يخل

من الضعاف التي يتسامحون فيها في ذكر المناقب.

***

قراءة البخاري لطلب النصر في الحرب

(س2) من علي أفندي مهيب (بديوان عموم التلغرافات) بمصر (تأخر)

حضرة الأستاذ الفاضل الشيخ رشيد رضا المحترم.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛ فقد قرأت في الجرائد في الأيام

الأولى للحرب الحاضرة بين الدولة العلية ودول البلقان أن صاحب الفضيلة شيخ

الجامع الأزهر كلف حضرات العلماء بقراءة البخاري أمام القبلة؛ طلبًا للنصر من الله

سبحانه. فهل ورد شيء عن قراءة حديث الرسول صلى الله عليه وسلم أثناء

الحرب طلبًا للنصر؟ ولماذا لم يقرأ كلام الله سبحانه بالأولى إذا كانت التلاوة تغني

عن العمل؟ أرجو الإفادة على صفحات المنار الأغر ولحضرتكم جزيل الشكر.

(ج) جاءنا هذا السؤال في أثناء الحرب الأخيرة فوضعناه بين الأسئلة

الكثيرة ولم يتفق وقوعه بيدنا إلا الآن. وموضوعه يتكرر عند الحرب وغير

الحرب من المصائب كالوباء والقحط.

والجواب: إنه لا يعقل أن يكون قد ورد في الكتاب أو السنة أمر أو ترغيب

بقراءة أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم لطلب النصر أو رفع المصائب، ولا

أن يكون ذلك معروفًا في الصدر الأول. فإن الأحاديث لم تكن مدونة في زمن

الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، وإنما دونت في زمن التابعين، وأول من أمر

بجمعها ونشرها عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ولم يكن التابعون ولا تابعو

التابعين يقرؤونها لتكون قراءتها سببًا للنصر. وإنما فعل ذلك المتأخرون، ولا أدري

في أي زمن أحدثوا ذلك، وما أظن أن أحدًا من أهل العلم يقول إن هذا سنة أو

مأمور به شرعًا، ولعل أقوى ما يمكن أن يقولوه في سببه: إننا نجتمع للدعاء ونقرأ

قبل الدعاء طائفة من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم لما يرجى من تأثيرها

في حضور القلب، والخشوع للرب، الذي يرجى أن يكون سببًا لاستجابة الدعاء.

وعلى هذا يتجه السؤال الثاني وهو: (لماذا لا يقرأ كلام الله سبحانه؟) .

وما أظن أن أحدًا من أهل العلم يقول إن قراءة الحديث أو القرآن في المساجد

بِنِيَّة نصر المحاربين سبب لنصر المحاربين في ميدان القتال، وقد بين الله تعالى

أسباب النصر في كتابه وأمر بها، وأهمها: إعداد ما يستطاع من القوة في كل زمن

والثبات، وذكر المحاربين لله تعالى في قلوبهم عند لقاء العدو، كذكر وعده بإحدى

الحسنيين وثوابه للشهداء، وبألسنتهم كالتكبير فإنه يعلي الهمة ويقوي الأمل والرجاء،

وقد بينا ذلك بالتفصيل غير مرة. وقد ظهر المشركون على المسلمين في أُحُد

وحنين والنبي صلى الله عليه وسلم معهم وأنزل الله تعالى في أحد: {أَوَ لَمَّا

أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ} (آل عمران:

165) ؛ فراجع تفسيرها في المنار أو في الجزء الخامس من التفسير، إن شئت زيادة

الإيضاح والتفصيل.

_________

ص: 111

الكاتب: ابن القيم الجوزية

فصل من‌

‌ كتاب مدارج السالكين

بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

للإمام العلامة الحافظ ابن القيم رحمه الله تعالى

في مشاهد الخلق في المعصية وهي ثلاثة عشر مشهدًا [1] : مشهد الحيوانية

وقضاء الشهوة - ومشهد اقتضاء رسوم الطبيعة ولوازم الخلقة - ومشهد الجبر -

ومشهد القدر - ومشهد الحكمة - ومشهد التوفيق والخذلان - ومشهد التوحيد - ومشهد

الأسماء والصفات - ومشهد الإيمان وتعدد شواهده - ومشهد الرحمة - ومشهد العجز

والضعف - ومشهد الذل والافتقار - ومشهد المحبة والعبودية. فالأربعة الأول

للمنحرفين، والثمانية البواقي لأهل الاستقامة. وأعلاها المشهد العاشر. وهذا

الفصل من أجلِّ فصول الكتاب وأنفعها لكل أحد، وهو حقيق بأن تثنى عليه

الخناصر، ولعلك لا تظفر به في كتاب سواه، إلا ما ذكرناه في كتابنا المسمى بسفر

الهجرتين في طريق السعادتين.

***

فصل

فأما (مشهد الحيوانية وقضاء الشهوة) فمشهد الجهال، الذين لا فرق بينهم

وبين سائر الحيوان إلا في اعتدال القامة ونطق اللسان، ليس همهم إلا مجرد نيل

الشهوة بأي طريق أفضت إليها. فهؤلاء نفوسهم نفوس حيوانية، لم تترق عنها إلى

درجة الإنسانية، فضلاً عن درجة الملائكة. فهؤلاء حالهم أخس من أن تذكر، وهم

في أحوالهم متفاوتون بحسب تفاوت الحيوانات التي هم على أخلاقها وطباعها.

(فمنهم) من نفسه كلبية لو صادف جيفة تشبع ألف كلب لوقع عليها وحماها

من سائر الكلاب، ونبح كل كلب يدنو منها، فلا تقربها الكلاب إلا على كره منه

وغلبة، ولا يسمح لكلب بشيء منها، وهمه شبع بطنه من أي طعام اتفق: ميتة أو

مذكى، خبيث أو طيب، ولا يستحيي من قبيح، إن تحمل عليه يلهث أو تتركه

يلهث، إن أطعمته بصبص بذنبه ودار حولك، وإن منعته هرّك ونبحك.

(ومنهم) من نفسه حمارية لم تخلق إلا للكد والعلف، كلما زيد في علفه زيد

في كده، أبكم الحيوان وأقله بصيرة. ولهذا مثل الله سبحانه وتعالى به من حمله

كتابه فلم يعرفه معرفة ولا فقهًا ولا عملاً. ومثل بالكلب عالم السوء الذي آتاه الله

آياته فانسلخ منها وأخلد إلى الأرض واتبع هواه. وفي هذين المثلين أسرار عظيمة

ليس هذا موضع ذكرها.

(ومنهم) من نفسه سَبُعية غَضَبية، همته العدوان على الناس وقهرهم بما

وصلت إليه قدرته، طبيعته تتقاضى ذلك كتقاضي طبيعة السبع لما يصدر منه.

(ومنهم) من نفسه فاريَّة، فاسق بطبعه، مفسد لما جاوره، تسبيحه بلسان

الحال: سبحان من خلقه للفساد.

(ومنهم) من نفسه على نفوس ذوات السموم والحمات، كالحية والعقرب

وغيرهما، وهذا الضرب هو الذي يؤذي بعينه فيدخل الرجل القبر، والجَمَل القِدْر،

والعين وحدها لم تفعل شيئًا وإنما النفس الخبيثة السمية تكيفت بكيفية غضبية مع

شدة حسد وإعجاب، وقابلت المعين على غرة منه وغفلة، وهو أعزل من سلاحه،

فلدغته، كالحية التي تنظر إلى موضع مكشوف من بدن الإنسان فتنهشه، فإما

عطب وإما أذى. ولهذا لا يتوقف أذى العائن على الرؤية والمشاهدة، بل إذا

وصف له الشيء الغائب عنه وصل إليه أذاه. والذنب لجهل المعين وغفلته وغرته

عن حمل سلاحه كل وقت. فالعائن لا يؤثر في شاكي السلاح، كالحية إذا قابلت

درعًا سابغًا على جميع البدن ليس فيه موضع مكشوف، فحق على من أراد حفظ

نفسه وحمايتها أن لا يزال متدرعًا متحصنًا، لابسًا أداة الحرب، مواظبًا على أوراد

التعوذات والتحصينات النبوية التي في السنة والتي في القرآن [2] .

وعلى هذا الشبه اعتماد أهل التعبير للرؤيا في رؤية هذه الحيوانات في المنام

عند الإنسان وفي داره أو أنها تحاربه. وهو كما اعتمدوه. وقد وقع لنا ولغيرنا من

ذلك في المنام وقائع كثيرة. فكان تأويلها مطابقًا لأقوام على طباع تلك الحيوانات.

وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم في قصة أحد بقرًا تنحر، فكان ما أصيب من

المؤمنين بنحر الكفار، فإن البقر أنفع الحيوان للأرض وبها صلاحها وفلاحها مع ما

فيها من السكينة والمنافع والذِّل (بكسر الذال) فإنها ذلول مذللة منقادة غير أبية،

والجواميس كبارهم ورؤساؤهم [3] ورأى عمر بن الخطاب كأن ديكًا نقره ثلاث

نقرات، فكان طعن أبي لؤلؤة له. والديك رجل أعجمي شرير.

ومن الناس من طبعه طبع خنزير يمر بالطيبات فلا يلوي عليها، فإذا قام

الإنسان عن رَجِيعة قَمَّه. وهكذا كثير من الناس يسمع منك ويرى من المحاسن

أضعاف أضعاف المساوي، فلا يحفظها ولا ينقلها ولا تناسبه، فإذا رأى سقطة أو

كلمة عوراء وجد بغيته وما يناسبها فجعلها فاكهته ونُقْلَه.

(ومنهم) من هو على طبيعة الطاووس ليس له إلا التطوس والتزين بالريش

وما وراء ذلك شيء، ومنهم من هو على طبيعة الجمل أحقد الحيوان وأغلظه كبدًا.

(ومنهم) من هو على طبيعة الدب أبكم خبيث، وعلى طبيعة القرد [4] .

أحمد طبائع الحيوانات طبائع الخيل التي هي أشرف الحيوانات نفوسًا وأكرمها

طبعًا، وكذلك الغنم، وكل من ألف ضربًا من ضروب هذه الحيوانات اكتسب من

طبعه وخلقه، فإن تغذى لحمه كان الشبه أقوى. فإن الغاذي شبيه بالمتغذي [5] .

ولهذا حرم الله أكل لحوم السباع وجوارح الطير لما يورث آكله [6] من شبه نفوسها

بها والله أعلم. والمقصود أن أصحاب هذا المشهد ليس لهم شهود سوى ميل نفوسهم

وشهواتهم لا يعرفون ما وراء ذلك ألبتة.

***

فصل

المشهد الثاني: مشهد رسوم الطبيعة ولوازم الخلقة

كمشهد زنادقة الفلاسفة والأطباء الذين يشهدون أن ذلك من لوازم الخلقة

والطبيعة الإنسانية، وأن تركيب الإنسان من الطبائع الأربع وامتزاجها واختلاطها

كما يقتضي بغي بعضها على بعض وخروجه عن الاعتدال بحسب اختلاف هذه

الأخلاط، فكذلك تركيبه من البدن والنفس والطبيعة والأخلاط الحيوانية يتقاضاه إثر

هذه الخلقة ورسوم تلك الطبيعة، ولا تنقهر إلا بقاهر إما من نفسه وإما من خارج

عنه. وأكثر النوع الإنساني ليس له قاهر من نفسه، فاحتياجه إلى قاهر فوقه يدخله

تحت سياسة وإيالة ينتظم بها أمره ضرورية [7] كحاجته إلى مصالحه من الطعام

والشراب واللباس. وعند هؤلاء أن العاقل متى كان له وازع - من نفسه - قاهر لم

يحتج إلى أمر غيره ونهيه وضبطه [8] . فمشهد هؤلاء من حركات النفس الاختيارية

الموجبة للجنايات، كمشهدهم من حركات الطبيعة الاضطرارية الموجبة للتغيرات [9]

وليس لهم مشهد وراء ذلك.

***

فصل

المشهد الثالث: مشهد أصحاب الجبر

وهم الذين يشهدون أنهم مجبورون على أفعالهم، وأنها واقعة بغير قدرتهم،

بل لا يشهدون أنها أفعالهم ألبتة. ويقولون: إن أحدهم غير فاعل في الحقيقة ولا

قادر، وإن الفاعل فيه غيره والمحرك له سواه، وإنه آلة محضة، وحركاته بمنزلة

هبوب الرياح وحركات الأشجار، وهؤلاء إذا أنكرت عليهم أفعالهم احتجوا بالقدر

وحملوا ذنوبهم عليه، وقد يغلون في ذلك حتى يروا أفعالهم كلها طاعات خيرها

وشرها، لموافقته للمشيئة والقدر. ويقولون: كما أن موافقة الأمر طاعة، فموافقة

المشيئة طاعة. كما حكى الله تعالى عن المشركين إخوانهم أنهم جعلوا مشيئة الله

تعالى لأفعالهم دليلاً على أمره بها ورضاه.

وهؤلاء شر من القدرية النفاة، وأشد عداوة لله، ومناقضة لكتبه ورسله ودينه،

حتى إن من هؤلاء من يعتذر عن إبليس ويتوجع له ويقيم عذره بجهده، وينسب

ربه تعالى إلى ظلمه بلسان الحال والمقال، ويقول: ما ذنبه وقد صان وجهه عن

السجود لغير خالقه؟ وقد وافق حكمه ومشيئته فيه وإرادته منه؟ ثم كيف يمكنه

السجود وهو الذي منعه منه وحال بينه وبينه؟ وهل كان في ترك السجود لغير الله

إلا محسنًا؟ ولكن:

إذا كان المحب قليل حظ

فما حسناته إلا ذنوب

وهؤلاء أعداء الله حقًّا، وأولياء إبليس وأحباؤه وإخوانه. وإذا ناح منهم نائح

على إبليس رأيت من البكاء والحنين أمرًا عجيبًا، ورأيت من تظلم الأقدار، واتهام

الجبار، ما يبدو على فلتات ألسنتهم وصفحات وجوههم، وتسمع من أحدهم من

التظلم والتوجع ما تسمعه من الخصم المغلوب العاجز عن خصمه. فهؤلاء هم الذين

قال فيهم شيخ الإسلام ابن تيمية في تائيته:

ويدعى خصوم الله يوم معادهم

إلى النار طرًّا فرقة القدرية

***

فصل

المشهد الرابع: مشهد القدرية النفاة

ويشهدون أن هذه الجنايات والذنوب هم الذين أحدثوها، وأنها واقعة بمشيئتهم

دون مشيئة الله تعالى، وأن الله لم يقدر ذلك عليهم ولم يكتبه ولا شاءه ولا خلق

أفعالهم، وأنه لأي قدر أن يهدي أحدًا ولا يضله إلا بمجرد البيان، إلا أنّه يلهمه

الهدى والضلال، والفجور والتقوى، فيجعل ذلك في قلبه، ويشهدون أنه يكون في

ملك الله ما لا يشاؤه، وأنه يشاء ما لا يكون، وأن العباد خالقون لأفعالهم بدون مشيئة

الله. فالمعاصي والذنوب خلقهم وموجب مشيئتهم، لا أنها خلق الله ولا تتعلق

بمشيئته. وهم لذلك مبخوسو الحظ جدًّا من الاستعانة بالله والتوكل عليه والاعتصام

به، وسؤاله أن يهديهم، وأن يثبت قلوبهم وأن لا يزيغها، وأن يوفقهم لمرضاته

ويجنبهم معصيته؛ إذ هذا كله واقع بهم وعين أفعالهم لا يدخل تحت مشيئة الرب.

والشيطان قد رضي منهم بهذا القدر، فلا يؤزّهم إلى المعاصي ذلك الأزّ، ولا

يزعجهم إليها ذلك الإزعاج. وله في ذلك غرضان مهمان:

(أحدهما) أن يقرر في قلوبهم صحة هذا المشهد وهذه العقيدة، وأنكم

تاركون الذنوب [10] والكبائر التي يقع فيها أهل السنة. فدل على أن الأمر مفوض

إليكم، واقع بكم، وأنكم العاصمون لأنفسكم المانعون لها من المعصية.

(الغرض الثاني) أنه يصطاد على أيديهم الجهال، فإذا رأوهم أهل عبادة

وزهادة وتورع عن المعاصي وتعظيم لها قالوا: هؤلاء هم أهل الحق. والبدعة آثر

عنده وأحب إليه من المعصية، فإذا ظفر بها منهم، واصطاد الجهال على أيديهم،

كيف يأمرهم بالمعصية؟ بل ينهاهم عنها ويقبحها في أعينهم وقلوبهم، ولا يكشف

هذه الحقائق إلا أرباب البصائر.

***

فصل

المشهد الخامس وهو أحد مشاهد أهل الاستقامة: مشهد الحكمة

وهو مشهد حكمة الله في تقديره على عبده ما يبغضه سبحانه ويكرهه، ويلوم

ويعاقب عليه، وأنه لو شاء لعصمه منه، ولحال بينه وبينه، وأنه سبحانه لا

يعصى قسرًا، وأنه لا يكون في العالم شيء إلا بمشيئته {أَلَا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ

تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ العَالَمِينَ} (الأعراف: 54) .

وهؤلاء يشهدون أن الله سبحانه لم يخلق شيئًا عبثًا ولا سدًى، وأنه له الحكمة

البالغة في كل ما قدره وقضاه من خير وشر، وطاعة ومعصية، وحكمة باهرة

تعجز العقول عن الإحاطة بكنهها، وتكلّ الألسن عن التعبير عنها، فمصدر قضائه

وقدره لما يبغضه ويسخطه اسمه الحكيم الذي بهرت حكمته الألباب، وقد قال تعالى

لملائكته لما قالوا: {َتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ

وَنُقَدِّسُ لَكَ} (البقرة: 30) ؛ فأجابهم سبحانه بقوله: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (البقرة: 30) ، فللَّه سبحانه في ظهور المعاصي والذنوب والجرائم وترتب

آثارها من الآيات والحكم، وأنواع التعرفات إلى خلقه، وتنويع آياته، ودلائل

ربوبيته ووحدانيته، وإلهيته وحكمته وعزته، وتمام ملكه وكمال قدرته، وإحاطة

علمه، ما يشهده أولو البصائر عيانًا ببصائر قلوبهم {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً

سُبْحَانَكَ} (آل عمران: 191) ؛ إن هي إلا حكمتك الباهرة وآياتك الظاهرة.

ولله في كل تحريكة

وتسكينة أبدًا شاهد

وفي كل شيء له آية

تدل على أنه واحد

فكم من آية في الأرض بينة دالة على الله وعلى صدق رسله وعلى أن لقاءه

حق، كان سببها معاصي بني آدم وذنوبهم، كآيته في إغراق قوم نوح، وعلوّ الماء

على رؤوس الجبال، حتى أغرق جميع أهل الأرض، ونجى أولياءه وأهل معرفته

وتوحيده. فكم في ذلك من آية وعبرة، ودلالة باقية على ممر الدهور؟ وكذلك

إهلاك قوم عاد وثمود. وكم له من آية في فرعون وقومه من حين بعث موسى إليهم؟

بل قبل مبعثه إلى حين إغراقهم، لولا معاصيهم وكفرهم لم تظهر تلك الآيات

والعجائب. وفي التوراة أن الله تعالى قال لموسى: اذهب إلى فرعون فإني سأقسِّي

قلبه وأمنعه عن [11] الإيمان لأظهر آياتي وعجائبي بمصر. وكذلك فعل سبحانه

فأظهر من آياته وعجائبه بسبب ذنوب فرعون وقومه ما أظهر. وكذلك إظهاره

سبحانه ما أظهر من جعل النار بردًا وسلامًا على إبراهيم، بسبب ذنوب قومه

ومعاصيهم، وإلقائهم في النار، حتى صارت تلك آية، وحتى نال إبراهيم ما نال

من كمال الخلة.

وكذلك ما حصل للرسل من الكرامة والمنزلة والزلفى عند الله والوجاهة عنده

بسبب صبرهم على أذى قومهم وعلى محاربتهم لهم ومعاداتهم. وكذلك اتخاذ الله

تعالى الشهداء والأولياء والأصفياء من بني آدم، بسبب صبرهم على أذى بني آدم

من أهل المعاصي والظلم ومجاهدتهم في الله، وتحملهم لأجله من أعدائه ما هو

بعينه وعلمه، واستحقاقهم بذلك رفعة الدرجات. إلى غير ذلك من المصالح والحكم

التي وجدت بسبب ظهور المعاصي والجرائم، وكان من سببها تقدير ما يبغضه الله

ويسخطه، وكان ذلك محض الحكمة، لما يترتب عليه مما هو أحب إليه وآثر عنده

من فوته بتقدير عدم المعصية. فحصول هذا المحبوب العظيم، أحب إليه من فوات

ذلك المبغوض المسخوط، فإن فواته وعدمه وإن كان محبوبًا له؛ لكن حصول هذا

المحبوب الذي لم يكن يحصل بدون وجود ذلك المبغوض أحب إليه، فوات هذا

المحبوب أكره إليه من فوات ذلك المكروه المسخوط، وكمال حكمته تقتضي

حصول أحب الأمرين إليه بفوات أدنى المحبوبين، وأن لا يعطل هذا الأحب

بتعطيل ذلك المكروه. وفرض الذهن وجود هذا بدون هذا، كفرضه وجود

المسببات بدون أسبابها، والملزومات بدون لوازمها، مما تمنعه حكمة الله وكمال

قدرته وربوبيته.

ويكفي من هذا مثال واحد وهو أنه لولا المعصية من أبي البشر بأكله من

الشجرة لما ترتب على ذلك ما ترتب من وجود هذه المحبوبات العظام للرب تعالى،

من امتحان خلقه وتكليفهم، وإرسال رسله، وإنزال كتبه، وإظهار آياته وعجائبه،

وتنويعها وتصريفها، وإكرام أوليائه، وإهانة أعدائه، وظهور عدله وفضله،

وعزته وانتقامه، وعفوه ومغفرته، وصفحه وحلمه، وظهور من يعبده ويحبه

ويقوم بمراضيه بين أعدائه في دار الابتلاء والامتحان. فلو قدر أن آدم لم يأكل من

الشجرة ولم يخرج من الجنة هو وأولاده؛ لم يكن شيء من تلك، ولا ظهر من القوة

إلى الفعل ما كان كامنًا في قلب إبليس يعلمه الله ولا تعلمه الملائكة، ولم يتميز

خبيث الخلق من طيبه، ولم تتم المملكة حيث لم يكن هناك إكرام وثواب، وعقوبة

وإهانة، ودار سعادة وفضل، ودار شقاوة وعدل.

وكم في تسليط أوليائه على أعدائه، وتسليط أعدائه على أوليائه، والجمع

بينهما في دار واحدة، وابتلاء بعضهم ببعض، من حكمة بالغة، ونعمة سابغة؟

وكم في طيها من حصول محبوب للرب، وحمد لله من أهل سماواته وأرضه،

وخضوع له وتذلل، وتعبد وخشية وافتقار إليه، وانكسار بين يديه؟ أن لا يجعلهم

من أعدائه، إذ هم يشاهدونهم ويشاهدون خذلان الله لهم، وإعراضه عنهم، ومقته

لهم، وما أعد لهم من العذاب. وكل ذلك بمشيئته وإرادته، وتصرفه في مملكته،

فأولياؤه من خشية خذلانه خاضعون مشفقون، على أشد وجل وأعظم مخافة، وأتم

انكسار. فإذا رأت الملائكة إبليس وما جرى له، وهاروت وماروت، وضعت

رؤوسها بين يدي الرب خضوعًا لعظمته، واستكانة لعزته، وخشية من إبعاده

وطرده، وتذللاً لهيبته، وافتقارًا إلى عصمته ورحمته، وعلمت بذلك منته عليهم،

وإحسانه إليهم، وتخصيصه لهم بفضله وكرامته.

وكذلك أولياؤه المتقون، إذا شاهدوا أحوال أعدائه ومقته لهم، وغضبه عليهم،

وخذلانه لهم، ازدادوا له خضوعًا وذلاًّ، وافتقارًا وانكسارًا، وبه استعانةً، وإليه

إنابةً، وعليه توكلاً، وفيه رغبةً، ومنه رهبةً، وعلموا أنهم لا ملجأ لهم منه إلا

إليه، وأنهم لا يعيذهم من بأسه إلا هو، ولا ينجيهم من سخطه إلا مرضاته،

فالفضل بيده أولاً وآخرًا.

وهذه قطرة من بحر حكمته المحيطة بخلقه. والبصير يطالع ببصيرته ما

وراءه فيطلعه على عجائب من حكمته لا تبلغها العبارة، ولا تنالها الصفة. وأما

حظ العبد في نفسه وما يخصه من شهود هذه الحكمة فبحسب استعداده وقوة بصيرته،

وكمال علمه ومعرفته بالله وأسمائه وصفاته، ومعرفته بحقوق العبودية والربوبية،

وكل مؤمن له من ذلك شِرْبٌ معلوم، ومقام لا يتعداه ولا يتخطاه [12] .

***

فصل

المشهد السادس: مشهد التوحيد

وهو أن يشهد انفراد الرب تبارك وتعالى بالخلق والحكم، وأنه ما شاء كان

وما لم يشأ لم يكن، وأنه لا تتحرك ذرة إلا بإذنه، وأن الخلق مقهورون تحت

قبضته، وأنه ما من قلب إلا وهو بين أصابعه، إن شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاء

أن يزيغه أزاغه. فالقلوب بيده وهو مقلبها ومصرفها كيف شاء وكيف أراد، وأنه

هو الذي آتى نفوس المؤمنين تقواها، وهو الذي هداها وزكاها، وألهم نفوس

الفجار فجورها وأشقاها (من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له) يهدي

من يشاء بفضله ورحمته، ويضل من يشاء بعدله وحكمته. هذا فضله وعطاؤه، وما

فضل الكريم بممنون [13] وهذا عدله وقضاؤه {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (الأنبياء: 23) .

قال ابن عباس: الإيمان بالقدر نظام التوحيد، فمن كذب بالقدر نقض تكذيبه

توحيده، ومن آمن بالقدر صدق إيمانه توحيده. وفي هذا المشهد يتحقق للعبد مقام:

{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) ، علمًا وحالاً، فيثبت قدم العبد في

توحيده [14] الربوبية، ثم يرقى منه صاعدًا إلى توحيد الإلهية، فإنه إذا تيقن أن

الضر والنفع، والعطاء والمنع، والهدى والضلال، والسعادة والشقاء، كل ذلك بيد

الله لا بيد غيره، وأنه الذي يقلب القلوب ويصرفها كيف يشاء، وأنه لا موفق إلا

من وفقه وأعانه، ولا مخذول إلا من خذله وأهانه وتخلى عنه، وإن أصح القلوب

وأسلمها وأقومها، وأرقها وأصفاها، وأشدها وألينها، من اتخذه وحده إلهًا ومعبودًا،

فكان أحب إليه من كل ما سواه، وأخوف عنده من كل ما سواه، وأرجى له من كل

ما سواه، فتتقدم محبته في قلبه جميع المحاب، فتنساق المحاب تبعًا لها كما ينساق

الجيش تبعًا للسلطان، ويتقدم خوفه في قلبه جميع المخوفات، فتنساق المخاوف كلها

تبعًا لخوفه، ويتقدم رجاؤه في قلبه جميع الرجاء، فينساق كل رجاء تبعًا لرجائه.

فهذا علامة توحيد الإلهية في هذا القلب، والباب الذي دخل إليه منه توحيد

الربوبية، أي باب توحيد الإلهية توحيد الربوبية [15] فإن أول ما يتعلق القلب [16]

بتوحيد الربوبية ثم يرتقي إلى توحيد الإلهية، كما يدعو سبحانه عباده في كتابه بهذا

النوع من التوحيد إلى النوع الآخر، ويحتج عليهم به، ويقررهم به، ثم يخبر أنهم

ينقضونه بشركهم به في الإلهية.

وفي هذا المشهد يتحقق له مقام (إياك نعبد) قال الله تعالى: {وَلَئِن سَألْتَهُم

مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} (العنكبوت: 61) ؛ أي فمن أين يصرفون عن شهادة أن لا إله إلا الله، وعن

عبادته وحده، وهم يشهدون أنه لا رب غيره ولا خالق سواه [17] وكذلك قوله تعالى:

{سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (المؤمنون: 85) ؛ فتعلمون أنه إذا كان

وحده مالك الأرض ومن فيها، وخالقهم وربهم ومليكهم، فهو وحده إلههم ومعبودهم،

فكما لا رب لهم غيره، فهكذا لا إله لهم سواه {قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ

العَرْشِ العَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ

يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ} (المؤمنون: 86-88)

الآيات. وهكذا قوله في سورة

النمل: {قُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ *

أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ

مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} (النمل: 59-60) ،

إلى آخر الآيات، يحتج عليهم بأن من فعل هذا وحده، فهو الإله وحده، فإن كان

معه رب فعل هذا فينبغي أن تعبدوه، وإن لم يكن معه رب فعل هذا فكيف تجعلون

معه إلهًا آخر؟

ولهذا كان الصحيح من القولين في تقدير الآية: (أإله مع الله فعل هذا؟) حتى

يتم الدليل، فلا بد من الجواب بلا. فإذا لم يكن معه إله فعل كفعله فكيف تعبدون

آلهة أخرى سواه؟ فعلم أن إلهية ما سواه باطلة، كما أن ربوبية ما سواه باطلة

بإقراركم وشهادتكم. ومن قال: المعنى: هل مع الله إله آخر؟ من غير أن يكون

المعنى (فعل) فقوله ضعيف لوجهين: (أحدهما) أنهم كانوا يقولون: مع الله إلهة

أخرى، ولا ينكرون ذلك (الثاني) أنه لا يتم الدليل، ولا يحصل إفحامهم وإقامة

الحجة عليهم إلا بهذا التقدير؛ أي فإذا كنتم تقولون: إنه ليس معه إله آخر فعل مثل

فعله، فكيف تجعلون معه إلهًا آخر لا يخلق شيئًا وهو إعجاز؟ وهذا كقوله: {أَمْ

جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ

الوَاحِدُ القَهَّارُ} (الرعد: 16) . وقوله: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ

مِن دُونِهِ} (لقمان: 11) . وقوله: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لَاّ يَخْلُقُ} (النحل:

17) . وقوله: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} (النحل: 20)، وقوله:{وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} (الفرقان: 3) ، وهو كثير في القرآن وبه تتم الحجة كما تبين.

والمقصود أن العبد يحصل له هذا المشهد من مطالعة الجنايات والذنوب

وجريانها عليه وعلى الخليقة بتقدير العزيز الحكيم، وأنه لا عاصم من غضبه

وأسباب سخطه إلا هو، ولا سبيل إلى طاعته إلا بمعونته، ولا وصول إلى

مرضاته إلا بتوفيقه، فموارد الأمور كلها منه ومصادرها إليه، وأزِمَّة التوفيق

جميعها بيديه، فلا مستعان للعباد إلا به، ولا متكل إلا عليه [18] كما قال شعيب

خطيب الأنبياء: {وَمَا تَوْفِيقِي إلَاّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (هود: 88) .

***

فصل

المشهد السابع: مشهد التوفيق والخذلان

وهو من تمام هذا المشهد وفروعه، ولكن أفرد بالذكر لحاجة العبد إلى شهوده

وانتفاعه به. وقد أجمع العارفون بالله أن التوفيق هو أن لا يكلك الله إلى نفسك [19] ،

والخذلان هو أن يخلي بينك وبين نفسك. فالعبيد متقلبون بين توفيقه وخذلانه، بل

العبد في الساعة الواحدة ينال نصيبه من هذا وهذا، فيطيعه ويرضيه ويذكره ويشكره

بتوفيقه له، ثم يعصيه ويخالفه ويسخطه ويغفل عنه بخذلانه له. فهو دائر بين

توفيقه وخذلانه، فإن وفقه فبفضله ورحمته، وإن خذله فبعدله وحكمته، وهو

المحمود على هذا وهذا، له أتم حمد وأكمله، ولم يمنع العبد شيئًا هو له، وإنما

منعه ما هو مجرد فضله وعطائه، وهو أعلم حيث يضعه وأين يجعله. فمتى شهد

العبد هذا المشهد وأعطاه حقه، علم ضرورته وحاجته إلى التوفيق كل نفس وكل

لحظة وطرفة عين، وإن إيمانه وتوحيده بيده تعالى [20] لو تخلى عنه طرفة عين

لثُلَّ عرش توحيده، ولخرت سماء إيمانه على الأرض، وإن الممسك له من يمسك

السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه. فهجّيرَى قلبه [21] ودأب لسانه: (يا مقلّب

القلوب ثبت قلبي على دينك، يا مصرّف القلوب صرّف قلبي إلى طاعتك) ودعواه:

(يا حيّ يا قيوم يا بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام، لا إله إلا أنت

برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا إلى

أحد من خلقك) ، ففي هذا المشهد يشهد توفيق الله وخذلانه، كما يشهد ربوبيته

وخلقه، فيسأله توفيقه مسألة المضطر، ويعوذ به من خذلانه عياذ الملهوف، ويُلقي

نفسه بين يديه، طريحًا ببابه، مستسلمًا له، ناكس الرأس بين يديه، خاضعًا ذليلاً

مستكينًا، لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا، ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا.

والتوفيق إرادة الله من نفسه أن يفعل بعبده ما يصلح به العبد، بأن يجعله

قادرًا على فعل ما يرضيه، مريدًا له، محبًّا له، مؤثرًا له على غيره، ويبغض

إليه ما يسخطه ويكرهه إليه. وهذا مجرد فعله، والعبد محل له، قال تعالى:

{وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إلَيْكُمُ

الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إلَيْكُمُ الكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ*

فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (الحجرات: 7-8) . فهو سبحانه عليم

بمن يصلح لهذا الفضل ومن لا يصلح له، حكيم يضعه في مواضعه وعند أهله، لا

يمنعه أهله، ولا يضعه عند غير أهله. وذكر هذا عقيب قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ

رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} (الحجرات: 7) ، ثم جاء به [22]

بحرف الاستدراك فقال: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إلَيْكُمُ الإِيمَانَ} (الحجرات: 7) ؛

يقول سبحانه: لم تكن محبتكم للإيمان وإرادته وتزيينه في قلوبكم منكم، ولكن الله

هو الذي جعله في قلوبكم كذلك فآثرتموه ورضيتموه؛ فلذلك لا تقدموا بين يدي رسولي

ولا تقولوا حتى يقول ولا تفعلوا حتى يأمر. فالذي حبب إليكم الإيمان أعلم

بمصالح عباده منكم، وأنتم فلولا توفيقه لكم [23] لما أذعنت نفوسكم للإيمان، فلم يكن

الإيمان بمشورتكم وتوفيق أنفسكم، ولا تقدمتم به إليها، فنفوسكم تقصر وتعجز عن

ذلك ولا تبلغه، فلو أطاعكم رسولي في كثير مما تريدون لشق عليكم ذلك، ولهلكتم

وفسدت مصالحكم وأنتم لا تشعرون، ولا تظنوا أن نفوسكم تريد بكم الرشد

والصلاح، كما أردتم الإيمان، فلولا أني حببته إليكم وزينته في قلوبكم، وكرهت

إليكم ضده، لما وقع منكم ولا سمحت به أنفسكم.

وقد ضرب للتوفيق والخذلان مثلُ مَلِك أَرسل إلى أهل بلد من بلاده رسولا؛

وكتب معه [24] كتابًا يعلمهم أن العدو مصبحهم عن قريب، ومجتاحهم ومخرب البلد

ومهلك من فيها، وأرسل إليهم أموالاً ومراكبَ وزادًا وعدةً وأدلةً، وقال: ارتحلوا

إليّ مع هؤلاء الأدلة، وقد أرسلت إليكم جميع ما تحتاجون إليه. ثم قال لجماعة من

مماليكه: اذهبوا إلى فلان فخذوا بيده واحملوه [25] ولا تذروه يقعد، واذهبوا إلى

فلان كذلك وإلى فلان، وذروا من عداهم فإنهم لا يصلحون أن يساكنوني في بلدي.

فذهب خواص مماليكه إلى من أمروا بحملهم فلم يتركوهم يقرون، بل حملوهم حملاً

وساقوهم سوقًا إلى الملك، فاجتاح العدو من بقي في المدينة وقتلهم، وأسر من أسر.

فهل يعد الملك ظالمًا لهؤلاء أم عادلاً فيهم؟ نعم؛ خَصّ أولئك بإحسانه وعنايته

وحرمها من عداهم؛ إذ لا يجب عليه التسوية بينهم في فضله وإكرامه، بل ذلك

فضله يؤتيه من يشاء.

وقد فسرت القدرية الجبرية التوفيق بأنه خلق الطاعة، والخذلان (بأنه) خلق

المعصية. ولكن بنوا ذلك على أصولهم الفاسدة من إنكار الأسباب والحكم، وردوا

الأمر إلى محض المشيئة من غير سبب ولا حكمة. وقابلهم القدرية النفاة، ففسروا

التوفيق بالبيان العام، والهدي العام، والتمكن من الطاعة والإقبال عليها وتهيئة

أسبابها. وهذا حاصل لكل كافر ومشرك بلغته الحجة وتمكن من الإيمان. فالتوفيق

عندهم أمر مشترك بين الكفار والمؤمنين، إذ الأقدار والتمكين والدلالة والبيان قد

عمّ به الفريقين [26] ولم يفرد المؤمنين عندهم بتوفيق وقع به الإيمان منهم، والكفار

بخذلان امتنع به الإيمان منهم، ولو فعل ذلك لكان عندهم محاباة وظلمًا. والتزموا

لهذا الأصل لوازم قامت بها عليهم سوق الشناعة بين العقلاء ولم يجدوا بدًّا من

التزامها، فظهر فساد مذهبهم، وتناقض أقوالهم [27] لمن أحاط به علمًا وتصوره

حق تصوره، وعلم أنه من أبطل مذهب (؟) في العالم وأرداه.

وهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، والله يهدي من يشاء

إلى صراط مستقيم. فلم يرضوا بطريق هؤلاء ولا طريق هؤلاء، وشهدوا انحراف

الطريقين عن الصراط المستقيم، فأثبتوا القضاء والقدر وعموم مشيئة الله للكائنات

وأثبتوا الأسباب والحكم والغايات والمصالح، ونزهوا الله عز وجل أن يكون في

ملكه ما لا يشاء، أو أن يقدر خلقه على ما لا يدخل تحت قدرته ولا مشيئته، أو أن

يكون شيء من أفعالهم واقعًا بغير اختياره وبدون مشيئته. ومن قال ذلك فلم يعرف

ربه، ولم يثبت له كمال الربوبية. ونزهوه مع ذلك عن العبث وفعل القبيح وأن

يخلق شيئًا سدًى، وأن تخلو أفعاله عن حِكَم بالغة لأجلها أوجدها، وأسباب بها

سبّبها، وغايات جعلت طرقًا ووسائل إليها. وأن له في كل ما خلقه وقضاه حكمة

بالغة. وتلك الحكمة صفة له قائمة به ليست مخلوقة كما تقول القدرية النفاة للقدر

والحكمة في الحقيقة.

فأهل الصراط المستقيم بريئون من الطائفتين، إلا من حق تتضمنه مقالاتهم،

فإنهم يوافقونهم عليه ويجمعون حق كل منهما إلى حق الأخرى، ولا يبطلون ما

معهم من الحق لِمَا قالوه من الباطل، فهم شهداء الله على الطوائف أمناء عليهم،

حكام بينهم، حاكمون عليهم، ولا يحكم عليهم أحد منهم، يكشفون أحوال الطوائف،

ولا يكشفهم إلا من كشف له عن معرفة ما جاء به الرسول [28] وعرف الفرق بينه

وبين غيره ولم يلتبس عليه، وهؤلاء أفراد العالم ونخبته وخلاصته، ليسوا من

الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا، ولا من الذين تقطعوا أمرهم بينهم زبرًا، بل ممن

هو على بينة من ربه وبصيرة في إيمانه، ومعرفة بما عند الناس، والله الموفق.

***

فصل

المشهد الثامن: مشهد الأسماء والصفات

وهو من أجلّ المشاهد، وهو أعلى مما قبله وأوسع. والمطلع [29] على هذا

المشهد معرفة تعلق الوجود خلقًا وأمرًا بالأسماء الحسنى، والصفات العلى،

وارتباطه بها، وإن كان العالم بما فيه من بعض آثارها ومقتضياتها. وهذا من أجل

المعارف وأشرفها، وكل اسم من أسمائه سبحانه له صفة خاصة، فإن أسماءه

أوصاف مدح وكمال، وكل صفة لها مقتضٍ وفِعل: إما لازم وإما متعدٍّ، ولذلك

الفعل تعلق بمفعول هو من لوازمه، وهذا في خلقه وأمره وثوابه وعقابه، كل ذلك

آثار الأسماء الحسنى وموجباتها. ومن المحال تعطيل أسمائه عن أوصافها ومعانيها،

وتعطيل الأوصاف عما تقتضيه وتستدعيه من الأفعال، وتعطيل الأفعال عن

المفعولات، كما أنه يستحيل تعطيل مفعوله عن أفعاله، وأفعاله عن صفاته،

وصفاته عن أسمائه، وتعطيل أسمائه وأوصافه عن ذاته.

وإذا كانت أوصافه صفات كمال، وأفعاله حكمًا ومصالحَ، وأسماؤه حسنى،

ففرض تعطيلها عن موجباتها مستحيل في حقه. ولهذا ينكر سبحانه على من عطله

عن أمره ونهيه وثوابه وعقابه، وأنه نسبه إلى ما لا يليق به، ويتنزه عنه [30] وأن

ذلك حكم سيئ ممن حكم به عليه، وإن من نسبه إلى ذلك فما قدره حق قدره، ولا

عظمه حق تعظيمه، كما قال تعالى في حق منكري النبوة وإرسال الرسل وإنزال

الكتب: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} (الأنعام: 91)، وقال تعالى في حق منكري المعاد والثواب والعقاب: {وَمَا قَدَرُوا

اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (الزمر: 67) . وقال في حق من جوز عليه التسوية بين المختلفين كالأبرار

والفجار، والمؤمنين والكفار: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ

كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (الجاثية:

21) . فأخبر أن هذا حكم سيئ لا يليق به، تأباه أسماؤه وصفاته، وقال سبحانه:

{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ المَلِكُ الحَقُّ لَا إِلَهَ

إلا َّ هُوَ رَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ} (المؤمنون: 115-116) ، عن هذا الظن

والحسبان، الذي تأباه أسماؤه وصفاته.

ونظائر هذا في القرآن كثير، ينفي عن نفسه خلاف موجب أسمائه وصفاته،

إذ ذلك [31] مستلزم تعطيلها عن كمالها ومقتضياتها، فاسمه الحميد المجيد يمنع ترك

الإنسان سدًى مهملاً معطلاً، لا يؤمر ولا ينهى ولا يثاب ولا يعاقب، وكذلك اسمه

الحكيم، يأبى ذلك، وكذلك اسمه الملك، واسمه الحي يمنع أن يكون معطلاً من

الفعل بل حقيقة الحياة الفعل، فكل حيّ فعّال، وكونه سبحانه خالقًا قيومًا من

موجبات حياته ومقتضياتها، واسمه السميع البصير يوجب مسموعًا ومرئيًّا، واسمه

الخالق يقتضي مخلوقًا. وكذلك الرزاق. واسمه الملك يقتضي مملكةً وتصرفًا

وتدبيرًا وإعطاءً ومنعًا وإحسانًا وعدلاً وثوابًا وعقابًا. واسم البر المحسن المعطي

المنان ونحوها تقتضي آثارها وموجباتها.

إذا عرف هذا فمن أسمائه سبحانه الغفار التواب العفو [32] فلا بد لهذه الأسماء

من متعلقات، ولا بد من جناية تغفر، وتوبة تقبل، وجرائم يعفى عنها. ولا بد

لاسمه الحكيم من متعلق يظهر فيه حكمه [33] إذ اقتضاء هذه الأسماء لآثارها كاقتضاء

اسم الخالق الرازق المعطي المانع للمخلوق والمرزوق والمعطى والممنوع، وهذه

الأسماء كلها حسنى، والرب تعالى يحب ذاته وأوصافه وأسماءه. فهو عفو يحب

العفو، ويحب المغفرة ويحب التوبة، ويفرح بتوبة عبده حين يتوب إليه أعمّ فرح

يخطر بالبال. وكان تقدير ما يغفره ويعفو عن فاعله ويحلم عنه ويتوب عليه

ويسامحه من موجب أسمائه وصفاته، وحصول ما يحبه ويرضاه من ذلك، وما

يحمد به نفسه ويحمده به أهل سماواته وأهل أرضه، ما هو من موجبات كماله

ومقتضى حمده. وهو سبحانه الحميد المجيد، وحمده ومجده يقتضيان آثارهما ومن

آثارهما مغفرة الزلات، وإقالة العثرات، والعفو عن السيئات، والمسامحة على

الجنايات، هذا [34] مع كمال القدرة على استيفاء الحق، والعلم منه سبحانه بالجناية

ومقدار عقوبتها، فحلمه بعد علمه، وعفوه بعد قدرته، ومغفرته عن كمال عزته

وحكمته، كما قال المسيح صلى الله عليه وسلم {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن

تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} (المائدة: 118) . أي فمغفرتك عن كمال

قدرتك وحكمتك، لست كمن يغفر عجزًا، ويسامح جهلاً بقدر الحق، بل أنت عليم

بحقك، قادر على استيفائه، حكيم في الأخذ به.

فمن تأمل سريان آثار الأسماء والصفات في العالم وفي الأمر تبين له أن

مصدر قضاء هذه الجنايات من العبيد، وتقديرها هو من كمال الأسماء والصفات

والأفعال، وغاياتها أيضًا مقتضى حمده ومدده، كما هو مقتضى ربوبيته وإلهيته،

فله في كل ما قضاه وقدره الحكمة البالغة، والآيات الباهرة، والتعرفات إلى عباده

بأسمائه وصفاته، واستدعاء محبتهم له وذكرهم له وشكرهم له، وتعبدهم له بأسمائه

الحسنى، إذ كل اسم فله تعبد مختص به علمًا ومعرفةً وحالاً، وأكمل الناس عبودية

المتعبد بجميع الأسماء والصفات التي يطلع عليها البشر، فلا يحجبه عبودية اسم

عن عبودية اسم آخر، كمن يحجبه التعبد باسمه القدير، عن التعبد باسمه الحكيم

الرحيم، أو يحجبه عبودية اسمه المعطي من عبودية اسمه المانع، أو عبودية اسمه

الرحيم والعفو والغفور عن اسمه المنتقم، أو التعبد بأسماء التودد والبر واللطف

والإحسان عن أسماء العدل والجبروت والعظمة والكبرياء ونحو ذلك. وهذه طريقة

الكمّل من السائرين إلى الله، وهي طريقة مشتقة من قلب القرآن. قال الله تعالى:

{وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (الأعراف: 180) ، والدعاء بها يتناول

دعاء المسألة ودعاء الثناء ودعاء التعبد. وهو سبحانه يدعو عباده إلى أن يعرفوه

بأسمائه وصفاته، ويثنوا عليه بها، ويأخذوا بحظهم من عبوديتها، وهو سبحانه

يحب موجب أسمائه وصفاته. فهو عليم يحب كل عليم، وجوَادٌ يحب كل جواد،

وتْرٌ يحب الوتر، جميل يحب الجمال، عفو يحب العفو وأهله، حيي يحب الحياء

وأهله، بر يحب الأبرار، شكور يحب الشاكرين، صبور يحب الصابرين، حليم

يحب أهل الحلم، فلمحبته سبحانه للتوبة والمغفرة والعفو والصفح خلق من يغفر له

ويتوب عليه ويعفو عنه، وقدر عليه ما يقتضي وقوع المكروه والمبغوض له،

ليترتب عليه المحبوب له المرضي له، فتوسطه كتوسط الأسباب المكروهة

المفضية إلى المحبوب.

فربما كان مكروه النفوس إلى

محبوبها سببًا ما مثله سبب

والأسباب مع مسبباتها أربعة أنواع: محبوب يفضي إلى محبوب، ومكروه

يفضي إلى محبوب. وهذان النوعان عليهما مدار أقضيته وأقداره سبحانه بالنسبة

إلى ما يحبه ويكرهه. والثالث مكروه يفضي إلى مكروه. والرابع محبوب يفضي

إلى مكروه. وهذان النوعان ممتنعان في حقه سبحانه، إذ الغايات المطلوبة من

قضائه وقدره - الذي خلق ما خلق وقضى ما قضى لأجل حصولها - لا تكون إلا

محبوبة للرب مرضية له، والأسباب الموصلة إليها منقسمة إلى محبوب له

ومكروه له. فالطاعات والتوحيد أسباب محبوبة له موصلة إلى الإحسان والثواب

المحبوب له أيضًا، والشرك والمعاصي أسباب مسخوطة له، موصلة إلى العدل

المحبوب له، وإن كان الفضل أحب إليه من العدل؛ فاجتماع العدل والفضل أحب

إليه من انفراد أحدهما، لما فيهما من كمال الملك والحمد، وتنوع الثناء وكمال

القدرة.

فإن قيل: كان يمكن حصول هذا المحبوب من غير توسط المكروه. قيل هذا

سؤال باطل لأن وجود الملزوم بدون لازمه ممتنع، والذي يقدر الذهن وجوده شيء

آخر غير هذا المطلوب المحبوب للرب، وحكم الذهن عليه بأنه محبوب للرب حكم

بلا علم، بل قد يكون مبغوضًا للرب تعالى لمنافاته حكمته، فإذا حكم الذهن عليه

بأنه محبوب له كان نسبة له إلى ما لا يليق به ويتعالى عنه. فليعط اللبيب هذا

الموضع حقه من التأمل فإنه مزلة أقدام، ومضلة إفهام، ولو أمسك عن الكلام من

لا يعلم لقل الخلاف. وهذا المشهد أجل من أن يحيط به كِتاب، أو يستوعبه خطاب،

وإنما أشرنا منه إلى أدنى إشارة تطلع على ما وراءها، والله الموفق [35] .

***

فصل

المشهد التاسع: مشهد زيادة الإيمان وتعدد شواهده

وهذا من ألطف المشاهد وأخصها بأهل المعرفة. ولعل سامعه يبادر إلى

إنكاره ويقول: كيف يشهد زيادة الإيمان من الذنوب والمعاصي؟ ولا سيما ذنوب [36]

العبد ومعاصيه، وهل ذلك إلا منقص للإيمان؟ فإنه بإجماع السلف يزيد

بالطاعة وينقص بالمعصية. فاعلم أن هذا حاصل من التفات العارف إلى الذنوب

والمعاصي منه ومن غيره، وإلى ترتب آثارها عليها. وترتب هذه الآثار عليها علم

من أعلام النبوة، وبرهان من براهين صدق الرسل وصحة ما جاءوا به. فإن

الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أمروا العباد بما فيه صلاح ظواهرهم وبواطنهم

في معاشهم ومعادهم، ونهوهم عما فيه فساد ظواهرها وبوطنهم في المعاش والمعاد،

وأخبروهم عن الله عز وجل أنه يحب كذا وكذا [37] وأنه يبغض كيت وكيت،

ويعاقب عليه بكيت وكيت، وأنه إذا أطيع بما أمر به شكر عليه بالإمداد، والزيادة

والنعم في القلوب والأبدان والأموال، ووجد العبد زيادته وقوته في حاله كلها، وإنه

إذا خولف أمره ونهيه ترتب عليه من النقص والفساد والضعف والذل والنهاية

والحقارة وضيق العيش وتنكد الحياة ما ترتب، كما قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً

مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا

يَعْمَلُونَ} (النحل: 97)، وقال: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم

مَّتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} (هود: 3) . وقال

تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى} (طه: 124) ؛ وفسرت المعيشة الضنك بعذاب القبر؛ والصحيح أنها في الدنيا

وفي البرزخ، فإن من أعرض عن ذكره الذي أنزله فله من ضيق الصدر ونكد العيش

وكثرة الخوف وشدة الحرص والتعب على الدنيا والتحسر على فواتها قبل حصولها

وبعد حصولها، والآلام التي في خلال ذلك - ما لا يشعر به القلب - لسكرته

وانغماسه في السكر، فهو لا يصحو ساعة إلا أحس وشعر بهذا الألم فبادر إلى

إزالته بسكر ثانٍ، فهو هكذا مدة حياته. وأي عيشة أضيق من هذه لو كان للقلب

شعور فقلوب أهل البدع والمعرضين عن القرآن وأهل الغفلة عن الله وأهل

المعاصي في جحيم قبل الجحيم الكبرى، وقلوب الأبرار في نعيم قبل النعيم الأكبر،

{إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} (الانفطار: 13-14) ، هذا

في دورهم الثلاث ليس مختصًّا بالدار الآخرة، وإن كان تمامه وكماله وظهوره إنما

هو في الدار الآخرة [38] وفي البرزخ دون ذلك، كما قال تعالى: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ

ظَلَمُوا عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (الطور: 47)، وقال تعالى:

{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ

الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} (النمل: 71-72) ، وفي هذه الدار دون ما في البرزخ، ولكن

يمنع من [39] الإحساس به الاستغراق في سكرة الشهوات، وطرح ذلك عن القلب

وعدم التفكير فيه. والعبد قد يصيبه ألم حسي فيطرحه عن قلبه ويقطع التفاته عنه،

ويجعل إقباله على غيره لئلا يشعر به جملةً، فلو زال عن ذلك الالتفات لصاح من

شدة الألم فما الظن بعذاب القلوب وآلامها؟ !

وقد جعل الله سبحانه للحسنات والطاعات آثارًا محبوبة لذيذة طيبة لذاتها فوق

لذة المعصية بأضعاف مضاعفة لا نسبة لها إليها، وجعل للسيئات والمعاصي آلامًا

وآثارًا مكروهةً، وحرازات تربي على لذة تناولها بأضعاف مضاعفة. قال ابن

عباس: إن للحسنة نورًا في القلب، وضياءً في الوجه، وقوةً في البدن، وزيادةً

في الرزق، ومحبةً في قلوب الخلق. وإن للسيئة سوادًا في الوجه وظلمةً في القلب

ووهنًا في البدن، ونقصًا في الرزق، وبغضةً في قلوب الخلق. وهذا يعرفه

صاحب البصيرة ويشهده من نفسه ومن غيره، فما حصل للعبد حال مكروهة قط إلا

بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر. قال الله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا

كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} (الشورى: 30) ، وقال لخيار خلقه وأصحاب

نبيه: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} (النساء:

79) ، والمراد بالحسنة والسيئة هنا النعم والمصائب التي تصيب العبد من الله.

ولهذا قال (ما أصابك) ولم يقل: ما أصبت. فكل نقص وبلاء وشر في الدنيا

والآخرة فسببه الذنوب ومخالفة أوامر الرب، فليس في العالم شر قط إلا الذنوب

وموجباتها.

وآثار الحسنات والسيئات في القلوب والأبدان، والأموال أمر مشهود في العالم،

لا ينكره ذو عقل سليم، بل يعرفه المؤمن والكافر، والبر والفاجر، وشهود العبد

هذا في نفسه وفي غيره وتأمله ومطالعته مما يقوي إيمانه بما جاءت به الرسل،

وبالثواب والعقاب، فإن هذا عدل مشهود محسوس في هذا العالم، ومثوبات

وعقوبات عاجلة دالة على ما هو أعظم منها لمن كانت له بصيرة، كما قال بعض

الناس: إذا صدر مني ذنب ولم أبادره ولم أتدراكه بالتوبة انتظرت أثره السيئ،

فإذا أصابني أو فوقه أو دونه كما حسبت، يكون هجيراي: (أشهد أن لا إله إلا الله،

وأشهد أن محمدًا رسول الله) ويكون ذلك من شواهد الإيمان وأدلته، فإن الصادق

مني أخبرك إنك إذا فعلت كذا وكذا ترتب عليه من المكروه كذا وكذا، فجعلت كلما

فعلت شيئًا من ذلك حصل ما قال من المكروه لم تزدد إلا علمًا بصدقه وبصيرةً فيه،

وليس هذا لكل أحد، بل أكثر الناس يرين الذنوب على قلبه فلا يشهد شيئًا من ذلك

ولا يشعر به ألبتة. وإنما يكون هذا لقلب فيه نور الإيمان، وأهوية الذنوب

والمعاصي تعصف فيه، فهو يشاهد هذا وهذا، ويرى حال مصباح إيمانه مع قوة

تلك الأهوية والرياح، فيرى نفسه كراكب البحر عند هيجان الرياح وتقلب السفينة

وتكفئها، ولا سيّما إذا انكسرت به وبقي على لوح تلعب به الرياح، فهكذا المؤمن

يشاهد نفسه عند ارتكاب الذنوب، إذا أريد به الخير، وإن أريد به غير ذلك فقلبه

في وادٍ آخر.

ومتى انفتح هذا الباب للبعد انتفع بمطالعة تاريخ العالم وأحوال الأمم،

ومجريات الخلق، بل انتفع بمجريات أهل زمانه وما يشاهده من أحوال الناس،

وفهم حينئذ معنى قوله تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} (الرعد

: 33) ، وقوله: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إلا َّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا العِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ

لَا إِلَهَ إلا َّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} (آل عمران: 18) ، فكل ما تراه في الوجود من

شر وألم وعقوبة وجدب ونقص في نفسك وفي غيرك فهو من قيام الرب تعالى

بالقسط، وهو عدل الله وقسطه، وإن أجراه على يدِ ظالم فالمُسَلِّط له أعدل العادلين،

كما قال تعالى لمن أفسد في الأرض: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً

لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ} (الإسراء: 5)

الآية، فالذنوب مثل

السموم مضرة بالذات، فإن تداركها من سقي بالأدوية المقاومة لها

، وإلا قهرت

القوة الإيمانية وكان الهلاك، كما قال بعض السلف: المعاصي بريد الكفر، كما أن

الحمى بريد الموت فشهود العبد نقص حاله إذا عصى ربه، وتغير القلوب عليه

وجفولها منه، وانسداد الأبواب في وجهه، وتوعر المسالك عليه وهو أنه على أهل

بيته وأولاده وزوجته وإخوانه [40] وتطلبه ذلك حتى يعلم من أين أتى، ووقوعه على

السبب الموجب لذلك مما يقوي إيمانه. فإن أقلع وباشر الأسباب التي تفضي به إلى

ضد هذه الحال، ورأى العز بعد الذل، والغنى بعد الفقر، والسرور بعد الحزن،

والأمن بعد الخوف، والقوة في قلبه - بعد ضعفه ووهنه - ازداد إيمانًا مع إيمانه،

فتقوى شواهد الإيمان في قلبه، وبراهينه وأدلته في حال معصيته وطاعته، فهذا

من الذين {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا

يَعْمَلُونَ} (الزمر: 35) ، وصاحب هذا المشهد متى تبصر فيه وأعطاه حقه

صار من أطباء القلوب العالمين بدائها ودوائها، فنفعه الله في نفسه ونفع به من شاء

من خلقه، والله أعلم.

***

فصل

المشهد العاشر: مشهد الرحمة

فإن العبد إذا وقع في الذنب خرج من قلبه تلك الغلظة والقسوة، والكيفية

الغضبية التي كانت عنده لمن صدر منه ذنب، حتى لو قدر عليه لأهلكه، وربما دعا

الله عليه أن يهلكه ويأخذه غضبًا منه لله وحرصًا على أن لا يعصى، فلا يجد في

قلبه رحمة للمذنبين الخاطئين ولا يراهم إلا بعين الاحتقار والازدراء، ولا يذكرهم

إلا بلسان الطعن فيهم والعيب لهم والذم، فإذا جرت عليه المقادير وخلي ونفسه

استغاث بالله والتجأ إليه، وتململ بين يديه تململ السليم، ودعاه دعاء المضطر،

فتبدلت تلك الغلظة على المذنبين رقة، وتلك القساوة على الخاطئين رحمة ولينًا،

مع قيامه بحدود الله، وتبدل دعاؤه عليهم دعاءًا لهم، وجعل لهم وظيفة من عمره؛

يسأل الله فيه أن يغفر لهم، فما أنفعه له من مشهد، وما أعظم جدواه عليه! والله

أعلم.

***

فصل

فيورثه ذلك (المشهد الحادي عشر)

وهو مشهد العجز والضعف، وأنه أعجز شيء عن حفظ نفسه وأضعفه، وأنه

لا قوة له ولا قدرة ولا حول إلا بربه، فيشهد قلبه كريشة ملقاة بأرض فلاة تقلبها

الرياح يمينًا وشمالاً، ويشهد نفسه كراكب سفينة في البحر تهيج بها الرياح،

وتتلاعب بها الأمواج، ترفعها تارة وتخفضها تارة أخرى، تجري عليه أحكام القدر

وهو كالآلة طريحًا بين يدي وليه ملقى ببابه، واضعًا خده على ثرى أعتابه، لا

يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا، ليس له من نفسه إلا

الجهل والظلم وآثارهما ومقتضياتهما، فالهلاك أدنى إليه من شراك نعله، كشاة ملقاة

بين الذئاب والسباع لا يردهم عنها إلا الراعي، فلو تخلى عنها طرفة عين

لتقاسموها أعضاءً. هكذا حال العبد ملقى بين الله وبين أعدائه من شياطين الإنس

والجن، فإن حماه منهم وكفهم عنه لم يجدوا إليه سبيلاً، إن تخلى عنه ووكله إلى

نفسه طرفة عين لم ينقسم عليهم بل هو نصيب من ظفر به منهم.

وفي هذا المشهد يعرف نفسه حقًّا، ويعرف ربه، وهذا أحد التأويلات للكلام

المشهور (من عرف نفسه عرف ربه) وليس هذا حديثًا عن رسول الله صلى الله

عليه وسلم، إنما هو أثر إسرائيلي بغير هذا اللفظ أيضًا (يا إنسان اعرف نفسك

تعرف ربك) وفيه ثلاث تأويلات:

(أحدها) أن من عرف نفسه بالضعف؛ عرف ربه بالقوة، ومن عرفها

بالعجز؛ عرف ربه بالقدرة، ومن عرفها بالذل؛ عرف ربه بالعز، ومن عرفها

بالجهل؛ عرف ربه بالعلم، فإن الله سبحانه استأثر بالكمال المطلق والحمد والثناء

والمجد والغنى، والعبد فقير ناقص محتاج، وكلما ازدادت معرفة العبد بنقصه

وعيبه وفقره وذله وضعفه، ازدادت معرفته لربه بأوصاف كماله.

(التأويل الثاني) أن من نظر إلى نفسه وما فيها من الصفات الممدوحة من

القوة والإرادة والكلام والمشيئة والحياة، عرف أن من أعطاه ذلك وخلقه فيه أولى

به، فمعطي الكمال أحق بالكمال، فكيف يكون العبد حيًّا متكلمًا سميعًا بصيرًا مريدًا

عالمًا، يفعل باختياره، ومن خلقه وأوجده لا يكون أولى بذلك منه؟ . فهذا من

أعظم المحال، بل من جعل العبد متكلمًا أولى أن يكون هو متكلمًا، ومن جعله حيًّا

عليمًا سميعًا بصيرًا فاعلاً قادرًا، أولى أن يكون كذلك. فالتأويل الأول من باب

الضد وهذا من باب الأولوية.

(والتأويل الثالث) أن هذا من باب النفي. أي كما أنك لا تعرف نفسك التي

هي أقرب الأشياء إليك، فلا تعرف حقيقتها ولا ماهيتها ولا كيفيتها، فكيف تعرف

ربك وكيفية صفاته؟ . والمقصود أن في هذا المشهد يعرف العبد أنه عاجز ضعيف،

فيزول عنه رعونات الدعاوى والإضافات إلى نفسه، ويعلم أنه ليس له من الأمر

شيء وليس بيده شيء؛ إن هو إلا محض الفقر والعجز والضعف.

(للبحث بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) تابع لما نشر في ص 113 من المجلد السابع عشر.

(1)

المعنى المراد من لفظ المشهد: هو ما يغلب على اعتقاد الإنسان أو وجدانه وشعوره في معصيته أو معصية غيره، ومثله كل عامل في عمله، ويعبر بعض الناس الآن عن مثل هذا المعنى بالملاحظة. فيقال على عُرفهم: إن العامي الجاهل لا يلاحظ في المعصية إلا إرضاء

شهوته. ولكن الطبيب الجاهل يلاحظ معنى آخر مع قصد الشهوة وهو أن هذا العمل من الوظائف الطبيعية لبعض أعضاء الجسم. وعلى ذلك فقس.

(2)

حذفنا من هذا الموضع بحثًا وجيزًا في عقاب من ثبت أنه يؤذي بعينه، وأنه إن قتل بالعين لا يقتل بالسيف؛ لأن الجزاء من جنس العمل.

(3)

أي كبار الناس النافعين ورؤساؤهم. أي تعتبر رؤيتها في المنام بذلك.

(4)

أي في إفساد كل ما تصل إليه يده.

(5)

وفي نسخة (المغتذي) .

(6)

وفي نسخة (أكلها) .

(7)

كان الظاهر أي يقال (ضروري) ؛ لأنه خبر قوله فاحتياجه.

(8)

كذا.

(9)

وفي نسخة التغيرات.

(10)

وفي نسخة (تاركو الذنوب) .

(11)

وفي نسخة (من) .

(12)

بقي من بيان حكمة الله تعالى في تقدير الكفر والمعاصي كلمة ضرورية لا يتم بدونها. وهي معنى ذلك التقدير، وكونه لا دلالة فيه ولا اقتضاء للجبر والإكراه على الفعل. وذلك أنه تعالى خلق الناس مختارين في أفعالهم، يعملونها بإرادتهم، حسب علمهم أو ظنهم بأن فعل كذا أو تركه خير لهم. فكل عمل من أعمالهم حلقة من سلسلة الأسباب والمسببات قبله حلقة الاختيار، وهذا الترتيب هو التقدير، فالقدر جعل المسببات على قدر الأسباب، وانتظام الجميع في سلسلة واحدة ، وضده الخلق الأنف الذي هو مذهب القدرية. ومعناها أن الله تعالى يخلق كل شيء يقع في الكون ابتداءً واستئنافًا لا يكون شيء من الحوادث مبنيًّا على تقدير ونظام سابق، تكون فيه الأسباب على قدر المسببات، والنتائج أثرًا لترتيب المقدمات. فكل مخلوق له علم وإرادة واختيار يطيع أو يعصي باختياره الذي هو من قدر الله، ولا يخلق الله كل عمل يصدر منه خلقًا مستأنفًا كما يزعم منكرو القدر العميان. وله في هذا التقدير حِكَم كثيرة أشار المصنف إلى طائفة منها، والله عليم حكيم.

(13)

وفي نسخة بزيادة (أي مقطوع) وهو تفسير لممنون.

(14)

وفي نسخة (توحيد) بدون هاء.

(15)

وبعبارة أخرى توحيد الربوبية، باب يدخل منه إلى توحيد الإلهية.

(16)

وفي نسخة (العبد) .

(17)

وفي نسخة (وأنه لا خالق سواه) .

(18)

أي أن الذي يدرك حقيقة معنى القدر يعلم أن ما آتاه الله تعالى إياه من هدايات الحواس والعقل والوجدان، وما يصل إليه علمه المكتسب بها والضروري الذي هو أقوى منه، كل ذلك لا يكفي لتصريف إرادته واختياره دائمًا فيما هو خير له، فإنه مهما اتسع علمه واختياره يختار لنفسه أحيانًا كثيرة ما هو شر له في دينه ودنياه وعاجل أمهر وآجله، فإذا فقه هذا علم عِلْمَ شهود أنه لا يستغني طرفة عين عن توفيق الله وعنايته.

(19)

هذا تفسير باللازم، وأما الملزوم فكون الأسباب المكسوبة وغير المكسوبة موافقة للمصلحة الصحيحة.

(20)

وفي النسخة الثانية (وتوحيده ممسك بيد غيره بيده تعالى) .

(21)

هجيرى الإنسان (بكسر الهاء وتشديد الجيم المكسورة والقصر) دأبه الذي يلازمه ولا يتركه. ويسميها الناس في بعض البلاد في هذا العصر (لازمة) فالذي يكثر في كلامه من كلمة (مثلاً) يقولون: لازمته مثلاً.

(22)

سقط من النسخة الثانية لفظ (به) .

(23)

سقط من النسخة الثانية لفظ (لكم) .

(24)

وفي نسخة (له) .

(25)

وفي نسخة (فاحملوه) .

(26)

وفي نسخة (بين الفريقين)

(27)

وفي نسخة (قولهم)

(28)

وفي نسخة (الرسل) .

(29)

المطلع بفتح اللام. وخبره معرفة تعلق الوجود.

(30)

وفي نسخة: (بل يتنزه عنه) .

(31)

ونسخة (ذاك) .

(32)

وفي نسخة بواو العطف في هذه الأسماء الثلاثة الأخيرة. وهنا محل الشاهد.

(33)

وفي نسخة (حكمة) .

(34)

سقط لفظ (هذا) من النسخة الثانية.

(35)

وفي نسخة زيادة (المعين) .

(36)

وفي نسخة (من ذنوب) .

(37)

وفي نسخة زيادة (فيثيب عليه) .

(38)

ما رأيت أحدًا سبقني إلى تقرير هذا المعنى والاستدال عليه بالقرآن مثل المصنف.

(39)

وفي نسخة بسقوط (من) .

(40)

هذه الآثار التي تترتب على الذنب لا يشهدها كلها إلا المؤمن الذي يعيش بين المؤمنين الصادقين. وأما الجاحدون والمنافقون والفاسقون المصرون، فلا تتغير قلوب بعضهم على بعض لأجل المعصية، ولا يشعرون بهوانهم على أهل بيوتهم، إلا قليلاً وفي بعض المعاصي. دون بعض؛ فالذين اعتادوا شرب الخمر في بيوتهم، وغير بيوتهم يعدونها هم وأهلوهم كشرب

الماء. وللمعاصي آثار أخرى في الأخلاق وفي الصحة لا يغفل عن قبحها وشؤمها إلا من هو أجهل من الأنعام.

ص: 113

الكاتب: محمد طاهر التنير

‌الرد المتين على

مفتريات المبشرين [*]

لقد اطّلعنا على المجلة المدعوة (الشرق والغرب) التي يطبعها المبشرون

بمصر وقرأنا العدد الأول الذي صدر في 1 كانون الثاني سنة 1914 والعدد الثاني

الذي صدر في 15 من الشهر المذكور، وإذا فيهما - على زعم أولئك المبشرين -

تفنيد لما كتبناه في كتابنا الذي سميناه: (العقائد الوثنية في الديانة النصرانية) ،

وجميع ما قالوه ينحصر في خمسة أمور:

(الأول منها) : تطاولهم واستبحاتهم لكلام البذاء والتطاول. وهذا ليس له

عندنا جواب فليفرحوا وليتنعموا به.

(الأمر الثاني) : ادّعاؤهم أننا اعتمدنا في كتابنا على أقوال علماء نصارى

أوروبيين ملحدين. وهذا نجاوبهم عليه بأن لهم الخيار بما يصفونهم به. أما نحن

فنقول بحقهم أنهم علماء مستقلون قالوا الحق الذي وصل إليه علمهم بشأن ديانة

المبشرين غير مبالين بمن لا يرضاه منهم.

(الأمر الثالث) : عدم تصديقهم باطّلاعنا على الكتب التي ذكرناها في أول

الكتاب. وهذا أيضًا لهم الخيار فيه صدقوا أم لم يصدّقوا. ونقول لهم ولمن هم على

شاكلتهم: ها هي ذي مكتبتنا حاضرة لكل من يروم الاطلاع عليها، ونزيدهم -

وربنا شهيد - إنه عندنا عدة كتب غير التي ذكرناها لم ننقل منها كلمة واحدة؛ لشدة

اعتراضاتها على الديانة النصرانية. وجميعها تأليف علماء مسيحيين أوربيين. وإن

أحبوا فإننا مستعدون لذكر أسمائها، وأسماء المدن التي طبعت فيها مع أسماء

الطابعين.

(الأمر الرابع) : قولهم ما نصه بالحرف (فإذا استزادنا حضرته من نقد

بقية ما في كتابه فربما عدنا إليه في فرصة أخرى. ولكن ليسمح لنا الآن بهذه

النصيحة وهي أن لا يحشر نفسه بين العلماء الباحثين، بل ليدع ذلك لرجال العلم

وليبحث له عن شغل يرتزق منه والله يهدي سواء السبيل) .

أما من جهة نقدهم لبقية ما في كتابنا فإننا نشكره لهم سلفًا، فإننا لم نأت بكلمة

واحدة من عندنا، ولا بكلمة واحدة من كلام علماء المسلمين رضي الله عنهم، بل

جميع ما ذكرناه مأخوذ من كتب علماء الغرب المسيحيين خاصة، وأما أمرهم إيانا

بأن لا نحشر نفسنا بين العلماء الباحثين بل لندع ذلك لرجال العلم، وأن نبحث عن

شغل نرتزق منه! فأجيبهم عنه بأسف عظيم: أن والدي منذ نعومة أظفاري

وضعني بمدارس المبشرين، ولم يعلم أن الدارس فيها يخرج محبًّا للكسل والبطالة

واللهو والسباحة والتسول، وأكره شيء عليه السعي وراء شغل يرتزق منه،

ويفضل الخمول على السعي، والفاقة على الغنى؛ لرسوخ ما علموه إياه في عقله

كتعليمهم لتلاميذهم الصغار (فلا تهتموا للغد لأن الغد يهتم بما لنفسه) وكذلك (لا

تهتموا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون) وكذلك (انظروا إلى طيور السماء إنها لا

تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن، وأبوكم السماوي يقوتها) .

وكذلك فقال يسوع لتلاميذه: (الحق أقول لكم إنه يعسر أن يدخل غني إلى

ملكوت السماوات؟ وأقول لكم أيضًا: إن مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن

يدخل غني إلى ملكوت السموات. فأجاب بطرس حينئذ وقال له: ها نحن تركنا

كل شيء وتبعناك، فإذًا يكون لنا. وكل من ترك بيوتًا أو إخوةً أو أخواتٍ أو أبًا

أو أمًّا أو امرأةً أو أولادًا أو حقولاً من أجل اسمي يأخذ مئة ضعف ويرث الحيوة

الأبدية) . وغير ذلك كثير مما هو على هذا النمط، أما لو وضعني بمدارس

المسلمين، لكنت لكم من الشاكرين، لأن نصحكم يكون تذكيرًا لي بما درسته فيها

من آيات القرآن المجيد، والحديث الشريف، كقوله تعالى:] فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ

فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ [، وكقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ

الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (الجمعة: 10) ،

وكقوله تعالى: {وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً} (نوح: 12)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:(كاد الفقر أن يكون كفرًا)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (اعمل عمل امرئ يظن أنه لن يموت أبدًا، واحذر حذر

امرئ يخشى أن يموت غدًا) [1] وقوله صلى الله عليه وسلم: (ما أكل أحد قط خيرًا

من أن يأكل من عمل يده) [2] .

وكذلك أيضًا: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسًا مع أصحابه ذات يوم

فنظروا إلى شاب ذي جَلَدٍ وقوة وقد بكَّر يسعى فقالوا: ويح هذا لو كان شبابه وجلده

في سبيل الله. فقال صلى الله عليه وسلم: لا تقولوا هذا فإنه إن كان يسعى

على نفسه ليكفها عن المسألة ويغنيها عن الناس فهو في سبيل الله، وإن كان يسعى

على أبوين ضعيفين، أو ذرية ضعاف ليغنيهم ويكفيهم فهو في سبيل الله) [3]

واحسرتاه! ليته وضعني بمدارس تعلم القرآن المجيد، والحديث الشريف، أي

تعلم الحكمة، والهمة والرحمة، ولا كان وضعني بمدارس تعلم الكسل والخمول

والبلادة وحب التسول والفاقة وبغض المجد وكره الغنى.

(الأمر الخامس) : اعتراضهم على بعض علماء المسلمين الكرام

وتصريحهم باسم الأمير صاحب التآليف المشهورة المبنية على آيات القرآن المجيد

والحديث الشريف، ويكفهم ردًّا على اعتراضهم وتحاملهم ما أبدوه من العداوة

والبغضاء للحق وأهله.

أما اعتراضهم على آيات القرآن المجيد؛ كقولهم ما نصه بالحرف: (ولا نحن

نطلب من إخواننا المسلمين أن يبينوا لنا كيف يصح القول بأن هامان كان وزيرَ

فرعون، وأن مريم العذراء كانت أخت موسى وهارون، على ما يستفاد من

القرآن، ولا غير ذلك من المشاكل التي يستحيل التوفيق بينها وبين التاريخ) .

على رِسلِكُمْ يا أيها المبشرون الزاعمون إنكم لا تقولون إلا الحق المبين: فما

معنى ذكر مثل هذه المسائل وما مدخلها مع تفنيدكم لكتابنا؟ أَمَا آن لكم أن تتركوا

المغالطات والسفسطات والتمويهات وتمقتوها؟ أما آن لكم أن تتركوا التشدق بما

يعود عليكم بالخيبة والخذلان؟ واللهِ لو كان قصدكم الاستفهام حقيقةً لَمَا كنا نتأثر

باعتراضاتكم وتشدقاتكم، ولكن نعلم أن قصدكم بها إغواء عباد الله تعالى وتشكيك

عوامّ المسلمين في دينهم. ومع ذلك نقول لكم يا مرحبًا! سلوا عما تشاءون من

المشاكل التي تظنون استحالة التوفيق بينها وبين التاريخ الذي كتبته أيدي الصادقين.

ونقول لكم - مع أننا نعلم أنكم قصدتم بالتجاهل الإغواء وتشكيك عباد الله

تعالى -: إن المقصود من أخوية مريم العذراء هو أخوية تشبيه لا أخوية ولادة من

أب وأم، وهذا التشبيه كثير ومشهور في اللغات الشرقية، ولقد جاء مثله في إنجيل

متى ففي الفصل الثاني عشر من عدد 46 إلى 50: (وفيما يكلم الجموع إذا أمه

وإخوته قد وقفوا خارجًا طالبين أن يكلموه فأجاب وقال للقائل له: من هي أمي ومن

هم إخوتي؟ ثم مد يده نحو التلاميذ وقال: ها أمي وإخوتي؛ لأن من يصنع مشيئة

أبي الذي في السموات هو أخي وأختي وأمي) وجاء مثله في إنجيل مرقص

(راجع الفصل الثالث من عدد 32 إلى 34) .

وهكذا أخوة مريم لهارون عليهما السلام أي كأخوة المسيح عليه السلام لمن

أشار إليهم بيده. وكما يشبهون الصالح بأحد المشهورين بالتقوى والعفاف في الأيام

الخالية كذلك يشبهون الشرير المشهور بالخيانة في القرون الماضية كقولهم: (أخو

الحارث بن ظالم) وهكذا.

ولنا على الأعداد التي ذكرناها من الإنجيل سؤالات عديدة نود الاستفسار عنها

من حضرة المبشرين الذين انتقدوا إطلاق لقب (أخت هارون) على مريم ولكن

خوفًا من أن يتوهم أحد المسيحيين الشرقيين بأننا نقصد الحط من المعتقدات

النصرانية كما توهموه لمّا قلنا عن البلغاريين وحلفائهم إنهم كفار ظالمون لاستباحتهم

سفك دماء نساء وبنات وأولاد المسلمين ودفنهم جرحى العساكر العثمانية تحت

التراب وهم أحياء يقاسون ألم الجراح وألم الموت خنقًا، وإحراقهم النساء المسلمات،

وغير ذلك من الأعمال الوحشية التي لم يرو التاريخ صدور مثلها حتى ولا من

القبائل المتوحشة في إفريقية. لذلك نكتفي بهذين السؤالين مؤملين من حضرتهم

إفادتنا عنهما وهما:

(1)

إنهم يقولون عن مريم العذراء عليها السلام أنها لم تلد أحدًا غير

المسيح عليه السلام، والأناجيل تقول: إنه كان لها أولاد، فهل نصدق كلامهم

ونضرب بكلام الإنجيل عرض الحائط أم نصدق كلام الإنجيل ونكذب كلامهم.

(2)

يظهر من كلام الإنجيل أنها أي أمه لم تكن مؤمنة به ولا صانعة إرادة

مرسلة كتلاميذه، ولولا ذلك لَمَا تبرأ منها هي ومن معها من إخوته أشار نحو

الحاضرين بأنهم هم إخوته وأخواته وأمه. فلو كانت مؤمنة به لما فعل هذا لأن فيه

إهانة عظيمة لها، كما هو المتبادر من عبارة الإنجيل لكل من يقرؤه. ومعلوم أننا

نحن لا نؤمن بهذه القصة التي سموها إنجيلاً، بل نؤمن بأن أمه كانت مؤمنة تقية،

وأنه كان برًّا بها كما حكى الله عنه في قوله: {وَبَراًّ بِوَالِدَتِي} (مريم: 32) .

وقد أرسلنا إليهم كتاب (تاريخ الفحشاء) هدية كي يتسلوا به إلى أن نختصر

بعض فصول كتابنا الذي سميناه (مقام عيسى المسيح عليه السلام في النصرانية

والإسلام) لتنشر في المنار الأغر أدام الله شمس صدقه منيرة سماء العدل والمدنية.

وأما اعتراضهم على مسألة تحديد تعدد الزوجات، وأقوال الصوفي المتنصر

وغير ذلك مما ذكروه بمجلتهم فسنرد عليه في الفصول الآتية إن شاء الله تعالى.

محمد طاهر التنير

(المنار) :

نشرنا هذه النبذة ويتلوها الفصل الأول من الكتاب الذي أشار إليه الكاتب،

وقد تصرفنا في العبارة بعض التصرّف فإن في الأصل شدة في العبارة لا حاجة

إليها. وسنعلق على الفصل الآتي كلامًا نبين فيه الغرض من نشر أمثال هذه

المقالات.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) لصاحب الإمضاء من متخرجي الكلية الأمريكانية ببيروت.

(1)

المنار: رواه البيهقي عن عبد الله بن عمرو.

(2)

رواه البخاري عن المقدام.

(3)

رواه الطبراني عن كعب بن عجرة.

ص: 138

الكاتب: محمد طاهر التنير

‌مقام عيسى

يسوع المسيح عليه السلام

في النصرانية والإسلام

الفصل الأول في نسبه

(تنبيه مهم)

إن إهانة الناس واحتقار أديانهم لَمِنْ أقبح الأعمال وأعظمها كرهًا ومقتًا

عند المسلمين كافة، ولا يتأتى عنها إلا العداوة والبغضاء، على مخالفتها للشريعة

الغرَّاء، قال الله تعالى:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} (البقرة:

256) ، وكل من يتدبر الحقائق بعين الصدق والإنصاف يرى أن جميع ما كتبه

علماء المسلمين رضي الله عنهم قديمًا وحديثًا بشأن النصرانية لم يكن سوى رد

على المفتريات التي رمى الظالمون بها دين الإسلام المبين، بغيًا وعدوانًا حينًا بعد

حين، وهذا الافتراء الذي اتخذه المبشرون وغيرهم من قسيسي الفرق النصرانية

مهنة لهم في هذه الأيام هو الذي اضطرنا إلى كتابة هذه الكتب وهي: (العقائد

الوثنية، في الديانة النصرانية. ومقام عيسى عليه السلام في النصرانية والإسلام)

و (آداب الإسلام وتعليم التوراة والإنجيل) و (أخلاق عيسى المسيح عليه السلام

في الأناجيل وفي القرآن المجيد) ولم يطبع منها سوى (كتاب العقائد الوثنية) وإن

شاء الله تعالى سنطبع البقية بأقرب وقت بعد ما ننشر أكثر فصولها باختصار في

المنار الأغر.

وقد بيّنا الحقائق - ولله الحمد - بطريقة ترضي حتى أشد الناس عداوة لدين

الإسلام المبين؛ إذ لا خير يرجى من كتابة ما يغضب الناس ولا سيّما في الأمور

الدينية التي هي أعز شيء عند الإنسان، مهما كان دينه. قال الله تعالى: {ادْعُ

إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ

أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (النحل: 125) فالحمد لله على

نعم تعليم القرآن المجيد، الذي لولاه لكنا مثل أولئك المبشرين ومن ينحو نحوهم،

الذين ألفوا تلك الكتب السافلة المشحونة بالباطل والتطاول والافتراء وغير ذلك ممّا

هو من أخلاقهم وخصالهم.

وإنَّا نلفت نظر القارئ الفاضل إلى أمر ذي بال وهو اقتصارنا على ما جاء

في التوراة والإنجيل كي لا يقدر أحد منهم على نسبة الكلام إلينا كما فعلوا بنسبة

كلام العلماء الأوروبيين الذين استشهدنا بكلامهم في كتابنا (العقائد الوثنية) إلينا،

مع أننا ذكرنا أسماءهم بالعربية والإفرنجية، ولننظر الآن ماذا يقول أولئك القوم

الذين ألفوا تلك الكتب السافلة ضد دين الإسلام المبين.

***

الجد الأول من جدود الزنا

عقد الفصل الـ 38 من سفر التكوين من أوله إلى آخره لبيان زنا القديس

(يهوذا) بكنَّته (ثامار) وحملها منه، وأنها وضعت ولدين ذكرين سماهما (فارص)

و (زارح) والمبشرون المؤلفون لتلك الكتب والرسائل يقولون: إن فاديهم

ومخلصهم وخالقهم (يسوع المسيح) من سلالة (فارص) المباركة وبما أن هذه

القصة الشريفة لها علاقة مهمة مع هذا الرب المختار الولادة من الزنا نأتي عليها

باختصار، ومن يحب الزيادة فليقرأ الفصل المذكور يرى فيه ما ملخصه أن يهوذا

نزل عند رجل عدلامي اسمه (حيرة) فرأى ابنة رجل كنعاني اسمه (شوع)

فأخذها ودخل عليها وولدت له ثلاثة أولاد ذكور اسم الكبير (عير) والثاني (أوثان)

والثالث (شيلة) ولما كبر عير أخذ له زوجة من بنات الكنعانيين اسمها (ثامار)

فعمل الشر بعيني الرب فأهلكه فأمر يهوذا ابنه (أوثان) بأن يأخذ زوجة أخيه ويقيم

له نسلاً فتزوجها أوثان.

وبما أن النسل الذي يأتيه منها يعد نسل أخيه لا نسله صار إذا ضاجعها يفسد

على الأرض (أي يعزل ماءه) لئلا تحمل منه فأماته رب التوراة وأبقى أباه القديس

لأنه لما زنى بها لم يفسد على الأرض ولما مات أمرها يهوذا بأن تقعد أرملة ببيت

أبيها وأنه متى كبر ابنه شيلة يعطيها إياه زوجًا لها وقال في نفسه: ربما يعمل كما

عمل أخواه فيميته الرب مثلهما. فذهبت إلى بيت أبيها ومضت الأيام وكبر (شيلة)

ولم يعطه لها. وبلغها أن حماها المذكور (القديس يهوذا) ذاهب إلى (تمنة) مع

صاحبه العدلامي ليقص صوف غنمه فخلعت ثياب ترملها وغطت وجهها وجلست

على طريق (تمنة) فلما رآها ظنها هذا القديس زانية وراودها عن نفسها فقالت له:

ماذا تعطيني؟ فقال لها أعطيك جدي معز أبعثه لك. فقالت له: أعطني رهنًا

فأعطاها عصابته وخاتمه وعصاه وزنى بها. ولما وصل إلى تمنة أرسل لها الجدي

مع صديقه العدلامي لِيَفْتَكَّ الرهن. فلم يجدها فرجع وأخبر يهوذا. فقال له: لتذهب

بما معها كي لا يلحقنا عار. فحبلت منه ووضعت ولدين ذكرين سمتهما (فارص)

و (زارح) ويسوع المسيح من نسل فارص المبارك.

ولنا على هذه القصة عدة أسئلة وملاحظات مهمة ذكرناها في كتابنا (مقام

عيسى المسيح عليه السلام في النصرانية والإسلام) نذكر منها هنا مسألتين فقط؛ لأن

قصدنا الاختصار كي لا نضيع كثيرًا من صفحات المنار الأغر لأن عليه أداء

خدمات إسلامية مهمة.

(أولاهما) تقول التوراة إنه ظنها زانية لأنها كانت مغطية وجهها. وهذا

باطل عقلاً ويكفي لرده وإظهار بطلانه ما جاء في التوراة والإنجيل (منها) في

قول سفر التكوين (24: 64 و 65) : (ورفعت رفقة عينها فرأت إسحاق فنزلت

عن الجمل وقالت للعبد: من هذا الرجل الماشي في الحقل للقائنا؟ فقال العبد: هو

سيدي. فأخذت البرقع وتغطت) . وجاء في الرسالة الأولى إلى أهل كورنتوس

(11: 16) : (لأن المرأة إن لم تتغط فليقص شعرها أو يحلق، وإن كان عيبًا على

المرأة أن يقص شعرها أو يحلق فلتتغط) فالحجاب عَلَم المخَدَّرات الطاهرات، وسِيمَة

الخيِّرات الطيبات، كما أن التبرج والابتذال من علامات الفواجر الزانيات.

(ثانيتها) تخبرنا التوراة عن ذهاب يهوذا مع صاحبه العدلامي، وأنه كان

معه لما راودها عن نفسها، وأنه أرسل الجدي الوديع معه، وأنه لم يجدها وغير

ذلك، لكنها لم تذكر هل زنى بها هذا العدلامي أيضًا أم لا؟ ويدل العقل والعادة بين

الفساق في هذه الأمور التي يشتركون فيها وإرسال الأجرة - أي الجدي - إليها معه

على أنه زنى بها مع يهوذا. وإذا صح هذا فمن المحال معرفة ممن كان الحمل

وربما حملت من كل واحد بولد، ولا يبعد حينئذ أن يكون زارح بن يهوذا،

وفارص بن العدلامي. وكيفما كان فإن هذا المجد الأعلى للمسيح قد خلق من ماء

الزنا.

***

الجد الثاني

جاء في سفر يشوع بن نون ما نصه (2: 1) (فأرسل يشوع بن نون

رجلين من شطين جاسوسين تحت الخفاء قائلاً: امضيا انظرا الأرض وأريحا.

فانطلقا ودخلا بيت امرأة زانية اسمها راحاب وباتا عندها) وجاء في هذا السفر ذاته

(6: 17) (ولتكن المدينة بكل ما فيها مبسلة للرب، ولكن راحاب الزانية تحيا

هي وجميع من معها في بيتها) انتهى.

وهذه راحاب الزانية زنى بها سلمون وهو من سلالة فارص الذي هو الأصل

الأول من أصول الزنا المقدس. فحبلت ووضعت (بوعز) الذي من سلالته جاء

(حمل الله الوديع) وما قلناه بخصوص عدم معرفة الحمل ممن كان عند ذكرنا الجد

الأول، هل كان من يهوذا أو من العدلامي؟ نقوله هنا أيضًا؛ لأن كلا الجاسوسين

باتا عند هذه الزانية فكيف يعرف ممن علقت؟

(الشاهد الثالث) في سفر الملوك الثاني (11: 2 - 5) نقلنا هذه الأعداد

عن التوراة المطبوعة بمطبعة اليسوعيين بمدينة بيروت. واسم هذا السفر في توراة

الابروسطانت (سفر صموئيل الثاني) : (وكان عند المساء أن داود قام عن سريره

وتمشى على سطح بيت الملك فرأى عن السطح امرأة تستحم، وكانت المرأة جميلة

جدًّا، فأرسل داود وسأل عن المرأة فقيل له هذه بتشابع بنت إليعام امرأة أوريا

الحثي، فأرسل داود رسلاً وأخذها فدخلت عليه فدخل بها، وتطهرت من نجاستها

ورجعت إلى بيتها، وحملت المرأة فأرسلت وأخبرت داود وقالت إنني حامل)

انتهى؛ فوضعت ولدًا ومات ثم زنى بها ثانية (على زعمهم) فحبلت ووضعت

سليمان وهو الأصل الثالث من الثالوث الزاني.

وبما أننا قصدنا الاختصار بقدر الإمكان لذلك لم نكتب ما جاء في تفاسيرهم

على التوراة والإنجيل وإن كان موجودًا في كتابنا؛ لأن على المنار الأغر خدمات

عظيمة فلا نضيع من صفحاته أكثر من هذا القدر.

فهذا ما عندهم وهذا ما يدعون الناس إلى الإيمان والاهتداء به، وأما ما عندنا

وندعو إليه أهل الفضل والعقل بعد تبرئة أنبياء الله من الفسق والفجور فهو:

***

اعتقاد المسلمين طهارة نسب عيسى

المسيح عليه السلام

قال الله تعالى في سورة آل عمران: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ

إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ

قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ

السَّمِيعُ العَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ

وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ

* فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا} (آل عمران: 33-37) .

وقال الله تعالى في سورة العنكبوت بعد ذكر إبراهيم عليه وعلى آله الصلاة

والسلام: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ

أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} (العنكبوت: 27) .

الله أكبر! فلينظر المبشرون والأب لويس شيخو - الذي ألف رسالة منذ بضع

سنين وسماها (خرافات القرآن) وقد ترجمها المبشر المدعو (زويمر)[1] ونشرها

في مجلته (العالم الإسلامي) - إلى اعتقاد المسلمين بطهارة نسب عيسى المسيح

عليه السلام. فإنهم إذا نظروه من جهة القرآن المجيد يرونه من سلالة طيبة زكية

حماها الحي القيوم من التلطخ بأقذار وأدران الزنا والسفاح.

فلينظروا أي الوصفين أحب إليهم بحق هذه الذات الشريفة وليتمسكوا به.

وايم الله إننا ما كنا نحب كتابة ما ذكرناه على هذا الموضوع غير أن ضرورة الحال

تمنعنا.

***

اعتقاد المبشرين أن المسيح إلههم صار لعنة

والعياذ بالله تعالى

قال مقدسهم بولس في رسالته إلى أهل غلاطية الإصحاح الثالث العدد (3:

13) : (المسيح افتدانا من لعنة الناموس إذ صار لعنة لأجلنا لأنه مكتوب: ملعون

كل من علق على خشبة) .

يعلم الناس أن النصارى يعتقدون أن المسيح هو إلههم وربهم وخالقهم

ومخلصهم، وكتابهم المقدس يلقنهم أنه (صار لعنة) ، واللعنة غاية المبالغة في

الشتم والازدراء وليس بعدها زيادة لمستزيد، وأي شيء يمكن أن يؤتى به ويكون

أشد قبحًا من قول مقدسهم: إنه (صار لعنة) ؛ أي أنه نفس اللعنة؟ فما هذا الحب

الذي قادهم إلى القول بألوهيته من جهة ثم قادهم إلى القول بأنه (صار لعنة) من

جهة أخرى؟ . دع اعتقادهم بأنه من سلالة زناء مثلث كما بيناه سابقًا، فهم - والحالة

هذه - أسوأ حالاً من أشد أعدائه؛ لأن مقام العداوة لا يطلب إلا أقبح الأوصاف، ومقام

المحبة لا يطلب إلا أحسنها وأكملها، فهم يدّعون محبته عليه السلام ويعتقدون أنه

خالقهم ورازقهم وفاديهم ومخلصهم، ثم يصفونه بهذا الوصف

فما بالهم لا

يتدبرون ما يعتقدون.

وبما أنه إله على حسب اعتقادهم - والعياذ بالله تعالى - فمَنْ ذا الذي صيّره

لعنةً؟ هذا ما نود إيضاحه منهم! وأغرب من ذلك اعتقادهم أن الإله ذو ثلاثة أقانيم

(أي أشخاص) وهي الآب والابن والروح القدس، وإن هذه الأقانيم الثلاثة هي إله

واحد. فكيف صار الابن الذي هو ثلث إلههم (لعنة) دون الثلثين الآخرين، أي

الأب والروح القدس؟ وما داموا يقولون بأن الثلاثة واحد حقيقة فلا بد من دخولهم

جميعًا تحت اللعن بهذا الاتحاد! ! فتدبر هذا وسلهم: من اللاعن؟ ومن هو يا ترى؟

(ستأتي البقية)

...

...

...

...

...

...

عبد الوهاب وولده محمد طاهر

(المنار)

قد غلا دعاة النصرانية في العام الماضي وفي هذا العام في الطعن

بالإسلام قولاً وكتابةً، فلم يكتفوا بصحفهم الدورية، ولا بالكتب التي نشروها من

قبل، بل هم يلفقون رسائل جديدة بمعنى ما تقدمها في الطعن والقدح والتمويه ولكن

تختلف أسماؤها وأساليبها. وأكثروا المحافل والمجتمعات في القاهرة وسائر البلاد

والقرى لأجل الدعوة إلى النصرانية. ومن العجائب أنهم كانوا من قبل أصحاب

صبر وأناة فخانهم الصبر في هذه السنة حتى صاروا يهينون من يرد عليهم في

المجتمعات إهانةً شديدة. وقد خدعوا أفرادًا من فقراء العامة بالمال وإدرار الرزق

فأظهروا التنصر، ثم بدا لهم وندموا، فصار من يريد الرجوع إلى حظيرة الإسلام

يهدد بالإيذاء، حتى أخبرنا بعضهم أنه لا يمكنه إلا أن يفر من القاهرة إلى بلد آخر

يظهر إسلامه فيه.

لأجل هذا العدوان وجب علينا أن لا نقف عند حد رد مطاعنهم التي يكرّرونها

كما كنا نفعل من قبل، وأن نبين لإخواننا المسلمين حقيقة دينهم والمقابلة بينها وبين

ديننا، وبيان أننا نحن نعظم المسيح ونكرمه بالحق، فلا نحتاج إلى من يدعونا إلى

الإيمان به إيمانًا يجمع النقائض ككونه واحدًا وثلاثةً، ومقدسًا ولعنةً، برّأه الله ممّا

قالوا. وهذا مما يجب علينا شرعًا كالصلاة وغيرها من الفرائض؛ ولهذا نشرنا هذه

الرسالة بعد تصحيحها.

نعم إنهم هددونا بالسلطة الإنكليزية، وأغروا المعتمد الإنكليزي بنا عسى أن

يأمر الحكومة المصرية بإقفال المنار ومقاومة (مدرسة دار الدعوة والإرشاد) ومنع

نظارة الأوقاف أن تساعدها بشيء من أوقاف المسلمين بعد أن صارت الأوقاف

تحت سيطرته؛ ليتسنى لهم أن يقولوا: إن جميع المسلمين في مصر عجزوا عن

الرد عليهم، وليكتفوا مؤنة من يرد عليهم في المستقبل إذا نجحت مدرسة دار

الدعوة والإرشاد {فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} (الحشر: 2) .

_________

(1)

هو زويمر الذي جرأ دعاة النصرانية في مصر وبلاد العرب على الغلو في الطعن في الإسلام وإهانة المسلمين وتهييج العداوة بينهم وبين النصارى.

ص: 142

الكاتب: الموسيو فلورنش

‌مطامع الدول فينا [*]

وضعت الحرب أوزارها، وأخمدت المدافع أنفاسها، وأعيدت السيوف إلى

أغمادها، وعادت الدول المتناجزة بالأمس عن ميادين القتال إلى ردهات المجلس

فعقدت بعضها مع بعض معاهدات تضمن صيانة السلام إلى حين. ثم خلت كل

واحدة إلى نفسها تناقشها الحساب، وتبحث في ما نالها من الغُنم. فكانت الهمة

الأولى منصرفة إلى اقتسام الأراضي المكتسبة. ثم إلى النظر في ما ثغرته النفقات

الحربية في ميزانياتها، وما يقتضيه سد تلك الثغور من الأموال الطائلة، وهي لا

سبيل إليها إلا بعقد القروض.

ولو انحصر الأمر في الدول الخارجة من ميدان القتال لهان الخطب، ولكن

ثمت دولاً أخرى أبت إلا أن يكون لها من الغنيمة نصيب.

تنازلت تركيا لإيطاليا عن ولاياتها الأفريقية. ثم تخلت لحكومات البلقان

عن ولاياتها الأوربية غير ولاية أدرنة. ثم تقاسمت الدول ما بقي بشكل مناطق نفوذ

كل واحدة بحسب ما توحيه إليها مطامعها في العلانية والجهر.

ورضيت إنكلترا نصيبًا لها سواحل خليج العجم من الأوقيانس الهندي إلى

البحر الأحمر. فأصبحت سلطتها مبسوطة على البلاد العربية من البصرة إلى

السويس ومن الخليج العجمي إلى ترعة السويس. وأصبحت في يدها الطريقان

البحريتان الموصلتان من أملاكها الشرقية إلى أملاكها الغربية. واتصلت

إمبراطوريتها الأسيوية (الهند) بملكها الأفريقي (مصر) .

أما إيطاليا ولية أمر طرابلس الغرب والواضعة يدها على جزيرة رودس وما

جاورها من جزر البحر المتوسط فإنها فازت بهذه البقعة الآهلة باليونانيين والأروام،

والقائمة بين خط بغداد والأرخبيل، ومعها ميناء أضاليا وخط حديد يمتد إلى

الداخلية، ويتصل بالخطوط الألمانية؛ خط بغداد وخط أزمير.

وأما ألمانيا فكان نصيبها هذا الخط البغدادي الكبير بجملته لا مسيطر عليها فيه

ولا مهيمن، وهو الذي طمحت إليه، ومن ورائه ما بين النهرين وكل البلاد الواقعة

بين أسكودرا والبصرة من البوسفور إلى الخليج العجمي.

وإن اتفاق بوتسدام مهّد للألمانيين السبيل إلى بلاد إيران؛ إذ خوّلهم حق تمديد

خط حديدي من بغداد إلى طهران. وفي مقابل ذلك جعلت حصة روسيا أرمينيا

الكبرى. وهي تتناول الأراضي الواقعة إلى شمال الخط البغدادي وإلى جنوبه

بجملتها بين أنقره وبغداد.

على أن ثمت عقبة كان لا مندوحة عن تذليلها. فإن الاستئثار بتلك البقاع

الواسعة كان لا بد من تمويهه بحجة من الحجج ووسيلة من الوسائل فكانت هذه

الوسيلة الأشغال العمومية والمشروعات النافعة الواجب إجراؤها. بيْد أن روسيا لم

يخطر لها أن تبذل أموالها الخاصة في هذا السبيل بل لجأت إلى فرنسا. أفليست

هي على الدوام مستعدة لبذل أموالها استعداد تركيا للتخلي عن أراضيها؟ وعلى هذه

الصورة تم الاتفاق على أن فرنسا تتولى إنشاء مينائي يني بولي وهر كله (على

البحر الأسود) والخطوط الحديدية (سمسون سيواس - ديار بكر، وديار بكر -

أرضروم - طرابزون) مع العلم بقلة إيراداتها المتوقعة؛ لأنها لازمة لروسيا تأييدًا

لموقفها السياسي والاقتصادي والحربي أيضًا، وإن كان لا فائدة لنا نحن منه على

الإطلاق. وإنما أعطينا في مقابل ذلك البقعة السورية في جنوبي غربي خط بغداد،

مع حق إنشاء مينائي حيفا ويافا وتمديد خط رياق الحديدي إلى القدس، ثم الاتفاق

على اقتسام النقل بين خط دمشق - حماه والخط الحجازي، وكلاهما متصل

بالسواحل السورية: الأول في بيروت والثاني في حيفا. وكلها امتيازات لا نفع لنا

منها ما دمت حكومتنا متغاضية عن معاهدنا الكاثوليكية في الشرق، ضاربة بما لنا من

الحق في حماية الأراضي المقدسة وحماية المارونيين عرض الحائط، ومهدت

للإيطاليين قطع السبيل علينا بما ينشئونه لأنفسهم في رودس وأضاليا وطبرق

وسراقوسه.

لا يتوهمن متوهّم أن الدولة العثمانية بذلت كل ما تملك للآخذين على أنفسهم

صيانة كيانها. كلا! فهي لا تزال باقية لها الأراضي الواقعة على ضفتي المضايق.

وما زالت في عهدتها حماية البوسفور والدردنيل (! !) وإنه لشرف عظيم (! !)

وفخر باق وإن كان يلقي على كاهل صاحبه مسؤوليات عظمى. ثم إنهم لا

يزالون مالكين أدرنه والآستانة وبروسة وأزمير وأسقاعًا متراميةَ الأطراف خصبة

التربة تكفي إيراداتها - فيما يقولون - لدفع فوائد ديونها المتراكمة (! !) .

بهذا الثمن نجت الدولة العثمانية من الطور الثاني، وأعني به طور التقسيم أو

طور التجزئة. بقي الطور الثالث وأعني الحاجة إلى المال. ومعلوم أننا نحن

معاشر الفرنسيس لا نبرح أبدًا من بال أحد متى بلغت المسائل هذا الطور وأعني

طور الدفع. إذن إلى فرنسا اتجهت الأبصار للمطالبة بسد الفراغ الذي سببته

هفوات وجنون بل جنايات الآخرين حتى يتهيأ لأرباب الجشع والطمع ممن ذكر أن

يستتبعوا تحقيق مطامعهم. أما ما يطالبوننا به هذه المرة فثماني مئة مليون فرنك.

ولقد غامرت الأمة الفرنسوية إلى هذا الحين بمبالغ طائلة من توفيرات أبنائها

في المشروعات العثمانية فلا ينكر عليها حق السعي في استرداد ذلك المال. ولكن

هذا لا يجب أن يتخذ ذريعة لتضحية مصالح البلاد في سبيل منافع بعض الماليين،

فبعد نكبات الجيوش العثمانية اتفقت الصحافة وأجمع الرأي العام في فرنسا والعالم

كله على إلقاء تبعة تلك الانكسارات على عاتق جمعية الاتحاد والترقي. فإن

الاتحاديين هم المسؤولون عن سوء انتظام الجيش وسوء الإدارة وضياع أموال

الحكومة. وإن هؤلاء الاتحاديين هم أنفسهم المتقلدون الأحكام اليوم وفي أيديهم

التصرف بالأموال العمومية. وهم أنفسهم الذين يتطلبون اليوم الأموال الفرنسوية

في حين أن لاستعمالها في فرنسا وجهة أولى وأنفع، ولكن ما ثَمَّ مَنْ يعترف، فإن

قلم المراقبة في وزارة الداخلية كان قد ألغي، فأعاده المتمولون - على شكل أضمن

لمصلحتهم.

ومن أهم ما يتهمون به جمعية الاتحاد والترقي نزعاتها الألمانية وهي تكاد

تكون تحرشاً بنا. ثم يتهمونها بأنها ألقت بين يدي الضباط الألمانيين تنظيم جنديتها

حتى ألقى بعضهم على الجنرال فندر غولتز تبعة انكسارات العثمانيين في قرق

كليسة ولوله برغاس.

فلما استعاد الاتحاديون السلطة كان أول عمل قاموا به انتداب بعثة ألمانية

جديدة لتنظيم الجيش العثماني. ورضي العاهل الألماني بإيفاد ثلاثة وأربعين رجلاً

من ضباط جيشه إلى الآستانة، ولكنه اشترط أن تكون لهم مع تحمل المسئولية

السلطة الفعلية، وأن تكون القيادة العليا لزعيم البعثة، وأن يكون الضباط العثمانيون

في الجيش خاضعين للضباط الألمانيين. ولما كان الخط البغدادي الذي يجتاز آسيا

الصغرى من أدناها إلى أقصاها - من خليج العجم إلى البوسفور - وكل الخطوط

الحديدية الأخرى فروع له، هو الوسيلة الوحيدة لتعبئة الجيش وحشده، فإن الجيش

العثماني بقيادة الضباط الألمانيين سيكون بمنزلة إحدى فرق الجيش الألماني،

والثماني مئة مليون فرنك التي تطالبنا الحكومة العثمانية بها اليوم ستنفق في تسليح

وتجهيز وتنظيم وتدريب جيش يكون في طليعة الجيوش المهاجمة لنا في أول حرب

نخوض غمراتها. وتكون أموالنا نحن الفرنسويين قد تحولت إلى حديد ورصاص

يخترق صدور أبنائنا.

ولقد بلغ من حرج الموقف أن الحكومة الروسية مع عدم رغبتها في انتهاج

خطة المجافاة والمشاكسة لم يسعها إلا إقامة الحجة في عاصمة السلطنة. وليست

وزارتنا الحربية والخارجية في فرنسا ببعيدتين عن وزارة المالية فجدير بوزيريهما

أن يجتمعا بزميلهما ويكاشفاه بأن في الحياة مواقف لا يجوز فيها تضحية الوطنية في

سبيل مصالح بعض الأفراد، وأن بعض القروض يجب مجانبة قبولها في بورصة

باريز.

أما أنا فإني لا أبذل فلسًا واحدًا من مالي للذين يساومون في تربة الوطن وفي

موارده الطبيعية تزلفًا لبعض العظماء، ولا أعتبر من يجود بأموال الأمة على هذه

الصورة مؤتمنًا أمينًا.

رُبَّ قائل يقول: ليس في الأمر شيء مما تخشاه، وكل ما هنالك تفاهم بتبيين

مناطق نفوذ كل دولة. نعم؛ ولكن لتحدث غدًا فتنةٌ أو ثورةٌ أو مذبحة - وليس ذلك

بالأمر النادر حدوثه في آسيا الصغرى - إذن لا نلبث أن نرى العمارة الإيطالية في

أضاليا، والإنكليز في الكويت، والألمان في مرسين، والفرنسويين في بيروت،

والروسيين في طرابزون. ومتى وطئت أقدامهم الأرض فهيهات أن تتزحزح عنها.

وإن لدينا في موقف إيطاليا اليوم في جزر بحر إيجه خير شاهد، فالأمر إذن ليس

بمنحصر في تبيين مناطق النفوذ، بل هو يتجاوزه إلى تقسيم الأملاك العثمانية

الأسيوية والسلام.

...

...

...

... (الأهرام)

ثم علقت الأهرام عليه بما يلي:

هذا هو كلام ذلك الوزير وهو لا يقول لنا شيئًا لا نعرفه ولكنه يقوله لنا

ونردده على أنفسنا لنتعظ ونتخذ الحيطة ونعمل بقول الشاعر:

ما حكَّ جِلْدَك مثلُ ظفرِك

فتولَّ أنت جميعَ أمرِك

(المنار)

صدقت الأهرام، إن هذا السياسي الكبير لا يقول لنا شيئًا لا نعرفه؛ أي لا

يعرفه أهل البصيرة منا، ولكنهم - واحسرتاه - قليلون فينا، والجمهور

مغرور بما يرى حينًا بعد حين من إيماض الذبال قبل الخمود، كلما أومض إيماضة

حسبوا أنهم في عالم الحياة النورانية داخلون، وإذا أظلم عليهم عادوا في ظلمتهم

يعمهون، وإذا صاح بهم المنذرون: يا قومنا فروا إلى النجاة فإنكم إلى الذبح

تساقون - وسوس لهم الموسوسون: إن هؤلاء قوم غاشّون، وعن حظيرة الإخلاص

للاتحاد خارجون، وبألسنة أعدائنا الإفرنج ينطقون، أمَا ترون وميض أنوار

التجديد، يلوح لأعينكم من بعيد، فابذلوا لهؤلاء المجددين كل ما تملكون من المال،

تنالون جميع الآمال! !

بيَّنا في المجلد الماضي وفيما قبله ما وصلنا إليه من الخطر القريب، وبيَّنا أن

الأوربيين لا يقبلون أن يأخذوا بلادنا إلا بالفتح السلمي المعبر عنه بمناطق الاقتصاد

والنفوذ، وبيَّنا طريقة النجاة ولكن لمن لا يسمع ولا يبصر، وها نحن أولاء

نرى غير الرسميين من ساسة الإفرنج يصرحون بذهاب ملكنا تصريحًا،

والرسميين منهم يصرحون بالعمل ويعرّضون بالقول تعريضًا، وحسبنا أَنْ نصحنا

وأدينا الأمانة. وإن عرضنا نفسنا للأذى والإهانة.

_________

(*) بقلم الموسيو فلورنش وزير خارجية فرنسا وترجمة جريدة الأهرام.

ص: 148

الكاتب: صالح مخلص رضا

‌تقريظ المطبوعات الجديدة

(تاريخ حرب البلقان الأولى بين الدولة العلية والاتحاد البلقاني)

عني يوسف أفندي البستاني أحد محرري الجريدة اليوم، بتتبع حوادث هذه

الحرب من أول المهد بشبوب نارها، إلى أن خدمت ووضعت أوزارها، وقرأ ما

كتبه أشهر كُتَّاب الإفرنج في الجرائد الأوروبية، وما ألفوه من الكتب في ذلك، وما

كانت تنشره الجرائد العربية لمراسليها في الآستانة وغيرها؛ فاتخذ ذلك مادة لوضع

تاريخ لهذه الحرب كتبه بمداد الروية والاعتدال؛ فجاء تاريخًا مفيدًا جامعًا لما فيه

العبرة النافعة، والموعظة الصادقة، بعيدًا عن لغو القول وهرائه وبلغت صفحاته

327 ماعدا صفحات المقدمة والصور والرسوم. (وفيه 40 رسمًا وخريطتان) وقد

كتب في الحرب عدة مصنفات عربية لا تعد شيئًا مذكورًا مع هذا الكتاب فينبغي أن

يكون معول قراء العربية عليه دونها.

وهو يطلب من مكتبة المنار بمصر وثمن النسخة منه خمسة عشر قرشًا خلا

أجرة البريد.

(بيكي مجموعة سي)

مجلة علمية شهرية تركية تصدر في الآستانة العلية صفحاتها 96 قيمة

اشتراكها في الممالك العثمانية - عن سنة واحدة - نصف ليرة عثمانية، وفي

روسيا خمس رابل ونصف، و15 فرنكًا في سائر الممالك وهي مطبوعة طبعًا جيدًا

على ورق نظيف وثمن العدد الواحد خمسة قروش عثمانية.

(مجلة الناشئة)

مجلة شهرية تبحث في الناشئة وشؤونها يحررها طلاب المدرسة العلمية

الوطنية في دمشق، قيمة الاشتراك السنوي 15 قرشًا ولتلاميذ المدرسة 10

قروش، ويضاف إلى ذلك أجرة البريد للخارج. وصفحاتها 32 بالقطع الصغير،

فنحثّ على مطالعتها تنشيطًا لمحرريها واطّلاعًا على سير العلم في نابتة الأمة.

(لسان العرب)

مجلة تاريخية اجتماعية أدبية مصورة لمنشئها أحمد عزت الأعظمي صفحاتها

65 مطبوعة على ورق جيد، قيمة اشتراكها السنوي ثلاثة ريالات مجيدية في

الممالك الأجنبية وللطلبة بنصف القيمة، وعنوانه: (الآستانة. شارع أبو السعود،

صندوق البريد عدد 149) . ولهذه المجلة مكانة في نفسي أرجو أن أوفق إلى

قراءة ما لدي من أعدادها فأعود إلى تقريظها بالتفصيل الذي يليق بها.

(مجلة كمال)

مجلة أدبية فكاهية شهرية (سنتها عشرة أشهر) مطبوعة على ورق نظيف

طبعًا نظيفًا صفحاتها 96 بقطع المنار. ويصدرها في بيروت كمال أفندي عباس.

قيمة اشتراكها في البلاد العثمانية ريالان مجيديان وفي مصر والبلاد الأجنبية

عشرة فرنكات.

(المرآة)

جريدة أسبوعية مصورة سنتها خمسون عددًا، صفحاتها 28 وهي في شكل

مجلة من المجلات ذات الصفحات الكبيرة يصدرها في بيروت خليل أفندي زينية

المعروف لدى كتّاب وقرّاء العربية، قيمة اشتراكها السنوي في بيروت 80 قرشًا

وفي سوريا وفي لبنان وسائر الولايات العثمانية 20 فرنكًا وفي الخارج 25 فرنكًا.

_________

(*) كتب تقاريظ هذا الجزء شقيقنا السيد صالح مخلص رضا.

ص: 152

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الأخبار والآراء

(لا بابوية في الإسلام ولا تُباع شفاعة خير الأنام)

ذكرنا في الجزء الماضي أن بعض المنافقين زين للاتحاديين أن يستغلوا

حجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم بوضع دفاتر فيها، يكتب فيها أسماء الناس

الذين يبذلون لهم الذهب الأحمر لتكتب أسماؤهم في تلك الدفاتر، وبيّنا قباحة هذه

البدعة المشتملة على عدة جرائم منكرة، وبينا أن سلف الأمة الصالح ما كانوا

يتسامحون في إحداث بدعة من العادات المباحة في مسجد الرسول صلى الله عليه

وسلم لئلا يدخل محدث ذلك، والراضي به في عموم قوله صلى الله عليه وسلم:

(من أحدث في مسجدنا هذا حدثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) ؛ وهو

الحديث الذي احتج به الإمام مالك على ابن مهدي العالم الزاهد لمَّا صلى على ثوبه.

وبنينا على ذلك أننا لا نظن أن جمعية الاتحاد والترقي تقبل هذا الاقتراح، ولا أن

الحكومة تنفذه.

ثم بلغنا بعد ذلك أن موضوع المشروع أن تسمى تلك الدفاتر دفاتر المستشفعين؛

أي أن كتابة الأسماء في تلك الدفاتر طريق أو سبب لشفاعة النبي صلى الله عليه

وسلم فهي إذًا عبارة عن بيع شفاعة المصطفى صلى الله عليه وسلم لِمَنْ يريد أن

يشتري، وأن أقل ثمن لها ليرة عثمانية.

الشفاعة لا تملك فتباع، ومن يدعي أن كتابة اسم أحد ووضعه في الحجرة

النبوية يكون سببًا لشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم له فهو مفترٍ على الله

ورسوله؛ لأن هذا أمر لا يُعلم إلا بوحي من الله، ولو أنزل الله تعالى فيه شيئًا يدل

عليه بالنص أو الفحوى لكان أجدر الناس بمعرفته والعمل به الصحابة - رضي الله

عنهم - ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم.

لهذا ننصح للذين لا يعرفون أصول الدين وفروعه من رجال الدولة الاتحاديين

أن يتجنبوا هذه البدعة، فليست هذه المسألة كغيرها من الأمور التي تجرءوا عليها.

وليتذكروا أن مسألة بيع البابوات للغفران هي التي أحدثت الانقلاب الديني

العظيم الذي آل إلى سلب السلطة السياسية من البابوات، بعد حروب شابت من

هولها الولدان، على أن بيع الغفران له وجه ما في دين النصارى؛ إذ يحتجون

عليه بقول أناجيلهم أن ما يحلونه أو يعقدونه في الأرض يكون كذلك في السماء،

وبيع الشفاعة بدعة في الإسلام ليس لها وجه ولا شبهة؛ بل تدل الحجج الكثيرة

على بطلانه. وقرنه بالشرك بالله تعالى لأنه قول على الله بغير علم، وشرع لم

يأذن به الله، وزيادة في الدين الذي أكمله، وداخل في عموم الأحداث والبدع التي

نهى وحذر الشارع منها ولعن مُحْدِثَها.

والآيات والأحاديث في هذا كثيرة، تدعمها الآيات الناطقة بأن يوم القيامة لا

يملك فيه أحد لأحد شيئًا لا شفاعة ولا غيرها وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ للَّهِ وحده فلا يشفع أحد

عنده إلا بإذنه ولا يأذن إلا لمن رضي له قولاً {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا

يَشْفَعُونَ} (الأنبياء: 28) وأجمع المسلمون على أنه ليس لأحد أن يجزم بمستقبل

أحد في الآخرة إلا بنص من الشارع، فليس لأحد من رجال الحكومة العثمانية ولا

غيرهم أن يدعي أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع له أو لأحد معين، فمن لا

يملك الشفاعة لنفسه، كيف يبيعها لغيره؟

فإن كانوا في شكٍّ من نصحنا لديننا ولهم في هذه المسألة فليعرضوها على

علماء الفاتح وعلماء السليمانية في عاصمتهم ويطلبوا منهم إبداء رأيهم فيها بالحرية

التامة، وربما نعود إلى بيان ذلك بالتفصيل، ودلائل السنة والتنزيل {وَاللَّهُ يَقُولُ

الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: 4) .

***

(جمعية خدام الكعبة في الهند)

جاءنا من هذه الجمعية رسالة وجيزة ملخصها أن الدولة العثمانية أصبحت

على خطر مما يبيّت لها الأعداء، وأن أكبر أماني المسلمين أن تكون غنية قوية،

وأن مؤسسي الجمعية أحسوا بما سيصيب الحرمين الشريفين من المصائب الحاضرة

فأسسوا هذه الجمعية لا يقصدون منها (إلا مساعدة الدولة العثمانية في المحافظة

على الحرمين الشريفين وبذل المال والنفس في سبيل حمايتها من الغوائل) ومن

ذلك تعليم العرب الذين يقطعون السبل على الحجاج. كل هذا حسن؛ ولكن جاء

بعده أن الجمعية تريد إنشاء جريدة باللغتين العربية والأوردية.

قال الكاتب: (حتى ننشر أفكارنا في جميع البلاد الإسلامية وننبه المسلمين

إلى ما يجب عليهم نحو دينهم ودولتهم الوحيدة

إلخ) ، وهذا هو الأمر الذي لم

نفهمه: جمعية خدام الكعبة أنشئت لخدمة الحرمين الشريفين فكيف يجوز لها صرف

المال الذي تجمعه للحرمين الشريفين في إنشاء جريدة سياسية، وما هي هذه الأفكار

التي يريد رئيس تحرير الجريدة أن يبثها في العالم الإسلامي؟ هل هي أفكاره أم أفكار

الذين يتبرعون بالمال لخدمة الحرمين الشريفين؟ ومن أين وقف على أفكارهم؟

وهل دفعوا المال لأجل نشر الأفكار السياسية أم لأجل خدمة الحرمين؟

قد بينا رأينا من قبل في هذه الجمعية وفيما يجب أن تكون عليه فلا نعيده.

ونقول الآن: إنه لا يجوز لها - بحسب قانونها الذي نشرناه وبحسب ما اقترحناه

من تعديله - أن تنفق شيئًا من مالها على إنشاء الجرائد، فهذه الفكرة الجديدة

قد أزالت ثقتنا بالجمعية إلا أن يرجعوا عنها.

أما مساعدة الدولة العثمانية بالمال والنفس فهو عمل نشكره لكل من قام به في

الهند وغيرها، فمن شاء فليؤلف له جمعية مستقلة ولينشئ له ما شاء من الجرائد بما

شاء من اللغات، وأما خدمة الكعبة والحرمين الشريفين فيجب أن يكون بمعزل عن

السياسة وأهلها، وهو عمل تخدمه جميع الجرائد الإسلامية في جميع الأقطار، وتنشر

لجمعيته ما شاءت من غير أجرة فلا يحتاج إلى جريدة خاصة.

إن مساعدة الدولة بالمال والنفس وبث فكرة الجامعة الإسلامية يوشك أن

تقاومه حكومة تلك البلاد وتبطله وتصادر جريدته، فإذا كان ملصقًا بجمعية خدام

الكعبة يوشك أن يكون شؤمًا عليها وسببًا لزوالها؛ لأجل هذا نحب أن تكون بمعزل

عن السياسة. وما دمنا نرى هذا الرأي فإننا ننصح لكل مسلم أن يقاوم هذه الفكرة

الجديدة التي عزمت عليها جمعية خدام الكعبة؛ لتكون جمعية خيرية محضة.

والسلام على من اتبع الهدى، ورجّح الحق والمصلحة على الهوى.

***

(مفاسد المتفرنجين في أمر الاجتماع والدين)

يهاجم الإسلام والمسلمين جيش خارجي من دعاة النصرانية، وجيش

آخر داخلي من دعاة التقاليد الإفرنجية. والثاني أنكى من الأول وأضرّ، وأدهى

وأمرّ؛ لأن جُلّ أفراده من المارقين الذين يعدهم المسلمون منهم وما هم منهم،

ولسبعون عدوًّا خارج الدار أهون من عدو واحد في الدار فقد تمر السنون ودعاة

النصرانية تبحّ أصواتهم من الصياح بالخطب والجدل؛ ولا يقع في شركهم في القطر

الكبير إلا واحد أو آحاد يلجئهم الفقر إلى أن يكونوا من خِرَافِهم؛ لأنهم يجدون من

المرعى عندهم ما لا يجدون عند غيرهم. وقد ورد في الحديث: (كاد الفقر أن يكون

كفرًا) وقلَّما تجد واحدًا من هؤلاء الخِراف يأنس مرعًى له خارج دمنتهم إلا ويتفلت

منها.

وأما هؤلاء المنافقون المتفرنجون فإنهم يغشون المسلمين بأنهم منهم، ينفعهم

ما ينفعهم ويضرهم ما يضرهم، وإنهم إنما يدعونهم إلى الترقي عمّا هم عليه إلى

مدنية أعلى وحضارة أسمى، وهي أن يكونوا مثل الإفرنج في عزهم وثروتهم

وزخرفهم، ويحسبون - لصغر عقولهم وقصر نظرهم - أن ما يفوقنا به الإفرنج من

الثروة وأسباب القوة، قد جاءهم من رقص نسائهم مع رجالهم، ومن اختلاطهن بهم

في مجامعهم ومحافلهم، أو من عدم مبالاة كثير منهم بالدين، وإن كان الأكثرون

يتعصبون له ويبذلون له الملايين، أو من عاداتهم في طعامهم وشرابهم وأزيائهم،

وفسقهم وفجورهم، واجتماعهم وافتراقهم، فطفقوا يقلدونهم في شر ما عندهم،

ويدْعون المسلمين إلى تقليدهم في أمثال هذه الظواهر، على أن منها ما هو من

سيئات مدنيتهم وقبائحها التي ينكرها عليهم حكماؤهم وعقلاؤهم، ومنها ما هو

مناسب لطبيعة بلادهم وأجيالهم دوننا، ومنها ما لا نفع فيه ولا ضر لذاته ولكنه

يضرنا من حيث هو تقليد لهم يضعف روابطنا القومية، ومشخصاتنا الاجتماعية،

ويحقر أمتنا في أنفسنا ويعظم أممهم فيها، فيكون تمهيدًا لقبول سيادتهم علينا بغير

امتعاض، دع ما يتوقف عليه البقاء من الجهاد.

وقد قوي هجوم هؤلاء المتفرنجين في فاتحة هذا العام فكان أشد مما كان عليه

في العام الماضي، فكان شأنهم عنا كشأن دعاة النصرانية سواء. ومنبت هذه الفتن

ومطلع رؤوس شياطينها الآستانة ومصر، وقد اشتركت المدينتان في مسألة الدعوة

إلى تهتك النساء باسم تحرير المرأة، وامتازت الآستانة بالغلو في عصبية الجنسية،

وقطع ما أمر الله به أن يوصل من الوشائج الدينية، بمثل كتاب (قوم جديد)

و (ترجمة القرآن) بالتركية وغير ذلك.

***

(مسألة تحرير المرأة أو تهتكها)

إن الآستانة ومصر فرسا رهانٍ في تهتّك النساء وفي تجريء المتفرنجين على

ذلك، وقد نشر بعض الشبان في الجرائد المصرية دعوة إلى جمعية تسعى لهتك ما

بقي من آثار الحشمة التي يسمونها حجابًا وإبطال ذلك بالفعل، وعقدوا اجتماعًا في

إدارة (الجريدة) التي هي لسان حالهم وأقنعوا بعض النساء بحضوره حاسرات

فهجم بعض الشبان عليهن لمعانقتهن وتقبيلهن فمنعهم آخرون.

وقد اختلفت الروايات علينا في تفصيل ما كان في هذا الاجتماع فلا نجزم

بشيء منه، ولا فائدة في شرحه.

قام هؤلاء الشبان بهذه الدعوة في وقت جاءتنا فيه البرقيات الأوروبية ببيان

ضرب من ضروب فضائح اختلاط النساء بالرجال ما كان يذاع مثله من قبل، وهو

أنه قد افتض عدة من العذارى اللواتي يتلقين العلوم العالية في مدارس ألمانيا الجامعة.

هذا وإن الألمانيين أشد عناية من السكسونيين - دع اللاتينيين - في التربية الدينية

والصيانة المنزلية. وإن كثيرًا من الدعاة إلى هتك النساء الذي يعبرون عنه بتحرير

المرأة، لا يبغون إلا أن يمهدوا السبيل لأنفسهم للتمتع بالحسان من ثيبات وأبكار،

وقليل منهم يريد الظهور بلباس المصلح المدني وهو عاجز عن كل إصلاح، فلا يرى

أهون عليه من اللغط بالكلام في هذه المسألة؛ لأنه لا يتوقف على علم ولا عمل،

فما على اللاغط إلا أن يبرز ما كتب غيره من قبل في قالب جديد، ويزيد عليه من

لغو الكلام ما يشاء أن يزيد.

يقول لي أهل الصيانة: ما لك لا تردّ على ما يكتب هؤلاء المفسدون، فمنك

نطلب، وإياك نرجو، أن تتبّع عوارهم، وتقلّم أظفارهم. وإني أرى أن الذين

قاموا في وجههم صائحين متهكمين قد كالوا لهم الصاع صاعين أو عدة آصع،

وليس عندهم شبهات قوية تحتاج إلى علم واسع وحجج قيمية؛ بل لا يكاد يفهم

مرادهم من كلامهم، ولا أراهم يبينون ما يريدون. فليست المرأة مستعبدة فيكون

طلبهم تحريرها طلب حق لها شرعي أو عقلي، وليست محجوبة في مصر حجابًا

مانعًا لها من التصرف والرياضة ولا التبرج المذموم أو غير المذموم بل هي تفعل ما

تشاء. إلا أن القاعدة العامة في نساء الأغنياء والمتوسطين في المدن أنهن لا

يحضرن أندية الرجال ومجامعهم العامة، وأما المجالس الخاصة والمحاكم ومحالّ

التجارة فيحضرها كثير منهن، وأنهن لا يخلون بالرجال الأجانب في البيوت إلا

شذوذًا. فالظاهر أن هؤلاء المتفرنجين يطلبون الآن إبطال هاتين العادتين دفعة

واحدة.

ولا يشك ذو عقل أن ذلك مما يستشرى به الفساد، وتتفاقم به فوضى

الأعراض، وليس له حسنة تمحو سيئة من سيئاته. على أن دفع المفاسد مقدم عقلاًً

ونقلاً على جلب المصالح، وأين هي في مسألتنا؟

إن نساءنا في حاجة إلى علم وأدب تثقف بهما عقولهن، وتصلح بهما عاداتهن،

ويقدرون بهما على تدبير المنازل وتربية الأولاد، ويكن عونًا للرجال على تجديد

حياة الأمة الاجتماعية بمقوماتها ومشخصاتها من الدين واللغة والعادات الحسنة، ولا

يتم هذا إلا بتأليف جمعية من أهل البصيرة والرأي تنشئ المدارس الداخلية للتعليم

والتربية الدينية والمدنية بالعلم، وجمعية أخرى للنساء المتعلمات المهذبات غير

المفتونات بالتفرنج للبحث في إصلاح البيوت الموقت. والمتفرنجون لا يطلبون هذا

وإنما يودون أن ينسلخ جميع نساء المدن مما بقي من عاداتهن، ويقلدن نساء الإفرنج

في الاختلاط بالرجال غير المحارم في البيوت والمجامع والأندية والملاعب

والملاهي والمتنزهات، وما يتبع ذلك من العادات في الزي والمعيشة.

ولو فرضنا أن جميع ما ينسلخن منه بهذه الصفة قبيح أو ضار من بعض

الوجوه، وجميع ما يدخلن فيه حسن في ذاته ونافع لأهله، لما صدنا ذلك عن إنكار

هذا التحول والانقلاب، لما يترتب على التغيرات القومية من المضار وضعف

مقومات الأمة ومشخصاتها، وتراخي روابطها وانفصام عرى جامعتها. وناهيك به

إذا كان تقليدًا لأمة أخرى تراها أرقى منها. فكيف إذا كان ما يطلب من نسائنا

التحول إليه إما قبيح ضار لذاته أو ضار بأمتنا دون الإفرنج.

إن الضرر في تفرنج نسائنا أنواع: ديني وسياسي واجتماعي واقتصادي،

ولا يمكن شرح هذا في عجالة كهذه؛ ولكن التفرنج فتنة، ولكل جديد لذة، ونحن

نرى أن ما يطلبه المتفرنجون لنسائهم من هتك الحجاب الرقيق الحائل دون تمام

التمتع - وهو ما ذكرناه من بقايا العادات - قريب غير بعيد، فقد بدأ به بعضهم - ولا

أحد يقاوم سريان التقليد فيه -: بأن الذين يسافرون بنسائهم إلى أوربة يلبس نساؤهم

ما يلبس نساء الإفرنج ويأكلن مع الرجال ويجلسن معهم في الملاهي والملاعب.

ومنهم الذين يأمرون نساءهم بلقاء أصدقائهم ومجالستهم ومؤاكلتهم، يكون هذا بينهم

بالمبادلة. وكل هذا لم يرض بعض الشبان لأنه تدريج وهم يطلبون الطَّفْرة. ومَنْ

تتبّع عورات أولئك الهاتكين لأحسن ما بقي من عادات نسائهم - لرأى وسمع من

الفضائح ما يستحيا من نشره وتدوينه، وإنا ليحزننا أن نرى هذه العدوى قد سَرَتْ

إلى بعض البيوت الطاهرة أيضًا.

وجملة القول أن متفرنجي مصر والآستانة يستعجلون بتغيير عادات

النساء والجمع بينهن وبين الرجال تقليدًا للإفرنج، على أنه ليس لهم ولا

لنسائهم من عِلم الإفرنج وتربيتهم وآدابهم وأخلاقهم الموروثة ما يجعل المقلِّد التابع

كإمامه المقلد المتبوع، فنحن لا نُعنى بأشد ما نحتاج إلى أنواع مثله من مزايا

الإفرنج وفضائلهم لأن في تحصيله مشقة، بل نُعنى بمحاكاتهم في مظاهر الزينة

واللذة، وطالما أهلكت اللذة والزينة الأمم القوية، فكيف يكون فعلها بالأمم

الضعيفة؟

إن مسلمي الهند من أشد أهل الأرض مبالغة في حجب النساء ولم يمنع ذلك

الطبقة العصرية منهم أن تكون أرقى من مثلها في الآستانة ومصر. ولكن من كان

له هوًى في شيء لا يلتفت إلى ما يخالف هواه، وإن كان مؤيدًا بأقوى الحجج،

ومبينًا بأوضح الشواهد والأمثال. فالمصريون والترك يريدون بالتفرنج أن يكونوا

مثل الإفرنج؛ وهو الذي يبعدهم عن أن يكونوا مثلهم، بما يجعلهم عالة عليهم،

ويذهب بما بقي من استقلالهم السياسي؛ لأنه منوط باستقلالهم الاجتماعي والخلقي.

إن السواد الأعظم من الشعب التركي والشعب المصري يمقت هذا التفرنج،

ولكن ليس للسواد الأعظم زعماء يستعملون قوته المعنوية في المحافظة على

مقومات الأمة ومشخصاتها مع اقتباس ما يقويها من الفنون والصناعات العصرية،

وأما المتفرنجون فهم على قلتهم يعتزون بالإفرنج أنفسهم، وناهيك بنفوذهم

وسلطانهم، وكون جُلّ رجال الحكومة من سبك معاملهم، ولا حظ لهؤلاء الإفرنج

إلا جعل جميع ممالك الشرق مزارع ومناجم لهم، وأهلها فَعَلَة لخدمتهم، وسوقًا

لأنواع سلعهم؛ وللهِ دَرُّهُمْ! فإن أرقى ما وصلوا إليه من العقل والعلم هو ما جعلهم

يتصرفون في الأمم والشعوب كما يتصرفون في الحيوان والنبات والجماد.

هذا ما أحببت أذكر به الكارهين لهذا الغلو والاستعجال، بالجمع بين النساء

والرجال، وهو لا يغير شيئًا من هذه الأحوال، وإنما الذي يمكن أن يغيرها هو

العمل الذي أشرنا إليه دُون سواه.

***

(العصبية الجنسية)

إن روح التعليم الأوربي والسياسة الأوربية أحدث في أمم الشرق كلها نزعة

جنسية، وقد كان المسلمون أبعد الناس عن هذه النزعة فلذلك كانوا ضعافًا فيها،

وكان العرب أشدهم بعدًا عنها وضعفًا فيها، ولذلك كتبت في مقالات (العرب

والترك) - التي نشرتها في الآستانة ثم في المنار - أن تكوين عصبية جنسية

للعرب لا يمكن أن يكون إلا من عمل الآستانة.

إن في الترك من غلاة العصبية الجنسية من يعز نظيرهم في غيرهم، واتفق

أن كان زعماء جمعية الاتحاد والترقي من هؤلاء الغلاة، فلما صار إليهم أمر الدولة

اندفعوا اندفاعًا شديدًا في تقوية العصبية التركية، ومحاولة تتريك جميع الشعوب

العثمانية، فهيّجوا بذلك عصبية هذه الشعوب حتى نجمت قرون الفتن، وسفكت

الدولة دماءً غزيرة في بلاد الأرنؤوط وبلاد العرب، وانتهت سياسة الشدة والقوة

بحرب البلقان التي خذلت بها الدولة، وورث البلقانيون جميع ولاياتها الأوربية إلا

(أدرنة) فبقيت لها، وبلاد الأرنؤوط فإنها استقلت بنفسها، فاضطر الاتحاديون

إلى سياسة المداراة وتعزيز الجنسية التركية في نفسها بالمدارس ونشر الكتب

والرسائل والصحف، مع ترك سائر الشعوب العثمانية تتخبط بجهلها إذا لم ترض

الاصطباغ بالجنسية التركية في مدارس الدولة الرسمية، والمدارس الأهلية التركية،

التي يجمعون لها الإعانات بنفوذ الدولة والخلافة من العثمانيين ومن مسلمي

الممالك الأجنبية.

يرى هؤلاء العاملون أنه ليس في طريقهم عقبة تحول دون بلوغ المقصد

بالسرعة التي يبغون من وراء هذا العمل إلا حاجة الترك إلى اللغة العربية لأجل

الدين. ويرون أن هذا الدين ولغته مما يعيق تكوين أمة تركية ودولة تركية محضة

على الطراز الإفرنجي الفرنسي، فاجتهدوا في إزالة هذا المانع بمزيلين:

(أحدهما) ترجمة القرآن بالتركية ودعوة الترك إلى الاستغناء عن القرآن

العربي بما سمّوه القرآن التركي، وإذا استغنوا عن القرآن يستغنون بالأولى عن

غيره من كتب الحديث والتفسير والفقه وسائر العلوم والفنون العربية.

(الثاني) نشر الكتب والرسائل التي تجعل الجنسية التركية أعلى وأسمى في

النفوس من رابطة الدين تمهيدًا لنسخ الثانية بالأولى، بمعونة الكتب الكثيرة التي

تطعن في الإسلام ككتاب عبد الله بك جودت؛ بالتركية، فكان له تأثير شديد عند طلبة

المدارس العالية ولاسيّما مدرستي الطب والحربية، الذين لا يكادون يعرفون من

الإسلام شيئًا.

وقد نشروا في الآستانة كتابًا تركيًّا اسمه: (قوم جديد) كان أفصح معبّر عن

رأي هؤلاء المتفرنجين من الترك، ومما جاء فيه الإنكار الشديد على وضع أسماء

الخلفاء الراشدين وسبطي الرسول (رضوان الله عليهم) في ألواح معلقة في قباب

المساجد التركية مع أن أولئك الرجال من العرب، فالكتاب ينكر عليهم ذلك ويقول

للترك: أليس عندكم من الخلفاء والرجال العظام من الترك من هم خير من أولئك

العرب؟ ! انزعوا هذه الأسماء وضعوا مكانها أسماء عظام الترك مثل طلعت بك

وفتحي بك وأنور بك (صلوات الله عليهم)(! !) .

ويقول: إن كل من يساعد رجال الدولة على الأعمال العسكرية يكون أفضل من

الأئمة المجتهدين ومن شيخ الأولياء العارفين الشيخ عبد القادر الكيلاني

إلخ، وهذا

قليل من كثير، والأمر لله العلي الكبير.

_________

ص: 153

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فتاوى المنار

دعاة البهائية ومجلة البيان المصرية

(س3) من صاحب الإمضاء في القاهرة.

حضرة العالم الفاضل صاحب المنار الأغر:

نشرت مجلة البيان التي تصدر في مصر مقالاً عن البهائيين وزعيمهم عباس

أفندي، جاء فيه ما يأتي: (ذلكم هو مولانا عباس أفندي الملقب بعبد البهاء بطل

الإصلاح الديني وسيد المصلحين الدينيين، والمصدر الصحيح الذي لا يأتيه الباطل

من بين يديه ولا من خلفه) (البهائية هي كمال حي) - (هي الكاثوليكية الصادقة) .

وما دعوتها في الحقيقة إلا دعوة إصلاح ورقي للإسلام (إن أنصارها

استخرجوا أسمى تعاليم القرآن فنقّوها مما علِق بها مما ليس من الدين الصحيح في

شيء) - (إن نعيم الآخرة وهمٌ وخيال) .

هذا بعض ما جاء في تلك المجلة وما نشره صاحبها المسلم الأزهري عقب

مقابلته لزعيم البهائيين في الإسكندرية.

وقد رد على (البيان) الأستاذ صاحب (عكاظ) في عدة مقالات وتبعه كاتب

في جريدة الشعب ثم تبعتهما جريدة الأفكار، وكلهم كان يطلب إلى صاحب (البيان)

تكذيب ما نشره في هذا الموضوع والرجوع إلى الحق، ولكنه كان يقول لهم: إني

كتبت وأكتب عن البهائيين وزعيمهم كما كتبنا عن فولتير وسبنسر ونيتشه، وكما

كتب الأوربيون ويكتبون عن العظماء والفلاسفة والنابغين.

فما رأي العالم الجليل صاحب المنار في ما نشره (البيان) في موضوع

البهائيين وزعيمهم؟ وما رأيه في رد عكاظ أولاً والشعب والأفكار ثانيًا؟

(ف - صحفي قديم)

(ج) بيّنا في المنار مرارًا أن البهائية قد انتحلوا دينًا جديدًا في هذا العصر،

وأن دينهم أبعد عن الإسلام من دين اليهود لأن أساس دين اليهود التوحيد الذي هو

أساس الإسلام، وأساس دين البهائية وثني مادي، وهم يعبدون والد زعيمهم عباس

أفندي الملقب (بعبد البهاء) وما هذا اللقب إلا عنوان القول بألوهية البهاء. ولهم

شريعة ملفقة من الأديان المختلفة، وفلسفتها هي عين فلسفة سلفهم من فرق الباطنية،

الذين حاربوا الإسلام بالدسائس التي اخترعتها لهم جمعيات المجوس السرية،

لإفساد أمر المسلمين وإزالة ملكهم انتقامًا للمجوسية التي أبطلها الإسلام.

ألا وإن مرزا حسين الملقب بالبهاء هو وولده الداهية عباس أفندي قد جعلا

دينهما الجديد تنقيحًا لما دعا إليه الأبله الثرثار مرزا محمد علي الذي اشتهر بلقب

(الباب) ، وإنما مهد السبيل لدعوته في بلاد الفرس بدعة الشيخية، الذين هم أكبر

المفسدين في الشيعة الإمامية، وسننشر في المنار شيئًا من فلسفتهم الخيالية، التي

انتزعوها من أباطيل الباطنية، وزفوها في مَعْرِض الأساليب الصوفية.

وجملة القول أن دين البهائية دين مخترع، افتراه الباب المخدوع، ونقحه

بتمادي الزمان - الباقعة عباس أفندي. وهو أضر على الإسلام من كل دين في

الأرض؛ لأن أهله يسلكون في الدعوة إليه مسلك سلفهم الصالح في مخادعة عوام

المسلمين وإيهامهم أنهم يصلحون لهم دينهم، واحتجاجهم بالشبهات التي يحرفون بها

القرآن والأحاديث بالتأويلات البعيدة، فهم أكبر فتنة على المسلمين في هذا العصر

ولا سيّما على الشيعة؛ لأن الغلو في التشيع سلم للباطنية، ولهذا كان يقول بعض

العلماء: ائتني برافضي كبير أخرج لك منه باطنيًّا صغيرًا، وائتني بباطني كبير

أخرج لك زنديقًا كبيرًا.

فمن عرف دين البهائية من المسلمين ومدحه واستحسنه وشهد بكونه حقًّا أو

إصلاحًا للإسلام، وكونه هو أو زعيمه معصومًا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا

من خلفه، كان بذلك مرتدًّا عن الإسلام، وإن زعم أنه مسلم، فهو زنديق منافق

كسائر الباطنية إذا كانوا ضعفاء بين المسلمين، فالبهائية كسلفهم من الباطنية يتوسلون

بدعوى الإسلام بين المسلمين ليقبل كلامهم في دعوتهم إلى باطلهم وتحريف معاني

القرآن للاستدلال عليها وإبطال ما يفهمه المسلمون منها.

فإذا كان صاحب البيان قد قال ما نقله عنه السائل معتقدًا له فالأمر ظاهر،

وإن كان قد كتبه عن جهل بحقيقة القوم فكان الواجب عليه بعد أن نبهته جريدة

(عكاظ) وغيرها أن يرجع إلى الحق ويصرّح ببطلان دين البهائية وتحذير

المسلمين من خداع دعاته (ويسمونهم مبلغين) وأمّا ما ذكره السائل عنه من

الاعتذار عن تقديس دين وثني مادي وتقديس داعيته وأحد مخترعيه - بأن مدحه له

كمدحه لفولتير - فهو غريب، فإن مدحه لفولتير إن كان باطلاً فهو تأييد للباطل

بالباطل، وإن كان يراه حقًّا ويرى أن ما قاله في عباس أفندي ودينه حق أيضًا،

يكون قد ارتدّ عن الإسلام ودخل في دين البهائية، وإلا فإنَّ من قال حقًّا وقال باطلاً،

لا يكون قوله الحق مرةً عذرًا له إذا قال الباطل بعده. والذين مدحوا مثل فولتير

من كتّاب الإفرنج كانوا مثله مارقين من النصرانية، فهل يرضى صاحب البيان أن

يكون مدحه لعباس كمدحهم لفولتير؟ وليس ما نقله السائل عن البيان قول مؤرخ

يحكي شيئًا وقع لا رأي له فيه، حتى يقال:(إن حاكي الكفر ليس بكافر) بل ذلك

مدح لهذا الدين الجديد وتفضيل له على غيره يتضمن دعوة المسلمين إليه. فإذا لم

يكن هذا مراده فليصرح كتابةً ببراءته من البهائية والتحذير من كفرهم بالإسلام.

على أن فيما نقله السائل عنه ما هو كفر في نفسه بالإجماع؛ كإنكار حقية نعيم

الآخرة، وتسميته وهما وخيالاً؛ بناءً على أن هذا من مذهبهم.

وجملةُ القول أن من شأن المسلم أن لا ينشر شيئًا يعد كفرًا في دينه، وأن لا

ينقله عن غيره مقرًّا له ومستحسنًا؛ فكيف ينوّه بمدح دين جديد يراد به نسخ الإسلام

وإبطاله من الأرض ويصفه بأنه هو الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين ولا من خلفه؟

وقد قرأنا بعض ما نشر في عكاظ ردًّا على البيان فرأيناه مبنيًّا على أساس

الصواب ولم نر ما كتب في جريدة الشعب؛ لأننا لا نكاد نقرأها بل قلّما نراها - وكذا

جريدة الأفكار - والحق ظاهر في نفسه.

***

البحث في تعدد الزوجات والطلاق والحجاب

(س4) من صاحب الإمضاء في مصر.

فضيلة الأستاذ العالم العلامة منشئ المنار الأغر:

بعد الاحترام؛ نرجو من سيادتكم إجابتنا على السؤال الآتي في مناركم الأغر:

هل يعد البحث في تعدد الزوجات والطلاق والحجاب من الوجهة العمرانية وتبيان

أضرارها في الناس من الوجهة الاقتصادية إهانة للدين الإسلامي.

عبد الحميد حمدي بشبرا مصر.

(ج) حاشا للهِ أن يعد البحث في هذه المسائل إهانة للدين الإسلامي مطلقًا؛

بل كثيرًا ما يكون البحث فيها كاشفًا عن حكم الإسلام وفضائله، ومبينًا وجه كونه

دين الفطرة الجامعة بين مصالح الروح والجسد؛ ولكن غير المسلم قد يهين الدين

الإسلامي إذا خالف هواه ورأيه بعضُ أحكامه، فيتخذ ذلك وسيلةً للطعن فيه، أمّا

المسلم فإنه يبحث عن الحقائق مع الأدب، فإن عرضت له شبهة على حكم إسلامي

ثابت يزداد بحثًا ليزداد علمًا، ولكنه ينسب القصور إلى نفسه لا إلى دينه، ويجعل

هذا قاعدةً للبحث، إلى أن يتبين له الحق.

_________

ص: 178

الكاتب: محمد رشيد رضا

(تابع)

‌ فتاوى المنار

أسئلة من صاحب الإمضاء في (العطف) من 5 - 11

بسم الله الرحمن الرحيم

فضيلة الأستاذ الأوحد منشئ المنار المنير، السيد محمد رشيد رضا، شاد اللهُ

به منار الدين.

السلام عليكم ورحمة الله. أما بعد فإني سائل فضليتكم عن أمور أشْكلَتْ عليَّ

مؤمِّلاً إسعافي بأجوبتها لِمَا أني لا أرى لذلك ممن أعرف أهلاً سواكم:

(1)

لماذا حمل الأستاذ الإمام أخذ الكتب في القيامة بالأيمان وبالشمائل مِنْ

وراء الظهور على أخذها بنشاط وسرور أو بضد ذلك مع إمكان الحمل على الظاهر

الذي تمتنع مخالفته بلا دليل؟ واستبعاد تصوير وراء الظهر بما صوره به لا يوجب

رفض الظاهر، فلِمَ لا يقال يأخذ الكافر كتابه بشماله من وراء ظهره حقيقةً، ولا

يزداد على ذلك؟ ويجعل النشاط والسرور سببًا للأخذ باليمين وضد ذلك سببًا للأخذ

بالشمال من وراء الظهر؟

(2)

هل يحلّ التداوي بالخمر - إذا ظن نفعها بخبر طبيب - أخذًا من آية

{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: 78)، ومن القاعدة المتفق عليها:

الضرورات تبيح المحظورات. وإذا جوّزتم فما ترون في حديث: (إنها داء

وليست بدواء) أو كما ورد.

(3)

هل الخمر نجسة، وما دليل نجاستها إن قلتم بها؟ فإني لم أَرَ دليلاً شافيًا

بعد شدةِ البحث.

(4)

ما جواب مجوّزي سماع الملاهي عن حديث تحريم سماع المعازف الذي

في البخاري.

(5)

ما درجة حديث النهي عن تعليم النساء الكتابة وهل له معارض؟ وما

رأيكم في هذا التعليم؟ والحديث المشار إليه ذكره في فتح البيان عن البيهقي

والحاكم وابن مردويه وسكت عليه، فهل ذكر الحاكم له يفيد صحته.

(6)

ما درجة حديث جابر في خلق النور المحمدي قبل الأشياء؛ فقد أنكر

الشيخ عبد العزيز جاويش صحته مع ذكره في كتب جمّة كشرح الهمزية لابن حجر،

لكن لم أَرَ مَنْ صححه بعد شدة بحث في كثير من كتب السنة.

(7)

لم شرَطتم على المفتي ذكر دليل الحكم للعامي مع أن كثيرًا من

الأدلة يصعب جدًّا تفهيمه إيّاها فالتكليف به حرج شديد؟ وإذا وَسِعَ العامِّيّ أن يثق

برواية المفتي فلم لا يسعه أن يثق بأنه أخذ فتواه من دليل صحيح؟ فإنّا إذا

نظرنا إلى احتمال خطأ العالم في أخذ الحكم أو فتواه بما لا يعلم - لزم أن ننظر إلى

احتمال كذبه في الرواية أو في تفهيم مرويه، ولا إخالكم ترتابون في صعوبة تفهيم

العامي بعض الأدلة لعلمكم بأن مأخذ الحكم قد يتركب من حديثين أو أحاديث أو

من سنة وقرآن، ويحتاج تقريره إلى فطنة وإلمام بجملة علوم.

هذه يا سيدي الأستاذ مسائل اشتدت حاجتنا إلى معرفة الحق فيها جدًّا، فلجأنا

إليكم والأمل بتحقيق طلبنا ملء الفؤاد لا برحتم عضد الحق.

خادم العلم الشريف

م. ز - بالعطف

***

(أخذ الكتب بالأيمان والشمائل)

حمل الأستاذ الإمام الآية في سورة الانشقاق على الكناية؛ لأنه الأبلغ الذي

يظهر به معنى الوعد والوعيد الذي وردت الآية في سياقه. والكناية لا تنافي

الحقيقة، فيجوز أن يكون المراد هو ما فسر به الآية مع كون الأخذ بالأيمان

وبالشمائل ممدودة إلى ما وراء الظهر يقع بالفعل؛ ولكن إرادة الحقيقة وحدها خبر

مجرد ليس فيه ما في الكناية من الموعظة وبيان حسن حال من يأخذ كتابه بيمينه

من قبل وجهه، وسوء حال من يأخذ كتابه بشماله من وراء ظهره، وحمل كلام الله

على أبلغ الوجوه العربية وأظهرها انطباقًا على مقاصد القرآن هو الأولى؛ بل

المتعين، وقد أنزل الله القرآن هدًى وموعظةً وعبرةً وذكرى؛ كما هو مبين في عدة

آيات.

نعم؛ لا يجوز أن يتكلف المفسر في كلام الله تعالى معاني لا يسيغها الأسلوب

العربي البليغ للهروب من معنى متبادر لا يوافق ذوقه أو رأيه. وقد عهد في

الاستعمال العربي البليغ التعبير باليمين وبالأخذ باليمين عن اليمن والنشاط والعناية،

وبالتعبير بالشمال عن ضد ذلك من الشؤم والكراهة. وسمَّت العرب اليد اليمين:

اليمنى، والشمال: الشؤمى، وكانوا يتيمنون بالطير إذا مرت يمينًا ويتشاءمون بها

إذا مرت شمالاً. فتقول العرب: أخذ فلان كذا بيمينه أو بشماله، قلّما يريدون إلا

الكناية، فهو من الكنايات المشهورة بينهم؛ لأن إرادة الحقيقة قلّما تكون لها فائدة.

وأما قول العلماء: إن الأصل في الكلام الحقيقة ولا يصار إلى المجاز أو

الكناية إلا بدليل وقرينة، فلا يريدون به أن كل ما أمكن أن يراد به الحقيقة يحمل

عليها مطلقًا، فإن من الكلام ما يجزم سامعه عند سماعه أنه مجاز أو كناية مع

إمكان إرادة المعنى الحقيقي، ثم إن تحديد الحقيقة في كل مواد الكلِم والتمييز بينها

وبين المجاز والكناية ليس من السهولة بحيث ينال من طرف التمام، ولعسره أنكر

بعض النقاد المجاز من أصله وعدّ الجماهير كثيرًا من المجازات حقائق، وخلطت

معاجمُ اللغة الحقيقة بالمجاز، ولم يعن بالتزييل إلا أفراد من الجهابذة؛ كالزمخشري

في أساس البلاغة، وليس هذا المقام بالذي يتسع لبيان ذلك.

***

(التداوي بالخمر)

التداوي بالخمر لِمَنْ ظن نفعها؛ شيء. والاضطرار إلى شربها؛ شيء آخر.

فأمّا الاضطرار فإنما يعرِض لبعض الأفراد في بعض الأحوال، وهو يبيح المحرم من

طعام وشراب بنص قوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَاّ مَا اضْطُرِرْتُمْ

إِلَيْهِ} (الأنعام: 119) ، وينفي الحرج والعسر وغير ذلك من الأدلة. وقد

مثّل الفقهاء له في شرب الخمر بمن غُصّ بلقمة فكاد يختنق ولم يجد ما يسيغها به

سوى الخمر. ومثله من دنق من البرد وكاد يهلك ولم يوجد ما يدفع به الهلاك بردًا

سوى جرعة أو كوب من خمر، ومثله أو أولى منه مَنْ أصابته نوبة ألم في قلبه

كادت تقضي عليه؛ وقد علم أو أخبره الطبيب بأنه لا يجد ما يدفع عنه الخطر سوى

شرب مقدار معين من الخمر القوية؛ كالنوع الحديث الإفرنجي الذي يسمونه

(كونياك) فإننا نسمع من الأطباء أنه يتعين في بعض الأحيان لعلاج ما

يعرض من مرض القلب ودفع الخطر وقد ثبت ذلك بالتجربة.

وهذا النوع من العلاج لا يكاد يكون شربًا للخمر وإنما يؤخذ منه نقط قليلة لا

تسكر. وأمّا التداوي المعتاد بالخمر لمن يظن نفعها ولو بإخبار الطبيب كتقوية المعدة

أو الدم ونحو ذلك مما نسمعه من كثيرٍ من الناس فهذا هو الذي كان الناس يفعلونه

قبل الإسلام ونهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ونص الحديث الذي أشار إليه

السائل: (إنه ليس بدواء ولكنه داء) رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي،

وسببه: أن طارق بن سويد الجعفي سأل النبي عن الخمر - وكان يصنعها - فنهاه

عنها، فقال: إنما أصنعها للدواء، فقاله.

وقوله: (ولكنه داء) هو الحق وعليه إجماع الأطباء، فإن المادة المسكرة من

الخمر سم تتولد منه أمراض كثيرة يموت بها في كل عام ألوف كثيرة، والسموم قد

تدخل في تركيب الأدوية، ولكن الذين يشربون الخمر - ولو بقصد التداوي بها -

لا يلبثون أن يؤثر في أعصابهم سمُّها، فتصير مطلوبة عندهم فيتضررون بسمها، فلا

يغترن مسلم بأمر أحد من الأطباء بالتداوي بها لمثل ما يصفونها له عادة،

واللهُ الموفق.

***

(نجاسة الخمر)

ذهب جمهور الفقهاء إلى نجاسة الخمر، وروي عن ربيعة شيخ الإمام مالك

القول بطهارتها، فأمّا نجاستها المعنوية فلا شك فيها، وأمّا النجاسة الحسية فلا

تصدق على الخمر لغةً لأنها ليست قذرة، والنجس ما كان شديد القذارة، ولا قام عليها

دليل من الكتاب ولا من السنة، وقد شرحنا ذلك في المجلد الرابع من المنار (ص

500 و 821 و 866) فليرجع إليه السائل إن شاء.

وقد جمعتنا الأيام بعد كتابة ما كتبناه في ذلك المجلد بجماعة من أكابر علماء

الأزهر في قطار خاص من قطارات سكة الحديد كان يحملنا إلى بلدة (ديروط) بدعوة

قطب باشا قرشي رحمه الله للاحتفال بتأسيسه مسجدًا ومدرسةً فيها، فدار الكلام

بيننا في هذه المسألة، فقال أحد علماء المالكية: إنه يريد أن يكتب رسالةً يثبت فيها

نجاسة الخمر بالدليل فتكون ردًّا على المنار، قلت له: إذا جئت بدليل صحيح يقبله

المنار وينشره في الأقطار، وإلا ردّ عليك ما تكتب، ويمكنك أن تذكر الآن ما عندك

من الدليل، قال:(الإجماع) ؛ قلت: لم ينقله أحد بل نقلوا عن الإمام ربيعة

التصريح بطهارتها، قال:(آية المائدة) قلت: إن لفظ (رجس) محمول فيها على

الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، ولم يقل أحد من المسلمين بنجاسة الميسر

والأنصاب والأزلام، فتعيّن أن يكون الرجس هو المستقبح عقلاً وشرعًا لضرره،

والرجس يكون حسيًّا؛ وهو ما يدرك بأحد الحواس، ويكون معنويًّا وهو ما يعرف

بالعقل والشرع مجتمعين أو منفردين، قال تعالى: {وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا

يَعْقِلُونَ} (يونس: 100)، وقال: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ

رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ} (التوبة: 125)، وقال: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ

الأَوْثَانِ} (الحج: 30) ، ولا يمكن إرادة النجاسة الحسية بشيء من ذلك.

ولمَّا لم يستطع الأستاذ المالكي أن يقيم دليلاً، سأل أحد الحاضرين

مفتي الديار المصرية - وكان يسمع المناظرة - عن رأيه في المسألة.

فقال المفتي: ما مذهب الأستاذ؟ يعني كاتب هذا - قيل له: شافعي، فقال لي:

ما المعتمد عند الشافعية في المسألة؟ قلت: المعتمد أن الخمر نجسة. قال: انتهى

الأمر. قلت: لا، إننا نبحث في الدليل على نجاسة الخمر لا في نص المذهب. فإن

كان لديك دليل فاذكره لنا. فلم يأت بشيء. ثم سكت الشيوخ وسكتنا.

***

(سماع المعازف)

قد شرحنا في الجزأين الأول والثاني في المجلد التاسع هذه المسألة؛ فذكرنا أدلة

مجوِّزي السماع وأدلة حاظريه، وأقوى أدلة الحاظرين حديث البخاري الذي أشار

إليه السائل؛ إذ لم يصح في الباب سواه، بل قال ابن حزم: لا يصح في الباب

حديث أبدًا وكل ما فيه فموضوع.

وبينا أجوبة المجوزين عن هذا الحديث:

(فمنها) أنه منقطع الإسناد فيما بين البخاري. (ومنها) أن في إسناده

صدقة بن خالد وقد قال فيه يحيى بن معين إنه ليس بشيء، والإمام أحمد: إنه ليس

بمستقيم. (ومنها) أنه مضطرب المتن والسند بما بيناه هنالك. (ومنها) أن كلمة

المعازف التي هي محل الاستدلال ليست عند أبي داود. (ومنها) إن لفظة

يستحلون ليست نصًّا في التحريم، فقد ذكر القاضي أبو بكر بن العربي لها معنيين:

أحدهما أن المعنى: يعتقدون أن ذلك حلال، والثاني: أن يكون مجازًا عن

الاسترسال والإكثار من ذلك. (ومنها) أن لفظة المعازف مختلف في مدلولها

والاختلاف يوجب الاحتمال المسقط للاستدلال. (ومنها) أن المعازف المنصوص

عليها فيه هي ما كانت مقترنة بشرب الخمر كما يستفاد من بعض روايات الحديث.

(ومنها) أن المراد بالحديث: يستحلّون مجموع ما ذكر فيه لا كل واحد منها.

وحينئذ يستثنون المعازف بدليل كون الدف والغناء منها جمعًا بين الأدلة؛ إذ

ثبت في الأحاديث المتفق عليها سماع النبي صلى الله عليه وسلم وإجازته لهما.

وإذا أراد السائل أن يقف على تفصيل هذه الوجوه والأجوبة عنها وملخص ما

قاله المجوزون والمحرمون في المسألة فليرجع إلى المجلد التاسع من المنار.

والذي ظهر لي من مجموع ما ورد في هذا الباب ومن كلام العلماء المختلفين

في المسألة: أن سماع الغناء وآلات اللهو ليست محرّمة لذاتها مطلقًا، ولكن الإكثار

منها مكروه ولو لم تبعث على معصية، فإذا كانت مغرية بالفسق كما يقع كثيرًا

حرمت لسدّ الذريعة. ولمّا كثر اللهو والفسق من المفتونين بالمعازف وصارت

أغانيهم كلها غرامية خلافًا لِمَا كان عليه الناس في القرون الأولى وصارت بذلك من

دواعي السكر والعشق المؤدي للفسق - أكثر علماء الدين من ذمها والتنفير منها

والجزم بتحريمها - كما حرّموا إبداء المرأة لما ظهر من زينتها وكشف وجهها وكفيها

خوف الفتنة، حتى منعوا النساء الصلاة في المساجد، وقالوا مثل ذلك في الأَمْرَدِ

الجميل الصورة.

وحديث البخاري - أي المسئول عنه - إخبار بالغيب عن حال هؤلاء الفساق،

فلم يبعد عن الفهم من قال إنه في تقبيح حال هؤلاء الفسّاق في جملة أفعالهم، فرواية

البخاري: (ليكونن من أمتي قوم يستحلون الحر [1] والحرير والخمر والمعازف)

ورواية بعض السنن: (ليشربن ناسٌ من أمتي الخمر يسمّونها بغير اسمها يُعزف على

رؤوسهم بالمعازف والمغنيات) وفي لفظٍ: (تروح عليهم القيان وتغدو بالمعازف)

فالحديث مروي بالمعنى ولذلك اختلفت ألفاظه. ولا شك أن ما يؤخذ من تعدد ألفاظه

يدل على استقباح النبي صلى الله عليه وسلم لمجموع فعل هؤلاء الفسّاق، ومنه

عزف المغنيات لهم على شربهم وفسقهم، فهو مثل حديث (صنفان من

أهل النار لم أرهما بعد: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء

كاسيات عاريات، مائلات مميلات، على رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن

الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من ميسرة كذا وكذا) رواه أحمد

ومسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة.

فأما الرجال الذين يضربون الناس بسياط كأذناب البقر فهم أعوان الحكام الذين

ابتدعوا السياط التي تسمى الكرابيج وصاروا يعذبون الناس بها، وأما النساء

الموصوفات بما ذكر فهن مشاهدات في زماننا، ولم يفهم المراد من وصفهن بما ذكر

كثيرٌ من العلماء قبل وجودهن، وأنت ترى من وصفهن أنهن يضعن على رؤوسهم

شيئًا مرتفعًا شبه سنام البخت من الإبل، وهذا بحد ذاته مباح بالإجماع، ولكنه مع

سائر تلك النعوت يمثل حال طائفة من الفواسق الفواتن اللواتي يضللن كثيراً من

الناس.

***

(تعليم النساء الكتابة)

لم يصح في النهي عن تعليم النساء الكتابة شيء، وليس كل ما يرويه الحاكم

صحيحًا؛ بل صَحَّحَ في مستدركه على الصحيحين أحاديثَ جزموا بأن بعضها

ضعيف وبعضها موضوع، ومنها هذا الحديث الذي يشير إليه السائل: (لا

تسكنوهن الغرف ولا تعلموهن الكتابة) رواه في المستدرك من طريق عبد الوهَّاب بن

الضحَّاك عن عائشة، وهو كذاب كما قال أبو حاتم، متروك كما قال النسائي،

منكر الحديث كما قال الدارقطني: وقال الحافظ ابن حجر في الأطراف - بعد ذكر

تصحيح الحاكم له -: بل عبد الوهاب متروك، وقد تابعه محمد بن إبراهيم الشامي

عن شعيب بن إسحق، وإبراهيم رماه ابن حبان بالوضع. وابن حبان هو الذي

روى حديثه هذا في كتاب الضعفاء، وقال الدارقطني فيه: كذّاب. وأخرج ابن

حبان في الضعفاء أيضًا عن ابن عباس مرفوعًا: (لا تعلموا نساءكم الكتابة) وفي

سنده جعفر بن نصر وهو متّهم بالكذب كما قال الذهبي.

وهذه الروايات الواهية أو الموضوعة معارَضة بروايات صحيحة في

مشروعية تعليم النساء الكتابة؛ منها حديث الشفاء التي علمت حفصة أم المؤمنين

الكتابة، وقال لها النبي صلى الله عليه وسلم مرةً مازحًا: (ألا تعلمين هذه

رُقية النملة كما علمتها الكتابة) رواه أحمد وأبو داود بسند رجاله رجال الصحيح،

إلا إبراهيم بن مهدي البغدادي المصيصي؛ وهو ثقة كما قال: ابن القيم، ورواه

النسائي والحاكم وصححه، وغيرهم، وقد صرّح كثير من العلماء بأن حديث الشفاء

يدل على جواز تعليم وتعلم النساء الكتابة، وفي الأدب المفرد للبخاري: أن عائشة

بنت طلحة كانت في حِجْرِ عائشة أم المؤمنين تكاتب الرجال، كانوا يكتبون إليها

من الأمصار ويهدونها؛ لمكانها من أمِّ المؤمنين؛ فتأمرها أمُّ المؤمنين بأن تحييهم

على كتبهم وتثيبهم على هداياهم. وعلى هذا جرى المسلمون فكان فيهم كثير من

الكاتبات العالمات بالحديث والأدب والفنون. وهنَّ يدخلن في عموم خطاب الشرع

في جميع أحكامه إلا ما خصص، ومن مقاصد الشرع إخراج الأمة من الأمية

وتعليمها الكتاب والحكمة كما هو منصوص في كتاب الله تعالى.

* * *

(حديث جابر في أول الخلق)

تجدون الكلام على هذا الحديث وما في معناه من كون نبينا - صلى الله عليه

وسلم - كان نبيًّا وآدم بين الماء والطين وغيره في (ص 865-869 من مجلد

المنار الثامن) ولا عبرة بكلام مثل الشيخ عبد العزيز جاويش في إنكار حديث،

ولا في إثابته فإنه ليس من علم الحديث في شيء، وهو جريء على القول في

الدين بالهوى والرأي حتى إنه أنكر بعض أحاديث الصحيحين بغير علم، فهو ينكر

ما لا يوافق عقله ورأيه.

***

(ذكر المفتي للدليل)

ليْتكم ذكرتم في السؤال عبارتنا التي استنبطتم السؤال منها فإننا لا نتذكر

مسألة الشرطية ولا ننكرها، وإنما نذكر أننا كتبنا مرارًا أنه ينبغي للمعلم والمفتي

في الدين أن يبين للناس نصوص الكتاب والسنة في المسائل ليعرفوا أصل دينهم،

ومن أين أخذ الحكم الذي لقنوه أو أفتوا به، وهذا هو الواجب الذي أخذ على أهل

الكتاب العهد أن يبينوه للناس ولا يكتموه، فإذا تعسّر أو تعذّر على بعضهم فهم الآية

أو الحديث - بعد بيانه بقدر الاستطاعة - خرج المفتي من تبعة الكتمان.

وأما المسائل التي لا نص فيها بعينها ويتعذر على السائل فَهْم مأخذها،

كبعض مسائل المواريث التي يدخلها العول مثلاً، فلا بأس ببيان الحكم فيها بدون

ذكر مأخذه. وأما تعويد الناس أخذ مسائل الدين بدون وصلها بأصلها من الكتاب

والسنة فهو قطع لحبل الله ورسوله بين المؤمنين، وهو الذي فتح للباطنية وغيرهم

من المضلين، باب إضلال المسلمين؛ إذ صارت العامة تَقْبل كل ما يقال لها إنه

من الدين، فهذا سبب ما رأيتموه وسميتموه اشتراطًا، ولولا ضيق الوقت لراجعنا ما

تشيرون إليه من مظانه، وأجبنا عنه بعينه، والخَطْب سهل إن شاء الله تعالى.

_________

(1)

الحِر - بالكسر -: الفرْج؛ والمراد الزنا. وفي لفظ الخز بمعجمتين؛ وهو نوع من الديباج وهذا من الاضطراب في متن الحديث.

ص: 181

الكاتب: محمد رشيد رضا

باب‌

‌ الانتقاد على المنار

نقد عبارة في المنار

والمناظرات بين دعاة النصرانية وعلماء الإسلام

أرسل إلينا طاهر أفندي التنير من بيروت نبذتين في الرد على دعاة

النصرانية الذين فتح لهم الدستور باب الجرأة على توزيع رسائل الطعن في الإسلام

في سوريا حتى قاربوا أن يجهروا فيها كما يجهرون في مصر، وقد رأينا في كل

من النبذتين شذوذًا في التعبير فحذفنا ونقحنا وتصرفنا في العبارة بحذف بعض

المعاني الشعرية التي تؤثر تأثيرًا رديئًا بِلا فائدة، وقد ظهر لنا بعد ذلك أنه بقي في

الكلام ما ينتقد على الكاتب، وكذا على الناشر؛ لأنه يؤلم القارئ من النصارى، إذ

كاشفنا بعض أصدقائنا السوريين بما انتقدوه، وقالوا: إن مثل هذا لا يعهد من المنار،

فهو يرد على المبشرين من سنين طويلة ولم ننتقد عليه كلمةً واحدةً تعد جارحةً،

أو بعيدة عن الأدب، ثم إنه قد عرف بأنه داعيةُ وفاقٍ ومودةٍ، فلا ينبغي له أن

ينشر - لِمَنْ لا يراعون مشربه هذا - ما ينافيه؛ فرأينا أن نكتب كلمات في

هذا الموضوع تزيل اللبس، وتكون هي القول الفصل، وهي:

(1)

إننا نحمد الله تعالى أن جعلنا من دعاة الوفاق ومن محبي الأدب

والنزاهة، وإنه ليسوءنا ويحزننا أن نقع في سهوٍ أو غلط ينافي ذلك ويعارضه،

وإذا عثرنا نسارع إلى التوبة والندم، ونتلافى ما يمكن تلافيه بما تحمله الطاقة،

وتناله الاستطاعة.

(2)

إن المنار لا يشترك فيه النصارى كما يشترك المسلمون في صحفهم

الدينية - دع السياسة التي تسمّى عامة - فلا يوجد في مشتركيه عشرة نفر من

النصارى؛ لأجل هذا لا يخطر في بالنا عند كتابة كل شيء أو نشره أن نراعي فيه

موقعه من نفوسهم، وتأثيره في جمهورهم، والأدب مطلوب عندنا لذاته. وإنما

يطّلع عليه عدد قليل من أهل العلم والأدب كأصحاب الصحف التي يبادلها المنار،

وهؤلاء من الأحرار أصحاب الصدور الواسعة، فإذا هم استنكروا شيئًا لا يذيعونه في

جمهور قومهم، ونتيجة هذا أن ما ينشره المنار لا تأثير له في عامة النصارى حتى

يقال: إن المجلات كالجرائد يجب أن يراعى فيها شعور جميع الملل التي تقيم في

الوطن التي تصدر فيه أو تنطق باللغة التي تكتب بها. فهو إذًا من كتب الإسلام

الدينية، فلا وجه لمطالبتنا بأن نراعي شعورهم فيه، ولا لدعوى أن ما ينشر مخالفًا

لعقائدهم، أو ردًّا عليها يوجب التفرقة والعداوة.

(3)

إن دعاة النصرانية هم المعتدون على المسلمين بالطعن في دينهم بما

ينشرون من الكتب والرسائل والصحف، وبما يعقدون من المجامع لدعوى المسلمين

إلى دينهم وفي مدارسهم ومستشفياتهم، فصار من الواجب علينا شرعًا أن ندافع عن

ديننا، وننفِّر عوامنا عن قبول دعوتهم؛ فالفرق بيننا وبينهم أنهم مهاجمون ونحن

مدافعون، وأنهم يكتبون مطاعنهم لينشروها في المسلمين، كما يبثون مطاعنهم

القولية فيهم، ونحن لا ننشر مطاعننا بين النصارى ولا نشافههم بها، ولا يكاد

يطّلع عليها إلا عدد قليل من محبي الوقوف على الشؤون العامة، فمن ينتقد ما نكتبه

بدعوى أنه يوجب العداوة والتفرقة بين عامة الفريقين مخطئ؛ وإنما يكون مصيبًا

إذا قال ذلك فيما يكتبه أهل ملته ودينه؛ لأنهم ينشرونه بين المسلمين فينفرونهم من

النصارى، ولا يغفل عن هذا أو يتغافل عنه إلا الغالي في التعصب.

(4)

قال بعض أصحابنا: إن الطاعنين في الإسلام من النصارى كلهم من

الأجانب كالأمريكانيين والإنكليز؛ لا من أبناء وطننا، فلا ينبغي أن نسيء إلى

أبناء وطننا بردنا عليهم.

ونقول (أولاً) : إن هذا القول غير صحيح، فكتاب (الضلالة) المسمى

بضد اسمه تأليف رجل من متعصبي القبط، وهو أقذر هذه الكتب وأقلها أدبًا في

الطعن في نبينا صلى الله عليه وسلم، وكتاب (أبحاث المجتهدين) مؤلفه سوري، بل

أقول: أكثر تلك الكتب والرسائل والصحف الطاعنة في الإسلام يكتبها أجراء

المبشرين من الوطنيين أو يترجمونها؛ إذ لا يكاد يوجد في أولئك الأجانب من يحسن

الكتابة العربية، وإنما ينشرها الأجانب لأن لديهم أموالا كثيرة مرصدة لذلك من أهل

بلادهم الذين يقول لنا أبناء وطننا إنهم هم البُرَآء من التعصب الديني دون أهل

الشرق! ! ولأن لهم من الامتيازات والنفوذ السياسي ما يحميهم من سلطة الحكومة.

ونحن نبرئ جمهور الوطنيين من ذنب أولئك الأجراء ولا نعده مانعًا من الاتفاق

بيننا وبينهم.

(وثانيًا) إذا فرضنا أن هذا العدوان من الأجانب خاصة، فهل من العدل أن

يطالبنا نصارى بلادنا بأن لا نرد عليهم، ولا نحذر عوامّنا ونَحُول بينهم وبين

إفسادهم لعقائدهم؛ لأن دفاعنا عن ديننا يجرح عواطفهم الدينية؟ ! أليس منتهى

التعصب والسعي للعداوة والتفرق أن تطالب ابن وطنك بأن يترك الدفاع عن دينه،

وتعليم أهله ما يصونهم عن الارتداد عنه، أو عن فساد العقيدة الذي قلّما تنتج دعوة

المبشرين غيره، وأن يرضى بأن يُكذَّب قرآنه ويُشتم رسوله، إكرامًا لخاطرك،

ومراعاة لعواطفك؟

(5)

إن القاعدة الصحيحة للاتفاق هي قاعدة المنار الذهبية التي دعا إليها

المختلفين في المذاهب والأجناس من المسلمين، والمختلفين في الأديان والأجناس

من العثمانيين، وهي: (نتعاون على ما نشترك فيه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما

نختلف فيه) . وقد شرحناها غير مرة ولكن كثيرًا من الناس لا يحبون الوفاق، ومنهم

أعوان المبشرين من الوطنيين، وبعض الكتاب والصحافيين، كالشيخ يوسف

الخازن من نصارى السوريين، الذي وضع قاعدة للخلاف ضد القاعدة التي

وضعتها للوفاق، وصرّح بها في ملأ مِن أدباء نصارى السوريين كنت أكلمهم في

وجوب السعي إلى الوفاق والوحدة؛ فسخر من هذه الدعوة، وقال: إذا كان الخلاف

بين مسلم ونصراني فأنا مع النصراني على المسلم كيفما كان - أي في الحق

والباطل - وإذا كان بين كاثوليكي فأنا مع الكاثوليكي مطلقًَا، وإذا كان بين كاثوليكي

غير ماروني فأنا مع الماروني مطلقًا، قال: وكل الناس كذلك.

فمثل هذا لا يعذر المسلمين في كلمة يخالفون فيها النصارى ولا بقولهم ولو

في كتبهم وصحفهم الخاصة بهم أننا على الحق، والطاعن في ديننا على الباطل،

ولذلك أقام النّكِير على المنار مرة لأنه ذكر اسم المبشرين في سياق الكلام على ما

أفسد بلادنا من سعي فسّاق الإفرنج كمواخير البغاء وحانات الخمر وبيوت القمار.

ونحن نرى المبشرين أشد إفسادًا في بلادنا من غيرهم لأن صاحب الحانة يحمل

المسلم أو يساعده على مخالفة الإسلام في أمر واحد وهو السُّكر، والمبشر يحمله

على ترك دينه كله، وزد على ذلك أن المبشرين هم الذين يوقدون نار العداوة بين

المسلمين والنصارى ويفسدون المسلمين أنفسهم بتشكيكهم في الدين الذي هو أساس

الفضيلة والتقوى والوحدة والاتفاق. فمثل الشيخ يوسف الخازن من متعصبي

النصارى السوريين، وبعض أصحاب الجرائد من متعصبي القبط، أشد سعيًا في

التفريق بين المسلمين والنصارى من المبشرين الأجانب؛ لأنهم يبحثون عن كلمة

يقولها مسلم في الدفاع عن دينه فيجردونها عن سببها والحامل عليها من الأعذار،

ويزفونها إلى قومهم في صورة مشوّهة، وإضافات باطلة، وما بلَّغ المكروهَ إلا من

نقل.

(6)

إن مجالنا في الردّ على النصارى أضيق من مجالهم لأننا نؤمن بنبيهم

المسيح ونعظّمه ونعظّم حواريه، ونعدّ الطعن فيه كفرًا وردةً عن الإسلام {لَا نُفَرِّقُ

بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} (البقرة: 285) ?وهم يطعنون بلا قيد ولا حد.

فغاية ما يمكن أن يكتبه المسلم هو النقل من كتبه الدينية أو كتب أحرار

الأوربيين بشرط إظهار البراءة من كل ما لا يليق بكرامة المسيح أو غيره من أنبياء

الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، والتصريح بأن نقل ما ذكر من باب (ناقل

الكفر ليس بكافر) وأنا لا أحب لنفسي سلوك هذه الطريقة، وهي التي اضطر إليها

بعض من كتب في المنار، وكتابة التنير من هذا الباب، وإنني حبًّا في النزاهة

والأدب، وكراهة للشعريات في المناظرة والجدل، عملاً بقوله تعالى: {وَلَا

تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلَاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (العنكبوت: 46) قد نقحتها، فإذا

كان قد بقي فيها كلمةً شاذةً ككلمة الثالوت الزنائي في سياق قصة ولادة سليمان عليه

السلام، فإنما ذلك من السهو الذي يظهر بما نبين من سببه، وهو أن الكاتب جعل

عنوان مقالته (الثالوث الزنائي المقدس) وصدر الكلام في كل قصة من القصص

الثلاث التي نقلها من التوراة بقوله: (الأقنوم الأول من الثالوث الزنائي المقدس)

إلخ، وكان يختمها بمثل هذه الكلمة، ويكررها في أثناء العبارة، فرمجنا (شطبنا)

كل هذه الكلمات لأن فيها امتهانًا لاصطلاحات محترمة، وغرضنا من تحذير

عوامّ المسلمين من الاستجابة للمبشرين لا يتوقف على ذلك، ولا هو ممّا ترضاه

آدابنا، وجعلنا مكان كلمة الأقنوم كلمة الجد، وحذفنا لفظ الثالوث من العناوين ومن

تضاعيف الكلام، واتفق أننا لم نقرأ تلك الأوراق في وقت واحد لكثرة الشواغل

وضيق وقتنا عنها، ولذلك جعلنا في القصة الثالثة لفظ (الشاهد) بدل (الجد)

وبقي في آخرها كلمة (الثالوث الزنائي) على أنني أتذكر جيدًا أنني حذفت هذه

العبارة التي كانت في العنوان الأول وتكررت في الكلام، فلا أدري أكان ترميجها

(شطبها) غير ظاهرٍ فجمعت حروفها، أم كنت قد نسيتها؛ لأنني قرأت تلك

الورقة التي هي فيها وحدها. ولهذا قلت فيها: الشاهد الثالث بدل الجد الثالث.

وقد ظهر بهذا الذي شرحته أن هذه الكلمة قد بقيت في المقابلة كالعضو الأثري، وإن

اللام فيها لام العهد الذِّكري؛ أي الثالوث الذي تقدم ذكره. وإنني لما ذكرت لي ما

صدقت حتى راجعت ورأيتها بعيني. وقد امتعضت امتعاضًا شديدًا ظهر عليّ

وسئلت عن سببه، فإن من خلقي وغريزتي أن أتألم مما يقع مني مخالفًا لمشربي

ورأيي، ولو سهوًا أو نسيانًا، ولا أبالي بما ينتقده الناس إذا كنت أعتقد أنه

حق وصواب وغير خارج عن حدود الآداب.

ومثل هذا الغلط والسهو يقع كثيرًا، وفي هذا الجزء من المنار غلط في آية من

القرآن غفلنا عنها؛ لأجل هذا قلت لمن نبهني ولغيره: إنني أحب أن أتلافى هذا

الخطأ بما يرضي المتألمين منه، وأدع لأهل الإنصاف من النصارى اقتراح ما

يرونه ويرضونه من اعتذار أو انتقاد لما كتب، أو حذف الكراسة من المنار وطبع

كراسة بدلها خالية من كل كلمة جارحة، وإنما أقبل في هذا قول المعتدلين البرآء

من التعصب كإسكندر بك عمون وسامي أفندي الجريديني من فضلاء المحامين

السوريين، على أن هذه الكتابة يصح أن تعد ترضية للمنصفين ودليلاً على أننا لم

ننشر تلك العبارة عمدًا.

وأما المتعصبون فلا يرضيهم منا إلا خروجنا من ديننا، فلا زالوا ساخطين

وقد سعوا مع بعض المبشرين من قبل لإقناع الوكالة البريطانية بإلغاء المنار ومنع

إصداره ظنًّا منهم بأن الجو يخلو لهم ولغيرهم من أعداء الإسلام فلا يتجرأ أحد على

الرد عليهم.

(7)

إن سبب نشر هذه المقالة والمعنى الذي أردنا أن يفهمه المسلمون

منها هو: أن إيماننا بالمسيح والأنبياء أصح من إيمان المبشرين، وتكريمنا لهم خير

من تكريمهم، فهم قد جمعوا فيما قالوه في المسيح عليه السلام بين الضدين فأطروه

حتى اتخذوه ربًّا وإلهًا، ونقلوا في نسبه لأمه وأبيه الناموسي (لا الحقيقي) أنه من

نسل سليمان بن داود من سبط يهوذا، وقد ثبت في العهد العتيق عندهم (لا عندنا)

أن بعض أجداده في هذا النسب (الذي سرده متّى ولوقا في إنجيليهما) من أولاد

الزنا. وثبت عن مقدسهم بولس أنه صار لعنة لأجلهم، ونحن المسلمين نقول: إنه

عليه السلام أهلٌ لكل كرامة وفضيلة، وإنه من روح الله وآية منه؛ ولكن ما اتخذ

الله من ولد وما كان معه من إله. ونقول: إنه طاهر من نسب طاهر، فنحن ننقل

ما نقلنا عن العهدين العتيق والجديد مما لا يسعهم إنكاره، لإقامة الحجة عليهم،

وإعلامًا لعامة أهل ديننا بأننا لسنا في حاجة إلى مَن يدعونا إلى الإيمان به عليه

السلام، بل نحن أحق بأن ندعو هؤلاء الدعاة إلى تبرئته من اللعنة ومن دنس

النسب، كما نبرئ سائر الأنبياء عليهم السلام مما لا يليق بهم، ونحثو التراب في

فم من يزعم أننا نقول كلمة فيهم تشعر بنقصهم، قال البوصيري رحمه الله

في لاميته:

وأبيك ما أعطى يهوذا خاتمًا

لزنا بمحصنة ولا منديلا

لَوّوْا بغير الحق ألسنةً بما

قالوه في ليّا وفي راحيلا

ودعوا سليمان النبي بكافرٍ

واستهونوا إفكًا عليه مقولا

***

(8)

صفوة الكلام وفصل الخطاب

إن المسلمين مدافعون لا معتدون، وهذا الدفاع فرض ديني عليهم، والمنار الذي

يرد عليهم يوزع على المسلمين أيضًا ليحذرهم من الارتداد عن دينهم أو يَحُول دون

شكهم فيه، والمشتركون فيه من غير المسلمين يعدّون على أصابع اليد، فما يكتبون

يثير سخط الرأي العام الإسلامي؛ ولذلك طَفِق المسلمون يؤلفون الجمعيات في مصر

لمقاومتهم وما يكتبه المسلمون - على كونه دفاعًا - لا يكاد يشعر العالم

النصراني؛ لأنه يوزع على المسلمين دونهم، إلا إذا بحث عنه بعض المتعصبين من

أصحاب الصحف أو غيرهم - والمعلول يدوم بدوام علته - فنحن لا نترك الرد

عليهم ما داموا يدعوننا إلى دينهم قولاً وكتابةً ويتعرضون في خطبهم وكتبهم وصحفهم

لديننا، فإن تركوا تَركْنا، وإذا استمروا استمررْنا، ونلتزم الأدب في العبارات بقدر

فهمنا واجتهادنا، فمن كان ساعيًا في منع ذلك بإخلاص وحب للوفاق فليبدأ

بإسكات المبشرين عن ذكر كتابنا ونبينا وأصول ديننا وفروعه، ويبقى لهم مجال

واسع في الدعوة إلى دينهم بذكر محاسنه وما عندهم من الدلائل عليه، ومن لم

يرضه منا إلا أن نسكت لهم عن الطعن في ديننا والتنفير عنه والتحريف لنصوصه فلا

زال ساخطًا غاضبًا حاقدًا - إلى ما شاء من لوازم تعصبه - ولعلّ سوء تأثير هؤلاء

المبشرين سيضطر الحكومة والمحتلين إلى وضع حد لهذا الأمر إما بقانون أو بغير

قانون، ولا نظن أن الإنكليز يجبروننا على السكوت ويدعونهم يبغون كما

يريدون.

_________

ص: 188

الكاتب: ابن القيم الجوزية

فصل [*]

فحينئذٍ يطلع منه على المشهد الثاني عشر

وهو مشهد الذل والانكسار، والخضوع والافتقار للرب جل جلاله، فيشهد في

كل ذرة من ذراته الباطنة والظاهرة ضرورة تامة وافتقارًا تامًّا إلى ربه ووليه، ومن

بيده صلاحه وفلاحه وهداه وسعاداته، وهذه الحال التي تحصل لقلبه لا تنال العبارة

حقيقتها، وإنما تدرك بالحصول، فيحصل فيه كسرة خاصة لا يشبهها شيء،

بحيث يرى نفسه كالإناء المردود تحت الأرجل الذي لا شيء فيه، ولا به ولا منه،

ولا فيه منفعة، ولا يرغب في مثله، وأنه لا يصلح للانتفاع إلا بجبر جديد من

صانعه وقيّمه؛ فحينئذ يستكثر في هذا المشهد ما من ربه إليه من الخير، ويرى أنه

لا يستحق قليلاً منه ولا كثيرًا، فأي خير ناله من الله استكثره على نفسه، وعلم

أن قدره دونه، وأن رحمة ربه اقتضت ذكره به وسياقته إليه، واستقل ما من نفسه من

الطاعات لربه، ورآها - ولو ساوت طاعات الثقلين - من أقل ما ينبغي لربه عليه،

واستكثر قليل معاصيه وذنوبه، فإن الكسرة التي حصلت لقلبه أَوجَبت له هذا كله،

فما أقرب الجبر من هذا القلب المكسور! وما أدنى النصر والرحمة والرزق منه! وما

أنفع هذا المشهد له وأجداه عليه! وذرة من هذا ونفس منه أحب إلى الله من طاعات

أمثال الجبال من المدلّين المعجبين بأعمالهم وعلومهم وأحوالهم.

وأحبُّ القلوب إلى الله سبحانه قلب قد تمكنت منه هذه الكسرة، وملكته هذه

الذِّلة، فهو ناكس الرأس بين يدي ربه، لا يرفع رأسه إليه حياء وخجلاً من الله.

قيل لبعض العارفين: أيسجدُ القلبُ؟ قال: نعم؛ يسجد سجدة لا يرفع رأسه

منها إلى يوم اللقاء؛ فهذا سجود القلب، فقلب لا تباشره هذه الكسرة فهو غير ساجد

السجود المراد منه، وإذا سجد القلب لله هذه السجدة العظمى سجدت معه جميع

الجوارح، وعَنَا الوجهُ حينئذٍ للحيّ القيوم، وخشع الصوت والجوارح كلها، وذلّ

العبد وخضع واستكان، ووضع خده على عتبة العبودية، ناظرًا بقلبه إلى ربه

ووليه نظر الذليل إلى العزيز الرحيم، فلا يُرى إلا متملقًا لربه خاضعًا له، ذليلاً

مستعطفًا له، يسأله عطفه ورحمته، فهو يترضى ربه كما يترضى المحب الكامل

المحبة محبوبه المالك له، الذي لا غنى له عنه، ولا بدّ له منه، فليس له هم غير

استرضائه واستعطافه؛ لأنه لا حياة له ولا فلاح إلا في قربه ورضاه عنه ومحبته

له، يقول: كيف أغضب من حياتي في رضاه؟ وكيف أعدل عمن سعادتي

وفلاحي وفوزي في قربه وحبه وذكره؟

وصاحب هذا المشهد يشهد نفسه كرجل كان في كنف أبيه يغذوه بأطيب الطعام

والشراب واللباس، ويربيه أحسن التربية، ويرقية في درجات الكمال أتم ترقية،

وهو القيّم بمصالحه كلها، فبعثه أبوه في حاجة له فخرج عليه في طريقه عدو فأسره

وكتفه وشدّه وثاقًا، ثم ذهب به إلى بلاد الأعداء فسامَه سوءَ العذاب، وعامله بضد

ما يكون أبوه يعامله به، فهو يتذكر تربية والده وإحسانه إليه الفيْنة بعد الفيْنة،

فيهيج من قلبه لواعج الحسرات كلما رأى حاله، وتذكّر ما كان عليه، وكل ما كان

فيه. فبينا هو في أسر عدوه يسومه سوء العذاب، ويريد نحره في آخر الأمر، إذ

حانت منه التفاتة إلى نحو ديار أبيه، فرأى أباه منه قريبًا، فسعى إليه، وألقى نفسه

عليه بين يديه، يستغيث: يا أبتاه يا أبتاه يا أبتاه! انظر إلى ولدك وما هو فيه،

ودموعه تستبق على خديه، قد اعتنقه والتزمه، وعدوه في طلبه، حتى وقف على

رأسه وهو ملتزم لوالده ممسك له. فهل تقول: إن والده يسلمه مع هذه الحال إلى

عدوه ويخلي بينه وبينه؟ فما الظن بمن هو أرحم بعبده من الوالد بولده، ومن

الوالدة بولدها؟ إذ فرّ إليه، وهرب من عدوه إليه، وألقى نفسه طريحًا ببابه،

تمرّغ خده في ثرى أعتابه، باكيًا بين يديه يقول: يا ربّ! ارحم من لا راحم له

سواك، ولا ناصر له سواك، ولا مؤوي له سواك، ولا مغيث له سواك، مسكينك

وفقيرك وسائلك ومؤملك ومرجيك، لا ملجأ له ولا منجا له منك إلا إليك، أنت

معاذه، وبك ملاذه:

يا من ألوذ به فيما أؤمله

ومن أعوذ به مما أحاذره

لا يَجْبُرُ الناس عظمًا أنت كاسره

ولا يهيضون عظمًا أنت جابره

***

فصل

فإذا استبصر في هذا المشهد، وتمكن من قلبه، وباشره وذاق طعمه وحلاوته،

ترقى منه إلى (المشهد الثالث عشر) وهو الغاية التي شمّر اليها السالكون،

وأَمَّها القاصدون، ولحظ إليها العاملون.

وهو مشهد العبودية والمحبة والشوق إلى لقائه والابتهاج به، والفرح

والسرور به، فتقرّ به عينه، ويسكن إليه قلبه، وتطمئن إليه جوارحه، ويستولي

ذكره على لسان محبه وقلبه، فتصير خطرات المحبة مكان خطرات المعصية،

وإرادات التقرّب إليه وإلى مرضاته مكان إرادة معاصيه ومساخطه، وحركات

اللسان والجوارح بالطاعات مكان حركاتها بالمعاصي، وقد امتلأ قلبه من محبته،

ولَهَجَ لسانُه بذكره وانقادت الجوارح لطاعته، فإن هذه الكسرة الخاصة لها تأثير

عجيب في المحبة لا يعبَّر عنه.

ويحكى عن بعض العارفين قال: دخلت على الله من أبواب الطاعات كلها فما

دخلت من باب إلا رأيت عليه الزحام فلم أتمكن الدخول، حتى جئت باب الذل

والافتقار فإذا هو أقرب باب إليه وأوسعه، ولا مزاحم فيه ولا معوق، فما هو إلا

أن وضعت قدمي في عتبته فإذا هو قد أخذ بيدي وأدخلني عليه.

وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه يقول: من أراد السعادة الأبدية

فليلزم عتبة العبودية. وقال بعض العارفين: لا طريق أقرب إلى الله من العبودية،

ولا حجاب أغلظ من الدعوى، ولا ينفع مع الإعجاب والكبر عمل واجتهاد، ولا

يضر مع الذلّ والافتقار بَطالة؛ يعني بعد فعل الفرائض.

والقصد أن هذه الذلة والكسرة الخاصة تدخله على الله، وترميه على طريق

المحبة، فيُفتح له منها باب لا يفتح له من غير هذه الطريق، وإن كانت طرق سائر

الأعمال والطاعات تفتح للعبد أبوابًا من المحبة، لكن الذي يفتح منها من طريق

الذل والانكسار والافتقار وازدراء النفس، ورؤيتها بعين الضعف والعجز والعيب

والنقص والذم، بحيث يشاهدها ضيعة وعجزًا وتفريطًا وذنبًا وخطيئةً، نوع آخر

وفتح آخر.

والسالك بهذه الطريق غريب في الناس؛ هم في وادٍ وهو في وادٍ، وهي

تسمى طريق الطير، يسبق النائم فيها على فراشه السعاة؛ فيصبح وقد قطع الركب

بينا هو يحدثك وإذا به قد سبق الطرف وفات السعاة. فالله المستعان وهو خير

الغافرين.

وهذا الذي حصل له من آثار محبة الله له وفرحه بتوبة عبده، فإنه

سبحانه يحب التوّابين ويفرح بتوبتهم أعظم فرح وأكمله، فكلّما طالع العبد مننه

سبحانه عليه - قبل الذنب وفي حال مواقعته وبعده - وبرّه به وحلمه عنه وإحسانه

إليه: هاجت من قلبه لواعج محبته والشوق إلى لقائه، فإن القلوب مجبولة على

حب من أحسن اليها، وأي إحسان أعظم من إحسان من يبارزه العبد بالمعاصي،

وهو يمده بنعمه ويعامله بألْطَافه، ويُسبل عليه ستره، ويحفظه من خطفات أعدائه

المترقِّبين له أدنى عثْرة ينالون منه بها بغيتهم، ويردهم عنه ويحُول بينهم وبينه،

وهو في ذلك كله بعينه يراه ويطّلع عليه، فالسماء تستأذن ربها أن تحصبه،

والأرض تستأذنه أن تخسف به، والبحر يستأذنه أن يغرقه، كما في مسند الإمام

أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من يوم إلا والبحر يستأذن ربه أن يغرق

ابن آدم، والملائكة تستأذنه أن تعاجله وتهلكه [1] والرب تعالى يقول: دعوا عبدي

فأنا أعلم به إذ أنشأته من الأرض، إن كان عبدكم فشأنكم به، وإن كان عبدي فمني

إلى عبدي، وعزتي وجلالي إن أتاني ليلاً قبلته، وإن أتاني نهارًا قبلته، وإن

تقرّب منّي شبرًا تقربت منه ذراعًا، وإن تقرّب منّي ذراعًا تقربت منه باعًا، وإن

مشى إليّ هرْولت إليه، وإن استغفرني غفرت له، وإن استقالني أقلته، وإن تاب

إليّ تبت عليه، مَن أعظم منّي جودًا وكرمًا وأنا الجَوَاد الكريم؟ عبيدي يبيتون

يبارزونني بالعظائم، وأنا أكلؤهم في مضاجعهم، وأحرسهم على فرشهم، مَن أقْبلَ

إليّ تلقيته من بعيد، ومن ترك لأجلي أعطيته فوق المزيد، ومن تصرّف بحولي

وقوتي ألنت له الحديد، ومَن أراد مرادي ردت ما يريد. أهل ذكري أهل مجالستي،

وأهل شكري أهل زيادتي، وأهل طاعتي أهل كرامتي، وأهل معصيتي لا

أقنطهم من رحمتي، إن تابوا إليّ فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم، أبتليهم

بالمصائب، لأطهّرهم من المعايب) .

***

(نموذج آخر من الكتاب)

في بعض منازل السير إلى الله تعالى

فما تقدم هو نظر الصوفية في المعصية، واختلاف مشاهد أصناف الناس فيها

بين مَن يعتبر ويندم ويزداد بعدها صلاحًا، ومَن يرى أنه مجبور ومعذور بالقدر،

ومَن يرى أنه مؤدٍّ لحق الطبيعة ووظائف الأعضاء

إلخ، ولذلك جاء كله في

مباحث التوبة. وأمّا هذا النموذج فهو من نظرهم في سير السالكين إلى الله

تعالى؛ أي إلى معرفته العليا وما لهم من المنازل في طريقهم.

***

فصل

ثم ينزل القلب منزل الاعتصام وهو نوعان: اعتصام بالله، واعتصام بحبل

الله. قال الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا} (آل عمران:

103) ، وقال:{وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (الحج

: 78) والاعتصام: افتعال من العصمة؛ وهو التمسك بما يعصمك ويمنعك من

المحذور والمَخُوف، فالعصمة: الحمية، والاعتصام: الاحتماء، ومنه سميت القلاع

العواصم؛ لمنعها وحمايتها. ومدار السعادة الدنيوية والأخروية على الاعتصام

بالله، والاعتصام بحبله، ولا نجاة إلا لمن تمسّك بهاتين العصمتين.

فأمّا الاعتصام بحبله فإنه يعصم من الضلالة، والاعتصام به يعصم من الهلكة،

فإن السائر إلى الله كالسائر على طريق نحو مقصده، فهو محتاج إلى هداية

الطريق والسلامة فيها، فلا يصل إلى مقصده إلا بعد حصول هذين الأمرين له،

فالدليل كفيل بعصمته من الضلالة، وأن يهديه إلى الطريق، والعدة والقوة والسلاح

بها تحصل له السلامة من قطّاع الطريق وآفاتها، فالاعتصام بحبل الله يوجب له

الهداية واتباع الدليل، والاعتصام بالله يوجب له القوة والعدة والسلاح والمادة التي

يستلئم بها في طريقه، ولهذا اختلفت عبارات السلف في الاعتصام بحبل الله بعد

إشارتهم كلهم إلى هذا المعنى، فقال ابن عباس: تمسّكوا بدين الله. وقال ابن

مسعود: هو الجماعة. وقال: عليكم بالجماعة فإنها حبل الله الذي أمر به، وإن ما

تكرهون في الجماعة والطاعة، خير ممّا تحبون في الفرقة. وقال مجاهد وعطاء:

بعهد الله. وقال قتادة والسدّي وكثير من أهل التفسير: هو القرآن. قال ابن

مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن هذا القرآن هو

حبل الله، وهو النور المبين، والشفاء النافع، وعصمة من تمسّك به، ونجاة من

تبعه) . وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في

القرآن: (هو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو

الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تختلف به الألسن، ولا يخْلَق عن كثرة الرّد، ولا

تشبع منه العلماء) وقال مقاتل: بأمر الله وطاعته، ولا تفرّقوا كما تفرّقت اليهود

والنصارى. وفي الموطأ من حديث مالك عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي

هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يرضى لكم

ثلاثًا ويسخط لكم ثلاثًا: يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا

بحبل الله جميعًا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم. ويسخط لكم: قيل وقال

وإضاعة المال، وكثرة السؤال) رواه مسلم في الصحيح.

قال صاحب المنار: (الاعتصام بحبل الله: هو المحافظة على طاعته مراقبًا

لأمره) ويريد بمراقبة الأمر: القيام بالطاعة لأجل أن الله أمر بها وأوجبها، لا لمجرد

العادة أو لعلة باعثة سوى امتثال الأمر، كما قال طلق بن حبيب في التقوى: هي

العمل بطاعة الله على نور من الله، ترجو ثواب الله، وترك معصية الله على نور

من الله، تخاف عقاب الله. وهذا هو الإيمان والاحتساب ومَن قام ليلة القدر إيماناً

واحتسابًا غفر له، فالصيام والقيام هو الطاعة، والإيمان مراقبة الأمر [2] وإخلاص

الباعث هو أن يكون الإيمان الآمر [3] لا شيء سواه، والاحتساب رجاء ثواب الله،

فالاعتصام بحبل الله يحمي من البدعة وآفات العمل، والله أعلم.

***

فصل

وأما الاعتصام به: فهو التوكل عليه، والامتناع به، والاحتماء به، وسؤاله أن

يحمي العبد ويمنعه ويعصمه ويدفع عنه، فإن ثمرة الاعتصام به هو الدفع عن العبد،

والله يدفع عن الذين آمنوا، فيدفع عن عبده المؤمن إذا اعتصم به كل سبب

يفضي إلى العطب، ويحميه منه، فيدفع عنه الشبهات والشهوات وكيد عدوه

الظاهر والباطن، وشر نفسه. ويدفع عنه موجب أسباب الشر بعد انعقادها،

بحسب قوة الاعتصام به وتمكنه، فتفقد في حقه أسباب العطب فيدفع عنه موجباتها

ومسبباتها، ويدفع عنه قدره بقدره، وإرادته بإرادته، ويعيذه به منه.

***

فصل

وأما صاحب المنازل فقال: (الاعتصام بالله الترقي عن كل موهوم)

الموهوم عنده ما سوى الله تعالى. والترقي عنه: الصعود من شهود نفعه وضره،

وعطائه ومنعه وتأثيره، إلى الله تعالى. وهذه إشارة إلى الفناء، ومراده: الصعود

عن شهود ما سوى الله إلى الله. والكمال في ذلك الصعود عن إرادة ما سوى الله

إلى إرادته. والاتحادي يفسر الصعود عن وجود ما سواه إلى وجوده، بحيث لا

يرى لغيره وجود ألبتة، ويرى وجود كل موجود هو وجوده، فلا وجود لغيره إلا في

الوهم الكاذب عنده.

قال: (وهو على ثلاث درجات: اعتصام العامة بالخبر استسلامًا وإذعانًا

بتصديق الوعد والوعيد، وتعظيم الأمر والنهي، وتأسيس المعاملة على اليقين

والإنصاف) ؛ يعني أن العامة اعتصموا بالخبر الوارد عن الله استسلامًا من غير

منازعة، بل إيمانًا واستسلامًا، وانقادوا إلى تعظيم الأمر والنهي والإذعان لهما،

والتصديق بالوعد والوعيد، وأسسوا معاملتهم على اليقين، لا على لا شك والتردد [4]

وسلوك طريقة الاحتياط؛ كما قال القائل:

زعم المنجم والطبيب كلاهما

لا تبعث الأجساد قلت إليكما

إن صحّ قولُكما فلست بخاسرٍ

أو صح قولي فالخسارُ عليكما

هذه طريق أهل الريب والشك، يقومون بالأمر والنهي احتياطًا، وهذه

الطريق لا تنجي من عذاب الله، ولا يحصل لصاحبها السعادة ولا توصله إلى

المأمن.

وأمّا الإنصاف الذي أسسوا معاملتهم عليه، فهو الإنصاف في معاملتهم لله

ولخلقه. فأما الإنصاف في معاملة الله: فأن يعطي العبودية حقها، وأن لا ينازع

ربه صفات إلهيته التي لا تليق بالعبد ولا تنبغي له، من العظمة والكبرياء والجبرية.

ومن إنصافه لربه: أن لا يشكر سواه على نعمه وينساه، ولا يستعين بها على

معاصيه، ولا يحمد على رزقه غيره، ولا يعبد سواه، كما في الأثر الإلهي: (إني

والجن والإنس في نبأ عظيم: أخلق ويُعبد غيري، وأرزق ويُشكر سواي) ، وفي

أثر آخر: (ابنَ آدم ما أنصفتني، خيري إليك نازل، وشرّك إليَّ صاعد، أتحبب

إليك بالنعم وأنا عنك غني، وتتبغض إلي بالمعاصي وأنت فقير إليّ، ولا يزال

المَلَك الكريم، يعرُج إليّ منك بعملٍ قبيح) وفي أثرٍ آخر: (يا ابن آدم ما من يوم

جديد، إلا يأتيك من عندي رزق جديد، وتأتي عنك الملائكة بعمل قبيح، تأكل

رزقي وتعصيني، وتدعوني فأستجيب لك، وتسألني فأعطيك، وأنا أدعوك إلى

جنتي فتأبى ذلك، وما هذا من الإنصاف) .

وأما الإنصاف في حق العبيد؛ فأن يعاملهم بمثل ما يحب أن يعاملوه به.

ولَعَمْرُ اللهِ هذا الذي ذكر أنه اعتصام العامة هو اعتصام خاصةِ الخاصة [5] في الحقيقة،

ولكن الشيخ ممن رفع له علم الفناء فشمّر إليه، فلا تأخذه فيه لومةُ لائمٍ، ولا

يرى مقامًا أجلّ منه.

***

فصل

قال (واعتصام الخاصة بالانقطاع، وهو صون الإرادة قبضًا، وإسبال الخُلُق

على الخلق بسطًا، ورفض العلائق عزمًا، وهو التمسك بالعروة الوثقى) يريد:

انقطاع النفس عن أغراضها من هذه الوجوه الثلاثة، فيصون إرادته ويقبضها عمّا

سوى الله سبحانه، وهذا شبيه بحال أبي يزيد فيما أخبر به عن نفسه لمّا قيل له: ما

تريد؟ فقال: أريد أن لا أريد.

(الثاني) إسبال الخُلُق على الخلق بسطًا. وهذا حقيقة التصوف فإنه كما قال

أبو بكر الكتاني: التصوف خُلُق فمَن زاد عليك في الخُلُق زاد عليك في التصوف.

فإن حسن الخلق وتزكية النفس بمكارم الأخلاق، يدل على سعة قلب صاحبه،

وكرم نفسه وسجيته. وفي هذا الوصف يكفّ الأذى ويحمل الأذى، ويوجد الراحة،

ويدير خدّه الأيسر لمن لطم الأيمن، ويعطي رداءه لمن سلبه قميصه، ويمشي ميلين

مع من سخره ميلاً [6] وهذا علامة انقطاعه عن حظوظ نفسه وأغراضها.

وأما رفض العلائق عزمًا، فهو العزم التام على رفض العلائق وتركها في

ظاهره وباطنه، والأصل هو قطع علائق الباطن، فمتى قطعها لم تضره علائق

الظاهر، فمتى كان المال في يديك وليس في قلبك لم يضرك ولو كثر، ومتى كان

في قلبك ضرك ولو لم يكن في يدك منه شيء. قيل للإمام أحمد: أيكون الرجل

زاهدًا ومعه ألف دينار؟ قال: نعم؛ على شريطة ألا يفرح إذا زادت ولا يحزن إذا

نقصت. ولهذا كان الصحابة أزهد الأمة مع ما بأيديهم من الأموال. وقيل

لسفيان الثوري: أيكون ذو المال زاهدًا؟ قال: نعم إن كان إذا زيد في ماله شكر،

وإن نقص شكر وصبر. وإنما يحمد قطع العلائق الظاهرة في موضعين: حيث

يخاف منها ضررًا في دينه، أو حيث لا يكون فيها مصلحة راجحة. والكمال من

ذلك قطع العلائق التي تصير كلاليب على الصراط تمنعه من العبور، وهي كلاليب

الشهوات والشبهات، ولا يضره ما تعلق به بعدها.

***

فصل

قال (واعتصام خاصة الخاصة بالاتصال، وهو شهود الحق تفريدًا، بعد

الاستحذاء له تعظيمًا، والاشتغال به قربًا) لمّا كان ذلك الانقطاع موصلاً إلى هذا

الاتصال، كان ذلك للمتوسطين، وهذا عنده لأهل الوصول. ويعني بشهود الحق

تفريدًا: أن يشهد الحق سبحانه وحده منفردًا ولا شيء معه، وذلك لفناء الشاهد في

الشهود، والحوالة في ذلك عند القوم على الكشف، وقد تقدم أن هذا ليس بكمال،

وأن الكمال أن يفنى بمراده عن مراد نفسه.

وأما فناؤه بشهوده عن شهود ما سواه، فدون هذا الفناء في الرتبة كما تقدم.

وأمّا قوله بعدُ: (الاستحذاء له تعظيمًا) ؛ فالشيخ - قدّس الله روحه - لكثرة

لهجه بالاستعارات عبّر عن معنى لطيف عظيم بلفظة الاستحذاء التي هي استفعال

من المحاذاة، وهي المقابلة التي يبقى فيها جزء من المحاذي خارجًا عما حاذاه بل قد

واجهه وقابله بكليته وجميع أجزائه. [7] ومراده بذلك القرب وارتفاع الوسائط المانعة

منه، ولا ريب أن العبد يقرب من ربه والرب يقرب من عبده، فأمّا قرب العبد

فكقوله تعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} (العلق: 19) وقوله في الأثر الإلهي:

(من تقرب منّي شبرًا تقربت منه ذراعًا)، وكقوله: (وما تقرّب إليّ عبدي بمثل

أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا

أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها،

ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي) ، وفي

الحديث الصحيح: (أقرب ما يكون الرب من عبده في جوف الليل الأخير) ، وفي

الحديث أيضًا: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد) ، وفي الحديث الصحيح

لما ارتفعت أصواتهم بالتكبير مع النبي صلى الله عليه وسلم في السفر فقال: (يا

أيها الناس أربِعوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصمّ ولا غائبًا، إن الذي تدعونه

سميع قريب، أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته) ، فعبّر الشيخ عن طلب القرب

منه ورفض الوسائط الحائلة بينه وبين القرب المطلوب الذي لا تقرّ عيونُ عابديه

وأوليائه إلا به، بالاستحذاء؛ وحقيقته: موافاة العبد إلى حضرته وقدامه وبين يديه،

عكس حال من نبذه وراءه ظِهْريًّا، وأعرض عنه ونأى بجانبه، بمنزلة من ولى

المطاع ظهره، ومال بشِقّه عنه.

وهذا الأمر لا يدرك معناه إلا بوجوده وذوقه، وأحسن ما يعبّر عنه بالعبارة

النبوية المحمدية، وأقرب عبارات القوم أنه القريب برفع الوسائط التي بارتفاعها

يحصل للعبد حقيقة التعظيم. فلذلك قال: الاستجداء له تعظيمًا. ومن أراد فهم هذا

كما ينبغي فعليه بفَهم اسمه تعالى الباطن وفهم اسمه القريب، مع امتلاء القلب بحبه،

ولهج اللسان بذكره، ومن هاهنا يؤخذ العبد إلى الفناء الذي كان مشمرًا إليه،

عاملاً عليه.

فإن كان مشمرًا إلى الفناء متوسط عن شهود السوى، لم يبق في قلبه شهود

لغيره ألبتة، بل تضمحل الرسوم وتفنى الإشارات، ويفنى مَن لم يكن ويبقى مَن لم

يزل. وفي هذا المقام امتزج فيه الحب بالتعظيم مع القرب، وهو منتهى سفر

الطالبين لمقام الفناء، وإن كان هذا مشمرًا للفناء العالي، وهو الفنا عن إرادة

السوى، لم يبق في قلبه مراد يزاحم مراده الديني الشرعي النبوي القرآني؛ بل

يتّحد المرادان فيصير عين مراد الرب هو مراد العبد، وهى حقيقة المحبة الخالصة،

وفيها يكون الاتحاد الصحيح، وهو الاتحاد في المراد لا في المريد ولا في الإرادة،

فتدبّر هذا الفرقان في هذا الموضع الذي طالما زلت فيه أقدام السالكين وضلت فيه

أفهام الواجدين.

وفي هذا الباب [8] حقيقة يفنى مَن لم يُكِنُّ إرادةً وإيثارًا ومحبةً وتعظيمًا وخوفًا

ورجاءً وتوكلاً، ويبقى من لم يَزِلّ، وفيه ترتفع الوسائط بين الرب والعبد حقيقة،

ويحصل [9] له الاستجداء المذكور مقرونًا بغاية الحب وغاية التعظيم. وفي هذا المقام

يجيب داعي الفناء في المحبة طوعًا واختيارًا لا كرهًا، بل ينجذب إليه انجذاب قلب

المحب وروحه الذي قد ملأت المحبة قلبه، بحيث لم يبق فيه جزء فارغ منها، إلى

محبوبه الذي هو أكمل محبوب وأجمله وأحقه بالحب.

وهذا الفناء أوجبه الحب الكامل الممتزج بالتعظيم والإجلال والقرب، ومحو

ما سوى مراد المحبوب من القلب بحيث لم يبق في القلب إلا المحبوب ومراده.

وهذا حقيقة الاعتصام به وبحبله، والله المستعان.

وأما قوله: (والاشتغال به قربًا) أي يشغله قرب الحق عن كل ما سواه، وهذا

حقيقة القرب. ألا ترى أن القريب من السلطان جدًّا المقبل عليه المكلّم له لا يشتغل

بشيء سواه ألبتة؟ فعلى قدر القرب من الله يكون اشتغال العبد به، والله أعلم.

***

فصل

ومن منازل إيّاك نعبد وإيّاك نستعين: (منزلة الفرار)، قال الله تعالى:

{فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} (الذاريات: 50)، وحقيقة الفرار: الهرب من شيء إلى شيء،

وهو نوعان: فرار السعداء وفرار الأشقياء؛ ففرار السعداء الفرار إلى الله عز

وجل، وفرار الأشقياء الفرار منه لا إليه، وأمّا الفرار منه إليه ففرار أوليائه؛ قال

ابن عباس في قوله تعالى:] فَفِرُّوا إِلَى اللهِ [: فرّوا منه إليه، واعملوا بطاعته.

وقال سهل بن عبد الله: فرّوا مما سوى الله إلى الله. وقال آخرون: اهربوا من

عذاب [10] الله إلى ثوابه بالإيمان والطاعة.

وقال صاحب المنازل: (هو الهرب ممّا لم يكن إلى من لم يزل، وهو على

ثلاث درجات: فرار العامة من الجهل إلى العلم عقدًا وسعيًا، ومِن الكسل إلى

التشمير جدًّا وعزمًا، ومن الضيق إلى السعة ثقةً ورجاءً) يريد بما لم يكن:

(الخلق)، وبما لم يزل:(الحق) . وقوله: فرار العامة من الجهل إلى العلم عقدًا

وسعيًا - الجهل نوعان: عدم العلم بالحق النافع، وعدم العمل بموجبه ومقتضاه،

فكلاهما جهل لغةً وعرفًا وشرعًا وحقيقةً. قال موسى: {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ

مِنَ الجَاهِلِينَ} (البقرة: 67) لما قال له قومه: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً} (البقرة:

67) أي المستهزئين [11]، وقال يوسف الصديق: {و َإِلَاّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ

إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الجَاهِلِينَ} (يوسف: 33) ، أي من مرتكبي ما حرمت عليهم.

وقال تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} (النساء: 17) ،

قال قتادة: أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كل ما عصي

الله به فهو جهالة. وقال غيره: أجمع الصحابة أن كل من عصى الله فهو جاهل.

وقال الشاعر:

ألا لا يَجْهَلَنْ أحدٌ علينا

فنجهل فوق جهل الجاهلينا

وسمي عدم مراعاة العلم جهلاً، إمّا لأنه لم ينتفع به فنزل منزلة الجهل، وإمّا

لجهله بسوء ما تجني عواقب فعله. فالفرار المذكور هو الفرار من الجهلين: من

الجهل بالعلم إلى تحصيله اعتقادًا ومعرفةً وبصيرةً، ومِن جهل العمل إلى السعي

النافع والعمل الصالح قصدًا وسعيًا.

قوله: (ومن الكسل إلى التشمير جدًّا وعزمًا) أي يفر من إجابة داعي الكسل

إلى داعي العلم والتشمير بالجد والاجتهاد، والجد: هو هاهنا صدق العمل

وإخلاصه من شوائب الفتور ووعود التسويف والتهاون، وهو تحت السين وسوف

وعسى ولعلّ، فهي أضرّ شيء على العبد، وهي شجرة ثمرُها الخسران والندامات.

والفرق بين الجد والعزم: أن العزم صدق الإرادة واستجماعها، والجد صدق

العمل وبذل الجهد فيه، وقد أمر الله سبحانه وتعالى بتلقي أوامره بالعزم والجد فقال:

{خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ} (البقرة: 63)، وقال:{يَا يَحْيَى خُذِ الكِتَابَ بِقُوَّةٍ} (مريم: 12) ، أي بجدٍّ واجتهادٍ وعزمٍ، لا كَمَن يأخذ ما أُمر به بترددٍ وفتورٍ.

وقوله: (ومِن الضيق إلى السعة ثقةً ورجاءً) يريد: هروب العبد من ضيق

صدره بالهموم والغموم والأحزان والمخاوف التي تعتريه في هذه الدار من جهة

نفسه، وما هو خارج عن نفسه مما يتعلق بأسباب مصالحه ومصالح من يتعلق به،

وما يتعلق بماله وبدنه وأهله وعدوّه، يهرب من ضيق صدره بذلك كله إلى سعة

فضاء الثقة بالله تبارك وتعالى، وصدق التوكل عليه، وحسن الرجاء لجميل صنعه

به، وتوقّع المرْجو من لطفه وبرّه، ومِن أحسن كلام العامة قولهم: لا همّ مع الله،

قال الله تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاًّ * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (الطلاق: 2-3) قال الربيع بن خثيم: يجعل له مخرجًا من كل ما ضاق على

الناس. وقال أبو العالية: مخرجًا مِن كل شدة، وهذا جامع لشدائد الدنيا والآخرة

مخرجًا. وقال الحسن: مخرجًا مما نهاه عنه {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (الطلاق: 3) ؛ أي كافي مَن يثق به في نوائبه ومهماته يكفيه كل ما أهمه.

والحسب: الكافي؛ (حسبنا الله) : كافينا الله.

وكلّما كان العبد حسن الظن بالله حسن الرجاء له صادق التوكل عليه، فإن الله

لا يخيب أمله فيه ألبتة، فإنه سبحانه لا يخيب أمل آمل، ولا يضيع عمل عامل.

وعبّر عن الثقة وحسن الظن بالسعة، فإنه لا أشرح للصدر ولا أوسع له بعد

الإيمان من ثقته بالله ورجائه وحسن ظنه به.

***

فصل

قال: (وفرار الخاصة من الخبر إلى الشهود، ومن الرسوم إلى الأصول،

ومن الحظوظ إلى التجريد) ؛ يعني أنهم لا يرضون أن يكون إيمانهم عن مجرد

خبر حتى يترقوا منه إلى مشاهدة المخبر عنه، فيطلبون الترقي من علم اليقين

بالخبر، إلى عين اليقين بالشهود، كما طلب إبراهيم الخليل - صلوات الله وسلام

عليه - ذلك من ربه إذ قال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ

بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} (البقرة: 260) ، فطلب إبراهيم أن يكون اليقين

عيانًا، والمعلوم مشاهدًا، وهذا هو المعنى الذي عبّر عنه النبي - صلى الله عليه

وسلم - بالشك في قوله: (نحن أحقّ بالشكّ من إبراهيم) حيث قال:] رَبِّ أَرِنِي

كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى [، وهو صلى الله عليه وسلم لم يشكّ، ولا إبراهيم

- حاشاهما مِن ذلك - وإنّما عبّر عن هذا المعنى بهذه العبارة.

هذا أحد الأقوال في الحديث وفيه قول ثانٍ أنه على وجه النفي، أي لم يشك

إبراهيم حيث قال ما قال، ولم نشك نحن. وهذا القول صحيح أيضًا؛ أي لو كان

ما طلبه للشك لكنّا نحن أحق به منه، لكن لا يطلب ما طلب شكًّا، وإنما طلبه

طمأنينة.

فالمراتب ثلاث: علم يقين يحصل عن الخبر، ثم يتجلى [12] حقيقة المخبر

عنه للقلب أو البصر حتى يصير العلم به عين يقين، ثم يباشره ويلابسه فيصير

حق يقين، فعلمنا بالجنة والنار الآن علم يقين، فإذا أزلفت الجنة للمتقين في

الموقف، وبرّزت الجحيم للغاوين، وشاهدوهما عيانًا، كان ذلك عين يقين، كما

قال تعالى: {لَتَرَوُنَّ الجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليَقِينِ} (التكاثر: 6-7) ، فإذا

دخل أهل الجنةِ الجنةَ، وأهل النار النار، فذلك حق اليقين، ونزيد ذلك إيضاحًا

- إن شاء الله تعالى - إذا انتهينا إليه.

وأمّا قوله: (ومن الرسوم إلى الأصول) يريد بالرسوم ظواهر العلم والعمل،

وبالأصول حقائق الإيمان ومعاملات القلوب وأذواق الإيمان ووارداته، فيفر من

إحكام العلم والعمل إلى خشوع السر للعرفان، فإن أرباب العزائم في السير لا يقنعون

برسوم الأعمال وظواهرها، ولا يعتدّون إلا بأرواحها وحقائقها وما يثبته لهم

التعرّف الإلهي، وهو نصيبهم من الأمر.

والتعرف الإلهي لا يقتضي مفارقة الأمر كما يظن قطّاع الطريق وزنادقة

الصوفية؛ بل يستخرج منهم حقائق الأمر وأسرار العبودية وروح المعاملة، فحظهم

من الأمر حظّ العالم بمراد المتكلم من كلامه تصريحًا وإيماءً وتنبيهًا وإشارةً. وحظ

غيرهم منه حظ التالي له حفظًا بلا فهم ولا معرفة لمراده، وهؤلاء أحوج شيء إلى

الأمر؛ لأنهم لم يصلوا إلى تلك التعرفات والحقائق إلا به، فالمحافظة عليه لهم علمًا

ومعرفةً وعملاً وحالاً ضرورية لا عِوض لهم عنه ألبتة.

وهذا القدر هو الذي فات الزنادقة وقطّاع الطريق من المنتسبين إلى طريقة

القوم، فإنهم لمّا علِموا أن حقائق هذه الأوامر هي المطلوبة أرواحها، لا صورها

وأشباحها ورسومها، قالوا: نجمع هممنا على مقاصدها وحقائقها، ولا حاجة لنا إلى

رسومها وظواهرها؛ بل الاشتغال برسومها اشتغالٌ عن الغاية بالوسيلة، وعن

المطلوب لذاته بالمطلوب لغيره، وغرّهم ما رأوا فيه الواقفين مع رسوم الأعمال

وظواهرها دون مراعاة حقائقها ومقاصدها وأرواحها، فرأوا نفوسهم أشرف من

نفوس أولئك وهممهم أعلى، وأنهم المشتغلون باللب وأولئك بالقشر، فتركب من

تقصير هؤلاء وعدوان هؤلاء تعطيل جملة الأمر؛ هؤلاء عطّلوا سرّه ومقصوده

وحقيقته، وهؤلاء عطّلوا رسمه وصورته، فظنوا أنهم يصلون إلى حقيقته، من

غير رسمه وظاهره، فلم يصلوا إلا إلى الكفر والزندقة، وجحدوا ما علم بالضرورة

مجيء الرسل [13] به، فهؤلاء كفار زنادقة منافقون، وأولئك مقصّرون غير كاملين.

والقائمون بهذا وهذا همُ الذين يرون أن الأمر متوجه إلى قلوبهم قبل جوارحهم،

وأن على القلب عبودية في الأمر كما على الجوارح، وأن تعطيل عبودية القلب

بمنزلة تعطيل عبودية الجوارح، وأن كمال العبودية قيام كل من الملك وجنوده [14]

بعبوديته، فهؤلاء خواصّ أهلِ الإيمان، وأهل العلم والعرفان.

***

فصل

قوله: (ومن الحظوظ إلى التجريد) يريد الفرار من حظوظ النفوس على

اختلاف مراتبها، فإنه لا يعرفها إلا المعتنون بمعرفة الله ومراده وحقه على عبده،

ومعرفة نفوسهم وأعمالهم وآفاتهما، ورب مطالب عالية لقوم من العبادة هي حظوظ

لقوم آخرين يستغفرون الله ويفرون إليه منها، يرونها حائلة بينهم وبين مطلوبهم،

وبالجملة فالحظ ما سوى مراد الله الديني منك كائنًا ما كان، وهو ما يبرح حظ

محرم إلى مكروه إلى مباح إلى مستحب غيره أحب إلى الله منه، ولا يتميز هذا إلا

في مقام الرسوخ في العلم بالله وأمره، وبالنفس وصفاتها وأحوالها. فهناك يتبين له

الحظوظ من الحقوق ويفرّ من الحظ إلى التجريد. وأكثر الناس لا يصلح لهم هذا؛

لأنهم إنما يعبدون الله على الحظوظ وعلى مرادهم منه، وأما تجريد عبادته على

مراده من عبده: -

فتلك منزلة لم يعطها أحد

سوى نبي وصديق من البشر

والزهد زهدك فيها ليس زهدك في

ما قد أبيح لنا في محكم السور

والصدق صدقك في تجريدها وكذا

الإخلاص تخليصها إن كنت ذا بصر

كذا توكل أرباب البصائر في

تجريد أعمالهم من ذلك الكدر

كذاك توبتهم منها فهم أبدًا

في توبة أو يصيروا داخل الحفر

وبالجملة: فصاحب هذا التجريد لا يقنع من الله بأمر يسكن إليه دون الله، ولا

يفرح بما حصل له دون الله، ولا يأسى على ما فاته سوى الله، ولا يستغني برتبة

شريفة وإن عظمت عنده أو عند الناس، فلا يستغني إلا بالله، ولا يفتقر إلا إلى الله،

ولا يفرح إلا بموافقته لمرضاة الله، ولا يحزن إلا على ما فاته من الله، ولا

يخاف إلا من سقوطه من عين الله، واحتجاب الله عنه، فكله بالله، وكله لله، وكله

مع الله، وسيره دائمًا إلى الله، قد رُفع له علمٌ فشمّر إليه، وتجرّد له مطلوبه فعمل

عليه، تناديه الحظوظ: إليّ، وهو يقول: إنما أريد مَن إذا حصل لي - حصل

لي كل شيء، وإذا فاتني فاتني كل شيء، فهو مع الله مجرد عن خلقه، ومع خلقه

مجرد عن نفسه، ومع الأمر مجرد عن حظه؛ أعني الحظ المزاحم للأمر، وأما

الحظ المعيّن على الأمر، فإنه لا يحطه تناوله عن مرتبته، ولا يسقطه من عين

ربه.

وهذا أيضًا موضوع غلط فيه من غلط من الشيوخ، فظنوا أن إرادة الحظ نقص

في الإرادة، والتحقيق فيه أن الحظ نوعان: حظ يزاحم الأمر، وحظ يوازر الأمر

فينفذه؛ الأول هو المذموم، والثاني ممدوح، وتناوله من تمام العبودية، فهذا لون

وهذا لون.

...

...

...

... (للنموذج بقية)

(المنار)

أرأيتم أيها المبشرون الذين تدعوننا إلى النصرانية هذه المعارف

العالية في الإيمان، والعلم بالله وبمزايا الإنسان، وهذه الفضيلة والكمال في الإسلام؟

هذا النموذج نقطة من بحر كلام علمائنا في منازل السالكين والعارفين، أرأيتم مَن

ارتقى في الدين إلى الذروة العليا أيمكن إقناعه بأن النزول عنها إلى الدرجات التي

هي دونها خير له من البقاء على ارتقائه وكماله فيها؟ ! أيرضى مَن هذا حظه من

الدين والإيمان أن يشغل خياله ولسانه باسم يسوع، وصورة يسوع، وتثليث يسوع،

وفداء يسوع. الذي لا يعقل؟ أمَا والله لو كان يسوع وتلاميذ يسوع ويوحنا الذي

عمد يسوع ومسح رأسه ودعا له بالبركة - ومعهم موسى وإسرائيل وكل أنبياء أبنائه

أحياء؛ وجاءهم محمد (عليهم الصلاة والسلام) بهذا القرآن لَمَا وسِعهم إلا

اتباعه، وقد كانوا كلهم على الحق والتوحيد الذي نسختموه بالتثليت والفداء فأربعوا

على ظلعكم، وادعوا إلى دينكم البراهمة والبوذيين وأمثالهم الذين كان لهم ثالوث

كثالوثكم، فأولئك لا يبعد أن ينتقلوا من ثالوث إلى ثالوث، وأما صاحب التوحيد

الذي هو أكمل وأعلى معارف البشر، فلا يترك التوحيد إلى ما هو دونه.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) تابع لما نشر في ص 113 من المجلد السابع عشر.

(1)

لعلّ المراد أن الإنسان عرضة للهلاك في البر والبحر بجهله وخطاياه، لولا عناية الله به وتسخيره هذه المخلوقات له، والكلام عن لسان الحال قد يكون أفصح من لسان المقال.

(2)

ضبط في نسختنا: (الآمر) بصيغة اسم الفاعل. وفي نسخه أخرى: (الأمر) بصيغة المصدر وهي الموافقة لقول صاحب المنازل وللمعنى، فاخترناها.

(3)

لم يوضع لهذه في نسختنا علامة المد، وفي نسخة: لآمر، والصواب ما اخترناه؛ أي أن هذه هي التي يجب أن تكون اسم فاعل معرف والأولى هي المصدر.

(4)

وفي نسخة: لا على شك والترديد ولعله وتردد.

(5)

وفي نسخة: الخاصة.

(6)

قوله: وفي هذا الوصف

إلخ؛ يريد به تزكية النفس، وهو غير حسن الخلق فإن التزكية تهذيب فهي مبدأ، وحسن الخلق غاية وفي طور التزكية والتهذيب يحسن ما ذكره من العمل بوصايا الإنجيل، كقوله: من لطمك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر

إلخ. ودين المسيح كله تمهيد لدين محمد عليهما السلام، بل هما دين واحد جاء القِسْم الأول منه تمهيدًا للثاني، كما أخبر المسيح أصحابه بأنه لا يستطيع أن يقول لهم كل شيء، وبشّرهم بأنه سيأتي بعده البارقليط الذي يقول كل شيء من حقائق الدين، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، بدليل أنه لم يجئ بعده نبي غيره، وأنه هو الذي بيّن كُل شيء وفصَل بين السائرين إلى الله تعالى بالتزكية والتهذيب وبين الواصلين إليه، وبين فضيلتي العدل والإحسان وغير ذلك.

(7)

هذا التفسير للاستحذاء لم نجده في معاجم اللغة كلسان العرب والقاموس وشرحه بل المعرف فيها أن معنى استحذى فلان فلانًا: طلب منه أن يلبسه حذاء؛ كاستطعمه واستكساه، وأظن أن الاستخذاء في كلام الهروي بالخاء المعجمة وهو الخضوع والانكسار لله؛ وإنما تكلف المصنف له هذا التفسير لأنه وجد نسخ المنازل تذكره الاستحذاء بالمهملة.

(8)

وفي نسخة: (المقام) .

(9)

وفي نسخة: (ويجعل) .

(10)

نسخة: (عقاب) .

(11)

تفسير للجاهلين.

(12)

لعلّها: (تتجلى) بتائين، وفي نسخة أخرى:(تنجلي) بتاء ونون.

(13)

وفي نسخة: (الرسول) .

(14)

يريد بالملك: القلب. وبجنوده: الأعضاء.

ص: 193

الكاتب: كريستيان سنوك هرغرنج

‌الإسلام يقاوم نفوذ النصرانية [*]

الإسلام في المستقبل سيكون نظير الدين الإسرائيلي يطبق نفسه على حاجات

العصر الحديث ولا يدع النصرانية تغلبه وتسلبه أبناءه.

(مقدمة للمترجم)

إن نشوء الإسلام في المستقبل سيعيد تاريخ الدين اليهودي الحديث بدرجة

مشابهة، فالمبشرون بالإنجيل الذين لا يزالون يتوقعون انضمام كل الأديان إلى

النصرانية لا تتحقق أحلامهم فيما يتعلق بالإسلام؛ لأن الدين الإسلامي سيظل دينًا

قويًّا نشيطًا نظير الدين اليهودي، ويطبق نفسه نظير الدين اليهودي على حاجات

العصر المتغيرة.

هذا هو رأي الدكتور (كريستيان سنوك هرغرنج) الهولندي الذي قضى ربع

قرن يدرس القضايا الإسلامية وشريعة الإسلام وفلسفته.

ومما يقال عن هذا الأستاذ: إنه أكثر من خيالي ونبي متغرض، فهو أعلم

علماء عصره في الإسلام؛ لأنه لا يعرف تاريخ الإسلام وشريعته وفلسفته معرفة

دقيقة فقط، ولكنه قضى ربع قرن يدرس الإسلام من وجه علاقته بالمؤسسات

الدينية والسياسية الأخرى.

وقد أرسلته جامعة ليدن - في هولندا على سبيل المبادلة -إلى الولايات

المتحدة للمرة الأولى ليلقي في أمهات كلياتها العلمية أربع محاضرات في نتائج درسه

الإسلام، وقد فصّل في هذه المحاضرات زياراته لمكة (مدينة الإسلام المقدسة) ،

فإنه قضى ثمانية أشهر ضمن تلك المدينة المسورة وكان فيها عضوًا من بطانة

رجلٍ مسلم، فأتمّ هناك الفرائض الدينية التي كان يقوم بها يوميًّا مائتا ألف من

حجاج مكة، وتعهّد الجوامع هناك، وسمع المحاضرات التي لم يكن يسمعها في

الزمن الماضي غير المسلمين، وكم من قصة رويت عن نصارى أضلّوا الطريق،

ويهود مغامرين قُتِلوا في مكة لاتهامهم بأنهم تجرؤوا على الدخول إلى المدينة

الإسلامية المقدسة، وإذا لم تصدق هذه الأخبار فقد ثبت أن كثيرين غير المسلمين

طردوا من المدينة بإهانة عندما ظهر أنهم غير مسلمين.

ثم إن الدكتور هرغرنج ليس يعرف اللغة العربية فقط؛ بل إنه قبل ذهابه إلى

مدينة الإسلام المقدسة قضى عدة سنين يدرس التاريخ الإسلامي، وكانت معرفته

هذه للإسلام وسيلة استطاع بها أن يحافظ على تنكره مدة ثمانية أشهر قضاها في

مكة، وبلغ منه أنه خدع الكلاب الشاردة التي تفرق المسلم عن غير المسلم لأنها

تعرفه بقوة الشم فتهاجمه وتفضح أمره.

وقد وضع الدكتور المذكور بعد إقامته في مكة فصلاً فيها وفي تاريخها وحياتها

العمومية الحاضرة يعتبر الكتابة الوحيدة التامة عن هذه المدينة المحمية.

وليس اهتمام هذا الدكتور بالإسلام اهتمام طالب علم فقط، فقد قضى سبع

عشرة سنة في الهند الشرقية الهولندية مستشارًا لحكومة هولندا في المسائل المتعلقة

بإدارة سكان الهند الشرقية الوطنيين، واستطاع بدرسه الإسلام درسًا عميقًَا واسعًا

أن يضع لهولندا السياسة التي تجري عليها مستعمراتها الإسلامية التي تحتوي على

نحو من خمسة وثلاثين مليونًا من أتباع النبي محمد.

ومن مضي سبع سنين عاد الدكتور إلى هولندا ليكون أستاذ اللغتين العربية

والسلافية في جامعة ليدن، فقبل هذه الوظيفة على شرط أن يبقى مستشارًا عموميًّا

للحكومة في المسائل الإسلامية.

وزيادة على ذلك أنه ساح في أكثر البلدان الإسلامية، وكان في خلال ربع

قرن مضى يراقب الحركات العاملة على إحداث تغيير ديني وسياسي في العالم

الإسلامي كله، ولذلك كانت صورته التي صوّر بها حالة الإسلام الحاضرة،

والطريقة التي جرى عليها في تتبع نشوئه في المستقبل، أمرين خارجين عن

مألوف الذين يعتبرون أن الإسلام لا يزال بربريًّا في شكله الشرقي، بل إنه يرى أن

الحواجز بين الشرق والغرب تتهدم بالتدريج تهدمًا يؤدي إلى امتزاجهما السريع في

خلال سنين تأتي.

وقد ألقى هذا الدكتور محاضرة بالأمس - في جامعة كولومبيا - في الإسلام

هذا ما قاله فيها:

(محاضرة الدكتور هرغرنج في الإسلام)

إن المدينة الإسلامية كانت في خلال ألف سنة مضت ترتفع إلى الدرجة

الحاضرة النهائية، فمِن مضي ألف سنة اعتقد المسلمون أن أحوالهم الدينية راضية

تمام الرضى، وكان المعتقد الديني عندهم مسألة مقررة، وكان السواد الأعظم من

المسلمين يقولون بعصمة الدين الإسلامي ويقبلون حقيقته المكشوفة بدون ريب،

نظير إجماع النصارى على عصمة الكنيسة الكاثوليكية. وكانت للإسلام شرائع

تتعلق بالحياة في كل أطوارها من شخصية وعمومية وفردية واجتماعية.

وعلى الجملة: إن الإسلام كله قام على استقلال المسلمين السياسي، فقد كانوا

في دائرتهم الخصوصية أحرارًا مستقلين، اعتبروا العالم كله ملكًا لهم، فالذي لم يكن

لهم كان عليهم أن يفتحوه، وبذلك كان حكم السيف ممكنًا إذا لم يكن محتملاً؛ ولكن

ثبتت استحالته في الألف سنة التي مضت. ففي خلال القرن الماضي تعرى الإسلام

من استقلاله السياسي باعتداء الدول الأوروبية التدريجي عليه، ونتج عن ذلك أن

الإسلام اضطر أن يعدل آراءه وأعماله، وتأكد للمسلمين أنه يجب عليهم أن يحسبوا

حسابًا لما تفعله الأمم الأخرى وتحصل عليه.

وقد نجمت عن هذه الحالة مسألتان: الأولى منهما هي: هل يستطيع الإسلام

الذي يرشد حياة تابعيه وأفكارهم أن يجاري هذا التغيير عندما يفقد استقلاله السياسي

الذي قام عليه؟

إن الذين درسوا القضايا الإسلامية استنتجوا أن القضايا الروحية، متصلة تمام

الاتصال بالقضايا المادية في الدين الإسلامي، بحيث إن سقوط الاستقلال السياسي

يستلزم سقوط الإسلام نفسه، ولكني لا أوافقهم على هذا القول.

أما المسألة الثانية، فهي أهم من الأولى وهي: هل إذا كان الإسلام قادرًا على

احتمال ذلك التغيير - كما أعتقد أنه قادر - يقدر أن يطبق نفسه على قضايا الحياة

الحديثة بطريقة يستطيع بها تابعوه بأن يكونوا في مقدمة الصفوف في ارتقاء العالم

ومدنيته؟

هاتان هما المسألتان مع كل القضايا الأخرى المتفرعة عنهما ما أريد البحث

فيه على مسامع الأمريكيين رجاء أن أوقف الغربيين على الانقلاب العظيم الجاري

في العالم الشرقي ومجاري هذا الانقلاب.

(فشل محاولة تنصير المسلمين)

والأمر الجوهري في هذا الشأن هو الوجه المنظور فيه إلى قضية مستقبل

الإسلام، فإذا نظرتم إليها بعيني المرسل النصراني الديني؛ فلا بد أنكم تستنتجون

أنه لا يرجى شيء كثير من نشوء الإسلام؛ لأن الإسلام قبل صيرورته كفؤًا يجب

عليه أن يتخذ النصرانية أولاً؛ ولكن هذا هو أسوأ رأي يعول عليه، وأنا مسرور

بقولي: إنه ليس رأيًا شاملاً، فالمسلمون لا يقصدون أن يتنصّروا، وقد احتاطوا

أعظم احتياط لهذا الأمر الذي أدركه كل المبشرين النصارى المتنورين في الأراضي

الإسلامية، ففي الهند الشرقية الهولندية - حيث قضيت سبع عشرة سنة ملتصقًا

تمام الالتصاق بالمؤسسات الإسلامية - لا يقدر المرسل النصراني الديني أن يربح

تابعين لدينه، نعم يوجد كثيرون من المدعوين مسلمين ولا سيّما سكان داخلية البلاد

الذين لم يتغلغل إليهم دين من الأديان. وقد ابتعدوا خطوة واحدة عن حالتهم الوثنية

الفطرية، ولم يعد يصعب تنصيرهم، وفي بعض جهات جاوه حيث انتشرت الديانة

الهندية سابقًا لم يجد المرسلون النصارى صعوبةً في تنصير قبائل برمتها.

ولكن أكثر دعاة النصارى الدينيين في البلاد الإسلامية المحضة - حيث

الإسلام تقليد قديم لا دين يُتدين به - يرون صعوبةً كبرى في تنصير المسلمين،

وقد تحولوا عن التبشير بالمسيح إلى التهذيب والإعانة، وما داموا جارين على هذه

الطريقة فالمسلمون مستعدّون لقبول ما يقدمونه لهم.

مثلاً إن الذي تقدمه كلية روبرت الأميركية في الآستانة يقبله كل مسلم، وقد

كان للكلية المذكورة فضل كبير في نشر المعرفة والطرائق التي يعتبرها المسلمون

منتهى التقدم؛ ولكن الكلية المشار إليها لم تحوّل مسلمًا واحدًا عن معتقده.

وقد حدّثت مؤخرًا أحد زملائي الفرنساويين الذي قضى عدة سنين في الجزائر،

ولمعرفتي بتعصب المسلمين في شمالي إفريقيا سألته عن العمل التبشيري الذي

تقوم به الجمعيات الكاثوليكية الدينية المتعددة فقال: إنه عمل ناجح ولكن لا ذِكر

ألبتة للدين فيه.

هذا وإن هولندا تحكم على خمسة وثلاثين مليونًا من المسلمين ولم تعد تفكر

قط في هدايتهم وتنصيرهم ، وكل ما أدركناه هو حاجتنا إلى تعليم هؤلاء الناس

الذين وكّلت أمورهم إلينا بطيّات الحوادث التاريخية، وأدركنا أن أفضل شيء

لنفوسهم هو تطبيق دينهم الخاص ومؤسساتهم الخاصة على حاجات العصر الحاضر.

ولا أعتقد أبدًا أن الدين الإسلامي يسقط أمام النصرانية؛ لأن المسلم يحتاط

أشد الاحتياط لمقاومة النفوذ النصراني، فهو يعرف النصرانية التي ليست عنده

شيئًا جديدًا غير مألوفٍ، فقد عرف أصلها وطريقة نشوئها وهو يعتبرها دينًا فسد

بالتدريج، وأخيرًا نسخه وحي النبي محمد خاتم الأنبياء الموحى إليهم؛ وبالتالي إنه

يعتبر النصرانية شيئًا مضى، ويرى تديّنه بها خطوة إلى الوراء، ومهما كان

التغيير الذي يقع على الإسلام في ربع القرن الجاري أو نصفه فإنه لا يكون تغييرًا

يتناول التدين بالنصرانية. إذ لا تدعو الضرورة في الإسلام إلى هذا الإصلاح.

***

(إضعاف الإسلام بالتربية والتعليم)

ولا يخفى أن كل من عاش في أراضي الإسلام لا ينكر أنه حدث في النصف

الأخير من القرن الماضي تغيير عظيم، فقد اشتدت حاجة المسلمين إلى كل ما هو

ضروري للاشتراك في الحياة الحديثة التي تبعت دخول الغزاة الغربيين إلى الشرق،

ولم يعد المسلمون المتنورون اليوم يكتفون بالتربية الإسلامية القديمة، فهم يطلبون

أطباء حديثين وكيمياء حديثة، وأحدث شيء في علم الحياة. وصاروا يطلبون

دروسًا اجتماعية في مدارسهم واللغات الحديثة والفن الحديث، ولا يبالون مَن يقدم

لهم هذه الأشياء إذا قدمت لهم في غير صبغة دينية.

مرّ زمان كان فيه المسلم يعرف أخاه المسلم بألْف طريقة مختلفة: كأخلاقه

وطريقة معيشته ولباسه وأكله، ولكن كل هذه المميزات أخذت تزول بالتدريج؛ بل

إن المزية الوحيدة التي كان بها المسلم يقدر أن يعرف أخاه في الدين سيزيلها

التهذيب والتعليم ببقية معروفة من العقيدة الدينية.

وقد زالت عادات إسلامية قديمة كثيرة، وأصبح كثير منها آخذًا الآن بالزوال،

فزي اللباس الشائع الذي دخل من الغرب إلى الشرق يجعل تأدية الصلوات

الخمس الواجبة يوميًّا أمرًا مستحيلاً، فلم يعد المسلم الشرقي يقدر اليوم أن يصلي

خمس مرات في اليوم بين شروق الشمس وغروبها! ! وهو مضطر أن يشتغل

ثماني ساعات في اليوم. بل إنه لا يقدر أن يحافظ على مركزه في الصناعة

المنظمة التي يضطر إلى مزاولتها بالتدريج ويصوم سحابة النهار في شهر رمضان.

وقد كانت هذه الأمور قديمًا شرائع لا بد من العمل بها؛ أمّا الآن فإنها تصير

أشياء لا يقدر أن يمارسها غير حجاج مكة والأئمة المتصوفين؛ بل حدث تراخٍ في

كل شيء، فقد ساد الإسلام في وقت من الأوقات وتناولت سيادته التجارة أيضًا،

ولكن حفت به المشاكل بالتدريج، نعم إن ضمان الحياة لا يزال عند المسلمين شكلاً

من أشكال المقامرة؛ ولكن الربا في استثمار المال صار ممكنًا باعتباره قسمًا من

المقاولة الأصلية.

* * *

(درجة تأثير الأفكار الأوربية في المتعلمين)

تغلغلت الأفكار الأوروبية في كل جهة من الأراضي الإسلامية، ولكن لم يجد

فيها الشعور الأوربي مركزًا، ولهذا أتجرأ على القول بأن المسلمين سيستمرون على

دينهم مهما اتخذوا من التهذيب والمدنية الغربيين، ففي كل المدارس الأوربية

الكبرى تجد كثيرين من الطلبة المسلمين، وهم من فئة المتنورين الذين بواسطتهم

تحدث التغيرات الأولى في الإسلام، وهؤلاء الشبان من أهل العلم في العالم، فقد

درسوا العلوم الغربية بفروعها نظير خيرة طلبتنا الغربيين، وهم لا يقومون بكل

الفرائض المطلوبة من المسلم الحقيقي، لأنهم مثلنا في طرائق اللباس والمأكل

والمعيشة.

ولكن مجرى عقلهم لا يزال إسلاميًّا، فقد كان بين تلاميذي طلاب مسلمون،

وعندما كنت أتناول مباحثهم التي يكتبونها كنت أرى فيها مظاهر فكر إسلامي في

شكل مختلف كل الاختلاف عما يكتبه طلبتي الآخرون، بل كنت دائمًا أعرف

الطالب المسلم من مباحثه.

ثم إنك ترى موقف المسلمين المتنورين تجاه شريعتهم وعقيدتهم القديمتين نفس

موقف المتنورين بين الإسرائيليين في العصر الحاضر، وكلما عشت بين المسلمين

ازددت اعتقادًا أن الإسلام سيجري في نشوئه على الطريقة التي سلكها الدين

الإسرائيلي في تاريخه الحديث.

نعم إن الضغط الشديد الذي وقع على الدين الإسرائيلي لم يقع على الإسلام

فتفرُّق الإسرائيليين بين أمم الأرض اضطرهم إلى أن يطبقوا حياتهم على شرائع

غير شرائعهم، وكذلك اضطر المسلمون إلى أن ينقحوا الطائفة الكبرى من شرائعهم

المسيطرة على حياة الفرد اليومية من جراء اتساع الأراضي التي احتلوها بالفتح،

والمحايط المتعددة التي اضطّروا إلى العمل بموجبها.

***

(الإسلام واليهودية)

وبين الإسلام والدين الإسرائيلي تشابه عميق يزداد ظهورًا في مخالطة

المتنورين الإسرائيليين والمسلمين، فالتوحيد هو قاعدة الدينين، وليس الله تجاه

خدّامه في هذين الدينين إلا مشترع يرى كل قسم من حياة الرجل يحتاج إلى شريعة،

ومن أجل ذلك صار درس الشريعة فيهما عاملاً مهمًّا؛ ولكن الوجه الخيالي في

الدينين المذكورين انحط انحطاطًا عظيمًا، وأخذ يقتصر على القائمين ضمن جدران

المدارس، ولم تبق له علاقة قوية بحاجات الحياة الفعلية.

وقد صار تفسير الشريعة في الدين الإسرائيلي منوطًا بالحاخامين، وما عدا

بعض مراسيم دينية خارجية ترى أكثر المتنورين الإسرائيليين مكتفين بحفظ العقائد

الأولية من دينهم، أما عامة القوم فإنهم يضيفون إليها طائفة من الخرافات القديمة.

وترى الإسلام تاليًا تلو الدين الإسرائيلي. فخذِ القرآنَ مثلاً وانظر إلى التغيير

الذي حدث في خلال ثلاثة عشر قرنًا مضت على تأسيس الإسلام، فالمسلم العربي

المولد لا يقدر أن يفهم آيات القرآن إلا بعد درس طويل.

ولا يخفى أن أكثر المسلمين يعتبرون القرآن كتابًا مغلقًا، فقد كان في وقت من

الأوقات قوة إصلاحية في العالم، وكان يقرؤه كل مؤمن ورِع، أمّا اليوم فإن الأئمة

والعلمانيين يقرءونه بتجويد دون أن يتدبروا معناه، حتى إن الكلمات التي يجودونها

حجة عليهم في أشياء يصنعونها كل يوم حتى خلال التجويد.

وسيقع أيضًا تغيير على الشرائع والمؤسسات الإسلامية فيحل درسها بالتدريج

محل ممارستها بالرغم من التقليد المقدّس الذي ينطق بأن المعرفة بدون عمل لا فائدة

منها، وزد على ذلك أن الناشئة الإسلامية الناهضة لا تريد أن تكد ذهنها في درس

الشريعة الإسلامية، كما هي تتعب رئاتها بتجويد الآيات القرآنية، فإن هذا الأمر

سيقتصر على فئة خاصة من المسلمين، كما هي الحال عند الإسرائيليين في الوقت

الحاضر.

ولكن ترك العادات القديمة والاعتراف بعدم اتفاق الشريعة القديمة مع حاجات

الحياة الحديثة لم يفهم منهما أن الإسرائيليين تركوا دينهم، وكذلك لا يفهم منهما أن

الإسلام سينحط. نعم إن بين المسلمين المتنورين اليوم تعصبًا قليلاً، ولكن في

صدورهم ميلاً قويًّا إلى التمسك بدين آبائهم وتطبيقه على الحاجات الحديثة؛ بل إن

المسلمين المتنورين اليوم لم يعودوا يذكرون الجهاد، ولكنهم يلفتون الأنظار إلى

إنماء التساهل واتساع المعرفة التي تتغلغل في كل جهة من جهات العالم الإسلامي.

وهاهنا أمر آخر هو أن المسلم المتنور يشعر نظير الإسرائيلي المتنور

بالرابطة الروحية التي تربطه إلى أخوته في الدين وهو لا يريد أن يقطع هذه

الرابطة.

نعم إن السواد الأعظم من المسلمين - ولا سيّما حيث النفوذ الأوربي لا يزال

خفيفًا - هم الآن حيث كانوا من مضي خمسمائة سنة، وكذلك توجد فئة بين

الإسرائيليين لا تزال تمارس شريعة لم تصدم بالحياة الحديثة بعد، وقد كان تطبيق

التقليد المقدس على حاجات المحيط المتغير ظاهرًا بأجلى مظهره في الدين

الإسرائيلي، ولكن التشابه في نشوء الدينين الإسرائيلي والإسلامي يحمل الواحد على

أن يتوقع للإسلام نفس ما وقع في الدين الإسرائيلي.

ولا يمكن أن يقع انحطاط تدريجي في الإسلام؛ لأنه توجد بواعث خارجية

تمنعه، فالإسلام قوي ولم يضعف - لا سّيما في القران الماضي - وقلّت فيه

الانشقاقات الداخلية، وزد على ذلك أن الإسلام يربح أكثر من النصرانية تابعين له من

الوثنيين. فالذي يصير مسلمًا لا يطلب منه شيء كثير؛ إذ لا يوجد تقديس ولا

طقس ديني ولا تعليم طويل، فكل ما يطلب منه أن يعترف بالله أنه كلي القوة، ومِن

ثمَّ يتدرج إلى تعلم الفرائض الإسلامية الدينية، وعندما يصير مسلمًا يتغير

مركزه الاجتماعي، ولكن إذا تنصّر فإنه يبقى دون غيره، ويظل المرسل الديني

غريبًا معلمًا متنحيًا عنه.

***

(الإسلام بمكة ومبلغ علم الخطيب به)

ولكني بإظهاري لكم هذه الصورة عن الإسلام، والحوادث التي تدير مجراه لا

أقول إنه لا يوجد فيه كثير من التقاليد القديمة التي لا تصدّق، ففي خلال الثمانية

الأشهر التي قضيتها في مكة كنت أحسبني مقيمًا في مدينة في القرن الثاني عشر أو

الثالث عشر. فهناك درست الشريعة الإسلامية بكل فروعها، وكل أسرار الإسلام

في الأشهر الثمانية التي كانت فيها المدينة غاصّة بحجاجها البالغ عددهم مائتي ألف،

ولا توجد تجارة في مكة غير نهب الحجاج فإن سكانها الوطنيين يسلبونهم كل ما

يكون معهم من مال بالبيع المغبون.

ولا شيء أدل على البداوة القديمة من مكة، فهي تمثل الإسلام في العصور

القديمة فلا بيوت هناك. أما وسائل النور والحرارة والماء التي اعتدناها في العصر

الحاضر فهي هناك كما كانت في العصور المظلمة، ولكن الذي لم يذهب إلى مكة ولا

أقام في بيت إسلامي فيها ودرس في جوامعها لا يقدر أن يفهم، أو يجد صعوبة

شديدة في معرفة نشوء بلاد إسلامية.

وقد كثر التحدث حينًا بعد آخر عن مكة أنها ستفتح للعالم بالقوة، ولكني لا

أرى شيئًا يدل على أن إنكلترا ستحاول فتح مكة؛ لأنها إذا أقدمت على هذا الأمر

جلبت لنفسها اضطرابات كثيرة في الهند. ولذلك ستظل مكة عدة سنين مركز التقليد

الإسلامي.

وعلى الجملة، إني أقول: إن نشوء الإسلام في القرن الجاري لا يكون شيئًا

باعثًا على الدهشة؛ بل سيكون طبقًا للحركة العمومية التي تقرّب بين الأمم والأديان

دون زوال الاحترام للتقاليد المورثة عن السلف، ولا بدّ للإسلام من الاتصال بالعالم

الغربي وسيفعل ذلك، ولكن نقصه العظيم أو النقطة التي يحتاج فيها أشد الاحتياج إلى

اتخاذ الأفكار والمبادئ الأوربية هي موقفه تجاه نسائه، وقد أخذ يتساهل في موقفه

نحوهن تساهلاً بطيئًا تدريجيا، فالإسلام لا يمكن أن يرتقي ارتقاءً حقيقيًّا إلا إذا حرر

نساءه الراسفات في سلاسل التقاليد القديمة التي لا تنطبق على روح العصر

الحديثة، التي هي روح الترقي الحقيقي. اهـ.

(المنار) :

سنبين رأينا في هذه المحاضرة في الجزء الآتي إن شاء الله تعالى.

_________

(*) ألقى الدكتور (كريستيان سنوك هرغرنج) الهولندي في أمريكا محاضرة في حال المسلمين الدينية والاجتماعية ومستقبلهم، فترجمتها إلى العربية جريدة الهدى السورية التي تصدر في (نيويورك) ووضعت لها هذا العنوان، وصدّرتها بمقدمة في ملخص سيرة الدكتور، فنقلناها عنها مع تصحيح بعض الألفاظ لما فيها من العبر للمسلمين.

ص: 210

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌اعتقاد الشيخية [*]

على ما نقل من كلامهم في كتبهم المعروفة الكاشفة عن اعتقاداتهم

في مراتب أصول العقائد.

(ففي مرتبة معرفة الذّات) قالوا (إن الذّات ذاتان) ذات غيبية باطنية لا

اسم لها ولا رسم لها، ولا تسمى ولا توصف، ولا تكليف على العباد بمعرفتها

وتوحيدها وعبادتها. وذات ظاهرة تسمى، وتوصف، وفي هذا القسم من الذات

قالوا: إن المعرفة فرع إدراك المعروف، والعبادة فرع إدراك المعبود، فيجب أن

يكون المعبود في صقع العارف والعابد، حتى يعبد بجسمه جسم المعبود وبنفسه

نفس المعبود، وبعقله عقل المعبود، وبفؤاده فؤاد المعبود. فهناك ذات ظاهرة

معرفتها تسمى بمعرفة البيان، وهي المتعلقة بها المعرفة والعبادة، وهي في مقام

النبوة نبيّ، وفي مقام الإمامة إمام، وفي مقام الركنية ركن رابع، ولذا قالوا: إن

الخطاب في (إياك نعبد وإياك نستعين) إلى النبي والإمام.

والركن الرابع صرّح به الشيخ أحمد بن صقر المشهور بزين الدين واغر

الإحسائي في رسالته الخطابية المطبوعة في جوامعه، والسيد كاظم الرشتي في شرح

الخطبة، والحاج كريم خان في موارد من إرشاده المعروف المطبوع في عصره،

وهذه المقالة دعتهم إلى مصاحبتهم لصور مشايخهم، وجعْلها في محالّ سجودهم،

وقد اشتهروا بذلك بحيث لا يتمكنون من إنكاره.

(وفي مرتبة معرفة الصفات) قالوا: إن الأسماء والصفات للذات الظاهرة:

النبي والإمام والركن الرابع، وهي معرفتهم بالمعاني. وقالوا: إن الصفات كلها

حادثة، فالله عالم بالأشياء بعلم حادث، وقادر بقدرة حادثة، وهكذا. وقالوا: إن

الصفات متحدة في المفهوم كما هي متحدة في المصداق، وقالوا: نسبة الخلق

والرزق إليه تعالى كفر. قال الخان الكرماني في إرشاده بالفارسية: (بس هركه

بكويد ذات خداي تعالى خالق اشياء است باجماع مسلمانان از ضرورت دين بيرون

رفته) . وصرّح بتمام ذلك ابن صقر في شرح العرشية، والرسالة العلمية، وشرح

الزيارة، والسيد الرشتي في شرح الخطبة.

(وفي مرتبة معرفة الأسماء) قالوا: إن الذات لا اسم لها ولا رسم لها.

ويقولون في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى} (الأعراف: 180) يعني

الربوبية الثانية في الذات الظاهرة. قال سيدهم في شرح الخطبة: إن الربوبية لها

ستة مقامات:

(أحدها) : رتبة الذات البحت التي لا اسم لها ولا رسم.

(الثانية) : رتبة الذات الظاهرة التي هي مظهرة تلك الذات البحت.

(والثالثة) : رتبة الذات في مقام يعبر عنها بـ (هُوَ) .

(والرابعة) : رتبة يعبر عنها بإله.

(والخامسة) : رتبة يعبر عنها بسائر الأسماء.

(والسادسة) : هي الرتبة الربوبية، السارية في العبودية. وخمسها شيخه،

وكثرها الخان الكرماني بغير حساب. قال في الإرشاد: (من نميكوم انخذائيكه سابق

مي برستند باطل بوده بلكه ميكويم او حق بوده وعبادتش درست بوده ولكن امروز

جون شعور شمازيادشده بايدبدابندكه ان خدانبوده بلكه بنده بوده واينكه امروز

ميكويم اين خدا است وبعد از اين شعورها زياد يمشودميد ايندكه اين خدا نيست

بلكه بنده ايست از بند كان خدا وخدا ديكريست) .

وقال الشيخ أحمد في شرح الزيادة في تفسير الدعاء: أنت الله عماد السماوات -

يعني الحسن بن علي، وقالوا: أنت الله قوام الأرضين - يعني الحسين بن علي،

وقالوا: إن الضمائر له في القرآن من الغيبة والخطاب والتكلم راجعة إلى النبي

والإمام والركن الرابع في مرتبة المعاني. وقال الشيخ أحمد: كما أن له الأسماء

الحسنى كذلك له الأسماء السوءى، لكن أمرنا بدعوته بالحسنى دون السوءى، وقال:

إن معنى قولك: (الله عالم قادر بصير) الله الله الله لاتحادها في المفاهيم اللغوية

كاتحادها في المصداق الوجودي.

(وفي مرتبة معرفة الأفعال) قالوا: لا فعل لله تعالى، ولا انتسب إليه الفعل،

ولا يطلق على الذات اسم الخالق والفاعل وأمثالهما؛ لأنها يجب أن يكون مقارنة

للفعل، والذات لا يقارن شيئًا. واستدلوا بقوله: إن الإرادة لا تكون إلا والمراد معها.

ولا يفهمون أن معية المراد مع الإرادة حادثة هي لا مع المريد الذي هو القديم

تعالى.

و (في مرتبة العدل) قالوا: لا خصوصية للعدل في حق معرفته من

الأصول دون سائر الصفات؛ ولذلك جعلوا أصول دينهم أربعة:

(أحدها) : معرفة الله، و (الثانية) : معرفة النبي، و (الثالثة) : معرفة

الإمام، و (الرابعة) : معرفة الركن. وعليه بنى الإرشاد الخان الكرماني.

و (في معرفة النبوة) قالوا لكل نوع من الموجودات نبي من نوعهم، فللجماد

نبي من الجمادات، وللبنات هكذا، وللحيوان أيضًا وقالوا إن الصفات المقررة في

أنبياء بني آدم مقررة لها من كونها طاهرة مطهرة، عاقلة عاملة، قابلة للوحي

والإلهام، معصومة فيّاضة على ما تحتها من أمتها. ولها أئمة من بعدها حافظة

لشرائعها ونقباء ونجباء. صرّح به الشيخ أحمد في جوامعه، والخان في إرشاده،

وزاد أشياء أخرى فقال: إن محمد تنزل وتطور في كل مقام في صورة كل نوع

فينبئ فيها ويبلغها، فإنهم قد يظهرون في صور الجماعات والنباتات والحيوانات،

وصور بني آدم سعيدهم وشقيهم. وبه قال الشيخ أحمد في موارد من كتبه، منها ما

ذكر في شرح الزيارة في تفسير (وأجسادكم في الأجساد) ، وقال إن الأئمة قد

يظهرون في أحسن صورة لأوليائهم، وفي أوحش صورة لأعدائهم. ثم ذكر حديث

جابر بن عبد الله في قول طلحة، وقال في الاستشهاد لهذا الحديث: حيث ظهر

أمير المؤمنين عليه السلام في صورة قبيحة هي صورة مروان بن الحكم ورمى

طلحة بسهم وقتله للاتفاق على أن طلحة قتل برمي مروان، لكن طلحة لمّا عاين

الموت وكشف عنه غطاؤه رأى عليًّا عليه السلام في صورة مروان بن الحكم،

انتهى. وصرّح به الخان في إرشاده.

والعجب من هذه المقالة بأنه كيف عرف طلحة ورأى عليًّا في صورة مروان،

ولم يعرفه الحسن بن علي حيث قال في مجلس معاوية لمروان: أنت الذي وقفت

بين الصفين ورميت طلحة وقتلته؟

و (في مرتبة الختمية) قالوا: إن للخاتم صلى الله عليه وسلم اسمين (يعني

ظهورين) اسم سماوي وهو أحمد، واسم أرضي وهو محمد. وقد ظهر باسمه

الأرضي منذ بعث في رأس كل مائة لترويج ظاهر شريعته، حتى مضت عليه

وعلى شريعته ستة مائة ستة مائة فكانت اثني عشر مائة [1] وانتهت الدورة الأولى

لترويج ظاهر الشريعة، وأتت الدورة الثانية لترويج باطن الشريعة، وانقضت

دورة ظاهر الشريعة، فظهرت تلك الحقيقة المحمدية باسمها السماوي وهو أحمد في

الشيخ أحمد لترويج باطن الشريعة. وهذه المقالة عين ما قاله السيد كاظم الرشتي

في شرح قصيدة عبد الباقي، مذكورة في عشرين ورقًا [2] مِن أواخر الكتاب.

وللخان في هذا الميدان جولان، حيث شبه الإيمان بالإنسان. وقال: إنه كان نطفة

في زمن آدم عليه السلام، ثم صار علقة في زمن نوح عليه السلام، ومضغة في

زمن إبراهيم عليه السلام، وعظامًا في زمن موسى عليه السلام، ونفخ فيه الروح

في زمن عيسى عليه السلام، وتولد في زمن محمد صلى الله عليه وسلم، فارتضع

من ثدي ولاية الأئمة عليهم السلام ولمّا كان أوان فطامه غاب عنه المرتضعة [3]

فودوعه [4] لدى المربيات وهم الفقهاء، وصار مراهقًا في زمن شيخنا، فأخذناه من

الإماء المربيات لنعلمه الآداب والسنن. وجال في المقام، وأطال في الكلام، ولعب

بذنبه والسبال، حتى آلَ الحال إلى مقالة قرة العين القزوينية راقصة بالغنج والدلال،

أنكحت وزوجت قد فر من الميدان! !

وقال الخان أيضًا في إرشاده: إن بعث الأنبياء والرسل ونصب الحجج

وإنزال الكتب كلها لإثبات الركن الرابع، وهو بمنزلة أصل الكعبة في مسجد

الإمامة في حرم النبوة في عالم أرض التوحيد. فعلى الإسلام السلام بعد هذه

المقالة.

وقالوا بكفر من أنكر الركن الرابع، وأنهم ناصبين! ! وطهارتهم للتَّقِيَّة.

وأيضًا قال في أول المجلد الرابع من إرشاده ما هذا لفظه: من جكونه بادست قاصر

ونفس ضعيف أين مطلب وابكردان اين خلق منكوس بكذارم كه هزاروده سأل است

كه درجاهليت غيبت كرفتارند.

وتاريخ كتابه في ست وستين فيكون من أول ولادة الحجة داخلاً في الجاهلية

إلى أن بلغ قلمه موضعه من الكتاب. وقال: كتابي هذا - يعني الإرشاد - مطابق لما

هو مسطور في اللّوح المحفوظ حرفًا بحرف، والسواد مطابق للأصل. وقال قراءة

كتابي هذا واجبة وقراءة القرآن مستحبة. وقال مَن قرأ خمسة أوراق من كتابي

فكأنما قرأ التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، وما أتى به الأنبياء من عند الله.

ولا تقتصر عباداته عن عبادة السيد ميرزا علي محمد ابن السيد رضا الشيرازي في

بيانه النازل إليه من السماء بزعمهم: أن لو اجتمعت الجن والإنس على أن يأتوا

بحرف من حروف البيان إذًا لا يأتون بحرف منه أبدًا.

و (في مرتبة الوحي) قالوا: إن الوحي عبارة عن توجه خيال النبي صلى الله

عليه وسلم إلى نفسه، ونفسه إلى عقله، وإنزال عقله المعاني إلى نفسه، ونفسه

إلى خياله، والعقل هو جبريل النازل عليه. صرّح به الخان في إرشاده في المقصد

الثالث في النبوة. وقال هناك: إن النبي مهما كان متوجهًا إلى مسألة علمية كان

غافلاً عن سائر المسائل، فيتدرج له العلم شيئًا بعد شيء في الدنيا والبرزخ. وقال:

كثيرًا ما يسأل عن الأئمة من الأحكام الشرعية [5] ولم يكن لهم جواب حتى يلقى إليهم

من عقلهم، فيقصر زمان الإلقاء ويطول.

فإن قيل: فكيف يرمون هؤلاء بالغلو في حقهم عليهم السلام مع هذه

المقالة؟ يقال: إن التناقض في كلماتهم غير معدود ولا محدود، ويقولون بجواز

اجتماع النقيضين لاسيّما في ذات الواجب، ويستدلون بوجود ملك نصفه من النار

ونصفه من الثلج. وهذا معروف منهم.

و (في مرتبة العصمة) قالوا: يجوز الكبائر والصغائر عليهم عمدًا وسهوًا قبل

البعثة وبعدها. صرّح بالسهو شيخهم في (جوامع الكلم) وقال: يغيب عنهم الملك

المسدد. وقال الخان في الإرشاد: بس اكر خداوند مصلحت داند دربقاء دين ان

بيغمبر كه از دنيا ميرود البتة قائم مقامي از براي ان بيغمبر قرار دهدكه اقلاّ در

حفظ شريعت معصوم بوده باشدا كرجه درجاهاي ديكر معصوم بناشد.

وإن كان في مبحث العصمة أثبتها لهم وقد قسّمها بعصمة عقلية، وعصمة

نفسية ووجودية، وقسّمها الشيخ في شرح الزيارة بعصمة ذاتية؛ وقال بها لنبينا

والأئمة. وعصمة عرضية؛ وقال بها في سائر الأنبياء. ولا يفهم مراده. وقال

الخان بعصمة الركن الرابع الذي يسميه إمام الزمان، حيث يقول في إرشاده غير

مرّة: بس امام غائب بكارمر در نميخودر ومردم امام حي حاضر معصوم

ميخواهند.

(وفي مرتبة الإذعان بالمعراج) قالوا بما هو لفظ الشيخ في رسالته المسماة

بالقطيفية: قال إنه تعالى لما أراد العروج ألقى في كل كرة ما منها فألقى ترابه في

التراب، وماءه في الماء، وهواءه في الهواء، وناره في النار. وكل قبضة! في

تلك السماء، ثُم لمّا رجع أخذ من كل كرة ما ألقى فيها. وصرح عليه في جميع

كتبه. ومن بيانه تشبيه المعراج بأكل الغذاء وتحليله وإخراج تفله، إلى أن يحصل

الروح البخاري في القلب، ثم يصعد إلى الدماغ، وقد صعدها الخان في معراج

الغذاء المأكول إلى أن جعلها نفسًا وعقلاً وفؤادًا.

(وفي مرتبة الإمامة) قالوا: إن إمام الزمان غير الأئمة الاثني عشر: ولا بد

في كل زمان عن إمام غيرهم، وهذا صريح كلماتهم. وقال الخان في إرشاده: بس

جنانجه بخداي ناديده اكتفا نميتوانيد نمود بامام غائب هم اكتفا نميتوانيد نمود. وقال

في موضع آخر: سار غائب جكوند تريت شاكرد ميتواند نمود.

(وفي مرتبة المعاد) قالوا: إن الجسم جسمان، والجسد جسدان:

جسد عنصري دنيوي وهو مخلوق من عناصر هذه الدنيا التي تحت فلك

القمر، وهذه تفنى ويلحق كل شيء إلى أصله، ويعود إليه عود ممازجة واستهلاك،

فيعود ماؤه إلى الماء وهواءه إلى الهواء، وناره إلى النار، وترابه إلى التراب، ولا

يرجع ولا يعود لأنه كالثوب يلقى من الشخص.

والثاني جسد أصلي من عناصر (هورقليا) وهو كامن في هذا المحسوس،

وهو مركب الروح، فيقوم للحساب، وهو الجسد الذي يتألم ويتنعم وهو الباقي،

وبه يدخل الجنة والنار. وقالوا: السؤال عن الروح والجسد الهورقليائي يسنون

البرزخي. وقالوا: إن الصراط والميزان والوسيلة كلها مؤولة معنوية غير جسمانية.

و (في مرتبة تكليف الناس في زمان الغيبة) قالوا: لا بد في كل زمان من

إمام زمان غير الأئمة الاثني عشر، ولهم في هذا المقام متناقضات شتى، فتارة

يعبرون بالشيعة، وتارة بالنقباء والنجباء، وتارة بالركن الرابع، وتارة يفرقون

بينهم، وجعلوا معرفة الركن الرابع أصلاً من أصول الدين، ونسبوا منكره إلى

الناصبية، وتناقضوا في القول، فقالوا: هذا الركن من الإيمان كان مخفيًّا حتى

أظهره الشيخ أحمد ثم السيد كاظم ثم كريم خان، فمَن لم يعرفهم ولم يحبهم مات ميتة

جاهلية، وميتة كفر ونفاق، ثم تفرّقت كلماتهم من بعدهم على أشخاص كثيرين

فتفرقوا أيادي سَبَا، كلما دخلت أمة أمنت أخرى، إلا أن أكثرهم اجتمعوا على محمد

خان حسب ما وصى إليه أبوه، وقالوا: في صفات الركن الرابع ما لا يقصر عن

صفات الرسل والأئمة، قال رحيم خان أخو محمد خان في منظومته: قدر تشان

قدرت يزدان بود. وقال لهم السلطنة على العالم والقدرة الإلهية على التصرف فيما

يشاءون، وأمثال ذلك.

ويقولون صريحًا بوجود الباب للإمام، وإن كانوا ينفونه على السيد ميرزا

علي محمد الشيرازي، فالنزاع في الموضوع دون الحكم.

ومحصل كلامهم أن التصديق في مراتب التوحيد لا يكمل إلا بالتصديق

بالنبوة، والتصديق بالنبوة ومعرفتها لا يكمل إلا بالتصديق بالإمامة ومعرفتها،

والتصديق بالإمامة ومعرفتها لا يكمل إلا بالتصديق بالركن الرابع ومعرفته، فالعلة

الغائبة من المعرفة في معرفة أصول الدين والعقائد معرفة الركن الأخير. على أن

الدين والإيمان مركب من أربعة أركان، ولا يتم معرفة الأول إلا بالثاني، ولا يتم

هو إلا بالثالث، ولا يتم هو إلا بالرابع، فمعرفته أصل ومعرفة المثلث الأول من

باب المقدمة، كما يفهم عن عبارات الخان في إرشاده؛ ولذا قالوا: إن معرفة الركن

الرابع ومحبته وموالاته من ضروريات الدين، ومَن أنكرها أنكر أصلاً مِن أصوله،

وقد عبّر الشيخ في كتبه عن هذا الأصل بالشيعة الخاص، وبعض آخر منهم بالنائب

الخاص في زمن الغيبة الكبرى، في مقابلة الإمامية من قولهم أن الأحكام الشرعية

والحوادث الواقعة في زمن الغيبة الكبرى راجعة إلى النائب العام، وهو الفقيه الجامع

للشرائط، حتى آل الأمر بالخان فعبّر عنها بالركن الرابع، وزاد في الطنبور

نغمات أخر لا فائدة في ذكرها.

والعجب كل العجب من الفتنة الحادثة بعده، فإن ابنه محمد رحيم خان قال

بوحدة الناطق؛ أي الركنية الشخصية، وقال بأن الركن الرابع للدين في كل عصر

من الأعصار شخص واحد يجب لكل مكلّف في ذلك العصر متابعته في الأحكام

الصادرة عنه، وإرجاع أموره التكليفية إليه، ومعرفته وموالاته ومحبته، بناء على

أن هذه المعرفة بهذه الصفة مِن ضروريات الدين. وخالفه في هذه المقالة تلميذه

الخان السيد ميرزا محمد باقر الهمداني. وقال بكثرة الناطق أي الركنية النوعية،

وقال إن الركن الرابع في كل عصر يمكن أن يكون متعددًا متمسكًا بالتوقيع الصادر

عن الإمام القائم المنتظر عليه السلام. وأما الحوادث الواقعة فارجعوا إلى رواة

أحاديثنا، وكون محل الرجوع رواة يدل على تعدد الركن لا التشخص، ولكل منهما

كتب متعددة ممهدة لإثبات مدعاه. ولذا صارت الشيخية بعد الخان المعهود طائفتين،

وبقي الأمر كذلك إلى زماننا هذا.

والأصبهانيون منهم مِن الطائفة الهمدانية. وأمّا الطائفة الأولى أي تبعة

الكرماني فهم متفرقون في سائر البلاد والأغلب منهم ساكنون في طهران وكرمان.

وكلهم متفقون في جواز التقليد من الميت، والعمل بكل خبر ولو كان ضعيفًا. ولذا

يعدون مِن الإخباريين مع إعمالهم نبذة من قواعد أصول الفقه في مباني فتاويهم،

انتهى.

***

(المنار) :

ما أفسد دين الشيخ أحمد الأحسائي وأصحابه وأثار في أدمغتهم هذه الخيالات

إلا التشبع بما أثروه عن فرق الباطنية، وما رأوه من إقرار الناس لبعض زعماء

الباطنية بالإمامة ولبعضهم بالألوهية، وعلمهم بأن أهل زمنهم أجدر من المتقدمين

بالتقليد، للإعراض عن القرآن والسنة والجهل بهما وبلغتهما، ولما كان قبل من

التمهيد. والظاهر أن كلا من الإحسائي والرشتي والكرماني كان يطمع أن يكون في

شيعة العراق والفرس، كإمام بل إله الإسماعيلية في الهند، ولكن كان منتهى شوط

أباطيلهم التمهيد للباب ثم للبهاء، اللذين كانا دونهم في الفلسفة والفصاحة والذكاء،

وما سبب رواج كفر الباطنية وشركهم المخترع - على اختلاف فرقهم من إسماعيلية

ودروز ونصيرية وبكداشية وبابية وبهائية - إلا الغلو في تعظيم آل البيت (وكذا

غيرهم من العلماء والصالحين) ، والتقليد في الدين، فهذان السببان هما اللذان أعدا

الأذهان لقبول هذا الكفر والطغيان، ولما كانت فرقة الشيعة الإمامية أشد غلوًّا من

سائر فرق المسلمين في تعظيم آل البيت جعلها واضعو هذه الأضاليل مباءة لها،

وسلمًا لمقاصدهم منها.

_________

(*) هم أتباع الشيخ أحمد الإحسائي؛ وهم كريم خان القاجار والسيد كاظم الرشتي، وهم من غلاة الشيعة، ابتدعوا فيها فلسفة جديدة خيالية كانت المنشأ لِما هو شر منها وهو فتنة البابية والبهائية، والأصل لذلك كله ضلالات قدماء الباطنية.

(1)

المنار: الصواب في اللفظ ست مئة ست مئة فكانت اثنتي عشرة مئة.

(2)

الصواب: ورقة.

(3)

لعله: غابت عنه المرضعة؛ أي بغيبة الإمام الثاني عشر الوهمية.

(4)

يريد: أودعوه؛ من الوديعة.

(5)

لعلّ الأصل أو المراد: كثيرًا ما يسأل الأئمة عن الأحكام الشرعية.

ص: 218

الكاتب: صالح مخلص رضا

‌تقريظ المطبوعات الجديدة [*]

نشوء فكرة الله

(كراسة تحتوي على خلاصة كتاب لجرانت ألين الكاتب الإنكليزي المشهور

عن نشوء الاعتقاد بالله وترقي الإنسان من الوثنية إلى التوحيد الحاضر مع بيان

أصول المسيحية ونشوئها) .

لخّص هذه الكراسة من ذلك الكتاب وطبعها ونشرها (سلامة أفندي موسى)

وهو شاب قبطي الجنس ماديّ الاعتقاد، يعنى بإقناع الناس بأن الأديان أوضاع

مخترعة ينبغي لهم تركها والعمل بقواعد الانتخاب الطبيعي وأصول الاشتراكية

ومنها - على رأيه تبعًا لبعض غلاة المادية من الإفرنج - أن يعجل الأقوياء بإهلاك

الضعفاء، ومنعهم من الزواج ومن كل ما يطيل أيام حياتهم على الأرض، كمعالجة

المرضى والصدقة على البائسين. وما نشر هذه الكراسة إلا في سبيل مذهبه.

وهذه الحملات التي يحملها الملاحدة على الدين تؤثر في النصرانية دون

الإسلام؛ لأن النصرانية الحاضرة وثنية متسلسلة من وثنية قدماء المصريين والهنود

وغيرهم، وإنا ننقل فصولاً من هذه الرسالة بحروفها تثبت ما قلناه، ثم نعقّب عليها

بما نراه، قال الكاتب:

(المسيحية كمقياس ديني)

إذا أخذنا المسيحية كنموذج للأديان واعتبرنا نشوءها نجد أن كل ما فيها من

العقائد والمراسم مأخوذ من الأديان السابقة لها التي كانت فاشية عند ظهورها. فإله

المسيحية - المسيح - كان إنسانًا كما كانت كل الآلهة القديمة عند أول ظهورها. وقد

اعتبره المسيحيون الأوّلون ابنًا لإله (كذا) تنزيهًا له عن الإنسانية كما فعل

اليونانيون مع إسكندر المقدوني.

ونجد في المسيحية ما يسمى (بالثالوث الأقدس) وهو عبارة عن إدماج ثلاثة

آلهة - وهم الآب والابن والروح القدس - في إله واحد، على مثال ما كان يعتقد

المصريون في الثالوث الإلهي المكون من أوزيريس وإيسيس وهوريس.

والمسيحيون يعتقدون أن أم المسيح عذراء، ولا بد أن هذا الاعتقاد قد تسلسل

من الاعتقاد المصري القديم الذي كان قائمًا على اعتقاد البكارة في إيسيس أُمّ

هوريس.

وكذلك ترى إذا بحثت عن الأصل في مراسم المسيحية كالصليب والقبر

والكنيسة والهيكل أنها مأخوذة من الأديان المصرية القديمة. كما أن نظام القربان

والكهنوت مأخوذة منها أيضًا.

(15- الضحيَّة والدم)

قد رأينا فيما سبق أن للضحية باعثين، الأول: هو الاعتقاد بأنها تقدّم كطعام

للروح أو الإله. والثاني: هو الاعتقاد بأن الإله ذاته يتجسد فيها وتدفن أجزاؤها في

الحقول لكي تنمي الزروع.

إلى هنا لم نتكلم عن أكل الناس الأحياء للضحية، فقد رأينا الضحية تجزأ

وتدفن في الحقول باعتبار أنها إله، ورأينا القربان أيضًا يوضع للميت اعتبارًا بأنه

سيجوع ويأكله. وسنتكلم الآن عن أصل عادة أكل الناس للضحايا.

من الشائع بين عوام مصر أن من أكل قلب ذئب صار قويًّا مثل الذئب،

ويعتقدون في الهند أن من يأكل نمرًا يصير شجاعًا جريئًا كالنمر. لهذا لما نشأت

عادة ذبح الآلهة المتجسدة في الضحية ورد على خواطر المضحين أن يأكلوا هم

أيضًا قطعة من جسم الإله حتى يصيروا مثله في صفاته، على نحو ما يفعل آكل

الذئب والنمر. فصاروا يضعون جزءًا من الضحية المؤلهة في الأرض ويأكلون

جزءًا آخر منها. وهذا صيد العصفورين بحجر واحد: مباركة الحقل وتقوية

الجسم.

كذا تفعل قبائل الغوند

وكذا أيضًا كان يفعل المكسيكيون. فإنهم كانوا إذا أرادوا التضحية قبضوا

على أسير من أسرى حروبهم وعاملوه معاملة الملوك مدة عام يقتلونه باحتفال عظيم

في نهايته ويأكلونه. وبمضي الزمن ارتقى الإنسان من التضحية البشرية إلى

التضحية الحيوانية الحاضرة في أعياده. وفي طريقة الذبح عند العرب والعبرانيين

الآن بقايا أثرية من عوائد التضحية القديمة فإنهم يذبحون الآن (باسم الله)

ويتطلبون إراقة الدماء من المذبوح، والدم هو في العادة الجزء الذي يشتهيه الإله؛

لأنه بخلاف اللحم يجف فيظن الرائي أن الإله قد شربه.

قلنا: إن الإنسان كان يشرب دم الذبيحة أو يأكل لحمها اعتقادًا بأنه يأكل

ويشرب من لحم الإله ودمه، وقد قلنا إنه كان يعتقد بأن روح الضحية روح للإله

تنحل من الذبيحة عند الذبح وتنتشر في المحاصيل كالكروم والغلال.

مِن هنا نشأت عادة أخرى وهي أن يأكل المتدين خبزًا أو يشرب نبيذًا باعتقاد

أنه يأكل مِن لحم الإله ودمه؛ لأن روح الإله قد تجسدت في محاصيل الغلال

والكروم، والخبز والنبيذ هو ما يأخذه المسيحي من قسيسه باعتقاد أنه يأكل ويشرب

من لحم المسيح ودمه.

(16 - ضحية الافتداء)

للضحية - كما قلنا - اعتباران عند المتوحشين:

(1)

أنها تقدم كطعام للروح أو للإله.

(2)

أنها تقدم كأنها هي الإله ذاته.

وهناك نوع ثالث من الضحايا يقدم باعتبار أنه يفيد القبيلة أو الأمة من

خطاياها وقد صُلب المسيح لكي يفدي الناس من خطاياهم أي لكي يكفّر عن ذنوبهم.

والأصل في هذه الضحية هو الاعتقاد بإمكان نقل المرض من شخص إلى

شخص أو إلى شيء آخر، مثال ذلك: أن ملكًا في بتشوانا لاند أصيب مرة بمرض

ما، فأحضر ثورًا وتليت عليه الرقيات، وأغرق بعد ذلك في النهر. ومنطق هذا

العمل عندهم أن المرض قد انتقل إلى الثور وذهب معه بعيدًا عن الملك، ولا يزال

عندنا نحن المصريين آثار باقية من هذا الاعتقاد في رقياتنا؛ حيث تزيل الرقية

المرض وتلقيه بعيدًا عن المريض بإلقائها بعض أشياء كانت تحرقها في النار

وقت الرقية.

وقد نشأ من اعتقاد إمكان نقل المرض اعتقاد إمكان نقل الخطيئة. مثال ذلك:

أن بعض قبائل إفريقيا يقتل كل سنة شخصين رجلاً وامرأة؛ لكي يكفرا عن خطايا

القبيلة، يعتقدون أن خطيئات القبيلة قد انتقلت إلى هذين الشخصين، وأنهم بقتلهما

يغسلون القبيلة من أدران خطاياها، ويبررونها أمام آلهتها، كما كان يقتل الأثينيون

شخصًا عند وفود وباءٍ ما على بلدهم اعتقادًا بأن الوباء يموت بموته وينجي الأمة

منه، وكما تذري الراقية قطعة الشب التي أحرقتها في النار وقت الرقية اعتقادًا

بأنها حملت المرض معها وذهبت بعيدًا عن المريض.

(17 - العالم قبل المسيح)

كان العالم الذي انتشرت فيه المسيحية تابعًا للدولة الرومانية عند بدء انتشار

هذه الديانة، وقد كانت هذه الدولة تشمل كل ممالك البحر المتوسط، ودرجت اللغة

الرومانية على ألسن التجار فقرّبت بين هذه الأمم وصبغتهم بالصبغة الرومانية. وقد

بعثت التجارة على المهاجرة والنزوح إلى المواني فكانت الإسكندرية ورومية

وأنطاكية [1] ملأى بالسوريين والرومانيين والأسبانيين وغيرهم من الجاليات التي

هجرت مواطنها الأصلية واستعمرت هذه المواني للارتزاق. وقد أدى هذا إلى

انتشار الأديان في أصقاع الإمبراطورية، وخروجها من أوطانها الأصلية، فكانت

الآلهة المصرية تعبد في إنجلترا ورومية بسبب النزلاء المصريين، كما كان يعبد

الإله يهوه في الإسكندرية ومرسيليا بواسطة اليهود. وقد كانت بعض هذه الآلهة

تتّحد في الصفات فيعبدها الناس وإن كانت أجنبية عنهم إلا أنها تتفق في صفاتها مع

أحد آلهتهم، أو كانت الظروف تقتضي عبادة الآلهة الغريبة كما حدث مع البطالسة،

فإنهم حينما تولوا حكم مصر عبدوا الآلهة المصرية مع أنهم كانوا يونانيين،

وقبيل ظهور المسيحية كانت الأديان الوثنية قد ضعفت أمام الفلاسفة وحصل بذلك

اشتياق في النفوس للتوحيد اليهودي. ولو لم يكن يهوه إله اليهود وطنيًّا متعصبًا في

ألوهيته يكاد لا يعترف بأمة حقيقة بالجنة غير اليهود لعمت عبادته. لهذا تحول

الناس إلى العبادة المسيحية لأنها في الحقيقة عبادة للآلهة كلها؛ لأن المسيحية اشتقت

مناسكها وسننها ومراسمها من آلهة مصر وسوريا ورومية وفرنسا وإنجلترا

وغيرها، فكانت كل الأمم تعرف شيئًا عنها وتعتقد بصحة بعض سننها وأساطيرها،

وممّا زاد في الإقبال عليها سهولة طريقة التدين بها وصعوبته عند اليهود.

(18 - نمو المسيحية)

إنا نشك في أن المسيح كان إنسانًا موجودًا، على أننا إذا صدقنا رواية وجوده

كشخص ما، فإنما نعتقد ذلك باعتبار أنه وجد وقتل كضحية مؤلهة. وهي الضحية

التي قلنا إنها كانت تقدم لآلهة الغلال والنبيذ. فقد كان السوريون المجاورون ليهود

يعبدون (أتيس) إله الغلال، وكان من عادتهم أن يقدموا له ضحية سنوية؛ ولعلّ

الإشاعة التي فشت بعد ظهور المسيحية عن ذبح اليهود للأطفال قد نشأت عن هذه

التضحية، وعندنا سبعة أشياء ترجح أن المسيح كان ضحية مؤلهة، وهي:

(1)

إذا فحصت عظات بولس في رسائله إلى الفورنتيين تجده يصف

المسيح كأنه يصف أحد آلهة الغلال تمامًا.

(2)

أكل تلاميذ المسيح - وكل المسيحيين الآن - الخبز والنبيذ باعتبار أنهما

من جسد المسيح ودمه، وهذا ما كان يفعله تمامًا عبدة أودنيس وأتيس - إلَهَيِ الغلال -

لأن الإله يتجسد في المحصولات.

(3)

قول المسيح: (أنا خبز الحياة) ، (خذوا كلوا من دمي)[2] وقد

وصفوه بأنه قمحيّ الوجه وأن شعره كلون النبيذ.

(4)

أنه دخل أورشليم بهيئة ملك مثل ضحايا أتيس وأدوينس؛ لأن الاعتقاد

كان فاشيًا بأن هذين الإلهين يتجسدان في الضحية التي تقدّم لهما فيجب إذن إكرامهما

ما داما على قيد الحياة.

وقد جاء في الإنجيل أنهم وهم يقتلون المسيح ركعوا، وهذا يماثل ما كان

يفعله كهنة أتيس بالضحايا.

(5)

ولمّا دخل المسيح أورشليم كان ممتطيًا حمارًا وقد نثرت أغصان

الأشجار على الأرض، وهو عين ما كانوا يفعلونه مع ضحية أتيس وما زال في

(أحد الزعف)[3] الذي يسبق العيد الكبير عند النصارى بقية من بقايا أعياد آلهة

الغلال.

(6)

لمّا قتل المسيح بكت عليه النساء مثلما كان يحدث في ضحايا أتيس؛

لأنهم كانوا يعتقدون بأن الإله يتجسد فيها، وبالتالي يبكون عليه لأنهم قتلوه.

(7)

بعثه بعد ثلاثة أيام. مثل أتيس وأدونيس بالضبط.

فالمسيح قتل لغرضين: أنه ضحية مؤلهة، ولكي يفدي الشعب من خطاياه،

وقد عرفنا أصل ومعنى الفداء.

أمّا الثالوث فقد جاء للمسيحية من مصر، ونشأ أولاً عند الأقباط لأن أديانهم

الوثنية السابقة كانت تحتم هذا الاعتقاد.

أما الصليب فقد أتى أيضًا من مصر وتراه للآن على الجُعلان. وقد اختلط

الموضوع على بطريرك مصري مرة فقال في أحد كتبه عن المسيح: إنه (جُعل

الله) ؛ أي أنه ظن الصليب والمسيح شيئًا واحدًا لأن الجُعل كان يرسم عليه

الصليب.

(19- بقايا أثرية في المسيحية)

ما زال المسيحيون للآن يعبدون الموتى، وقد كانت الكنائس عند أول تشييدها

قبورًا ليس إلا. ومركز القديس الآن بين النصارى وقيمته عندهم كمركز رئيس

القبيلة المتوفى بين قبيلته بالضبط؛ لأن النصراني يحترم القديس ويتهيبه ويتقرب

منه كأنه يعبده عبادة ولو أنكر ذلك.

وقد كانت القرون الوسطى العصر الذهبي لعبادة الموتى والأرواح، فإنهم

كانوا لا يبنون كنيسة إلا إذا أحضروا لها شهيدًا أو قديسًا دفنوه في هيكلها، وقد

تفانوا في هذا العمل حتى إن البندقيين نقلوا جثة مرقص الرسول من الإسكندرية إلى

البندقية لكي يضعوها في الكنيسة المسماة باسمه هناك.

ودين الإسلام التوحيدي العظيم لم يتمالك عن تقديس الموتى واعتبارهم،

فالمسلمون ما زالوا للآن يتمسحون بقبور الأولياء، ويتبركون بها، ويبنون لهم -

للأولياء - المساجد على قبورهم.

نريد بذلك أن الإنسان الذي تشبع بالتوحيد ما زال يحن إلى ميوله الوحشية

وتبعثه غريزة التدين الأصلية إلى العبادة الأولى؛ عبادة الجثث والأرواح.

وترى للآن عند المسلمين أثرًا من آثار العبادات القديمة في مشهد قتل الحسين

حيث يمثلون قتل الحسين ويسيرون به في الشوارع باكين ومترحمين عليه كما كان

يفعل السوريون في البكاء على أدونيس سنويًّا. اهـ.

(المنار)

ما أضل (جرانت ألين) الكاتب الإنكليزي مؤلف الكتاب، وأضل أمثاله

من أحرار الكتاب، وحجبهم عن الدين الحق، وأوهمهم أنه من خرافات الخلق،

إلا ما رأوه من مظاهر الوثنية بين الأقوام، مع جهلهم بحقيقة الإسلام، وظنهم

أن النصرانية هي أرقى الأديان، مع شهادة التاريخ بأن جميع أصولها مأخوذة من

تقاليد عبدة الأوثان، كتأليه البشر والتثليث والفداء وتقديس كثير من الأشياء.

ولو فهموا القرآن حق فهمه، وعرفوا سيرة نبيه لعرفوا الدين الحق؛ فإن الإسلام

وحده هو الدين الذي حفظ أصله كما هو، فهو الذي يجب أن يتخذ مقياسًا وميزانًا لا

النصرانية، التي لا يزال الكثيرون من العلماء والمؤرخين يشكون - كالمؤلف - في

وجود مَن تنسب إليه (وهو عيسى ابن مريم عليهما السلام .

إذا كانوا يحكمون على الأديان بمسائل يستنبطونها من التقاليد التي اخترعت

بعد دعاة تلك الأديان فكيف يكون حكمهم صحيحًا؟ ألم ترَ أيها القارئ كيف عدوا

على الإسلام تقديس كثير من المسلمين للموتى وتمسحهم بقبور الصالحين وبناء

المساجد عليها، وتمثيل الشيعة منهم لقتل الحسين بن علي عليهما السلام كما

كان يفعل الوثنيون الأوّلون، إذ كان تقديس الموتى ركنًا من أركان الوثنية؟

يعدون هذا على الإسلام، وأصول الإسلام تنفيه وتحرمه وتعد بعضه كفرًا

وشركًا وبعضه معصيةً، وقد أجمعوا على أنه بدعة، وثبت عن النبي - صلى الله

عليه وسلم - في الصحيحين والسنن أنه لعن الذين يتخذون القبور مساجد أو يوقدون

عليها السرج، ونهى أن يتخذ قبره وثنًا أو يتخذ عيدًا. ومن الظلم أيضًا ذكر

الإسلام في سياق الكلام عن الدم والأضاحي الوثنية؛ فإن أضحية الإسلام لا شائبة فيها

للوثنية والفداء، وإنما هي نفقة وتوسعة على العيال والفقراء، والله تعالى يقول:

{لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمِ} (الحج: 37) ، كما

أنه ينفي عقيدة الفدية نفيًا صريحًا. فإذا كان الإسلام - وهو الدين الوحيد الذي حفظت

أصوله - ينتقدون عليه ويعدّون منه ما جاء لهدمه وإبطاله ونهى عنه أشد النهي،

فكيف يعتد بما ينسبونه إلى اليهودية والنصرانية ولم تحفظ أصولهما حتى

يمكن الرجوع إليها؟ !

الحق أن أصل الدين فطري في البشر، انطوى عليه وجدانهم، وصدّقته

عقولهم، عندما صاروا يبحثون ويستدلون، والماديون يتوهمون أن فطرتهم

وعقولهم لا تؤمن بغير ما يدركونه بحواسهم، وهذا غفلة منهم عن أنفسهم، وعن

فرضهم وجود الأثير فرضًا تلجئهم إليه الضرورة. وقد بيّنا مِن قبل كيفية طروء

الوثنية على الناس، وحقيقة النشوء والارتقاء في الأديان وكيف قاومها الأنبياء

بالدين الحق، ولا محل لإعادته هنا.

(اعتناقي الإسلام)

تأليف (المهتدي) عبد الكريم يوسف (جوصو) الفرنسي، طبع في المطبعة

التونسية على ورق جيد بحرف كبير ص107 (بقطع الإسلام والنصرانية) يباع

في المكتبة العلمية (عدد 29 بشارع الكنيسة بتونس) .

ما زال الله يزيدنا بصيرة ويقينًا بدين الإسلام خاتم الأديان بما يهدي إليه من

أرباب الإرادة القوية والفكر المستقل، فمِن إسلام عبد الكريم يوسف (جوصو)

الفرنسي، إلى إسلام اللورد هدلي الإنكليزي، إلى أمثالهما من إخواننا الذين لحقوا

بنا في الإسلام؛ دين الحق والتوحيد والتنزيه، والإيمان بجميع الأنبياء المصلحين.

ولا بد من تعميم الدين الحق - دين الإسلام - في جميع أقطار المعمورة؛

{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ

المُشْرِكُونَ} (التوبة: 33) .

وإليك صورة إهداء كتاب أخينا عبد الكريم، قال حفظه الله:

الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد،

والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد بن عبد الله الذي جاء بالحق ليظهره على

الدين كله، مرغمًا أنف من عاند وحقد وحسد، فدعا لسبيل ربه بالحكمة والموعظة

الحسنة، وجادل الناس بالتي هي أحسن، فمنهم من تجبر ونفر، ومنهم من انقاد

وأذعن وأقر، وتلك سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً،

وعلى كافة الأنبياء والمرسلين، وجميع الآل والأصحاب ومن تبعهم وتلاهم إلى يوم

الدين.

أما بعد؛ فإن المنازل تستهوي ألباب قاطنيها بما يتاح لهم تحت أديمها من أفانين

السعادة.

والسعادة - لا زلت لها قرينًا - نوعان: سعادة أرواح، وسعادة أشباح، بينها

من التفاوت كما بين النار والنور، والظل والحرور.

وقد صادفت أثناء إقامتي بالقطر التونسي سعادةً لنفسي، وراحةً لفكري، مِن

نصبٍ وكفاحٍ مارسته عقدين من السنين، أعني حين قرّ قراري، وسكنت نفسي،

وانقاد ضميري، لاتباع دين الهدى وشريعة الإسلام، فصار هذا القطر حينئذٍ وطنًا

للنفس تحن إليه، وترفرف بأجنحتها عليه، ومَن كان حرَّ الضمير يصدع بالحق لا

يخشى لومًا ولا تثريبًا.

لذلك أردت أن أبدي للناس عندما نجز هذا التأليف ما لفؤادي من الود والميل

نحو قطر يجدر لي أن أدعوه: (قطر السعادة) ، فوطدت العزم على إهداء الكتاب

لأميره الأعظم، وملاذه الأفخم، صاحب السؤدد والفخار، سيدنا محمد الناصر باشا

باي، صاحب المملكة التونسية، لا زال رفيع العماد، طويل النجاد؛ آمين.

...

...

...

...

عبد الكريم جوصو

وهذه مقدمته

تقوّلت عني بعض الصحف الفرنسوية عندما اعتنقت دين الإسلام أني أريد

تمهيد السبيل للتزوج بأربع نساء، وامتلاك ما أشاء من الجواري، سبحانك اللهم

هذا رجمٌ بالغيب، وقذفٌ بالبهتان؛ بل إني أسلمت لله رب العالمين، مخلصًا له

الدين، وما أنا أول المهتدين.

وجدت الإسلام دينًا سمحًا سهل المأخذ، بين العقيدة، واضح البرهان، مجردًا

مِن الغموض، لا يفتقر أتباعه في عبادة خالقهم إلى واسطة، فارتضيته لنفسي

والحمد لله.

لقد كنت بادئ بدء أردت أن أقلد أسلافي الكاثوليكيين، ولكن الفكر أبى أن

يعتقد شيئًا لا دليل عليه، وكيف يقام البرهان على صحة العقائد الكاثوليكية

وقساوستها ورهبانها وكردينالاتها عاجزون عنها.

بعد ذلك مكثت نحو عشرين سنة أبحث عن الدين الحق لأكون من شيعته، إذ

لا غنى لمخلوق عن عبادة خالقه.

فاتفق لي في أواخر هذه المدة أن جبت بعض الأقطار الإسلامية، فأثّر جمال

حياة أهلها تأثيرًا عظيمًا على قريحتي الفنية، واستهوتني محاسنها إلى أن اندفعت

للبحث في شؤونهم إجمالاً وتفصيلاً، وإذ ذاك أخذ دين الإسلام يستميلني شيئًا فشيئًا،

إلى أن تجلّى اليقين أمام عيني، وعلمت أن الدين عند الله الإسلام.

وها أنا أبيّن للواقفين على هذا الكتاب خلاصة أبحاثي من أولها إلى آخرها

تفنيدًا لمزاعم الواهمين. اهـ.

ثم كتب له ملحقًا في المباحث الآتية وهي: (تسامح الإسلام) و (انتشار

الإسلام) و (في الخلق) نقلاً عن كتاب الإسلام الذي ألفه الكونت هنري دي

كاستري، ثم (القرآن) نقلاً من (البحث في أصل اللغات) تأليف جان جاك

رسو، ومِن (حياة محمد) تأليف بولانفير، ومِن (الإسلام) تأليف هنري دي

كاستري.

وبعد ذلك مبحث (في المرأة) من مختصر (في حقوق المسلمات) تأليف

رحمين حلو. ومن (مختصر الإنكليزي في الإسلام) تأليف ريفي. يتلوه مبحث

(قضاء الكنيسة الكاثوليكية على المرأة) ثُم (في تعدد الزوجات) من كتاب

(الإسلام على حفض القرآن) ؛ تأليف قرسين دي تاسي.

***

(الإسلام) مجلة دينية علمية أخلاقية سياسية فارسية تصدر في طهران في

كل شهر عربي مرة، صفحاتها 48 بالقطع الصغير. رئيس تحريرها حسين كمال

السلطان، قيمة اشتراكها 12 قرانًا في إيران ويضاف أجرة البريد للخارج. وثمن

العدد الواحد قران واحد. عنوانها (طهران خيابان حرية مركز توزيع كل جرائد

داخلية وخارجية) .

(العرفان) مجلة شهرية شهيرة تصدر في صيدا سنتها عشرة أشهر تبحث

في العلم والأدب والاجتماع وتعنى عناية خاصة بشؤون الشيعة، وكانت حجبت عن

قرائها زمنًا ثُم عادت إلى خدمتها وهي ذات أربعين صفحة بقطع المنار، وقيمة

اشتراكها في البلاد العثمانية ريال مجيدي، وفي الخارج ستة فرنكات.

(المنهل) مجلة أدبية تاريخية اجتماعية مصوّرة عند الاقتضاء. تصدر مرة

في الشهر في القدس الشريف لمنشئها محمد موسى المغربي. صفحاتها 40، قيمة

اشتراكها ريال ونصف ريال مجيدي في البلاد العثمانية. وفي الخارج عشرة

فرنكات.

_________

(*) كتب تقاريظ هذا الجزء - ما عدا الأول منها - شقيقنا السيد صالح مخلص رضا.

(1)

المنار: أنطاكية ليست فرضة (ميناء) وكذلك رومية.

(2)

المنار: العبارة مقتضبة لم تؤدِّ معنى ما في الأناجيل وهو أنه سمى الخبز جسده وأمرهم بأكله وسمى الخمر دمه وأمرهم بشربها.

(3)

أي يوم الأحد الذي يضفرون فيه سعف النخل بأشكال مخصوصة.

ص: 225

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الإصلاح اللامركزي

وطلابه في البلاد العربية

تألف حزب اللامركزية بمصر لمطالبة الدولة بتغيير شكل إدارتها في المملكة

كلها - وإن كان جميع مؤسسيه من العرب السوريين - لأنهم يريدون الحياة للدولة

كلها لا لبلادهم فقط، ولو طلبوا الإدارة اللامركزية لبلادهم وحدها لَمَا كان ذلك أنفع

لهم ولا أرجى لقبول طلبهم، إذ رضاء الدولة بجعل إدارة بعض ولاياتها مركزية

وبعضها غير مركزية بعيد عن العقل والتصور، وتألفت في أثناء ذلك الجمعية

الإصلاحية ببيروت لطلب إصلاح معين لولاية بيروت خاصة.

وتلتها جمعية في البصرة لطلب الإصلاح لولاية البصرة خاصة. وما حفز

العرب في هذه المواضع وأهاب بهم إلى طلب الإصلاح والدولة تئن من أثقال

الحرب البلقانية التي غلبت فيها على أمرها، إلا لخوفهم أن يكون بقاء الخلل السابق

سببًا لانحلال الدولة وتقسيم الدول لها بالفتح السلمي الاقتصادي أو الاحتلال

العسكري.

ولمّا رفعت هذه الجماعات أصواتها بطلب الإصلاح رددت صداه جماعات

المهاجرين السوريين في أمريكا الشمالية والجنوبية وفي أوربا، واقترح بعض مَن

في باريس منهم تأليف مؤتمر عربي بباريس لإعلان مقاومة كل احتلال أجنبي في

البلاد وللبحث في حقوق العرب في الدولة العثمانية وللمطالبة بها. وعهدوا إلى حزب

اللامركزية إدارة هذا المؤتمر، فاختار الحزب للقيام بذلك كلا من السيد عبد الحميد

الزهراوي وإسكندر بك عمون، ورشح الأول لرياسة المؤتمر على أن يكون بانتخاب

أعضاء المؤتمر، وكذلك كان. وكان من أمر انعقاد المؤتمر ونجاحه واهتمام حكومة

الآستانة به ما هو مشهور.

شعر أركان الحكومة الاتحادية بوجود العرب وعنوا بمبادلة الاحتفالات بينهم

وبين مَن في الآستانة من العرب وأكثرهم طلبة المدارس الأميرية. وسعوا لاستقدام

الوفود من سوريا، واحتفلوا واحتفوا بمَن ذهب منهم إلى الآستانة، وأدبوا لهم

المآدب، وأحبوا التأليف بين طلاب الإصلاح ومَن عارضهم وشنع عليهم تزلفًا

للحكومة، ولكن لم يتم لهم هذا. وكانت هذه المظاهرات التي اهتم بها أهل الآستانة

تذكر بالسخرية في غيرها، ويعدها العرب في مصر وسورية والعراق وفي البلاد

الأجنبية خداعًا وتحذيرًا.

وأمّا الأمر الذي كان محل النظر، وموضع الأمل عند بعض العرب، فهو

الاتفاق الذي عقدته جمعية الاتحاد والترقي مع رئيس المؤتمر العربي، وأعطته

العهد والميثاق لتنفذنه كله. وهو مؤلف من اثنتي عشرة مادة. ولهذا مكث رئيس

المؤتمر بضعة أشهر في باريس ينتظر تنفيذه، وكانت الآستانة تجذبه إليها وحزب

اللامركزية يجذبه عنها، حتى اختار الحزب أخيرًا أن يعود إلى مصر، وأن يمر

بالآستانة مختبرًا إذا شاء، فشاء وجاء الآستانة، وراجع رجال الحكومة في أمر

تنفيذ الإصلاح الموعود به، فقالوا: إننا على عهدنا، وقد بدأنا من التنفيذ بإنشاء

مدرستين سلطانيتين باللغة العربية إحداهما في دمشق والأخرى في بيروت،

وبتقرير جعل عسكر كل ولاية في منطقتها العسكرية، وبجعل اللغة العربية رسمية

في المحاكم ودواوين الولايات العربية، وباختيار الموظفين لهذه الولايات من

العارفين باللغة العربية.

وأما ما يتعلق بالنافعة والأوقاف والمعارف فهو يتوقف على وضع القوانين له

ونحن شارعون في ذلك بتنقيح قانون الولايات ووضع قوانين أخرى، ثُم إن تنفيذ

بعض ذلك يتوقف على وجود المال، ولا مال الآن. وأمّا المناصب والوظائف في

مجلس الأعيان ومصالح الحكومة العليا؛ فهَلُمّ ساعدنا على اختيار الأكْفاء لها لنعينهم

بالتدريج.

هذا ملخص ما نتذكره من معنى أجوبة الحكومة للسيد الزهراوي بعد مراجعات

متعددة، ووعود مبهمة، كان فيها بين اليأس والرجاء مدة طويلة، حتى عزم على

مغادرة الآستانة. ثم شرعت الحكومة في تنفيذ ما لا يتوقف على القوانين ولا المال

من المطالب بالمشاورة معه، ومنها تعيين ستة أعضاء من العرب في مجلس

الأعيان؛ أحدهم السيد الزهراوي نفسه، إذ اقتضت الحال أن يكون في الآستانة

مراقبًا لتنفيذ سائر ما وعدت به الحكومة من الإصلاح، ومنها تعيين الشيخ إسماعيل

الحافظ من علماء طرابلس الشام عضوًا في مجلس المعارف الأعلى، وهو في

الذروة العليا من نابغي العرب علمًا وعملاًَ وأخلاقًا وعقلاً ورأيًا واستقامةً. ومنها

تعيين عبد الوهاب أفندي الإنكليزي (لقبًا لا نسبًا) وشكري أفندي العسلي مفتشين

في بعض الولايات، وهما من أشهر نابغي العرب من سلك الحكومة الملكي

المستحقين للمناصب العالية. ومنها تعيين أناس آخرين في (الدوائر) العالية في

العاصمة.

وكان رجال الآستانة قبل هذا قد أرضوا بعض رجال جمعية بيروت

الإصلاحية بالوعود الجميلة فسكنت حركتها بالتدريج، واستمالوا السيد طالب بك

النقيب زعيم البصرة، فأعلن في الجرائد الرضاء عن الحكومة والاتفاق معها وتبرع

للأسطول العثماني وجمع له مالاً كثيرًا.

ثُم إن حزب اللامركزية رأى من الصواب أن يحفظ صلته بالسيد الزهراوي

كما حفظ هو صلته بالحزب بعد قيامه بما عهد إليه خير قيام، حتى إنه لم يحل ولم

يرحل، ولم يحلّ ولم يقعد إلا باستشارة الحزب، ولأن زعماء الحزب يثقون كل

الثقة بصدقه في القول وبإخلاصه في العمل لمصلحة الأمة، فهو بهذا خير من

يوقفهم على أعمال حكومة العاصمة فيكونون على بصيرة منها، فلا يبنون عملهم

وسعيهم على الظنون والأوهام، فقرر الحزب باتفاق الآراء إقرار السيد الزهراوي

على قبول منصب الأعيان والثقة به، أي في التوسط لدى الحكومة بمطالب

الإصلاح.

فعل الحزب هذا وهو غير موقن ولا مرجح لإنجاز الحكومة ما وعدت به

السيد الزهراوي، كما أنه غير موقن بأنها لا تنجزها، فكانت الحكمة في عدم قطع

الصلة بالحكومة، ومطالبتها بالبرهان والحجة، على كون الحزب لا يألو جهدًا في

السعي إلى الإصلاح من طريق الأمة، فهو يسلك الطريقين إلى مقصده، فإذا لم

يصل مِن أحدهما وصل من الآخر.

اتفق أن الحزب لم ينشر شيئًا جديدًا بعد بيانه العام الذي نشره يوم المظاهرة

البرقية السلمية، يطلب البلاد كلها للإدارة اللامركزية؛ لأنه لم يتجدد شيء جديد

يدعو إلى النشر، فظن البعداء عن مركز الحزب والذين ليس لهم صلة مكاتبة به،

أن الحزب قد سكن وسكت أو انحل كجمعية بيروت وجمعية البصرة. وأنه رضي

من الحكومة بما قالت وما فعلت، وطفقت الجرائد العربية في أمريكة تطعن في

الحزب وفي طلاب الإصلاح كافة، وزعماء بيروت منهم خاصة.

يدخل الكلام بهذا الموضوع في أربع مسائل: الجماعات الإصلاحية،

والمعترضون عليها الآن، وما يعترضون به، والحالة الحاضرة. ولنا في كل

مسألة منها قول وجيز.

أما الجماعات الإصلاحية فثلاث كما تقدم: جماعة حزب اللامركزية وهي

تعمل للمملكة كلها وإن كان العاملون فيها عربًا، وتأثير عملها الأول في البلاد

العربية. ومتى وجد الإصلاح في البلاد العربية يوجد في غيرها حتمًا إما سابقًا وإما

لاحقًا، وجماعة بيروت وجماعة البصرة، ومطالب كل منهما موضعية، ولكن

زعماءهما متفقون مع حزب اللامركزية في مطالبه العامة كلها، إذ النسبة بينه

وبينهما كالنسبة بين الخاص والعام فلذا سكتت الجماعتان اليوم عن مطالبهما العامة

لأسباب اقتضت ذلك، فذلك لا ينفي بقاء اتفاق أهل الرأي منهما مع حزب

اللامركزية في المطالب الإصلاحية العامة، وإن لم يساعده على ذلك جميع أفرادهما

في الشكل الأول، فقد يساعده كثير منهم في شكل آخر. والحق الواقع أن الحزب

الآن أقوى ناصرًا وأكثر عددًا ممّا كان عليه من قبل، خلافًا لما يتوهمه البعيد عنه،

فقد تشعبت شعبه وكثرت فروعه في الولايات، ورسخت مقاصده في النفوس، وقد

قويت الآمال فيه، وانحصر رجاء الولايات في سعيه، وإن صلة السيد الزهراوي

به لم تزد رجاء الولايات فيه الا قوة وثباتًا، وإن كان أهل الرأي من شعبه ولجانه

فيها متفقين مع إخوانهم الذين في مصر على كون ما منت به الحكومة على العرب

لا يعد شيئًا مذكورًا في جانب مطالب الحزب، ولا ينبغي أن يزيده إلا جدًّا واجتهادًا

في السعي.

وأما المعترضون فمنهم المخلص الذي لا علم له بدخائل الأمور وحقائقها،

ومنهم المخلص المطلع الذي يريد بالاعتراض حفز الهمم والحث على الإسراع في

العمل، ومنهم من لا حظ له من المطالبة بالإصلاح إلا التلذذ بمقاومة الدولة

العثمانية والتهويش عليها، وهو لا يرجو لها ولا منها صلاحًا، ولا يحب لها بقاءً،

فهو نصير المتألبين عليها، وظهير المقاومين لها، وعدو الراضين منها، كيفما

كانوا، وبأبهى شكل ظهروا، ومراده أن تستولي الدول الأوربية عليها ولا يرضيه

ما دون هذا. ومنهم من لا يسهل معرفة قصده، ولا حقيقة مراده. فأما المخلصون

في طلب الإصلاح فلا يلبثون أن يرجعوا عن إنكارهم، وغير المخلصون لا علاج

لهم.

وأغرب ما رأى الحزب من المعارضة والمقاومة وأبعده عن المعقول ما كان

من أحد كتاب نصارى السوريين الذين انتموا للحزب. فقد حضر كثيرًا من جلسات

اللجنة العليا بطريق الاستثناء، كان يلقي فيها دلوه بين الدلاء، فينفرد بالمعارضة،

ويلح بطلب جعل المصالح والمنافع قسمة بين المسلمين والنصارى، وقد اتفق

الفريقان على إنكار هذا الرأي وضرر هذه القسمة، وكونها تكون مثار النزاع

والتخاصم والعداوة والبغضاء، ويجزم أهل العلم والرأي من النصارى بأن ضرر

هذه القسمة عليهم أشد، وأن السكوت عن كل ما يتعلق بالدين والمذاهب خير لهم

وأنفع؛ ولكن هذا الكاتب الذي كان ينكر ذكر الدين في أمور السياسة وشؤون الدنيا

بث فكره هذا بما نشره في بعض جرائد مصر وأمريكة، ونفّر نصارى المهاجرين

في أمريكة مِن الحزب، ونهاهم عن مساعدته باسم المسيحية وحقوق المسيحيين

وهضم المسلمين لها، حتى إنه كتب في جريدة الهدى الأمريكية التي تعنى بنشر ما

يكتبه: إن صاحب المنار أنكر على مسلمي بيروت اتفاقهم مع نصاراها على جعل

نصف أعضاء المجالس المحلية من المسلمين والنصف الآخر من غيرهم. وهي

دعوى غير صحيحة، فإن المنار أنكر من لائحة جمعية بيروت الإصلاحية أكثر ما

أعطته للمفتشين والمراقبين من الأجانب، ولم ينكر مسألة المناصفة في المجالس؛

بل عدها دليلاً على إخلاص المسلمين وصدقهم الاتفاق مع النصارى؛ لأنهم تنازلوا

لهم عن بعض حقوقهم.

وأما الانتقاد والطعن الذي صوّب إليهم فهو أن الترك أرضوهم ببعض

المناصب والوظائف، فظهر أن طلب الإصلاح كان شبكة لصيد المنافع، ويحتجون

على هذا بأن المؤتمر العربي قد قرر أن لا يقبل أحد من المنتمين إلى لجان

الإصلاح العربية أي منصب في الحكومة العثمانية إذا لم تنفذ القرارات التي صادق

عليها - إلا بموافقة خاصة من الجمعيات المنتمين إليها. وخص بأشد الانتقاد السيد

الزهراوي وعميدي المسلمين والنصارى في جمعية بيروت الإصلاحية - محمد

أفندي بيهم ونخلة بك سرسق؛ إذ قبلوا أن يكونوا أعضاء في مجلس الأعيان قبل

تنفيذ الإصلاح في البلاد العربية.

ولهؤلاء الثلاثة ثلاثة أجوبة يردون بها تلك المطاعن:

(أحدها) : إن الحكومة قد شرعت في تنفيذ الإصلاح ولا يعقل أن لا يقبل

العرب طلاب الإصلاح منصبًا ولا عملاً فيها إلا بعد تنفيذ الإصلاح كله بأيدي

الترك ومقاومي الإصلاح من العرب، كأننا نقول: إننا بعد أن يصلح لنا هؤلاء

بلادنا نقبل المناصب والوظائف فيها!

(الثاني) : إن عضوية الأعيان لا تعد وظيفة أو منصبًا في الحكومة؛ لأن

عمل الأعيان كعمل المبعوثين (النواب) : وضع القوانين ومراقبة الحكومة في

تنفيذها، فهو سيطرة على الحكومة لا خدمة لها.

(الثالث) إن اللجان الإصلاحية التي تنتمي إليها قد وافقت على أن تكون في

مجلس الأعيان. وأمّا الذين قبلوا المناصب في غير مجلس الأعيان فيمكن لمن كان

منتميًا إلى بعض لجان الإصلاح أن يجيب بالجواب الأول، وهو جواب ضعيف إذا

لم يعززه الثالث.

سواء على حزب اللامركزية اقتنع المنتقدون والطاعنون بهذه الأجوبة أم لم

يقتنعوا، فإن لجنة الحزب العليا لم تدخل في باب المناصب والوظائف، وقد دعي

رئيسه (رفيق بك العظم) إلى الآستانة مرارًا قبل ذهاب الزهراوي إليها وبعده -

وكان لا يزال مرشحًا لمنصب الوزارة - فلم يجب الدعوة، والسيد والزهراوي -

وإن حضر تأسيس الحزب - لم يحب أن يدخل في لجنته الإدارية ولا في الانتخاب

لها؛ لأنه جاء مصر زائرًا لا مقيمًا. ولكن مكانته العالية من نفوس لجنة الحزب

العليا، ومن نفوس سائر طلاب الإصلاح في سورية وغيرها هي التي حملت اللجنة

على اختياره للمؤتمر، ثُم إن حسن سلوكه في المؤتمر، وبثباته بعد إتمام عمله فيه

على السعي إلى الإصلاح مع الارتباط بالحزب وتقيده بقراراته، وانقطاعه عن كل

عمل لأجله، على كونه ينفق من مال نفسه - وناهيك بسعة النفقات في أروبة - كل

ذلك كان من الأسباب الجديدة لرضاء الحزب بقبوله لمنصب عضوية الأعيان

والتوسط لدى الحكومة في الإصلاح، وأما السبب الأول فهو كفاءته الشخصية في

صدقه وإخلاصه وتاريخه الحميد النقي، كما أشرنا إلى ذلك من قبل.

بقيت (المسألة الرابعة) وهي بيان حالة الحزب الحاضرة. والقول الوجيز فيها

أن الحزب - وإن لم يسمع له صوت عالٍ من عدة أشهر - قد أصبح أقوى مما كان،

منذ أسس إلى الآن، فقد كثرت فروعه في الولايات وانتظمت، وقويت الثقة به

وثبتت، وانحصرت آمال طلاب الإصلاح فيه أو كربت، ويصح أن يقال: إن

طوره الأول كان طور تمهيد للعمل بإعداد الأفكار، ثم بتأليف اللجان، وقد انتهى

الآن بطور القيام بالأعمال، وإن قيامه بالعمل، واضطلاعه بالسعي، هو خير

خدمة للدولة قبل الأمة، لما أثبته الماضي لرجاله من الرؤية وحسن النية، فكانت

المصلحة في أن يدير هو الحركة، لئلا تفضي إلى الفوضى، أو يتغلب عليها الغلاة

المتطرفون، الذين ظهرت في مدة سكوته أصواتهم بنغمة الثورة، وتوزيع

منشورات أقلقت الحكومة وعقلاء الأمة. ويقال: إنه يريد أن يبدأ عمله بجمع مؤتمره

السنوي وتجديد انتخاب أعضاء اللجنة العليا، وعرض المشروعات الجديدة للعمل

عليها، ومنها تحويله إلى جمعية، إذ لم تصدق عليه الحكومة، فقد اقترح هذا

كثيرون. وعسى أن تكفيه الحكومة هذا الأمر، فتبادر إلى الإصلاح من تلقاء نفسها

والله الموفق.

ص: 234

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الشيخ علي يوسف

(4)

أخلاقه وسجاياه:

المنار لا يعنى بترجمة أحد ترجمة تاريخية محضة؛ وإنما يعنى من تراجم

الناس ببيان الأخلاق الحسنة والأعمال النافعة، متى تكون مثالاً حسنًا، وقدوةً

صالحةً؛ لأن غاية المنار إصلاحية فهو يعنى بكل ما يتوسل به إلى الإصلاح،

ويرغّب الناس في الفضائل ومحاسن الأعمال، وإن ذكرنا ما يقابل ذلك فإنما نذكره

لأن العبرة لا تتمّ إلا به، ولا يجعل ذكر المساوئ هو الأصل في الموعظة، وقد

كان ما ذكرناه من ترجمة هذا الرجل دائر على هذا القطب، وأحببنا أن نختمها بهذه

الكلمات التي تذكر الناسي وتنبّه الغافل لِما هو المقصود بالذات. فنقول: إن هذا

الرجل نبه بعد خمول، وارتفع بهمته وأخلاقه إلى الطبقة العليا في أمته، فصار من

بطانة أمير البلاد وأهل ثقته. وصاحب التأثير الأول في أفكار المصريين، والرأي

المحترم في جميع الأقطار الإسلامية، وكم من متعلم نال الدرجات العلى في العلوم

والفنون العربية والإفرنجية يتمنى أن يصل إلى ما وصل إليه الشيخ علي يوسف بما

دون درجات علمه، وهو لا يستطيع إلى ذلك سبيلاً؛ لأن مَن أبطأت به سجاياه

وأخلاقه لا تسرع به علومه وفنونه، فأحب أن تتذكر نابتتنا أن الرجل قد ارتقى

بالعزيمة وقوة الإرادة والصبر والثبات وعلو الهمة والإخلاص للملة والأمة، فمَن

استطاع أن يتخلق بهذه الأخلاق، فليقصد بها ما شاء من مراتب الكمال، ومقامات

الرجال. وليحذر المعتبر بسير رجال عصره من الوقوع في مثل الخطأ الذي ارتكبه

هذا النابغة وأمثاله من النوابغ (كقاسم بك أمين) وهو محاولة استعجال الثروة

الواسعة التي تليق بمقامهم الاجتماعي بسلوك الطرق التي ربما تؤدي إلى ضد

مرادهم، والشيخ رحمه الله عصمته تربيته الدينية أن يفتتن بما افتتن به كثير من

كبرائنا المتفرنجين من المقامرة، وإنما تورط في شراء الدور والقصور وعرصات

الأرض المعدة للبناء في تلك المدة التي خرج فيها التغالي بالأثمان عن الحد الطبيعي

الذي وصلت إليه درجة العمران في البلاد. ولما عادت (سنة ردّ الفعل) بأثمان

المباني وعرصاتها إلى ما دون الثمن المعتدل لها، بعد ذلك الإفراط فيها، غرق

الرجل مع مَن غرق في طوفانها، ولولا ذلك لَمَا قصرت ثروته بما يليق بمقامه

الاجتماعي، على ما كان من تقصيره في إدارة المؤيد المالية. وما ذكرنا هذا - على

كونه معروفًا مشهورًا - إلا ليكمل الاعتبار بسيرة فقيدنا النافعة طردًا وعكسًا، ونسأل

الله تعالى أن يتغمده برحمته، بمنّه وفضله وكرمه.

_________

ص: 239

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌استفتاء

في فسخ نكاح المعسر

ما قولكم في امرأة فقيرة غاب عنها زوجها من مدة سنين وترك عندها ولدًا

ولم يترك لها شيئًا لنفقتها ونفقة ولده، ولم يرسل لهما سوى شيء يسير لا يقوم بنفقة

الولد وكتبت له عدة كتب طلبت منه النفقة الكاملة لها ولولدها أو الطلاق فتعنت ولم

يجب عليها! ! ثُم التمست من شيخه شيخ الجاوى فكتب له ولم يجب. فهل لها

طلب فسخ النكاح عند الحاكم الشافعي أم لا؟ وهل لو رفعت أمرها إليه وتحقق

وثبت عنده جميع ما ادّعته المرأة بالبينة الكاملة وفسخ نكاحها يكون فسخه واقعًا

موقعه ولها بعد تمام العدة من الفسخ المذكور التزوج أم لا؟ أفتونا مأجورين.

(جواب مفتي الشافعية بمكة المكرمة)

باسمه سبحانه وتعالى أبتدئ الجواب، وأستمد منه تعالى العون والهداية

للصواب.

في الحقيقة يقع كثيرًا من بعض الرجال الظلم والتعدي والإيذاء في حق النساء

البائسات، وذلك حرام وفاعله آثم مخالف لِمَا أمر الله ورسوله - صلى الله عليه

وسلم - في حقهن، ومن ذلك التزوج بهن ثم السفر وتركهن بلا نفقة ولا منفق،

فجزى الله إمامنا الشافعي رضي الله عنه خيرًا، حيث سوّغ لهن فسخ النكاح

عند تضررهن، ويسوغ للحاكم متى رفعن أمرهن إليه أن يفسخ نكاحهن، ثم بعد

تمام العدة يتزوجن بمن شئن، وكذلك إمام دار الهجرة الإمام مالك رضي الله عنه.

فالمرأة المسئول عنها متى رفعت أمرها إلى الحاكم وثبت لديه تضررها

ودعواها فله حينئذٍ فسخ نكاحها من الزوج المذكور، وفسخه سائغ وواقع موقعه، ولها

بعد تمام عدة الفسخ المذكور التزوج بمَن يقوم بشأنها. قال في الأسنى متنًا وشرحًا:

واختار القاضي الطبري وابن الصباغ وغيرهما جواز الفسخ لها إذا تعذر تحصيلها

للنفقة في غيبته للضرورة، وقال الروياني وابن أخته صاحب العدة: إن المصلحة

الفتوى به، وقال في فتح المعين: واختار جمع كثيرون من محققي المتأخرين في

غائب تعذر تحصيل النفقة منه - الفسخ، وقوّاه ابن الصلاح. وقال في فتاويه: إذا

تعذرت النفقة لعدم مال حاضر مع عدم إمكانها أخذها منه حيث هو بكتاب حكمي

وغيره لكونه لم يعرف موضعه أو عرف ولكن تعذرت مطالبته، عرف حاله في

اليسار والإعسار أم لم يعرف فلها الفسخ بالحاكم، والإفتاء بالفسخ هو

الصحيح. اهـ.

ونقل شيخنا كلامه في الشرح الكبير، وقال في آخره: وأفتى بما قاله جمع من

متأخري اليمن. وقال المحقق الطمبداوي في فتاويه: والذي نختاره تبعًا للأئمة

المحققين أنه إن لم يكن له مال كما سبق لها الفسخ وأنه كان ظاهر المذهب خلافه لقوله

تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: 78) ، ولقوله صلى الله

عليه وسلم: (بعثت بالحنيفية السمحة) ولأن مدار الفسخ على الإضرار؛ ولا

شك أن الضرر موجود فيها إذا لم يمكن الحصول إلى النفقة منه وإن كان موسرًا؛ إذ

سر الفسخ هو تضرر المرأة وهو موجود - لا سيّما مع إعسارها - فيكون تعذر

وصولها إلى النفقة حكمه حكم الإعسار. اهـ.

وقال السيد عبد الله بن عمر الحضرمي: إنه يجوز فسخ النكاح من زوجها

حضر أوغاب بتسعة شروط

، إلى أن قال: ولو غاب الزوج وجهل يساره

وإعساره بانقطاع خبره ولم يكن له مال بمرحلتين فلها الفسخ بشرطه، كما جزم به في

النهاية وزكريا والمزجد والسمباطي وابن زياد وابن قاسم والكروي وكثيرون.

وقال ابن حجر في التحفة: والفسخ وهو متجه مدركًا لا نقلاً. اهـ.

بل اختار كثيرون وأفتى به ابن عجيل وابن الصباغ والروياني: أنه لو تعذر

تحصيل النفقة من الزوج في ثلاثة أيام جاز لها الفسخ حضر الزوج أم غاب، وقوّاه

ابن الصلاح ورجّحه ابن زياد والطمبداوي والمزجد وصاحب المهذب والكافي

وغيرهم فيما إذا غاب وتعسّرت النفقة منه ولو بنحو شكاية. قال ابن قاسم: وهذا أولى

من غيبة ماله وحده والمجوز للفسخ. أما الفسخ بضررها بطول الغيبة وشهوة

الوقاع فلا يجوز اتفاقًا وإن خافت الزنا. والله سبحانه وتعالى أعلم.

أمر برقمه مفتي الشافعية بمكة المحمية الراجي غفران المساوي:

عبد الله بن السيد محمد صالح الزواوي

كان الله لهما آمين.

...

...

...

الختم

صورة ما كتبه بعض كبار علماء

الشافعية بالأزهر على هذه الفتوى

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.

أفاد العلامة السيد مصطفى الذهبي في المسائل الفقهية أن أصل مذهب الإمام

الشافعي أنه لا فسخ ما دام الزوج موسرًا، أي لم يعلم إعساره وإن انقطع خبره

وتعذّر استيفاء النفقة منه، وإن الذي جرى عليه ابن الصلاح وشيخ الإسلام وكثير

من المحققين أنه إذا تعذر استيفاء النفقة من كل الوجوه لانقطاع خبره أو تعززه أي

تواريه بحيث لا يتمكن الحاكم من جبره، ولم يوجد لكل منهما مال فسخت الزوجة

بالحاكم، قالوا: لأن سر الفسخ بالإعسار هو التضرر، والتضرر موجود هنا ولو مع

اليسار، فلا نظر لعدم تحقق الإعسار، وظاهر أنه لا إمهال هنا لأن سبب الفسخ -

كما علمت - هو محض التضرر من غير نظر لليسار والإعسار. انتهى.

وإن أردت بسطًا في المقام فراجع المسائل المذكورة صحيفة 67و 68، والله

أعلم.

كتبه

...

... كتبه

...

... كتبه

محمد النجدي سليمان العبد بالأزهر الشريف محمد إبراهيم القاياتي الشافعي

(المنار)

إن ما علل به أولئك الفقهاء جواز الفسخ صحيح وإن رفع الحرج

ونفي الضرر والضرار قطعي في الشريعة. ومِن أشد الضرر والحرج والعنت عدم

القيام بحق الزوجية الثابت بحديث: (وإن لزوجك عليك حقًّا) المتفق عليه، فلا

عبرة بقول من قال: إنه لا يفسخ به وإن خافت الزنا على نفسها؛ لأنه مخالف لأدلة

الشرع القطعية. وقد سبق لنا في المنار بيان فتوى المشيخة الإسلامية في

الآستانة بالفسخ على الغائب والمعسر، وصدور الإرادة السنية بذلك.

_________

ص: 266

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌محاضرة الدكتور كريستيان سنوك هرغرنج

الهولندي في الإسلام ومستقبل المسلمين

وعَدْنَا أن نعلق شيئًا على هذه المحاضرة التي نشرناها في الجزء الماضي

ووفاءً بالوعد نقول:

(1)

يظهر من كلام الدكتور أنه اختبر المسلمين اختبارًا واسعًا قلّما يصل

إلى مثل غوره الأجنبي، فهو قد أصاب في أكثر ما ذكره عنهم من رأي وخبر، ولكنه

ما عرف حقيقة الإسلام وكنهه، وأنَّى له أن يعرف ذلك؟ ومِن أين يعرفه؟

يقول: إنه درس الإسلام وعرف أصوله وفروعه من مكة المكرمة حيث أقام

ثمانية أشهر يتلقى عن بعض العلماء! سبحان الله! إن أهل مكة أقل أهل الأمصار

الإسلامية عنايةً بالعلم الديني وغيره، ومَن يوجد فيها من المدرسين الغرباء، فقلّما

يوجد فيهم أحد من المبرزين الأقوياء، وإن وجد فيهم من يتقن بعض العلوم الشرعية،

فهو لا يقرأ الدروس إلا على طريقة متأخري المسلمين العقيمة، طريقة المناقشة في

عبارات بعض كتب المذاهب، فالثمانية الأشهر لا تكفيه لقراءة عقيدة كالنسفية أو

السنوسية، ونحوهما من كتب الكلام على مذهب الأشعرية، ولا لقراءة باب

الطهارة والصلاة من متوسطات كتب الشافعية أو الحنفية. وعلم الكلام - الذي هو

علم فلسفة العقائد الإسلامية - يقول فيه الإمام الغزالي: إنه ليس من علوم الدين

وإنما هو حارس للعقيدة كالعسكر الذين يحرسون البلاد أو الحُجاج مثلاً؛ بل نقول إننا

على سعة اختبارنا للعالم الإسلامي لا نعرف مكانًا في الأرض تبين فيه حقيقة الإسلام

التي يمثلها القرآن وسنة الرسول المتبعة وسيرة السلف الصالح، من العقائد والأخلاق

والآداب، والسياسة والإدارة والقضاء، تبيانًا سالمًا من الشوائب والأوهام، بحيث

تتلقى بسهولة في ثمانية أشهر أو أعوام (وأرجو أن يوفق لهذا من يتخرجون في

مدرسة دار الدعوة والإرشاد) .

(2)

اعترف هذا الدكتور الهولندي بأنه ادّعى الإسلام نفاقًا أو خداعًا

للمسلمين ليسبر غورهم وغور دينهم من حيث تأثيره في حياتهم المدنية والسياسية،

وقد فعل مثل هذا غيره من أفراد الشعوب الأوربية أصحاب المستعمرات الإسلامية،

كالفرنسيس والروس والإنكليز. ولو كان للمسلمين حكومات منظمة، وجمعيات

إصلاحية عامة، لَمَا تيسر لهؤلاء الجواسيس ما يتيسر لهم وأمر المسلمين فوضى.

وإننا نرى هؤلاء المستعمرين يراقبون كل غريب يدخل مستعمراتهم ولا سيّما إذا

كان مسلمًا. فلا يفوتهم من حركاته ولا أقواله شيء.

(3)

بيّن الدكتور أن الإسلام الديني كان قائمًا على أساس الإسلام

السياسي، وأن المسلمين كانوا واثقين بدينهم راضين به إذ كانوا أحرارًا يرون أن

العالم كله ملك لهم بالفعل أو بالقوة، عليهم أن يفتحوا منه ما لم يفتحوه. وهذا الذي

ذكره عن المسلمين هو الذي عليه الإفرنج الآن، فهم يرون أن العالم كله ملك لهم،

ولذلك يتفقون فيما بينهم على اقتسام الممالك المستقلة؛ ثم ينفذون ذلك، ولا مجال هنا

للبحث في تفصيل هذا وبيان مآخذه. ولكننا ننبه عقلاء القراء إلى الاعتبار بحالهم

السابقة وحال الأوربيين الحاضرة، ثُم العبرة كل العبرة فيما رتبه هذا السياسي

الكبير على هذا وهو:

(4)

بيّن أن الأوربيين قد سلبوا المسلمين ذلك الاستقلال والحرية بالتدريج،

فاضطر المسلمون إلى تعديل أفكارهم في الإسلام الديني بعد زوال الأساس الذي

بني عليه وهو الاستقلال السياسي، ثم نقل أن بعض الساسة الأوربيين يرون أن

سقوط الإسلام الديني يتبع سقوطه السياسي، فيزول الإسلام من الأرض، وأنه

يخالفهم في ذلك، ويرى أن الإسلام الديني لا يزول كما أنه لا يبقى كما كان في عهد

استقلاله والثقة به، وسنذكر ملخص رأيه فيه والعبر لمن يعقل من المسلمين في

هذا كثيرة، ومن أهمها غرور المفتونين من المسلمين الذين يظنون أنهم يحفظون

استقلالهم السياسي أو يؤسسون لهم استقلالاً جديدًا مع ترك الدين، فإن هذا إذا جاز

في غير الإسلام لا يجوز فيه؛ لأن جميع المقومات للأمة جعلها الإسلام إسلامية.

(5)

كما بين إزالة أوربا لاستقلال الإسلام السياسي بالاستيلاء على ممالكه

الواسعة، بين تصرفها في إزالة استقلال أفراد المسلمين في أنفسهم، بما بينه من

تغلغل الآراء الأوربية في أفكارهم، وزلزلتها لكثير من مقوماتهم ومشخصاتهم الملية

التي يمتازون بها عن غيرهم، وبها كانوا أمة واحدة، وبيّن أن إزالة بعض

المميزات العادية كاللباس، له دخل في إزالة المميزات الدينية كالصلاة، فقال: إن

أداء الصلوات الخمس صار متعذرًا على المتفرنجين، الذي يلبسون الزي الإفرنجي،

(قال) وسيتبعه الصيام. فجزم بأنهم يتركونه، وبأن الشرائع التي كانت مقدسة

عامّة ستكون خاصّة بحُجاج مكة والمتصوفة.

وطالما نبّهنا المسلمين على ضرر هذا الانسلاخ من العادات والأخلاق بتقليد

الإفرنج، وقد فطنا لهذه المسألة في أثناء اشتغالنا بطلب العمل بطرابلس الشام، فكتبنا

في بحث الزي واللباس فصلاً طويلاً ينافيه أنه ليس للإسلام زي ديني خاص، وأن

ضرر تغيير الزي سياسي اجتماعي، وإنما يمسّ الدين ويكون محرمًا شرعًا لأسباب

عارضة ككونه ضيقًا يمنع من أداء الصلاة. ولكن جماهير المسلمين لا يزالون

بمعزلٍ عن فهم أمثال هذه التنبيهات والنصائح، حتى إنه ليسخر بها من يعدّون

أنفسهم من الفلاسفة والسياسيين، وإنما هم من السفهاء المفتونين.

(6)

ذكر من أثر سلطان الإسلام في أهله أن الآراء الأوربية على شدة

تغلغلها في أنفس المسلمين وتحويلها لعاداتهم وأفكارهم، وتغييرها لشؤون حياتهم،

لم تَقْوَ على محوِ الشعور الديني من قلوبهم، حتى إنه كان يعرف تلاميذه المسلمين

من غيرهم بمجرد قراءته لمنشآتهم؛ لأن روح الإسلام لا بد أن تتجلى في عبارتها.

(7)

يعلل الدكتور بهذا وغيره ما رآه ورواه من خذلان دعاة النصرانية

(المبشرين) فيما يحاولون من تنصير المسلمين؛ لأنهم يعرفون النصرانية ويعتقدون

أنها فسدت وأن الإسلام أرقى منها. وهذا القول الذي قاله صحيح، وإن كان يجهله

من لم يكن له مثل علمه واختباره، فنحن نعتقد أن أصل النصرانية صحيح، وأنه

طرأ عليها التبديل والتغيير، وإن الله أكمل دينه بالإسلام، على سنته في النشوء

وترقي الاجتماع في الأقوام.

(8)

رأي الدكتور في مستقبل المسلمين - الذي أطال في بيانه - هو أنهم

يكونون مثل اليهود في زوال الملك والرضا بحكم الأوربيين وسيادتهم، مع

المحافظة على شعور دينهم وبعض تقاليده مثلهم، ومجاراة الإفرنج في سائر الشؤون

وإن كان فيها ترك أحكام الإسلام وآدابه. واستدل على ذلك بتحول أفكار المسلمين

عن الرضا بالتربية الدينية القديمة إلى لغات الأوربيين وعلومهم وتربيتهم.

(9)

يرى هذا الدكتور الهولندي ما يراه الفرنسيّون وغيرهم أن ما يراد

إدخاله على الإسلام من الآراء والأفكار التي يريدها دعاة النصرانية يجب أن يبث

في المسلمين باسم المدنية لا باسم الدين، فحينئذٍ تقبل. وهذا ما تجري عليه فرنسا

في مستعمراتهم الإسلامية؛ يعني أن المسلمين قد فتنوا باسم المدنية الأوربية

ومظاهرها، فهم يقبلون من بابها كل شيء - وإن لم يوصل إليها - لا يميّزون بين

كفرٍ وإيمانٍ، ولا بين ضارٍّ ونافعٍ. وأمّا ثقتهم بدينهم ورؤيتهم دين النصرانية دونه

فهما مما يحول دون قبولهم لشيء ما من دعاة النصرانية باسم النصرانية.

(10)

ملخص المحاضرة: إن أوربة أزالت استقلال الإسلام السياسي

وانتزعت ملك المسلمين من أيديهم بالتدريج، وإنها شرعت في إزالة سائر مقوماتهم

ومشخصاتهم القومية التي كانوا بها أمة واحدة، دينية وغير دينية، حتى اللغات

والعادات وأركان الدين، وإن أهل الرأي فيها مختلفون في دين الإسلام نفسه: هل

يمكن إزالته من الأرض بعد إسقاط الحكومات الإسلامية كلها أم لا؟ فبعضهم يرون

إمكان ذلك فيبذلون الملايين لدعاة النصرانية لتنصير المسلمين. وبعضهم يرى

الإسلام لا يزول بالمرّة، ولكن ينبغي أن تزال ثقة المسلمين به، وأن يحولوا باسم

المدنية عن جميع ما يربط بعضهم ببعض حتى اللباس، فبهذا يكونون فَعَلَة وزَرّاعًا

للسادة المالكين لبلادهم، إذ لا يستغنون عنهم في استخراج خيرات الأرض، وهذا

ما يسعى إليه قوم آخرون.

ومن العجائب أن محاضرة كهذه تترجمها جريدة سورية بالعربية، وتجعل

عنوانها: (مقاومة الإسلام لنفوذ النصرانية) كأنه كَبُرَ عليها قول الخطيب: إن

المبشرين لا يستطيعون تنصير المسلمين، فعدّت هذا من مقاومة الإسلام للنصرانية،

وهكذا تقول بعض الجرائد القبطية هنا إذا قابل بعض المسلمين طعن المبشرين

بجزء من ألف جزء. فمتى يفهم المسلمون ومتى يعقلون؟

(11)

نحن نسلم قول الكاتب وفاقًا لكثير من أحرار الإفرنج: إن أوربة قد

أزالت استقلال الإسلام السياسي، ولا يصدنا عن هذا التسليم إبقاء أو بقاء خيال من

الاستقلال ضعيف في بعض البلاد، يدير بعضه النفوذ الأوربي ظاهرًا وباطنًا أو

باطنًا فقط، ولا وجود بعض الإمارات الصغيرة غير المنظمة التي يدور حولها

النفوذ الأوربي ولا يجد له الآن منفذًا للدخول في أحشائها؛ كقلب جزيرة العرب، ولو

كان عدد العقلاء الذين يفهمون هذه الحقيقة ولا يغترّون بخيال الاستقلال الرسمي أو

ظلاله مثلنا كثيرًا، لكان نهوض الإسلام من سقوطه السياسي والديني قريبًا، ولكن

جمهور المسلمين الأكبر كالأطفال الذين يظنون أن الصور المتحركة التي يرونها في

الملاعب تمثل الملوك والجيوش والوقائع - هي من الأحياء التي تتحرك وتعمل

بإرادتها.

ولو عرف الدكتور الحاذق النبه حقيقة الإسلام كما عرف أحوال المسلمين

الاجتماعية، ولو دقق نظره بعد ذلك في شؤون المسلمين فضل تدقيق، وقاس

حاضرهم الذي عرفه بماضيهم القريب المظلم وماضيهم البعيد المشرق - لَعلِم أن في

الإسلام قوةً كامنةً لم يكن لليهود مثلها ولا ما يقرب منها عندما زال ملكهم، ولا قبل

ذلك ولا بعده. ولَعلِم أن هذه القوة لو وجدت مَن يحسن استخدامها والانتفاع بها

لأمكنه أن يملك بها الشرق كله، أو يكون سيّده الأول؛ ولكن من سوء حظ الشرق

لم يوجد في هذه القرون الأخيرة عقل نيّر أدرك هذا بقوة أشعته ولا همة عالية

أرادت أن تتصدى له، إلا عقل نابليون الكبير وهمته ولكن حالت الأقدار بينه وبينه.

ولو عقل الدكتور السياسي هذا وخبره لأقنع دولته بأن تكون هي الدولة التي

تسود الشرق بالمسلمين، ولو أقنعها لأمكنها ذلك؛ وإن كان مسلمو بلادها أضعف مِن

غيرهم في قوتي العلم والعمل وفي المجد التالد والطارف. أَمَا لو فطن لمثل هذا

العمل فرنسة أو إنكلترا لكانت كل منهما أقدر عليه من غيرها.

فإذا ظلت هذه الدول تملك عشرات الملايين من المسلمين، محجوبة عن

الحقيقة بما ضربه التاريخ دونه من حجب السياسة والدين، فليس من البعيد أن

تفطن له دولة اليابان، إن صح ما يظنه الأوربيون من أنهم قطعوا طرق الحياة كلها

على هذه البقايا من دول الإسلام.

وأما الإسلام الديني فهو لا يزداد إلا قوة وجدة مهما حل بالإسلام بالسياسي،

وقد حفظ الدكتور منه شيئًا وغاب عنه أشياء: فإن كان بعض المتفرنجين قد تركوا

الصلاة والصيام، ويظن هو - كما يظنون - أن الجماهير سيتبعونهم في هذا

الضلال افتتانًا بزخرف الشهوات المدنية، وما تعبث بعقولهم الآراء الأوربية، فليعلم

أن عدد المصلين يزيد ولا ينقص، وأن هؤلاء المتفرنجين المفتونين سيرجع بعضهم

إلى الهدى، وينبذ المسلمون البعض الآخر نبذ النوى، وأن الإسلام دين المستقبل:

{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ

بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (فصلت: 53) .

_________

ص: 268

الكاتب: أبو إسحاق الشاطبي

‌الباطنية وغلاة المتصوفة..

بدعهم وتأويلاتهم

من فصول كتاب الاعتصام

للإمام الشاطبي

فصل

(ومنها) بناء طائفة منهم الظواهر الشرعية على تأويلات لا تعقل - يدّعون

فيها أنها هي المقصود والمراد، لا ما يفهم العربي - مسندة عندهم إلى أصل لا

يعقل. وذلك أنهم - فيما ذكر العلماء - قوم أرادوا إبطال الشريعة جملةً وتفصيلاً،

وإلقاء ذلك فيما بين الناس لينحل الدين في أيديهم، فلم يمكنهم إلقاء ذلك صراحًا،

فيرد ذلك في وجوههم، وتمتد إليهم أيدي الحكام، فصرفوا أعناقهم إلى التحلل على ما

قصدوا بأنواع من الحيل، من جملتها صرف الهمم من الظواهر إحالةً على أن لها

بواطن هي المقصودة، وأن الظواهر غير مرادة. فقالوا: كل ما ورد في الشرع من

الظواهر في التكاليف والحشر والنشر والأمور الإلهية فهي أمثلة رموز إلي بواطن.

فمما زعموا في الشرعيات: أن الجنابة مبادرة الداعي للمستجيب بإفشاء سرٍّ

إليه قبل أن ينال رتبة الاستحقاق، ومعنى الغسل: تجديد العهد على من فعل ذلك،

ومعنى مجامعة البهيمة: مقابحة من لا عهد له ولم يؤد شيئًا من صدقة

النجوى؛ وهي مائة وتسعة عشر درهمًا عندهم. قالوا: فلذلك أوجب الشرع القتل

على الفاعل والمفعول به، وإلا فالبهيمة متى يجب القتل عليها؟

والاحتلام: أن يسبق لسانه إلى إفشاء السرّ في غير محله؛ فعليه الغسل، أي

تجديد المعاهدة. والطهر: هو التبري من اعتقاد كل مذهب سوى متابعة الإمام.

والتيمم الأخذ من المأذون إلى أن يسعد بمشاهدة الداعي والإمام. والصيام: هو

الإمساك عن كشف السر.

ولهم من هذا الإفك كثير في الأمور الإلهية وأمور التكليف وأمور الآخرة، وكله

حَوْم على إبطال الشريعة جملة وتفصيلاً، إذ هم ثنوية ودهرية وإباحية

منكرون للنبوة والشرائع والحشر والنشر والجنة والنار والملائكة بل هم منكرون

للربوبية. وهم المسمون بـ الباطنية [1] .

وربما تمسكوا بالحروف والأعداد: بأن الثقب في رأس الآدمي سبع، والكواكب

السيارة سبع، وأيام الأسبوع سبع، فهذا يدل على أن دور الأئمة سبعة، وبه يتمّ.

وأن الطبائع أربع، وفصول السنة أربع، فدل على أن أصول الأربعة هي السابق

والتالي الإلهان - عندهم - والناطق والأساس - وهما الإمامان. والبروج اثنا

عشر، يدل على أن الحجج اثنا عشر، وهم الدعاة. إلى أنواع من هذا القبيل،

وجميعها ليس فيه ما يقابل بالرد، لأن كل طائفة من المبتدعة سوى هؤلاء، ربما

يتمسكون بشبهة تحتاج إلى النظر فيها معهم. أما هؤلاء فقد خلعوا في الهذيان الربقة،

وصاروا عرضة لِلَّمْزِ، وضحكة للعالمين. وإنما ينسبون هذه الأباطيل إلى الإمام

المعصوم الذي زعموه، وإبطال الأئمة معلوم في كتب المتكلمين ولكن لا بدّ من نكتة

مختصرة في الرد عليه.

فلا يخلو أن يكون ذلك عندهم ما من جهة دعوى بالضرورة وهو محال؛ لأن

الضروري هو ما يشترك فيه العقلاء علمًا وإدراكًا، وهذا ليس كذلك.

أمّا من جهة الإمام المعصوم بسماعهم منه لتلك التأويلات. فنقول لِمَن زعم

ذلك: ما الذي دعاك إلى تصديق محمد صلى الله عليه وسلم سوى المعجزة؟

وليس لإمامك معجزة، فالقرآن يدل على أن المراد ظاهره، لا ما زعمت، فإن قال:

ظاهر القرآن رموز إلى بواطن فهمها الإمام المعصوم ولم يفهمها الناس فتعلمناها

منه. قيل لهم: مِن أي جهة تعلمتموها منه؟ أبمشاهدة قلبه بالعين؟ أو بسماع منه؟

ولا بد من الاستناد إلى السماع بالأذن. فيقال: فلعلّ لفظه ظاهر له باطن لم

تفهمه، ولم يُطْلِعْكَ عليه، فلا يوثق بما فهمت من ظاهر لفظه، فإن قال: صرّح

بالمعنى، وقال: ما ذكرته ظاهر لا رمز فيه، أو: والمراد ظاهره. قيل له:

وبماذا عرفت قوله إنه ظاهر لا رمز فيه؛ بل إنه كما قال؟ إذ يمكن أن يكون له

باطن لم تفهمه أيضًا حتى لو حلف بالطلاق الظاهر أنه لم يقصد إلا الظاهر؛

لاحتمل أن يكون في طلاقه رمز هو باطنه وليس مقتضى الظاهر، فإن قال: ذلك

يؤدي إلى حسم باب التفهيم - قيل له: فأنتم حسمتموه بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه

وسلم، فإن القرآن دائر على تقرير الوحدانية، والجنة والنار، والحشر والنشر،

والأنبياء، والوحي، والملائكة، مؤكدًا ذلك كله بالقسم. وأنتم تقولون: إن ظاهره

غير مراد وأن تحته رمزًا. فإن جاز ذلك عندكم بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم

لمصلحة وسرّ له في الرمز - جاز بالنسبة إلى معصومكم أن يظهر لكم

خلاف ما يضمره لمصلحة وسرّ له فيه، وهذا لا محيص لهم عنه.

قال أبو حامد الغزالي رحمه الله: ينبغي أن يعرف الإنسان أن رتبة هذه

الفرقة هي أخس من رتبة كل فرقة من فرق الضلال؛ إذ لا تجد فرقة تنقض مذهبها

بنفس المذهب سوى هذه التي هي الباطنية؛ إذ مذهبها إبطال النظر، وتغيير

الألفاظ عن موضعها بدعوى الرمز. وكل ما يتصوّر أن تنطق به ألسنتهم فإما نظر

أو نقل. أمّا النظر فقد أبطلوه، وأمّا النقل فقد جوّزوا أن يراد باللفظ غير موضوعه،

فلا يبقى لهم معتصم. والتوفيق بيد الله.

وذكر ابن العربي في العواصم مأخذاً آخر في الردّ عليهم أسهل من هذا وقال:

إنهم لا قِبَل لهم به - وهو أن يسلط عليهم في كل ما يدعونه السؤال (بكم) خاصة،

فكل مَن وجهت عليه منهم سقط في يده. وحكى في ذلك حكاية ظريفة يحسن موقعها

هاهنا، وتصور المذهب كافٍ في ظهور بطلانِه، إلا أنه مع ظهور فسادِه وبُعده

عن الشرع قد اعتمده طوائف وبنوا عليه بدعًا فاحشةً، منها مذهب المهدي المغربي؛

فإنه عدّ نفسه الإمام المنتظر، وإنه معصوم حتى إن مَن شك في عصمته أو في أنه

المهدي المنتظر فهو كافر.

وقد زعم ذَووه أنه ألف في الإمامة كتابًا ذكر فيه أن الله استخلف آدم ونوحًا

وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدًا عليهم السلام، وإن مدة الخلافة ثلاثون سنة،

وبعد ذلك فرق وأهواء وشحٌّ مطاع، وهوًى متّبع، وإعجاب كل ذي رأيٍ برأيه،

فلم يزل الأمر على ذلك، والباطل ظاهر والحق كامن، والعلم مرفوع - كما أخبر

عليه الصلاة والسلام والجهل ظاهر، ولم يبقَ من الدين إلا اسمه، ولا من القرآن

إلا رسمه، حتى جاء الله بالإمام فأعاد الله به الدين - كما قال عليه الصلاة والسلام:

(بدئ الدين غريبًا وسيعود غريبًا كما بدئ فطوبى للغرباء)، وقال: إن طائفته هم

الغرباء، زعمًا من غير برهانٍ زائد على الدعوى. وقال في ذلك الكتاب: جاء الله

بالهدى، وطاعته صافية نقية، لم يرَ مثلها قبل ولا بعد، وإن به قامت السموات،

والأرض به تقوم، ولا ضدّ له، ولا مِثل، ولا نِدّ. وكَذَبَ، تعالى الله عن قوله.

وهذا كما نزّل أحاديث الترمذي وأبي داود في الفاطمي على نفسه وأنه هو

بلا شك.

وأول إظهاره لذلك أنه قام في أصحابه خطيبًا فقال: الحمد لله الفعال لما يريد،

القاضي لما يشاء، لا رادّ لأمره، ولا معقّب لحكمه، وصلى الله على النبي

المبشر بالمهدي، يملأ الأرض قسطًا وعدلاً، كما مُلئت ظلمًا وجورًا، يبعثه الله إذا

نُسخ الحق بالباطل، وأُزيل العدل بالجور، مكانه بالمغرب الأقصى، وزمانه آخر

الزمان، واسمه اسم النبي عليه الصلاة والسلام، ونسبه نسب النبي عليه الصلاة

والسلام، وقد ظهر جور الأمراء، وامتلأت الأرض بالفساد، وهذا آخر الزمان،

والاسم الاسم والنسب النسب والفعل الفعل. يشير إلى ما جاء في أحاديث الفاطمي.

فلما فرغ بادَر إليه من أصحابه عشرة. فقالوا: هذه الصفة لا توجد إلا فيك،

فأنت المهدي. فبايعوه على ذلك. وأحدث في دين الله أحداثًا كثيرة زيادة إلى

الإقرار بأنه المهدي المعلوم، والتخصيص بالعصمة. ثُم وضع ذلك في الخطب،

وضرب في السكك، بل كانت تلك الكلمة عندهم ثالثة الشهادة. فمَن لم يؤمن بها أو

شكّ فيها، فهو كافر كسائر الكفار.

وشرع القتل في مواضع لم يضعه الشرع فيها. وهي نحو من ثمانية عشر

موضعًا. كترك امتثال أمر مَن يستمع أمره، وترك حضور مواعظه ثلاث مرّات،

والمداهنة إذا ظهرت في أحد قتل، وأشياء كثيرة.

وكان مذهبه البدعة الظاهرية، ومع ذلك فابتدع أشياء، كوجوه من التثويب؛

إذ كانوا ينادون عند الصلاة (بتاصاليت الإسلام) و (بقيام تا صاليت)

و (سوردين) و (باردي) و (وأصبح ولله الحمد) وغيره. فجرى العمل بجميعها في

زمان الموحدين. وبقي أكثرها بعدما انقرضت دولتهم حتى إني أدركت بنفسي في

جامع غِرْنَاطة الأعظم الرضا عن الإمام المعصوم (المهدي المعلوم) ، إلى أن

أزيلت وبقيت أشياء كثيرة غفل عنها أو أغفلت.

وقد كان السلطان أبو العلاء إدريس بن يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن بن

علي - منهم. ظهر له قبح ما هم عليه من هذه الابتداعات. فأمر - حين استقرّ

بمراكش - خليفته بإزالة جميع ما ابتدع من قبله، وكتب بذلك رسالة إلى الأقطار يأمر

فيها بتغيير تلك السنة، ويوصي بتقوى الله والاستعانة به، والتوكل عليه، وأنه قد

نبذ الباطل وأظهر الحق، وأن لا مهدي إلا عيسى، وأن ما ادعوه أنه المهدي بدعة

أزالها، وأسقط اسم من لا تثبت عصمته.

وذكر أن أباه المنصور همّ بأن يصدع بما به صدع ، وأن يرفع الحرف الذي

رفع، فلم يساعده الأجل لذلك. ثُم لمّا مات واستخلف ابنه أبو محمد عبد الواحد

الملقب بالرشيد، وفد إليه جماعة من أهل ذلك المذهب المتسمين بالموحدين، ففتلوا

منه في الذروة والغارب، وضمنوا على أنفسهم الدخول تحت طاعته، والوقوف

على قدم الخدمة بين يديه، والمدافعة عنه بما استطاعوا، لكن على شرط ذكر

المهدي وتخصيصه بالعصمة في الخطبة والمخاطبات، ونقش اسمه الخاص في

السكك، وإعادة الدعاء بعد الصلاة، والنداء عليها (بتاصاليت الإسلام) عند كمال

الآذان و (بتقام تاصاليت) ؛ وهي إقامة الصلاة، وما أشبه ذلك من (سودرين)

و (وقادري) و (أصبح ولله الحمد) وغير ذلك.

وقد كان الرشيد استمرّ على العمل بما رسم أبوه من ترك ذلك كله، فلمّا انتدب

الموحدون إلى الطاعة اشترطوا إعادته ما ترك، فأسعفوا فيه. فلما احتلوا منازلهم

أيامًا ولم يعد شيء من تلك العوائد، ساءت ظنونهم، وتوقعوا انقطاع ما هو عمدتهم

في دينهم، وبلغ ذلك الرشيد، فجدد تأنيسهم بإعادتها.

قال المؤرخ: فيا للهِ! ماذا بلغ من سرورهم وما كانوا فيه من الارتياح لسماع

تلك الأمور، وانطلقت ألسنتهم بالدعاء لخليفتهم بالنصر والتأييد، وشملت الأفراح

فيهم الكبير والصغير. وهذا شأن صاحب البدعة، فلن يسرّ بأعظم من انتشار

بدعته وإظهارها؛ {وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} (المائدة:

41) ، وهذا كله دائر على القول بالإمامة والعصمة الذي هو رأي الشيعة.

***

فصل

(ومنها) رأي قوم التغالي في تعظيم شيوخهم، حتى ألحقوهم بما لا

يستحقونه، فالمقتصد منهم يزعم أنه لا ولي لله أعظم من فلان، وربما أغلقوا باب

الولاية دون سائر الأمة إلا هذا المذكور. وهو باطل محض، وبدعة فاحشة، لأنه

لا يمكن أن يبلغ المتأخرون أبدًا مبالغ المتقدمين. فخير القرون الذين رأوا رسول

الله صلى الله عليه وسلم، وآمنوا به، ثُم الذين يلونهم، وهكذا يكون الأمر أبدًا إلى

قيام الساعة. فأقوى ما كان أهل الإسلام في دينهم وأعمالهم ويقينهم وأحوالهم في

أول الإسلام، ثُم لا زال ينقص شيئًا فشيئًا إلى آخر الدنيا. لكن لا يذهب الحق

جملة؛ بل لا بد من طائفةٍ تقوم به وتعتقده، وتعمل بمقتضاه على حسبهم في إيمانهم،

لا ما كان عليه الأولون مِن كل وجه، لأنه لو أنفق أَحد من المتأخرين وزن أُحد

ذهبًا ما بلغ مُدّ أَحَد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نَصِيفه. فخير

القرون: الذين رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمنوا به، ثم الذين يلونهم،

وهكذا يكون الأمر أبدًا إلى قيام الساعة، فأقوى ما كان أهل الإسلام في دينهم

وأعمالهم ويقينهم وأحوالهم في أول الإسلام. ثم لا زال ينقض شيئًا فشيئًا إلى آخر

الدنيا.

وإذا كان ذلك في المال فكذلك في سائر شعب الإيمان، بشهادة التجربة العادية.

ولمّا تقدّم أول الكتاب أنه لا يزال الدين في نقص فهو أصليٌّ لا شك فيه.

وهو عند أهل السنة والجماعة. فكيف يعتقد بعد ذلك في أنه ولي أهل الأرض؟

وليس في الأمة ولي غيره؟ لكن الجهل الغالب، والغلو في التعظيم، والتعصب

للنِّحَل، يؤدي إلى مثله أو أعظم منه.

والمتوسط يزعم أنه مساوٍ للنبي صلى الله عليه وسلم، إلا أنه لا يأتيه الوحي؛

بلغني هذا عن طائفة من الغالين في شيخهم، الحاملين لطريقتهم في زعمهم، نظير

ما ادّعاه بعض تلامذة الحلاّج في شيخهم على الاقتصاد منهم فيه، والغالي [2] يزعم

فيه أشنع مِن هذا، كما ادّعى أصحاب الحلاّج في الحلاّج.

وقد حدّثني بعض الشيوخ أهل العدالة والصدق في النقل أنه قال: أقمت زمانًا

في بعض القرى البادية، وفيها مِن هذه الطائفة المشار إليها كثير، قال: فخرجت

يومًا مِن منزلي لبعضِ شأني فرأيت رجلين منهم قاعدين، فاتهمت أنهما يتحدثان في

بعض فروع طريقتهم، فقربت منهما على استخفاء لأسمع مِن كلامهم - إذ من

شأنهم الاستخفاء بأسرارهم - فتحدثا في شيخهم وعِظَم منزلته، وأنه لا أحد في

الدنيا مثله، وطَرِبَا لهذه المقابلة طَرَبًا عظيمًا، ثُم قال أحدهما للآخر: أتحب الحق؟ -

هو النبي - قال: نعم هذا هو الحق. قال المخبر: فقمت مِن ذلك المكان فارًّا أن

يصيبني معهم قارعة.

وهذا نمط الشيعة الإمامية. ولولا الغلو في الدين والتكالب على نصر المذهب،

والتهالك في محبة المبتدع، لَمَا وسع ذلك عقل أحد، ولكن النبي - صلى الله

عليه وسلم - قال: (لتتبعن سنن مَن كان قبلكم شبرًا بشبرٍ وذراعًا بذراعٍ) الحديث.

فهؤلاء غلوا كما غلت النصارى في عيسى عليه السلام؛ حيث قالوا: إن الله هو

المسيح، فقال الله تعالى: {يَا أَهْلَ الكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا

أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ} (المائدة:

77) وفي الحديث: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، ولكن

قولوا: عبد الله ورسوله) .

ومَن تأمّل هذه الأصناف وجد لها مِن البدع في فروع الشريعة كثيرًا لأنّ

البدعة إذا دخلت في الأصل سهلت مداخلتها الفروع.

***

فصل

وأضعف هؤلاء احتجاجًا: قوم استندوا في أخذ الأعمال إلى المقامات، وأقبلوا

وأعرضوا بسببها، فيقولون: رأينا فلانًا الرجل الصالح فقال لنا: اتركوا كذا

واعملوا كذا. ويتفق مثل هذا كثيرًا للمتمرسين [3] برسم التصوّف، وربّما قال

بعضهم: رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم في النوم، فقال لي كذا وأمرني

بكذا، فيعمل بها ويترك بها معرضًا عن الحدود الموضوعة في الشريعة، وهو خطأ:

لأن الرؤيا من غير الأنبياء لا يحكم بها شرعًا على حال إلا أن تعرض على ما

في أيدينا من الأحكام الشرعية فإن سوغتها عُمِل بمقتضاها، وإلا وجب تركُها

والإعراض عنها، وإنما فائدتها البشارة أو النذارة خاصة، وأمّا استفادة الأحكام فلا.

كما يحكى عن الكتاني رحمه الله قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في

المنام، فقلت: ادع الله أن لا يميت قلبي. فقال: (قل كل يوم أربعين: مرة يا حيّ

يا قيّوم، لا إله إلا أنت) ، فهذا كلام حسن لا إشكال في صحته، وكون الذكر يحيي

القلب صحيح شرعًا. وفائدة الرؤيا التنبيه على الخير، وهو مِن ناحية البشارة.

وإنما يبقى الكلام في التحديد بالأربعين، وإذا لم يوجد على اللزوم استقام.

وعن أبي يزيد البسطامي رحمه الله قال: رأيت ربي في المنام، فقلت:

كيف الطريق إليك؟ فقال: اترك نفسك وتعالَ. وشأن هذا الكلام من الشرع موجود،

فالعمل بمقتضاه صحيح؛ لأنه كالتنبيه لموضع الدليل؛ لأن ترك النفس معناه ترك

هواها بإطلاق، والوقف على قدم العبودية.

والآيات تدلّ على هذا المعنى، كقوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ

وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى * فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأْوَى} (النازعات: 40-41) ، وما

أشبه ذلك. فلو رأى في النوم قائلاً يقول: إن فلانًا سرق فاقطعه، أو عالم فاسأله،

أو اعمل بما يقول لك، أو فلان زنى فحدَّه، وما أشبه ذلك، لم يصح له العمل حتى

يقوم له الشاهد في اليقظة، وإلا كان عاملاً بغير شريعةٍ، إذ ليس بعد رسول الله -

صلى الله عليه وسلم وحيٌ.

ولا يقال: إن الرؤيا من أجزاء النبوة فلا ينبغي أن تهمل. وأيضًا إن

المخبِر في المنام قد يكون النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قد قال: (مَن رآني في

النوم فقد رآني حقًّا، فإن الشيطان لا يتمثل بي) ، وإذا كان

فإخباره في النوم

كإخباره في اليقظة؛ لأنّا نقول: إن كانت الرؤيا مِن أجزاء النبوة فليست إلينا من

كمال الوحي؛ بل جزء من أجزائه، والجزء لا يقوم مقام الكل في جميع الوجوه؛

بل إنما يقوم مقامه في بعض الوجوه، وقد صرفت إلى جهة البشارة والنذارة، وفيها

كاف [4] .

وأيضًا فإن الرؤيا التي هي جزء مِن أجزاء النبوة مِن شرطها أن تكون

صالحة من الرجل الصالح، وحصول الشروط مما ينظر فيه، فقد تتوفر، وقد لا

تتوفر.

وأيضًا فهي منقسمة إلى الحلم، وهو من الشيطان، وإلى حديث النفس، وقد

تكون سبب هيجان بعض أخلاط، فمتى تتعين الصالحة حتى يحكم بها وتترك غير

الصالحة؟

ويلزم أيضًا على ذلك أن يكون تجديد وحي بحكم بعد النبي صلى الله عليه

وسلم، وهو منهي عنه بالإجماع.

يحكى أن شريك بن عبد الله القاضي دخل على المهدي، فلما رآه قال: عليَّ

بالسيف والنطع. قال: ولِمَ يا أمير المؤمنين؟ قال: رأيت في منامي كأنك تطأ

بساطي وأنت معرض عني فقصصت رؤياي على مَن عَبَرَها، فقال لي: يظهر لك

طاعة ويضمر معصية، فقال له شريك: واللهِ ما رؤياك برؤيا إبراهيم الخليل عليه

السلام، ولا معبرك بيوسف الصديق عليه السلام، فبالأحلام الكاذبة تضرب أعناق

المؤمنين؟ فاستحيى المهدي، وقال: اخرج عني. ثُم صرفه وأبعده.

وحكى الغزالي عن بعض الأئمة أنه أفتى بوجوب قتل رجل يقول بخلق

القرآن، فروجع فيه، فاستدل بأن رجلاً رأى في منامه إبليس قد اجتاز بباب المدينة

ولَمْ يدخلها فقيل: هل دخلتها؟ فقال: أغناني عن دخولها رجل يقول بخلق القرآن،

فقام ذلك الرجل فقال: لو أفتى إبليس بوجوب قتلي في اليقظة هل تقلدونه في

فتواه؟ فقالوا: لا، فقال: قوله في المنام لا يزيد على قوله في اليقظة.

وأمّا الرؤيا التي يخبر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم الرائي بالحكم فلا

بد من النظر فيها أيضًا، لأنه إذا أخبر بحكم موافق لشريعته، فالحكم بما استقرّ،

وإن أخبر بمخالفٍ، فمحال، لأنه صلى الله عليه وسلم لا ينسخ بعد موته شريعته

المستقرة في حياته، لأن الدين لا يتوقف استقراره بعد موته على حصول المَرَائي

النومية، لأن ذلك باطل بالإجماع، فمَن رأى شيئًا مِن ذلك فلا عمل عليه، وعند

ذلك نقول: إن رؤياه غير صحيحة. إذ لو رآه حقًّا لم يخبره بما يخالف الشرع.

لكن يبقى النظر في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (من رآني في النوم

فقد رآني) ، وفيه تأويلان:

أحدهما: ما ذكره ابن رشد إذ سئل عن حاكم شهد عنده عدلان مشهوران بالعدالة

في قضية، فلمّا نام الحاكم ذكر أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: ما

تحكم بهذه الشهادة؟ فإنها باطلة. فأجاب بأنه لا يحل له أن يترك العمل بتلك

الشهادة، لأن ذلك إبطال لأحكام الشريعة بالرؤيا، وذلك باطل لا يصح أن يعتقد،

إذ لا يعلم الغيب من ناحيتها إلا الأنبياء الذين رؤياهم وحيٌ، ومَن سواهم إنّما

رؤياهم جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة.

ثم قال: وليس معنى قوله: (مَن رآني فقد رآني حقًّا) ، إن كل مَن رأى في

منامه أنه رآه فقد رآه حقيقةً. بدليل أن الرائي قد يراه مرّات على صورٍ مختلفة،

ويراه الرائي على صفةٍ، وغيره على صفةٍ أخرى ولا يجوز أن تختلف صور

النبي صلى الله عليه ولا صفاته. وإنّما معنى الحديث: مَن رآني على صورتي

التي خلقت عليها. فقد رآني، إذ لا يتمثل الشيطان بي؛ إذ لم يقل: مَن رأى أنه

رآني، فقد رآني.

وإنّما قال: مَن رآني فقد رآني وإني لهذا الرائي الذي أرى أنه رآه على

صورته أنه رآه عليها؟ وإن ظن أنه رآه، ما لم يعلم أن تلك الصورة صورته

بعينها، وهذا ما لا طريق لأحدٍ إلى معرفته.

فهذا ما نُقل عن ابنِ رشد. وحاصله يرجع إلى أنّ المرئي قد يكون غير النبي

صلى الله عليه وسلم، إن اعتقد الرائي أنه هو.

والتأويل الثاني: يقوله علماء التعبير: إن الشيطان قد يأتي النائم في صورةٍ ما

مِن معارف الرائي وغيرهم، فيشير له إلى رجلٍ آخر: هذا فلان النبي، وهذا

الملك الفلاني؛ أو من أشبه هؤلاء مِمّن لا يتمثل الشيطان به فيوقع اللبس على

الرائي بذلك وله علامة عندهم، وإذا كان كذلك أمكن أن يكلّمه المشار إليه بالأمر

والنهي غير الموافقين للشرع، فيظن الرائي أنه مِن قِبَل النبي صلى الله عليه وسلم،

ولا يكون كذلك، فلا يوثق بما يقول له أو يأمر أو ينهى.

وما أحرى [5] هذا الضرب أن يكون الأمر أو النهي فيه مخالفًا لكمال الأول،

حقيقٌ بأن يكون فيه موافقًا، وعند ذلك لا يبقى في المسألة إشكال، نعم لا يحكم

بمجرد الرؤيا حتى يعرضها على العلم، لإمكان اختلاط أحد القسمين بالآخر، وعلى

الجملة فلا يستدل بالرؤيا في الأحكام إلا ضعيف المنّة. نعم يأتي المرئيَّ تأنيسًا

وبشارةً ونذارةً خاصة، بحيث لا يقطعون بمقتضاها حكمًا، ولا يبنون عليها أصلاً،

وهو الاعتدال في أخذه، حسبما فُهِمَ مِن الشرع فيها، والله أعلم.

***

فصل

وقد رأينا أن نختم الكلام في الباب بفصل جمع جملةً من الاستدلالات المتقدمة،

وغيرها في معناها، وفيه من نكت هذا الكتاب جملة أخرى، فهو مِمَّا يُحتاج إليه

بحسب الوقت والحال، وإن كان فيه طول ولكنه يخدم ما نحن فيه إن شاء الله تعالى.

وذلك أنه وقع السؤال عن قوم يتسمون بالفقراء، يزعمون أنهم سلكوا طريق

الصوفية، فيجتمعون في بعض الليالي ويأخذون في الذكر الجهوري على صوت

واحدة، ثم في الغناء والرقص، إلى آخر الليل، ويحضر معهم بعض المتسمين

بالفقهاء، يترسمون برسم الشيوخ الهداة إلى سلوك ذلك الطريق: هل هذا العلم

صحيح في الشرع أم لا؟

فوقع الجواب بأن ذلك كله من البدع المحدثات، المخالفة طريقة رسول الله

صلى الله عليه وسلم، وطريقة أصحابه والتابعين لهم بإحسان، فنفع الله بذلك مَن

شاء مِن خلقه.

ثُم إن الجواب وصل إلى بعض البلدان، فقامت القيامة على العاملين بتلك

البدع، وخافوا اندراس طريقتهم، وانقطاع أكلهم بها، فأرادوا الانتصار لأنفسهم،

بعد أن راموا ذلك بالانتساب إلى شيوخ الصوفية الذين ثبتت فضيلتهم، واشتهرت

في الانقطاع إلى الله، والعمل بالسنة طريقتهم، فلم يستقرّ لهم الاستدلال؛ لكونهم

على ضدّ ما كان عليه القوم، في الأخلاق والأفعال، وأكل الحلال، وإخلاص النية

في جميع الأعمال، وهؤلاء قد خالفوهم في هذه الأصول، فلا يمكنهم الدخول تحت

ترجمتهم.

وكان مِن قدَر الله أن بعض الناس سأل بعض شيوخ الوقت في مسألة تشبه

هذه، لكن حسّن ظاهرها بحيث يكاد باطنها يخفى على غير المتأمل. فأجاب عفا

الله عنه على مقتضى ظاهرها من غير تعرّض إلى ما هم عليه من البدع

والضلالات، ولمّا سمع بعضهم بهذا الجواب أرسل به إلى بلدةٍ أخرى، فأتى به

فرحل إلى غير بلده، وشهر في شيعته أن بيده حجة لطريقتهم تقهر كل حجة، وأنه

طالب للمناظرة فيها، فدعي لذلك فلمْ يقم فيه ولا قعد؛ غير أنه قال: (إن هذه

حُجتي) وألقى بالبطاقة التي بخط المجيب، وكان هو ومجيبه [6] وأشياعه يطيرون

بها فرحًا، فوصلت المسألة إلى غرناطة، وطلب من الجميع النظر فيها. فلم يسع

أحد له قوة على النظر فيها الأول [7] أن يظهر وجه الصواب فيها الذي يدان الله به

لأنه من النصيحة التي هي الدين القويم والصراط المستقيم.

ونص خلاصة السؤال: ما يقول الشيخ فلان في جماعة من المسلمين

يجتمعون في رباط على ضفة البحر في الليالي الفاضلة، يقرؤون جزءًا من القرآن،

ويستمعون من كتب الوعظ والرقائق ما أمكن في الوقت، ويذكرون الله بأنواع

التهليل والتسبيح والتقديس، ثم يقوم من بينهم قوّال يذكر شيئًا في مدح النبي صلى

الله عليه وسلم، ويلقي من السماع ما تتوق النفس إليه وتشتاق سماعه من صفات

الصالحين، وذكر آلاء الله ونعمائه، ويشوّقهم بذكر المنازل الحجازية، والمعاهد

النبوية فيتواجدون اشتياقًا لذلك، ثم يأكلون ما حضر مِن الطعام، ويحمدون الله

تعالى، ويرددون الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ويبتهلون بالأدعية إلى

الله في صلاح أمورهم، ويدعون للمسلمين ولإمامهم ويفترقون.

فهل يجوز اجتماعهم على ما ذكر؟ أم يمنعون وينكر عليهم؟ ومن دعاهم من

المحبين إلى منزله بقصد التبرك، هل يجيبون دعوته ويجتمعون على الوجه

المذكور أم لا؟

فأجاب بما محصوله: مجالس تلاوة القرآن وذكر الله هي أيضًا الجنة. ثُم أتى

بالشواهد على طلب ذكر الله. وأمّا الإنشادات الشعرية. فإنما الشعر كلام حسنه

حسن وقبيحه قبيح، وفي القرآن في شعراء الإسلام: {إلَاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا

الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً} (الشعراء: 227) ، وذلك أن حسان بن ثابت

وعبد الله بن رواحه وكعبًا لمّا سمعوا قوله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الغَاوُونَ} (الشعراء: 224) ، الآيات بكوا عند سماعهما فنزل الاستثناء، وقد أُنشد الشعر بين

يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورقت نفسه الكريمة وذرفت عيناه لأبيات

أخت النضر، لِمَا طبع عليه من الرأفة والرحمة.

وأما التواجد عند السماع، فهو في الأصل رقة النفس واضطراب القلب،

فيتأثر الظاهر بتأثر الباطن، قال الله تعالى:{الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} (الأنفال: 2) ، أي اضطربت رَغَبًا أو رَهَبًا، وعن اضطراب القلب يحصل

اضطراب الجسم، قال الله تعالى:{لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً} (الكهف: 18)، الآية. وقال:{فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} (الذاريات: 50) ، فإنما

التواجد رقةٌ نفسيةٌ، وهِزّةٌ قلبيةٌ، ونهضةٌ روحانيةٌ وهذا هو التواجد عن وجد، ولا

يسمع فيه نكير من الشرع.

وذكر السلمي أنه كان يستدل بهذه الآية على حركة الوجد في وقت السماع،

وهي: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا} (الكهف: 14) الآية.

وكان يقول: إن القلوب مربوطة بالملكوت، حركتها أنوار الأذكار، وما يرد

عليها من فنون السماع.

ووراء هذا تواجد لا عن وجدٍ، فهو مناط الذّم، لمخالفة ما ظهر لِمَا بطن وقد

يغرب [8] فيه الأمر عند القصد لاستنهاض العزائم، وأعمال الحركة في يقظة القلب

النائم (يا أيها الناس ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا)[9] ولكن شتّان ما بينهما.

وأمّا مَن دعا طائفة إلى منزله فتجاب دعوته، وله في ذلك قصده ونيته. فهذا

ما ظهر تقييده على مقتضى الظاهر، واللهُ يتولى السرائر، وإنّما الأعمال بالنيّات،

انتهى ما قيده.

فكان ممّا ظهر لي في هذا الجواب: أن ما ذكره في مجالس الذكر صحيح إذا

كان على حسب ما اجتمع عليه السلف الصالح، فإنهم كانوا يجتمعون لتدارس

القرآن فيما بينهم، حتى يتعلم بعضهم مِن بعض، ويأخذ بعضهم مِن بعض، فهو

مجلس من مجالس الذكر التي جاء في مثلها من حديث أبي هريرة رضي الله عنه

عن النبي صلى الله عليه وسلم (ما اجتمع قومٌ في بيتٍ مِن بيوت الله يتلون

كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة، وحفّت بهم

الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده) ، وهو الذي فهمه الصحابة - رضي الله تعالى

عنهم - مِنَ الاجتماع على تلاوة كلام الله.

وكذلك الاجتماع على الذكر فإنه اجتماعٌ على ذكر الله. ففي رواية أخرى أنه

قال (لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة) الحديث المذكور؛ لا الاجتماع

للذكر على صوتٍ واحد، وإذا اجتمع القوم على التذكر لنِعَم الله، أو التذاكر في

العلم إن كانوا علماء، أو كان فيهم عالم فجلس إليه متعلمون، أو اجتمعوا يذكّر

بعضهم بعضًا بالعمل بطاعة الله والبعد عن معصيته وما أشبه ذلك ممّا كان يعمل به

رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه، وعمل به الصحابة والتابعون

فهذه المجالس كلها مجالس كلها مجالس ذكر وهي التي جاء فيها من الأجر ما جاء.

كما يحكى عن ابن أبي ليلى أنه سئل عن القصص. فقال: أدركت أصحاب

محمد صلى الله عليه وسلم يجلسون ويحدّث هذا بما سمع وهذا بما سمع - فأمّا أن

يجلسوا خطيبًا فلا - وكان كالذي نراه معمولاً به في المساجد من اجتماع الطلبة على

معلمٍ يقرئهم في القرآن أو علمًا مِن العلوم الشرعية. أو تجتمع إليه العامة فيعلمهم

أمر دينهم، ويذكرهم بأسه، ويبيّن لهم سنّة نبيهم ليعلموا بها، ويبيّن لهم المُحدَثات

التي هي ضلالةٌ ليحذروا منها، ويتجنبوا مواطنها والعمل بها.

فهذه مجالس الذكر على الحقيقة، وهي التي حرَمَها اللهُ أهل البدع من هؤلاء

الفقراء الذين زعموا أنهم سلكوا طريق التصوف وقَلَّ ما تجد منهم مَن يحسن قراءة

الفاتحة في الصلاة إلا على اللحن، فضلاً عن غيرها، ولا يعرف كيف يتعبد، ولا

كيف يستنجي أو يتوضأ أو يغتسل من الجنابة. وكيف يعلمون ذلك وهم حرموا

مجالس الذكر التي تغشاها الرحمة، وتنزل فيها السكينة، وتحف بها الملائكة؟ !

فبانطماس هذا النور عنهم ضلّوا، فاقتدوا بجهّال أمثالهم، وأخذوا يقرؤون الأحاديث

النبوية والآيات القرآنية فينزلونها على آرائهم، لا على ما قال أهل العلم فيها؛

فخرجوا عن الصراط المستقيم، إلى أن يجتمعوا ويقرأ أحدهم شيئًا من القرآن يكون

حسن الصوت طيب النغمة جيد التلحين تشبه قراءته الغناء المذموم، ثم يقولون

تعالوا نذكر الله، فيرفعون أصواتهم يمشون ذلك الذكر مداولة - طائفة في جهة،

وطائفة في جهةٍ أخرى - على صوتٍ واحدٍ يشبه الغناء ويزعمون أن هذا من

مجالس الذكر المندوب إليها، وكذَبوا. فإنه لو كان حقًّا لكان السلف الصالح أولى

بإدراكه وفهمه والعمل به، وإلا فأين في الكتاب أو في السنة الاجتماع للذكر على

صوتٍ واحدٍ جهرًا عاليًا؟ وقد قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا

يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} (الأعراف: 55) ، والمعتدون في التفسير هم الرّافعون أصواتهم

بالدعاء.

وعن أبي موسى قال: كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرٍ

فجعل الناس يجهرون بالتكبير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أربعوا على

أنفسكم، إنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا، إنكم تدعون سميعًا قريبًا، وهو معكم) ،

وهذا الحديث مِن تمام تفسير الآية، ولم يكونوا رضي الله عنهم يكبّرون على

صوتٍ واحدٍ، ولكنه نهاهم عن رفع الصوت ليكونوا للآية ممتلئين وقد جاء عن

السلف أيضًا النهي عن الاجتماع على الذكر، والدعاء بالهيئة التي يجتمع عليها

هؤلاء المبتدعون.

وجاء عنهم النهي عن المساجد المتخذة لذلك، وهي الربط التي سموها بالصفة؛

ذكر من ذلك ابن وهبٍ وابن وضاح وغيرهما ما فيه كفاية لِمَن وفّقه الله.

فالحاصل من هؤلاء أنهم حسنوا الظن بأنه فيما هم عليه مصيبون، وأساؤوا

الظن بالسلف الصالح أهل العلم الراجح الصريح، وأهل الدين الصحيح. ثُم لمّا

طالبهم لسان الحال بالحجة أخذوا كلام المجبب وهم لا يعلمون، وقوّلوه ما لا

يرضى به العلماء، وقد بيّن ذلك في كلام آخر إذ سئل عن ذكر فقراء زماننا،

فأجاب بـ: إن مجالس الذكر المذكورة في الأحاديث؛ إنها هي التي يتلى [10] فيها

القرآن، والتي يُتعلم فيها العلم والدين، والتي تعمُر بالعلم والتذكير بالآخرة والجنة

والنار. كمجالس سفيان الثوري والحسن وابن سيرين، وأضرابهم.

أمّا مجالس الذكر اللساني فقد صرّح بها في حديث الملائكة السياحين، لكن لمْ

يذكر فيه جهرًا بالكلمات، ولا رفع أصوات، وكذلك غيره. لكن الأصل المشروع

إعلان الفرائض وإخفاء النوافل. وأتى بالآية، وبقوله تعالى: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء

خَفِيًّا} (مريم: 3)، وبحديث:(أربعوا على أنفسكم) - قال -: وفقراء الوقت

قد تخيّروا بآيات، وتميّزوا بأصواتٍ، هي إلى الاعتداء، أقرب منها إلى الاقتداء،

وطريقتهم إلى اتخاذها مأكلة وصناعة، أقرب منها إلى اعتدادها قربة وطاعة.

انتهى معناه على اختصار أكثر الشواهد. وهي دليلٌ على أن فتواه المحتج بها

ليس معناها ما رام هؤلاء المبتدعة. فإنه سئل في هذه عن فقراء الوقت، فأجاب

بذمّهم، وأن حديث النبي صلى الله عليه وسلم لا يتناول عملهم. وفي الأولى

إنما سئل عن قومٍ يجتمعون لقراءة القرآن، أو لذكر الله. وهذا السؤال يصدق عن

قوم يجتمعون مثلاً في المسجد فيذكرون الله، كل واحد منهم في نفسه أو يتلو القرآن

نفسه، كما يصدق على مجالس المعلمين والمتعلمين، وما أشبه ذلك ممّا تقدّم التنبيهُ

عليه، فلا يسعه وغيره من العلماء إلا أن يذكر محاسن ذلك والثواب عليه، فلما

سئل عن أهل البدع في الذكر والتلاوة بيّن ما ينبغي أن يعتمد على الموفق، ولا

توفيق إلا بالله العلي العظيم. اهـ المراد منه.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

انقسمت الباطنية إلى عدة فرق يجمعهم القول بجعل ظواهر النصوص غير مرادة، والذهاب في تأويلها مذاهب من التحكم لا تتفق مع اللغة في مجازٍ ولا كنايةٍ والقول بإمامٍ معصومٍ، وقد يسمّونه باسمٍ آخر، ويجعلونه بعد ذلك إلهًا وآخر فرقهم البابية البهائية.

(2)

نص النسخة التي نطبع عنها (والقالي) .

(3)

تمرّس بالشيء: احتكّ به، وتمرّس بدينه تلعب به وعبث به كما يعبث البعير؛ والمراد بهم هنا المقلدون للصوفية في رسومهم الظاهرة دون أخلاقهم وأعمالهم.

(4)

كذا ولعلّ في الكلام حذفًا.

(5)

نص النسخة التي نطبع عنها (أجرى) بالجيم وهو غلط.

(6)

كذا ولعلها (ومحبه) أو (ومحبوه) .

(7)

لفظ الأول لا يظهر له معنى هنا، والظاهر أن المقام مقام الاستثناء، وأن العبارة ربّما دخل فيها التحريف والسقط.

(8)

لعلّه (يعزب) .

(9)

لعله أراد حديث: (اتلوا القرآن وابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا) فاقتبسه بالمعنى، وهو في سنن ابن ماجه مِن حديث سعد ابن أبي وقاص بسند جيد.

(10)

في الأصل (يختلا) هكذا، فصحّحها ناسخ الورق الذي نطبع عنه؛ فجعلها (يختلى) ، وكلاهما غلط.

ص: 273

الكاتب: ابن القيم الجوزية

ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين

منزلة التوكل

فصل [*]

قال الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (المائدة: 23)

وقال: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ} (آل عمران: 122)، وقال: {وَمَن

يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (الطلاق: 3) وقال عن أوليائه: {رَّبَّنَا عَلَيْكَ

تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ} (الممتحنة: 4) وقال: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ

آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} (الملك: 29) وقال لرسوله: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ

عَلَى الحَقِّ المُبِينِ} (النمل: 79) وقال: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} (النساء: 81) وقال: {َوتَوَكَّلْ عَلَى الحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} (الفرقان: 58) وقال: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ} (آل عمران: 159) وقال عن أنبيائه ورسله: {وَمَا لَنَا أَلَاّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ} (إبراهيم: 12)[1] الآية، وقال عن أصحاب نبيه: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ

النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ} (آل

عمران: 173) ، وقال: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا

تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (الأنفال: 2) ، والقرآن

مملوء من ذلك.

وفي الصحيحين في حديث السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب:

(هم الذين لا يسترقون، ولا يتطيرون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون) وفي

صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: حسبنا الله ونعم الوكيل:

قالها إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين ألقي في النار، وقالها محمد - صلى

الله عليه وسلم - حين قالوا له: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ

فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ} (آل عمران: 173)

وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: (اللهم لك

أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، اللهم أعوذ

بعزتك - لا إله إلا أنت - أن تضلني، أنت الحيّ الذي لا تموت، والجن والإنس

يموتون) ، وفي الترمذي عن عمر رضي الله عنه مرفوعًا: (لو أنكم

تتوكلون على الله حقّ توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خِماصًا وتروح بِطانًا)

وفي السنن عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه

وسلم: (مَن قال - يعني إذا خرج من بيته - بسم الله توكلت على الله، ولا حول [2]

ولا قوة إلا بالله، يقال له: هُديت ووقِيت [3] وكُفيت، فيقول الشيطان لشيطانٍ

آخر: كيف لك برجلٍ هُدي وكُفي ووُقي؟) .

التوكل نصف الدين، ونصفه الثاني الإنابة، فإن الدين استعانة وعبادة،

فالتوكل هو الاستعانة، والإنابة هي العبادة، ومنزلته أوسع المنازل وأجمعها، ولا

تزال معمورة بالنازلين لسعة متعلق التوكل، وكثرة حوائج العالمين، وعموم التوكل

ووقوعه من المؤمنين والكفار والأبرار والفجّار، والطير والوحش والبهائم، فأهل

السموات والأرض - المكلفون وغيرهم - في مقام التوكل، وإن تباين متعلّق وتوكلهم،

فأولياؤه وخاصته يتوكلون عليه في حصول ما يرضيه منهم، وفي إقامته في الخلق،

فيتوكلون عليه في الإيمان ونصرة دينه، وإعلاء كلمته، وجهاد أعدائه، وفي

محابه وتنفيذ أوامره.

(ودون هؤلاء) مَن يتوكل عليه في استقامته في نفسه، وحفظ حاله مع الله

فارغًا عن الناس.

(ودون هؤلاء) مَن يتوكل عليه في معلومٍ يناله منه مِن رزقٍ أو عافيةٍ أو

نصرٍ على عدوٍّ أو زوجةٍ أو ولدٍ، ونحو ذلك. (ودون هؤلاء) مَن يتوكل عليه في

حصول الإثم والفواحش. فإن أصحاب هذه المطالب لا ينالونها غالبًا إلا باستعانتهم

بالله، وتوكلهم عليه؛ بل قد يكون توكلهم [4] أقوى من توكل كثير من أصحاب

الطاعات، ولهذا يلقون أنفسهم في المتالف والمهالك معتمدين على الله أن يسلمهم

ويظفرهم بمطالبهم، فأفضل التوكل في الواجب (أعني واجب الحق وواجب الخلق

وواجب النفس) ، وأوسعه وأنفعه التوكل في التأثير في الخارج في مصلحة دينية،

أو في دفع مفسدة دينية، وهو توكل الأنبياء في إقامة دين الله، ودفع فساد المفسدين

في الأرض، وهذا توكل ورثتهم.

ثُم الناس بعدُ في التوكل على حسب هممهم ومقاصدهم، فمِن متوكلٍ على الله

في حصول الملك، ومتوكل في حصول رغيف. ومَن صدق توكله على الله في

حصول شيء ناله، فإن كان محبوبًا له مرضيًّا كانت له فيه العاقبة المحمودة، وإن

كان مسخوطًا مبغوضًا كان ما يحصل له بتوكله مضرّة عليه، وإن كان مباحًا

حصلت له مصلحة التوكل دون مصلحةِ ما توكّل فيه، إن لم يستعن به على طاعة [5]

والله أعلم.

***

فصل

فلنذكر معنى التوكل ودرجاته وما قيل فيه

قال الإمام أحمد: التوكل عمل القلب. ومعنى ذلك أنه عملٌ قلبيٌّ ليس بقول

اللسان، ولا عمل الجوارح، ولا هو من باب العلوم والإدراكات. ومِن الناس مَن

يجعله مِن باب المعارف والعلوم فيقول: هو تعلم القلب بكفاية الرب للعبد.

ومنهم من يفسره بالسكون وخمود حركة القلب. فيقول: التوكل هو انطراح

القلب بين يدي الرب، كانطراح الميت بين يدي الغاسل يقلبه كيف يشاء، وهو

ترك الاختيار، والاسترسال مع مجاري الأقدار. قال سهل: التوكل: الاسترسال مع

الله على ما يريد. ومنهم من يفسره بالرضاء؛ فيقول: هو الرضاء بالمقدور. قال

بشر الحافي: يقول أحدهم: توكلت على الله، يكذب على الله، لو توكل على الله

رضي بما يفعل الله. وسئل يحيى بن معاذ: متى يكون الرجل متوكلاً؟ فقال: إذا

رضي بالله وكيلاً. ومِنهم مَن يفسره بالثقة بالله، والطمأنينة إليه والسكون إليه.

قال ابن عطاء: التوكل أن لا يظهر فيك انزعاج إلى الأسباب مع شدّة فاقتك إليها،

ولا تزال [6] على حقيقة السكون إلى الحق مع وقوفك عليها.

وقال ذو النون: هو ترك تدبير النفس، والانخلاع من الحول والقوة، وإنما

يقوى العبد على التوكل إذا علم أن الحق سبحانه يعلم ويرى ما هو فيه. وقال

بعضهم: التوكل التعلق بالله في كل حال.

وقيل: التوكل أن ترد عليك موارد الفاقات، فلا تسمو إلا إلى مَن إليه

الكفايات. وقيل: نفي الشكوك، والتفويض إلى مالك الملوك. وقال ذو النون:

خلع الأرباب، وقطع الأسباب؛ يريد قطعها مِن تعلق القلب بها، لا مِن مُلابسة

الجوارح لها.

ومنهم من جعله مركَّبًا مِن أمرين أو أمور. فقال أبو سعيد الخراز:

التوكل اضطراب بلا سكون، وسكون بلا اضطراب - يريد حركة ذاته في

الأسباب بالظاهر والباطن - وسكون إلى المسبب وركون إليه، ولا يضطرب قلبه

معه، ولا تسكن حركته عن الأسباب الموصلة إلى رضاه.

وقال أبو تراب النخشبي: هو طرح البدن في العبودية، وتعلّق القلب

بالربوبية، والطمأنينة إلى الكفاية. فإن أعطي شكر، وإن مُنع صبر، فجعله مركبًا

مِن خمسة أمور: القيام بحركات العبودية، وتعلّق القلب بتدبير الرب، وسكونه إلى

قضائه وقدره، وطمأنينته بكفايته له، وشكره إذا أَعطى، وصبره إذا مَنع. قال أبو

يعقوب النهرجوري: التوكل على الله بكمال الحقيقة كما وقع لإبراهيم الخليل -

عليه السلام في الوقت الذي قال لجبريل عليه السلام (أمّا إليك فلا) لأنه غائب

عن نفسه بالله [7] فلم يرَ مع الله غيرَ الله.

وأجمع القوم على أن التوكل لا ينافي القيام بالأسباب، فلا يصح التوكل إلا

مع القيام بها، وإلا فهو بطالة وتوكّل فاسد. قال سهل بن عبد الله: مَن طعن في

الحركة فقد طعن في السنة، ومَن طعن في التوكل فقد طعن في الإيمان، فالتوكل

حال النبي صلى الله عليه وسلم، والكسب سنته، فمَن عمل على حاله فلا يتركن

سنّته. وهذا معنى قول أبى سعيد (هو اضطراب بلا سكون، وسكون بلا

اضطراب) ، وقول سهل أبين وأرفع. وقيل: التوكل قطع علائق القلب بغير الله.

وسئل سهل عن التوكل فقال: قلب عاش مع الله بلا علاقة [8] . وقيل: التوكل هجر

العلائق، ومواصلة الحقائق. وقيل: التوكل أن يستوي عندك الإكثار والإقلال.

وهذا مِن موجباته وآثاره؛ لأنه [9] حقيقته.

وقيل: هو ترك كل سبب يوصلك إلى مسبّب، حتّى يكون الحق هو المتولي

لذلك. وهذا صحيحٌ مِن وجهٍ، وباطلٌ مِن وجهٍ، فترك الأسباب المأمور بها قادحٌ

في التوكل، وقد تولّى الحق إيصال العبد بها. وأمّا ترك الأسباب المباحة، فإن

تركها لِمَا هو أرجح منها مصلحةً فممدوحٌ، وإلا فهو مذمومٌ. وقيل: هو إلقاء

النفس في العبودية، وإخراجها مِن الربوبية. يريد استرسالها مع الأمر، وبراءتها

مِن حولها وقوتها، وشهود ذلك بها؛ بل بالرب وحده.

ومنهم مَن قال: التوكل هو التسليم لأمر الرب وقضائه. ومنهم مَن قال: هو

التفويض إليه في كلّ حالٍ.

ومنهم مَن جعل التوكل بدايةً، والتسليم وساطةً، والتفويض نهايةً. قال أبو

علي الدقاق: التوكل ثلاث درجات - التوكل، ثم التسليم، ثم التفويض. فالمتوكل

يسكن إلى وعده، وصاحب التسليم يكتفي بعلمه، وصاحب التفويض يرضى بحكمه.

فالتوكل بداية، والتسليم وساطة، والتفويض نهاية فالتوكل صفة المؤمنين،

والتسليم صفة الأولياء، والتفويض صفة الموحدين. التوكل صفة العوام، والتسليم

صفة الخواص، والتفويض صفة خاصة الخاصة. التوكل صفة الأنبياء، والتسليم

صفة إبراهيم الخليل، والتفويض صفة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم

أجمعين. هذا كله كلام الدقاق. ومعنى هذا التوكل اعتمادٌ على الوكيل، وقد يعتمد

الرجل على وكيله مع نوع اقتراح عليه، وإرادة وشائبة منازعة، فإذا سلّم إليه زال

عنه ذلك، ورضي بما يفعله وكيله. وحال المفوض فوق هذا، فإنه طالب مريد

ممن فوض إليه، ملتمس منه أن يتولى أموره، فهو رضاء واختيار، وتسليم

واعتماد، فالتوكل يندرج في التسليم، وهو والتسليم يندرجان في التفويض، والله

سبحانه وتعالى أعلم.

***

فصل

وحقيقة الأمر أن التوكل حال مركبة من مجموع أمور لا تتم حقيقة التوكل إلا

بها. وكلٌّ أشار إلى واحد من هذه الأمور، أو اثنين أو أكثر. فأوّل ذلك معرفة

بالرب وصفاته، مِن قدرته وكفايته وقيوميّته وانتهاءِ الأمور إلى علمه وصدورها

عن مشيئته وقدرته. وهذه المعرفة أول درجة يضع بها العبد قدمه في مقام التوكل.

قال شيخنا رضي الله عنه: ولذلك لا يصح التوكل ولا يتصور من فيلسوف،

ولا مِن القدرية النفاة القائلين بأنه يكون في ملكه ما لا يشاء [10] ولايستقيم أيضًا مِن

الجهمية النفاة لصفات الرب جل جلاله، ولا يستقيم التوكل إلا من أهل الإثبات.

فأي توكل لمن يعتقد أن الله لا يعلم جزئيات العالم؟ ولا هو فاعل باختياره؟ ولا له

إرادة ومشيئة؟ ولا يقوم به صفة؟ فكل مَن كان بالله وصفاته أعلم وأعرف، كان

توكله أصح وأقوى. والله سبحانه وتعالى أعلم.

***

فصل

(الدرجة الثانية: إثبات في الأسباب والمسببات)

فإن مَن نفاها فتوكله مدخولٌ. وهذا عكس ما يظهر في بدوات الرأي أن

الأسباب يقدح في التوكل، وأن نفيها كمال [11] التوكل.

فاعلم أن نفاة الأسباب لا يستقيم لهم توكل ألبتة؛ لأن التوكل مِن أقوى

الأسباب في حصول المتوكل فيه، فهو كالدعاء الذي جعله الله سببًا في حصول

المدعو به، فإذا اعتقد العبد أن توكله لم ينصبه الله سببًا، ولا جعل دعاءه سببًا لنَيْل

شيء، فإن المتوكل فيه المدعو بحصوله إن كان قدر [12] حصل؛ توكل أو لم

يتوكل، دعا أو لم يدع. وإن لم يقدّر لم يحصل، توكل أيضًا أو ترك التوكل.

وصرّح هؤلاء أن التوكل والدعاء عبودية محضة لا فائدة لهما إلا ذلك، ولو ترك

العبد التوكل والدعاء ما فاته [13] شيء ممّا قدّر له. ومِن غلاتهم مّن يجعل الدعاء

بعدم المؤاخذة على الخطأ والنسيان عديم الفائدة؛ إذ هو مضمون الحصول.

ورأيت بعض متعمّقي هؤلاء في كتاب له [14] لا يجوز الدعاء بهذا، وإنما

يجوزه تلاوة لا دعاء. قال: لأن الدعاء به يتضمن الشك في وقوعه؛ لأن الداعي

بين الخوف والرجاء، والشك في وقوع ذلك - شك في خبر الله، فانظر إلى ما قاد

إنكار الأسباب من العظائم، وتحريم الدعاء بما أثنى الله على عباده وأوليائه بالدعاء

به وبطلبه، ولم يزل المسلمون مِن عهْد نبيهم صلى الله عليه وسلم إلى الآن

يدعون به في مقامات الدعاء، وهو مِن أفضل الدعوات.

وجواب هذا الوهم الباطل أن يقال: بقي قسمٌ ثالثٌ غير ما ذكرتم مِنَ القسمين

لم تذكروه، وهو الواقع؛ وهو أن يكون قضى بحصول الشيء عند حصول سببه

مِن التوكل والدعاء، فنصب الدعاء والتوكل سببين لحصول المطلوب، وقضى الله

بحصوله إذا فعل العبد سببه، فإذا لم يأتِ بالسبب امتنع المسبب، وهذا كما قضى

بحصول الولد إذا جامع الرجل مَن يحبلها، فإذا لم يجامع لم يخلق منه الولد،

وقضى بحصول الشبع إذا أكل، والرِّيّ إذا شرب، فإذا لم يفعل لم يشبع ولم يُرْوَ.

وقضى بحصول الحج والوصول إلى مكة إذا سافر وركب الطريق، فإذا حبس [15]

في بيته لم يصل إلى مكة [16] وقضى بدخول الجنة إذا أسلم وأتى بالأعمال الصالحة،

فإذا ترك الإسلام لم يدخلها أبدًا [16] وقضى بإنضاج الطعام بإيقاد النار تحته.

وقضى بطلوع الحبوب التي تزرع بشقّ الأرض وإلقاء البذور فيها، فما لم يأتِ [17]

بذلك لم يحصل إلا الخيبة.

فوزان ما قاله منكرو الأسباب أن يترك كلٌّ مِن هؤلاء السبب الموصل،

ويقول: إن كان قضي لي وسبق في الأزل حصول الولد والشبع والري والحج

ونحوها، فلا بد أن يصل إن تحركت أو سكنت، تزوجت أو تركت، سافرت أو

قعدت، وإن لم يكن قضيَ لي لم يحصل لي أيضًا، فعلت أو تركت. فهل يعد أحدٌ

هذا مِن جملة العقلاء؟

وهل البهائم إلا أفقه منه؟ فإن البهيمة تسعى في السبب بالهداية العامة.

فالتوكل مِن أعظم الأسباب التي يحصل بها المطلوب، ويندفع بها المكروه. فمَن

أنكر الأسباب لم يستقم منه التوكل، ولكن مِن تمام التوكل عدم الركون إلى الأسباب،

وقطع علاقة القلب بها، فيكون حال قلبه قيامه بالله لا بها، وحال بدنه قيامه بها.

فالأسباب محل حكمة الله وأمره ودينه، والتوكل متعلق بربويته وقضائه وقدره، فلا

تقوم عبودية الأسباب إلا على ساق التوكل، ولا يقوم ساق التوكل إلا على قدم

العبودية، والله سبحانه وتعالى أعلم.

***

فصل

الدرجة الثالثة:

(رسوخ القلب في مقام توحيد التوكل)[18]

فإنه لا يستقيم توكل العبد حتى يصح له توحيده؛ بل حقيقة التوكل توحيد

القلب، فما دامت فيه علائق الشرك فتوكله معلول مدخول، وعلى قدر تجريد

التوحيد تكون صحة التوكل، فإن العبد متى التفت إلى غير الله أخذ ذلك الالتفات

شعبة من شعب قلبه، فنقص مِن توكله على اللهِ بقدر ذهاب تلك الشعبة، ومِن

هاهنا ظن مَن ظن أن التوكل لا يصح إلا برفض الأسباب، وهذا حق، لكن

رفضها عن القلب لا عن الجوارح، فالتوكل لا يتمّ إلا برفض الأسباب عن القلب،

وتعلّق الجوارح بها، فيكون منقطعًا منها متصلاً بها، والله سبحانه أعلم.

***

فصل

الدرجة الرابعة:

(اعتماد القلب على الله، واستناده إليه، وسكونه إليه)

بحيث لا يبقى فيه اضطراب مِن تشويش الأسباب، ولا سكون إليها؛ بل

يخلع السكون إليها من قلبه، ويلبسه السكوت إلى سببها، وعلى هذا [19] فإنه لا

يبالي بإقبالها وإدبارها، ولا يضطرب قلبه ويخفق عند إدبار ما يحب منها وإقبال ما

يكره؛ لأن اعتماده على الله وسكونه إليه واستناده إليه، قد حصنه من خوفها

ورجائها، فحاله حال مَن خرج عليه عدوٌّ عظيم لا طاقة له به، فرأى حصنًا

مفتوحًا فأدخله ربه إليه، وأغلق عليه باب الحصن، فهو يشاهد عدوّه خارج

الحصن، فاضطراب قلبه وخوفه منهم في هذه الحال لا معنى له. وكذلك مَن أعطاه

ملك درهمًا فسرق منه، فقال له الملك: عندي أضعافه لا تهتم متى جئت لي

أعطيتك مِن خزائني أضعافه. فإذا علم صحة قول الملك ووثق به واطمأن إليه،

وعلم أن خزائنه مليئة بذلك؛ لم يحزنه فوته. وقد مثّل ذلك بحال الطفل الرضيع في

اعتماده وسكونه وطمأنينته بثدي أمه لا يعرف غيره، وليس في قلبه التفات إلى

غيره، كما قال بعض العارفين: المتوكل كالطفل لا يعرف شيئًا يأوي إليه إلا ثدي

أمه، كذلك المتوكل لا يأوي إلا إلى ربه سبحانه.

***

فصل

الدرجة الخامسة

(حسن الظن بالله عز وجل

فعلى قدر حسن ظنك بربك [20] ورجائك له يكون توكلك عليه. ولذلك فسّر

بعضهم التوكل بحسن الظن فقال: التوكل حسن الظن بالله. والتحقيق أن حسن

الظن به يدعوه إلى التوكل عليه؛ إذ لا يتصوّر التوكل على من ساء [21] ظنّك به،

ولا التوكل على من لا ترجوه، والله أعلم.

***

فصل

الدرجة السادسة

(استسلام القلب له، وانجذاب دواعيه كلها إليه، وقطع منازعاته)

وبهذا فسّره مَن قال: أنْ يكون العبد بين يدي الله كالميت بين يدي الغاسل

يقلبه كيف أراد، لا يكون له حركة ولا تدبير. وهذا معنى قول بعضهم: التوكل

إسقاط التدبير. يعني الاستسلام لتدبير الرب لك. وهذا في غير باب الأمر والنهي؛

بل فيما يفعله بك لا فيما أمرك بفعله، فالاستسلام كتسليم العبد الذليل نفسه لسيده

واقتياده له، وترك منازعات نفسه وإرادتها مع سيده، والله سبحانه وتعالى أعلم.

***

فصل

الدرجة السابعة

(التفويض)

وهو روح التوكل ولُبّه وحقيقته، وهو إلقاء أموره كلها إلى الله، وإنزالها به

طلبًا واختيارًا، لا كرهًا واضطرارًا، بل كتفويض الابن العاجز الضعيف المغلوب

أموره [22] إلى أبيه العالم بشفقته عليه ورحمته، وتمام كفايته، وحسن ولايته له،

وتدبيره له، فهو يرى أن تدبيره له خير من تدبيره لنفسه، وقيامه بمصالحه وتوليه

لها، خيرٌ مِن قيامه هو بمصالح نفسه وتوليه لها، فلا يجد له أصلح ولا أوفق من

تفويضه أموره كلها إلى أبيه، وراحته مِن حمل كلفها [23] وثقل حملها، مع عجزه

عنها، وجهله بوجوه المصالح فيها، وعلمه بكمال علم مَن فوّض إليه وقدرته

وشفقته.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) نموذج من الجزء الثاني من‌

‌ كتاب (مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين)

لابن القيم.

(1)

زاد في البغدادية من الآية قوله تعالى: [وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا](إبراهيم: 12) .

(2)

في نسختنا (ولا حول) وفي البغدادي سقط الواو.

(3)

وفيها (وكفيت ووقيت) .

(4)

في الحجازية (توكلهم عليه) .

(5)

في البغدادية (طاعته) .

(6)

في البغدادية (ولا تزول) .

(7)

في البغدادية (لأنه علق نفسه بالله) .

(8)

هاتان الفقرتان سقطتا من نسختنا فأثبتناهما من البغدادية.

(9)

وفيها (لا أنه) .

(10)

في البغدادية (ما لم يشأه) .

(11)

نص نسختنا - كلام التوكل - وكلام محرف عن كمال بالقلب، كما هو نص الحجازية،

والبغدادية (تمام التوكل) .

(12)

في البغدادية (قد قدر) .

(13)

نسختنا والحجازية (ما فاته) ، والبغدادية (لما فاته) .

(14)

نص الحجازية (في كتاب لا) وسقط من البغدادية كلمة (له) .

(15)

في البغدادية (فإذا جلس في بيته لم يصل إلى مكة أبدًا) .

(16)

حذف من البغدادية لفظ (أبدًا) .

(17)

نص البغدادية فإن لم (يأت) .

(18)

نسختنا والحجازية (توحيد التوكل) ، وسقط من البغدادية كلمة (توحيد) .

(19)

نسختنا والحجازية (إلى مسببها وعلى هذا) وفي البغدادي (إلى مسببها وعلامة هذا) .

(20)

في البغدادي (به) .

(21)

في البغدادي (على من تسيء) .

(22)

كذا في نسختنا وفي البغدادية، وفي الحجازية قبل كلمة (أموره خربوشة) يوشك أن يكون أصلها (في) أو (على) فتكون العبارة (المغلوب على أموره) وهي الصواب.

(23)

في البغدادية (كلها) .

ص: 294

الكاتب: البستاني

‌أفضل الوسائل لإنهاض السلطنة

فصل جليل ختم به كتاب تاريخ الحرب البلقانية

للبستاني

خطر لنا عند الفراغ من تأليف هذا الكتاب، أن نستطلع آراء نخبة من أكابر

العلماء وفحول الكتّاب، عن أفضل وسيلة تنهض بالسلطنة بعد كبوتها، وتزيد في

يقظة الأمة بعد غفوتها. فسألنا مَن أسعدنا الحظ بالوصول إليه قبيل صدور هذا

المؤلف أن يصوغ لنا فكرته الأساسية في أسطر قليلة فتكرّموا بتلبية الطلب، أدامهم

الله زهرًا نضيرًا في بستان العلم والأدب. وإليك آراؤهم مرتبة حسب تواريخ

ورودها.

***

رأي سياسي شهير

كتب إليَّ عالمٌ كبير لم يشأ أن ينشر اسمه قال: إن الأمر عويصٌ جدًّا لأن في

السلطنة فواعل كثيرة متناقضة وبعضها خفي. ولقد سمعت مرة المرحوم نوبار باشا

رئيس الوزارة المصرية الأسبق يقول: إن لورد دربي ألقى عليه سؤال مثل سؤالك

وطلب منه أن يرتأي رأيًا أو يضع مشروعًا نافعًا للسلطنة العثمانية، قال نوبار:

فأخذت القلم وكتبت (أنْ ينشأ في السلطنة محكمة مختلطة مستقلة ترفع إليها

الشكاوى من المأمورين فتحاكمهم وتنفذ الحكومة ما تحكم به عليهم) .

فما أدق هذا الانتقاد، وما أرق هذا التهكم!

***

رأي القانوني الكبير، والعالم الاجتماعي الشهير

سعادة فتحي باشا زغلول

أقرئك السلام وبعد، فسؤالك هام ومطلبك أهم.

الدولة العلية رعاك الله مجموع يحتاج في سياسته وإنهاضه إلى حكمة عالية

وبصرٍ بالأمور كبير، فإذا غلب الرأي الهوى، وبطل التفاضل بين العناصر،

وأقيم وزن العدل وتساوى الناس جميعًا في الحقوق وفي الواجبات، وإذا خلصت

نيات أهل الزعامة وصدقت عزائم ذوي الرئاسة، ففضلوا مصالح الأمة على المنافع

الفردية، وجدَّ الكل في طلب الإصلاح، فنشروا التعليم وعنوا بالأمور الاقتصادية،

فاستبقوا لأنفسهم مرافق البلاد وكنوزها، وذللوا السبل وأمنوا السابلة وقربوا

المسافات، ثم ازدرعوا واحترفوا واتجروا فأحرفوا، وإذا احكموا نظام الجند

وهذّبوه. لا شك أن الدولة ناهضة من سقطتها، وإن الأمة ناشطة من عقالها، وأنها

نائلة مِن الحضارة والمناعة مكانًا عليًّا.

***

رأي العالم العامل الشهير، والصحافي المحنك الخبير

الدكتور فارس أفندي نمر صاحب المقتطف والمقطم:

حضرة الفاضل؛ إن كان المقصود مِن (السلطنة) في سؤالكم: (الحكومة

والأمة) في حالتهما الحاضرة أي الدستورية فوسائط إنهاضها متعددة منها ماديّ

ومنها أدبيّ، ولكل واسطة منها قوة لا يُستغنى عنها، وخصوصًا وسائط العلم والمال.

على أن في الحكومة وفي الأمة رجالاً مِن ذوي العلم وذوي المال فلا يعوزهم

إدراك ولا يسار، ولكنِ الذي ينقصنا هو تربية الحكومة على الأخلاق القويمة،

والصفات المنظمة والمرقية لشؤون الهيئة الاجتماعية، حتى نستطيع الاتحاد

والتعاون على تدبير أمورنا وإنجاح أعمالنا ونحن جماعات، كما يستطيع كثيرون

منا اليوم تدبير أمورهم وإنجاح أعمالهم وهم أفراد.

***

رأي شيخ الأدباء، وكبير الشعراء

سعادة إسماعيل صبري باشا

التوظيف: إذا أراد التركي أن يستبقي ما بقي له مِن مُلكه فلا يفرقن بين

التركي وسائر الأجناس التي تتألف منها الدولة العثمانية؛ بل يجب عليه أن يفضل

في التوظيف في كل بلد أهل الكفاءة من بنيها، فلا يوظف التركي في بلد غير بلده

الأصلي إلا إذا كان يتعسر وجود أكفاء مثله من أبناء ذاك البلد، فتتعود جميع

العناصر التي تتألف منها الدولة حب الراية التي تظلهم، والأراضي التي تقلهم،

فيقوم عندئذ وطن عثماني حقيقي يحبونه ويَذُبُّونَ عنه في اليوم العصيب.

التعليم: التعليم مِن أوجب الواجبات لنهوض الشعب العثماني مما هو فيه،

ولا يراد بالتعليم أن يصبح جميع الأفراد من العلماء؛ بل يكفي أن يكون هناك عدد

وافر من المتعلمين يسيرون بالدولة إلى مقام الشعوب الراقية، وأن يتعلم باقي أفراد

الأمة ما يمكنهم مِن فَهم قادتهم وأرباب الرأي فيهم.

العدل: العدل بسيطٌ في معناه؛ صعبٌ في تنفيذه بين الأفراد، وأكبر آفاته

الغرض والرشوة. فإذا أرادت الدولة أن يسود فيها العدل فلتصرف كل جهدها في

ملاشاة هاتين الآفتين، ولنحذر مِن أن تستعين بالأجانب في سنِّ قوانينها وتوزيع

العدل بين رعاياها، ومِن أن تطلب غير أبناء بلادها لإقامة العدل وسنِّ القوانين.

وإلا تعذّر عليها أن تجد عدلاً وطنيًّا متفقًا مع أخلاق أمتها وعاداتها. وما يقال في

العدل يقال أيضًا في سائر فروع الإدارة. وإذا كانت الحكومة لا تجد مندوحة عن

الآستانة بالأجانب الأكفاء فلا تطلبهم من حكوماتهم؛ بل تكلفهم وضع التقارير بعد

اختبارهم لحالة البلاد، ثم تأخذ النافع والموافق لعادات الأهالي من تلك التقارير دون

أن تجعل أصحابها موظفين رسميين.

***

رأي العالم الاجتماعي الشهري

الدكتور شبلي الشميل

الدولة لا تنهض إلا بثلاثة: رجالٍ ومالٍ ووقتٍ، والرجال بالعلم والتربية،

والمال بالموارد. فهل ذلك متوفر - ولا سيّما الوقت - وحالنا في الاجتماع كما هي

من قلة التكافؤ مع ما هو عليه اليوم من شدّة التنازع؟

والجواب على ذلك يدل على المصير.

***

رأي الأستاذ الفاضل أبو شادي بك

رئيس تحرير جريدة المؤيد

رأيي أن الدولة لا تنهض من سقطتها ولا تعود إلى سابق مجدها إلا إذا توفر

لديها ما يأتي:

أولاً: تعميم التعليم في أنحاء البلاد وجعل الأولي منه إجباريًّا.

ثانيًا: إزالة التنافر بين العناصر ولا يكون ذلك إلا بمنح كل ولاية الاستقلال

إداريًّا داخليًّا؛ حتى يعلم كل فرد أن اجتهاده منصرف إلى بلده وإلى نفسه.

ثالثًا: إيجاد الأكفاء من الموظفين؛ إذ بغير شكٍّ إن قوانين الدولة عادلة ولكن

تنفيذها معدوم.

رابعًا: إصلاح جباية الضرائب بحيث تكون الضرائب متسلطة على الأعيان

لا على الحاصلات وتنظيم أوقات تحصيلها.

خامسًا: نزع السياسة من أفكار الجيش.

سادسًا: تعميم اللغة العربية في جميع الولايات وبين المسلمين بنوعٍ أخص،

وذلك لأن مظهر الدولة إسلامي والقرآن عربيٌّ.

***

رأي العالم الإسلامي الكبير السيد رشيد رضا

منشئ مجلة المنار

الدولة كائن حي، يحفظ وجودها بالسنة التي تحفظ بها حياة سائر الأحياء،

وهي سلامة مزاجها في نفسها ووقايتها مما يعدو عليه من الخارج.

فأما سلامة مزاج دولتنا العثمانية في نفسه؛ فإنما يكون بإقامة الشرع العادل

في القضية، والمساواة في الحقوق بين الرعية، وبناء إدارة المملكة على أساس

اللامركزية، وجعل السلطة العليا شق الأُبلمة بين العنصرين الكبيرين فيها - العرب

والترك - بحيث يكونان منها كالعنصرين اللذين يتكون منهما الماء أو الهواء. وأما

وقايتها ممّا يعدو عليها من الخارج فهو الآن منوط بدول أوربا الكبرى فهن أصحاب

المطامع فيها، ومطامعهن متعارضة. وما دامت كذلك كانت الدولة آمنة على نفسها

من اقتسامهن إياها بالقوة، فيجب أن تتقي استيلاءهن على البلاد بقوة المال

والسياسة، أي بالفتح السلمي، وأن تقوي مزاج الأمة بالمال والعلم وإعدادها للدفاع

عن نفسها. فإذا هي فرطت في مرافقها وأملاكها فباعتها للأوربيين، وبقيت على

تبذيرها، وتوهمها أنها تستطيع أن تحمي نفسها منهن بقوتي الدولة البرية والبحرية

الرسميتين، ولم تجعل كل اعتمادها على الأمة، فالخطر عليها من الفتح

السلمي، أقرب وأقوى من خطر الفتح الحربي.

***

رأي الكاتب التحرير الشهير داود أفندي بركات

رئيس تحرير الأهرام

رأيي في إصلاح السلطنة العثمانية أن تقسم مناطق، وأن تكون كل منطقة

مؤلفة من العناصر المتفقة في التقاليد، العادات واللغة، فتعطى الاستقلال الإداري

تبتّ مِن أموره كل ما لا يتناول منطقة أخرى أو أكثر من منطقة. ويعيّن لكل

منطقة مندوب سامٍ يعاونه مجلس إدارة يؤلف من الفنيين في الأمور المالية والإدارية

والقضائية والعسكرية، ويؤخذ للمركز العام جزء معين مِن دخل كل منطقة، وتلغى

الضرائب العشرية، وتقرر ضرائب ثابتة معينة على الأملاك، وتوضع قوانين

للشركات على اختلاف أنواعها، ويوحد القضاء فلا يكون من اختصاص رجال

الدين إلا الأمور الشخصية، فتكون الدولة مؤلفة من ولايات متحدة أو مناطق متحدة.

ذلك رأيي في إنهاض السلطنة بسرعة.

***

رأي العالم المؤرخ جرجي بك زيدان

صاحب مجلة الهلال

العلة الحقيقية في حال الدولة العثمانية اليوم فقر المملكة واضطراب الحكومة.

والحكومة الدستورية في أيدي الأمة، والأمة العثمانية ضعيفة الأخلاق،

عريقة في الانقسام، بسبب ما توالى عليها من أعصر الفساد.

أما المملكة ونعني الولايات الباقية منها في آسيا فليس فقرها أصليًّا فيها،

وكل ولاية منها كانت في بعض الأزمان مملكة قائمة بنفسها، فالعراق كانت وحدها

مملكة البابليين والآشوريين، وبها اعتزّ العباسيون في إبان دولتهم، وكانت جبايتها

ثلث جباية مملكتهم الواسعة الممتدة من حدود الهند إلى شواطئ الأتلانتيكي.

وسوريا كانت مؤلفة مِن عدّة دول ثُم اعتز بها السلوقيون أجيالاً، وكذلك آسيا

الصغرى، وظلّت مدة هي أعظم أركان الدولة العثمانية.

فهذه الولايات إذا أحسنت سياستها وإدارتها صارت غنيّة. وهذا لا يتم والأمة

كما تقدم. فالوسيلة المثلى للنهوض بالدولة العثمانية إنما هي ترقية الشعب، وهو لا

يقدر أن يرقّي نفسه رغم استعداده الطبيعي للرقي. وقد يقوم بذلك حاكم عادل عاقل؛

إنما يشترط أن يكون مستبدًّا، وهذا لا يتيسر والحكومة دستورية. فلا بد مِن

الاستعانة بالأجانب وأسلم الطرق أن تتحالف الدولة العثمانية مع دولة تثق بصداقتها،

فتستعين برجالها على إصلاح حكومتها وترقية شعبها وصيانتها مِن مطامع الدول

الأخرى، بشرط أن لا يكون لهذه الدولة مطمع في الاستعمار. فإذا وفقت إلى ذلك

في أثناء أربعين سنة نهضت واسترجعت رونقها.

***

(رأي الشاعر الكاتب الطائر الصيت)

خليل أفندي مطران

أخي، سألتني عمّا أرتئيه لإصلاح الدولة العلية. فالذي أرتئيه إنّما هو

أمر واحد يلخص في كلمة واحدة: التعليم.

منذ عشرين سنة أرقب حوادث الدولة وأستقرئ ما يجري فيها، فالذي بدا لي

مِن شأنها في كل حال: أن الحكام كانوا لا يهتمون بإصلاحها اعتمادًا منهم على

جهلِ الأمة وعلى تسليمها لهم بسبب ذلك الجهل، وأن المحكومين كانوا فاقدي الحيلة

في التماس مَا هو خير لهم وكانوا صابرين على مضض. وربما أومض لهم بارق

الإصلاح في إحدى المصادفات فتألموا منه تألمهم من الرمد المفاجئ.

فهؤلاء المحكومين ما لم يتعلموا لا يقيمون لأنفسهم وزنًا ولا يفرّقون بين حقٍ

لهم وحقٍّ عليهم، كما أن أولئك الحكام أيًّا كان جنسهم ودينهم يلبثون أبد الدهر

متنكرين لأمتهم جانين عليها، إلا حيث تضطرهم إلى الإصلاح اضطرارًا، وتأخذ

منهم قسرًا ما يأبونه عليها اختيارًا. وكل ذلك لا يتم شيء منه إلا بالتعليم.

***

رأي الكاتب الشهير

محمد أفندي مسعود

حياة الدولة في مستقبلها، ومستقبلها في حكومة كفيلة باسترجاع مجدها

المضيّع، وهذه الحكومة لا توجد؛ إلا متى عرف رجالها قدر أنفسهم. فوضعوها

فوق عبث الأحزاب.

***

رأي الصحافي الخبير والكاتب الألمعي

سامي أفندي قصيري

المحرر في المقطم

لمّا كانت الدولة العثمانية فيما مضى دولة استبدادية قائمة على حكومة الفرد

كانت تقوى بقوة ذلك الفرد وتضعف بضعفه وتسعد بسعده وتشقى بشقائه. أمّا الآن

وقد أعلن فيها الحكم الدستوري مراعاةً لأحوال الزمان والمكان وتبدلت حكومة الفرد

بحكومة الأمة، فصلاح الحكومة قائم بصلاح الأمة. لا يكون ذلك في رأيي إلا

بنشر التعليم الحر بين طبقاتها، والفصل بين دنياها ودينها، والتأليف بين

عناصرها وطوائفها، حتى تصبح جميعها كتلة واحدة يحركها من أعلاها إلى أسفلها

عامل واحد، وهو عامل الوطنية، وتجمعها مِن أقصاها إلى أدناها جامعة واحدة

هي الجامعة العثمانية.

***

رأي الكاتب الشهير فرح أفندي أنطون

صاحب مجلة الجامعة

إن سنّة التطور (evolution) التي تحكم العالم المادي والعالم الاجتماعي

أمر لا مفرّ منه. فما السبيل إلى جعل التطور في السلطنة لا عليها؟ لا أظن أن

صديقي المؤلف يكلفني الجواب على هذا السؤال في بضعة أسطر. على أن كل ما

يقوله الكاتب ويفكر فيه المفكر في هذا الشأن أمر معلوم، فما تنقصنا الأقوال ولكن

تنقصنا الأفعال.

فقد يقال: العدل والسواء وتوسيع سلطة الولايات وقطع دابر الرشوة بحسن

اختيار الموظفين وشدة مراقبتهم وإصلاح المحاكم وتنظيم البوليس وتقويته وإنشاء

الطرق الحديثة واستثمار الأرض ظهرها وبطنها (الزراعة والمعادن) وإحياء

الصناعة والتجارة والمستشارون الأجانب وتنظيف الدوائر العليا والدنيا

إلخ.

وكلها أشياء جميلة. ولكني أرى أمرًا آخر مقدمًا عليها - وإن وجد المال

وقوة الإرادة لإنفاذها - وهو ما أسميه (الانسلاخ) ؛ أعني به انسلاخ الرجل

الشرقي القديم - وكلنا ذلك الرجل - مِن جلده القديم وروحه القديمة واتخاذه جلدًا

جديدًا وروحًا جديدة، ومعنى هذا - بكلام مجرّد مِن الزخرف والخيال - تفسير

السياسة التي حكمت بها السلطنة وجعلها بوزيتيفست (POSITIVISTE) وهنا

المشكلة العظمى. فإنه يجب بناء أعمال الحكومة على هذه السياسة من غير أن

يصدم هذا البناء معتقدات العناصر المختلفة وأوهامها، أي سوق التطور في طريق

هذه السياسة من غير أن يؤدي إلى كسرٍ في أعضائها. ورأس سياسة البوزيتيفست

أن يفصل الدين عن السياسة الدنيوية عند جميع العناصر العثمانية. وبعد هذا

الفصل يمكن الالتجاء إلى مُوحِّدَةِ الأمة وبَانِيَةِ أساس مستقبلها؛ أعني بها المدرسة

الابتدائية الإلزامية واحدة لجميع أبناء الأمة، وبمعزلٍ عن المذاهب الدينية لتوحيد

أغراض الأمة وأهوائها ما أمكن التوحيد، وجعلها أمة واحدة لا أممًا مختلفة كما هي

الآن.

***

رأي الأستاذ القانوني الشهير

عزيز خانكي بك

يجب أن تبدأ الدولة بإعطاء ولايتها الاستقلال الذاتي الداخلي ثُم تجعل الصلة

بينها وبين ولاياتها كالصلة بين ممالك ألمانيا والإمبراطورية، أو كالصلة بين

الولايات المتحدة الأميركية والجمهورية، ثم تتعاون جميع الولايات على تكوين قوة

الدولة البرية والبحرية؛ بمعنى أن كل ولاية تشترك بنسبة ثروتها.

هذا من جهة سياسة الدولة مِن حيث مجموعها، أما رُقيّ الولايات فلا أمل فيه

إلا بإنشاء المحاكم، ووضع القوانين النظامية على الطريقة العصرية، وإقامة

المدارس، ومد السكك الحديدية، وتوطيد أركان الأمن العام، وإجراء الإصلاحات

العامة اللازمة لكل بلدٍ مثل إنشاء السكك الزراعية، وبناء القناطر للري، وتسهيل

المواصلات البرية والبحرية، وتعميم بعض النظامات الغربية، مثل التلغرافات

والتلفونات وتنظيم البريد داخل الولايات، وتشجيع الأهالي على إنشاء الشركات

للاستثمار بخيرات هذه الأقطار التي يقال إنها كلها كنوز لا تنفد.

***

رأي الأستاذ الفاضل الشهير

إسكندر بك عمون

أصلح نظام للدولة - على ما بين العناصر والولايات العثمانية من التباين في

الحاجات والأخلاق، والعادات والتقاليد، وعلى ما بين أهليها من التفاوت في

الحضارة - أن تجعل ممالك أو ولايات مستقلة في جميع شؤونها الخاصة استقلالاً

تامًّا حتى في قوانينها وفي شكل حكومتها، مع ارتباطها جميعًا في الشؤون العمومية

على نحو نظام الولايات المتحدة الأميركانية أو الممالك الجرمانية، فتسمى حينئذٍ

الولايات أو الممالك العثمانية المتحدة.

ولهذا النظام مزية على كل نظامٍ آخر وهي: أنه النظام الوحيد الذي يمكنه أن

يجمع بين الولايات والإمارات العربية في جزيرة العرب وسائر الولايات الممتازة

وغير الممتازة.

***

رأي الكاتب العالم نجيب بك البستاني

أحد مؤلفي وأصحاب دائرة المعارف البستانية

أهم ما يجب لإحياء أمر الدولة العثمانية وإعلاء شأنها إنما هو العدل الصحيح

في الرعية، وإصلاح المالية، فهما أساس الملك وبهما قوام الدول. ذلك بأن

تشترك جميع عناصر المملكة على نسبة كل منها إلى المجموع فيعهد في الوظائف

إلى ذوي الكفاءة، وتؤدى الرواتب في مواقيتها، وتوضع المكوس على ما تطيق

الرعية، وتستثمر المعادن، وتقام أعمال الري والطرق الحديدية وغيرها على

السواء في جميع أقطار البلاد، وتستعمل الدولة في الإصلاح وتعميم التعليم العلماء

الراسخين من الشرقيين والغربيين، ويكون الانتخاب على ما يضمن لكل ملة العدد

النسبي من الأعيان والثواب دون محاباة أو تفاضل، فمتى حصل ذلك توفرت

الأموال واتّحدت كلمة الجيش، وساد الأمن واستوثقت الرعية من الوازع،

وانتظمت الشورى وحصلت الألفة بين الأمم المختلفة، وانصرف همُّ القائمين بالأمر

إلى استصلاح الزراعة وترقية الصناعة والعناية بأسباب العمران، ونبذوا الشقاق

وصدقوا في حب الوطن وتعاونوا على الأمر مخلصين منزهين عن المطامع

الشخصية بما يزيد هيبة الحكومة ويؤيَّد سلطانها.

يتم ذلك - بإذن الله - إذا امتنعت الدول عن تعكير الأمر على العثمانيين

وجرى هؤلاء - نحو ما تقدم - ربع قرن أو ما يزيد؛ لتنال الناشئة - وعليها

المعول في الاحتفاظ بعمل الإصلاح - من العلم والمدنية والمران على الأعمال ما

يضمن للدولة كيانها وعظمتها، وللعثمانيين اتحادهم واستقلالهم.

***

رأي الكاتب البليغ

الأستاذ أمين أفندي البستاني

سألتني رأيي في الدولة ومصيرها: جاز بالدولة في هذا العام عبرة كبرى إذا

لم تعتبر بها نالها ما هو أشر منها.

وللدولة الآن بقية ملك هو أبعد مدى وأمنع حمى وأطيب بقعة من جُلّ الممالك

الأوربية، فهل لها أن تعدل في الباقي من هذا الملك وتمنعه حادثات الدهر؟ الله

أعلم. على أن الدولة لا تجهل أشراط الملك على المالك، وما هو مبقٍ له وما هو

ذاهبٌ به، حتى لقد أصبحت الدلالة على وجوه الإصلاح المنشود من مبتذلات

الكلام، وملوكات الأفواه والأقلام، فهل للدولة أن تعمل بما علَّمها الدهر؟ على

حين لم يبق لها من ناصر إلا ما تسعى إليه من ترميم هذا الملك العزيز، وإلا فقد

قضى الله بما لا دافع له ولا مانع له، وحسبكم الإشارة يا ألباء هذه الدولة. فاعدلوا

بين ضروب الرعية؛ لأن دولتكم مستمدة من جُملتها لا من أبعاضها، وقدّموا الكفء

على غيره مهما كانت نبعته ومنبت أسلته، واستعملوا الأجنبي في تدبير ما أنتم

ضعاف عن تدبيره، واسلكوا القصد في عملكم من غير سرفٍ ولا تفريطٍ، وخذوا

بالجديد الصالح واخلعوا القديم؛ ثُم أعدّوا للملك عدّته مِن رجالٍ ومالٍ، واللهُ الواقي

في هذا الباقي.

***

رأي أستاذنا الاجتماعي الكبير

أحمد لطفي بك السيد

مدير الجريدة

(وصل في آخر ساعة لغياب حضرته عن القاهرة)

راجعت نفسي فوجدتني غير حاصل على المقدمات التفصيلية اللازمة لتكوين

رأي صحيح في الوسائل العلمية لإصلاح الدولة العلية، وإن الذين يستطيعون

معرفة هذه الوسائل هم رجال الدولة المشتغلون بسياستها والواقفون بأنفسهم على ما

أجهله من المقدمات الضرورية لتكوين رأي صحيح؛ غير أن لرقي الأمم وهبوطها

قوانين قد تكفي لتكوين رأي إجماليّ ونظريّ في الإصلاح.

مهما كانت الأسباب التي حملت أوربا على اضطهاد الدولة العلية فلا شك في

أن وقوعها في الضعف والهرم هو أهم تلك الأسباب، وليس يوجد مانع طبيعي

يمنع الدولة بعد أن مسّها الهرَم مِن استعادة شبابها بالأخذ بالتعليم الحديثة مِن حيث

الحكم والتربية والتعليم وتدبير حالها الاقتصادية على وجهٍ يكفل لها النظام والقوة.

ولست أجد في هذا الحاضر ما يرجح كِفّة تُوقع الشر في المستقبل على كِفّة انتظار

الخير. فإذا قام العنصر الحاكم باحترام أطماع العناصر المحكومة والنهضة بالأمة

عن الجمود إلى التسلح بجميع الأسلحة الحديثة؛ إن في التربية وإن في الاقتصاد،

أمكن الحكم بهذه الدلائل على الإصلاح المنتظر.

نعم، إن للظروف الخارجية دخلاً في إصلاح الدولة ولكن العثمانيين هم

المسؤولون وحدهم عن إجراء هذا الإصلاح، عليهم عمل ما في قدرتهم، والله

يتولى أمر ما لا يقدرون عليه.

(المنار) :

هذه آراء أشهر حَمَلَةِ الأقلام وعلماء السياسة والقوانين مِن المصريين

والسوريين، وأكثرهم متّفقون في الرأي فيما صرّحوا به وما لم يصرّحوا، ولا تكاد

ترى خلافًا صريحًا بينهم إلا في مسألة استخدام الأجانب أو استعانة الدولة بهم،

أجازها أو أشار بها بعضهم تصريحًا أو تلويحًا وحذّر منها بعض وأهملها الأكثرون.

وصرّح جماعة بمسألة اللامركزية أو الاستقلال الإداري للولايات أو الأقاليم،

ولم يحفل هذا الجمهور بمسألة القوة الحربية ولا البحرية التي تعدها الدولة بتقاليدها

الموروثة كل شيء، وما انفردنا بإبداء الرأي في مسألة الدفاع، فلتعتبر بهذه الآراء

الأمة وإن لم تعتبر بها الدولة.

_________

ص: 303

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌عبد العزيز بك علي المصري

عبد العزيز بك المصري أو عزيز بك - كما تقول الترك - مِن ضُباط أركان

الحرب المشهورين في الجيش العثماني. وقائد برقة في قتال الجيش الإيطالي، وقد

قُبِضَ عليه في الآستانة منذ شهرين وسجن بأمر ديوان الحرب العرفي، ولم يعرف

السبب الرسمي لذلك، فحدث لذلك من التأثير السيئ في مصر وسوريا وغيرهما

من البلاد العربية فوق ما كان ينتظر، وصار ذلك شغل الجرائد العربية الشاغل،

وسرى هذا التأثير إلى كثير من الجرائد الأوربية.

وتناقلت الجرائد عن الآستانة أن الذي وشى به هو الشيخ عبد العزيز جاويش

الذي وظيفته التجسس على العرب. وقد دعا شيخ الجامع الأزهر أشهر علماء

المصريين وفضلائهم إلى عقد اجتماع للتشاور بما يجب اتخاذه لإنصاف هذا الرجل،

فاجتمع ألوفٌ مِن الناس في 26 من هذا الشهر. وكان قد دُعي إلى الخطابة فيما

يتعلق بهذا الموضوع رفيق بك العظم ومحمد أفندي لطفي جمعة ومحمد أبو شادي

بك وإبراهيم بك الهلباوي - الثلاثة من المحامين - فخطب كل منهم فأجاد، وأثنوا

على عبد العزيز بك المصري وأطروا خدمته للدولة وأقاموا الدلائل والبينات على

استهجان القبض عليه، وفنّدوا ما شاع وما تصوّر مِن اتهامه به. وخطب صاحب

هذه المجلة خطبة ارتجالية وجيزة اقترحت عليه عندما وصل وأخذ مجلسه مِن مكان

الاحتفال، واختار ناظم عِقد اللجنة حسن باشا رضوان أن يكون الخطيب الثاني،

فأجبنا الطلب، ثُم اقترح علينا أن نكتب ملخص ما قلناه وننشره وهو هذا:

اقترح عليّ الآن أن أقول شيئًا في الموضوع الذي عُقد لأجله هذا الاجتماع ولم

يكن اسمي في جدول الخطباء وهم كثير فأنا أقول كلمةً وجيزةً حتى لا أضيّع على

الخطباء المستعدين وقتهم.

سمعتم ما شرحه الخطيب الأول (رفيق بك) من خدمة عبد العزيز بك

المصري للدولة والأمة في إقامة الدستور وتأييده، وفي مقاومة حرب العصابات

المسلحة في مكدونية، وفي اليمن وبرقة.

وستسمعون من سائر الخطباء شرحًا أوسع في الثناء على الرجل. وإنني أظن

كما تظنون أن الرجل بريء مِمَّا رماه به السعاة الواشون، ولكني أبني كلمتي على

غير الأساس الذي بنى عليه رفيق بك كلامه، فأنا لا أفرض أنه بريء، وإنه

يخشى أن يؤثر في أعضاء المحكمة التي تنظر في قضيته ما يدور حولها من

السعايات والأوهام فتصدق بعضها وتبني عليه الحكم، ولا أقول يوجب عقابه إذا

كان مذنبًا أو طلب العفو عنه بعد الحكم؛ بل أقول قولاً آخر فهاكموه:

يجوز أن يكون عبد العزيز المصري قد أتى بذنبٍ، لأنا نحن المسلمين لا

نقول بعصمة أحد من البشر غير الأنبياء الذين يبلغون رسالات ربهم فيما يتوقف

عليه أمر التبليغ وحكمته، كما يجوز أن يذنب كل واحد من الناس وليس فيهم أنبياء

مرسلون. نُجوّز هذا عقلاً وإن كان لدينا دلائل متعددة تؤيد البراءة الأصلية،

أظهرها أن الرجل بقي زمانًا في الآستانة بعد عودته من برقة كانت توكل إليه

الأعمال العسكرية التي لا توكل عادة إلى المجرمين المستحقين للسجون، ولم يؤخذ

بالتهمة المبهمة إلا بعد استقالته من الخدمة، ولم يكن له بعدها عمل صالح ولا سيئ.

وإنما أخذ بسعاية واشٍ مفسدٍ، فلنفرض أنه مذنبٌ، وأن ذلك الواشي الخبيث

صادق.

أنتم تعلمون أن الأمم لا تعز ولا ترتقي إلا بالرجال القادرين على الخدمة

العامة للأمة القائمين بها، وهؤلاء الرجال قليلون، لذلك يجب أن يضن بهم وتقال

عثراتُهم، وعزيز المصري مِن هؤلاء الرجال؛ بدليل ما قام به مِن الخدمة العامة

للدولة والأمة، فإذا صدق ذلك الواشي النَّمَّام الخبيث وما كان إلا كذوبًا في زعمه أنه

قد أتى ذنبًا يحاكم عليه، أليس له من حسناته وخدمته العامة شفيعٌ يقتضي أن تغفر

الدولة ذنبه وتقيل عثرته؟ وهل كان الذين يريدون الانتقام منه بُرآء من الذنوب

والعثرات؟ أم نقول لهم كما قال المسيح عليه الصلاة والسلام حين جيء

بالمرأة الزانية لأجل رجمها؟

كلا؛ إن لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوةً حسنةً، ولنا في

سيرة أصحابه وأئمة العدل مِن خلفائه ما نهتدي به في مثل حادثة عزيز المصري.

كان أبو محجن الثقفي مدمن خمر في الجاهلية وقد أسلم ولقي النبي صلى الله

عليه وسلم وروى عنه حديثًا.

وكانت الخمرة قد أحدثت له مرض الخمار فكان لا يستطيع تركها، وكانوا

يجلدونه إذا شرب، فيرى ألم الجَلد دون ألم الخمار. وقد حضر حرب القادسية مع

سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه؛ فحبسه سعد وقيّده بتهمة الشرب، وقد التحم

المسلمون مع المجوس في معركة شديدة، وكان سعد مجروحًا لم يحضر المعركة؛

بل قعد على سطح بيته ينظر ما يفعل المقاتلون، فلمّا رأى أبو محجن رحى الحرب

دائرة وخاف على المسلمين أن يغلبوا، رغب إلى امرأة القائد العام أن تحلّه من قيده

ليحضر المعركة، وعاهدها بأن يعود إلى قيده إذا هو سلم، ففعلت، فوثب على

فرسٍ لسعد يقال لها: البلقاء، وحمل برمحه على جيش الأعداء، فكان لا يحمل حملةً

إلا انهزم الأعداء أمامه.

وكان سعد رضي الله عنه يرى ذلك ويتعجب ويقول: الكرُّ كرُّ البلقاء،

والحمل حمل أبي محجن [1] وأبو محجن في القيد!!

ولمّا انهزم العدو رجع أبو محجن إلى قيده كما وعد امرأة سعد. وأخبرت هي

سعدًا بما كان، فأطلقه من قيده، وقال: لا أحد اليوم رجلاً نصر الله المسلمين على

يديه.

فقال أبو محجن: لقد كنت أشربها إذ يقام عليَّ الحد فيطهرني، وإذ قد

حابيتني [2] فوَالله لا أشربها أبدًا. وتاب من ذلك اليوم.

ولدينا شاهد آخر من وقائع القادسية: زُهرة بن حوية هو الذي قتل الجالينوس،

قائد جيش المجوس، وقد أخذ سلبه بدون إذن القائد العام سعد بن أبي وقاص،

فانتزعه سعد منه وأراد أن يؤاخذه، ولكنه كتب إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب

يستأمره في ذلك. فكتب إليه عمر رضي الله عنه: تعمد إلى مثل زُهرة وقد صلى

بما صلى به، وبقي عليك ما بقي من حربك وتكسر فُوقه؟ [3]

أنكر سيدنا عمر علي سعد عمله، وأمضى لزهرة سلبه، لأنه رأى أن عمله

الماضي والحاجة إلى عمله في المستقبل أرجح من هذه المخالفة، وأن المصلحة

تقتضي ذلك.

إن لنا فوق هذا كله أسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم في خبر

حاطب بن أبي بلتعة: نقض مشركو قريش عهد النبي صلى الله عليه وسلم فأراد أن

يزحف عليهم لفتح مكة، وكان لحاطب أهل ومال بمكة خاف عليهم لأنه ليس لهم

أحد يحميهم، فكتب إلى أهل مكة يخبرهم بعزم النبي صلى الله عليه وسلم، فعلم

النبي صلى الله عليه وسلم بما كان، وأرسل مَن أخذ الكتاب مِن امرأة كانت تحمله

في عقاص شعرها، وسأل حاطبًا عن ذلك فاعترف واعتذر بالخوف على أهله

وولده وأنه عمل ما لا يضر الله ولا رسوله؛ فقبل عذره، وأراد عمر بن الخطاب

الذي تضرب الأمم بعدله المثل أن يقتله؛ لأن إفشاء سر الحرب من أكبر الذنوب

العسكرية فجعله عمر دليل النفاق، واستأذن النبي صلى الله عليه وسلم بقتله

فلم يأذن له، وقال (إنه شهد بدرًا) .

عدّ النبي صلى الله عليه وسلم شهود غزوة بدر مِن أقوى آيات الإيمان،

والصدق والإخلاص في الإسلام، لأن المسلمين كانوا وقتئِذٍ في قلة عدد، وقلة مال،

وقلة طعام، وقلة ركائب؛ كانوا في أشد الضعف، وكان المشركون في أَوَجِّ

قوتهم، فمَن بذل نفسه في سبيل الله في مثل تلك الحال لا يبذلها إلا بباعث الإيمان

وحافز الإخلاص، وتلك الحسنة تتضاءل بإزائها أي سيئة من السيئات.

فلنفرض أن عبد العزيز المصري قد اجترح ذنبًا عسكريًّا كبيرًا (كذنب

حاطب أو ماليًّا كذنب زُهرَة بن حوية، أو شخصيًّا كذنب أبي محجن رضي الله

عنهم) وأن ذلك الواشي الخبيث صادق فيما رماه به - وما كان الواشي النمّام

الخبيث إلا كذوبًا فاسقًا - أليس له مِن الجهاد في سبيل الحكومة الدستورية عند

تكوينها، ومِن الدفاع عنها أيام كان الخطر محدقًا بها، ما يشبه حسنة حاطب في

شهود غزوة بدر؟ وما كان حاطب ممتازًا فيها بشيء انفرد به دون سائر مَن

حضرها، ولا كان في مقدمة الذين أبْلَوا فيها وأثخنوا؟ وأما عبد العزيز المصري

فكان في مقدمة الضباط الذين أَبْلوا في فتح الآستانة، وفي غيرها من الأعمال

العسكرية التي أيدت الحكومة الحاضرة. فهو جدير بأن يكتفى منه بالأعذار، إذا

فرضنا أنه ارتكب بعض الأوزار، دع خدمته للدولة في عقد الصلح بينها وبين إمام

اليمن، بعد حرب استمرت عدة أجيال، سفكت فيها دماء مئات الألوف مِن الرجال،

وضاع بها القناطير المقنطرة من الأموال، ولم تستفد الدولة مِن ذلك فائدةً ما،

فكان ذلك الصلح من أفضل الأعمال وأنفعها للدولة ولأهل اليمن، ثُم دع خدمته في

قتال الجيش الإيطالي في برقة.

وإذا كان هذا الاجتماع العظيم قد عُقِد لأجل التشاور في إنصاف هذا الرجل،

أو إنقاذه من الخطر، قد جعل تحت رياسة الأستاذ الأكبر شيخ جامع الأزهر،

وشهده طائفة من أكبر علمائه، مع هذا الجمع العظيم من خواص البلاد؛ فالذي أراه

وأقترحه هو أن ترسل برقية بإمضاء الأستاذ الرئيس إلى مولانا السلطان المُعَظم

يخاطبه فيها بعنوان الخلافة، ويفتتحها بقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ

أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (الأحزاب: 21) ، ويطلب منه بأن لا يؤاخذ عبد العزيز بك

المصري بما عسَاه ينسبه إليه ديوان الحرب من ذنبٍ أو تقصيرٍ؛ لإخلاصه وسابق

خدمته للدولة، اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم في مسألة حاطب،

وبأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في إمضاء سلب الجالينوس

لزُهرَة بن حَويِة، وبسعد بن أبي وقاص في مسألة أبي محجن رضي الله عنهم

أجمعين) ، ويظهر له رغبته ورغبة هذا الجمع الكبير مِن علماء مصر وفضلائها

في ذلك. وأكبر ظني أن هذا هو أرجى ما يرجى نفعه في الآستانة.

هذا وإنني أختم كلمتي بالشكر لكم أيها الفضلاء الذين قصدتم هذا المكان

للسعي في إنقاذ أخٍ لكم من الهلاك، فإن هذا خدمةٌ للإنسانية، ومحافظةٌ على حقوق

البشر في الحياة والحرية. وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ

جَمِيعاً} (المائدة: 32)، قال بعض مفسري السلف: إحياؤها السعي في إنقاذها من

الموت والسلام.

هذا وإن لجنة الاجتماع لم تعمل بهذا الاقتراح لأنها كانت قد وضعت صورة

برقية باسم الصدر الأعظم تتضمن معنى شفاعة الأمة المصرية بالرجل، فجاءها

جواب أنور باشا ناظر الحربية، ملخصه أن المجلس الحربي مستقل تمام الاستقلال

لا يطرأ عليه أقل تأثير! !

_________

(1)

لفظ سعد رضي الله عنه: الضبر ضبر البلقاء، والطفر: طفر أبي محجن

إلخ والضبر بالضاد المعجمة: كر الخيل وعدوها، والطفر: الوثوب.

(2)

كلمته المأثورة (بهرجتني) ونحن ذكرنا المعنى المراد من هذه الكلمات ليفهمها جميع الحاضرين وقد أشكل على بعض الناس ترك سعد إقامة الحد وجهلوا سببه، وهو أن الحدود لا تقام في الحرب ولا دار الحرب، كما تراه في الفتوى الملحقة بالتفسير من هذا الجزء، وسعد يعلم هذا، وهو مما وصى به عمر، ولا يبعد أن لا يعرف مثل أبي محجن.

(3)

الفوق بالضم: موضع الوتر من السهم، ويطلق على السهم بمعنى الحظ وبمعنى أعلى الفضائل.

ص: 313

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌التعصب على المنار

هاج بعض غلاة التعصب على المسلمين هيجة شؤمى على المنار في هذا

العام، وجدّدوا السعي إلى الوكالة البريطانية أولاً وبالذات، وإلى الحكومة المصرية

ثانيًا وبالتبع، لتبطش بصاحب المنار فتلقيه في غيابة السجن، أو تنفيه من أرض

مصر، استعانوا على محلهم وسعاتهم ببعض القسيسين وغير القسيسين من الأجانب

والوطنيين، ونفثوا سموم تعصبهم في جرائد القبط وبعض الجرائد الإفرنجية التي

يحرر فيها بعض السوريين. وكان محضاء نار هذه الفتنة، والمدبر الأول لهذه

المكيدة، يوسف الخازن اللبناني الذي يعيش من التحرير في جريدة الوطن القبطية،

وجريدة دوكير الفرنسية، وهو الراسخ في بُغْضِ المسلمين الذي نُقل عنه أنه قال:

إذا صافحه مسلم تضطرب أعصابه، ولهذا لا تكاد تراه يبدأ مسلمًا من معارفه

بالمصافحة.

وقد عرف القرَّاء مما كتبناه في الجزء الماضي شيئًا من خبر هذه الهيجة

التعصبية على المنار، ولعل أن أدباء القراء ظنوا أن ما كتبناه في الجزء الماضي

قد أطفأ - بما يتجلى فيه من حسن نيتنا - نيرانهم، واستخرج بحججه وسماحته

أضغانهم، كلا؛ إنه لم يزدهم بغيًا وعدوانًا، وسعايةً ووشايةً وزورًا وبهتانًا، فنحن

نثبت من تاريخنا وممّا كتبناه في المنار من أول نشأته إلى الآن، أننا طلاب تسامح

ووفاق، وهم يريدون أن يتبدلوا الشيء بضده فيوهموا مَن يسمع كلامهم أننا دعاة

عداوة وافتراق، نَحْقِر النصارى وندعو المسلمين إلى بغضهم وعداوتهم لأجل دينهم!!

حَسْب الإنسان أن يُعلم من نفسه ومن نيته السعي للخير، والإخلاص في

العمل، فإن كان يبالي باطلاع الناس على عمله ومظاهر حسن قصده، لأجل

الأسوة الحسنة، والتعاون على الخدمة العامة، فحسبه أن يعرف أهل الإخلاص

وحسن النية منه ما يعرفه من نفسه.

ونحن ولله الحمد والمنّة أصحاب تاريخ معروف، وأثر في السعي إلى

الإصلاح والاتفاق مدوّن مطبوع، يعرفه قراء العربية، ولا يجهله خواص الأمم

الإفرنجية، وحسبك ما نَوَّهَ به - في العام الماضي - أصحاب المجلة الفرنسية

المصرية بمصر، وجريدة فرنسا الإسلامية في باريس، من حسن تأثير خدمة

المنار في المسلمين بحملهم على التسامح والمدنية، وما سمّوه (المدرسة العبدية)

هو ما بثه المنار من مشرب شيخنا الأستاذ الإمام من إثبات التسامح الإسلامي

والدعوة إليه، والتأليف بين قواعد الإسلام الثابتة، وبين المدنية الصحيحة. وما

قالته هاتان الصحيفتان أخيرًا هو صدى ما كتب في جريدة الطان من بضع سنين في

سياق الكلام عن مسلمي تونس، وما كتبه لورد كرومر عن حزب الشيخ محمد عبده

في تقريره الذي ذكره في عقب وفاته، وهل لمشرب الشيخ محمد عبده وآرائه

مظهر عرفت به في الأقطار، غير مجلة المنار؟ ؛ بل نقول إن هذا المشرب مما

اتفق فيه رأينا مع رأي الأستاذ رحمه الله تعالى، ولم يكن مما تلقيناه عنه، وما لنا

فيه من القول والسعي أكثر مما كان له.

ومن الشواهد على ذلك ما كتبناه في فاتحة العدد الأول من المنار، وفي أول

نبذة فيه بعد الفاتحة، ولم نكن يومئذٍ تلقينا عن الأستاذ درسًا، ولا بسطنا معه في

هذه المسألة وأمثالها قولاً.

قلنا في بيان خطة الصحيفة وما أنشئت لأجله ما نصه: (وتحاول إقناع

أرباب النِّحَل المتباينة، والمذاهب المختلفة، أن الله تعالى شرع الدين للتحابّ

والتوادّ والبر والإحسان، وأن المعارضة والمناهضة، والمناصبة والمواثبة،

تفضي إلى خراب الأوطان وتقضي على هدي الأديان) .

وبينت في النبذة التي بعد المقدمة أن لفظ الكفر لم يستعمل في الكتاب والسنة

للإهانة؛ بل لبيان حقيقة من الحقائق. وأنه يستعمل الآن في غير ما كان يستعمل

من قبل، ومنه إرادة السب والشتم، فلا يجوز أن يوجه بهذا المعنى في الخطاب

بنداء أو وصف إلى مَن حرَّم الشرع إيذاءَهم وجعل لهم حقوقًا محترمةً من الذمّيين

والمعاهدين (الأجانب الذي بينهم وبين المسلمين عهود على ترك الحرب أي غير

المحاربين) واستخرجت نصًّا من كتب الفقهاء على ذلك لا حاجةَ لإعادة ذكرِه هنا.

بعد هذا التمهيد أقول ليوسف الخازن وأصحاب الجرائد القبطية من غلاة

التعصب ومبغضي المسلمين كيفما كانوا، ولجميع ما هو مثلهم من وطني أو أجنبي:

قولوا فينا ما شئتم، وظنوا ما شئتم، واعتقدوا ما شئتم، وهيجوا مَن شئتم،

ولتدب عقارب سعايتكم إلى مَن شئتم، فنحن لا نبالي بكم، ولا نأبه لرضاكم ولا

لسخطكم، فمَن أخطأ إلى مثلكم فهو الذي يحسن منه أن يصرَّ ولا يعتذر؛ إذ لا

صارف لكم عن شيء من الشرّ، إلا مكانتكم من الضعف والعجز، وها أنتم أولاء

قد أجمعتم كيدكم، وبذلتم في سبيل إيذائنا جهدكم، فما كنتم إلا خائبين مخذولين؛

{إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ المُفْسِدِينَ} (يونس: 81) نعم، لو كان ساسة الإنكليز

كساسة القبط في عقولهم وأخلاقهم، وكان لورد كتشنر كيوسف الخازن في تعصبه

وحنقه على المسلمين، لأقفل المنار، ونفي صاحبه من هذه الديار، وتبعه إقفال

الأزهر بعد دار الدعوة والإرشاد، ولو رأيت من جمهور المشاركين لكم بلقب الدين ما

رأيت منكم، لقلت للمسلمين إنه قد ظهر لي في السنة السابعة عشرة من دعوتي

إياكم إلى الاتفاق والتعاون مع هؤلاء الناس على ترقية البلاد، إنهم لا يمكن أن

يتفقوا معكم، ولا يرضيهم منكم إلا خروجكم من دينكم، أو إقامتكم فيه على خوف،

لا تدفعون عنه بحق، ولا تقابلون محاولي إبطاله وإخراجكم منه بالمثل ولا دون

المثل؛ ولكن من فضل الله على عباده أن مثل هؤلاء الغلاة قليل، ولهذا لا نيأس

من خطتنا، ولا نرجع عن قاعدتنا وهي:

(نتعاون على ما نشترك فيه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما نختلف فيه) .

_________

ص: 317

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌المسألتان الشرقية والصهيونية

ما تبددت ثروة شريف باشا الكبير في مصر إلا وكان بددها مكونًا لثروات

جديدة لم تكن، ومددًا لثروات أخرى ومزيدًا فيها، ذهبت تلك الثروة الكبيرة ممن

عجزوا عن حفظها بله تنميتها، إلى أيدي القادرين على ذلك. وكذلك تتبدد الدول

فتتألف من الكبيرة منها دول متعددة، وتنمى وتتسع دول أخرى - سنة الله في تغذي

الأحياء بفرائسها - من أفراد الجنة (الميكروبات) والهوام إلى جماعات

البشر؛ أرقى أنواع الحيوان.

ومن عجائب العِبَر في تفاوت همم البشر، أن ترى كاتبًا صغيرًا في خدمة

غني كبير يطمع أن يرث ثروته أو ينشئ لنفسه مثلها، وذلك الغني يائس مِن حفظ

ثروته واستبقائها وإن تعجب من تكون ممالك البلغار واليونان والصرب والجبل

الأسود والألبان مِن أملاك الدولة العثمانية في أوربا، وتغذي الدول الكبرى بأملاكها

في إفريقية وفتح أفواههن لابتلاع أملاكها في آسية.

فأعجب من ذلك كله تصدي جمعية من يهود أوربة لتكوين دولة جديدة في

البلاد المقدسة من هذه المملكة تتألف من مهاجرة فقراء اليهود الممزقين في جميع

أطراف الأرض بمساعدة هذه الجمعية؟ فكيف تسمو همة جمعية أسسها رجل من

اليهود إلى تكوين دولة من أوزاع المهاجرين الفقراء في بلاد تتنازع على شبر

الأرض فيها أقوى الأمم والدول وتسفل همة أصحاب هذه البلاد عن حفظها لأنفسهم،

دع سمو الهمة إلى تأسيس ملك جديد، في قطرٍ قريبٍ أو بعيدٍ، وهكذا تموت

الناس وتحيا، وهكذا تردى وترقى، وأسباب ذلك ظاهرة لا محل هنا لشرحها،

وكلها تدور حول العلم أو الجهل، وعلو الهمة أو وطوؤها، وكبر المقاصد

وصغرها. (والعلم ما يعرّفك مَن أنت ممن معك) .

علم الصهيونيون أن الدول الكبرى لا يسمحن لواحدة منهن بامتلاك مهبط

الوحي ومصدر الدين الموسوي والعيسوي، وأنه إذا زال ملك الترك من بلاد

فلسطين فلا بد أن تكون مستقلة تحت حماية جميع الدول (وهذا رأي بعضهم في

الحجاز أيضًا) فطمعوا في إرضاء الدول بأن تحل أشكال التنازع بين الدول

والمذاهب المسيحية بأن يكون اليهود هم أصحاب الملك في هذه المملكة؛ بل طمعوا

أيضًا في إرضاء جمعية الاتحاد والترقي بذلك؛ بل يقال: إنهم أقنعوها به فهي

تساعدهم على التمهيد له لتقطع الطريق على العرب وتكثر خصومهم في بلادهم،

ولا محل هنا للبحث في إثبات هذا القول أو نفيه، وإنما جئنا بهذه المقدمة كلها

لأجل تذكير الذين أكثروا القول في المسألة الصهيونية من كتّاب العرب بأنهم ما

فتئوا يدورون حولها ولمّا يدخلوا فيها.

يجب على زعماء العرب أهل البلاد أحد أمرين: إمّا عقد اتفاق مع زعماء

الصهيونيين على الجمع بين مصلحة الفريقين في البلاد إن أمكن - وهو ممكن

قريب إذا دخلوا عليه من بابه، وطلبوه بأسبابه - وإما جمع قواهم كلها لمقاومة

الصهيونيين بكل طرق المقاومة، وأولها تأليف الجمعيات والشركات، وآخرها

تأليف العصابات المسلحة التي تقاومهم بالقوة - وهو ما تحدّث به بعضهم على أن

يكون أول ما يعمل، وإنما هو الكيّ - والكيّ آخر العلاج كما يقال.

_________

ص: 319

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌السيدة نُعْمَى آل رضا

في النصف الثاني من ليلة الأحد سادسة ليالي شهر ربيع الأنور وهبنا الله تعالى

بنتًا، سمّيناها نُعْمَى، واللهَ نسأل أن يحقق معنى الاسم في المسمّى، وقد فاتنا أن نذكر

ذلك في الجزء الماضي.

_________

ص: 320

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فتاوى المنار

حديث صحيفة علي كرّم الله وجهه

(س12) من صاحب الإمضاء بمصر

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ وبعد فأرجوكم شرح حديث علي الذي

نقلتموه في (ص483 م 16) من المنار وقوله فيه: (وما في هذه الصحيفة:

العقل وفكاك الأسير ولا يقتل مسلم بكفار) فما الذي تعرفه عن هذه الصحيفة؟ وأين

هي؟ ولماذا أهملها المسلمون؟ وهل ما فيها متفق عليه في جميع المذاهب؟ وإن لم

يكن متفقًا عليه فلِمَ ذلك؟ ولماذا أمر صلى الله عليه وسلم بكتابتها مع أنه نهى

عن كتابة شيء عنه غير القرآن؟ ومتى أمر بكتابتها؟ ومَن كتبها وأين؟ وكيف

لا يقتل المسلم بالكافر؟ فالرجاء الإجابة الشافية عن كل هذه الأسئلة كعادتكم حتى لا

نحتاج لمزيد بيان بعد ذلك.

(المخلص محمد توفيق صدقي)

(ج) الحديث رواه الجماعة؛ أحمد والشيخان وأصحاب السنن بألفاظ

متقاربة.

أمّا البخاري فقد روى الحديث عن أبي جحيفة في كتاب العلم بلفظ: (قلت

لعلي: هل عندكم كتاب؟ قال: لا إلا كتاب الله، أو فهم أعطيه رجل مسلم، أو ما

في هذه الصحيفة. قلت وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل وفكاك الأسير ولا يقتل

مسلم بكافر) . ورواية الكشميهني (وأن لا يقتل

إلخ) .

وفي باب فكاك الأسير من كتاب الجهاد بلفظ: (قلت لعلي: هل عندكم شيء

من الوحي إلا ما في كتاب الله؟ قال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، ما أعلمه،

إلا فهمًا يعطيه الله رجلاً في القرآن، وما في هذه الصحيفة. قلت: وما في هذه

الصحيفة؟ قال العقل وفكاك الأسير وأن لا يقتل مسلمٌ بكافرٍ) .

وفي باب الدِيَات بلفظ: (سألت عليًّا رضي الله عنه: هل عندكم شيء ممّا

ليس في القرآن؟ - وقال ابن عيينة مرةً: ممّا ليس عند الناس - فقال: والذي فلق

الحبة وبرأ النسمة، ما عندنا إلا ما في القرآن، إلا فهمًا يعطى رجل في كتابه،

وما في هذه الصحيفة. قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل وفكاك الأسير

إلخ) .

ورواه في باب حرم المدينة من كتاب الحج عن إبراهيم التيمي عن أبيه بلفظ:

عن علي رضي الله عنه قال: ما عندنا شيء إلا كتاب الله، وهذه الصحيفة

عن النبي صلى الله عليه وسلم: (المدينة حرم ما بين عائر إلى كذا من أحدث فيها

حدثًا، أو آوى محدثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف

ولا عدل. (وقال) : وذمة المسلمين واحدة، فمن أخفر مسلمًا فعليه لعنة الله

والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل، ومَن تولّى بغير إذن

مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل) .

وفي باب ذمّة المسلمين من كتاب الجزية بلفظ (خطبنا علي فقال: ما عندنا

كتاب نقرؤه إلا كتاب الله وما في هذه الصحيفة. قالوا: وما في هذه الصحيفة؟ فقال

فيها الجراحات وأسنان الإبل، والمدينة حرام ما بين عير إلى كذا، فمَن أحدث فيها

حدثًا أو آوى فيها محدثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه

صرف ولا عدل. ومتى تولى غير مواليه فعليه مثل ذلك وذمة المسلمين واحدة،

فمَن أخفر مسلمًا فعليه ذلك) .

وفي باب إثْم مَن عاهد ثم غدر بلفظ: عن علي قال: ما كتبنا عن النبي -

صلى الله عليه وسلم إلا القرآن وما في هذه الصحيفة. قال النبي صلى الله عليه

وسلم: (المدينة حرام ما بين عائر إلى كذا، فمَن أحدث حدثًا أو آوى محدثًا فعليه

لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه عدل ولا صرف، وذمّة المسلمين

واحدة يسعى بها أدناهم، فمَن أخفر مسلمًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين

لا يقبل منه صرف ولا عدل، ومَن والى قومًا بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله

والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل) .

وفي باب إثم مَن تبرّأ مِن مواليه بلفظ: ما عندنا كتاب نقرؤه إلا كتاب الله

غير هذه الصحيفة، (قال) فأخرجها فإذا فيها أشياء مِن الجراحات وأسنان الإبل،

(قال) وفيها المدينة حرام

إلخ) وذكر مسألة الولاء فمسألة الذمة بمثل ما

تقدم) .

وفي باب كراهة التعمق والتنازع والغلوّ في الدين مِن كتاب الاعتصام بلفظ:

خطبنا علي على منبر من آجرّ فقال: والله ما عندي مِن كتابٍ يُقرأ إلا كتاب الله

وما في هذه الصحيفة، فنشرها فإذا فيها أسنان الإبل، وإذا فيها المدينة حرم من

عير إلى كذا، فمَن أحدث فيها حدثًا فعليه لعنة الله -

وإذا فيه: ذمّة المسلمين

واحدة يسعى بها أدناهم فمَن أخفر مسلمًا فعليه

(إلا أنه قال) : لا يقبل الله منه

صرفًا ولا عدلاً.

وروايات مسلم وأصحاب السنن بمعنى روايات البخاري، وصّرح مسلم

بِحَدَّي المدينة وهما عير وثور (جبلان) ، قال الحافظ في فتح الباري في الكلام

على حديث علي من طريق إبراهيم التيمي عن أبيه:

وسبب قول علي هذا يظهر مما أخرجه أحمد من طريق قتادة عن أبي حسان

الأعرج أن عليًّا كان يأمر بالأمر فيقال له: (فعلناه) . فيقول: صدق الله ورسوله.

فقال له الأشتر: إن هذا الذي تقول؛ أهو شيء عهده إليك رسول الله صلى الله

عليه وسلم؟ فقال: ما عهد إليّ شيئًا خاصةً دون الناس إلا شيئًا سمعته منه فهو في

صحيفة في قراب سيفي، فلم يزالوا به حتى أخرج الصحيفة فإذا فيها - فذكرت

الحديث - وزاد فيه: (المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يدٌ

على مَن سِواهم. ألا لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهدٍ في عهده. (وقال فيه) :

إن إبراهيم حرّم مكة، وإنّي أحرم المدينة ما بين حَرَّتَيْها وحماها كله، لا يُختلى

خلاها ولا يُنفّر صيدُها، ولا تُلتقط لقطتُها، ولا يُقطع منها شجرةٌ، إلا أن يعلف

رجلٌ بعيره، ولا يُحمل فيها السلاح لقتالٍ) ، والباقي نحوه. وذكر في موضعٍ آخر

أن سبب سؤال علي زَعْم بعضهم أن النبي خصه بشيء دون الناس.

وقال في الكلام على حديث في باب إثم مَن تَبَرّأ من غير مواليه: وكان فيها

أيضًا ما مضى في الخمس من حديث محمد ابن الحنفية أن أباه علي بن أبي طالب

أرسله إلى عثمان بصحيفةٍ فيها فرائض الصدقة، فإن رواية طارق بن شهاب عن

علي في نحو حديث الباب عند أحمد أنه كان في صحيفته فرائض الصدقة.

وقال الحافظ: إن الصحيفة كانت مشتملة على كل ما ورد؛ أي فكان يذكر كل

راوٍ منها شيئًا، إمّا لاقتضاء الحال ذكره دون غيره، وإمّا لأن بعضه ملمٌّ يحفظ كل

ما فيها أو لم يسمعه، ولا شك أنهم نقلوا ما نقلوه بالمعنى دون التزام اللفظ كله،

ولذلك وقع الخلاف في ألفاظهم، ولم يقل الرواة: إنه قرأها عليهم برمّتها فحفظوها أو

كتبوها عنه؛ بل تدل ألفاظهم على أنه كان يذكر ما فيها أو بعضه من حفظه، ومَن

قرأها لهم كلها أو بعضها لم يكتبوها؛ بل حدّثوا بما حفظوا، ومنه ما هو من لفظ

الرسول صلى الله عليه وسلم ومنه ما هو إجمالٌ للمعنى كقوله: (العقل وفكاك

الأسير) ؛ فإن المراد بالعقل: دِيَةُ القتل. وسميت عقلاً لأن الأصل فيها أن تكون

إبلاً تعقل؛ أي تربط بالعقل في فِنَاء دار المقتول أو عصبته المستحقين لها.

وقوله: (أسنان الإبل) في بعض الروايات معناه ما يشترط في أسنان إبل

الدية أو الصدقة. وفكاك الأسير ما يفك به من الأسير من فداءٍ أو مالٍ. ففي

الصحيفة بيان ذلك، لا لفظ (العقل، وفكاك السير وأسنان الإبل) . وجملة القول

أننا لا نعلم أن أحدًا كتبَ عن أمير المؤمنين ما كان في تلك الصحيفة بنصه، ولا

أنه هو كتبها بأمر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قال في رواية قتادة عن أبي

حسان أنه سمع شيئًا فكتبه.

وأمّا كتابة الصحيفة مع ما ورد من النهي عن كتابة شيء عن النبي - صلى

الله عليه وسلم - غير القرآن، فيقال فيه: إن النهي عن الكتابة معارض بالأمر بها

كحديث (اكتبوا لأبي شاه) وغيره، والكتابة لأهل اليمن، وكتاب الصدقات الذي

كتبه أبو بكر رضي الله عنه إلى أنس لمّا وجّهه إلى البحرين؛ أي عاملاً على

الصدقة. فإنه قال فيه: (إن هذه فريضة وفي رواية فرائض الصدقة التي فرض

رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين والتي أمر بها رسوله

إلخ)

ورواه الشافعي وأحمد والبخاري وأبو داود والنسائي وغيرهم. وروى أبو داود

والترمذي وابن ماجهْ عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي

الله عنه قال: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب الصدقة فلم يخرجه

إلى عماله حتى قُبِضَ فقرنه بسيفه. فعمل به أبو بكر حتى قُبِضَ ثُم عمل به عمر

حتى قُبِضَ

إلخ. هذا لفظ أبي داود ثم بيّنه بنحو حديث أنس مختصرًا ولم يذكر

الزهري البقر. وفي رواية عن يونس بن يزيد عن الزهري قال هذه نسخة كتاب

رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتبه في الصدقة وهو عند آل عمر بن

الخطاب، قال ابن شهاب: أقرأنيها سالم بن عبد الله بن عمر فوعيتها على وجهها،

ثُم ذكر أن عمر بن عبد العزيز انتسخها. وقد تفرّد بوصل هذا الحديث سفيان بن

حسين وهو من رجال مسلم إلا أنه ضعيف فيما يرويه عن الزهري خاصة، وتابعه

سليمان بن كثيرٍ مِن رجال الصحيحين، وفي رواية أبي داود لحديثِ أنس أن الكتاب

كان عليه ختم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك مما ورد في

الكتابة.

فمِن الناس مَن يجعل الإذن ناسخًا، ومنهم مَن يجعل أحد النصين مطلقًا

والآخر مقيدًا كتقييد كون الكتابة عنه لتبليغ نصّها والتعبد بلفظها عنه كالقرآن، لئلا

يشتبه بعض الناس، فيمتنع التنافي بينهما حينئذٍ. وقد سَبَقَ للمنار البحث في ذلك

كما يعلم السائل.

وأمّا الأخذ بالأحكام المرْوية عن تلك الصحيفة: هل هو متفق عليه أم لا؟

فجوابه: إن العلماء لم يتفقوا على العمل بها، فمنهم مَن لم يحرم المدنية كمكة،

ومنهم مَن يقول: يقتل المؤمن بالكافر؛ كالحنفية، ومَن خالف مِن العلماء شيئًا مِمَّا

في الصحيفة فله مِن الدليل المعارض له ما يراه مرجحًا عليه، كاحتجاجهم بإقرار

النبي صلى الله عليه وسلم لِمَن صاد النغر (طائر أحمر المنقار كالعصفور) على

جواز صيد المدنية، على أن تلك واقعة حال مجهول تاريخها، وكاحتجاجهم على

قتل المؤمن بالكافر بأن النبي صلى الله عليه وسلم قتل مسلمًا بمعاهد وقال: (أنا

أكرم من وفى بذمته) . رواه البيهقي من حديث عبد الرحمن البيلماني مرسلاً وهو

ضعيف. وبقوله في بعض روايات حديث الصحيفة وفي أحاديث أخرى (لا يقتل

مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده) قالوا معناه المناسب لعطفه على منع قتل

المؤمن بالكافر: ولا يقتل معاهد حال كونه في عهده لم ينقضه بكافر. وحينئذٍ يكون

المراد بالكافر الحربي، أي من كان محاربًا للمسلمين بالفعل أو بالقوة بأن لم يكن

بينه وبينهم عهدٌ ولا ذمةٌ. لأنَّ المعاهد والذميَّ لا يقتل بالحربي إجماعًا، وبعموم

أدلة القصاص، وليس هذا محل تحرير هذا البحث، وإنك تجد تحرير الأدلة فيه

من غير تعصبٍ في (فتح الباري) و (نيل الأوطار) .

فمَن صح عنده قتل المسلم بالكافر فله أن يعدَّه من عجائب مبالغة الإسلام في

العدل والمساواة، ومَن صح عنده خلافه فلا يراه بدعًا في أعمال الأمم الفاتحة،

والزمن زمن الأحكام العرفية أو العسكرية؛ بل ترى الإفرنج لا يقبلون أن يكونوا

مساويين لأمم الشرق والجنوب في الدماء لا في البلاد التي يفتحونها فتحًا حربيًا ولا

سلميًّا ولا في البلاد التي يكونون فيها نزلاء معاهدين كالضيوف. أمّا أحكامهم

العرفية فحسبك نموذجًا منها ما جرى في (دنشواي) من هذه البلاد من تمزيق جلود

بعض المصريين بالضرب المُبرح بالسياط ذات العقد، ثُم شنقهم وصلبهم على أعين

الناس من رجالٍ ونساءٍ وأطفال مِن أهلهم وغيرِ أهْلهم؛ لأنهم تجرَّؤوا على بعض

عسكر الإنكليز الذين صادوا حمامهم عن بيادرهم بالمقاومة والضرب المعتاد الذي لا

يُقصد به القتل، ولا يقتل مثله. هذا وقد اشتهر الإنكليز بأنهم أعدل الأوربيين

وأقربهم إلى الرحمة. وحجّة الإفرنج في تمييز أنفسهم على الشرقيين أنهم أرقى

منهم عدلاً وفضيلةً، وهكذا كان المسلمون فوق جميع الأمم عدلاً وفضيلةً بشهادة

جميع مؤرخي الأمم. وإنما ذكرت السائل بمسألة الأحكام العرفية وبهذا الشاهد منها،

وبما يعاملنا به الإفرنج في بلادنا، ليحاجَّ به مَن يجادل في أمثال هذه المسائل مِن

المخالفين أو متفرنجة المسلمين، محجوبين بنظريات الحقوق عن سيرة العالم

العملي. ومَن لم يسدل على نظره هذا الحجاب يقول كما قال غوستاف لوبون

الحكيم الفرنسي: (ما عرف التاريخ فاتحًا أعدل ولا أرحم من العرب) . وكذا

سائر المسلمين كانوا في فتوحاتهم أعدل وأرحم من غيرهم وإن كانوا دون العرب.

***

دليل منع الحائض من الصلاة وحكمته

(س13) من صاحب الإمضاء في (ههيا - شرقية)

سيدي الأستاذ الرشيد المرشد

السلام عليكم ورحمة الله. وبعد فقد قرأت مباحثكم الرائقة الحكيمة في

موضوع الوضوء والطهارة في المنار فأعجبتني جدًّا، واستفدت منها الشيء الكثير،

فجزاكم الله عني وعن الإسلام والمسلمين خير الجزاء. وإنني لمناسبة هذا المقام

لسؤالٍ عندي قديم، أنتهز هذه الفرصة لأبديه، عسى أن تتكرَّموا بالجواب على

طريقتكم العصرية فأقول:

هل سقوط فريضة الصلاة عن المرأة وهي حائض أو في نفاس من الأشياء

المجمع عليها بين جميع فرق المسلمين، وإذا كانت كذلك أو كانت صحيحة فلِمَ لَمْ

تُذكر في القرآن؛ مع أنه تعالى نهى عن الجماع في الحيض فكان مِن باب أَوْلى أن

ينهى عن الصلاة في مثل هذه الحالة لو كان أراد سبحانه وتعالى أن يكون النهي

لكل زمانٍ ومكانٍ، كما ذكر مسوغات عدم الحج بقوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ

البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} (آل عمران: 97) ومسوغات عدم الصيام أو

بالأحرى ما يمنع الصيام بقوله تعالى: {وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ

أَيَّامٍ أُخَر} (البقرة: 185) .

لم تذكر موانع للصلاة مطلقًا، وإنما ذكرت أعمال يؤتى بها قبل الشروع فيها،

فلا الخوف من الأعداء أو غيرهم في الحرب أو غيرها مسوغ لترك أو تأجيل

الصلاة، فكيف يكون دم الحيض وهو ذلك الدم الذي يتغذى منه الجنين في بطن أمه

مانعًا مِن الصلاة؟ فإنْ صحَّ أن يقال إنه نجس، يصح أن يقال: إن جسم الطفل؛ بل

جسم كل إنسانٍ نجس؛ لأن أصله من ذلك الدم.

العلم الحديث لم يثبت أن في دَمِ الحيض عناصر خبيثة في ذاتها؛ بل أثبت أن

الإتيان أثناء وجوده ضار جدًّا بالمرأة، لأن أعضاءها التناسلية تكون في حالة

احتقان، والأوعية الدموية فيها تكون ممتدة، فيسهل حصول نزيف بسبب حركة

عنيفة، كما يسهل جدًّا دخول مكروبات الأمراض، فتحدث التهابات موضعية

وغيرها قد تذهب بحياة المرأة أو تورثها العقم الدائم مع الآلام الشديدة؛ ولا سيّما عند

مجيء الحيض في كل شهر. والرجل لا يخلو أيضًا من الضرر، فقد يدخل بعض

السائل من الحيض في مجرى البول من القضيب فيحدث التهابًا يشبه السيلان.

وهذا كله ينطبق على قوله عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى

فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي المَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ

حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ} (البقرة: 222) .

فأين هذا من نهي الحائض عن الصلاة وهي عماد الدين؟ ومثلها في طهارة

الأرواح كمثل الماء في طهارة الأجسام، على أن حركاتها من قيامٍ وركوعٍ وسجودٍ

لا تضر الحائض غالبًا، وإن خيف منها الضرر فيمكن أن تؤتى بشكل خالٍ من كُل

مضرة، وليكن أخذ ذلك من قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ

الوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ * فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا

عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} (البقرة: 238-239) .

الحيض لا يمكن اعتباره إلا مرضًا شهريًّا مِن أخفِّ الأمراض فِلَمَ تؤمر المرأة

بالصلاة في أشدّ الأمراض وأكثرها أذًى لها ولغيرها؛ وتنهى عنها في الحيض الذي

لا ينهى عن القيام بأكثر أعمالها اليومية؟ فما رأيكم دام فضلكم.

...

...

المستفيد من علمكم والمستضيء بمناركم

...

...

... الدكتورعبده إبراهيم

(ج) : نقل الحافظ إجماع المسلمين على أن الحائض لا يشرع لها الصلاة ولا

الصيام، وأنها تقضي الصيام دون الصلاة. إلا أنهم نقلوا أن سمرة بن جندب - من

الصحابة رضي الله عنه كان يقول بمطالبة المرأة بقضاء الصلاة أيضًا فأنكرت

ذلك عليه أم المؤمنين أمّ سلمة رضي الله عنها. ونقلوا أيضًا مثل ذلك عن بعض

الخوارج ولم يعتدوا به ولا رأوه مخلاًّ بالإجماع. وأما مخالفة سمرة فهي تخرق

الإجماع، وظاهر كلامهم أنه رجع إلى قول أم سلمة لأن أمهات المؤمنين هن القدوة

فيما يروينه من هذه الأحكام المتعلقة بالنساء؛ إذ لا يجوز أن يوجب الله على النساء

قضاء الصلاة ولا يأمرهن به النبي صلى الله عليه وسلم؛ بل لا يجوز منه السكوت

عن ذلك أو إقراراهن عليه. وقد جعل العلماء حجة الإجماع على ذلك ما ورد فيه

من الحديث.

ويمكن أن يستنبط الدليل من القرآن على منع الحائض من الصلاة، فإنه

تعالى قد اشترط الطهارة للصلاة، والطهارة متعذرة على الحائض مع استمرار

سببها وهو نزول الدم. أما الطهارة المشترطة للصلاة إجماعًا؛ فهي الوضوء من

الحدث الأصغر والغسل من الحدث الأكبر، وأما المشترطة عند الأكثرين فقط

فطهارة البدن والثوب والمكان. وقد صرح القرآن في آيتي الوضوء والتيمم بأن

طهارة الجنب الغسل، والحائض ملحقة بالجنب لأن حدثها كحدثه في تأثيره في

الروح والجسد، كلاهما يحدث في الجسد ضربًا من الضعف والفتور يزيله تعميم

البدن بالماء، كما بيّناه في حكمة الوضوء والغسل، وكلاهما يضعف الروحانية. وقد

ثبت في السنة والإجماع القولي والعملي المتواترين أن المراد بقوله تعالى: في بيان

طهارة الحيض؛ {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} (البقرة: 222) فإذا اغتسلن، فطهارتهن

الغسل بالكتاب والسنة والإجماع، وهي متعذرة مع وجود سببها، وإنما تجب بزواله،

فإذا تعذرت الطهارة تعذرت الصلاة شرعًا لأنها مشروطة بها. وتتعذَّر عليها

الطهارة من الخبث كما تتعذر عليها الطهارة من الحدث، فإن الدم نجس شرعًا

وعرفًا لأنه مستقذر جدًّا باتفاق الطباع السليمة من كل الأمم. ولا يلزم من نجاسته

نجاسة الجنين الذي يتغذى به، كما لا يلزم أن يكون النبات الذي يتغذى بالعذرة

والروث وغيرهما من الأقذار نجسًا، فالنجاسة في الشرع والعرف لا تبنى على

قواعد الطب، فإن جميع أدباء البشر؛ بل جميع طبقاتهم تستقذر الملطخ بالدم

وتعاف مجالسته ومواكلته ومصاحبته، وإن لم يضرهم ذلك الدم بإفساد صحتهم

عليهم، وخروج المني يوجب الغسل وهو طاهر عند بعض الأئمة. وصرّح الفقهاء

بأن الدم وغيره لا يحكم بنجاسته في معدنه من البدن؛ بل بعد خروجه. ومتى خرج

دم الحيض صار قذرًا ولم يعد غذاء للأجنة.

وقد علم مما تقدم أن ما ثبت في السنة العملية والإجماع مِن سقوط الصلاة عن

الحائض له مأخذٌ ما مِن القرآن، والقرآن لم يبين أحكام الصلاة التفصيلية بل تركه

لبيان النبي صلى الله عليه وسلم الذي خاطبه بقوله: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ

لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44) ؛ إذ يشمل هذا بيان الذكر المنزل

وتبليغه، وبيان المُجْمَل منه، وما يستنبط من دقائق تعبيره وأساليبه - كاستنباط

النبي صلى الله عليه وسلم تحريم الأكل والشرب في أواني الذهب والفضة من

قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ} (الأعراف:

31) ، بجعل الإسراف في لزوم الشيء ومتعلقاته كالإسراف فيه نفسه، واستنباطه

تحريم الجمع بين المرأة وعمّتها أو خالتها من تحريم الله الجمع بين الأختين، لاتحاد

العلة، واطراد الحكمة.

ولم نذكر في سياق هذا الاستدلال ما عليه السواد الأعظم من المسلمين من

تحريم قراءة القرآن على الجنب والحائض، والقرآن ركن من أركان الصلاة لا تقام

بدونه؛ لأنه وقع فيه خلاف ما. ولهذا مأخذ من القرآن وإن لم يكن نصًّا فيه، وهو

قوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَاّ المُطَهَّرُونَ} (الواقعة: 79) .

وجملة القول أن الصلاة أكمل العبادات إذا لم تصح مع الجنابة فلا تصح مع

الحيض بالأَوْلى، وكِلا السائلين فيهما من أسباب النسل. والحيض مرض قد تضر

معه الصلاة كما قلتم، والفرق بينه وبين سائر الأمراض التي تسقط معها الصلاة أنه

طبيعي دائم وسائر الأمراض ليست كذلك، وهي خلاف الأصل ومقتضى الطبيعة

المعتدلة. وإذا أسقطها الشرع عن المرأة تخفيفًا عليها، فإن لها من العبادة المزكية

للروح ما لا يشترط فيه ما يشترط فيها وهو ذكر الله عز وجل بالقلب واللسان

والتفكر في خلق السموات والأرض {اتْلُ مَا أُوحِيَ إلَيْكَ مِنَ الكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ

الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} (العنكبوت: 45) .

_________

ص: 335

الكاتب: مصطفى صادق الرافعي

‌حقيقة الإعجاز [*]

أما الذي عندنا في وجه إعجاز القرآن، وما حققناه بعد البحث، وانتهينا إليه

بالتأمل وتصفح الآراء وإطالة الفكر وإنضاج الروية. وما استخرجناه من القرآن

نفسه في نظمه ووجه تركيبه واطراد أسلوبه، ثُمّ ما تعاطيناه لذلك من التنظير

والمقارنة واكتناه الروح التاريخية في أوضاع الإنسان وآثاره، وما نتج لنا من تتبع

كلام البلغاء في الأغراض التي يقصد إليها، والجهات التي يعمل عليها، وفي رد

وجوه البلاغة إلى أسرار الوضع اللغوي التي مرجعها إلى الإبانة عن حياة المعنى

بتركيب حي من الألفاظ يطابق سنن الحياة في دقّة التأليف وإحكام الوضع وجمال

التصوير وشدّة الملاءمة، حتى يكون أصغر شيء فيه كأكبر شيء فيه - نقول:

إن الذي ظهر لنا بعد كل ذلك واستقرّ معنا أن هذا القرآن معجزٌ بالمعنى الذي

يُفهم من لفظ الإعجاز على إطلاقه. فهو أمر لا تبلغ منه الفطرة الإنسانية مبلغًا، وليس إلى ذلك مأتى ولا جهة، وإنما هو أثر كغيره من الآثار الإلهية يشاركها في

إعجاز الصنعة وهيئة الوضع، وينفرد عنها بأن له مادة من الألفاظ كأنها مفرغة

إفراغًا مِن ذوب تلك المواد كلها. وما نظنه إلا الصورة الروحية للإنسان. إذا كان

الإنسان في تركيبه هو الصورة الروحية للعالم كله، فالقرآن معجزٌ في تاريخه دون

سائر الكتب، ومعجزٌ في أثره الإنساني، ومعجزٌ في حقائقه. وهذه وجوه عامة

لا تخالف الفطرة الإنسانية في شيء، فهي باقية ما بقيت. وقد أشرنا إليها في بعض

الفصول المتقدمة، على أنها ليست من غرضنا في هذا الباب. وإنما مذهبنا بيان إعجازه في نفسه من حيث هو كلام عربي؛ لأننا إنما نكتب في تاريخ

الآداب. ونحن في كل ما نضعه من هذا الكتاب إنما نسلك الجانب الضيق من

الطريق، ونقتص الأثر الطامس، ونلتزم الخطة التي تحمل عليها النفس حملاً.

وقد كان فيما قدمناه؛ بل فيما دونه مقنع لو آثرنا ما تستوطئه النفس. وعطفنا على ما

تنازع إليه من السكون، كلما انتهت إلى حجة واضحة أو استبانت لائحة مسفرة،

ولكنّا نمضي ما اعتزمنا فاللهم عونك واللهم عونك.

هذا ولا بدّ لنا قبل الترسل في بيان ذلك الإعجاز أن نوطئ بنُبَذٍ من الكلام في

الحالة اللغوية التي كان عليها العرب عندما نزل القرآن فسنقلب من كتاب الدهر

ثلاث عشرة صفحة تحتوي ثلاثة عشر قرنًا لنتصل بذلك العهد. حتى نخبر عنه

كأننا من أهله وكأنه رأي العين. وإنما سبيل الصحة فيما نحن فيه أن يشهد عليه

الشاهدان (العين والأذن) إذ كان من شأنهما أن لا تثبت دعوى في حادثة دون أن

يشهد عليها أحدهما أو كلاهما.

بلغ العرب في عهد القرآن مبلغًا من الفصاحة لم يُعرف في تاريخهم من قبل،

فإن كل ما وراءه إنما كان أدوارًا من نشوء اللغة وتهذيبها وتنقيحها واطرادها على

سنن الاجتماع، فكانوا قد أطالوا الشعر وأُفتنوا فيه وتوافى عليه من شعرائهم أفراد

معدودون، كان كل واحد منهم كأنه عصر من تاريخه، بما زاد في محاسنه وابتدع

من أغراضه ومعانيه، وما نفض عليه من الصبغ والرونق، ثم كان لهم من تهذيب

اللغة واجتماعهم على نمطٍ من القرشية يرونه مثالاً لكمال الفطرة الممكن أن يكون،

وأخذهم في هذا السمت ما جعل الكلمة نافذة في أكثرهم، لا يصدها اختلافٌ من

اللسان، ولا يعترضها تناكرٌ في اللغة، فقامت فيهم بذلك دولةُ الكلام، ولكنها بقيت

بلا ملك حتى جاءهم القرآن.

وكل مَن يبحث في تاريخ العرب وآدابهم وينفذ إلى ذلك من حيث تنفذ به

الفطنة وتتأتى حكمة الأشياء، فإنه يرى كل ما سبق على القرآن من أمر الكلام

العربي وتاريخه إنما كان توطيدًا له، وتهيئة لظهوره، وتناهيًا إليه، ودُربة

لإصلاحهم به، وليس في الأرض أمة كانت تربيتها لغوية غير أهل هذه الجزيرة،

فما كان فيهم كالبيان آنَقَ منظرًا وأبدع مظهرًا، وأمدّ سببًا إلى النفس، وأردّ عليها

بالعاقبة، ولا كان لهم كذلك البيان أزكى في أرضهم فرعًا، وأقْوم في سمائهم شرعًا،

وأوفر في أنفسهم ريعًا، وأكثر في سوقهم شراءً وبيعًا. وهذا موضع عجيب

للتأمل ما ينفد عجبه على طرح النظر وإبعاده، وإطالة الفكر وترداده، وأي شيء

في تاريخ الأمم أعجب من نشأة لغوية، تنتهي بمعجزة لغوية، ثم يكون الدين والعلم

والسياسة وسائر مقومات الأمة مما تنطوي عليه هذه المعجزة، وتأتي به على أكمل

وجوهه وأحسنها، وتخرج به للدهر خير أمة كان عملها في الأمم صورة أخرى من

تلك المعجزة؟

هذا على أنه - كما علمت - أنشأهم على الكبر، ولم يجر معهم على المألوف

من مذاهب تربية الأمم، ولا هو كان طباقًا لروح الأخلاق التاريخية فيهم التي

تظهرها العادات على كل دين وشريعة وسياسة؛ إذ كانت ميراث الدهر، وكانت

مستقرة في كل عرق سار، وفي كل شبه نازع. وكانت روح المجموع لا تكون إلا

منها، ولا تعرف إلا به، ولا تظهر إلا فيها. فما عدا أن سفَّهَ أحلامَهم، ونكَّس

أصنامهم، وأزرى عليهم وعلى آبائهم الأولين وقام على رؤوسهم بالتقريع والتأنيب،

وهم أهل الحمية والحفاظ، وأهل النفوس التي تصب كالمعاني في الألفاظ، ثم

ذهب بطريقة كانت لهم معروفة، وعادات كانت لهم مألوفة، وأرسلهم في طريق

العمر إلى الفناء، فكأنما طلع بهم من أولها، وكأنهم بعد ذلك على آدابه نشأوا وهم

أغفال وأحداث؛ بل كأنهم سلالة أجيال كان القرآن في أوليتهم المتقادمة فكانوا هم

الوارثين لا الموروثين، والناشئين لا المنشئين، مصداقًا للحديث الشريف: (خير

القرون قرني ثم الذي يليه) .

ولَعَمْرُكَ إن هذا لعجيب، وليس أعجب منه إلا أن أول جيل أنسل من هؤلاء

القوم كان هو الذي تناول مفتاح العالم فأداره. وقد خرج للغاية التي جاء بها القرآن،

وكأنه دار معها في الأصلاب دهرًا طويلاً، حتى أحكمته الوراثة الزمنية، وردّت

عليه من الطباع ما لا يتهيأ إلا في سلالةٍ بعد سلالة وجيلٍ بعد جيل، من قوم قد

مرّوا منذ أولهم في أدوار الارتقاء. على سنن واضح وطريق نهج، لم ينتقض لهم

في أثناء ذلك طبع من طباع الاجتماع، ولا رذلت شيمة، ولا التَوَت طريقة، ولا

سقطت مروءة، ولا ضلّ عقل، ولا غوت نفس. ولا عُرض لهم بغي ولا أفسدتهم

عادة. وأين هذا كله أو بعضه من قوم كانوا بالأمس عاكفين على الأوثان يأكل

بعضهم بعضًا. ولهم العادات المرذولة، والعقائد السخيفة، والطباع الممزوجة -

إلى غيرها ممّا يحمل عليه الإفراط فيما زعموه فضيلةً. كحمية الأنف واستقلال

النفس، ومما كان من عكس ذلك كالتسليم للعادة والانقياد لطبيعة التاريخ. والمضي

على ما وجدوا؛ ثم الموت على ما وُلِدُوا؟

لا جَرَم أن في ذلك سرًّا من أسرار الفطرة. فلولا أن أكبر الأمر بينهم كان

للفصاحة وأساليبها بما استقام لهم من شأن الفطرة اللغوية وما بلغوا منها كما فصّلناه

في بابه، حتى صارت هذه الأساليب كأنها أعصاب نفسية في أذهانهم. تنبعث فيها

الإرادة بأخلاق مِن معاني الكلام الذي يجري فيها، وتعتزهم على أخلاقهم وطباعهم

فتصرفهم إلى كل وجه، كأنها إرادة جبّار معتزم لا يلوي ولا يستأني ولا يتئد.

ولولا أن القرآن الكريم قد ملك سرّ هذه الفصاحة وجاءهم منها بما لا قبل لهم

بردّه، ولا حيلة لهم معه. مما يشبه على التّمام أساليبَ الاستواء في علم النفس.

فاستبد بإرادتهم، وغلب على طباعهم، وحال بينهم وبين ما نزعوا إليه من خلافه.

حتى انعقدت قلوبهم عليه وهم يجهدون في نقضها، واستقاموا لدعوته وهم يبالغون

في رفضها، فكانوا يفرّون منه في كل وجه ثم لا ينتهون إلا إليه؛ لأنه أخذ عليهم

بفصاحته وإحكام أساليبه جهات النفس العربية. والمكابرة في الأمور النفسية لا

تتجاوز أطراف الألسنة، فإن اللسان وحده هو الذي يستطيع أن يتبرأ من الشعور،

إذ هو أداة مغلبة تتعاورها الألفاظ، والألفاظ كما يرمى بها في حقٍّ أو باطلٍ، لا

تمتنع على مَن أرادها لأحدهما أو لهما جميعًا.

قلنا: لولا أن ذلك على وجهه الذي عرفت لَمَا صار أمر القرآن إلى أكثر مما

ينتهي إليه أمر كل كتاب في الأرض؛ بل لَمَا كان له في أولئك العرب أمرٌ ألبتة؛

لأنهم قومٌ أمّيُّون قد تأثلت فيهم طباع هذه الأمية، وكان لهم الشيء الكثير من

العادات والأخبار والتواريخ، وبينهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ثم هم لم

يعدموا الحكماء من خطبائهم وشعرائهم، ومن جنح إلى التأله منهم، كأمية بن أبي

الصلت وقس بن ساعدة وغيرهما.

وما جاءهم القرآن بشيء لا يفهمونه ولا يثبتون معناه على مقدار ما يفهمون،

ولا كان هذا القرآن كتاب سياسة ولا نظام دولة، ولو كان أمرًا من ذلك ما حفلوا به

ولا استدعى هو منهم الإجابة؛ لأن لهم منزعًا في الحرية لم تغلبهم عليه دولة من

دول الأرض، ولا أفلح في ذلك مَن حاوله مِن ملوك هذه الدول في الأكاسرة

والقياصرة والتبابعة، بل خلقوا عربًا يشرقون ويغربون مع الشمس حيث أرادوا

وحيث ارتادوا. وهم على ذلك لم يجمعهم ولم يخرجهم إلى الدنيا ولم يقلبهم على

تصاريف الأمور غير القرآن.

فلو أن هذا القرآن غير فصيح، أو كانت فصاحته غير معجزة في أساليبها

التي ألقيت إليهم. لَمَا نال منهم على الدهر منالاً، ولخلا منه موضعه الذي هو فيه،

ثم لكان سبيله بينهم سبيل القصائد والخطب والأقاصيص. وهو لم يخرج عن

كونه في الجملة كأنه موجود فيها بأكثر معانيه. قبل أن يوجد بألفاظه وأساليبه، ثم

لَنَقَضُوه كلمةً كلمةً وآيةً وآيةً ، دون أن تتخاذل أرواحهم، أو تتراجع طباعهم.

ولكان لهم وله شأنٌ غير ما عُرف، ولكن اللهَ بالغُ أمره.

وقد أومأنا في بعض ما سلف إلى أن هذا القرآن يكبر أن يكون حيًا بروح

عصره الذي أنزل فيه. فلا يستطيع من يقول بإعجازه أن يقصره على زمن

الجاهلية، أو يتعلل في ذلك. وهو بعد من الإحكام والسمو وشرف الغاية وحسن

المطابقة، بحيث تتعرف منه روح كل أمة قد فرعت الأمم واستولت على الأمد

التاريخي، ونالت ما لا ينال إلا مع بَسْطة في العلم، وزيادة في المعرفة بوجوه

العمل، وفضل من القوة، ومع كمال المنزلة في كل ذلك وأشباهه من مقومات

الأمة، فذلك ما علمت.

وإن ههنا وجهًا آخر هو أعجب ما أومأنا إليه، على أنه ضريبة في الحكمة

وقسيمة في الاعتبار. إذ هو متعلقٌ بطبيعة الأرض كما أن ذلك متعلقٌ بطبيعة أهلها،

فإن من الثابت البيّن أن لهيئة الطبيعية جهة من التأثير في تهيئة الأخلاق، فترى

في الجهات المقفرة أو المخوفة. أو التي يلقي منظرها في نفسك أُهْبَة دون المحبَّة،

والفزع دون الاطمئنان. أقوامًا كأنما نشأوا في المعابد وولِدوا في الصوامع، فليس

في أخلاقهم إلا الاستسلام للوهم والتخيل، وإلا الخوف مِن كل شيء تكون فيه روح

الطبيعة، كما زعم العرب من البيات مع الغيلان وتزوج السعالي ومجاوبة الهواتف،

والروغان عن الجن إلى الحن، واصطياد الشق ومحاربة النسناس وصحبة الرئيّ،

وما كان لهم من خدع الكاهن وتدسيس العرّاف، ومن العيافة والتنجيم والزجر

والطَرْق بالحصى [1] وغيرها من خرافاتهم، ثم الخوف من كل شيء تعرف فيه

روح الطبيعة كالأوثان وسائر ما قدّسته العادات والشعائر، وإن كانوا في غير ذلك

أهل جلد ونجدة ومضاء وبديهة وعارضة؛ لأن هذه الصفات وأمثالها تكتسب من

طبيعة الخيال حدّة وشدّة، وأنت واجدٌ عكس ذلك فيمن تكون طبيعة أرضهم ساكنة

مطمئنة لا تجتاح أهلها ولا ترميهم بالفزع، فإنهم لا يقرّون على خوفٍ وتوثب،

ولا يكون في أخلاقهم الجنوح إلى عبادةِ ما يخيفهم، أو تقديس ما اتصلت به روح

الطبيعة، ثم لا يكونون إلا أهل عمل بالحواس دون التخيل. قد غبر أحدهم دهره

عاملاً فليس يبالي إلا بالحاضر الذي تتعلق به روح العمل، دون الماضي الذي

يجتمع عليه حرص أولئك؛ لأنه غيب الطبيعة التي يقدّسونها. فكان من أخلاق

العرب ما هو مشهور عنهم من التفاخر بالآباء والأجداد، والذهاب مع الوهم في كل

مذهب وعدم المبالاة إلا بما يلحقهم بآبائهم ويجعلهم في عداد الماضين؛ ليكون لهم

فيمن يخلفهم من الشأن والتقديس والتعظيم بهم ما كان فيهم لِمَن تقدمهم، فيتّقون سوء

القالة وخبث الأحدوثة، وسائر ما يفسد عليهم هذا الشأن بكل ما وسعهم، لا يألون

في ذلك جهدًا ولا يغمضون فيه، ولا يتقدّمون في سدّ غيره قبل إحكامه واستفراغ

قولتهم له، إلى غير هذا مما هو معروفٌ متظاهرٌ عنهم.

ثُم كان هواهم كله في الشعر لأنه عبادة أرواحهم لطبيعة أرضهم، وهو الصلة

المحفوظة بينهم وبين ماضيهم فجاء القرآن يسفِّه تلك الطباع منهم، ويحول بينهم

وبين ذلك الماضي، ويصرفهم إلى العمل، ويذهب عنهم نخوة الجاهلية وتعظمها

بالآباء، ويأتيهم بالبصائر من ربهم، ويهديهم بالعقل إلى أسرار الطبيعة، ليعلموا

أنها مسخرة لهم فلا يسخِّروا أنفسهم لها، وحرَّم عليهم التقديس وما في حكمه،

وبصَّرهم بما مسَّهم من طائف الشيطان وما نزغهم من أمره خيالاً أو وهمًا أو شعرًا

أو عبادةً، وجعل أفضل الفضائل في الذي قام يدعوهم وهو النبي صلى الله عليه

وسلم أنه ابن يومه وابن عمله وابن عقله فلا هو مفاخر ولا واهم ولا شاعر، وتلك

أخص فضائلهم الاصطلاحية، وخاطبه بهذه الآية الكريمة التي هي روح الثبات في

أمم العلم والعمل وهي قوله: {وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُم بَرِيئُونَ

مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ} (يونس: 41) فكيف يمكن أن يكون هذا

القرآن مع ذلك كله مما يطابق أرض العرب في طبيعتها وهي ما علمت، وكيف

يتفق أن يكون كل ذلك من صنعة رجل قد نشأ فيهم واتصل بهم، وذهبت عروقه

بينهم واشجة، وهو من صميمهم نسبًا ووراثة، يعرفون ويحققون جملة أمره، ولم

يخرج عنهم قط للعلم أو الطلب، ولا طرأ عليهم من غير أرضهم، ولا أنكروا عليه

أمرًا من لدن نشأته إلى حدّ الكهولة وإلى أن دبّ الشيب في عذاريه، وهم مستيقنون

أنه ما كان يتلو من قبله من كتابٍ ولا يخطّه؟

وما عهدنا رجلاً من عظماء التاريخ قد أهاب بأمةٍ طبيعية كالعرب ذات بأسٍ

وصرامةٍ وحميةٍ وحفاظٍ، وذات خيالٍ وتصوّرٍ - يدعوها أن تخلع نفسها مما هي فيه؛

وأن تضع أعناقها للحق الذي لم تألفه حقًّا، وأن تعطيه مع ذلك محض ضمائرها

وتسوغه تاريخها وعاداتها، وما هو أكبر من تاريخها وعاداتها. وهم لا يرونه في

ذلك إلا مسخوط الرأي، ذاهب الوهم، بعيدًا منهم ومن نفسه ومن الحقيقة جميعًا.

ولا يرون من أمره ذلك إلا قلّة وضرعًا وهوانًا واستخفافًا، وإن كانوا يعرفونه من

قبل بحسن الخلق وصفاء الذمّة وتخشّع السمت، ويعرفون أنه لا يريد مُلكًا ولا يبغي

دولةً، ولا يتصنع لحدثٍ من الأحداث السياسية، ولا يهتبل غرّة ذاهلة، ولا يستعد

لنهزة سانحة {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا اللَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا

وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} (فصلت: 5) .

ثُم هو على هذا كله من أمره وأمرهم لا يتأتى إليهم بالتمويه، ولا يدخلهم

بالنفاق، ولا يتألفهم على باطلهم، ولا ينزل في العقيدة على حكمهم، ولا يداهن في

خطابهم، ولا يرفق بهم فيما يتخيلون وما يعبدون، ولا يحكم ذلك الأمر من ناحية

الدهاء والمخاتلة، فيقرّهم على طباعهم وعاداتهم، ويستدرجهم من حيث لا يعلمون،

ويمد لهم في الغيّ مدًّا مِن أمرِ ما أعجبهم، ومِن شأن ما استخفهم، كما يصنع

دهاة السياسة وقادة الأمم، وكما صنع داهية أوربا نابليون الذي انتحل الكثلكة في

حرب الفنديين، وأسلم في مصر، وجهر بعصمة البابا في حرب إيطاليا، وقال مع

ذلك: لو كنت أحكم شعبًا يهوديًّا لأعدت هيكل سليمان

ثُم يكون مع هذا كله من

فعله وفعلهم أن يثوب إليه الأمر، ويستوثق على ما أراد، وأن تعطيه تلك الأمة عن

يدٍ وهي صاغرة للحق، وتبذل نصرها له بعد التخذيل عنه، وتسكن إليه بعواطفها

المستنفرة، وتعطف عليه بقلوبها الجامحة، وهو الراغب عن سننهم، والمسفِّه

لأحلامهم، والطاعن عليهم وعلى آبائهم، والمفارق لشرائعهم وعادتهم. وهو الذي

خرج من الأمة أولاً، ثُم أخرج الأمة كلها من نفسه آخرًا، كما اتفق للنبي صلى الله

عليه وسلم.

ما عهدنا ذلك، ولا عهدنا أن الأمم تخرج عن طبائعها النفسية وتستقيم لِمَن

يلتوي لها مثل هذا الالتواء؛ وتدخل في أمره وتَثبُت على طاعته ومحبته، وهو

أضعف ناصرًا وأقل عددًا، إلا أن يغلبها على أنفسها ويمتلك خيالها ويستبدّ

بتصوّرها. وكيف له أن يغلب على النفس، بتنفيرها ويمتلك الخيال بالعنف عليه،

ويستبد بالتصور وهو يسترذله؟ ومِن أين له ذلك إلا أن يأتي الفطرة التي هي

أساس هذه كلها فيملكها؛ ثم يصوغها ثم يصرفها؟ فإن الذي لا يدفع الطبع لا يدفع

الرغبة، ومن لم يقد الأمة من رغائبها لم يقد في زمامه غير نفسه، وإن كان بعد

ذلك مَن كان؟

وهذا الذي وصفناه أمرٌ لو ذهبت تلتمسه في تاريخ الأرض كلها ما رأيت

أسبابه الفطرية في غير أولئك العرب، ولا رأيت تحقيقه في العرب، إلا من ناحية

القرآن وإعجازه بنظمه وأساليبه، وافتنانه على هذه الوجوه المعجزة التي أقل ما

توصف بها أنها السحر؛ بل السحر بعضها [2] .

وليت شعري ما هو أمر المعجز في العقل إن لم يكن هذا من أمره؟ {ذَلِكَ

بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ البَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ} (الحج: 62) .

* * *

(المنار) :

إن مسألة إعجاز القرآن قد صارت من المسائل المعلومة بالضرورة بعجز

العرب والمستعربين عن الإتيان بمثله، ووقوفهم حيارى منبهري الأنفاس خاشعي

الأبصار ناكسي الرؤوس في نور شمسه.

ولإعجازه وجوه كثيرة يعقل كل ذي علم وبصيرة منها مقدار ما يتوجه إليه

ذهنه، مما استعد لإدراكه عقله، ومن الناس من لا يدرك من ذلك شيئًا، كالأطفال

والعوام الذين لا يدركون علل عجز ضعفاء البنائين الأميين بغير نظام ولا هندسة

عن بناء هرم مثل هرم الجيزة في عظمته، وما روعي فيه من دقائق الهندسة،

والإشارات العمرانية، والتقاليد الدينية، والمقاصد الخفية، وإنما يفهم وجوه هذا

العجز الرياضي والفلكي والعالم بتاريخ مصر وآثارها، كلٌّ بقدر بحثه في فنه.

وقد كتب كثير من العلماء في بيان وجوه إعجاز القرآن، وما أطالوا إلا في

شرح فصاحته وبلاغته، وقد تعب مصنف هذا الكتاب (تاريخ آداب العرب) في

تصفح ما كتبوا، وتتبع ما صنفوا، ولم يعجزه مع ذلك أن يكون مصداق المثل

السائر (كم ترك الأول للآخر) ، فجعل 288 صفحة من الجزء الثاني من كتابه في

إعجاز القرآن وباقيه إلى ص 364 في البلاغة النبوية. وإذا كان قد انفرد ببيان

نُكت ودقائق لم تعرف لغيره، فقد جلى بعض ما سبقه إليه من النكت والوجوه من

قبله، بعبارةٍ مؤثرة بما ألبسها من حلل الخيال، حتى تحلت في أربع مثال. وثَمَّ

مباحث مفيدة في هذا الباب، تراها في الفصول الكثيرة من الكتاب، وسترى

الإشارة إليها في تقريظه من جزء آخر من المنار.

بعد هذا كله نقول إنه قد بقي من وجوه الإعجاز ما لم يغص المؤلف بحره،

حتى يستخرج دُرَّه، وقد أجملنا في (عقيدة الإسلام) التي كتبناها لطلاب المدارس

الوسطى من هذه الوجوه ما يمكن شرحه في سفر أو أسفار. والتحقيق أن إعجاز

القرآن بمعانيه من الهداية والعلم أعظم من إعجازه بفصاحة عبارته وبلاغة أسلوبه،

وهي التي كانت سبب بقاء الدين في العرب والعجم بعد أن قل من يذوق طعم تلك

البلاغة.

_________

(*) فصل من الجزء الثاني من كتاب آداب لغة العرب لمصطفى صادق أفندي الرافعي.

(1)

للعرب مذاهب كثيرة من مثل ما وصفنا ولا محل لبسط القول فيها، ولكنا نقتصر على تعريف ما أتينا به تعريفًا لفظيًّا، فالغيلان: إناث الجن والسعالى. جمع سعلاة وهي سحرة الجن، ويقال: إن الغيلان من السعالى، والهواتف جمع هاتف وهي الجن تهتف بهم وتنذرهم. والجن نوع من الجن، والشق جنس من أجناسهم والنسناس جنس من الخلق يعد فيهم الرئيّ جني يكون لبعض الناس فيخبره بالغيب، والكاهن مَن يتنبأ بما سيقع والعرّاف مَن يستدل بالأسباب والحوادث ويتنبأ من ذلك والعِيَافة: التكهن بالطير أو غيرها والزَجْر: أن يزجر الطير ليتسعد أو يتشأم إذا أراد أن يهم بأمر والطَرْق بالحصى وسيلة من وسائل التكهن وفي كل ذلك شرح طويل واختلاف كثير.

(2)

وذلك فيما نرى إنما هو وجه الحكمة في نشأة هذا الدين عربيًّا واختصاص العرب بالقرآن دون غيرهم من الأمم، وإفراد قريش بذلك دون غيرها من العرب، ومن يقرأ صدر التاريخ في الإسلام، ويعتبر حوادثه ويتدبر آثار القرآن في قبائل العرب، يرَ أنَّ شدَّة الإيمان كانت عند شدَّة الفصاحة، وأن خلوص الضمائر كان يتبع خلوص اللغة، وأن القائمين بهذا الدين والذين أفاضوه وصرفوا إليه جمهور العرب وقاتلوهم عليه وجمعوا ألفتهم وقوّموا أودّهم إنما كانوا أهل الفصاحة الخالصة، من قريش إلى سرة البادية، وأن الفتن إنما استطارت في الجزيرة استطارة الحريق فيمن وراء هؤلاء إلى أطراف اليمن، فكانوا قومًا مدخولين منقوصين، وما كان ضعف اعتقادهم إلا في وزن الضعف من لغتهم وقد أسلفنا في غير هذا الموضع أن غربة الدين ما تزال تتبع غربة العربية ولمّا مات رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عمرو بن العاص بعمان، فأقبل منها إلى المدينة يخترق بلاد العرب فأطافت به قريش وسألوه فقال لهم إن العساكر معسكرة من دبا (سوق بعمان) إلى حيث انتهيت إليكم فتفرّقوا حِلقًا، ومرَّ عمر بن الخطاب بجماعة فسألهم فِيمَ أنتم؟ فلم يجيبوه فقال: أظن قلتم ما أخوفنا على قريش من العرب قالوا صدقت، قال: فلا تخافوا هذه المنزلة. إنا والله منكم على العرب أخوف مني من العرب عليكم، والله لو تدخلون معاشر قريش جحرًا لدخلته العرب في آثاركم. اهـ. وحسبك من أثر القرآن في العرب الفصحاء وصوغ فطرتهم وتصريفها أن أحدهم كان إذا اتهم في بعض أخلاقه لم ينكر ذلك بأشد من قوله: بئس حامل القرآن أنا إذن! ولما أعطي سالم مولى أبي حذيفة راية المسلمين يوم قتال مسيْلمة الكذاب، وكان من أشد الأيام وأعظمها نكاية قال لأصحابه: ما أعلمني لأي شيء أعطتيمونيها! قلتم صاحب قرآن وسيثبت كما ثبت صاحبها قبله حتى مات؟ قالوا: أجل فانظر كيف تكون؟ قال: بئس واللهِ حامل القرآن أنا إن لم أثبت فتأمّل؛ وكان صاحب الراية قبله

عبد الله بن حفص، وفي هذه الموقعة صاح أبو حذيفة وقد اضطرب المسلمون: يا أهل القرآن، زينوا القرآن بالفعال، ثم حمل على القوم فحازهم حتى أنقذهم، ولو أن هذا المعنى من غرض كتابنا لبسطناه بسطاً، ولكن القول فيه يتسع بما يخرجنا إلى تاريخ الإسلام وفلسفة آدابه ومعانيه

الاجتماعية، وهي أغراض إنما نلمُّ بها إلمامًا في هذا الكتاب كما عرفت.

ص: 343

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الرضا بقضاء الله تعالى وقدره

قد اضطربت في هذه المسألة الأفهام، وزَلَّت فيها أقلام وأقدام، وأوردوا فيه

أبياتًا ليهودي حقيقة أو حكاية يقول فيها: إذا قضى الله أن يكون يهوديًّا وأمَره أن

يرضى بقضائه فما حيلته في ذلك؟ وأوردوا له أجوبة لم يرها الكثيرون مقنعة.

ولذلك طلب الشعراني في بعض كتبه ممن ظفر بجواب أحسن مما أورده أن يلحقه

بما ذكره منها. ولم نر لأحد من العلماء تحريرًا لهذه المسألة كتحرير ابن القيم لها

في كتاب (مدارج السالكين) وأين نجد كابن القيم في المحققين المحررين؟ قال

قدّس الله روحه في شرح كلام الهروي من الجزء الثاني:

قوله: (وهو الرضاء عنه في كل ما قضى) هاهنا ثلاثة أمور: الرضاء بالله

ربًّا [1] ، والرضاء عن الله، والرضاء بقضاء الله. فالرضاء به فرض، والرضاء

عنه، وإن كان من أجَلّ الأمور وأشرف أنواع العبودية - فلم يطالب به العموم

لعجزهم ومشقته عليهم - وأوجبته طائفة كما أوجبوا الرضاء به، واحتجّوا بحجج

(منها) : أنه إذا لم يكن راضيًا عن ربه فهو ساخط عليه؛ إذ لا واسطة بين الرضاء

والسخط، وسخط العبد على ربّه منافٍ لرضائه به ربًّا. قالوا: وأيضًا فعدم رضائه

عنه يستلزم سوء ظنّه ومنازعته له في اختياره لعبده، وإن الربّ تبارك وتعالى

يختار شيئًا ويرضاه ولا يختاره العبد ولا يرضاه، وهذا منافٍ للعبودية. قالوا -

وفي بعض الآثار الإلهية (من لم يرض بقضائي، ولم يصبر على بلائي، فليتخذ

له [2] ربًّا سواي) ولا حجّة في شيء مِن ذلك. أمّا قوله [3] : (لم يتخلص من

السخط على ربه إلا بالرضاء عنه إذ لا واسطة بين الرضاء والسخط) فكلام

مدخول، لأن السخط بالمقضي لا يستلزم السخط على مَن قضاه، كما أن

كراهة المقضي وبغضه والنفرة عنه لا يستلزم تعلّق ذلك بالذي قضاه وقدّره،

فالمقضي قد يسخطه العبد وهو راضٍ عمن قضاه وقدّره؛ بل يجتمع تسخطه

والرضا بنفس القضا - كما سيأتي إن شاء الله - وأما قولكم [4] : (إنه يستلزم سوء

ظن العبد بربه ومنازعته له في اختياره) فليس كذلك؛ بل هو حسن الظن بربه في

الحالتين، وإنه إنما يسخط المقدور وينازعه بمقدور آخر، كما ينازع القدر الذي

يكرهه ربه بالقدر الذي يحبه ويرضاه، فينازع قدر الله بالله لله [5] ، كما

يستعيذ برضاه من سخطه، وبمعافاته من عقوبته، ويستعيذ به منه.

فأما (كونه يختار لنفسه خلاف ما يختاره الرب) فهذا موضع تفصيل لا

يحسب عليه ذيل النفي والإثبات. فاختيار الرب تعالى لعبده نوعان:

(أحدهما) : اختيار ديني شرعي، فالواجب على العبد أن لا يختار في هذا

النوع غير ما اختاره له سيده، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى

اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (الأحزاب: 36) ، فاختيار

العبد ذلك منافٍ لإيمانه وتسليمه ورضاه بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمدٍ رسولاً.

(النوع الثاني) : اختيار كونيّ قدريّ لا يسخطه الرب؛ كالمصائب التي يبتلي

الله بها عبده، فهذا لا يضره فراره منها إلى القدر الذي يرفعها عنه ويدفعها ويكشفها،

وليس في ذلك منازعة للربوبية - وإن كان فيه منازعة للقدر بالقدر - فهذا يكون تارةً

واجبًا، وتارةً مستحبًّا، وتارةً يكون مباحًا مستوي الطرفين، وتارةً يكون مكروهًا،

وتارةً يكون حرامًا.

وأمّا القدر الذي لا يحبه ولا يرضاه، مثل قدر المعايب والذنوب، فالعبد

مأمور بسخطها ومنهي عن الرضاء بها.

وهذا هو التفصيل الواجب في الرضاء بالقضاء، وقد اضطرب الناس في

ذلك اضطرابًا عظيمًا ونجا منه أصحاب الفرق والتفصيل، فإن لفظ الرضا بالقضاء

لفظ محمود مأمور به، وهو من مقامات الصديقين، فصارت له حرمة أوجبت

لطائفة قبوله من غير تفصيل، وظنوا أن كل ما كان مخلوقًا للرب تعالى فهو

مرضي له ينبغي الرضا به، ثُم انقسموا فرقتين، فقالت فرقة: إذا كان القضاء

والرضاء متلازمين فمعلوم أنّا مأمورون ببُغْضِ المعاصي والكفر والظلم، فلا تكون

مقضية مقدرة. وفرقة قالت: قد دل العقل والشرع على أنها واقعة بقضاء الله وقدره

فنحن نرضى بها. والطائفتان منحرفتان جائرتان عن قصد السبيل، أولئك

أخرجوها عن قضاء الرب وقدره، وهؤلاء رضوا بها ولم يسخطوها. هؤلاء

خالفوا الرب تعالى في رضائه وسخطه، وخرجوا عن شرعه ودينه، وأولئك

أنكروا تعلّق قضائه وقدره بها.

واختلفت طرق أهل الإثبات للقدر والشرع في جواب الطائفتين، فقالت طائفة:

لم يقم دليلٌ مِن الكتاب ولا السنة ولا الإجماع على جواز الرضا بكل قضاء فضلاً

عن وجوبه واستحبابه، فأين أمر الله عباده أو رسوله أن يرضوا بكل ما قضاه الله

وقدّره؟ وهذه طريقة كثير مِن أصحابنا وغيرهم، وبه أجاب القاضي أبو يعلى

وابن الباقلاني قال: فإن قيل: أفترضون بقضاء الله وقدره؟ قيل له: نرضى

بقضاء الله الذي هو خلقه الذي أمرنا أن نرضى به، ولا نرضى من ذلك ما نهانا

عنه أن نرضى به، ولا نتقدم بين يدي الله، ولا نعترض على حكمه.

وقالت طائفة أخرى: يطلق الرضا بالقضا في الجملة دون تفاصيل المقضي

المقدّر. فنقول: نرضى بقضاء الله جملة ولا نسخطه، ولا نطلق الرضا على كل

واحد من تفاصيل المقضي كما يقول المسلمون: كل شيء يبيد ويهلك، ولا يقولون:

حجج الله تبيد وتهلك، ويقولون: الله رب كل شيء، ولا يضيفون ربوبيته إلى

الأعيان المستخبثة المستقذرة بخصوصها.

وقالت طائفة أخرى: بل نرضى بالقضاء ونسخط المقضي، فالرضاء

والسخط لم يتعلقا بشيء واحد.

وهذه الأجوبة لا يتمشى شيءٌ منها على أصول مَن يجعل محبة الله ورضاءه

ومشيئته واحدة - كما هو أحد قولي الأشعري وأكثر أتباعه - فإن هؤلاء يقولون:

إن كل ما شاءه وقضاه فقد أحبه ورضيه، وإذا كان الكون محبوبًا له مرضيًّا فنحن

نحب ما أحبه ونرضى ما رضيه. وقولكم: إن الرضا بالقضاء يطلق جملةً ولا يطلق

تفصيلاً. فذلك لا يمنع دخوله في جملة المرضى به، فيعود الأشكال. وقولكم

نرضى به من جهة كونها خلقًا لله، ونسخطها من جهة كونها كسبًا للعبد، فكسب

العبد إن كان أمرًا وجوديًّا فهو خلق لله فيرضى به، وإن كان أمرًا عدميًّا فلا حقيقة

له ترضي ولا تسخط. وأمّا قولكم: ترضى بالقضاء دون المقضي. فهذا إنما

يصح على قول مَن جعل القضاء غير المقضي، والفعل غير المفعول، وأما مَن لم

يفرّق بينهما فكيف يصح هذا على أصله؟

وقد أورد القاضي أبو بكر على نفسه هذا السؤال فقال: فإن قيل: القضاء

عندكم هو المقضي أو غيره؟ قيل: هو على ضربين، فالقضاء بمعنى الخلق هو

المقضي، لأن الخلق هو المخلوق، والقضاء الذي هو الإلزام والإعلام والكتابة

غير المقضي؛ لأن الأمر غير المأمور والخبر غير المخبر عنه. وهو الجواب لا

يخلصه أيضًا؛ لأن الكلام ليس في الإلزام والإعلام والكتابة، وإنما الكلام في نفس

الفعل المقدّر المُعلم به المكتوب: هل مقدره وكاتبه سبحانه راضٍ به أم لا؟ وهل

العبد مأمور بالرضاء به نفسه أم لا؟ هذا حرف المسألة.

وقد أنكر الله سبحانه وتعالى على مَن جعل مشيئته وقضاءه مستلزمًا لمحبته

ورضائه، فيكف بمن جعل ذلك شيئًا واحدًا؟ قال الله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ

أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن

قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَإِنْ

أَنتُمْ إِلَاّ تَخْرُصُونَ} (الأنعام: 148)، وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ

شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ

كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} (النحل: 35) ، {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم

مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْم} (الزخرف: 20) ، فهم استدلوا على محبته ورضاه

لشركهم بمشيئته؛ لذلك عارضوا بهذا الدليل أمره ونهيه. وفيه أبين الرد لقول مَن

جعل مشيئته غير محبته ورضاه، فالإشكال إنما نشأ مِن جعْلهم المشيئة نفس المحبة،

ثُم زادوه بجعلهم الفعل نفس المفعول، والقضاء عين المقضي، فنشأ من ذلك

إلزامهم بكونه تعالى راضيًا محبًّا لذلك، والتزام رضائهم به.

والذي يكشف هذه الغمة، ويبصر من هذه العماية، وينجي من هذه الورطة

التفريق بين ما فرّق الله بينه، وهو المشيئة والمحبة، فإنهما ليسا واحدًا ولا هما

متلازمين؛ بل قد يشاء ما لا يحبه ويحب ما لا يشاء كونه (فالأول) : كمشيئه

لوجود إبليس وجنوده، ومشيئته العامة لجميع ما في الكون مع بغضه لبعضه،

(والثاني) : كمحبته إيمان الكفار، وطاعات الفجار، وعدل الظالمين وتوبة الفاسقين،

ولو شاء ذلك لوجد كله وكان جميعه، فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.

فإذا تقرّر هذا الأصل، وأن الفعل غير المفعول، والقضاء غير المقضي،

وأن الله سبحانه لم يأمر عباده بالرضاء بكل ما خلقه وشاءه - زالت الشبهات،

وانحلت الإشكالات، ولله الحمد، ولم يبق بين شرع الرب وقدره تناقض بحيث

يظن إبطال أحدهما للآخر؛ بل القدر ينصر الشرع والشرع يصدق القدر، وكل

منهما يحقق الآخر.

إذا عرف هذا فالرضا بالقضاء الديني الشرعي واجب وهو أساس الإسلام

وقاعدة الإيمان، فيجب على العبد أن يكون راضيًا به بلا حرج ولا منازعة ولا

معارضة لا اعتراض، قال الله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا

شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء:

65) . فأقسم أنهم لا يؤمنون حتى يحكموا رسوله، ويرتفع الحرج من نفوسهم من

حكمه، ويسلّموا الحكم تسليمًا. وهذا حقيقة الرضاء بحكمه، فالتحكيم في مقام

الإسلام، وانتفاء الحرج في مقام الإيمان [6] ، والتسليم في مقام الإحسان. ومتى خالط

القلب بشاشة الإيمان، واكتحلت بصيرته بحقيقة اليقين، وحيي بروح

الوحي، وتمهدت طبيعته، وانقلبت النفس الأمارة مطمئنة راضية وادعة، وتلقّى

أحكام الرب تعالى بصدر واسع منشرح مسلّم، فقد رضي كل الرضا بهذا القضاء

الديني المحبوب لله ورسوله.

والرضاء بالقضاء الكوني القدري الموافق لمحبة العبد وإرادته ورضاه من

الصحة والغنى والعافية واللذّة أمرٌ لازم بمقتضى الطبيعة؛ لأنه ملائم للعبد،

محبوب له، فليس في الرضاء به عبودية؛ بل العبودية في مقابلته بالشكر

والاعتراف بالمنّة، ووضع النعمة مواضعها التي يحب الله أن توضع فيها، وأن لا

يعصى المنعم بها، ويرى التقصير في جميع ذلك.

والرضاء بالقضاء الكوني القدري الجاري على خلاف مراد العباد ومحبته مما

لا يلائمه ولا يدخل تحت اختياره مستحب، وهو من مقامات أهل الإيمان، وفي

وجوبه قولان، وهذا كالمرض والفقر وأذى الخلق له، والحر والبرد والآلام ونحو

ذلك.

والرضاء بالقدر الجاري عليه باختياره مما يكرهه الله ويسخطه وينهى عنه،

كأنواع الظلم والفسوق والعصيان حرام يعاقب عليه وهو مخالفة لربه تعالى، فإن

الله لا يرضى بذلك ولا يحبه، فكيف تتفق المحبة ورضاء ما يسخطه الحبيب

ويبغضه؟ ! فعليك بهذا التفصيل في مسألة الرضا بالقضا.

فإن قلت: كيف يريد الله سبحانه أمرًا لا يرضاه ولا يحبه؟ وكيف يشاؤه

ويكونه؟ وكيف تجتمع إرادة الله وبغضه وكراهيته؟ قيل: هذا السؤال هو الذي

افترق الناس لأجله فرقًا، وتباينت عنه طرقهم وأقوالهم. فاعلم أن المراد نوعان:

مراد لنفسه ومراد لغيره، فالمراد لنفسه مطلوب محبوب لذاته وما فيه من الخير،

فهو مراد إرادة الغايات والمقاصد، والمراد لغيره قد لا يكون في نفسه مقصودًا

للمريد، ولا فيه مصلحة له بالنظر إلى ذاته، وإن كان وسيلة إلى مقصوده ومراده

فهو مكروه له من حيث نفسه وذاته، مراد له من حيث إفضاؤه وإيصاله إلى مراده،

فيجتمع فيه الأمران بغضه وإرادته، ولا يتنافيان لاختلاف متعلقهما، وهذا كالدواء

المتناهي في الكراهة إذا علم متناوله أن فيه شفاءه، وكقطع العضو المتآكل إذا علم

أن في قطعه بقاء جسده، وكقطع المسافة الشاقة جدًّا إذا علم أنها توصله إلى مراده

ومحبوبه؛ بل العاقل يكتفي في إيثار هذا المكروه وإرادته بالظن الغالب وإن خفيت

عنه عاقبته وطويت عنه مغبته، فكيف بمن لا تخفى عليه العواقب؟ فهو سبحانه

وتعالى يكره الشيء ويبغضه في ذاته، ولا ينافي ذلك إرادته لغيره [7] وكونه سببًا

إلى ما هو أحب إليه من فوته.

مثال ذلك أنه سبحانه خلق إبليس الذي هو مادة لفساد الأديان والأعمال

والاعتقادات والإرادات، وهو سبب شقاوة العبيد وعملهم بما يُغضب الرب تبارك

وتعالى، وهو الساعي في وقوع خلاف ما يحبه الله ويرضاه بكل طريق وكل حيلة؛

فهو مبغوض للرب سبحانه وتعالى مسخوط له، لعنه الله ومقته وغضب عليه،

ومع هذا فهو وسيلة إلى محابّ كثيرة للرب تعالى ترتبت على خلقه، وجودها أحب

إليه من عدمها.

(منها) : أن تظهر للعباد قدرة الرب تعالى على خلق المتضادات المتقابلات،

فخلق هذه الذات التي هي من أخبث الذوات وشرها، وهي سبب كل شر، في

مقابلة ذات جبرائيل صلى الله عليه وسلم التي هي أشرف الذوات وأطهرها

وأزكاها، وهي مادة من كل خير، فتبارك الله خالق هذا وهذا. كما ظهرت لهم

قدرته التامة في خلق الليل والنهار، والضياء والظلام، والداء والدواء، والحياة

والموت، والحر والبرد، والحسن والقبيح، والأرض والسماء، والماء والنار،

والخير والشر، وذلك من أدل الدلائل على كمال قدرته وعزته وسلطانه وملكه،

فإنه خلق هذه المتضادات وقابل بعضها ببعض وسلّط بعضها على بعض، وجعلها

محال تصرفه وتدبيره وحكمته، فخلوّ الوجود عن بعضها بالكلية تعطيل لحكمته

وكمال تصرفه وتدبيره مملكته.

(ومنها) : ظهور آثار أسمائه القهرية، مثل القهار والمنتقم والعدل والضار،

وشديد العقاب، وسريع الحساب، وذي البطش الشديد والخافض والمذل، فإن

هذه الأسماء والأفعال كمال فلا بد من وجود متعلقها، ولو كان الخلق كلهم على

طبيعة الملك لم يظهر أثر هذه الأسماء والأفعال.

(ومنها) : ظهور آثار أسمائه المتضمنة لحلمه وعفوه ومغفرته وستره

وتجاوزه عن حقه وعتقه لمن شاء من عبيده، فلولا خلق ما يكرهه من الأسباب

المفضية إلى ظهور آثار هذه الأسماء لتعطلت هذه الحكم والفوائد، وقد أشار النبي -

صلى الله عليه وسلم إلى هذا بقوله: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم

يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم) .

(ومنها) : ظهور آثار أسماء الحكمة والخبرة، فإنه سبحانه الحكيم الخبير

الذي يضع الأشياء مواضعها وينزلها منازلها اللائقة بها، فلا يضع الشيء في غير

موضعه، ولا ينزله غير منزلته، التي يقتضيها كمال علمه وحكمته وخبرته، فلا

يضع الحرمان والمنع موضع العطاء والفضل، ولا الفضل والعطاء موضع

الحرمان والمنع، ولا الثواب موضع العقاب ولا العقاب موضع الثواب، ولا

الخفض موضع الرفع ولا الرفع موضع الخفض، ولا العز مكان الذل، ولا الذل

مكان العز، ولا يأمر بما ينبغي النهي عنه، ولا ينهى عن ما ينبغي الأمر به. فهو

أعلم حيث يجعل رسالاته، وأعلم بمن يصلح لقبولها ويشكره على إنهائها إليه

ووصولها، وأعلم بمن لا يصلح لذلك ولا يستأهله، وأحكم من أن يمنعها أهلها

ويضعها عند غير أهلها، فلو قدر عدم الأسباب المكروهة البغيضة له لتعطلت هذه

الآثار ولم تظهر لخلقه، ولفاتت الحكمة والمصالح المرتبة عليها وفواتها شر من

حصول تلك الأسباب، فلو عطلت تلك الأسباب لما فيها من الشر لتعطل الخير الذي

هو أعظم من الشر الذي في تلك الأسباب. وهذا كالشمس والمطر والرياح التي فيها

من المصالح ما هو أضعاف أضعاف ما يحصل بها من الشر والضرر، فلو قدر

تعطيلها لئلا يحصل منها ذلك الشر الجزئي لتعطل من الخير ما هو أعظم من ذلك

الشر بما لا نسبة بينه وبينه.

***

فصل

(ومنها) : حصول العبودية المتنوعة التي لولا خلق إبليس لَمَا حصلت،

ولكان الحاصل بعضها لا كلها، فإن عبودية الجهاد من أحب أنواع العبودية إليه

سبحانه، ولو كان الناس كلهم مؤمنين لتعطلت هذه العبودية وتوابعها من الموالاة فيه

سبحانه والمعاداة فيه والحب فيه والبغض فيه. وبذل النفس له في محاربة عدوّه،

وعبودية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعبودية الصبر ومخالفة الهوى،

وإيثار محابّ الرب على محابّ النفس.

(ومنها) : عبودية التوبة والرجوع إليه واستغفاره، فإنه سبحانه يحب

التوابين ويحب توبتهم، فلو عطّلت الأسباب التي يثاب منها لتعطلت عبودية التوبة

والاستغفار منها.

(ومنها) : عبودية مخالفة عدوه ومراغمته في الله وإغاظته فيه، وهي من

أحب أنواع العبودية إليه، فإنه سبحانه يحب من وليه أن يغيظ عدوه ويراغمه

ويسوءه، وهذه عبودية لا يتفطن لها إلا الأكياس.

(ومنها) : أن يتعبد له بالاستعاذة من عدوّه وسؤاله أن يجيره منه ويعصمه

من كيده وأذاه.

(ومنها) : أن عبيده يشتدُّ خوفهم وحذرهم إذا رأوا ما حلّ بعدوه بمخالفته

وسقوطه من المرتبة الملكية إلى المرتبة الشيطانية، فلا يخلدون إلى غرور الأمل

بعد ذلك.

(ومنها) : أنهم ينالون ثواب مخالفته ومعاداته الذي حصوله مشروط

بالمعاداة والمخالفة، فأكثر عبادات القلوب والجوارح مرتبة على مخالفته.

(ومنها) : أن نفس اتخاذه عدوًّا من أكبر أنواع العبودية وأجلها، قال الله

تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} (فاطر: 6) ، فاتخاذه عدوًّا أنفع

شيء للعبد وهو محبوب للرب.

(ومنها) : أن الطبيعة البشرية مشتملة على الخير والشر، والطيب

والخبيث، وذلك كامن فيها كمون النار في الزناد، فخُلِقَ الشيطان مستخرجًا ما في

طبائع أهل الشر من القوة إلى الفعل، وأرسلت الرسل تستخرج ما في طبيعة أهل

الخير من القوة إلى الفعل، فاستخرج أحكم الحاكمين ما في قوى هؤلاء من الخير

الكامل فيها ليترتب عليه آثاره، وما في أولئك من الشر ليترتب عليه آثاره،

وتظهر حكمته في الفريقين وينفذ حكمته فيهما، ويظهر ما كان معلومًا له مطابقًا

لعلمه السابق. وهذا هو السؤال الذي سألته ملائكته حين قالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن

يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (البقرة: 30) فظنت الملائكة أن وجود من يسبّح بحمده ويطيعه ويعبده أولى

من وجود من يعصيه ويخالفه، فأجابهم سبحانه بأنه يعلم من الحكم والمصالح

والغايات المحمودة في خلق هذا النوع ما لا تعلمه الملائكة.

(ومنها) : أن ظهور كثير من آياته وعجائب صنعه حصل بسبب وقوع

الكفر والشر من النفوس الكافرة والظالمة، كآية الطوفان، وآية الريح، وآية

إهلاك ثمود وقوم لوط، وآية انقلاب النار على إبراهيم بردًا وسلامًا، والآيات التي

أجراها الله تعالى على يد موسى، وغير ذلك من آياته التي يقول سبحانه عقيب ذكر

كل آية منها: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العَزِيزُ

الرَّحِيمُ} (الشعراء: 8-9) ، فلولا كُفر الكافرين وعناد الجاحدين، لَمَا ظهرت

هذه الآيات الباهرة التي يتحدث بها الناس جيلاً بعد جيل إلى الأبد.

(ومنها) : أن خلق الأسباب المتقابلة التي يقهر بعضها بعضًا، ويكسر

بعضها بعضًا، هو من شأن كمال الربوبية، والقدرة النافذة، والحكمة التامة،

والملك الكامل، وإن كان شأن الربوبية كاملاً في نفسه ولو لم يخلق هذه الأسباب؛

لكن خَلْقها من لوازم كماله وملكه، وقدرته وحكمته، فظهور تأثيرها وأحكامها في

عالم الشهادة تحقيق لذلك الكمال، وموجب من موجباته، فتعمير مراتب الغيب

والشهادة بأحكام الصفات من آثار الكمال الإلهي المطلق بجميع وجوهه وأقسامه

وغايته.

وبالجملة: فالعبودية والآيات والعجائب التي ترتبت على خلق ما لا يحبه ولا

يرضاه وتقديره ومشيئته، أحب إلى الله سبحانه وتعالى من فواتها وتعطيلها بتعطيل

أسبابها.

فإن قلت: فهل كان يمكن وجود تلك الحكم بدون هذه الأسباب؟ فهذا سؤال

باطل؛ إذ هو فرض وجود الملزوم بدون لازمه، كفرض وجود الابن بدون الأب

والحركة بدون المتحرك، والتوبة بدون التائب.

فإن قلت: فإذا كانت هذه الأسباب مراده لما تفضي إليه من الحكم، فهل تكون

مرضية محبوبة من هذا الوجه؟ أم هي مسخوطة من جميع الوجوه؟ قلت هذا

السؤال يورد على وجهين:

(أحدهما) : من جهة الرب سبحانه وتعالى. وهل يكون محبًّا لها من جهة

إفضائها إلى محبوبه وإن كان بغضها لذاتها؟

(والثاني) : من جهة العبد، وهو أنه له يسوغ هل الرضاء بها من تلك

الجهة أيضًا؟ فهذا سؤال له شأن.

فاعلم أن الشر كله يرجع إلى العدم، أعني عدم الخير وأسبابه المفضية إليه،

وهو من هذه الجهة شر، وأما من جهة وجوده المحض فلا شرَّ فيه؛ مثاله أن النفس

الشريرة وجودها خير من حيث هي موجودة إنما حصل لها الشر بقطع مادة الخير

عنها، فإنها به [8] خلقت في الأصل متحركة لا تسكن، فإن أعينت بالعلم وإلهام

الخير تحركت [9] وإن تركت تحركت بطبعها إلى خلافه، وحركتها من حيث هي

حركة خير، وإنما تكون شرًّا بالإضافة؛ لا من حيث هي حركة. والشر كله

ظلم، وهو وضع الشيء في غير موضعه، فلو وضع في موضعه لم يكن شرًّا،

فعلم أن جهة الشر فيه بنسبته بمشيئته [10] إضافية، ولهذا كانت العقوبات الموضوعات

في محالها خيرًا في نفسها وإن كانت شرًّا بالنسبة إلى المحل الذي حلت به، لِمَا أحدثت فيه من الألم الذي كانت الطبيعة قابلة لضده من اللذة، مستعدة له،

فصار ذلك الألم شرًّا بالنسبة إليها، وهو خير بالنسبة إلى الفاعل، حيث وضعه

موضعه، فإنه سبحانه لا يخلق شرًّا محضًا من جميع الوجوه والاعتبارات [11] فإن حكمته تأبى ذلك؛ بل قد يكون ذلك المخلوق شرًّا ومفسدةً ببعض الاعتبارات،

وفي خلقه مصالح وحكم باعتبارات أخر أرجح من اعتبارات مفاسده؛ بل الواقع

منحصر في ذلك، فلا يمكن في جناب الحق جل جلاله أن يريد شيئًا يكون فسادًا من

كل وجه بكل اعتبار لا مصلحة في خلقه بوجهٍ ما، هذا من أبين المحال، فإنه سبحانه

بيده الخير والشر ليس إليه، بل كل ما إليه فخير، والشر إنما حصل لعدم هذه

الإضافة والنسبة إليه، فلو كان إليه لم يكن شرًّا، فتأمله، فانقطاع نسبته إليه هو

الذي صيّره شرًّا.

فإن قلت: لم تقطع نسبته إليه خلقًا ومشيئةً. قلت: هو من هذه الجهة ليس

بشرّ، فإن وجوده هو المنسوب إليه، وهو من هذه الجهة ليس بشر، والشر الذي

فيه من عدم إمداده بالخير وأسبابه، والعدم ليس بشيء [12] حتى ينسب إلى مَن بيده

الخير.

فإن أردت مزيد إيضاح لذلك، فاعلم أن أسباب الخير ثلاثة: الإيجاد،

والإعداد، والإمداد. فهذه هي الخيرات وأسبابها، فإيجاد هذا السبب خير وهو إلى

الله، وإعداده خير وهو إليه أيضًا، وإمداده خير وهو إليه، فإذا لم يحدث فيه

إعدادًا ولا إمدادًا حصل فيه الشر بسبب هذا العدم الذي ليس إلى الفاعل وإنما إليه

ضده.

فإن قلت: فهلاّ أَمَدَّهُ إِذْ أَوْجَدَهُ؟ قلت: ما اقتضت الحكمة إيجاده وإمداده فإنه

سبحانه يوجده ويمده، وما اقتضت الحكمة إيجاده وترك إمداده أوجده بحكمته ولم

يمده بحكمته، فإيجاده خير، والشر وقع من عدم إمداده.

فإن قلت: فهلاّ أمد الموجودات كلها؟ فهذا سؤال فاسد، يظن مورده أن

التسوية بين الموجودات أبلغ في الحكمة، وهذا عين الجهل؛ بل الحكمة كل الحكمة

في هذا التفاوت العظيم الواقع بينهما، وليس في خلق كل نوع منها تفاوت فكل نوع

منها ليس في خلقه من تفاوت، والتفاوت إنما وقع بأمور عدمية لم يتعلق بها الخلق،

وإلا فليس في الخلق من تفاوت، فإن اعتاص ذلك عليك ولم تفهمه حق الفهم

فراجع قول القائل:

إذا لم تستطع شيئًا فدعه

وجاوزه إلى ما تستطيع

كما ذكر أن الأصمعي اجتمع بالخليل بن أحمد وحرص على فهم العَرُوض

وأعياه ذلك، فقال له الخليل يومًا: قطّع لي هذا البيت، وأنشده (إذا لم تستطع)

البيت، ففهم ما أراد فأمسك عنه ولم يشتغل به.

وسر المسألة أن الرضاء بالله يستلزم الرضاء بصفاته وأفعاله وأسمائه وأحكامه،

ولا يستلزم الرضاء بمفعولاته كلها؛ بل حقيقة العبودية أن يوافقه عبده في رضاه

وسخطه، فيرضى منها بما يرضى به ويسخط منها [13] ما سخطه. فإن قيل: فهو

سبحانه يرضى عقوبة مَن يستحق العقوبة. فكيف يمكن العبد أن يرضى بعقوبته له؟

قيل: لو وافقه في رضاه بعقوبته لانقلبت لذةً وسرورًا، ولكن لا يقع ذلك [14] فإنه لم

يوافقه في محبته وطاعته التي هي سرور النفس وقُرَّة العين وحياة القلب، فكيف

يوافقه في محبته للعقوبة التي هي أكره شيء إليه، وأشق شيء عليه؟ بل كان

كارهًا لِمَا يحبه من طاعته وتوحيده، فلا يكون راضيًا مما يختاره من عقوبته، ولو

فعل ذلك لارتفعت عنه العقوبة.

فإن قلت: فكيف يجتمع الرضا بالقضا الذي يكرهه العبد من المرض والفقر

والألم مع كراهته؟ قلت: لا تنافي في ذلك فإنه يرضى به من جهة إفضائه إلى ما

يحب، ويكرهه من جهة تأمله به، كالدواء الكريه الذي يعلم أن فيه شفاءه، فإنه

يجتمع فيه رضاؤه به وكراهته له.

فإن قلت: كيف يرضى لعبده شيئًا ولا يعينه عليه؟ قلت: لأن إعانته عليه قد

تستلزم فوات محبوب له أعظم من حصول تلك الطاعة التي رضيها له، وقد يكون

وقوع تلك الطاعة منه يتضمن مفسدة هي أكره إليه سبحانه من محبته لتلك الطاعة،

بحيث يكون وقوعها منه مستلزمًا لمفسدةٍ راجحةٍ، ومفوتًا لمصلحة راجحة، وقد

أشار تعالى إلى ذلك في قوله: {وَلَوْ أَرَادُوا الخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ

انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ القَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَاّ خَبَالاً

وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} (التوبة

: 46-47) فأخبر سبحانه أنه كره انبعاثهم مع رسول الله للغزو وهو طاعة

وقربة، وقد أمرهم به، فلما كرهه منهم ثَبَّطَهُم عنه، ثم ذكر سبحانه بعض المفاسد

التي كانت تترتب على خروجهم لو خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛

فقال: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَاّ خَبَالاً} (التوبة: 47) أي فسادًا

{وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ} (التوبة: 47) أي سعوا فيما بينكم بالفساد والشر يبغونكم

الفتنة وفيكم سمّاعون لهم أي قابلون منهم مستجيبون لهم، فيتولد من بين سعي

هؤلاء بالفساد وقبول أولئك منهم من الشر ما هو أعظم من مصلحة خروجهم،

فاقتضت الحكمة والرحمة أن منعهم من الخروج وأقعدهم عنه، فاجعل هذا المثال

أصلاً لهذا الباب وقِسْ عليه.

فإن قلت: قد تصوّر لي هذا في رضاء الرب تعالى لبعض ما يخلقه من وجهٍ

وكراهته من وجه، فكيف لي بأن يجتمع الأمران في حقي بالنسبة إلى المعاصي

والفسوق؟ قلت: هو متصوّر ممكن؛ بل واقع، فإن العبد يسخط ذلك ويبغضه

ويكرهه من حيث هو فعل له واقع بسببه وإراداته واختياره، ويرضى بعلم الله

وكتابته ومشيئته وإذنه الكوني فيه، فيرضى بما من الله، ويسخط ما هو منه. فهذا

مسلك طائفة من أهل العرفان، وطائفة أخرى رأوا كراهية ذلك مطلقًا، وعدم

الرضاء من كل وجه، وهؤلاء في الحقيقة لا يخالفون أولئك، فإن العبد إذا كرهها

مطلقًا فإن الكراهة إنما تنفع على الاستياء من المكروه منها، وهؤلاء لم يكرهوا علم

الرب وكتابته ومشيئته وإلزامه حكمه [15] الكوني، وأولئك لم يرضوا بها من الوجه

الذي سخطها الرب وأبغضها لأجله.

وسر المسألة أن الذي إلى الرب منها غير مكروه، والذي إلى العبد منها هو

المكروه والمسخوط، فإن قلت: ليس إلى العبد شيء منها. قلت: هذا هو الجبر

الباطل الذي لا يمكن صاحبه التخلص من هذا المكان الضيق، والقدري أقرب إلى

التخلص منه من الجبري، وأهل السنة المتوسطون بين القدرية والجبرية هم أسعد

بالتخلص منه من الفريقين.

فإن قلت: كيف يتأتى الندم والتوبة مع شهود الحكمة في التقدير، ومع شهود

القومية والمشيئة النافذة؟ قلت: هذا الذي أوقع مَن عميت بصيرته في شهود الأمر

على خلاف ما هو عليه، فرأى تلك الأفعال طاعات لموافقته فيها المشيئة والقدر،

وقال: إن عصيت أمره فقد أطعت إرادته في ذلك. قيل:

أصبحت منفعلاً لما تختاره

مني ففعلي كله طاعات

وهؤلاء أعمى الخلق بصائر، وأجهلهم بالله وأحكامه الدينية والكونية؛ فإن

الطاعة هي موافقة الأمر لا موافقة القدر والمشيئة، ولو كانت موافقة القدر طاعة لله

لكان إبليس مِن أعظم المطيعين لله، وكان قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وقوم

فرعون كلهم مطيعين له، فيكون قد عذبهم أشد العذاب على طاعته، وانتقم منهم

لأجلها، وهذا غاية الجهل بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله.

فإن قلت: ومع ذلك فاجمع لي بين الندم والتوبة وبين مشهد القيومية والحكمة.

قلت: العبد إذا شهد عجز نفسه ونفوذ الأقدار فيه، وكمال فقره إلى ربه، وعدم

استغنائه عن عصمته وحفظه طرفة عين؛ كان [16] بالله في هذه الحال لا بنفسه،

فوقوع الذنب منه لا يتأتى في هذه الحال ألبتة، فإن عليه حصنًا حصينًا مِن: (فبي

يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي) فلا يتصوّر منه الذنب في هذه الحال،

فإذا حجب عن هذا المشهد وسقط إلى وجوده الطبيعي وبقي بنفسه استولى عليه

حكم النفس والطبع والهوى، وهذا الوجود الطبيعي قد نصبت فيه الشباك والأشراك،

وأرسلت عليه الصيادون، فلا بد أن يقع في شبكة من تلك الشباك، وشرك من

تلك الأشراك، وهذا الوجود وهو حجاب بينه وبين ربه، فعند ذلك يقع الحجاب

ويقوى المقتضي، ويضعف المانع، وتشتد الظلمة، وتضعف القوى، فأنى له

بالخلاص من تلك الأشراك والشباك؟ فإذا انقشع ضباب ذلك الوجود الطبيعي

وانجاب ظلامه، زال قتامه، وصرت بربك ذاهبًا عن نفسك وطبعك:

بدا لك سر طال عنك اكتتامه

ولاح صباح كنت أنت ظلامه

فإن غبت عنه حل فيه وطنبت

على منكب الكشف المصون خيامه

فأنت حجاب القلب عن سر غيبه

ولولاك لم يطبع عليه ختامه

وجاء حديث لا يمل سماعه

شهي إلينا نثره ونظامه

إذا ذكرته النفس زال عناؤها

وزال عن القلب المُعَنَّى قتامه

فهنالك يحضره الندم والتوبة والإنابة، فإنه كان في المعصية [17] بنفسه،

محجوبًا فيها عن ربه وعن طاعته، فلما فارق ذلك الوجود وصار في وجود آخر

بقي بربه لا بنفسه، وإذا عرف هذا فالتوبة والندم يكونان في هذا الوجود الذي هو

فيه بربه، وذلك لا ينافي مشهد الحكمة والقيومية؛ بل يجامعه ويستمدّ منه. وبالله

التوفيق.

_________

(1)

سقط من البغدادية كلمة (ربا) .

(2)

سقط من البغدادية كلمة (له) .

(3)

وفيها (إنه لم) .

(4)

في البغدادية هنا (قولهم) ونص نسختنا (قولكم) ، وفيها القولة السابقة (قوله) فيهما وكان الأولى أن تكون (قولهم) فيهما.

(5)

نص البغدادية (فينازع قدر الله بقدر بالله ولله) .

(6)

نص نسختنا والحجازية (والرضاء في مقام الإيمان) فاعتمدنا نص البغدادية.

(7)

أي لأجل أمر غيره وهو ما بينه بقوله: وكونه سببًا

إلخ.

(8)

حذف من البغدادية كلمة (به) ولعلّه الصواب.

(9)

في الحجازية (تحركت في الخير) .

(10)

حذف من البغدادية كلمة (بمشيئه) .

(11)

في الحجازية (من جميع وجوه الاعتبارات) وفي البغدادية (من جميع الوجوه والاعتبارات) وانفردت نسختنا بالغلط ونصها (من جميع الوجوه الاعتبارات) .

(12)

في البغدادية (بشر) .

(13)

حذف من البغدادية كلمة (منها) .

(14)

وفيها (منه ذلك) .

(15)

في البغدادية (وحكمه الكوني) .

(16)

جواب (إذا) .

(17)

سقط من الحجازية (في المعصية) .

ص: 353

الكاتب: محمد بن عبد العظيم المكي الحنفي ابن المقدسي

‌القول السديد

في بعض مسائل الاجتهاد والتقليد [*]

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستعين وعليه نتوكل

اللهم أرنا الحق حقًّا واهدِنَا لاتَّباعِه، وأرنا الباطل باطلاً ووفقنا لاجتنابِه

الحمد لذاته وجميل صفاته، والشكر له على آلائه ونعمائه وعطائه وهباته،

والصلاة والسلام على عبده ورسوله المبعوث بالدين المتين، والكتاب المبين،

سيدنا ومولانا ونبينا محمد الرسول الأمين، وعلى آله وأصحابه الهداة المهتدين.

أما بعد؛ فهذه تعليقة موسومة (بالقول السديد في بعض مسائل الاجتهاد

والتقليد) أذكر فيها ما حضرني من بعض مسائل الاجتهاد، واقتداء المقلد بإمام

يرى خلاف قول مقلده - بفتح اللام - إما اجتهادًا أو تقليدًا ما سنح للخاطر الفاتر،

في الوقت الحاضر من غير تقيد بمراجعة في ذلك وهي نبذة يسيرة من شيء كثير،

فأقول وبالله الإعانة الكلام في هذه المسائل على فصول:

الفصل الأول

اعلم أنه لم يكلف الله أحدًا من عباده بأن يكون حنفيًّا أو مالكيًّا أو شافعيًّا

وحنبليًّا؛ بل أوجب عليهم الإيمان بما بعث به محمدًا صلى الله عليه وسلم، والعلم

بشريعته؛ غير أن العلم بها متوقف على الوقوف عليها، والوقوف له طرق، فما

كان منها ممّا يشترك به العوام وأهل النظر كالعلم بفريضة الصلاة والزكاة والصوم

والحج والوضوء إجمالاً، وكالعلم بحرمة الزنا والخمر واللواطة وقتل النفس،

وغير ذلك مما عُلِمَ من الدين بالضرورة، فذلك لا يتوقف فيه على اتباع مجتهد

ومذهب معين؛ بل كل مسلم عليه اعتقاد ذلك. فمَن كان في العصر الأول فلا يخفى

وضوح ذلك في حقه، ومَن كان في الأَعصار المتأخرة، فلوصول ذلك إلى علمه

ضرورة من الإجماع والتواتر وسماع الآيات والسنن، أي الأحاديث الشريفة

المستفيضة المصرّحة بذلك في حق مَن وصلت إليه.

وأمَّا ما لا يتوصل إليه إلا بضرب من النظر والاستدلال فمَن كان قادرًا عليه

بتوفر آلاته وجب عليه فعله، كالأئمة المجتهدين رضوان الله عليهم أجمعين، ومَن

لم يكن له قدرة عليه وجب عليه الاتباع إلى من يرشده [1] إلى ما كُلِّفَ به ممّن هو

أهل النظر والاجتهاد والعدالة، وسقط عن العاجز تكليفه بالبحث والنظر لعجزه

بقوله تبارك وتعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَاّ وُسْعَهَا} (البقرة: 286) ، وقوله

عزَّ مِن قائل: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (النحل: 43) ، وهي

الأصل في اعتماد التقليد، كما أشار إليه المحقق الكمال بن الهمام في التحرير [2] .

***

فصل

إذا علمت ذلك؛ فاعلم أن أبا حنيفة ومالكًا والشافعي وأحمد بن محمد بن

حنبل رحمة الله عليهم أجمعين، كلٌّ كان من أهل الذكر الذين وجب سؤالهم لمن لم

يصل إلى درجة النظر والاستدلال، فإذا عمل أحد من المقلدين في طهارته وصلاته

أو شيء مما جرى به التكليف بقول واحد منهم مقلدًا له فيه - لو صادف قوله، ولو لم

يعلم به حين العمل فقلده فيه بعد انقضائه على ما ظهر لي في المسألة، كما يدل عليه

ما استشهد به في المسألة بعد هذا - فقد أدّى ما عليه، وليس لأحدٍ ممّن هو في درجته

التقليد له. قلت: بل ولا للمجتهد الإنكار عليه، كما صرّح به في غير كتب عندنا من

تصانيف الصدر الشهيد حسام الدين وغيره من كتب المذهب المعتبرة، كالتجنيس

والمؤيد لشيخ الإسلام برهان الدين صاحب الهداية كما نقلته بخطي عنها في

مظانّه.

إذا ثَبَتَ ذلك فليس لحنفيّ أو مالكيّ أو شافعيّ من المُقَلدين أن يمتنع من

الاقتداء بالإمام المخالف لمذهبه، وليس له أن يحتج بأني لمّا قلدت الشافعي وأبا

حنيفة - مثلاً - فقد وجب علي الحكم ببطلان ما خالف اجتهاده؛ لأننا نقول: إنما

أبيح التقليد بقدر الضرورة، وذلك يندفع بتقليدك له في عملك وكيفيته فقط، وإن

شئت قل: في كيفية إيقاع ما كلفت به فقط، وأما الحكم ببطلان مخالفه فليس ذلك

إليك؛ بل للكلام مجال في تسويغ ذلك للمجتهد الذي قلدته. وأما أنت - ومَن هو في

مرتبتك من المقلدين - فقول (كل مجتهد) ؛ عنده على حدّ سواء؛ إذ ليس الترجيح

بالدليل من وظائفك، وإلا كنت في درجتهم ووجب عليك الاجتهاد وارتفع التقليد،

ولكن لا بد للعمل في تصحيحه من مستند، فأنت استندت إلى إمامك - ونعم الإمام -

وهذا الآخر استند إلى إمامٍ في فعله مثل إمامك أو أعلى منه، فلا يمكنك الحكم

على عمله بالبطلان ألبتة، فلست حينئذٍ في تخلفك عن الاقتداء به إلا عاملاً بمحض

التعصب، وقد نص علماؤنا وغيرهم من أصحاب المذاهب على حرمة التعصب،

وتصويب الصلابة في المذهب. ومعنى الصلابة أي [3] الثبات على ما ظهر للمجتهد

من الدليل، وليس ذلك إلا للمجتهد نفسه أو لِمَن هو مِن أهل النظر ممن أُخِذَ بقوله.

والتعصب: هو الميل مع الهوى لأجل نصرة المذهب ومعاملة الإمام الآخر

ومقلديه بما يحطط عنهم. وقد نصّ في جواهر الفتاوى وغيرها من كتب أصحابنا

أن الإمام الشافعي - رحمه الله تعالى - لم يكن له تعصب على أئمتنا رحمهم الله

تعالى.

***

فصل

وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يقتدي بعضهم ببعض، وكذا التابعون

لهم، وفيهم المجتهدون ولم يُنَقل عن أحد من السلف - رحمهم الله تعالى - أنه كان

لا يرى الاقتداء بمَن يخالف قوله في بعض المسائل؛ ولو في خصوص الطهارة

والصلاة؛ بل يقتدي بعضهم ببعض، وربّما اعتقد بعضهم ولاية بعض؛ حتى إن

الشافعي رضي الله عنه بَعث يطلب قميص الإمام أحمد بن حنبل من بغداد

يستشفي به في مدّة مرضه بغسله وشرب مائه - كما رأيته مثبتًا في مناقب أحمد

رضي الله عنه وقد روي ذلك بالعكس [4] ، وكذلك كان الصحابة - رضي الله

عنهم - يعامل بعضهم بعضًا، كما يُعْلَمُ ذلك من سيرهم وأحوالهم.

ولا يلتفت إلى ما قد تمسك به مَن لا معرفة عنده بأن الاختلاف بينهم لم يكن

بينهم بهذه الصفة التي عليها المذاهب الآن؛ لأنَّا قد قررنا أن ذلك لا يمنع؛ لأن

الكل كانوا في طلب الحق على حدّ متساوٍ، واجتهاد كل واحد منهم يحتمل الخطأ

كغيره بعد تسليم بلوغهم درجة الاجتهاد، وإن تفاوتوا فيه.

فَإِنْ قُلْتَ: قد نقل الإمام حافظ الدين النسفي صاحب الكنز والكافي في مصفّاه

عن المشايخ المتقدمين: إنّا إذا سُئلنا عمّا ذهبنا إليه في الفروع نجيب بأن ما ذهبنا

إليه صواب يحتمل الخطأ، وما ذهب إليه الغير خطأ يحتمل الصواب. انتهى

بمعناه، وإن لم يكن بلفظه. وهذا يوجب امتناع المقلد من اتباع إمام يرى مخالفة

قول إمامه لكونه خطأ، وما قلد فيه صواب عنده.

قلنا: المراد من هذا تخصيص أن ما ذهب إليه أئمتنا هو صواب عندهم مع

احتمال الخطأ؛ إذ كل مجتهد قد يصيب وقد يخطئ في نفس الأمر. وأما بالنظر

إلينا فهو مصيب في اجتهاده، وهو معنى ما روي أن كل مجتهد مصيب؛ فليس

معناه أن الحق يتعدد.

وينبغي أن يكون قد أراد الكلام [5] أن للمجتهد الحكم ظنّا لا قطعيّا بأن اجتهاد

غيره خطأ. وأما نفس المجتهد المخالف فهو مصيب في العمل باجتهاد نفسه لا

مخطئ في ذلك، وإن كان محكومًا بخطأ اجتهاده عند غيره؛ لأنه مأمور باجتهاد

نفسه كما لا يخفى.

قال الإمام فخر الإسلام علي بن محمد البزدوي في شرح الجامع الصغير في

مسألة التحري بالقبلة في الليلة المظلمة: وهذا نص من أصحابنا على أنهم لم يقولوا:

كل مجتهد مصيب؛ خلافًا للمعتزلة، فإن من نسب ذلك إليهم فقد تقوّل عليهم،

هذا لفظ فخر الإسلام رحمة الله عليه.

قلت: وقد ذهب بعضهم إلى أن الحق يتعدد في المسألة، وهو ما أدى إليه

اجتهاد كل مجتهد فيها، فقد جعل الله تبارك وتعالى حكم المسألة ما أدى إليه اجتهاد

كل مجتهد. ولكن لا نقول به؛ بل معناه أنه مصيب في اجتهاده ثم العلم به، والحق

عند الله واحد، ولكن لمّا ظهر لهم بالدليل حكمٌ من الأحكام وجب عليهم اتباع الدليل،

ومن ضرورة وجوب الاتباع التصويب، وإلا فالشرع لا يأمر باتّباع الخطأ. ثُم

من ضرورة تصويب قولهم تخطئة قول مخالفهم مع احتمال الإصابة من مخالفهم؛

لأن المجتهد لم يحصل له إلا الظن لا القطع بذلك، ولهذا لو حكم بشيء من

القطعيات في العقائد يجزم بالإصابة وبتخطئة المخالف، كما ذكره النسفي في تلك

المسألة في المصفى أيضًا.

فالحاصل أن المراد من أئمتنا ومَن أخذ بقولهم من أهل النظر كمشايخ المذهب

الكبار المتقدمين، كالشيخ أبي الحسن الكرخي والإمام أبي جعفر الطحاوي،

والمتأخرين مثل شمس الأئمة الحلواني وتلميذه السرخسي وفخر الإسلام البزدوي

وأمثالهم من النظّار في القرن الخامس، والإمام قاضي خان وخسرويه صاحب

الهداية، وأضرابهما من أهل الأنظار ذوي القدر الخطير في القرن السادس - لو

سُئلوا لكان جوابهم ما ذكره. ويرشد إلى ذلك تعبيره بقوله: (لو سئلنا) . وقوله:

(عمّا ذهبنا) . إلى آخره. ولم يقل: لو سئل المقلد. فهذا الجواب مقدّر من جانب

الأئمة أنفسهم فيما ذهبوا إليه، وليس المراد أن يكلف كل مقلد أن يعتقد ذلك فيما قلد

فيه؛ إذ ذلك تقليد فيما لا يحتاج إليه، وهو ممنوع، كما أفدتك من قبل أن التقليد

إنما يسوغ بقدر الضرورة، وهو محتاج إلى العلم؛ فلا بد من التقليد في كيفية

حصوله، وأما اعتقاد صحة ما قلد فيه ولا يدري [6] بطلان كل ما عداه فليس مكلّفًا.

فَإِنْ قُلْتَ: بل هو مكلّف، وإلا لَزِمَ إذًا التكليف مع اعتقاد عدم صحتها.

قلت: لا يلزم ذلك إلا لو اعتقد عدم صحة ما قلّد فيه، ونحن لا نقول به؛ بل

هو على الصواب ظاهرًا حيث فعل ما عليه، وهو الأخذ بقول مجتهد، وأما تخطئة

مَن أخذ بخلاف قول مقلده فما هو مكلف بها.

وإذا تقرّر هذا فلا يسوغ لحنفي أو شافعي وَجد في المسجد إمامًا على خلاف

مذهبه بعد أن كان من أهل السنة والجماعة ترك الاقتداء به، نظرًا إلى عدم صحة

صلاته على مقتضى مذهب إمامه [7] .

***

فصل

يؤيد ما ذكرته ما نقله التقي الشهني في شرح المختصر والشيخ عثمان

الزيلعي وصاحب البحر الرائق وغيرهم عن الإمام الجليل أبي بكر الرازي رحمه

الله من صحة الاقتداء بإمام رعف ولم يتوضأ، وهذا يشعر بالاكتفاء باعتقاد الإمام

نفسه في صحة صلاته، ولا عبرة حينئذٍ بفسادها في اعتقاد المقتدي، كما أشار إليه

النسفي أيضًا، وهذا القول هو المقصود روايته وإن اعتمد خلافة روايةً عندنا.

وهو الذي أميل إليه، وعليه يتمشى ما ذهبنا إليه في هذه الوريقات؛ بل أزيد وأقول:

والذي يقتضيه النظر فيما ذهبنا إليه لا ينبغي تخصيص عقيدة الإمام بالاعتبار في

الصحة؛ بل يقول: يكفي حصول الصحة على قول مجتهد، سواء في ذلك مطابقة

عقيدة الإمام والمأموم أو غير مطابقة؛ كمثل شافعي مسَّ فرجه وصلَّى ناسيًا إمامًا،

واقتدى الحنفي بالشافعي ثُم نسي ودخل في الصلاة، والحنفي كان عالمًا بمسّه وهو

ذاكرٌ له، فنقول: له أن يقتدي به؛ لأنه في حالته بعد المس، وهو متوضئ في

اعتقاد الحنفي المقتدي فيكفي ذلك.

وقد قال المحقق في فتح القدير في مثل هذه الصورة: إن الأكثر على الصحة؛

خلافًا للهندواني وغيره، ففي هذه الصورة قد اعتبرنا اعتقاد الحنفي المقتدي،

واكتفينا بصحتها في عقيدته، وصححنا الاقتداء، كما أنه في مسألة اقتداء الحنفي

بالإمام الذي رعف ولم يتوضأ اكتفينا بصحتها في عقيدة الإمام الراعف، وصححنا

الاقتداء به، وهو الذي نقلوه عن الإمام الرازي.

وقد ذكر الشيخ الإمام المحقق كمال الدين بن الهمام في شرحه على الهداية عن

شيخه الإمام سراج الدين الشهير بقارئ الهداية أنه كان يعتقد قول أبي بكر الرازي،

وأنه أنكر مرة أن يكون فساد الصلاة بذلك مرويًّا عن المتقدمين. انتهى.

ورأيت في رسالة لبعض الفضلاء أن بعض الفضلاء كانوا يرجحون قول أبي

بكر الرازي بناءً على قوة دليله ووضوح بيانه، وهو أن شرط صحة صلاة المأموم

صحة صلاة الإمام في نفسها، وصلاة كل مكلف إنما تصح في نفسها - إمامًا

ومأمومًا - باعتبار رأيه ومذهبه، لا على مذهب الغير؛ إذ كل مجتهد مطاع

في حكمه، ومجزي عن عمله الذي رآه ومثاب عليه - وإن لم يصب الحق - فالحنفي

لا يجزم بفساد صلاة مجتهد خرج منه الدم وهو يرى أنه غير ناقض، وإن قطع بفسادها من حنفي ابتلي به - على رأيه -.

قوله: لا يجزم. وقوله: وإن قطع. لا يخفى أنه لا جزم ولا قطع في

الظنيات، فالصواب أن يقال: لا يحكم، أو لا يقول بفسادها. وكذا أن يقول: وإن

حكم - أو - وإن قال بفسادها، بدل قوله: وإن قطع. قال جامعها: وإن قطع

بفسادها من حنفي ابتلي به بناء على رأيه ومذهبه

إلى آخر ما ذكره مما تركت

ذكره قصد الاقتصار على ما هو المقصود منه.

وكذلك أيضًا أجاب عنه الشهني في شرح المختصر، وغيره من المصنفين

في مسألة صحة اقتداء مقلد أبي حنيفة في الوتر بمَن يرى عدم وجوبه؛ بأنه لا

يجب عليه اعتقاد الوجوب. يدل أيضًا على ما أرشدتك إليه من أن التقليد إنما هو بقدر

الحاجة، واعتقاد الوجوب في عمل لم يجمعوا على وجوبه لا يجب؛ بل ربما لا

يسوغ؛ كما سيأتي قريبًا. فلذلك نقول: المقلد محتاج إلى إيقاع ما كلف به بطريقه لا

غير، فتنبه! فقد نقل صاحب البحر الرائق - وهو خاتمة المتأخرين - مولانا

العلامة ابن نجيم رحمه الله تعالى في (البحر الرائق شرح كنز الدقائق) عن شرح

(منية المصلي) : أنه صرّح بعض مشايخنا بأنه لا ينوي في الوتر أنه واجب

للاختلاف في وجوبه. ونقل هو أيضًا عن المحيط والبدائع أنه ينوي صلاة الوتر

والعيد فقط. انتهى. وهذا نصّ فيما أشرت إليه.

***

فصل

قد استفاض عند فضلاء العصر منع التلفيق في التقليد، وذلك بأن يعمل -

مثلاً - في بعض أعمال الطهارة والصلاة أو أحدهما بمذهب إمام، وفي بعض

العبادات بمذهب إمام آخر. ولم أجد على امتناع ذلك برهانًا؛ بل قد أشار إلى عدم

منعه المحقق في التحرير، وأنه لم يرد ما يمنع، ونقل منع التلفيق عن بعض

المتأخرين. قال شارح تحريره العلامة ابن أمير حاج: القائل بالمنع العلامة

القرافي رحمه الله تعالى.

قلت: والقرافي رجل من فضلاء الأصوليين من المالكية، ولا علينا أن نأخذ

بقوله، خصوصًا وقد وجدت عن بعض أئمتنا ما يدل على جوازه؛ بل على وقوعه،

وهو ما نقل في البزازية أن من علماء خوارزم من أصحابنا مَن اختار عدم فساد

الصلاة بالخطأ في القراءة فيها أخذًا بمذهب الإمام الشافعي رحمه الله. فقيل له:

مذهبه في غير الفاتحة [8]، فقال: اخترت من مذهبه الإطلاق، وتركت القيد [9] ؛ لما

تقرر في كلام محمد [10] رحمه الله تعالى: أن المجتهد يتبع الدليل لا القائل، حتى

صحّ القضاء بصحة النكاح بعبارة النساء على الغائب. انتهى، نقله عنهما العلامة

خاتمة المتأخرين ابن نجيم في بعض رسائله في الوقف. فانظر كيف لفق أخذًا

بمذهبه بأن الفاتحة ليست بركن فلا يضر نقصان بعضها فيما أخطأ فيه؛ أعني خطأ

فاحشًا، كمن قال:(إيّاك نعبا وإياك نستعين) ؛ فسبقه اللسان خطأ. فإن الفاتحة

نقصت كلمة نعبد فلم تجز صلاته على مذهب الإمام الشافعي رحمه الله ما لم

يُعِدْ قراءة نعبد، فإذا أعادها صحت صلاته ولم تفسد عنده بهذا الخطأ؛ لأن عنده

الكلام الخطأ لا يفسد إذا كان قليلاً، وعندنا هو مفسد، فإذا أعادها على الصحة لا

يفيد لأن الصلاة قد فسدت. هذا وقد قال بعدم الفساد عندنا بعض المشايخ إن أعادها

على الصحة كما نقله الزاهدي، ولكن ظاهر ما في البزازية عن بعض علماء

خوارزم أنه لا تفسد ولو لم يعد على الصحة، وإن أخذه بمذهب الشافعي في عدم

الفساد بالخطأ، وهو عين التلفيق.

فإن قلت: إن ذلك البعض من علماء خوارزم لعله إنما قال بذلك اجتهادًا، بدليل

قوله: إن المجتهد يتبع الدليل لا القائل، قلت: يمنع مِن ذلك قولُه: أخذًا بمذهب

الشافعي، فإن المتبادر من ذلك أنه قلده في ذلك. ومعنى قوله حينئذٍ: لِمَا تقرّر من

كلام محمد - إلى آخره - يعني أن المجتهد كما يتبع ما دلّ عليه الدليل باجتهاد لا

باتباع مَن قال بمثل ما أدّاه إليه اجتهاده، فكذلك المقلّد إنما يلزمه خصوص ما قلّد

فيه لا اتباع ذلك المجتهد الذي قلّده في جميع ما قال به، وخصوص ما قلت فيه إنما

هو عدم الفساد بالخطأ في القراءة مطلقًا، سواء كان ذلك في الفاتحة أو غيرها،

وذلك هو مذهب الشافعي رحمه الله تعالى ورضي عنه، وعن سائر الأئمة

المجتهدين.

وفساد الصلاة بوقوع الخطأ في الفاتحة عنده ليس لخصوص كونه في الفاتحة؛

بل لفوات بعض الفاتحة عنده في الصلاة، ولهذا لو أتى بما أخطأ فيه منها على

الصحة فإنه لا يقول بفساد صلاته حينئذٍ. والخوارزمي لم يقلده في ركنية الفاتحة؛

بل قلده في عدم الفساد بالخطأ في القراءة - أعني الشافعي رحمه الله تعالى يقول

بإطلاقه، وقول القائل:(له مذهبه في غير الفاتحة) ؛ غير صحيح - كما تقدّم

بيانه، وكذلك قول الخوارزمي له، وتركه القيد واقع في غير محله؛ لأنه لم يقيده

الشافعي بغير الفاتحة؛ بل خرج ذلك من الخوازرمي للمشاكلة في الجواب لِمَن نسب

إليه القيد - أي إلى الشافعي - وذلك إما جهل من ذلك القائل بمذهب الشافعي، أو

توسع في العبارة وتسامح؛ لأنه لما كان الشافعي يقول بالفساد بوقوع الخطأ في

الفاتحة إذا لم يعد على الصحة، فكأن غير الفاتحة صار كالقيد لإطلاق الجواز،

وليس قيدًا حقيقةً كما بيّنته في أول الكلام؛ فافهم.

والحاصل أنه لم يثبت من كل وجه كون الخوارزمي قال بذلك الاجتهاد، ولو

فرضنا ثبوت ذلك فما ضرنا ذلك فيما قصدنا إليه من جواز التلفيق، فكما أنه لو

حصل التلفيق بالاجتهاد حكمنا بالصحة؛ فكذلك إذا حصل التلفيق بالتقليد حكمنا

بالصحة؛ لأن الاجتهاد أصل في العمل والتقليد فرع. التكليف في الأصل إنما هو

بالاجتهاد عند عدم النص، فإن عجز عن ذلك الاجتهاد نزل إلى التقليد، ففي كل

موضع قلنا بالصحة مع الاجتهاد نقول بها مع التقليد عند العجز عنه من غير زيادة

أمر آخر، وما زاد على ذلك فهو قول مخترع لا يقوم به دليل مرضي، ولا تنهض

به حجة.

وما يزعمه من منع التلفيق من أن كلاّ من المجتهدَيْن اللذَيْن قلدهما - مثلاً -

يقول ببطلان صلاته الملفقة - مثلاً - أو سئل عنها بانفراده، فمغالطة مدفوعة بما

لا يسع هذا المحل بيانه.

وإجمال ذلك: أنه إنما يقول له: إنها باطلة إن كنت أخذت في ذلك الأمر الذي

حكمت إذًا ببطلانه من أجله بمذهبي وأمّا إن كنت قلدت فيه غيري فلا أحكم

ببطلانها حينئذٍ في حقّك إن كنت متمسكًا بقول مجتهد. وكذلك يقول له الآخر

والآخر والآخر، فبطل إطلاق قولهم: يمنع التلفيق بأن كلاّ من المجتهدين حاكمٌ

ببطلان صلاته مثلاً؛ بل يقيد الحكم منه ببطلانها بما إذا كان متمسكًا فيها بمذهبه

فيما يرى ذلك المجتهد بطلانها بسبب فعله أو تركه لا أن قلد غيره فيه؛ فافهم ما فيه؛

فتندفع تلك المغالطة التي حكم مَن حكم بمنع التلفيق بسببها. فإن أبيت وقلت: لا؛

بل المجتهد يطلق القول ببطلانها على رأيه. فنقول: لا يليق هذا الإبطال بما إذا

قلد مجتهدًا غيره في الأمر الذي أبطلها بسببه، كما لا يليق إبطاله بنقض قول ذلك

المجتهد المصحح لها مع وجود ذلك الأمر الذي أبطلها بسببه ذلك المجتهد الآخر،

فسلمت له صلاته - أي المقلد - بتقليده لها كل أمر من أمورها مجتهدًا يرى صحة

ذلك، فصار حكم المجتهد المبطل في مصروفًا عنه بتقليده مَن يرى الصحة بذلك

الأمر، وبذلك ينصرف عنه حكم كل المجتهدين، وببطلانها بيان قول المانع فيما

إذا قلد المكلف أبا حنيفة رضي الله عنه في أن المس غير ناقضٍ مثلاً، وقلد

الشافعي - رحمه الله تعالى - في الاكتفاء بمسح بعض شعرات من الرأس لا تبلغ

الربع، أو مقدار ثلاثة أصابع باعتبار الرواية الأخرى في مذهب أبي حنيفة -

رحمة الله عليه - في المقدار المفروض في مسح الرأس، فإن المانع يقول: إن أبا

حنيفة والشافعي حاكمان ببطلان صلاته، فأبو حنيفة لفقد مسح المقدار المفروض

عنده، والشافعي لوجود المس، فهي غير جائزة عندهما.

أقول: وجوابه ما بيّناه بأن هذه مغالطة، وإطلاق في محل تقييد؛ بل الحكم

ببطلانها عند كل منهما مقيد بما إذا كان آخذا في ذلك الأمر الذي حكم من حكم

ببطلانها بسببه بمذهب المبطل - كما تقدم بيانه قريبًا - فافهم؛ والله أعلم بالصواب.

اللهم لو ذهب مجتهد إلى أن المفروض من الرأس في المسح مقدار ما قال به

الشافعي، وإلى أن المس غير ناقض، وإلى أن الدلك والموالاة في الوضوء لا يلزمان

، لم يسوغ المانع له حينئذٍ اجتهاده؟ [11] فكذلك عليه أن يسوغ للمقلد تقليده في كل

واحد من المذكورات لمجتهد قال بذلك؛ كما لا يخفى، فإن تَأَبَّى مُتَأَبٍّ عن تلقي هذا

البيان بالقَبول بعد صحته ووضوحه فاقرعه بما تقدم قريبًا من عدم لحوق الإبطال

من المجتهد بالمقلد لغيره فيما أبطله بسببه، وإن صادف حكمه عنه بذلك.

ثُم نرجع ونقول: وكذلك مسألة النكاح؛ فإنه لا يصح بعبارة النساء على

الغائب، وعندنا الحكم بالعكس في المسألتين، فإذا حكم بصحته بعد وقوعه بعبارة

النساء على الغائب فقد لفق، ومع هذا فقد حكموا بصحة هذا الحكم الملفق من

المذهبين، وكذلك مسألة الإمام أبي يوسف - رحمه الله تعالى - لمّا صلى بالناس

الجمعة فأخبر بوجود فأرة في ماء الحمام الذي كان اغتسل منه للجمعة، فقال: نأخذ

بقول إخواننا من أهل المدينة: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثًا) . قال في

المحيط البرهاني والفتاوى الظهيرية وغيرهما من كتاب النكاح مستشهدًا بها في

مسألة من مسائل النكاح سيأتي ذكرها: للحنفي أن يعمل فيها بغير مذهبه.

أقول: فهذا أبو يوسف رحمه الله إمام المذهب وكبيره، المجتهد الكامل -

قد قلد عند الضرورة ولم يكن ذلك مذهبًا له؛ بل مذهبه تنجس الماء القليل وإن لم

يتغير بوقوع ما ينجسه فيه، ولا شك أن الظاهر أنه فعل الطهارة وصلى الصلاة على

مقتضى مذهبه، وإنما قلد في خصوص الماء، فقد حصل التلفيق منه، وهو أوفى

حجة لنا، ويستفاد منه أيضًا أنه يقلد إذا احتاج، إذ هو الظاهر من فعله هنا، وإن كان

نقل في جواهر الفتاوى عن الحاوي من كتبنا: أن أبا يوسف رحمه الله بقي على

هذا المذهب ستة أشهر، ثُم رجع إلى مذهب أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - في

المسألة؛ فإنه يحتمل أنه ظهر له بالدليل بعد التقليد صحة ما ذهب إليه غيره ممّن

قلده في المسألة خصوصًا، ولفظ نقل المحيط والظهيرية: (ولم يكن ذلك مذهبًا له؛

بل يدل على وقوعه تقليدًا) .

وهذه المسألة وهي: هل للمجتهد أن يقلد مجتهدًا في مسألة فيها خلاف؟

المشهور أنه ليس له ذلك، وروي عن الإمام محمد رحمه الله جواز تقليد

العالم للأعلم، والفقيه للأفقه، وفرع أبي يوسف هذا يوافقه، ثُم رأيت في أصول

الإمام شمس الأئمة أبي بكر بن محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي رحمهم الله

تعالى - وهو صاحب المبسوط - ما نصه: على أصل أبي حنيفة رحمه الله

تعالى - إذا كان عند مجتهدٍ أن من يخالفه في الرأي أعلم بطريق الاجتهاد فإنه مقدّم

عليه في العلم فإنه يدع رأيه لرأي مَن عرف زيادة قوة في اجتهاده - إلى أن قال -:

وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى: (لا يدع المجتهد في زماننا

رأيه لرأي مَن هو مقدّم عليه في الاجتهاد من أهل عصره) ، إلى آخر ما ذكره.

فأفاد عن محمد خلاف ما رأيته عنه، فلعل أن له في المسألة روايتين. ونقل

صاحب الفتاوى الصيرفية عن فوائد تجنيس الملتقط: اشترى الإمام الشافعي -

رحمه الله تعالى - الباقلاء من منادي السكك، فأكل وأكلوا وصلوا بعدما حلق وعلى

ثوبه شعر كثير، فقيل له في ذلك، فقال: حين ابتلينا انحططنا إلى مذهب أهل

العراق. وهو يفهم بظاهره أنه قلد في ذلك.

فقد تلخص من المنقول عن الأئمة أن التلفيق [12] من مسئلتي أبي يوسف

وبعض علماء خوارزم، ومسألة صحة الحكم على الغائب بصحة النكاح بعد وقوعه -

كما سبق في المسألة التي ذكروها - واستئناسي بمقالة المحقق في التحرير، وما

على الإنسان أن يختار الأسهل في العمل.

ثُم وجدت شيخ الإسلام خاتمة الأئمة المتأخرين مولانا العلامة زين الدين ابن

نجيم صرّح في رسالة ألّفها في بيع الوقوف على وجه الاستبدال بأن ما وقع في

آخر التحرير من منع التلفيق فإنما عزاه إلى بعض المتأخرين وليس هذا المذهب.

انتهى. فحمدت الله تبارك وتعالى على موافقة ما ادعيته لما نص عليه مولانا

العلامة ابن نجيم.

(للرسالة بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) هذه الرسالة هي تأليف الفقيه الأصولي الشيخ محمد بن عبد العظيم المكي الحنفي ابن المقدسي المبروز الملاّ فروخ بن عبد المحسن الرومي الموروي، أتم تأليفه سنة 1052 للهجرة ظفر بنسخة خطية منها صديقنا الشيخ مصطفى بن محمد سليم الغلاييني؛ فأرسلها إلينا فاستحببنا نشرها في المنار لفوائدها وللاستشهاد بها على وجود العلماء المنصفين الميسرين الجامعين للكلمة في كل شعب إسلامي وكل عصر من عصور ضعف العلم.

(1)

المنار: حق العبارة أن تكون: (اتباع من يرشده) .

(2)

المنار: التقليد: الأخذ بالرأي من غير دليل. وإنما تدل الآية على السؤال عن الدليل، وهو ما تواتر عند أهل الكتاب من كون جميع الرسل كانوا رجالاً، ومثله طلب النصر دون الرأي، هذا وإن الاجتهاد يتجزأ، فمَن لم يقدر على معرفة جميع الأحكام أو أكثرها بالنظر والاستدلال يجوز أن يقدر على ما يحتاج إليه منها كله أو بعضه، وحينئذٍ يمتنع عليه أن يأخذ فيه برأي غيره واجتهاده، كما ثبت في علم الأصول.

(3)

لفظ (أي) لا حاجة إليه فعله سبق قلم من الناسخ أو المؤلف.

(4)

في طبقات الشافعية الكبرى للسبكي أن الشافعي أرسل إلى أحمد كتابًا من مصر وهو ببغداد مع الربيع يذكر له فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يكتب إليه: (إنك ستُمتحن وتدعى إلى القول بخلق القرآن فلا تجبهم، فيرفع الله لك علمًا إلى يوم القيامة) وأن أحمد أعطى الربيع قميصه بشارة، وأن الشافعي قال للربيع لما عاد: ليس نفجعك به؛ ولكن بلّه وارفع إليّ الماء لأتبرك به. فهذا أصل الحكاية، وبعض الناس يتصرفون فيها. والسند الذي ذكره السبكي لا يصح، ولكنه يقبلون مثله في المناقب.

(5)

المنار: كانت هذه الجملة إلى الأربعة الأسطر موضوعة في الفصل السابق قبل قوله: (وأما

أنت

إلخ) ولا معنى لها هناك، ولا مرجع لضميرَيْ (يكون) و (أراد) .

(6)

المنار: كذا في الأصل ولعل في الكلام حذفًا، والمراد ظاهر؛ أي: وأما اعتقاد صحة ما قلد فيه ولا يدري ما دليله، وبطلان كل ما عداه فليس مما يكلفه.

(7)

تقييده بأهل السنة فيه بحث؛ فقد أجازوا الاقتداء بالفاسق ولو في الاعتقاد كالمبتدع ولكن مع الكارهة، وهذا مما يتحقق به كونهم أهل الجماعة أي يجمعون كلمة المسلمين ولا يفرقونها.

(8)

أي ذل مذهبه في غير الفاتحة.

(9)

سينقل المصنف قريبًا قول الخوارزمي في هذا السياق: (وتركها لقيد في غير محله) - أي

الشافعي - فهل هو عين هذه العبارة ووقعت هنا محرفة؟ أم سقط من الكلام هنا؟ .

(10)

سيعيد العبارة بلفظ: (من كلام محمد) .

(11)

قوله: (لم يسوغ

إلخ) جواب لو، ومعنى النفي باطل؛ لأن مانع التلفيق لا يمنع المجتهد من القول بهذه المسائل، ولا يصح المعنى إلا إذا جعلت الجملة للاستفهام، ولا تبعد على المصنف لضعفه في العربية، وإلا فالعبارة محرفة.

(12)

كذا، والمعنى مأخوذ من مسألتي أبي يوسف

إلخ.

ص: 368

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الصهيونية

(ننقل هذا الفصل من جزء نوفمبر سنة 1913 لمجلة الهلال المفيدة لاطّلاع

مَن لم يطّلع عليه من قرائنا في هذه الأيام التي كثر فيها الخوض في هذه

المسألة) .

تاريخها وأعمالها:

الصهيونية: دعوة اجتماعية سياسية؛ انتشرت في الأمة الإسرائيلية بأواخر

القرن الماضي، وكثر تحدث الناس فيها بالأعوام الأخيرة. وقد همَّنا

أمرها على الخصوص في أثناء رحلتنا بفلسطين. ولا بد لنا في بحثنا عن أحوال

تلك البلاد الاجتماعية والاقتصادية من الإشارة إلى هذه الدعوة وتأثيرها الشديد في تلك

الأحوال. فرأينا أن نأتي على خلاصة تاريخها وحقيقة غرضها؛ لزيادة الإيضاح

فنقول:

موضوعها:

قد تقدم في كلامنا عن تاريخ فلسطين في الهلال الماضي كيف تشتت اليهود

في أنحاء العالم بعد أن جاهدوا في الدفاع عن أورشليم دفاع الأسود. وقد مضى

عليهم في هذه الهجرة نحو 19 قرنًا وهم يندبون وطنهم ودولتهم وهياكلهم؛ ولا سِيَّما

هيكل سليمان الباقية آثاره في القدس إلى الآن كما سنبينه مصورًا في رحلتنا. وقد

حاولوا استرداد ذلك الوطن عبثًا، ونظموا الأشعار في رثائه. ولا يزالون إلى اليوم

يبكون ذلك المجد الذاهب كل أسبوع عند أحجار يعتقدون أنها من بقايا هيكل سليمان.

وقد حاول اليهود المهاجرون السعي في استرجاع ذلك الوطن غير مرة

بأساليب مختلفة، آخرها الحركة الصهيوينة التي نحن في صددها.

ولا بد لكل دعوة اجتماعية أو سياسية من غرض ترمي إليه، وغرض

الصهيوينة (جمع الشعب الإسرائيلي في فلسطين وجعلها وطنًا خاصًّا به) ، وهي

مبنية من الوجهة الدينية على آياتٍ جاءت في سفر أرميا الفصل 30 عدد 10 حيث

يقول: (لا تخف يا عبدي يعقوب يقول الرب ولا تفزع يا إسرائيل فإني أخلصك

من الغربة وذريتك من أرض جلائهم، فيرجع يعقوب ويستقر في الراحة والخصب

ولا يرعبه أحد) . وفي حزقيال 39 عدد 28: (فيعلمون أني أنا الرب إلههم

بإجلائي إيّاهم إلى الأمم ثُم جمعي إياهم إلى أرضهم، بحيث لا أبقي هناك منهم أحدًا

من بعد) وفي عاموس قول صريح ص (9: 14) : (وأردّ شعبي إسرائيل فيبنون

المدن المخربة ويسكنونها ويغرسون كرومًا يشربون من خمرها وينشئون جنات

يأكلون من ثمرها وأغرسهم على أرضهم فلا يقتلعون فيما بعد من أرضهم

التي أعطيتها لهم) .

وهناك نبوءات أخرى بهذا المعنى أو نحوه في زكريا وأشعيا وميخا وغيرها.

غير ما عندهم من الاعتقاد بالمسيح الذي سيأتي ويجمع بني إسرائيل حوله

ويزحف على القدس ويعيد العبادة للهياكل، وغير ذلك مما جاء في التلمود.

على أن هذه الأقوال وأمثالها لا تكفي لإجماع الأمة على العمل بها إن لم يتوقع

أصحابها نفعًا اقتصاديًّا أو سياسيًّا من ورائها، أو أن يدفعهم للعمل جوع أو اضطهاد

أو ظلم. وكم من اعتقاد يعتقده الناس ولا يجتمعون للعمل به؛ لعجزهم عن ذلك أو

لعدم الاضطرار إليه؟ وإنما يجتمعون للعمل في ما يرون لهم فيه مصلحةً حقيقيةً.

ويتذرّعون إلى الاجتماع غالبًا بأسبابٍ دينية يتوكؤون عليها ويأولونها إلى ما

يساعدهم على ذلك القيام.

ولا بد في مثل هذه الحال مِن محرّكٍ يبعث على النهوض، وقد بعث اليهود

على هذه الحركة أمران:

الأول: تمكن الروح الملّية من نفوسهم على أثر الارتقاء الاجتماعي والعلمي

في العالم المتمدن؛ فإن شيوع الحرية الشخصية ولّد في نفوس الأمم عصبية

عنصرية غلبت على الجامعات الأخرى، وبهذه العصبية يطلب المجر التخلص من

النمسا، ويحاول البلقانيون الخروج من سلطة تركيا. والبلقانيون أنفسهم يتحاربون

الآن باسم العنصرية مع أنهم من مذهب واحد وإقليم واحد.

والأمر الثاني: مبالغة الأمم النصرانية في امتهان اليهود باسم الأنتسميتزم

(antisemitism) ومعنى اللفظ: (مقاومة الساميين) ؛ لكنهم يريدون بهم

اليهود خاصة. فآل ذلك طبعًا إلى اجتماع كلمة اليهود بأوربا، وفيهم طائفة حسنة من

أصحاب الأموال ورجال الساسة والعلم وأهل الهمة والنشاط، فأخذوا يبحثون في

الدفاع عن أمتهم، وآنسوا في أنفسهم المقدرة على العمل بتلك الآيات، فوجّهوا

عنايتهم إليها؛ فأخذ كُتَّابُهم يحرّضون قومهم على الاستعمار في فلسطين للتخلص

من اضطهاد الأمم لهم. وقال بعضهم: إذا لم يكن ابتياع فلسطين ممكنًا فلنطلب

وطنًا في مكانٍ آخر على وجه هذه البسيطة.

ونشط آخرون لاستنصار الجمعيات الخيرية الإسرائيلية - كجمعية الاتحاد

الإسرائيلي - على القيام بهذا العمل سنة 1863؛ ولكن هذه الجمعية غرضها الرئيسي

تهذيب الشبيبة اليهودية، وحاول غيرهم استنهاض جمعية اليهود الإنكليزية في لندن

وجمعيتهم في برلين، فترتب على ذلك تأسيس الجمعية العمومية الفلسطينية وجمعية

الاستعمار الفلسطيني؛ لكنَّ الدعوة لم تكن نضجت بعد فلم تأت هذه المساعي

بثمرة. فوجّهوا التفاتهم إلى وادي الفرات لعله يصح أن يكون مهجرًا لهم. وبذل

السياسي أولفانت الإنكليزي جهده في نيل امتياز خط حديدي في ذلك الوادي ليسكن

فيه مهاجرو اليهود من روسيا، واقترح إنشاء مهجر يهودي في فلسطين

بنواحي السلط، على أن تتألف جمعية رأس مالها عشرة ملايين فرنك تبتاع مليون

فدان يستثمرها يهود بولندا ورومانيا والأناطول فلم يأذن لهم السلطان، وقِسْ

على ذلك سائر مساعيهم في هذا السبيل.

لكن روح الصهيونية أخذت تتمكن من قلوب اليهود؛ وهم يزدادون تمسكًا

بالعنصرية كلما زاد مقاوموهم شدة، فكثرت الجمعيات التي تألفت لهذه الغاية.

وأول جمعية أفلحت في استثمار أرض فلسطينية نشأت سنة 1879 ولما التأم

المؤتمر الإسرائيلي سنة 1884 وأوشكوا أن يبلغوا غايتهم لكن العثمانيين انتبهوا

لأغراضهم فحالوا بينهم وبين ما يريدون. ولم يستقر عملهم على قواعد متينة إلا

بعد ظهور الدكتور تيودور هرتزل صاحب الدعوة الصهيونية.

وهو رجل نمساوي شديد الغيرة على العنصر الإسرائيلي عالي الهمة قوي

الحجة، كتب وهو في باريس سنة 1895 كتابًا في استعمار اليهود سماه (الوطن

الإسرائيلي) ، لم يزعم أنه يستنهض به الهمم أو يستثير العزائم؛ بل قال: إنه كتبه

لنفسه ولإيقاف بعض أصدقائه على آرائه، ولكن الكتاب ما لبث أن طبع في فيينا

بالنمساوية حتى نقل إلى الفرنساوية والإنكليزية والعبرانية، وأعيد طبعه مرارًا وراج

رواجًا عظيمًا. وحرك الهمم فوق ما كان يتوقع الناس منه، وقد عارضه كثيرون،

لكن المجاري الاجتماعية اقتضت ظهور ثمره؛ لأن فكرة استعمار اليهود لفلسطين

كانت قد نضجت واستعدت لها الأذهان وتاقت إليها النفوس.

وخلاصة آراء هرتزل في ذلك الكتاب: (إن أعداء الساميين آخذون في

الازدياد، ولا يستطيع اليهود مقاومتهم لتشتت شملهم في الأرض، فهم في حاجة إلى

الاجتماع في وطنٍ خاص بهم) ؛ فاقترح إنشاء شركة يهودية اقتصادية رأسمالها

50.

000.000 جنيه مركزها لندن. وأن تتألف جمعية سياسية يهودية تدير أعمال هذه الشركة وتشير عليها بما ينبغي عمله.

واقترح للقيام بذلك ابتياع فلسطين أو الأرجنتين على أن ينتقل إليها اليهود

انتقالاً منتظمًا. ثُم عدل هرتسل رأيه هذا فحصر طلبه باستعمار فلسطين دون

سواها؛ لعلمه أن الناس لا يساقون بمثل الشعائر الدينية، واليهود هجروا فلسطين

وقلوبهم في هيكل سليمان.

ولم تمض سنة على نشر آراء هرتسل حتى أقبلت الجمعيات على الأخذ بها

وأول من فعل ذلك جمعية اليهود النمساوية؛ فوقع بضعة آلاف منهم سنة 1896

على خطاب يطلبون فيه تأسيس جمعية يهودية في لندن، غير مَن أخذ برأيه وتعصب

له من الناشئة المتألمين من مقاومة اليهود. على أن طائفة كبيرة من الحاخامين في

روسيا وألمانيا والنمسا وإنكلترا عارضوه في بادئ الرأي؛ لأنه لم يعتبر الوجهة

الدينية من المسألة كما ينبغي؛ ولأن أتباعه أكثرهم من الشبان المتنورين [1]

واتهموهم بكل قبيح. وكان المسيحيون أشد عطفًا على الصهيونية من أولئك

الحاخامين فنصروها بأقلامهم وألسنتهم.

ومن جملة العقبات التي قامت في طريق الصهيونية مسألة التعليم؛ لأن

الحاخامين اعتبروا نشر العلوم العصرية من قبيل الخروج عن الآداب الدينية،

وأشاعوا أن الصهيونية من آلات الكفر؛ فلما انعقد المؤتمر الثاني رأى هرتسل من

الحكمة مسالمة رجال الدين؛ فاعترف أن الصهيونية تشمل السعي في إحياء شعائر

الدين فضلاً عن الاقتصاد والسياسة.

أعمال الصهاينة ووسائلها:

قد يستغرب القارئ نجاح هذه الدعوة في هذه المدة القصيرة؛ لكنه إذا علم

الغرض والوسيلة هان عليه ذلك.

دعا هرتسل الشعب اليهودي من أنحاء العالم المتمدن إلى مؤتمر اجتمع في

باسل سنة 1897 حضره نيف ومئتا عضو بعضهم يمثلون جماعات. وكانت

الأذهان متأهبة لقبول الدعوة فلم يكتفوا بإعلانها - وهي إيجاد وطن شرعي للشعب

الإسرائيلي في فلسطين - بل بحثوا في الوسائل المؤدية إلى نشرها وتأييدها؛ فقرّروا

لذلك ثلاث وسائل من أرقى الوسائل المؤدية إلى النجاح وهي:

(1)

إحياء آداب العبرانية ونشرها.

(2)

إنشاء مدارس لتعليم اللغة العبرانية.

(3)

إنشاء مالية مشتركة لليهود.

وأخذوا بعد انفضاض هذا المؤتمر في تأييد هذه القرارات بنشر الكتب وإلقاء

الخطب في اللغات العبرانية والألمانية والفرنسية والإنكليزية والعربية، وشكلوا عمدة

للاستعمار الإسرائيلي. فلما انعقد المؤتمر الثاني في فيينا ثم في باسل سنة 1898

ظهر في التقارير التي تليت في ذلك الاجتماع أن الجمعيات الصهيوينة القائمة بذلك

العلم تضاعفت كثيرًا وأصبح عددها 1150 جمعية، فأخذ أعداؤها يتقرّبون منها،

وآمن بمبادئها كثيرون من رجال الدين. وتقرر في هذا المؤتمر تعيين جمعية خاصة

بالاستعمار غرضها توسيع نطاقه وأن تكون اللغة العبرانية هي لغة اليهود حيثما

وجدوا.

وقِسْ على ذلك ما جرى في المؤتمرات التالية. فانعقد المؤتمر الثالث في

باسل أيضًا وكانت أبحاثه أكثرها في نيل امتياز من السلطان عبد الحميد لم يسفر

عن نتيجة، وبلغ عدد الجمعيات الروسية فقط 877 جمعية، وعدد المنتظمين في

عضوية الجمعية 250000 نفس. وانعقد المؤتمر الرابع في لندن سنة 1900

والخامس في باسل سنة 1901، وفي هذا المؤتمر تقرر عقد مؤتمر عمومي كل

سنتين - غير المؤتمرات الفرعية في أثناء السنتين - وقرروا إنشاء مكاتب

للمطالعة ومدارس وتأليف دائرة معارف عبرانية. وانعقد المؤتمر السادس في باسل

سنة 1903 وتقرر فيه إرسال لجنة إلى أوغندا تبحث في: هل تصلح تلك البلاد

للاستعمار. وقرر تخصيص 200000 جنيه لشراء أرض في فلسطين وسوريا.

وفي السنة التالية 1904 تُوفي الدكتور هرتسل صاحب هذه الدعوة؛ فانتخبوا

مكانه الدكتور نوردو رئيسًا. وعرضت إنكلترا في ذلك العام على الصهيونيين

أرضًا في شرقي إفريقيا الإنكليزية على سكة حديد أوغندة بين نيروبي وماو؛

لأجل إنشاء مستعمرة يهودية مستقلة بأحكامها تحت رعاية الدولة الإنكليزية. فعينت

لجنة للبحث؛ فقررت أن البقعة ضيقة لا تكفي فرفضوها. وقِسْ على ذلك سائر

مؤتمرات الصهيونية وآخرها المؤتمر الحادي عشر الذي انعقد هذا العام في فيينا

برئاسة الموسيو ولنسن، وقد جاء فيه أن الصهيونية سائرة على قدم النجاح وأن

سلامتها مرتبطة بسلامة الدولة العثمانية؛ لأن المسألة اليهودية والمسألة العربية

متفقتان. وقرر أشياء أخرى أهمها إنشاء جامعة في أورشليم لتعليم العلوم العالية

باللغة العبرانية، وفي جملتها اللغات الشرقية والفلسفة القديمة والحديثة. غير

المؤتمرات الفرعية التي كانت تعقد في أنحاء العالم المتمدن، ومنها مؤتمر عقد في

زمارين من أعمال فلسطين حضره 50 عضوًا وشرط للدخول في الجمعية خمسة

قروش يدفعها الطالب.

وقسموا فلسطين من حيث الصهيونية إلى ست مناطق وتقرّر تأليف جمعيات

وفروع للأخذ بناصرها.

ومن قرارات المؤتمر السابع - من حيث العمل في فلسطين - السعي في

التنقيب عن الآثار وترويج الزراعة والصناعة وتحسين سائر الأحوال الاقتصادية

وترقية الهيئة الاجتماعية اليهودية وغير ذلك. وبلغت الجمعيات الصهيونية الآن

ألُوفًا عديدة ترجع في أعمالها إلى قرارات المؤتمرات العامة.

وللجمعية مصارف مالية لترويج أغراضها منها: (المصرف اليهودي

الاستعماري) ؛ وغرضه سياسي، وهو أهم أدوات الجمعية في موضوعها الأساسي،

والغرض منه: (تنشيط الاستعمار الإسرائيلي في فلسطين وسوريا وسائر أنحاء

تركيا وفي جزيرة سيناء وقبرص) . وهو بنك مساهمة؛ عدد المساهمين فيه نحو

135000 وله شعبة في يافا باسم الشركة الإنكليزية الفلسطينية لها فروع في أكثر

مدائن فلسطين. وزاد رأس ماله على 120000 جنيه. والبنك اليهودي الملّيّ؛

والغرض منه جمع رأس مال يكون ملك الصهيونية يستخدم لابتياع الأرضين في

فلسطين. واشترطوا أن رأس ماله لا يمسّ حتى يبلغ 50000 جنيه، وقد زاد الآن

على 120000 جنيه.

غير ما أنشأته الجمعية من وسائل التعليم والتهذيب كالمكاتب والمدارس

والجمعيات الأدبية والصحية للرجال والنساء، وعزَّزُوا شأن المرأة وأعطوها حق

التصويت والانتخاب لعضوية المؤتمر؛ فألّفت الجمعيات النسائية الأدبية والتهذيبية

والاجتماعية.

وناهيك بما أنشأوه من الصحف الكبرى لخدمة أغراض الجمعية في روسيا

والنمسا وألمانيا وإيطاليا وإنكلترا ومصر وبلغاريا وغيرها. وانتشرت الدعوة

الصهيونية بذلك في أنحاء العالم المتمدن إلى الصين واليابان وتركستان وفيلبين

فضلاً عن ممالك أوربا وأميركا وغيرهما.

وأصبح أنصارهما يعدون بالملايين. وهي مؤلفة من أحزاب وفِرق تتناقش

وتتباحث سعيًا في المصلحة العامة وتأييد الغرض الأصلي المراد بها. فهي أشبه

بدولة ديموقراطية منها بجمعية سياسية اجتماعية. وقد اتخذت أحسن الوسائل

المؤدية إلى تقوية البدن وتوسيع العقل وتأييد المبدأ فأفلحت مساعيها. وأنشأت في

فلسطين مستعمرات يهودية في أطيب أرضها، وأكثرت مِن المدارس والمزارع

والجمعيات والمكاتب والمصارف والمعامل الصحيّة والطبية. وأهم تلك المساعي

من الوجهة الاجتماعية أحباء اللغة العبرانية وآدابها؛ ممّا سنأتي على أمثلة منه في

الكلام عن أحوال فلسطين الاقتصادية والاجتماعية من رحلتنا لهذا العام.

_________

(1)

لعلها المتهورين كما يقتضيه السياق.

(2)

المنار ليعتبر بهذه الهمة العالية مَن كان له قلب يشعر وعقل يفكر، وليتعلم من سيرة هؤلاء اليهود كيف تحيا الأمم بعد موتها وتعز بعد ذلها، وليحث في أفواه اليائسين التراب قبل أن يحثي على أجسادهم لعنة الله عليهم أجمعين.

ص: 385

الكاتب: صالح مخلص رضا

‌تقريظ المطبوعات الجديدة [*]

(أعيان البيان، من صبح القرن الثالث عشر الهجري إلى اليوم)

كتاب خاص بتاريخ الآداب العربية في هذا العصر، وتراجم نوابغ الأدباء

والشعراء تأليف حسن أفندي السندوبي. طبع بمطبعة الجمالية بالقاهرة سنة

1332هـ و 1914 مالية صفحاته 432 بقطع المنار بحرف متوسط الحجم على

ورق جيّد ثمنه 10 قروش خلا أجرة البريد ويطلب من مكتبة المنار بشارع عبد

العزيز بمصر.

اندفع كُتّاب العربية في هذه السنين الأخيرة إلى تدوين آداب اللغة العربية

وتاريخها فكتب جرجي بك زيدان والشيخ أحمد الإسكندري ومصطفى أفندي صادق

الرافعي وغيرهم. وألقى أشهر علماء الأدب بمصر الشيخ محمد المهدي أستاذ هذا

الفن في الجامعة المصرية ومدرسة القضاء الشرعي دروسًا في الجامعة المصرية

وغيرها في الموضوع تبلغ أسفارًا، واتجهت نفوس الأساتذة والطلبة إلى استخراج

جواهر هذا الفن من قواميس جهابذة العربية وأساطينها. فتسابق المؤلفون

والمدرسون في هذا المضمار.

وكان مؤلف هذا الكتاب حسن أفندي السندوبي يراقب هذه الحركة، وضم إلى

مطالعة كتب الأدب القديمة مطالعة هذه المكتوبات الحديثة، وأعد العدة إلى تأليف

كتاب في ركن من أركن الموضوع لم يطرقه المعاصرون وهو تراجم أشهر أدباء

هذا القرن، والذي قبله فأثبتها ذاكرًا مميزات المترجَم فمؤلفاته فنبذًا من آثاره القلمية

نثرًا ونظمًا.

وقد جعل كتابه هدية لمليك البلاد - أعزّه الله - وصدره بمقدمة شعرية

تاريخية أجمل فيها تطورات الأدب العربي في ست عشرة صفحة أوجز فيها

واختصر، فالكتاب مفيد وليس له في بابه نظير من المؤلفات العصرية، وإني لأرجو

أن أوفق إلى مطالعته لأعطيه حقه من التقريظ والنقد.

***

(ديوان المازني)

الجزء الأول منه نظم إبراهيم عبد القادر المازني؛ طُبِعَ بمطبعة البسفور

صفحاته 157 بقطع رسالته التوحيد بحرف كبير ثمنه خمسة قروش، ويطلب من

مكتبة المنار بمصر.

صدر المازني ديوانه بمقدمة عنوانها: (الطبع والتقليد في الشعر العصري) ،

من إنشاء عباس محمود العقاد أبدع فيها وإن يكن قد جار في بعض أحكامه؛ إلا

أنه تكلَّم على سير الأدب كلام ذي ذوق وتطرّق إلى أسلوب الشاعر (المازني)

بالنظم على أوزان لم تكن مسبوقة سيرًا مع العصر وفكّا لقيود أخنى عليها الدهر.

هذا وقد جرى بعض كتّاب العصر على سُنَّة سيئة تنافي سيرتهم الأولى

وطريقة آبائهم المثلى؛ وهي ترك مكتوباتهم بتراء جذماء لا بسملة فيها ولا حمدلة،

وعلى هذه السنة جرى شاعرنا المازني وكاتب المقدمة. على أن كتبة الفرنجة الذين

يكتبون بالعربية قلّما يدعون كتبهم غفلاً، فكان على كتّابنا أحد أمرين: إمّا السير

على سنن الأولين. وإما تقليد المعاصرين تقليدًا أعمى.

هذا وإن المازني قد طرق عدة مواضيع أجاد النظم فيها، وإن شعره يشعر

بأن هلال أدبه سيكون بدرًا.

***

(فتاة النيل)

مجلة نسائية علمية تاريخية أدبية صحية تصدرها في مصر الفاضلة سارة

الميهية في أول كل شهر عربي قيمة اشتراكها في مصر والسودان

50 قرشًا، وفي الخارج 15 فرنكًًا صفحاتها 40 مطبوعة على ورق جيد.

للفاضلة سارة الميهية مباحث يعرفها قراء العربية بما كانت تنشره في

الصحف السيارة باسم (فتاة النيل) وقد رحب القطر المصري بمجلتها (فتاة النيل)

لتسد فراغًا في عالم الأدب بصدور هذه المجلة، فنحث التلميذات والمعلمات على

قراءتها كما نحث أرباب العائلات على ذلك.

***

(الرشديات)

مجلة تاريخية أدبية شهرية لصاحبها زكريا أحمد رشدي تصدر في

مدينة الإسكندرية. قيمة اشتراكها السنوي في مصر 30 قرشًا وفي

الخارج 12 فرنكًا. صفحاتها 32. صدر منها العددان الأول في غرة شعبان،

والثاني في غرة رمضان سنة 1331، ولم نرَ من أعدادها بعد ذلك شيئًا فأتمنى لها

الحياة ودوام الانتشار لأنها ذات مواضيع مفيدة.

***

(البشير)

صحيفة تخدم العرب والعربية والملة تصدر في كل شهر عربي مرتين في

فيلمبغ (صومترا) ، لمنشئها محمد بن هاشم بن طاهر ذات أربع صفحات أو

خمس قيمة اشتراكها في هولندا ومستعمراتها ثلاث روبيات هولندية.

من أجل الخدمات التي قام بها السيد محمد بن طاهر بن هاشم للدين والعرب

والعربية هذه الجريدة وهو يكتبها باللغة العربية ولغة البلاد فهي عامل من عوامل

الرقي هناك ويمكن الحصول عليها بواسطة إدارة ومكتبة المنار بمصر.

(دروس الديانة والتهذيب)

الجزء الأول منه، طبعة ثانية سنة 1914، صفحاته 45 بالقطع الصغير،

والجزء الثاني منه تحت الطبع، ويطلب من مكتبة المنار بمصر.

***

(مقرر السنة الأولى لتلاميذ المكاتب منه)

مواضيعه معرفة الله، والرسل، رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم،

سيدنا آدم، سيدنا نوح، نجاة سيدنا إبراهيم من النار، سيدنا يوسف وإخوته،

اجتماع يوسف مع أبيه وإخوته، سيدنا موسى والعصا، هجرة سيدنا محمد إلى

المدينة، نواقض الوضوء، الأشياء اللازمة لكل صلاة، كيفية الصلوات الخمس.

***

(مقرر السنة الثانية لتلاميذ المكاتب أيضًا)

سيرة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ولادته، أعماله، أخلاقه قبل

الرسالة، هجرته إلى المدينة، مقابلة أهل المدينة له، انتشار الدين الإسلامي بعد

الهجرة، الإسلام بعد فتح مكة، وفاته صلى الله عليه وسلم، قواعد الإسلام

الخمس، الشهادتان، الصلاة وأوقاتها، شروط صحتها، مبطلات الصلاة،

الصوم، الزكاة الحج، الأخلاق الفاضلة المأخوذة من القرآن الكريم.. إلخ.

***

(كتاب المطالعة السهلة)

الجزآن الثاني والثالث مقرران للفرقتين الثالثة والرابعة من المكاتب. طبع

طبعة ثانية سنة 1914 منقحًا على حسب ما رأته نظارة المعارف. صفاته 69،

يطلب من مكتبة المنار بمصر، ومن المؤلفين؛ وهو مجموعة حكايات ومحادثات

ونبذ علمية واجتماعية وأخلاقية وإدارية إلى غير ذلك.

***

(دروس الحساب)

هو كتاب على أسلوب سهل، الجزء الأول منه للفرقة الأولى، والثاني للثانية

من تلاميذ المكاتب، وهكذا إلى الرابع.

هذه الكتب الثلاثة تأليف الأستاذين العالمين الشيخ مصطفى العناني المدرس

بمدرسة المعلمين الناصرية، والشيخ عطية الأشقر مساعد مفتش بنظارة المعارف

العمومية، وناهيك بكتب يضعها للتعليم من اشتغل فيه عدة سنين في مدارس متفرّقة،

فأحر بهذه الكتب أن تنتشر في الآفاق العربية وأن تستعملها الحكومة العثمانية في

مدارسها؛ على أنني لم أطلع بعد على جميع الأجزاء وبما رأيته كفاية.

***

(عظة الناشئين)

كتاب أخلاق وآداب واجتماع تأليف الشيخ مصطفى الغلاييني أستاذ اللغة

العربية في المكتب السلطاني في بيروت. طبع في مطبعة الثبات في بيروت

سنة 1331. صفحاته 160 بالقطع الصغير، ويطلب من المكتبة الأهلية في

بيروت.

الكتاب مجموعة ما كان يكتبه صديقنا الأستاذ الغلاييني في جريدة المفيد، وقد

جعله هدية لروح فقيد الأدب، وريحانة نابتة العرب؛ فؤاد أفندي حنتس أحد

صاحبي المفيد، ولا حاجة بي إلى مدح الكتاب بأكثر من أنه من إنشاء مَن عرفه

جمهور قراء العربية بعلمه وفضله وتحريه النفع فيما يكتب، وثمنه خمسة قروش.

***

(الفرائد)

هو مختار ما كتبه الشيخ محمد مصطفى الههياوي في الأدب والأخلاق

والاجتماع، ونشره في الجرائد. طبع على ورق جيد طبعا نظيفًا بمطبعة أبي الهول

بمصر سنة 1331، صفحاته 189 بقطع رسالة التوحيد. يطلب من مكتبة

المنار، وثمنه خمسة قروش.

فصول الكتاب شتّى ومعظمها شكاية من الدهر وبنيه وأبيهم الأول فكأنما نفخ

فيه من روح المعري وتسربل برداء ابن الهبارية.

***

كتاب المؤتمر العربي الأول

المنعقد في باريس من 13 رجب سنة 1331 إلى 18 منه

صدرته اللجنة العليا لحزب اللامركزية في مصر مزينًا بالصور مفتتحًا

بمقدمتين - إحداهما لمنشئ هذه المجلة، والثانية لجامعه محب الدين الخطيب -عن

فكرة المؤتمر ونتيجته وتاريخ الحركة العربية، ويتخللهما صورة الاتفاق الذي تم بين

المؤتمر ومندوب جمعية الاتحاد والترقي. وفيه محاضر جلسات المؤتمر الأربع وما

دار فيها من المناقشات، وفيه خطب: السيد الزهراوي، العريسي، مطران،

دياب، طباره، عمون، مكرزل، بيهم، دباس غانم، وفيه 18 رسالة بريدية

وبرقية من 420 جمعية وجماعة وشخص في تأييد المؤتمر، وفي آخره قصيدة مهداة

من فؤاد الخطيب للمؤتمر، ثم بيان حزب اللامركزية ومظاهرته السلمية برفع

برقيات الاحتجاج إلى الصدارة بطلب اللامركزية، وقد وقع في 234 صفحة كبيرة

وطبع على ورق جيد، ثمنه 8 قروش مصرية وأجرة البريد قرشان، ويطلب من

مكتبة المنار بمصر.

فالكتاب اجتماعي سياسي إداري يمثل شعور الأمة بحاجيات الحياة والارتقاء

فيها، وضرورة الائتمار بين أولي الأمر، ومداولات أصحاب العقول الراجحة

والأفكار الثاقبة، ويجلي سر تطور الأمم وانتقالها في الاجتماع والسياسة من طورٍ

إلى طور.

ويشخص بالإجمال أمراض الاجتماع في المملكة العثمانية وشعوبها المتعددة

المتباينة، ويصف أنجع دواء يحفظ حياتها ويشد عضدها؛ لتقف في صف الأحياء

العاملة؛ فتناضل عن حوزتها، وتحفظ بقيتها، وتدافع عن مُلْكِهَا ومَلِكِهَا، فأجدر

بكل مَن يقرأ العربية أن يطلع على هذا الكتاب وخصوصًا العثمانيين حاكمهم

ومحكومهم، عربهم وعجمهم؛ فإنه ألصق بهم من غيرهم، وجميع أبحاثه تدور

على محور مصلحتهم.

_________

(*) كتب تقاريظ هذا الجزء شقيقنا السيد صالح مخلص رضا.

ص: 391

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مستقبل الدولة العثمانية وطلاب الإصلاح من العرب

كنا نسمع ونقرأ منذ وعينا أن لكل دولة من الدول الأوربية مطمعًا في ولاية أو

قطر من المملكة العثمانية. سمعنا كثيرًا أن مملكة طرابلس الغرب ستكون لإيطاليا.

وقرأنا في تاريخ الأفغان للسيد جمال الدين أن إنكلترا لم تروها مياه النمس والكنج

ففغرت فاها لتجرع مياه النيل ونهر جيحون (يعني الاستيلاء على مصر وبلاد

الأفغان لأن نهر جيحون على التخم الشمالي الشرقي من تلك المملكة) كتب السيد

هذا بمصر في عهد إسماعيل باشا. وقد احتلت إنكلترة مصر وإيطالية طرابلس

فصدق ما كان يقال.

وكنّا لا نزال نسمع ونقرأ أن فرنسا ترى أن سوريا لها، وأن إنكلترة ترى أن

البصرة وبغداد وجميع سواحل جزيرة العرب لها - والداخلية تتبع السواحل بالطبع -

كما صرنا نسمع أن لألمانيا قلب الأناطول إلى العراق. ولروسية شمال الأناطول

إلى الآستانة؛ على الخلاف في الغاية؛ أتدخل في المغيا أم لا؟ فما يؤمننا أن يحل

بهذه البلاد ما حل بما قبلها؟ ولا سيما بعد أن رأينا ما حل بولايات مكدونية، ونحن

ننشد في أمثالنا:

من حلقت لحية جار له

فليسكب الماء على لحيته

إن جميع من نعرف من عقلائنا في خوف ووجل من قرب تلك الساعة،

والعرب منهم موقنون بأن الدولة إن قدرت على إيجاد أسطول يحمي سواحل البلاد

التركية القريبة من الآستانة وجزائرها من اليونان أو البلقان، فلن تقدر به عن

حماية سواحل سورية من فرنسة ولا سواحل العراق أو اليمن والحجاز من إنكلترة،

فما حظ بلادهم من الأسطول الذي يبذلون لتأسيسه الإعانات الاختيارية وغير

الاختيارية؟

هذا الخوف على البلاد هو الذي حمل بعض أهل الغيرة على تأسيس الحزب

اللامركزية، وكان المحرك لهم على ذلك صوت رسمي سمعوه من باريس تذكر فيه

فرنسة حقها في سورية

وكان أول سعيهم الفزع إلى صاحب الدولة رؤوف باشا

المعتمد (القومسير) العثماني بمصر، ومكاشفته بخوفهم على سورية أن تُغِير عليها

فرنسة كما أغارت إيطاليا على طرابلس، وبكونهم ألّفوا من أنفسهم لجنة للسعي إلى

الدفاع سورية، وطلبوا منه أن يكتب إلى الباب العالي بذلك وبما يطلبون من

المساعدة على الاستعداد للدفاع الوطني عن البلاد. ولكن المعتمد لم يجبهم إلى

طلبهم، ولا يزال القرار الذي كتبوه بذلك وما كتبوه في مسألة تنفيذه محفوظًا عندهم.

سمع بعد ذلك الصوت الفرنسي صوت ألماني من برلين معارض له، فاطمأن

القوم بعض الاطمئنان الموقوت، وقويت في نفوسهم فكرة وجوب الاستعداد للدفاع

الوطني - أو المِلي كما يسميه الترك - ووجوب قضاء شبان كل قطر خدمة

العسكرية في قطرهم لأجل ذلك، وعقدوا عدة اجتماعات للمذاكرة في ذلك استطردوا

فيها من مسألة الدفاع ومسألة المال الذي يتوقف عليه كل شيء إلى الجزم بوجوب

ترقية كل قطر بأهله، وتوقف ذلك على الإدارة اللامركزية؛ فوضعوا برنامج

حزب اللامركزية؛ رجاء أن يقنعوا به جميع الأمة العثمانية، لا العرب خاصة.

وفي أثناء ذلك قامت ضجة في بيروت كان من أثرها تأسيس الجمعية

الإصلاحية بإذن والي الولاية، وكان من غرضها أن اتفاق المسلمين والنصارى

على الإصلاح هو الذي يسد ذريعة الاعتداء الأجنبي على البلاد، ثم قامت ضجة

أخرى في العراق وتألفت جمعية إصلاحية عراقية في البصرة.

تلا ذلك صوت عربي من باريس يدعو إلى عقد مؤتمر سوري عربي يكون

أهم مقاصده مقاومة الاحتلال الأجنبي للبلاد. وكان من أمر انعقاده ما هو معروف،

ولم يكن المؤتمر ولا الجمعية الإصلاحية والبيروتية ولا العراقية ولا حزب

اللامركزية سببًا لمداخلة أجنبية قولية ولا فعلية؛ لأن غرض أربابها دفع التدخل

الأجنبي، والمقدمات السلبية لا تنتج نتيجة موجبة.

قام المنافقون للحكومة طلاب الدراهم والوظائف والمناصب يلعنون طلاب

الإصلاح؛ زاعمين أن طلبهم له في تلك الأوقات يحرج الحكومة ويكون ذريعة

لافتئات الأجانب عليها، ولم نر أحدًا منهم شتم الأرمَن ولا لعنهم على استغاثتهم

بأعدى أعداء الدولة من الأجانب ونيلهم ما طلبوا بسعيها! ! وقد كذبهم الحق الواقع

ولا يزالون يهذون بزعمهم أن طلب الإصلاح على قاعدة اللامركزية يفضي إلى

إضاعة البلاد واستيلاء الدول عليها. ومنهم من يخص حزب اللامركزية بهذا

الطعن لاعتقاد أن جمعيتي بيروت والبصرة قد انحلتا. والمنافق الذي يكتب ما لا

يعتقد لأجله إرضاء من ينتفع منهم لا يستحي أن يحول الشيء إلى ضده بالسفسطة

والتمويه.

نرى طلاب اللامركزية موقنين بأنهم لا يعرفون طريقة لبقاء الدولة وحفظ

البلاد ثُم عمرانها إلا ما يطلبونه، ونرى حجتهم ناهضة يذعن لها المنصفون من

غيرهم، وهم يطلبون من كل ذي رأي أن يقنعهم بطريقة يمكن بها حفظ البلاد

العربية من استيلاء الدول الطامعة فيها عليها، ولما يجدوا مقنعًا.

كنت مرة في دار المعتمد العثماني (القومسيرية) بمصر أتكلم في شؤون

الدولة مع إسماعيل حقي بك القائم بأعمال المعتمد الآن، فجاءنا فؤاد بك سليم

(قنصل الدولة الجنرال في سلانيك الآن) ودخل معنا في الحديث، فانتقد فؤاد بك ما

كان من عقد المؤتمر العربي بباريس والمطالبة بالإصلاح في وقت الحرب بمثل ما

كان ينتقده به المعارضون المعتدلون.

فقلت له: كان هذا يقال ويعد محل نظر وبحث في الوقت الذي انعقد فيه

المؤتمر إذا كان سيئو الظن وسيئو القصد يقولون إنه يمكن أن يفضي إلى إتعاب

الدولة أو إيقاعها في مشكلة سياسية، وكان القائمون بالعلم يدفعون هذا ليقينهم بحسن

نيتهم واحتياطهم في عملهم، ثم أيدهم الحق الواقع فانقضت الحرب وانقضى

المؤتمر ولم يكن شيء من عمل طلاب الإصلاح متعبًا للدولة في شيء، وقد قبلوا

كل ما عرضه على المؤتمر مندوب جمعية الاتحاد والترقي، فدل ذلك على حسن

نيتهم، وبراءتهم من المشاغبة ومن المطالب البعيدة عن المعقول حتى عند

الاتحاديين. وانتقدت أنا بعض أعمال الاتحاديين بما عز الجواب المقنع عنه. ثم

انتقلنا إلى المسألة الكبرى.

قال فؤاد بك: إن ما مضى فات خطأً كان أو صوابًا، فما الرأي الآن لسلامة

الدولة وإعلاء شأنها الذي يجب على الجميع السعي له؟

قلت: إن لي في ذلك آراء أشرت إليها في المنار غير مرة ولو علمت أن رجال

الدولة يقبلونها وينفذونها لفصلتها لهم تفصيلاً، وأهمها مسألة سلامة الدولة، فأنا أرى

أن ما توجهت إليه الدولة من اقتراض عشرات الملايين من أوربا لأجل سد عجز

ميزانيتها والقيام بمشروعاتها سيفضي إلى أكبر الأخطار، وأن نظارتي الحربية

والبحرية مهما عملنا لا تستطيع الدولة أن تحمي بها سواحل سورية والحجاز واليمن

والعراق، ولا أن تحول دون احتلال كل دولة من الدول لما تطمع فيه.

قال: إنا نوافقك على هذا فما المخرج منه؟

قلت: لم يبق لنا وسيلة فما أرى إلا مسألة الدفاع الملي؛ لأن الدولة الكبرى

التي نخافها لا تحارب بلادًا لأجل البطش والانتقام والتخريب كما كان يفعل الملوك

في التاريخ القديم، ولا كما يفعل وحوش البلقان، وإنما تفعل هذه الدول كل ما تفعله

لأجل الكسب، فمتى كان أهل البلاد مسلحين مستعدين للدفاع عن بلادهم إذا احتلها

الأجنبي تمتنع الدول عن الاعتداء عليهم؛ وإن كانت ترى أنها لا تعجز عنهم؛ لأن

معاداة الأهالي وتخريب بلادهم يحول دون الانتفاع منها ومنهم

إلخ. فوافقني

فؤاد بك وكذا إسماعيل بك على ما قلت في هذه المسألة وفي غيرها مما لا حاجة إلى

ذكره.

وجملة القول أن طلاب الإدارة اللامركزية إنما يطلبونها لأنهم يعتقدون أنها

هي المنجية لدولتهم ولبلادهم من الخطر الأجنبي، وأن البلاد لا تعمر إلا بها،

وليس في مطالبهم شيء يمنع أن تكون مقاليد القوة البرية والبحرية والسياسية للدولة

وأن تكون في يد العاصمة.

ولمّا وعدتهم جمعية الاتحاد المتصرفة في الدولة بإجابتهم إلى بعض مطالبهم

رضوا وصبروا وانتظروا. وقد مرّت السنة على انتظارهم ولم يحدثوا شغبًا داخليًّا،

ولا توسطوا الأجانب في شيء من مطالبهم، وهذه جرائد الشرق والغرب تصخّ

مسامعهم بخبر اتفاق الدولة مع الدول الكبرى على جميع سواحل البلاد العربية،

وبإعطائهن الامتيازات فيها، وبإرهاق الولايات كلها بالديون الفاحشة - وتلك طرق

الدول وسلاحها في الفتح السلمي - فيزدادون خوفًا ورعبًا من سوء العاقبة وخطر

المستقبل. أفليس من سنة الله في غرائز البشر وفطرهم وممّا توجبه عليهم أديانهم

وشرائعهم، وما تطالبهم به حقوق أمتهم وبلادهم، أن يبحثوا عن المأمن من الخوف

والموئل من الفزع، والمنجاة من الخطر؟ ؟ أَوَليس من مقتضى الفطرة والشريعة

أن يطالب الإنسان لنفسه - فوق تجنب الهلكة - عيشةً راضية، وحالة حسنة

عزيزة؟

عقدت جمعية الاتحاد الاتفاق بين مندوبها (مدحت بك شكري) ومندوب

حزب اللامركزية في المؤتمر العربي (السيد الزهراوي) وصدقت حكومتها على

بعض ما وقع عليه الاتفاق وصدرت به الإرادة السلطانية. ثُم عينت الحكومة

السيد الزهروي عضوًا في مجلس الأعيان فقبل ذلك ليكون مطلعًا ومساعدًا على

تنفيذ الإصلاح الموعود به قولاً وكتابةً. فلم يستفد حزب اللامركزية من ذلك إلا لوم

كثير من الأصدقاء وذم كثير من غير الأصدقاء واتهامه بأنه يسعى للمناصب

والوظائف خلافًا للعهود والوعود. وقد احتمل الحزب كل هذا لتكون له الحجة على

الأمة إذا نفذت الحكومة الإصلاح، والحجة على الحكومة إذا لم تنفذه، وهو لا

حجة عليه مطلقًا.

الحزب لم يقل إنه لا يقبل الوظائف ولكنه فعل، فلم يدخل أحد من أعضائه

في خدمة الحكومة. وقد بينا قضية السيد الزهراوي من قبل، ونزيده بيانًا.

الرجل ثقة مقبول الرواية عند الحزب. وقد كتب إلى الحزب أنه آنس من الحكومة

عزمًا على الإصلاح المطلوب وأنها تريد أن تعتمد على الثقات المخلصين من

العرب وتستعين بهم على إصلاح بلادهم، وأنها تكن معذورة في قبول المنافقين إذا

تجنبتها فئة المصلحين الصادقين. ولما تكررت هذه الكتابة منه رغب إليه رئيس

الحزب وغيره من أصدقائه بأن يزور مصر قبل افتتاح المجلس ويوقف إخوانه على

حقيقة ما رآه، ويفسّر لهم ما أَشْكَل عليهم من أعمال الحكومة (كتقوية إمام اليمن

على السيد الإدريسي وتسليح ابن الرشيد أمام ابن سعود وغير ذلك مع قدرتها على

الإصلاح بين الجميع والاستفادة منهم) فأجاب الدعوة، وتكرم بالزيارة، وأكّد بلسانه

مضمون ما كان يكتبه بقلمه؛ مِن أن الدولة تريد إصلاح بلاد العرب ولكنها لا تقدر

على تنفيذ ذلك إلا بالتدريج، ووعد بأن يراجع أصحاب الشأن في المسائل التي لم

يقف على حقيقتها كمسألة جزيرة العرب وأمرائها، ويوقف إخوانه على ما يقف

عليه منها.

والخلاصة أن طلاب الإصلاح اللامركزي في مصر وغيرها من الأقطار لا

يزالون في خوف ووجل على بلادهم ودولتهم، ولم يسمعوا قولاً ولا رأوا فعلاً يفيد

الاطمئنان؛ فالأقوال مضطربة، والأفعال مشتبهة.

لا ننكر أن الوزارة الحاضرة قد هبت للعمل هبّةً شديدة، ووثبت في سياستها

وثبةً بعيدة، وأظهر أفرادها من الهمّة والذكاء والجرأة ما لا نعرف له نظيرًا في

تاريخ هذه الدولة، فأقدموا على اقتراض عشرات الملايين من أوربة، وإعطاء

حكوماتها وشركاتها الامتيازات الكثيرة، والمساعدة على إزالة التنازع والخلاف

الذي بين الدول على منافع بلادها، ونفوذهن الاقتصادي والسياسي فيها، وتمهيد

السبيل للصهيونيين لاستعمار مملكة فلسطين، والشروع في تقوية الأسطول،

وفتح المدارس الكثيرة في الآستانة والأناطول، وإيجاد مشروعات الصناعة

والزراعة الحديثة في البلاد التركية، وإجابة الأرمن إلى ما طلبوا لبلادهم، ووعد

العرب بالتفضل عليهم ببعض مطالبهم وإرضاء بعض الأذكياء الظاهرين منهم

بالوظائف، وتفننت في جمع الإعانات من الأمة بأسماء مختلفة، وأساليب متعددة؛

من وطنية ودينية جائزة وغير جائزة، كل ذلك من مظاهر الذكاء والهمة والإقدام،

ولكن طلاب الإصلاح ازدادوا به خوفًا على البلاد لِمَا تجدد من زيادة حقوق الأجانب

فيها وديونهم عليها. مع الجزم بأن كل ما شرع فيه من وسائل القوى، لا يجعل

الدولة كفؤًا لدولة من هذه الدول الطامعة، فكيف والدول لا تعمل إلا مجتمعة متفقة؟

ولا هو وسيلة لعمران المملكة، واتحاد عناصرها المختلفة.

وإنما الإصلاح الذي يعقلونه هو أن تكون قوة كل قطر فيه وعمرانه بأيدي

أهله، وأن نجتنب الديون الأجنبية قدر الطاقة، ويكون حظ البلاد التي تحمل هذا

الدين مقسومًا بينها بنسبة ما تحمله منه. وأن توجه العناية والهمة والذكاء والإقدام

إلى استثمار الأمة بمساعدة الدولة لخيرات البلاد. فهذه الينابيع الكثيرة لزيت

البترول في العراق وغيره (مثلاً) لا تحتاج إلى نفقات كثيرة، ولا إلى علوم

وفنون كثيرة، وهي ثروة ستضاعف على مرّ السنين لأنها ستحل محل الفحم

الحجري في السفن الحربية وغيرها؛ فلماذا تمنحها الدولة للأجانب دون الأهالي؟

ولماذا لا تخصص من هذه الملايين التي تقترضها جزءًا قليلاً لتعليم مئات من شبان

الأمة ما يلزم من الفنون لاستخراجها.

وقصارى القول: إن طلاب الإصلاح لا يرجعون عن شيء من مطالبهم

بشتم بعض السفهاء لهم، وإنما يرجعون عمّا تقوم الحجة على ضرره، ويساعدون

الدولة على كل ما يقوم عندهم الدليل على نفعه، وهكذا شأن المخلصين، والعاقبة

للمتقين.

_________

ص: 395

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تلقين الميت

(س14) من صاحب الإمضاء في - كلنتن - جاوه.

حضرة إمام المرشدين وقدوة العلماء المصلحين. من يتلقى سؤال كل سائلٍ

ملهوف بالقبول والرضا الأستاذ العلامة مرشد الأمة ورشيدها سيدي محمد رشيد

رضا أبقاه الله للمسلمين يداوي كل مرض كان عارضًا؛ آمين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته - أرجو من فضلكم إجابة السؤال الآتي على

صفحات المنار الأغر - ما قول سيدي فيما شاع في ناحيتنا الجاوية من قراءة

التلقين في حاشية البرماوي على شرح ابن قاسم؛ وهو قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ

هَالِكٌ إِلَاّ وَجْهَهُ} (القصص: 88)

إلخ؛ بعد تمام الدفن. وهو مشتمل

على آيات قرآنية على خلاف أسباب نزولها، ومعان غير متناسبة، وبعضهم زاد على ما في البرماوي زيادات كثيرة ومناسبات لا تليق بالحال، ك] قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا

قَلِيلٌ [

إلخ وهي متعلقة بالأحياء لا بالأموات، فهل هو على هذا النظم

مأثور أم لا؟ فإن قلتم: نعم إنه مأثور أو إنه مجموع من متفرقات مأثورة، فأرجو

من سعة علمكم وكريم إنسانيتكم أن تشرحوه لنا شرحًا وافيًا حتى لا تخفى معانيه على

أمثالنا من القاصرين. وإن قلتم لا، فقد أشكل علينا أن البرماوي يقول: (ويسن

تلقينه بعد الدفن وتسوية القبر؛ فيجلس عند رأسه إنسان ويقول: بسم الله الرحمن

الرحيم كل شيء هالك إلا وجهه.. إلخ) ، والبرماوي من علماء المسلمين فيكف

يسوغ له أن يقول بالسنية ما لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، والعلماء هم

أدلاء الأمة ومرشدوهم إلى سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، فكيف يرشدون بما لم

يرشدهم نبيهم صلى الله عليه وسلم، ويخترعونه بعقلهم ورأيهم، وكيف يجوز لنا أن

نلقن موتانا بما لم يرد عن نبينا صلى الله عليه وسلم، ومبنى التلقين على التعبد لا

مجال للرأي فيه؟ أفيدونا بيانًا شافيًا لأنَّا قليلو الاطلاع، فإنا لم نجد سجعاته في

الآيات القرآنية ولا في الأحاديث النبوية، والسلام.

الداعي / الحاج موسى عبد الصمد

(ج) : ما ذكره البرماوي ليس بسنة، ولم يرد فيه حديث يثبت السنية ولا

الاستحباب؛ بل لم يرد في التلقين حديث صحيح ولا حسن؛ وإنما ورد فيه حديث

واحد ضعيف لم يخرجه أصحاب الصحاح ولا السنن؛ بل رواة الضعاف والمناكير

والموضوعات وغيرها لأجل تدوينها، على أن الاعتماد في مسألة الاحتجاج على

أسانيدها ومتونها، وقد اختلفت ألفاظهم فيه بعض الاختلاف، وهو حديث أبي أمامة

رضي الله عنه. رواه ابن عساكر وابن النجار والطبرانى والديلمي، وهاك رواياتهم

مرموزًا فيها إليهم، من سنن الأقوال، من كنز العمال، وهي ثلاث:

1-

(إذا مات الرجل فدفنتموه فليقم أحدكم عند رأسه فليقل: يا فلان ابن فلانة!

فإنه سيسمع، فليقل: يا فلان ابن فلانة! فإنه سيستوي قاعدًا، فليقل: يا فلان ابن

فلانة! فإنه سيقول له: أرشدني رحمك الله، فليقل: اذكر ما خرجت عليه من الدنيا؛

شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن

الله يبعث مَن في القبور. وإن منكرًا ونكيرًا عند ذلك كل واحدٍ يأخذ بيد صاحبه

ويقول: قم ما تصنع عند رجل لقن حجته؟ فيكون الله حجيجهما دونه) . (كر عن أبي أمامة) .

2-

(إذا مات أحد من إخوانكم فنثرتم عليه التراب فليقم رجل منكم عند رأسه

ثم ليقل: يا فلان ابن فلانة؛ فإنه يسمع ولكن لا يجيب. ثُم ليقل: يا فلان ابن فلانة؛

فإنه يستوي جالسًا، ثم ليقل: يا فلان ابن فلانة؛ فإنه يقول: أرشدنا رحمك الله،

ولكن لا تشعرون، ثُم ليقل: اذكر ما خرجت عليه من الدنيا؛ شهادة أن لا إله إلا الله

وأن محمدًا عبده ورسوله، وأنك رضيت بالله ربًّا وبمحمدٍ نبيًّا وبالإسلام دينًا وبالقرآن

إمامًا؛ فإنه إذا فعل ذلك أخذ منكر ونكير أحدهما بيد صاحبه؛ ثم يقول له: اخرج

بِنَا من عند هذا، ما تصنع به فقد لقن حجته؟ ولكن الله عز وجل حجته دونهم، قال

رجل: يا رسول الله فإن لم أعرف أمه؟ قال: انسبه إلى حوّاء) . (طب. كر

الديلي. عن أبي أمامة) .

3-

(يا أبا أمامة: ألا أدلكم على كلمات هي خير للميت من الدنيا وما فيها

وما غابت عليه الشمس وطلعت؟ إذا مات أخوكم المؤمن وفرغتم من دفنه فليقم

أحدكم عنده قبره، ثُم ليقل: يا فلان ابن فلانة؛ والذي نفس محمد بيده إنه ليستوي

قاعدًا، ثُم ليقولن: يا فلان ابن فلانة؛ فيقول: أرشدني إلى ما عندك يرحمك الله [1]

فليقل: اذكر ما خرجت عليه من الدنيا؛ شهادة أن لا إلا الله وأن محمدًا رسول الله،

وقد كنت رضيت بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًّا، فيقوم منكر فيأخذ بيد

نكير فيقول: قم بنا ما يقعدنا عند هذا وقد لقن حجته؟ ويكون الله حجيجهما دونه، قيل: إن كنت لا أحفظ اسم أمه؟ قال فانسبه إلى حواء) . (ابن النجار عن أبي

أمامة) .

وأورده في سنن الأفعال معزوًّا إلى ابن عساكر بهذا اللفظ: عن سعيد الأموي

قال: شهدت أبا أمامة وهو في النزع فقال لي: يا سعيد إذا أنا مِتُّ فافعلوا بي كما

أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا

مات أحد من إخوانكم فسويتم عليه التراب..) ، إلخ ما تقدم.

فأنت ترى أنه ليس في شيء من ألفاظ هذا الحديث شيء من تلك الآيات، ولا

تلك السجعات، ولهذا سكت بعض الفقهاء عن مسألة التلقين وقال بعضهم باستحبابه

بناءً على تساهلهم في العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال، وقد أدخل هذا

التساهل بدعًا كثيرة في الإسلام، كما حققه الإمام الشاطبي في الاعتصام، وحسبك

منه ما ننقله عنه في هذه الأيام، من إثبات بدعية الدعاء بعد الصلاة من الجماعة مع

الإمام؛ حتى الأدعية والأذكار المأثورة عنه عليه الصلاة والسلام؛ فإن ما ثبت

عمله على الانفراد، لا يجوز فيه التزام الاجتماع، والمدققون من الفقهاء لم يزيدوا

على ما ورد في حديث أبي أمامة.

قال النووي: هذا التلقين استحبه جماعات من أصحابنا منهم القاضي حسين

وصاحب التتمة والشيخ نصر المقدسي في كتابه التهذيب وغيرهم. ونقله القاضي

حسين عن الأصحاب مطلقًا، والحديث الوارد فيه ضعيف؛ ولكن أحاديث الفضائل

يتسامح فيها عند أهل العلم من المحدثين وغيرهم. وقد اعتضد هذا الحديث بشواهد

من الأحاديث الصحيحة كحديث: (اسألوا الله له الثبيت) ووصية عمرو بن

العاص. اهـ المراد منه.

أقول: إن حديث الدعاء للميت بالثبيت لا يعضد شرعية التلقين التي يراد بها

منع السؤال الذي ثبت الدعاء بالتثبيت لأجله ورجاء السداد فيه، ولو كان التلقين

يحول دون السؤال لكان تلقينه خيرًا من الدعاء له، وكذلك وصية عمرو لا تعضده،

فإنه أوصى بأن يقيموا عند قبره قدر ما ينحر جزور ويفرّق لحمها؛ لأجل أن

يستأنس بهم؛ يعني أن روحه تشعر بوجوده فتستأنس بهم في ذلك الوقت الذي هو

أول العهد بذلك العالم وحيث يمتحن الداخل فيه.

فمسائل التشريع لا تبنى على مثل هذا. وأنت ترى فيما نقله الشاطبي عن

الإمام مالك أصلاً راسخًا من أصول الشريعة، وهو أن ما تركه النبي صلى الله عليه

وسلم والصحابة رضي الله عنهم أجمعين مع وجود سببه وداعيته؛ فتركهم إياه إجماع

على أنه غير مشروع ولا جائز في الدين؛ أي في العبادات دون العادات.

وقد ذهب بعضهم إلى تقوية الحديث بعمل أهل الشام به من العصر الأول في

زمن مَن يُقتدى به. قال في شرح الإقناع - من كتب الحنابلة - بعد ذكر المتن

استحباب الأكثر للتلقين، وذكر الحديث وضعفه ما نصه: وقال الأثرم: قلت لأبي عبد

الله (أي الإمام أحمد) : هذا الذي يصنعون إذا دفن الميت: يقف الرجل ويقول: يا

فلان ابن فلانة؛ اذكر ما فارقت عليه - شهادة أن لا إله إلا الله - فقال: ما رأيت

أحدًا نقل هذا إلاّ أهل الشام حين مات أبو المغيرة، جاء إنسان فقال ذاك. وكان أبو

المغيرة يروي فيه عن أبي بكر بن أبي مريم عن أشياخهم أنهم كانوا يفعلونه.

اهـ.

أقول: أبو بكر بن أبي مريم ضعيف وقد اختلط عقله. وأما أبو المغيرة فهو

عبد القدوس بن الحجاج الحمصي، روى عنه أحمد والبخاري في غير الصحيح،

وأصحاب السنن؛ وهو ثقة. وقال النسائي: لا بأس به. وقد ذكر التلقين أبو

عبد الله ابن القيم - في سياق الاستدلال على سماع الموتى بعد الدفن - قال: وقد

سُئِلَ عنه الإمام أحمد فاستحسنه واحتجّ عليه بالعمل. ويروى فيه حديث ضعيف ذكره

الطبراني في معجمه من حديث أبي أمامة - فذكر الحديث وقوّاه باتصال العلم به

في سائر الأمصار والأعصار من غير إنكارٍ؛ ثُم ذكر حكايات مناسبة

لمعنى التلقين.

أقول: لو أن ابن القيم - رحمه الله تعالى - أراد تحقيق هذه المسألة في حدّ

ذاتها لكتب غير هذا؛ ولكنه أوردها في سياق يريد تقويته بسرد الدلائل الكثيرة

كعادته؛ فجاء كلامه فيه موضعًا للنظر والنقد؛ فأمّا جواب الإمام أحمد عنه للأثرم

فلا يدل على استحسانه ولا على تقويته بالعمل به؛ إذا لم ينقل العمل به إلاّ عن أهل

الشام من رواية أبي بكر بن أبي مريم؛ وهو ضعيف، فيدل لفظ الإمام أحمد على أن

التلقين في عصره من القرن الثالث لم يكن معروفًا إلا عن أهل الشام، فسقط بهذا

قول ابن القيم باتصال العمل به في سائر الأعصار. والحق أن العمل لا يعد حجة إلا

إذا كان مستفيضًا عن أهل الصدر الأول من الصحابة والتابعين، فما حدث بعد ذلك

فلا قيمة لشيوعه وكثرة العمل به، فكم من بدعة عمّت الأقطار والأمصار، يقيم

الحجج على بطلانها وقبحها مثل ابن القيم وأستاذه ابن تيمية من أنصار السنة.

وجملة القول أن التلقين لم يثبت بكتاب الله ولا بسنة رسوله، ولا قال أحد

من المحققين إنه سنة؛ بل قال بعض الفقهاء باستحبابه؛ للتساهل في العمل بالحديث

الضعيف والاستئناس له بما يناسبه. والبرماوي ليس قدوة، وكم في كتب أمثاله

وكتب مَن هم أعلم منه من البدع، فلا ينبغي لأحد أن يثق إلا بما يصرّح المحققون

بثبوت نقله عن النبي صلى الله عليه وسلم وجمهور السلف، دون ما يذكر

غفلاً.

_________

(1)

لم يذكر النداء في هذه الرواية إلا مرتين، ولعل الآفة من النساخ.

ص: 413

الكاتب: محمد بن عبد العظيم المكي الحنفي ابن المقدسي

‌القول السديد

في بعض مسائل الاجتهاد والتقليد

فصل [*]

وكذلك مسألة التحرير أيضًا - وهي التي عبّر عنها بعضهم بقوله: (لا تقليد

بعد العلم) - فيها نظر هو أن هذه العبارة لها معنيان:

(أحدهما) أنه إذا عمل وصادف الصحة على مذهب إمام ولم يكن عالمًا

بذلك، والحال أنه على مقتضى مذهبه بطل ذلك العمل، فهل له أن يقول: أخذت

بمذهب مَن يرى صحة ذلك، أم لا؟ فعلى ما ذكر ليس له ذلك على تقدير تفسير

العبارة بهذا المعنى

أقول: وفرع أبو يوسف المنقول في مسألة الفأرة يردّه؛ إذ هو عين التقليد

بعد انتهاء العمل، وهو الذي أذهب إليه وأقول به؛ بل قد اختار عالم قطر اليمن

في زمانه؛ الإمام العلامة الفقيه عبد الرحمن بن زياد الشافعي في فتاويه: أن العامي

إذا وافق فعله مذهب إمام من الأئمة الذين يجوز تقليدهم صحّ وإن لم يقلده؛

توسعة على العباد، واختلاف الأئمة رحمة. وقال المحقق ابن حجر: لا يكون

صحيحًا إلا إن قلّد ذلك القائل بالصحة؛ لأن تقليده لإمام من الأئمة المذكورين التزام

متابعته في الأحكام كلها، فلا يجزئ في خلاف ذلك إلا بتقليد صحيح.

وقد ذكر بعض أولياء الله تعالى الصالحين أنه كشف له أن الله لا يعذب من

عمل في المسألة بقول إمامٍ مجتهد من الذين يجوز تقليدهم، وهم الآن الأئمة الأربعة

المدونة مذاهبهم، والمحررة أصول وفروع مسائلهم، أما المجتهدون السابقون فلا؛

للجهل بضوابط الأحكام عندهم، لفقد التدوين؛ لتطاول السنين. كذا رأيت ما حكيته

في بعض المجاميع.

قلت: وفي تخصيص الأئمة الأربعة كلام لا يسع في هذا المحل بيانه، ثم

رأيت في البحر الرائق شرح الكنز للعلامة ابن نجيم في باب قضاء الفوائت عند

قوله: ويسقط بضيق الوقت والنسيان، ما نصه: وإن كان عاميًّا ليس له مذهب

معين فمذهبه فتوى مفتيه - كما صرّحوا به - فإن أفتاه حنفيّ أعاد العصر والمغرب،

وإن أفتاه شافعيّ فلا يعدهما ولا عبرة برأيه، وإن لم يستفت أحدًا وصادف الصحة

على مذهب مجتهد أجزأه، ولا إعادة عليه؛ انتهى. وهذا موافق لما اختاره عالم

قطر اليمن في زمانه وفقيهه؛ العلامة عبد الرحمن بن زياد الشافعي رحمه الله تعالى.

والمعنى الثاني: أنه ليس للإنسان إذا عمل في مسألةٍ بمذهبٍ أن يعمل بخلافه

فيها ثانيًا، وهذا أيضًا مدفوع من وجوه:

(الأول) : أنه لم يقم عليه دليل إلا لزوم صورة التلاعب، وذلك لا يلزم إلا

لو قصد به ذلك، أو دلت عليه قرائن أحوال، أو مكلف ضاق به الحال فالتجأ إلى

الأخذ فيها في المرة الثانية بقول إمامٍ آخر؛ لدفع ضرورةٍ ألجأته إلى ذلك والغرض

صحيح - فلا ينسب إلى التلاعب، وقد صحّ وثبت عن عمر بن الخطاب - رضي

الله عنه - أنه رجع عن قوله في مسألةٍ كان حكم فيها بحكم، ثم تكررت فتبدل

نظره فيها فحكم بخلافه، وقال: تلك على ما قضينا وهذه على ما نقضي.

فإن قلت: إنه مجتهد، وهذا حال المجتهد: أنه يجب عليه الرجوع إلى ما سنح

له من الدليل بخلاف المقلّد. قلت: مهلاً يا أخي! فإن المقلِّد لم يظهر له بالدليل

صحة ما قلّد فيه أولاً كما ظهر للمجتهد، وهنا مجتهد آخر قائل بخلافه فهو

أحرى بتجويز الانتقال له.

ثُم ظهر لي بعد مدة مِن تسطيري هذه الأسطر ظهورًا بينًا منكشفًا لا ريب فيه؛

أن مرادهم من قولهم: لا تقليد بعد العمل؛ أنه إذا عمل مرّة في مسألةٍ بمذهب في

طلاق أو عتاق أو غيرها، واعتقده وأمضاه، ففارق الزوجة مثلاً، واجتنبها،

وعاملها معاملة من حرمت عليه، واعتقد البينونة بينه وبينها بما جرى منه من اللفظ

مثلاً، فليس له أن يرجع عن ذلك، ويبطل ما أمضاه، ويعود إليها بتقليده ثانيًا إمامًا

غير الإمام الأول الذي قلده فيها، حيث كان الثاني يرى خلاف ما رآه الإمام الأول،

فهذا معنى قولهم ليس له التقليد بعد العمل، ولا يرجع عما قلد فيه وعمل به، ونحو

ذلك من العبارات، فأما إذا وقعت تلك الواقعة مرةً ثانية مع امرأة أخرى أو مع

زواجها بنكاحٍ جديد، فله الأخذ بقول إمامٍ آخر، ولا مانع - كما سيأتي قريبًا؛ على

أنه قد نقل العلامة ابن أمير الحاج الحلبي الحنفي تلميذ المحقق ابن الهمام عن

الزركشي من أئمة الشافعية في شرح التحرير أن في كلام بعض الأئمة ما يقتضي

جريان الخلاف في جواز التقليد بعد العمل أيضًا وأن منعه ليس باتفاق؛ فاعلمه، وقد

نقل صاحب الفتاوى الصرفية عن الظهيرية والنسفية والنصاب - واللفظ من

الظهيرية - أنه سئل شيخ الإسلام عطاء بن حمزة السندي، عن الصغيرة إذا زوجها

أبوها من صغير وقبل أبوه وكبر الصغير وبينهما غيبة منقطعة وقد كان التزويج

بشهادة الفسقة: فهل يجوز للقاضي أن يبعث إلى شافعي المذهب ليبطل هذا النكاح

بينهما بهذا السبب؟ قال: نعم، وللحنفي أن يفعل ذلك بنفسه أيضًا أخذًا بمذهب

الخصم، وإن لم يكن ذلك مذهبه؛ انتهى.

ثُم أورد في المحيط والظهيرية مسألة أبي يوسف في الفأرة عقبها مستشهدًا؛

فاعلم ذلك. وكذا مولانا خاتمة المتأخرين العلامة ابن نجيم رحمه الله في البحر

الرائق في مسألة اليمين المضافة عن البزازية عن أصحابنا: أنه لو استفتى فقيهًا عدلاً

فأفتى ببطلان اليمين: هل له العمل بفتواه وإمساكها؟ وروى أوسع من هذا، وهو أنه

لو أفتاه مفتٍ بالحل، ثُم أفتاه آخر بالحرمة بعدما عمل بفتوى الأول فإنه يعمل

بفتوى الثاني في حق امرأة أخرى لا في حق الأولى، أي في هذه المرأة التي

مضت - كما نبهتك عليه قريبًا - وانظره فقد صرَّح بجواز العمل بخلاف ما عمل

للعامّي، وإنما منع من أن يفتي به المفتي لئلا ينسب إلى الغرض والتشهي

والتلاعب، ولئلا ينسب العلماء إلى التناقض من جهة العوام، فافهم [1] . هذا ما قام

عندي في وجه ذلك، ورأيت في عبارة بعضهم تعليله (بكيلا يتطرق به إلى هدم

مذهب أصحابنا) أو نحو ذلك من العبارة، والله أعلم.

واعلم أن من المسائل ما يقع التصريح بها من بعضًا المتأخرين رحمة الله

عليهم أجمعين، وخصوصًا في الأصول التي ألفها المتأخرون وليست بمرضية؛ بل

ربما يقع التصريح بخلافها من المتقدمين، ويوجد من هذا النوع في كتاب التحرير

الذي ألفه المحقق وجمع فيه من مقالات المتأخرين من فضلاء عصره فمن قبلهم

بقليل حتى من كلام أرباب المذاهب غير مذهبنا، فلا علينا أن نأخذ بما ظهر لنا

صواب خلافه [2] إن أنعم الله علينا بحصول ضربٍ من النظر يمكن الوقف به على

الصواب. وهذا ونحن مع ذلك بحمد الله تعالى لا نخرج عن درجة التقليد لإمامنا

الأعظم أبي حنيفة رحمة الله عليه، ونحن مقلدون له ولكبار أصحابه ومَن بعدهم مِن

كبار أئمتنا كشمس الأئمة وأضرابه [3] وأما ما يبحثه ويقرره المتأخرون من أهل

التاسع والعاشر [4] من فضلاء المذهب فلنا النظر فيه إن أمكن، وعلينا التمسك بما

هو منقول عن المتقدمين وخصوصًا إذا انتهض متمسكًا لنا فيما نرتضيه. والله

الموفق إلى الصواب وبه الاعتصام.

***

فصل

ومما ينشأ من الجهل والتعصب تفويت فرض من فروض الله تعالى مع إمكان

إقامته على رأي مجتهدٍ جليل؛ بل على رأي جمعٍ من المجتهدين، وذلك أن جهلة

المتعصبين يمتنعون ويمنعون من جمع الصلاتين في السفر التي ذهب إلى جوازها

الإمام الشافعي وغيره من صدر الإسلام رحمة الله عليهم، ويؤدي ذلك إلى تفويت

الغرض رأسًا، وذلك أنهم لما يعزمون على السير عند الزوال مثلاً فيصلون الظهر [5]

لأول وقتها ويمتنعون من جمع العصر إليها، فيركبون ويسيرون بناءً على أنهم

ينزلون قبل المغرب آخر وقت العصر فيدركونها، والحال أنهم قد لا يتهيأ لهم

النزول إلا مع المغرب أو الغروب بحيث لا يتسع الوقت إلى الطهارة والصلاة [6]

وخصوصًا في حق مَن تتعسر الطهارة عليه فتفوتهم الفرصة، وقد كانوا يمكنهم

أداؤها في المنزل [7] مجموعة جمع تقديم إلى الظهر على مذهب الإمام الشافعي

رحمة الله عليه، وعلى مذهب غيره ممن جوّز الجمع لأجل السفر، فيمتنعون عن

ذلك ويرضون بتفويتها، ولا بفعلها [8] على مذهب مجتهدٍ يجوز لهم أو عليهم يجب

اتباعه، والحال ما قرّر؛ لأن تحصيل الفرض من وجه مقدم على تفويته من كلّ

وجه، وما هذا إلا محض التعصب والجهل. وقد ذكر الإمام الأجلّ ظهير الدين

الكبير المرغيناني عن أستاذه السيد الإمام أبي شجاع رحمه الله تعالى: أنه سئل

شمس الأئمة الحلواني عن كسالى بخارى أنهم يصلون الفجر والشمس طالعة: فهل

نمنعهم من ذلك؟ فقال: لا يمنعون؛ لأنهم لو منعوا يتركونها أصلاً ظاهرًا (أي

مما يظهر من حالهم) ولو صلوها تجوز عند أصحاب الحديث ، ولا شك أن الأداء

الجائز عند البعض أولى [9] من الترك أصلاً. هذا جواب الحلواني، وناهيك به إذ

هو شيخ المذهب في عصره تخرج به الفحول النظار من أئمتنا كشمس الأئمة

السرخسي وفخر الإسلام البزدوي صاحب المبسوطين، وأضرابهم من رؤساء

المذهب الذين هم قدماء الدهر، وعظماء ما وراء النهر.

هذا مع أن الجاهل المتعصب الغبي يكفيه إيقاعها مجموعة مع الظهر تقليد

الإمام [10] الشافعي وغيره، ثُم إنْ أراد الاحتياط وأدرك في الوقت فسحة أعادها على

مذهبه أو قضاها بعد المغرب احتياطًا إنْ لم تطعه نفسه في أدائها مجموعة مع

الظهر، والله أعلم والموفق لا ربَّ غيره وهو حسبي ونعم الوكيل.

قال جامعها محمد عبد العظيم المكي الحنفي غفران الله تبارك وتعالى له

ولوالديه ولسائر المسلمين: ثُم بعد تسطير هذه الأسطر ظفرت في أثناء المطالعة

بعدةٍ من النقول تؤيد ما ذكرته بهذه الرسالة وتشهد له، لم أنشط لإلحاقها. ثُم رأيت

كلامًا للإمام الكبير المجتهد في العلوم رأس الفقهاء والمحدثين الشهير بابن تيمية

الحنبلي رحمه الله تعالى، فأحببت تعليقه في ذيل هذه الرسالة وهو مؤيد لما أشرنا

إليه مطابق إلى جميع [11] ما أوردته فيها، فالحاصل وإن كان في كلامي زيادة

إيضاح وبيان فهو لا يخالفه؛ بل يعضده ويؤيده. ولفظ ما رأيته:

سئل الإمام العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن

عبد السلام بن تيمية الحنبلي - رحمه الله تعالى - عن أهل المذاهب الأربعة: هل

يصح اقتداء بعضهم ببعض في الصلوات المفروضة وغيرها أم لا؟ وهل قال أحد

من السلف أنه لا يصلي بعض المسلمين خلف بعض إذا اختلفت مذاهبهم أو لا؟

وهل قائل ذلك مبتدع أم لا؟ وإذا فعل الإمام ما يعتقد أن صلاته صحيحة والمأموم

يعتقد خلاف ذلك؛ مثل أن يكون الإمام تقايأ أو رعف أو احتجم أو لمس النساء بشهوةٍ

أو مس ذكره أو قهقه في صلاته أو أكل ما مسته النار أو أكل لحم الإبل وصلى ولم

يتوضأ، وهو لا يعتقد وجوب الوضوء من ذلك، أو كان الإمام لا يقرأ البسملة أو لم

يتشهد التشهد الأخير أو لم يسلم من الصلاة والمأموم يعتقد وجوب ذلك؛ فهل تصح

صلاة المأموم والحالة هذه؟ أفتونا مأجورين ولكم الثواب.

أجاب رحمه الله تعالى: الحمد لله رب العالمين. نعم تجوز صلاة المسلمين

بعضهم خلف بعض كما كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان ومَن بعدهم من الأئمة

الأربعة رضوان الله عليهم أجمعين يصلي بعضهم خلف بعض مع تنازعهم في هذه

المسائل المذكورة وغيرها، ولم يقل أحد من السلف الصالح رحمهم الله تعالى: إنه

لا يصلي بعضهم خلف بعض. ومَن أنكر ذلك فهو مبتدع ضال مخالف للكتاب

والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها، وكان الصحابة والتابعون ومَن بعدهم منهم من

يقرأ البسملة ومنهم مَن لا يقرأها ومنهم مَن يجهر بها ومنهم مَن لا يجهر بها، وكان

منهم مَن يقنت في الفجر ومنهم من لا يقنت، ومنهم مَن يتوضأ مِن الحجامة

والرعاف والقيء ومنهم مَن لا يتوضأ من ذلك، ومنهم مَن يتوضأ من لمس النساء

بشهوة ومس الذكر، ومنهم مَن لا يتوضأ من جميع ذلك، ومنهم مَن يتوضأ مما مسته

النار، ومنهم من لا يتوضأ من ذلك، ومنهم مَن يتوضأ من أكل لحوم الإبل ومنهم مَن

لا يتوضأ من ذلك، ومع هذا كان بعضهم يصلي خلف بعض، مثل ما كان أبو

حنيفة وأصحابه والشافعي وغيرهم - رضوان الله عليهم أجمعين - يصلون خلف

الأئمة المرتبة من المالكية وغيرهم وإن كانوا لا يقرؤون البسملة لا سرًّا ولا جهرًا،

وصلّى الرشيد إمامًا وكان قد احتجم فصلى الإمام أبو يوسف خلفه ولم يعد صلاته،

وكان أفتاه الإمام مالك بأنه لا وضوء عليه، وكان الإمام أحمد بن حنبل يرى الوضوء

من الرعاف والحجامة، فقيل له في ذلك: إذا كان الإمام قد خرج منه الدم ولم يتوضأ

تصلي خلفه؟ فقال: كيف لا أصلي خلف مالك وسعيد بن المسيب [12] .

وفي الجملة فهذه المسائل لها صورتان:

(إحداهما) : أن لا يعرف المأموم أن أمامه فعل ما يبطل الصلاة، فهذا

يصلي خلفه باتفاق السلف والأئمة الأربعة وغيرهم، وليس في هذا خلاف متقدم،

وإنما خالف بعض المتعصبين من المتأخرين فزعموا أن الصلاة خلف الحنفي لا

تصح وإن أتى بالواجبات - قال - لأنه أداها وهو لا يعتقد وجوبها. وقائل هذا

القول - إلى أن يستتاب كما يستتاب أهل البدع - أحوج منه إلى أن يعتد بخلافه [13]

فإنه مازال المسلمون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد خلفائه -

رضي الله عنهم يصلي بعضهم ببعض، وأكثر الأئمة لا يميزون بين المسنون

والمفروض؛ بل يصلون الصلوات الشرعية، ولو كان العلم بهذا واجبًا لبطلت

صلاة أكثر المسلمين ولم يمكن الاحتياط، فإن كثيرًا من هذا فيه نزاع وأدلة ذلك

خفية، وأكثر ما يمكن المتقدمين أن يُحتاطَ من الخلاف، وهو لا يجزم بأحد

القولين؛ وإن كان الجزم بأحدهما واجبًا؛ فأكثر الخلق لا يمكنهم الجزم بذلك،

وهذا القائل ليس معه إلا تقليد بعض الفقهاء، ولو طولب بأدلة شرعية تدل على

صحة قول إمامه دون غيره لعجز عن ذلك؛ ولهذا لا يعتد بنقل مثل هذا فإنه ليس

من أهل الاجتهاد.

(والصورة الثانية) أن يتيقن المأموم أن الإمام فعل ما لا يسوغ عنده،

مثل أن يمس ذكره أو يلمس النساء بشهوة، أو يحتجم، أو يتقايأ ثم يصلي بلا

وضوء، فهذه الصورة فيها نزاع مشهور، فأحد القولين: لا تصح صلاة المأموم؛

لأنه يعتقد بطلان صلاة إمامه كما قال ذلك جماعة من أصحاب أبي حنيفة والشافعي

وأحمد رحمهم الله تعالى. والقول الثاني: تصح صلاة المأموم؛ وهو قول جمهور

السلف، وهو مذهب مالك رحمه الله، وأحد قولي الشافعي وأحمد؛ بل وأبي حنيفة،

وأكثر نصوص الإمام أحمد على هذا، وهذا هو الصواب، لما ثبت في الصحيح

وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يصلون بكم فإن أصابوا فلكم

ولهم وإن أخطأوا فلكم وعليهم) . فقد بين صلى الله عليه وسلم أن خطأ الإمام

لا يتعدى إلى المأموم، ولأن المأموم يعتقد أن ما فعله سائغ له، وأنه لا إثم عليه

فيما فعل فإنه مجتهد، أو مقلد مجتهد، وهو يعلم أن هذا قد غفر الله له خطأه، فهو

يعتقد صحة صلاته، وأنه لا يأثم إذا لم يعدها؛ بل لو حكم حاكم بمثل هذا لم يجز

له نقض حكمه؛ بل كان ينفذه، وإذا كان الإمام قد فعل باجتهاده - ولا يكلف الله

نفسًا إلا وسعها - والمأموم قد فعل ما يجب عليه كانت صلاة كل منهما صحيحة،

وكان كل منهما قد أدى ما يجب عليه، وقد حصلت موافقة الإمام في الأفعال

الظاهرة.

وقول القائل: (إن المأموم يعتقد بطلان صلاة الإمام) ؛ خطأ منه لأن المأموم

يعتقد أن الإمام قد فعل ما وجب عليه، وأن الله قد غفر له ما أخطأ فيه، وأنه لا

تبطل صلاته لأجل ذلك، ولو أخطأ الإمام والمأموم فسلَّم الإمام خطأ واعتقد المأموم

جواز متابعته فسلم كما سلم المسلمون خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من

ركعتين سهوًا مع علمهم بأنه إنما صلى ركعتين، وكما لو صلى خمسًا سهوًا فصلوا

خلفه سهوًا مع علمهم بأنه صلى خمسًا لاعتقادهم جواز ذلك؛ فإنه تصح صلاة المأموم

في هذه الحالة، فكيف إذا كان المخطئ هو الإمام وحده؟ وقد اتفقوا كلهم على أن

الإمام لو سلم خطأ لا تبطل صلاة المأموم إذا لم يتابعه، فدل ذلك على أن ما فعله

الإمام خطأ لا يلزم فيه بطلان صلاة المأموم؛ والله أعلم.

انتهى بلفظه فانظره فإنه مطابق ومؤيد لما ذكرته في هذه الرسالة، ولله الحمد

على موافقة مَن مضى من كبار الأئمة.

وكثيرًا ما أختار شيئًا إلا فأجد مَن قد سبقني إلى اختياره الفحول من الرجال

الأئمة [14] أو استشكل شيئًا فأجد استشكاله منقولاً عن كبار المتقدمين، وكذلك إذا

أبديت قولاً لم يكن وقف من رأى كلامي على نقله فيقع منهم موقع الإنكار ويحملهم

الجهل والتعصب على رده ثُم أجده منقولاً بعد ذلك بعينه أو بما يوافقه عن السلف

فمن بعدهم من كبار الأئمة؛ وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء؛ بل ربما أفعل أمورًا

من الأمور العادية فيستغربه الناس ويتعجبون من صدوره مني، وربما عِيبَ عليّ؛

بل ربما أُنسب به عند بعض الجهال إلى سخافة العقل ثُم أجده أو مثله محكيًّا عن

بعض الصحابة رضي الله عنهم أو عن التابعين أو بعض الخلفاء أو السلاطين

الكبار المُجمع على إصابة فعلهم وجلالتهم، والحمد لله رب العالمين.

ثُم لخص لي تلخيصًا شافيًا شافعيُّ زمانه السيد الجليل عمر بن عبد الرحيم

البصري المكي رحمه الله تعالى، ومِن خَطّه الكريم نقلت ما نصه: (قال الإمام

الرافعي في [15] إن كانت صلاته صحيحة في اعتقاد الإمام دون المأموم أو بالعكس،

فإن كان الاختلاف في الفروع كما إذا مس الحنفي فرجه وصلى، أو ترك الاعتدال

أو قرأ غير الفاتحة: ففي صحة اقتداء الشافعي به وجهان:

(أحدهما) : يصح؛ وبه قال القفال؛ لأن خطأه غير مقطوع به.

(والثاني) : وبه قال الشيخ أبو حامد: لا يصح لفسادها عند المأموم؛

فأشبه ما لو اختلف اجتهاد رجلين في القبلة لا يقتدي أحدهما بالآخر، وهو أظهر

الأكثرين؛ انتهى.

قال الإمام الزركشي في الخادم ما حاصله:

وخلاصة ما رجحه ونقله عن الأكثرين غير مسلم فإنما تعرض له طائفة

كالبرزنجي والروياني في الحلية والبغوي وصاحب الكافي والغزالي في فتاويه،

ولم يذكر المسألة طائفة كالماوردي والدارمي والشيخ في المهذب والتنبيه، وكلام

الشيخ أبي حامد فيها محتمل فإنه قال: لو اقتدى به وهو يحتمل الكراهة وعليها

جرى الروياني في البحر، ولم يصح عن القاضي أبي الطيب شيء؛ بل حكي عن

الدارمي الجواز، وعن أبي إسحاق المنع، والقائلون به لم يقفوا للشافعي على نص؛

بل قالوا: إن قياس مذهبه في المختلفين في القبلة والأواني. وهذا ممنوع نقلاً

وتوجيهًا. (أما) النقل، فإن المنصوص للشافعي - ما نقله القفال - الصحة،

ومما يشهد للصحة ما حكاه المحاملي في المجموع قال: قال الشافعي رحمه الله

تعالى في الأمالي: وإذا دخل الرجل بلدًا فنوى أن يقيم أربعين يومًا، وكان يرى

جواز القصر حينئذٍ، ومعه رجل يعتقد عدم جوازه فيكره له أن يقدمه ويصلي خلفه؛

لأنه يعتقد أن صلاته المقصورة لا تجوز، فإن قدمه وصلى خلفه جاز؛ لأنه

محكوم بصحة صلاته في حقه. هكذا حكاه القاضي أبو الطيب عن الأمالي.

ولو كانت العبرة باعتقاد المأموم لكان اقتداؤه به باطلاً؛ لأن عند المأموم أن

نية القصر لا تنعقد معها الصلاة. ومع ذلك صحح الشافعي الاقتداء به اعتبارًا

باعتقاد الإمام، وهذا النص ذكره الإمام النووي أيضًا في باب صلاة المسافر في

شرح المهذب، ووقع في بعض نسخ شرح المذهب هكذا: (والمختار والظاهر قول

القفال) فلم تزل الأئمة المختلفون في الفروع يصلي بعضهم خلف بعض، ويشهد له

تصحيحهم أن الماء الذي توضأ منه الحنفي وغيره - ممن لا يرى وجوب النية -

مستعمل وإن لم ينوِ على الأصح، وهذا هو الصواب الذي ينبغي أن تكون الفتوى

عليه، وقد كان الإمام الشافعي رحمه الله تعالى يصلي خلف أئمة المدينة ومصر

وكانوا لا يسلمون؛ ولم ينقل عنه الامتناع عن الاقتداء بهم، وصح عن ابن مسعود -

رضي الله عنه أنه ائتم بمنىً مع عثمان رضي الله عنه مع إنكاره عليه

ذلك؛ فقيل له في ذلك، فقال: الخلاف شرُّ فتنة.

وأما توجيه المانعين بقولهم: (إن المأموم يعتقد بطلان صلاة الإمام) فمردود،

فإنها مسألة اجتهاد واعتقاد، والخطأ فيها لا يسوغ كما في غيرها من المسائل

الاجتهادية، كالحكم بصحة حكمه وامتناع نقضه بشرطه، وأما قياسهم على

المجتهدين في القبلة أو في الأواني فيصرف بأن الإمام والمأموم فيهما يعتقدان فساد

صلاة من صلى بطهارةٍ من إناء نجس، أو صلى إلى غير القبلة، بخلاف المأموم

في اقتدائه بتارك الفاتحة فإنه لا يعتقد بطلان صلاته مع تركها؛ لأنه مستند لاجتهاد

من جملة عقيدة المأموم التي يدين بها ربه اعتقاد صحته؛ وبأن المجتهد لو بان له

في مسألتي الأواني والقبلة أن الأمر على خلاف ظنه يقينًا لزمته الإعادة، بخلاف

المجتهد في الفروع لو عثر على نصٍّ جليّ مخالف لاجتهاده السابق، لا تلزمه إعادة

ما صلاّه بالاجتهاد السابق؛ وسر ذلك أن الاجتهاد الأول مستند إلى أمرٍ عادي

وقرائن تشير [16] الظن اكتفى بها الشارع تخفيفًا على الأمة، فإن تحقق الخطأ فيها

رجع إلى الأصل وتبين عدم صلاحيتها لمن ظن بها، بخلاف الاجتهاد الثاني، فإنه

مستند إلى أمر شرعي أوجب الشارع عليه اتباعه، فلم يقع عمله السابق على

خلاف حكم الله تبارك وتعالى، وإن فرض وصرّح النص الثاني المعثور عليه

بحيث أفاد اليقين أو ما قاربه من الظن القوي، وأيضًا الاجتهاد الأول يمكن

التوصل [17] إلى القطع بالخطأ فيه بالخلاف الثاني.

وممن اختار ذلك من المتأخرين صاحب الذخائر وأفرد المسألة بتصنيف سمّاه

(بيان المشروع في الاقتداء بالمخالفين في الفروع) ، وقال ابن أبي الدم في باب

الجنائز من شرح الوسيط: لعل الأصح الصحة مطلقًا، وأقام الدليل على الجواز من

وجوه، ثُم نبّه على أمرٍ حسن فقال: وهذا الخلاف كله في المجتهدين، وأما عوام

الناس فليسوا مقصودين في الخلاف فإنهم لا مذهب لهم يعوّلون عليه، وإنما فرضهم

التقليد عند نزول المنازعة فمن أفتاهم من أهل الفتوى وجب عليهم قبول قوله؛

وانتسابهم إلى المذاهب عصبية، ومعناه ارتضى أن يعمل في عبادته وكل أحواله

بقول إمامٍ انتسب إليه، فهؤلاء يصح قدوة كل منهم بأي إمام كان من غير تفصيل.

ونقل عن الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله تعالى - أنه كان يرى الوضوء

من الدم الكثير فقيل له: إذا كان الإمام لا يتوضأ من ذلك أتصلي خلفه؟ فقال:

سبحان الله تعالى! أقول: إنه لا يصلى خلف سعيد بن المسيب ومالك رضي الله

عنهما؟

وكان القاضي أبو عصام العامري الحنفي مارًّا في باب مسجد القَفَّال والمؤذن

يؤذن المغرب فنزل عن دابته ودخل المسجد، فلما رآه القفال أمر المؤذن أن يثني في

الإقامة، وقدم القاضي أبا عصام فتقدم وصلى وجهر بالبسملة، وأمَّ بشعار الشافعية

في صلاته، وكان ذلك منهما تهوينًا لأمر الخلاف في الفروع. وقال القاضي الحسن

في تعليقه: والمختار أن كل مجتهد مصيب، إلا أن أحدهم أصاب الحق عند الله

والباقون أصابوا الحق عند أنفسهم. وقال ابن السمعاني: قال علماؤنا: مَن أخطأ

كان مخطئًا للحق عند الله مصيبًا في حق عمل نفسه، حتى إن عمل نفسه يقع

صحيحًا عند الله شرعًا كأنه أصاب الحق عند الله.

وقد حكى الإمام الشافعي - رحمة الله عليه - الإجماع على أن كل مجتهد أداه

اجتهاده إلى أمر فهو حكم الله تعالى في حقّه ولا يشرع له العلم بغيره حينئذٍ، فمَن

صلَّى بحكم اجتهاده فصلاته صحيحة عنده وعند مَن يخالفه في المسألة لاعتقاده أن

ذلك حكم الله تعالى عنده، وصلاته صحيحة لإتيانه بها على الوجه المأمور به حينئذٍ،

فكيف يمنع الاقتداء به مع الحكم بصحة صلاته في نفسه؟ انتهى مع تلخيص

وتحرير، واقتضى نسخه إلى هنا، انتهى ما رأيته بخط المذكور؛ دامت إفادته. وقد

أَرْسَلَ به إليّ في ذيل نسخة من هذه الرسالة بعد إمرار نظره السعيد عليها، وهذا

بحمد الله تعالى أيضًا مؤيد لما أشرت إليه، واعتمدت فيها عليه، والله الموفق إلى

الصواب.

قال جامعها ومؤلفها محمد بن عبد العظيم المكي الحنفي بن المقدسي الميروز

الملاّ فروخ بن عبد المحسن الرومي الموروي حفظه الله تعالى في نفسه وأولاده

وجميع نعم الله تعالى عليه، وأحياه حياةً طيبة سالمةً من الأسواء فيما وصل ويصل

من منة الله إليه، بعد أن علم بأنه مرّ عليه مطالعةً وتصحيحًا وتتمةً في يوم الجمعة

الثانية من شوال سنة اثنتين وخمسين وألف من الهجرة النبوية، والحمد لله على

ذلك، وصلى الله على نبيه كذلك.

_________

(*) تابع لما نشر في ص 368 ج 5.

(1)

هذا التعليل ضعيف وأضعف منه ما يذكره بعده عن بعضهم، وله تعليل آخر أقوى منهما وهو أن تقليده الثاني يجب أن يبطل عمله بالتقليد الأول بعد التزامه لأنه تناقض فيحقه ولا يباح لأحد أن يلتزم التناقض ويعمل به ويتحقق إلا في الموضوع الواحد والمسألة الواحدة كالطلاق والعتق الذي أمضاه بالفعل، ومثله المجتهد إذا تغيّر رأيه في المسألة بعد إمضائها لا ينقض اجتهاده الثاني ما أمضاه بالأول.

(2)

يوشك أن يكون قد سقط بعض الكلم من هذا السياق.

(3)

يريد بتقليده العمل بأصولهم والسير على طريقتهم في الفهم والعمل.

(4)

أي أهل القرنين التاسع والعاشر والمصنف من أهل القرن الحادي عشر فهو يعد أهل ذينك القرنين كأهل قرنه لغلبة التقليد المحض عليهم وبعدهم عن الاستقلال والاجتهاد حتى في المذهب.

(5)

كان الظاهر أن يقول: وذلك أنهم عندما يعزمون على السفر بعد الزوال يصلون الظهر

إلخ.

(6)

الصواب: للطهارة والصلاة؛ يقال: اتسع لكذا - لا إلى كذا.

(7)

لعلّ أصله: (في المنزل الأول) ؛ أي من منازل السفر.

(8)

لعل أصله (ولا يرضون بفعلها) إلخ.

(9)

لعل الأصل: (وهو أولى من الترك) .

(10)

لا بد أن يكون الأصل: بتقليد الإمام - أو - تقليدًا للإمام

إلخ.

(11)

الصواب: (لجميع) .

(12)

كأن سقط من هذه العبارة كلمات أو فقرات من نسختنا فأتممناها من أصل فتاوى ابن تيمية، وفي الأصل تقديم سعيد بن المسيب على مالك؛ لأنه أعلم التابعين.

(13)

هذا نص الفتوى، وعبارة نسختنا:(إلى أن يعتقد بطلانها) .

(14)

كلمة (إلا) وكلمة (من) قبل الأئمة زائدتان، أي كثيرًا ما أختار شيئًا فأجد الذين قد سبقوني إلى اختياره هم الفحول من الرجال والأئمة، وسبب موافقة المصنف في كثير من المسائل لهؤلاء عدم التعصب للمذهب وحب الإنصاف، ولو عني بالتفسير والحديث كما عني بالفقه الحنفي مع زيادة إتقانٍ للعربية لكان مجتهد مستقلاً تمام الاستقلال.

(15)

بياض في الأصل والذي سقط اسم الكتاب ولعله (الشرح الكبير) للوجيز ولا يبعد أن يكون مما سقط اسم الباب أو البحث.

(16)

سقط من هنا كلام والمعنى أن الاجتهاد الأول مبني على قرائن ظنية لا هي علم ولا شرع وإنما أجازها الشرع للضرورة.

(17)

لعلّ الأصل (يمكن التوصل به) .

ص: 417

الكاتب: أبو إسحاق الشاطبي

الابتداع بالتشدد في الدين

والتزام ما لم يرد وتتبع آثار الصالحين

فصل من كتاب الاعتصام

للإمام الشاطبي

ثبت بمضمون هذه الفصول المتقدمة آنفًا أن الحرج منفي عن الدين جملةً

وتفصيلاً - وإن كان قد ثبت أيضًا في الأصول الفقهية على وجهٍ من البرهان أبلغ -

فلنبن عليه فنقول:

قد فَهَمَ قوم مِن أصول [1] السلف الصالح وأهل الانقطاع إلى الله ممّن ثبتت

ولايتهم أنهم كانوا يشددون على أنفسهم، ويلزمون غيرهم الشدة أيضًا، والتزام

الحرج ديدنًا في سلوك طريق الآخرة. وعدّوا مَن لم يدخل تحت هذا الالتزام

مقصرًا مطرودًا ومحرومًا، وربما فهموا ذلك من بعض الإطلاقات الشرعية،

فرشحوا بذلك ما التزموه، فأفضى الأمر بهم إلى الخروج عن السنّة إلى البدعة

الحقيقية أو الإضافية.

فمن ذلك أن يكون للمكلف طريقان في سلوكه للآخرة، أحدهما سهل والآخر

صعب، وكلاهما في التوصل إلى المطلوب على حدّ واحد فيأخذ بعض المتشددين

بالطريق الأصعب الذي يشق على المكلف مثله، ويترك الطريق الأسهل بناءً على

التشديد على النفس، كالذي يجد للطهارة ماءين سخن وبارد؛ فيتحرى البارد الشاق

استعماله، ويترك الآخر. فهذا لم يعط النفس حقها الذي طلبه الشارع منه. وخالف

دليل رفع الحرج من غير معنى زائد؛ فالشارع لم يرض بشرعية مثله، وقد قال

تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} (النساء: 29) فصار متَّبِعًا

لهواه، ولا حجة له في قوله عليه السلام: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا

ويرفع به الدرجات؟ إسباغ الوضوء عند الكريهات) - الحديث. من حيث كان

الإسباغ مع كراهية النفس سببًا لمحو الخطايا ورفع الدرجات، ففيه دليل على أن

للإنسان أن يسعى في تحصيل هذا الأجر بإكراه النفس، ولا يكون إلا بتحري إدخال

الكراهية عليها؛ لأنّا نقول: لا دليل في الحديث على ما قلتم؛ وإنما فيه أن الإسباغ

مع وجود الكراهية، ففيه أمر زائد، كالرجل يجد ماءً باردًا في زمان الشتاء ولا

يجده سخنًا فلا يمنعه شدة برده عن كمال الإسباغ.

وأما القصد إلى الكراهية فليس في الحديث ما يقتضيه؛ بل في الأدلة المتقدمة

ما يدل على أنه مرفوع عن العباد، ولو سلم أن الحديث يقتضيه لكانت أدلة رفع

الحرج تعارضه، وهي قطعية وخبر الواحد ظني، فلا تعارض بينهما للاتفاق على

تقديم القطعي. ومثل الحديث قول الله تعالى:] ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ

وَلَا مَخْمَصَةٌ [

الآية (التوبة: 120) .

ومن ذلك الاقتصار من المأكول على أخشنه وأفظعه لمجرّد التشديد لا لغرضٍ

سواه، فهو النمط المذكور فوقه؛ لأن الشرع لم يقصد إلى تعذيب النفس في التكليف؛

وهو أيضًا مخالف لقوله عليه السلام: (إن لنفسك عليك حقًّا) ، وقد كان النبي -

صلى الله عليه وسلم يأكل الطيب إذا وجده، وكان يحب الحلواء والعسل،

ويعجبه لحم الذراع، ويستعذب له الماء، فأين التشديد من هذا؟ !

ولا يدخل الاستعمال المباح في قوله تعالى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ

الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا} (الأحقاف: 20) ؛ لأن المراد به الإسراف الخارج عن حد

المباح، بدليل ما تقدم، فإذًا الاقتصار على البشيع في المأكول من غير عذرٍ تنطع؛

وقد مر ما فيه في قوله تعالى:] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ

اللَّهُ لَكُمْ [

الآية (المائدة: 87) .

ومن ذلك: الاقتصار في الملبس على الخشن من غير ضرورة؛ فإنه من قبيل

التشديد والتنطع المذموم. وفيه أيضًا من قصد الشهرة ما فيه.

وقد روى عن الربيع بن زياد الحارثي أنه قال لعلي بن أبي طالب رضي الله

عنه: اغد بي على أخي عاصم، قال: ما باله؟ قال: لبس العباء يريد النسك.

فقال علي رضي الله عنه: عليَّ به. فأُتيَ به مؤتزرًا بعباءة مرتديًا بالأخرى، شعث

الرأس واللحية، فعبس في وجهه وقال: ويحك! أما استحييت من أهلك؟ أما

رحمت ولدك؟ أترى الله أباح لك الطيبات وهو يكره أن تنال منها شيئًا؟ ! بل أنت

أهون على الله من ذلك، أما سمعت الله يقول في كتابه:{وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ} (الرحمن: 10) - إلى قوله - {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} (الرحمن:

22) ؟ أفترى الله أباح هذا لعباده إلا ليبتذلوه [2] ويحمدوا الله عليه فيثيبهم عليه؟

وأن ابتذالك نِعَم الله بالفعل خير منه بالقول. قال عاصم: فما بالك في خشونة

مأكلك وخشونة ملبسك؟ قال: ويحك! إن الله فرض على أئمة الحق أن يقدروا

أنفسهم بضعفة الناس.

فتأملوا كيف لم يطالب الله العباد بترك الملذوذات! وإنما طالبهم بالشكر عليها

إذا تناولوها، فالمتحري للامتناع من تناول ما أباحه الله من غير موجب شرعي

مفتات على الشارع [3] وكل ما جاء عن المتقدمين من الامتناع عن بعض المتناولات

من هذه الجهة وإنما [4] امتنعوا منه لعارضٍ شرعي يشهد الدليل باعتباره، كالامتناع

من التوسع لضيق الحال في يده، أو لأن المتناول ذريعة إلى ما يكره أو يمنع، أو

لأن في المتناول وجه شبهة تفطن إليه التارك ولم يفطن إليه غيره ممن علم بامتناعه،

وقضايا الأحوال لا تعارض الأدلة بمجردها، لاحتمالها في أنفسها. وهذه المسألة

مذكورة على وجهها في كتاب الموافقات.

ومن ذلك الاقتصار في الأفعال والأحوال على ما يخالف محبة النفوس، حملها

على ذلك في كل شيء من غير استثناء، فهو مع قبيل التشديد. ألا ترى أن الشارع

أباح أشياء مما فيه قضاء نهمة النفس وتمتعها واستلذاذها؟ فلو كانت مخالفتها بِرًّا

لشرع، ولندب الناس إلى تركه فلم يكن مباحًا؛ بل مندوب الترك أو مكروه الفعل.

وأيضًا فإن الله تعالى وضع في الأمور المتناولة إيجابًا أو ندبًا أشياء من

المستلذات الحاملة على تناول تلك الأمور، لتكون تلك اللذات كالحادي إلى القيام

بتلك الأمور، كما جعل في الأوامر إذا امتثلت، وفي النواهي إذا اجتنبت أجورًا

منتظرة، ولو شاء لم يفعل؛ وجعل في الأوامر إذا تركت والنواهي إذا ارتكبت

جزاءً على خلاف الأول؛ ليكون جميع ذلك منهضًا لعزائم المكلفين في الامتثال، حتى

إنه وضع لأهل الامتثال الثائرين على المبايعة [5] في أنفس التكاليف أنواعًا من

اللذات العاجلة، والأنوار الشارحة للصدور، ما لا يعدله من لذات الدنيا شيء؛

حتى يكون سببًا لاستلذاذ الطاعة والفرار إليها وتفضيلها على غيرها، فيخف على

العامل العمل؛ حتى يتحمل منه ما لم يكن قادرًا قبْلُ على تحمّله إلا بالمشقة المنهي

عنها؛ فإذا سقطت سقط النهي.

بل تأملوا كيف وضع للأطعمة على اختلافها لذَّات مختلفات الألوان،

وللأشربة كذلك، وللوقاع الموضوع سببًا لاكتساب العيال - وهو أشدَّ تعبًا عن

النفس - لذة أعلى من لذة المطعم والمشرب؛ إلى غير ذلك من الأمور الخارجة عن

نفس المتناول، كوضع القبول في الأرض وترفيع المنازل، والتقدم على سائر

الناس في الأمور العظائم؛ وهي أيضًا تقتضي لذات تستصغر في جنبها لذات الدنيا.

وإذا كان كذلك، فأين هذا الموضع الكريم، من الرب اللطيف الخبير؟ فمن

يأتي متعبدًا بزعمه بخلاف ما وضع الشارع له من الرفق والتيسير والأسباب

الموصلة إلى محبته؛ فيأخذ بالأشق والأصعب، ويجعله هو السلم الموصل

والطريق الأخص: هل هذا كله إلا غاية في الجهالة، وتلف في تيه الضلالة؟

عافانا الله من ذلك بفضله.

فإذا سمعتم بحكاية تقتضي تشديدًا على هذا السبيل، أو يظهر منها تنطع أو

تكلف؛ فإما أن يكون صاحبها ممن يعتبر كالسلف الصالح، أو من غيرهم ممن لا

يعرف ولا ثبت اعتباره عند أهل الحل والعقد من العلماء، فإن كان الأول فلا بد أن

يكون على خلاف ما ظهر لبادئ الرأي - كما تقدم - وإن كان الثاني فلا حجة فيه،

وإنما الحجة في المقتدين برسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه خمسة في التشديد

في سلوك طريق الآخرة يقاس عليها ما سواها.

***

فصل

قد يكون أصل العلم مشروعًا؛ ولكنه يصير جاريًا مجرى البدعة من باب

الذرائع، ولكن على غير الوجه الذي فرغنا من ذكره. وبيانه أن العلم يكون مندوبًا

إليه - مثلاً - فيعمل به العامل في خاصة نفسه على وضعه الأول من الندبية، فلو

اقتصر العامل على هذا المقدار لم يكن به بأس، ويجري مجراه إذا دام عليه في

خاصيته غير مظهر له دائمًا؛ بل إذا أظهره لم يظهره على حكم الملتزمات من

السنن الرواتب والفرائض اللوازم، فهذا صحيح لا إشكال فيه. وأصله ندب رسول

الله صلى الله عليه وسلم لإخفاء النوافل والعمل بها في البيوت، وقوله:

(أفضل الصلاة صلاتكم في بيوتكم إلا المكتوبة) ؛ فاقتصر في الإظهار على

المكتوبات كما ترى؛ وإن كان ذلك في مسجده عليه السلام أو في المسجد الحرام أو

في مسجد بيت المقدس، حتى إن النافلة في البيت أفضل منها في أحد هذه المساجد

الثلاثة بما اقتضاه ظاهر الحديث. وجرى مجرى الفرائض في الإظهار

السنن كالعيدين والخسوف والاستسقاء وشبه ذلك؛ فبقي ما سوى ذلك

حكمه، ومِنْ هنا ثابر السلف الصالح رضي الله عنهم على إخفاء الأعمال فيما

استطاعوا أو خفَّ عليهم اقتداءً بالحديث وبفعله عليه السلام؛ لأنه القدوة والأسوة.

ومع ذلك فلم يثبت فيها إذا عمل بها في البيوت دائمًا أن يقام جماعة في

المساجد ألبتة، ما عدا رمضان - حسبما تقدم - ولا في البيوت دائمًا، وإن وقع ذلك

في الزمان الأول في الفرط [6] كقيام ابن عباس رضي الله عنهما مع رسول الله

صلى الله عليه وسلم عندما ما بات عند خالته ميمونة، وما ثبت من قوله عليه

السلام: (قوموا فلأصلي لكم) .

وما في الموطأ من صلاة يرفا [7] مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه

وقت الضحى، فمن فعله في بيته وقتًا ما فلا حرج، ونص العلماء على جواز ذلك

بهذا القيد المذكور، وإن كان الجواز قد وقع في المدونة مطلقًا فما ذكره تقييد له،

وأظن ابن حبيب نقل [8] عن مالك مقيدًا؛ فإذا اجتمع في النافلة أن تلتزم التزام

السنن الرواتب إما دائمًا وإما في أوقات محدودة وعلى وجه محدود، وأقيمت في

الجماعة في المساجد التي تقام فيها الفرائض، أو المواضع التي تقام فيها السنن

الرواتب، فذلك اتباع [9] والدليل عليه أنه لم يأت عن رسول الله - صلى الله عليه

وسلم - ولا عن أصحابه ولا عن التابعين لهم بإحسان فعل هذا المجموع هكذا

مجموعًا، وإن أتى مطلقًا من غير تلك التقيدات؛ فالتقييد في المطلقات التي لم يثبت

بدليل الشرع تقييدها رأي في التشريع؛ فكيف إذا عارضه الدليل، وهو الأمر

بإخفاء النوافل مثلاً؟

ووجه دخول الابتداع هنا أن كل ما واظب عليه رسول الله - صلى الله عليه

وسلم - من النوافل وأظهره في الجماعات فهو سنة؛ فالعمل بالنافلة التي ليست

بسنة على طريق العلم بالسنة، إخراج للنافلة عن مكانها المخصوص بها شرعًا، ثُم

يلزم من ذلك اعتقاد ما ليس بسنة والعمل بها على حد العلم بالسنة نحو من تبديل

الشريعة؛ كما لو اعتقد في الفرض أنه ليس بفرض، أو بما ليس بفرض أنه فرض،

ثم عمل على وفق اعتقاده فإنه فاسد، فهب العمل في الأصل صحيحًا فإخراجه عن

بابه اعتقادًا وعملاً من باب إفساد الأحكام الشرعية. ومن هنا ظهر عذر السلف

الصالح في تركهم سننًا قصدًا لئلا يعتقد الجاهل أنها من الفرائض كالأضحية

وغيرها كما تقدم ذلك.

ولأجله أيضًا نهى أكثرهم على اتباع الآثار، كما خرج الطحاوي وابن

وضاح وغيرهما عن معرور بن سويد الأسدي قال: وافيت الموسم مع أمير

المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلما انصرفنا إلى المدينة انصرفت معه،

فلما صلى لنا صلاة الغداة قرأ فيها: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ} (الفيل: 1)

و {لإِيلَافِ قُرَيْشٍ} (قريش: 1) ثم رأى ناسًا يذهبون مذهبًا، فقال: أين

يذهب هؤلاء؟ قالوا: يأتون مسجدًا ها هنا صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم،

فقال: إنما هلك مَن كان قبلكم بهذا؛ يتبعون آثار أنبيائهم فاتخذوها كنائس وبيعًا،

مَن أدركته الصلاة في شيء من هذه المساجد التي صلى بها رسول الله صلى الله

عليه وسلم فليصل فيها وإلا فلا يتعمدها.

وقال ابن وضاح: سمعت عيسى بن يونس مفتي أهل طرسوس يقول: أمر

عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي صلى

الله عليه وسلم، فقطعها لأن الناس كانوا يذهبون فيصلون تحتها فخاف عليهم الفتنة.

قال ابن وضَّاح: وكان مالك بن أنس وغيره من علماء المدينة يكرهون إتيان

تلك الآثار للنبي صلى الله عليه وسلم ما عدا قباء وحده - وقال - وسمعتهم

يذكرون أن سفيان دخل مسجد بيت المقدس فصلى فيه ولم يتبع تلك الآثار ولا

الصلاة فيها، وكذلك فعل غيره أيضًا ممَّن يقتدى به؛ وقدم وكيع أيضًا مسجد بيت

المقدس فلم يعدُ فعل سفيان. قال ابن وضاح فعليكم بالاتباع لأئمة الهدى المعروفين،

فقد قال بعض من مضى: كم من أمر هو اليوم معروف عند كثير من الناس كان

منكرًا عند من مضى؟

وقد كان مالك يكره كل بدعة وإن كانت في خير. وجميع هذا ذريعة لئلا يتخذ

سنة ما ليس بسنة، أو يعد مشروعًا ما ليس معروفًا.

وقد كان مالك يكره المجيء إلى بيت المقدس خيفة أن يتخذ ذلك سنة؛ وكان

يكره مجيء قبور الشهداء، ويكره مجيء قباء خوفًا من ذلك، مع ما جاء في الآثار

من الترغيب فيه.

ولكن لما خاف العلماء عاقبة ذلك تركوه.

وقال ابن كنانة وأشهب: سمعنا مالكًا يقول: لما أتاه سعد بن أبي وقاص قال:

وددت أن رجلي تكسرت وأني لم أفعل.

وسئل ابن كنانة عن الآثار التي تركوا بالمدينة فقال: أثبت ما في ذلك عندنا

قباء، إلا أن مالكًا كان يكره مجيئها خوفًا أن يُتَّخَذَ سنّة.

وقال سعيد بن حسان: كنت أقرأ على ابن نافع، فلما مررت بحديث التوسعة

ليلة عاشوراء قال لي: حرق عليه [10] قلت: ولم ذلك يا أبا محمد؟ قال خوفًا من

أن يُتَّخَذَ سنّة.

فهذه أمور جائزة أو مندوب إليها، ولكنهم كرهوا فعلها خوفًا من البدعة؛ لأن

اتخاذها سنة إنما هو بأن يواظب الناس عليها مظهرين لها؛ وهذا شأن السنّة، وإذا

جرت مجرى السنن صارت من البدع بلا شك.

فإن قيل: كيف صارت هذه الأشياء من البدع الإضافية؟ والظاهر منها أنها

بدع حقيقية؛ لأن تلك الأشياء إذا عمل بها على اعتقاد أنها سنة فهي حقيقية؛ إذ لم

يضعها صاحب السنة رسول الله صلى عليه وسلم؛ على هذا لم توجه [11] فصارت

مثل ما إذا صلى الظهر على أنها غير واجبة واعتقدها عبادة، فإنها بدعة من غير

إشكال؛ هذا إذا نظرنا إليها بمالها، وإذا نظرنا إليها أولاً فهي مشروعة من غير

نسبة إلى بدعة أصلاً.

فالجواب أن السؤال صحيح، إلا أن لوضعها أولاً نظرين:(أحدهما) من

حيث هي مشروعة فلا كلام فيها. و (الثاني) من حيث صارت كالسبب الموضوع

لاعتقاد البدعة، أو للعمل بها على غير السنة، فهي من هذا [12] غير مشروعة؛

لأن وضع الأسباب للشارع لا للمكلف، والشارع لم يضع الصلاة في مسجد قباء أو

بيت المقدس - مثلاً - سببًا لأن تتخذ سنة، فوضع المكلف لها كذلك رأي غير

مستند إلى الشرع، فكان ابتداعًا.

وهذا معنى كونها بدعة إضافية. أما إذا استقر السبب وظهر مسببه الذي هو

اعتقاد العمل سنة والعمل على وفقه، فذلك بدعة حقيقة لا إضافية؛ ولهذا الأصل

أمثلة كثيرة وقعت الإشارة إليها في أثناء الكلام، فلا معنى للتكرار.

وإذا ثبت في الأمور المشروعة أنها قد تعد بدعًا بالإضافة، فما ظنك بالبدع

الحقيقية؟ فإنها قد تجتمع فيها أن تكون حقيقية وإضافية معًا، لكن من جهتين، فإذًا

بدعة (أصبح ولله الحمد) في نداء الصبح ظاهرة. ثُم لمّا عمل بها في المساجد

والجماعات مواظبًا عليها لا تترك كما لا تترك الواجبات وما أشبهها، كان تشريعًا

أولاً يلزمه أن يعتقد فيها الوجوب أو السنّية، وهذا ابتداع ثانٍ إضافي؛ ثُم إذا اعتقد

فيها ثانيًا السنية أو الفرضية صارت بدعة من ثلاثة أوجه. ومثله يلزم في كل بدعة

أظهرت والتزمت، وأما إذا خفيت واختص بها صاحبها فالأمر عليه أخف؛ فيا لله ويا

للمسلمين! ماذا يجني المبتدع على نفسه مما لا يكون في حسابه!! وقانا الله

شرور أنفسنا بفضله.

***

فصل

من تمام ما قبله

وذلك أنه وقعت نازلة: إمام مسجد ترك ما عليه الناس بالأندلس من الدعاء

للناس بآثار الصلوات بالهيئة الاجتماعية على الدوام - وهو أيضًا معهود في أكثر

البلاد، فإن الإمام إذا سلم من الصلاة يدعو للناس ويؤمن الحاضرون - وزعم

التارك أن تركه بناء منه على أنه لم يكن من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم،

ولا فعل الأئمة بعده، حسبما نقله العلماء في دواوينهم عن السلف والفقهاء. أما إنه

لم يكن من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فظاهر؛ لأن حاله عليه السلام

في أدبار الصلوات مكتوبات أو نوافل - كانت بين أمرين: إما أن يذكر الله تعالى

ذكرًا هو في العرف غير دعاء، فليس للجماعة منه حظ، إلا أن يقولوا مثل قوله أو

نحوًا من قوله كما في غير أدبار الصلوات، كما جاء أنه كان يقول في دبر كل

صلاة: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء

قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد) .

وقوله: (اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت وتعاليت يا ذا الجلال

والإكرام) . وقوله: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} (الصافات: 180)

الآية، ونحو ذلك، فإنما كان يقوله في خاصة نفسه كسائر الأذكار، فمن قال مثل

قوله فحسن؛ ولا يمكن في هذا كله هيئة اجتماع.

وإن كان دعاء فعامة ما جاء من دعائه عليه السلام بعد الصلاة مما سمع منه

إنما كان يخص به نفسه دون الحاضرين، كما في الترمذي عن علي بن أبي طالب

رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قام إلى الصلاة

المكتوبة رفع يديه - الحديث إلى قوله: ويقول عند انصرافه من الصلاة: (اللهم

اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت، أنت إلهي لا إله الا أنت)

حسن صحيح. وفي رواية أبي داود: كان رسول صلى الله عليه وسلم إذا سلم من

الصلاة قال: (اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما

أسرفت وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله الا أنت) .

وخرَّج أبو داود: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول دبر كل صلاة:

(اللهم ربنا ورب كل شيء أنا شهيد أن محمدًا عبدك ورسولك، اللهم ربنا ورب كل

شيء أنا شهيد أن العباد كلهم إخوة، اللهم ربنا ورب كل شيء اجعلني مخلصًا لك

وأهلي في كل ساعة في الدنيا والآخرة، يا ذا الجلال والإكرام اسمع واستجب، الله

أكبر الله أكبر، الله نور السموات والأرض، الله أكبر الله أكبر، حسبي الله ونعم

الوكيل) .

ولأبي داود في رواية [13] : (رب أعني ولا تعن علي، وانصرني ولا تنصر

علي، وأمكن لي ولا تمكن علي، واهدني ويسر هداي إليّ، وانصرني على مَن

بغى عليّ) - إلى آخر الحديث.

وفي النسائي أنه عليه السلام كان يقول في دبر الفجر إذا صلى: (اللهم إني

أسألك علمًا نافعًا، وعملاً متقبلاً، ورزقًا طيبًا) . وعن بعض الأنصار قال:

سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دبر الصلاة: (اللهم اغفر لي

وتب علي إنك أنت التواب الغفور) حتى يبلغ مائة مرة.

وفي رواية إن هذه الصلاة كانت صلاة الضحى.

فتأملوا سياق هذه الأدعية كلها مساق تخصيص نفسه بها دون الناس! فيكون

مثل هذا حجة لفعل الناس اليوم؟ إلا أن يقال: قد جاء الدعاء للناس في مواطن،

كما في الخطبة التي استسقى فيها، ونحو ذلك. فيقال: نعم، فأين التزام ذلك جهرًا

للحاضرين في دبر كل صلاة؟

ثُم نقول: إن العلماء يقولون في مثل الدعاء والذكر الوارد على إثر الصلاة:

إنه مُستحَب لا سنّة ولا واجب. وهو دليل على أمرين: (أحدهما) أن هذه

الأدعية لم تكن منه عليه السلام على الدوام. (والثاني) أنه لم يكن يجهر بها دائمًا

ولا يظهرها للناس في غير مواطن التعليم؛ إذ لو كانت على الدوام وعلى الإظهار

لكانت سنة، ولم يسع العلماء أن يقولوا فيها بغير السنة؛ إذ خاصيته - حسبما

ذكروه - الدوام والإظهار في مجامع الناس، ولا يقال: لو كان دعاؤه عليه السلام لم

يؤخذ عنه؛ لأنّا نقول: مَن كانت عادته الإسرار فلا بد أن يظهر منه، أو يظهر منه

ولو مرة، أمّا [14] بحكم العادة بقصد التنبيه على التشريع.

فإن قيل: ظواهر الأحاديث تدل على الدوام بقول الرواة: (كان يفعل) فإنه

يدل على الدوام كقولهم: (كان حاتم يكرم الضيفان) . قلنا: ليس كذلك؛ بل يطلق

على الدوام وعلى الكثير والتكرار على الجملة، كما جاء في حديث عائشة - رضي

الله عنها - أنه عليه السلام كان إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ وضوءه للصلاة.

وروت أيضًا أنه كان عليه السلام ينام وهو جنب من غير أن يمس ماء؛ بل قد

يأتي في بعض الأحاديث (كان يفعل فيما لم يفعله إلا مرة واحدة) ؛ نص عليه

أهل الحديث.

ولو كان يداوم [15] المداومة التامة للحق بالسنن كالوتر وغيره، ولو سلم:

فأين هيئة الاجتماع؟

فقد حصل أن الدعاء بهيئة الاجتماع دائمًا لم يكن من فعل رسول الله صلى الله

عليه وسلم. كما لم يكن من قوله ولا إقراره.

وروى البخاري من حديث أم سلمة أنه صلى الله عليه وسلم كان يمكث إذا سلم

يسيرًا. قال ابن شهاب: حتى ينصرف الناس فيما نرى. وفي مسلم عن عائشة

رضي الله عنها: كان إذا سلم لم يقعد إلا مقدار ما يقول: (اللهم أنت السلام ومنك

السلام. تباركت يا ذا الجلال والإكرام) .

وأما فعل الأئمة بعده فقد نقل الفقهاء من حديث أنس في غير كتب الصحيح:

صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم، فكان إذا سلم يقوم وصليت خلف أبي بكر

رضي الله عنه فكان إذا سلم وثب كأنه على رضفة (يعني الحجر المحمى) ونقل

ابن يونس الصقلي عن ابن وهب عن خارجة أنه كان يعيب على الأئمة قعودهم بعد

السلام، وقال: إنما كانت الأئمة ساعة تسلم تقوم. وقال ابن عمر: جلوسه بدعة.

وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: لأن يجلس على الرضف خير له من ذلك.

وقال مالك في المدونة: إذا سلم فليقم ولا يقعد إلا أن يكون في سفر أو في فنائه.

وعد الفقهاء إسراع القيام ساعة يسلم من فضائل الصلاة، ووجهوا ذلك بأن

جلوسه هنالك يدخل عليه فيه كبر وترفع على الجماعة، وانفراده بموضع عنهم

يرى به الداخل أنه إمامهم، وأما انفراده به حال الصلاة فضروري. قال بعض

شيوخنا الذين استفدنا منهم: وإذا كان هذا في انفراده في الموضع، فيكف بما

انضاف إليه من تقدمه أمامهم في التوسل به بالدعاء والرغبة وتأمينهم على دعائه

جهرًا، - قال - ولو كان هذا حسنًا لفعله النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه

رضي الله عنهم، ولم ينقل أحد من العلماء مع تواطئهم على نقل جميع أموره،

حتى: هل كان ينصرف من الصلاة عن اليمين أو عن الشمال.

وقد نقل ابن بطال عن علماء السلف إنكار ذلك والتشديد فيه على مَن فعله بما

فيه كفاية.

هذا ما نقله الشيخ بعد أن جعل الدعاء بإثر الصلاة بهيئة الاجتماع دائمًا بدعة

قبيحة، واستدل على عدم ذلك في الزمان الأول؛ بسرعة القيام والانصراف؛ لأنه

منافٍ للدعاء لهم وتأمينهم على دعائه، بخلاف الذكر ودعاء الإنسان لنفسه، فإن

الانصراف وذهاب الإنسان لحاجته غير منافٍ لهما. فبلغت الكائنة بعض شيوخ

العصر، فردي على ذلك الإمام ردًّا أمرع فيه على خلاف ما عليه الراسخون، وبلغ

من الرد - على زعمه - إلى أقصى غاية ما قدر عليه، واستدل بأمور إذا تأملها

الفطن عرف ما فيها، كالأمر بالدعاء إثر الصلاة قرآنًا وسنة، وهو كما تقدم لا

دليل فيه، ثُم ضم إلى ذلك جواز الدعاء بهيئة الاجتماع في الجملة إلا في أدبار

الصلوات، ولا دليل فيه أيضًا - كما تقدم لاختلاف المتأصلين. وأمّا في التحصيل

فزعم أنه ما زال معمولاً به في جميع أقطار الأرض أو في جُلِّها من الأئمة في

مساجد الجماعات من غير نكير إلا نكير أبي عبد الله، ثُم أخذ في ذمه. وهذا النقل

تهور بلا شك؛ لأنه نقل إجماع يجب على الناظر فيه والمحتج به قبل التزام عهدته

أن يبحث عنه بحث أصل عن الإجماع؛ لأنه لا بد من النقل عن جميع المجتهدين

من هذه الأمة من أول زمان الصحابة رضي الله عنهم إلى الآن. هذا أمر

مقطوع به. ولا خلاف أنه لا اعتبار بإجماع العوام وإن ادّعوا الإمامة.

وقوله: (من غير نكير) تجوز؛ بل ما زال الإنكار عليهم من الأئمة، فقد

نقل الطرطوشي عن مالك في ذلك أشياء تخدم المسألة، فحصل إنكار مالك لها في

زمانه، وإنكار الإمام الطرطوشي في زمانه، واتبع هذا أصحابه وهذا أصحابه.

ثُم القرافي قد عد ذلك من البدع المكروهة على مذهب مالك، وسلمه ولم ينكره

عليه أهل زمانه - فيما نعلمه - مع زعمه أن من البدع ما هو حسن.

ثُم الشيوخ الذين كانوا بالأندلس حين دخلتها هذه البدعة - حسبما يذكر بحول

الله - قد أنكروها، وكان من معتقدهم في ذلك أنه مذهب مالك. وكان الزاهد أبو

عبد الله بن مجاهد وتلميذه أبو عمران الميرتلي - رحمهما الله - ملتزمين لتركها،

حتى اتفق للشيخ أبي عبد الله في ذلك ما سنذكره إن شاء الله.

قال بعض شيوخنا رادًّا على بعض مَن نصر هذا العمل: فإنا قد شاهدنا العمل

الأئمة [16] الفقهاء الصلحاء المتبعين للسنة المتحفظين بأمور دينهم يفعلون ذلك أئمة

ومأمومين، ولم نر من ترك ذلك إلا من شذ في أحواله. فقال: وأما احتجاج منكر

ذلك بأن هذا لم يزل الناس يفعلونه فلم يأت بشيء؛ لأن الناس الذين يقتدى بهم ثبت

أنهم لم يكونوا يفعلونه. قال: ولما كانت البدع والمخالفات وتواطأ الناس عليها صار

الجاهل يقول لو كان هذا منكرًا لما فعله الناس. ثُم حكي أثر الموطأ (ما أعرف

شيئًا مما أدركت عليه الناس إلا النداء بالصلاة) - قال - فإذا كان هذا في عهد

التابعين يقول: كثرت الإحداثات؛ فكيف بزماننا؟ ثُم هذا الإجماع لو ثبت لزم منه

محظور؛ لأنه مخالف لما نقل عن الأولين من تركه، فصار نسخ إجماع بإجماع،

وهذا محال في الأصول.

وأيضًا فلا تكون مخالفة المتأخرين لإجماع المتقدمين على سنة حجة على تلك

السنة أبدًا، فما أشبه بهذه المسألة بما حكي عن أبي علي بشاذان [17] بسند يرفعه إلى

أبي عبد الله بن إسحاق الجعفري، قال: كان عبد الله بن الحسن - يعني ابن

الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم يكثر الجلوس إلى ربيعة، فتذاكروا

يومًا، فقال رجل كان في المجلس: ليس العمل هذا [18] فقال عبد الله: أرأيت إن

كَثُرَ الجهال حتى يكونوا هم الحكام، أفهم الحجة على السنة؟ فقال ربيعة: أشهد أن

هذا كلام أبناء الأنبياء؛ انتهى.

إلا أني أقول: أرأيت إن كثر المقلدون ثُم أحدثوا بآرائهم فحكموا بها، أفهم

الحجة على السنة ولا كرامة؟

ثُم عضد ما ادَّعاه بأشياء من جملتها (قوله) : ومن أمثال الناس (أخطئ مع

الناس ولا تصب وحدك أي إن خطأهم هو الصواب، وصوابك هو الخطأ.

قال: ومعنى ما جاء في حديث: (عليك بالجماعة فإنما يأكل القاصية)[19] فجعل

تارك الدعاء على الكيفية المذكورة مخالفًا للإجماع - كما ترى - وحض على اتباع

الناس وترك المخالفة لقوله عليه السلام: (لا تختلفوا فتختلف قلوبكم) وكل ذلك

مبني على الإجماع الذي ذكروا [20] .

إن الجماعة هم جماعة الناس كيف كانوا. وسيأتي معنى الجماعة المذكورة في

حديث الفرق، وأنها المتبعة للسنة وإن كانت رجلاً واحدًا في العالم.

قال بعض الحنابلة: لا تعبأ بما يعرض من المسائل ويدّعى فيها الصحة

بمجرد التهويل، أو بدعوى أن لا خلاف في ذلك. وقائل ذلك لا يعلم أحدًا قال فيها

بالصحة فضلاً عن نفي الخلاف فيها، وليس الحكم فيها من الجليات التي لا يقدر

المخالف [21]- قال - وفي مثل هذه المسائل قال الإمام أحمد بن حنبل: من ادعى

الإجماع فهو كاذب وإنما هذه دعوى كثير وابن علية يريدون أن يبطلوا السنن بذلك.

يعني أحمد أن المتكلمين في الفقه على أهل البدع إذا ناظرتهم بالسنن والآثار قالوا:

هذا خلاف الإجماع. وذلك القول الذي يخالف ذلك الحديث لا يحفظونه إلا عن

بعض فقهاء المدينة أو فقهاء الكوفة - مثلاً - فيدعون الإجماع من قلة معرفتهم

بأقاويل العلماء واجترائهم على رد السنن بالآراء، حتى كان بعضهم تسرد عليه

الأحاديث الصحيحة في خيار المجلس ونحوه من الأحكام فلا يجد لها معتصمًا إلا أن

يقول: هذا لم يقل به أحد من العلماء، وهو لا يعرف إلا أبا حنيفة أو مالكًا، لم

يقولوا بذلك، ولو كان له علم لرأى من الصحابة والتابعين وتابعيهم ممن قال بذلك

خلقًا كثيرًا.

ففي هذا الكلام إرشاد لمعنى ما نحن فيه، وأنها لا ينبغي أن ينقل حكم شرعي

عن أحد من أهل العلم إلا بعد تحققه والتثبت؛ لأنه مخبر عن حكم الله فإياكم

والتساهل؛ فإنه مظنة الخروج عن الطريق الواضح إلى البيّنات.

ثُم عد من المفاسد في مخالفة الجمهور أنه يرميهم بالتجهيل والتضليل، وهذا

دعوى من خالفه فيما قال، وعلى تسليمها، فليست بمفسدة على فرض اتباع السنة،

وقد جاء عن السلف الحض على العمل بالحق، وعدم الاستيحاش من قلة أهله.

وأيضًا فمَن شنّع على المبتدع بلفظ الابتداع فأطلق العبادة بالنسبة إلى

المجتمعين يوم عرفة بعد العصر للدعاء في غير عرفة - إلى نظائرها - فتشنيعه

حق كما يقوله بالنسبة إلى بشر المريسي ومعبد الجهني وفلان وفلان، ولا يدخل

بذلك - إن شاء الله - في حديث: (من قال: هلك الناس فهو أهلكهم) ؛ لأن

المراد أن يقول ذلك ترفعًا على الناس واستحقارًا، وأما إن قاله تحزنًا وتحسرًا فلا

بأس. قال بعضهم: ونحن نرجو أن نعرج على ذلك - إن شاء الله - فالاستدلال

به ليس على وجهه.

وعدّ من المفاسد الخوف من فساد نيته بما يدخل عليه من العجب والشهرة

المنهي عنها، فكأنه يقول: أترك اتباع السنة في زمان الغربة خوف الشهرة ودخول

العجب. وهذا شديد من القول وهم معارض بمثله؛ فإن انتصابه لا يكون داعيًا

للناس بإثر صلواتهم دائمًا مظنة لفسادِ نيّته بما يدخل عليه من العجب والشهرة،

وهو تعليل القرافي، وهو أولى في طريق الاتباع، فصار تركه للدعاء لهم مقرونًا

بالاقتداء، بخلاف الداعي فإنه في غير طريق مَن تقدم، فهو أقرب إلى فساد النية.

وعد منها ما يظن به مِن القول برأي أهل البدع القائلين بأن الدعاء غير نافع،

وهذا كالذي قبله؛ لأنه يقول للناس: اتركوا اتباع النبي صلى الله عليه وسلم

في ترك الدعاء بهيئة الاجتماع بعد الصلوات لئلا يظن بك [22] الابتداع. وهذا كما

ترى.

قال ابن العربي: ولقد كان شيخنا أبو بكر الفهري يرفع يديه عند الركوع

وعند رفع الرأس منه، وهو مذهب مالك والشافعي، وتفعله الشيعة. قال: فحضر

عندي يومًا في محرس أبي الشعراء بالثغر موضع تدريسي عند صلاة الظهر،

ودخل المسجد من المحرس المذكورة، فتقدم إلى الصف الأول ، وأنا في مؤخره على

طاقات البحر، أتنسم الريح من شدة الحر، ومعي في صف واحد أبو ثمنة رئيس

البحر وقائده في نفر من أصحابه ينتظر الصلاة، ويتطلع على مراكب المنار، فلما

رفع الشيخ الفهري يديه في الركوع وفي رفع الرأس منه، قال أبو ثمنة وأصحابه:

ألا ترى إلى هذا المشرقي كيف دخل مسجدنا، قوموا إليه فاقتلوه وارموا به في

البحر فلا يراكم أحد. فطار قلبي من بين جوانحي، وقلت: سبحان الله! هذا

الطرطوشي فقيه الوقت، فقالوا لي: ولم يرفع يديه؟ فقلت: كذلك كان النبي - صلى

الله عليه وسلم - يفعل وهو مذهب مالك في رواية أهل المدنية عنه، وجعلت

أسكتهم وأسكنهم حتى فرغ من صلاته، وقمت معه إلى المسكن من الحرس، ورأى

تغير وجهي فأنكره، وسألني فأعلمته فضحك، وقال: مِن أين لي أن أقتل على سنة؟

فقلت: ويحل لك هذا؟ فإنك بين قوم إن قمت بها قاموا عليك، وربما ذهب دمك

فقال: دع هذا الكلام وخذ في غيره.

فتأملوا في هذه القصة ففيها الشفاء؛ إذ لا مفسدة في الدنيا توازي مفسدة إماتة

النفس، وقد حصلت النسبة إلى البدعة، ولكن الطرطوشي رحمه الله يرى ذلك

شيئًا [23] فكلامه للاتباع [24] أولى من كلام هذا الراد؛ إذ بينهما في العلم ما بينهما.

وأيضًا فلو اعتبر ما قال لزام اعتباره بمثله في كل من أنكر الدعاء بهيئة

الاجتماع يوم عرفة في غير عرفه. ومنهم نافع مولى ابن عمر ومالك والليث

وعطاء وغيرهم من السلف، ولما كان ذلك غير لازم فمسألتنا كذلك.

ثُم ختم هذا الاستدلال الإجماعي بقوله: وقد اجتمع أئمة الإسلام في مساجد

الجماعات في هذه الأعصار في جميع الأقطار على الدعاء أدبار الصلاة، فيشبه أن

يدخل ذلك مدخل حجة إجماعية عصرية.

فإن أراد الدعاء على هيئة الاجتماع دائمًا لا يترك كما يفعل بالسنن - وهي

مسألتنا المفروضة - فقد تقدم ما فيه.

(انتهى الفصل والبحث طويل)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

كلمة (أصول) لا يظهر لما معنى هنا ولعلها أحوال.

(2)

الابتذال ضد الصون، وما يستعمل يبتذل، فالمراد استعمال النعم والطيبات والانتفاع بها ويستعمل الابتذال في لازمه وهو الامتهان والاحتقار، وليس بمراد هنا.

(3)

يقال: أفتأت على فلان افتئاتًا وافتات افتياتًا إذا تصرف بشيء من شؤونه بدون إذنه ولا رضاه.

(4)

لعل الأصل (فإنما) والجملة خبر قوله: (وكل ما جاء عنه المتقدمين) ويبعد أن يكون خبر المبتدأ قوله: (من الجهة) .

(5)

لعل أصله: السائرين أو المثابرين على المتابعة.

(6)

كذا ولا يظهر لهذه الكلمة هنا معنى، والمثل الذي ذكره ثابت في الصحيح هو أن ابن عباس أراد أن يعرف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الليل فبات عند خالته ميمونة في ليلتها، فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم من الليل قام معه واقتدى به فصلى إحدى عشرة ركعة فهي قيامه ووتره.

(7)

كذا في الأصل.

(8)

لعله (نقله) أو نقل ذلك.

(9)

كذا وصوابه (ابتداع) ؛ إذ لا تصح تسميته اتباعًا إلا بتمحل بعيد.

(10)

لعلها حوق بالواو، يقال: حوق عليه الكلام، إذا خلطه وأفسده عليه بحيث لا يفهم، أو لا يقرأ إذا كان مكتوبًا وهو من الحواقة أي الكناسة التي يختلط بما يكنس بعضها ببعض يقال حاق الدار بالمحوقة: كنسها ومما حفظته من صبيان المكتب إذ كنا نتعلم الخط (حوق) عليه أي السطر (مثلاً) أي رمجه أو جعل حوله خطًا ليعلم أنه غير مقصود وهو استعمال عربي وأما حرّق عليه بالراء فلا يظهر له معنى هنا إلا إذا كانوا استعملوا التحريق بمعنى برد المعدن بالمبرد في حك الحروف المكتوبة بمبراة القلم ولم أره.

(11)

لعله (على هذا الوجه) .

(12)

لعل الأصل (من هذا القبيل) أو (من هذا الوجه) وكتب في الأصل (فهي من هذه البدعة غير شرعية) ووضع فوق كلمة (البدعة) علامة الترميج.

(13)

حذف لفظ رواية من نسختنا.

(14)

يظهر أن العبارة تحريفا وحذفا ولعل الأصل: (فلا بد أن يظهر منه إما بحكم العادة وأما بقصد التنبيه على التشريع) .

(15)

أي على ما ذكر من الأدعية والأذكار ويوشك أن يكون قد سقط من الناسخ ما يدل على ذلك والمداومة والاجتماع لا تكون إلا لشعائر الدين وإنما تثبت الشعائر بعمل الرسول.

(16)

لعله (من الأئمة) .

(17)

شاذان لقب رجلين من رواة الحديث أحدهما الأسود بن عامر أبو عبد الرحمن الشامي نزيل بغداد مات سنة 208 وثانيهما عبد العزيز بن عثمان بن جبلة مات سنة 221 وظاهر أن في عبارة نسختنا تحريفًا.

(18)

لعل الأصل (ليس العمل على هذا) أي الذي تقولونه.

(19)

لفظ الحديث: (فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية) .

(20)

كذا في نسختنا، والظاهر أن الناسخ قد اسقط كلامًا من هذا الموضع وأقل ما يفهم به الكلام أن يقال:(وإن الجماعة) إلخ.

(21)

كذا في نسختنا، ولعله: لا يعذر المخالف بجهله.

(22)

المناسب لقوله: (اتركوا) أن يقول هنا (بكم) ويعبر عن هذه المعني بعبارة أخرى فيقال ابتدعوا بالفعل لئلا يظن باطلاً أنكم ابتدعتم أو اتركوا السنة بالفعل، لئلا تتهموا بتركها بسوء الظن.

(23)

كذا في نسختنا، والسياق يقتضي النفي أي كان لا يرى ذلك شيئًا - وإلا ظهر أن تكون العبارة: لم ير ذلك شيئًا.

(24)

لعله بالاتباع.

ص: 433

الكاتب: ابن القيم الجوزية

حظر الشحاذة والسؤال والذل لغير الله

فصل من فصول‌

‌ كتاب

(مدارج السالكين بين منازل

إياك نعبد وإياك نستعين)

للإمام المحقق ابن القيم ذكره في بحث منزلة الرضاء بالله ومن الله فحرر

المسألة به تحريرًا كعادته، قال أجزل الله ثوابه:

(فصل) والمسألة في الأصل حرام؛ وإنما أبيحت للحاجة والضرورة؛ لأنها

ظلم في حق الربوبية وظلم في حق المسئول، وظلم في حق السائل.

(أما الأول) فلأنه بذل سؤاله وفقره وذله واستعطاءه لغير الله، وذلك نوع

عبودية، فوضع المسألة في غير موضعها وأنزلها بغير أهلها، وظلم توحيده

وخلاصه وفقره إلى الله وتوكله عليه ورضاءه بقسمه، واستغنى بسؤال الناس عن

مسألة رب الناس، وذلك كله يهضم من التوحيد ويطفئ نوره ويضعف قوته.

(وأما ظلمه للمسئول) فلأنه سأله ما ليس له عنده، فأوجب له بسؤاله عليه

حقًّا لم يكن له عليه، وعرضه لمشقة البذل أو لوم المنع، فإن أعطاه أعطاه على

كراهة، وإن منعه منعه على استحياء وإغماض، هذا إذا سأله ما ليس عليه، وأما

إذا سأله حقًّا هو عنده لم يدخل في ذلك، ولم يظلمه بسؤاله.

(وأما ظلمه لنفسه) فإنه أراق ماء وجهه، وذل لغير خالقه، وأنزل نفسه

أدنى المنزلتين، ورضي لها بأبخس الحالتين، ورضي بإسقاط شرف نفسه وعزة

تعففه وراحة قناعته، وباع صبره ورضاءه وتوكله وقنعه بما قسم له واستغناءه عن

الناس بسؤالهم، وهذا عين ظلمه لنفسه؛ إذ وضعها في غير موضعها، وأخمل

شرفها، ووضع قدرها، وأذهب عزها، وصغرها وحقرها، ورضي أن تكون نفسه

تحت نفس المسئول، ويده تحت يده، ولولا الضرورة لم يبح ذلك في الشرع. وقد

ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: قال

رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم

القيامة ليس في وجهه مزعة لحم) . وفي صحيح مسلم عن [1] أبي هريرة رضي الله

عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سأل الناس أموالهم تكثرًا،

فإنما يسأل جمرًا فليستقل أو ليستكثر) . وفي الصحيحين عن أبي هريرة - رضي

الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده لأن

يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير له من أن يأتي رجلاً فيسأله، أعطاه أو

منعه) . وفي صحيح مسلم عنه أيضًا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(لأن يغدو أحدكم فيحطب على ظهره فيتعمق به، ويستغني به عن الناس خير له من

أن يسأل رجلاً، أعطاه أو منعه ذلك فإن [2] اليد العليا خير [3] من اليد السفلى،

وابدأ بمن تعول - زاد الإمام أحمد - ولأن يأخذ ترابًا فيجعله في فيه خير له من أن

يجعل في فيه ما حرم الله عليه) . وفي صحيح البخاري عن الزبير بن العوام -

رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لأن يأخذ أحدكم حبله

فيأتي بحزمة من الحطب على ظهره فيبيعها فيكف الله بها [4] وجهه خير له من أن

يسأل الناس أعطوه أو منعوه) . وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري - رضي

الله عنه - أن ناسًا من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم،

ثُم سألوه فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم؛ حتى نفد ما عنده، فقال لهم حين أنفق

كل شيء بيده: (ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم، ومَن يستعفف [5] يعفه

الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء خيرًا

وأوسع من الصبر) . وعن عبد الله بن عمر [6] أن رسول الله - صلى الله عليه

وسلم - قال وهو على المنبر، وذكر الصدقة والتعفف عن المسألة [7] : (اليد العليا

خير من اليد السفلى، فاليد العليا هي المنفقة واليد السفلى هي السائلة) . رواه

البخاري ومسلم.

وعن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: سألت رسول الله - صلى الله

عليه وسلم - فأعطاني، ثُم سألته فأعطاني ثُم قال: (يا حكيم! إن هذا المال

خضرة حلوة، فمَن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف [8] نفس لم

يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى) .

قال حكيم: فقلت: يا رسول الله والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحدًا بعدك شيئًا حتى

أفارق الدنيا. وكان أبو بكر رضي الله عنه يدعو حكيمًا إلى العطاء فيأبى أن

يقبله منه، ثم إن عمر رضي الله عنه دعاه ليعطيه فأبى أن يقبل منه شيئًا،

فقال عمر: إني أشهدكم يا معشر المسلمين على حكيم أني أعرض عليه حقه من هذا

الفيء، فيأبى أن يأخذه فلم يرزأ حكيم أحدًا من الناس بعد رسول الله - صلى الله

عليه وسلم - حتى توفي. متفق على صحته.

وعن الشعبي قال:حدثي كاتب المغيرة بن شعبة، قال: كتب معاوية إلى المغيرة

ابن شعبة أن اكتب إليّ شيئًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكتبت إليه:

سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله كره لكم ثلاثًا؛ قيل وقال،

وإضاعة المال، وكثرة السؤال) . رواه البخاري ومسلم. وعن معاوية قال: قال

رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تلحفوا في المسألة فوالله لا يسألني أحد منكم

شيئًا فتخرج له مسألته مني شيئًا وأنا له كاره فيبارك له فيما أعطيته) - وفي لفظ-

(إنما أنا خازن فمَن أعطيته عن طيب نفس يبارك له فيه، ومن أعطيته عن

مسألة وشره كان كالذي يأكل ولا يشبع) . رواه مسلم.

وعن أبي مسلم الخولاني قال: حدثني الحبيب الأمين - أما هو فحبيب إليّ،

وأما هو عندي فأمين - عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: كنا عند

رسول الله صلى الله عليه وسلم، تسعة أو ثمانية أو سبعة؛ فقال: (ألا تبايعون

رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ - وكنا حديثي عهد ببيعة - فقلنا: قد بايعناك يا

رسول الله، قال: ألا تبايعون رسول الله؟ فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، ثم قال:

ألا تبايعون رسول الله؟ قال: فبسطنا أيدينا وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله فعلام

نبايعك؟ قال: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، والصلوات [9] الخمس وتطيعوا

الله - وأسر كلمة خفية - ولا تسألوا الناس شيئًا فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط

سوط أحدهم فما يسأل أحدًا يناوله إياه) رواه مسلم.

وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله

عليه وسلم: (إن المسألة كدٌ يكدّ بها الرجل وجهه إلا أن يسأل الرجل سلطانًا أو في

أمر لا بد منه) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.

وفي مسند الإمام أحمد عن زيد بن عقبة الفزراي، قال: دخلت على الحجاج بن

يوسف الثقفي فقلت: أصلح الله الأمير، ألا أحدثك حديثًا سمعته من سمرة بن

جندب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: بلى، قال: سمعته يقول:

(المسائل كدٌّ يكد بها الرجل وجهه، فمن شاء أبقى على وجهه ومن شاء ترك، إلا أن

يسأل رجل ذا سلطان، أو يسأل في أمر لا بد منه) .

وعن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يتقبل لي

بواحدة أتقبل [10] له بالجنة - قلت: أنا - قال: لا تسأل الناس شيئًا) فكان ثوبان يقع

سوطه وهو راكب فلا يقول لأحد ناولنيه، حتى ينزل هو فيتناوله. رواه الإمام

أحمد وأهل السنن. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله

عليه وسلم: (من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن أنزلها بالله أوشك

الله له بالغنى، إما بموت عاجل أو غنى عاجل) رواه أبو داود والترمذي وقال

حديث حسن صحيح [11] .

وعن سهل ابن الحنظلية قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم عيينة

بن حصن والأقرع بن حابس فسألاه فأمر لهما بما سألا، وأمر معاوية فكتب لهم بما

سألا، فأما الأقرع فأخذ كتابه فلفه في عمامته وانطلق، وأما عيينة فأخذ كتابه فأتى

النبي صلى الله عليه وسلم بكتابه، فقال: يا محمد أراني حاملاً إلى قومي كتابًا لا

أدري ما فيه كصحيفة المتلمس، فأخبر معاوية بقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم،

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سأل وعنده [12] ما يغنيه فإنما يستكثر

من النار - وفي لفظ آخر من جمر جهنم، قالوا: يا رسول الله! وما يغنيه؟ - وفي

لفظ - وما الغنى الذي لا تنبغي معه المسألة؟ قال: قدر ما يُغَدِّيه ويعشِّيه - وفي لفظ - أن يكون له شبع يوم وليلة) رواه أبو داود والإمام أحمد.

عن أبي الفراس [13] قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أسأل يا رسول

الله؟ قال (لا، وإن كنت سائلاً لا بد فسل [14] الصالحين) رواه النسائي.

وعن قبيصة بن مخارق الهلالي، قال: تحملت حمالة فأتيت النبي - صلى

الله عليه وسلم - أسأله؛ فقال: (أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها. قال: ثم قال:

يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة

حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى

يصيب قوامًا من عيش، أو قال: سدادًا من عيش، ورجل أصابته فاقة؛ حتى يقول

ثلاثة من ذوي الحجى من قومه: لقد أصابت فلانًا فاقة فحلت له المسألة حتى

يصيب قوامًا من عيش - أو قال: سدادا من عيش - فما سواهن من المسألة

يا قبيصة سحتًا يأكلها صاحبها) رواه مسلم.

وعن عائذ بن عمرو: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فسأله

فأعطاه، فلما وضع رجله على أسكفة الباب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

لو يعلمون ما في المسألة ما مشى أحد إلى أحد يسأله شيئًا) رواه النسائي.

وعن مالك بن نضلة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الأيدي

ثلاثة - فيد الله العليا، ويد المعطي التي تليها، ويد السائل السفلى - فأعط الفضل

ولا تعجز عن نفسك) رواه الإمام أحمد وأبو داود.

وعن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سأل مسألة وهو

عنها غني كانت شيئًا في وجهه يوم القيامة) رواه الإمام أحمد. وعن عبد الرحمن

بن عوف رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

(ثلاثٌ والذي نفس محمد بيده إن كنت لحالفًا عليهن: لا ينقص مال من صدقة،

فتصدقوا، ولا يعفو عبد عن مظلمة يبتغي بها وجه الله إلا رفعه الله بها، ولا يفتح

عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر) رواه الإمام أحمد.

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سرحتني أمي إلى رسول

الله صلى الله عليه وسلم أسأله. فأتيته فقعدت؛ قال: فاستقبلني فقال: (من

استغنى أغناه الله، ومن استعفّ أعفّه الله، ومن استكفى كفاه الله، ومن سأل وله قيمة

أوقية فلقد ألحف) فقلت: ناقتي هي خير من أوقية، ولم أسأله. رواه الإمام أحمد

وأبو داود [15] .

وعن خالد بن عدي الجهني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من جاءه من

أخيه معروف من غير إشراف ولا مسألة فليقبله ولا يرده؛ فإنما هو رزق ساقه الله

إليه) رواه الإمام أحمد.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

في الحجازية (عنه أيضًا) وهو الحديث الآتي (لأن يغدو أحدكم

إلخ) . فحذف منها حديثان.

(2)

في نسختنا والبغدادية (بأن) وفي الحجازية (فإن) .

(3)

في البغدادية (أفضل) .

(4)

حذف من الحجازية اسم الجلالة.

(5)

في غير الحجازية (يستعف) .

(6)

وفي غيرها (ابن عامر) وهو غلط.

(7)

وفي غيرها (والمسألة) .

(8)

في البغدادية (بإسراف) والرواية بالمعجمة. معنى الإشراف التطلع إلى الشيء بحرص.

(9)

في البغدادية (وتقيموا الصلوات) .

(10)

كان نص نسختنا (وأتقبل) .

(11)

حذف من البغدادية - لفظ حسن -

(12)

في البغدادية (وله) بدل (وعنده) .

(13)

في البغدادية (وعند ابن الفراس أن الفراس) والصواب (وعن ابن الفراسي أن الفراسي) وفي الإصابة أن البخاري سمّاه فرسًا. وأطلق عليه غيره لفظ الفراسي. فقيل: هو اسم، وقيل: نسب والاسم مجهول، وعزي الحديث إلى ابن ماجهْ وابن حبان، أقول: وهو في أبي داود أيضًا.

(14)

وفيها (فاسأل) .

(15)

هذا الحديث لم يخرجه أبو داود؛ وإنما أخرج حديثه المتفق عليه في سؤال الأنصار وتقدم في ص 130 وأما هذا الحديث فعزاه الحافظ في الفتح إلى النسائي. ولعل هذا من سهو النساخ لا المصنّف؛ إذ رأيت في هذه الأحاديث أغلاطًا كثيرة صححتها على الأصول.

ص: 455

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تشريف أمير البلاد

مدرسة دار الدعوة والإرشاد

إن عناية مولانا عزيز مصر العباس (أيده الله تعالى) برفع منار العلم

والعرفان، مما سارت به الركبان، وعرف فضله فيه الثقلان، وقد أدرك - حفظه

الله - بنور بصيرته الثاقب؛ أن التعليم الذي شيد لمعاهده أركانها، وأقام من

مدارسه بنيانها - لا تصلح به حال الأمة إلا إذا قرن بالتربية العملية، وتهذيب

الأخلاق في المدارس الداخلية، ولما وقف على مشروع مدرسة دار الدعوة الإرشاد،

ورأى قواعد نظامها قائمة على هذا الأساس، أظهر ميله الشريف إليها،

واستحسانه لطريقتها، وقد أراد في هذه الأيام أن يظهر للأمة ميله إليها، وعنايته

السامية بها، تشجيعًا للقائمين بأمر المدرسة على عملهم، وإرشادًا لمحبّي الخير إلى

شد أزرهم فأظهر لناظر المدرسة عزمه الشريف على زيارتها في ضحوة يوم

الاثنين (2 جمادى الآخرة) وأنه يحبّ أن يراها كما هي من غير زينة ولا كلفة،

ولم يأذن لي بدعوة أحد إلى استقباله فيها؛ إلا من حضر من أعضاء جماعتها.

وكان ذلك اليوم قد ضرب موعدًا لاجتماع مجلس النظار في الساعة العاشرة

صباحًا، وموعد خروج الأمير من قصر القبة رأس الساعة التاسعة. فكان اجتهاد

رجال التشريفات أنه يشرف قصر عابدين أولاً ثم يؤم المدرسة منه، وإن مدة مكثه

في المدرسة تكون من عشر دقائق إلى 15 دقيقة.

ولما تشرفت يوم السبت الماضي بتهنئته بعيد مولده السعيد في المقابلة العامة

تفضل بإجلاسي بجانبه وقال لي عند الانصراف إنه سيخرج من قصر القبة على

رأس الساعة التاسعة ويقصد المدرسة توًّا، فاستبشرت حينئذٍ بأن مدة تشريفه

ستكون طويلة.

وفي ضحوة ذلك اليوم الميمون جاء المدرسة صاحب العزة محمد بك فهمي

التشريفاتي الأول فتعهد المدرسة والطريق الموصل إليها، وكان قد تعهد الطريق

غيره من رجال المعية السنية وكذا مهندس السيارات، ثم جاءت فصيلة من العسكر

المصري ووقفت عند طريق المدرسة الخاص لأداء السلام العسكري لسموه.

ولما كان تمام الساعة التاسعة جاء نبأ المسرة بلسان المِسرَّة (التلفون) من

قصر القبة بأن الركاب العالي قد تحرك، وكان قد جاء المدرسة لاستقبال سموه

صاحب الفضيلة السيد عبد الحميد البكري رئيس جماعة الدعوة والإرشاد، وكل من

الأستاذ الشيخ محمد المهدي المدرس بمدرسة القضاء الشرعي والأستاذ الشيخ عبد

الوهاب النجار المدرس بمدرسة البوليس، وأصحاب العزة محمود بك سالم ومحمود

بك صادق ومحمد بك لبيب البتانوني وعبد الله بك فائق والطبيب محمد توفيق

أفندي صدقي من أعضاء جماعة الدعوة والإرشاد، وشقيقي السيد صالح رضا،

فخفّ الجميع مع محمد بك فهمي إلى باب حديقة المدرسة، ووقفنا خارجه، وبعد

ربع ساعة من نبأ المسرة وصل سموه إلى المدرسة في سيارة كهربائية تسابق البرق،

فصافح المستقبلين كما هو دأبه الشريف، وكان مع سموه رئيس حجاب معيته

السنية، وجاء أيضًا صاحب السعادة علي باشا ذو الفقار محافظ العاصمة وحده

ليكون في خدمته مدة زيارته للمدرسة.

ثم دخل سموه المدرسة فكان أول شيء رآه وتعاهده فيها مسجدها في الطبقة

الأولى منها. ثم صعد إلى الطبقة الثانية فشرف حجرة الناظر أولاً، ثم حجرة

المعلمين. فقَدَّمْتُ له المعلمين واحدًا بعد واحد، فكان يسأل كل واحد عن العلم الذي

يُدرّسه وعن عدد دروسه، ثم دخل حجرة السنة التمهيدية، فبينت لسموه أجناس

الطلبة بالإشارة إليهم فكان يسأل: أين كانوا قبل الانتساب إلى المدرسة، وعن

درجة فهم الأعاجم منهم للعربية ونطقهم بها، فاستأذنته بسماع إلقاء طالب هندي

لبعض محفوظه من الشعر العربي فأذن. فقام الطالب عبد الله خدايا وأنشد بلسانٍ

فصيح أبيات أبي تمام التي أولها:

يا صاحِبَيَّ تَقَصَّيا نَظَرَيْكُما

تَرَيا وجوهَ الرّوض كيف تصوّر

تريا نهارًا مشمسًا قد شابه زهر الربي فكأنما هو مقمر

فأعجبه إنشاده وإلقاؤه وفصاحة لسانه. ثم عرضتُ على مسامع سموه أن

بعض الطلبة قد نظموا - على ضيق الوقت - شيئًا من الشعر ترحيبًا بتشريفه:

فهل يإذن بإنشاد شيء منها؟ فأذن فأنشدوا ما سيذكر بعد، وهو واقف يسمع، وقد

جبر قلوب المنشدين بإشارة الرضا والاستحسان. ثم مرّ سمّوه من وسطهم متفرسًا

فيهم، ودخل حجرة السنة الأولى، فاستأذن الطالب الأول فيها وهو محمد أبو

زيد وأنشد هذين البيتين:

شرفت دار المرشدين يا مليـ كًا نورت أضواؤه لمن سلك

عباسنا في رفع شأن شعبه

لم يأل جهدًا فهو خير مَن ملك

وكان بعض الطلبة من هذه الفرقة قد نظموا شيئًا من الشعر أيضًا فلم أر من

الذوق استئذان سموه بإنشاده.

ثم إنه - حفظه الله تعالى - سألني عن جميع الدروس التي يتلقونها، وأمر

أن يسألهم معلم اللغة الإنكليزية أمامه بعض الأسئلة، وأن يطلعه على خطوطهم

وترجمتهم ففعل، ونطق - حفظه الله تعالى - بكلمات من الحكمة في

منافع لغات العلم الأوربية وحاجة طلاب هذه المدرسة إليها في هذا العصر.

ثم عاد إلى حجرة ناظر المدرسة فاستأذنته بإلقاء بعض ما يخالج القلب من

واجب الشكر والدعاء؛ فأذن فألقيت ما سيذكر بعد، وهو حفظه الله واقف والجميع

وقوف في خدمته، فتكرم بكلمة القبول المؤذنة بتواضعه المعهود، وأظهر استحسانه

لكل ما رأى. ووعد بأن يزور المدرسة في كل سنة. ودعا الله تعالى بأن يراها

تزداد تقدمًا وارتقاءً في كل عام.

فشكرت له هذا بما يليق بالمقام، وأطلعته على دفاتر ذات جداول وضعناها

في هذا العام لتكون سجلات لتاريخ الطلبة في تربيتهم وتعليمهم، تحصى فيها

درجات الامتحانات المختلفة، وأنواع المخالفات والعقاب عليها، وغير ذلك،

فأظهر استحسانه لها.

ثم إنه نزل إلى الطبقة الأولى فتفقد حجرات النوم والطعام، والمتوضأ والحمام،

فأعجبه كل ذلك. وعلم برؤية ذلك أننا جددنا عمارة في المدرسة لم تكن؛ فسأل

عن ذلك فذكرتُ لسموه ما جددناه فيها. وسأل عن إجارتها وأجرتها وكم بقي لنا من

مدتها، فأجبته عن ذلك، وقد كرر عبارات استحسان المكان في بنائه وموقعه،

فذكر ذلك في بدء الدخول وعند إرادة الخروج.

وبعد أن أتم بحثه وتفتيشه بدقة يعجز عن مثلها أمهر المفتشين خرج مشيعًا

بالقلوب والأجسام؛ حتى إذا ما بلغ باب حديقة المدرسة ودع المشيعين وودعوه

بتقبيل يده الكريمة. وأراد أن يمشي في الشمس إلى الشارع العام، فلما رآنا نريد

المشي في خدمته ركب سيارته، وأمر سعادة محافظ العاصمة بالركوب معه،

وانصرف والألسنة تلهج بحمده والدعاء له وكانت الساعة بلغت 10و5 دقائق.

وعلى أثر ذلك تألف وفد من رئيس الجماعة والشيخ محمد المهدي والشيخ عبد

الوهاب النجار وكاتب هذه السطور (ناظر المدرسة) لأداء واجب الشكر إلى سموّه،

فجئنا قصر عابدين، فأبلغنا رجال التشريفات أن موعد انعقاد مجلس النظار قد

حان، فلا وقت لمقابلة سموه الآن. فاكتفينا بكتابة أسمائنا في الدفتر كما هي العادة

المتبعة.

ثم إن كاتب هذه السطور أمّ قصر عابدين مرة أخرى في أصيل ذلك اليوم

فتكرم الجناب العالي بمقابلته مقابلة خاصة، فأديت ما يجب من الشكر بلساني ولسان

إخواني، وتفضل - أيده الله تعالى - بإبداء سروره من زيارة المدرسة ورضاه عنها،

وببعض الأوامر الإرشادية المتعلقة بها وبما تبرع به لها، فخرجت حامدًا شاكرًا

داعيًا. أما ما تبرّع به لها فهو خمسمائة جنيه مصري. وما يرجى من عنايته وبرّه

فوق ذلك، أدام الله توفيقه وتأييده، آمين.

***

كلمة الدعاء والشكر

التي وجهها إلى سمو أمير البلاد ناظر مدرسة دار الدعوة والإرشاد [1] وهو واقف بين يديه في حجرته من المدرسة

مولانا العزيز العظيم:

ليس في طاقتنا ولا في طاقة الأمة أن تقوم بما يجب لك من الإجلال والتكريم،

بتشريفك هذا المعهد الإسلامي من معاهد التربية والتعليم، ولكن لسان كل منا يردد

قول البوصيري:

ما له حيلة سوى حيلة العا

جز إما توسل أو دعاء

فنقول: أعز الله بك - أيها العزيز - الإسلام، ورفع بهمتك منار العلم

والعرفان، وأحيا بهديك السنة، وجدد بعنايتك مجد الأمة.

نحمد الله تعالت أسماؤه ثم نحمدك، ونشكره جل ثناؤه ثم نشكرك، ولو كبر

عن الثناء محسن لكبرت يا مولاي عن الحمد، ولو جل عن شكر الصنيعة منعم

لجلت صنائعك عن الشكر.

فأنت أنت الذي انفردت - دون أمراء المسلمين - بالجمع بين المدنية

الصحيحة وإقامة شعائر الدين. ففي أوربا تزاحم بمنكبك مناكب أعاظم الملوك،

وفي حرم الله ورسوله يزاحمك بمنكبه البدوي والصعلوك.

وأنت أنت الذي أفضت المال والنظام على معاهد العلم الدينية، ولم تنس من

فيضك مدارس الفنون الدنيوية، ولم ترض بما رفعت من شأن الأزهر حتى أنشأت

أزهرًا ثانيًا في مدينة الإسكندرية، كما نفخت روح الثقة في جسم الجامعة المصرية،

بإعانتك المالية وعنايتك المعنوية.

وأنت أنت الذي رقيت بعلمك وعملك الزراعة، وجددت في قطرك السعيد

أعمال الصناعة، ووسعت بهديك دائرة التجارة.

تفعل كل هذا بحق، بما آتاك الله من الهمة العلية، وتجري فيه على عرق،

بالوراثة المحمدية العلوية.

فأنت أنت الذي لله ما فعلا

وأنت أنت الذي لله ما صنعا

وأنت أنت الذي لله ما وصلا

وأنت أنت الذي لله ما قطعا

ولكن: هل رضيت نفسك الكبيرة بكل هذا ووقفت همتك العلية عنده؟ كلا!

أنت - أيدك الله بروح منه - قد توجهت إلى ما وراءه من الإصلاح الاجتماعي والسياسي، والإصلاح الديني الروحي.

أما الأول: فقد أشهدت الشرق والغرب - وكفى بالخافقين شاهدي عدل - على

أنك تريد أن تشاركك أمتك في سلطتك الذاتية، وتجعل حكومتك حكومة نيابية، ولا

تزال تمهد لذلك السبيل، وتمزج مع الأمة من كل قبيل، وهذه رحلتك الميمونة

المباركة التي أزمعتها، آية بينة على إحيائك سنة الراشدين في احترام الأمة

ومعاشرتها، ومحبتها والتحبب إليها [2] .

وأما الثاني: فهو عنايتك بأمر هذه المدرسة ورغبتك في نجاحها، على علم

منك بأنها تقوم في الإسلام بخدمة لا يغني غيرها غناءها، من حيث إنها رباط

لتربية الأخلاق، والآداب الإسلامية، على ما كان عليه السلف الصالح وقدماء

الصوفية، ومعهد لتعليم العلوم الدينية، وما يحتاج إليه المرشدون والدعاة من العلوم

الكونية والعقلية، وإن الغرض منها إحياء دعوة الإسلام والدفاع عنه بحسب ما

تقتضيه حال العصر، وإرشاد عامة المسلمين إلى ما يصلح به أمر دينهم ودنياهم،

ويجارون به غيرهم ويعيشون عيشة الوفاق مع من عداهم.

وإن ارتباط جماعة الدعوة والإرشاد بمشيخة الطرق الصوفية مما يمهد السبيل

للمرشدين الذين يتخرجون في هذه المدرسة لإصلاح شؤون العامة؛ لأن أكثر العامة

تنتمي إلى طرق الصوفية، فإذا انبث المرشدون المستعدون بالتأثير بالوعظ

والخطابة في هؤلاء الناس، وعهدت إليهم المشيخة الصوفية بإرشادهم وتعليمهم.

فالمرجو بحسب سنة الله تعالى في تأثير الدين في النفوس أن يصلح حالهم في أقرب

وقت، وبذلك تقل الجرائم والجنايات، والتعديات على الزرع والبهائم والناس، بعد

أن أعيا الحكومة أمرها، وحارت في الوسائل التي تقللها، فعنايتك يا مولانا بهذه

المدرسة ستكون عهد إصلاح جديد للأمة والبلاد؛ إن شاء الله تعالى.

هذا ولولا أن أشق على مولاي بإطالة الوقوف لأطلت القول بحمده وشكره،

وشرح ما أعتقد من الخير والنفع للأمة بعنايته وبره؛ ولكنني أكتفي بما في القلب،

وما في القلب كثير.

***

القصائد والمقاطيع التي أنشدها الطلاب

على مسامع مولانا الأمير

القصيدة الأولي لمحمد أفندي الشريقي اللاذقي من الطلاب المستمعين في القسم

الخارجي الذين يختلفون إلى المدرسة في هذا العام، وهو حسن الإلقاء والإنشاد،

وكنت أشرت إليه بعد إنشاد أبيات من الغزل أن يختصر منه، تفاديًا من طول

وقوف مولانا العزيز على قدميه، فأشار أعزه الله - وإشارته أمر مطاع، وحكم لا

يقرن إلا بالتنفيذ والاتباع - بأن يتم الطالب إنشاده فأتمه، وهذا نص قصيدته:

بلابل الروض بالتغريد تطربنا

وبالنواح حمام الروض يشجينا

وما أحيلى نسيمات الصبا سحرًا

رسائل الحب نهديها وتهدينا

والطل يحنو على الأزهار بلثمها

حسبته والهًا بالحب مفتونا

وقفت أرنو إلى الأزهار مبتسما

لله يا زهر ما أحلى تدانينا

وقفت والقلب لا يدري محجته

أيعشق الورد أم يهوى الرياحينا

حتى إذا ما بدت والغصن قامتها

مليكة الروض عن بعدٍ تحيّينا

شعرت أن الهوى قد دبّ في كبدي

يا وَجْدُ رفقًا بأكباد المحبنيا

رنت إليّ بطرف زانه حورٌ

فالوجه يجذبنا والطرف يرمينا

راقت ورقت فلما جئتها ولهًا

قطفت من خدها ورداً ونسرينا

***

دع الخيال خيال الشعر ما خطرت

بنت الحقيقة تجلى في مغانينا

ما ذلك الروض عندي غير مدرسة

وما أزاهرها إلا المريدينا

وما مليكة ذاك الروض باسمةً

إلا مثال حياة العلم تحيينا

حياة مدرسة نقضي مراحلها

والدرس رائدنا والجد حادينا

تنير أذهاننا تعلي مداركنا

فلا يلذّ لنا إلا تآخينا

كم قربت بيننا سقيًا لعاملها

وأشرق النور وانجابت ليالينا

حياة مدرسة قلبي بها ولِهٌ

سلوت في حبها الغزلان والعينا

حياة مدرسة تذكي قرائحنا

نظل من بعدها غُرًّا ميامينا

نبغي الحقائق مهما عز مطلبها

نقدس العقل والوجدان والدينا

***

أرى بأفق العلا نورًا يجللنا

لله نور أضاء اليوم نادينا

نور الأمير الذي قد عمّ نائله

وغيث نعمائه أورى مغانينا

فاسجع حمام الحمى وأطرب بلا ملل

واهتف لعباسنا واحمد خديوينا

إني أرى مصر في أيام دولته

بغدادنا وأرى العباس هارونا

والنيل يجري فراتًا في كنانته

وما وردناه إلا راح يروينا

مولاي إني عشقت العلم من صغر

ولا أزال بحب العلم مفتونا

وأنت خير أمير شاد معهده

وقام للعلم والتحصيل يدعونا

لذا سكنت فؤادي دون ما عجب

وكنت أفضل من أحيا أمانينا

هذا فؤادي بإخلاصٍ أقدمه

على وفائي إلى مولاي عربونا

***

ثم أنشد الطالب الشيخ أحمد كمال الغزي الطالب الداخلي في القسم التمهيدي

هذه القصيدة وجعل عنوانها (الترحيب) :

أهلاً بمن طلعت شموس سعوده

وفعاله تاج لكل زمان

أهلاً بمَن نال المعالي والذي

سهر الدجى لمصالح الأوطان

أهلاً بمن ملك النفوس وساسها

بالحزم فانقادت مع الأبدان

أهلاً بعباس الذي لولاه ما

نشرت علينا راية العرفان

فلأنت للإسلام أقوى ساعد

يسعى إلى الإصلاح والعمران

وأقمت صرح العلم والأدب الذي

أخنت عليه نوائب الحدثان

وأريتنا كيف الصعود إلى العلى

وعظمت حتى لا يرى لك ثان

لو تعرف الأبطال فعلك بالوغى

علموا بأنك فارس الميدان

أو يشهدونك في المكارم والندى

شهدوا بأنك نخبة الأزمان

ولقد نرى ملك البلاد كأنه

مَلَك بدا في صورة الإنسان

مولاي إن المسلمين كما ترى

ما بين مظلومٍ وبين مهان

والدين أنت نصيره وحفاظه

فارفع دعائمه على الأديان

وانهض فدار الرشد تعلي شأنه

تهدي القلوب بساطع البرهان

فمنارها للشرق أعظم مصلح

يحيي النفوس بمحكم القرآن

فأقم دعائمها وشيد ذكرها

فهي السبيل إلى هدى الإنسان

لا زلت عز المسلمين وكفهم

ما غرد القمري في الأفنان

***

ثم أنشد الطالب الداخلي في ذلك القسم الشيخ عبد السميع البطل هذه الأبيات:

أهذا كوكب أم ضوء صبح

أم القمر المنير أم الأمير

وذا ملك كريم أم مليك

أم العباس يعلوه السرور

هو العباس مولى كل خير

وطل عطائه بحر غزير

مليك القطر إنا قد بسطنا

إليك يدًا إلى الجدوى تشير

فنحن غراسكم نحيا إذا ما

سقاه ماء جودكم النمير

أترضى أن يكون لكل دين

دعاة في ممالكنا تسير

ولا يدعو إلى الإسلام داعٍ

ولا يبدي حقائقه بشير

أعباس هداة الناس أموا

علاك وملء قلبهم سرور

فأنت المرتجي لسداد أمر

وأنت لديننا نعم النصير

_________

(1)

نشرت هذا وما قبله في الجرائد اليومية المشهورة عقب تشريف الأمير، ثم نشرته هنا بالنص الذي نشر في الجرائد فلهذا قلت: وجهها ناظر المدرسة، ولم أقل: وجهتها.

(2)

كنت بدأت في صبيحة يوم تشريف الأمير بكتابة كلمة الدعاء والشكر لأجل أن ترسل إلى الصحف بنصها، ولكنني كتبت قليلاً منها، وشغلني استقبال مَن حضر وتعاهد نظام المدرسة عن إتمامها كتابة فأتممتها ارتجالاً، ولما نشرتها في الجرائد قال لي غير واحد ممن كان حاضرًا: إن ما قلته في هذه الرحلة كان أوسع مما كتب وأبلغ عبارةً وأحسن تأثيرًا.

ص: 461

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مصاب مصر والشام

برجال العلم وحملة الأقلام

أكبر مصائب البلاد موت العلماء والأدباء والكتاب الذين يغذون العقول

ويزكّون النفوس بالتعليم والتصنيف ونشر العلوم والآداب. وقد رزئت الديار

المصرية والسورية في هذه الأيام بوفاة أربعة كهول من أشهر رجالهما في علوم

الدين والدنيا واللغة، يعدون من عوامل التحول والانقلاب الاجتماعي في الأمة

العربية. وهم أحمد فتحي باشا زغلول المصري والشيخ حسن المدور والشيخ محيي

الدين الخياط البيروتيان - والشيخ جمال الدين القاسمي الدمشقي.

1-

أحمد فتحي باشا زغلول

في آخر يوم من الشهر الماضي شيعت مصر جنازة نابغة العرب فيها صديقنا

أحمد فتحي باشا زغلول، وشعر كل ذي بصيرة فيها بأنها فقدت رجلاً لا خلف له

في مواهبه ومزاياه.

ولد الفقيد لليلتين أو ثلاث خلت من شهر رمضان 1279 (الموافق أول شهر

الشتاء الثاني سنة 1241 هجرية شمسية - 22 فبراير 1863م) والده من بيت

كريم ينتمي إلى بعض قبائل العرب التي استوطنت القطر المصري، ووالدته من

بيت كريم يسمَّى (بيت بركات) ، وهما من قرية من قرى مديرية الغربية اسمها

(إبيان) ، وكان والده سمّاه (فتح الله صبري) ثم غير اسمه ناظر المعارف فسماه

باسمه (أحمد) لما ظهر له من نجابته، ولقبه بفتحي للإشارة إلى اسمه الأول.

وتلقى التعليم الابتدائي والوسط في مدارس الحكومة بمصر والإسكندرية، واختار

له ناظر المعارف أن يتلقى التعليم العالي في فرنسا، فكان في مدارس

التعليم كلها آية الذكاء والاجتهاد. ولما عاد من أوربة دخل في خدمة الحكومة في

النيابة والقضاء حتى صار رئيسًا لمحكمة مصر الأهلية ثم وكيلاً لنظارة الحقانية،

ونال ما نال من رتب الحكومة وأوسمتها العالية، وكان العارفون يجزمون بأن ترقيه

دون استحقاقه واستعداده. فهل هذا هو أحمد فتحي باشا زغلول؟

تعلم في مدارس مصر وأوربا ألوف، عاش أكثرهم ومات كما يعيش ويموت

الملايين من الجهلة والمغمولين، وتقلب كثيرون منهم في مناصب الحكومة وأعمالها.

وما كل واحد منهم يستحق أن يترجم في الصحف ويخلد اسمه في دواوين التاريخ،

اللهم إلا تواريخ المنافقين الذين يعظمون كل صاحب منصب أو ثروة وإن لم يكن

له أثر يذكر أو منقبة تؤثر إلا جمع المال واقتناء العقار، والتعالي على الناس ولو

بالظلم والإفساد.

أحمد فتحي زغلول ذلك الرجل الذي شهد له كل ذي علم وفهم في مصر بأنه

بذ الأقران، وكان المجلى من حلبة المدنية في كل ميدان، لم يجمع مالاً، ولم يتأثل

عقارًا، ولم يترك درهمًا ولا دينارًا؛ وإنما كان هو ذلك الرجل بما آتاه الله من

الذكاء واللوذعية، والعقل والروية، والهمة العلية، وما تربى عليه من ملكة

الاستقلال، وما اكتسبه من العلوم وما أحسنه من الأعمال.

خلق أحمد فتحي زغلول كبير الاستعداد، آتاه الله فؤادًا ذكيًّا، وذهنًا لوذعيًّا،

والأذكياء في أمتنا العربية كثيرون، فإن كان حظ هذا الرجل من الذكاء عظيمًا فكم

من عظيم الذكاء أطفأت التربية السوءى والبيئة الفاسدة نور ذكائه، وهدمت ما بنته

الفطرة من قوة استعداده، وكم من ذكي وجهت القدوة السوءى ذكاءه إلى ما يضره

أو يضر أمته كلها، وقد اتفق لهذا الذكي اللوذعي أن نبت في بيئة خاصة، مثل

فيها أمام عينيه من أول العهد بالتمييز إمام الإصلاح في هذا الزمان، ومن حوله من

المريدين والإخوان، الذين لم يكن لهم سمر ولا حوار، إلا في شؤون التربية

والإصلاح، فكان يرى منهم منذ عهد التعليم الابتدائي الأستاذ الإمام متجليًا في

فضائله وحكمته، والشيخ عبد الكريم سلمان متحليًا بآدابه وفطنته، وأخاه (سعدًا)

معتصمًا باستقلاله وحجته، مع أتراب لهم من مريدي السيد جمال الدين حكيم

الإسلام، وخليفته الأستاذ الإمام، وكل في فلك العلم والحكمة يسبحون، وحول

قطب الإصلاح وتجديد حياة الأمة يدورون، فلقح استعداد أحمد فتحي بفكرة العمل

والسعي لتجديد حياة الأمة، وصحب الأستاذ الإمام بعد عودته من أوربة ودخوله في

أعمال الحكومة كأخيه الأكبر (سعد باشا) صحبة المريد الصادق للمرشد الكامل،

فاستفاد من تلك الأفكار السامية، والمقاصد العالية، والفصاحة الخلابة، والبلاغة

الجذابة، ما شاء الله أن يستفيد. وكان زيته صافيًا يكاد يضيء ولو لم تمسسه نار،

فاتصل بذلك القبس المتألق فاشتعل نورًا على نور.

أروي عن فقيدنا النابغة كلمتين في أستاذنا الإمام رحمهما الله تعالى:

الأولى سمعتها منه في أول مجلس لقيته فيه: زار الفقيد طرابلس الشام

بصحبة الأستاذ أيام كنت أطلب العلم فيها، فكنت مدة مكثهما في طرابلس ملازمًا

لهما من الصباح إلى وقت النوم؛ لأنني كنت اطلعت على ما صدر من جريدة

(العروة الوثقى) فعشقت السيد جمال الدين مدير سياستها، والشيخ محمد عبده رئيس

تحريرها، وصرت مريدًا لهما بالغيب، وقد جئت الدار التي ناما فيها ليلة قدما فقيل

لي أنهما ذهبا إلى حمّام عز الدين، جئت الحمام فألفيت بعض العلماء والوجهاء

قعودًا في خارج الحمام ينتظرون مع الفقيد، والأستاذ في الداخل، فترجمني الشيخ

خير الدين الميقاتي من علماء طرابلس للفقيد، وكان مما قاله: إنه أكتب الكتاب

عندنا وهو لا يرى لنفسه أستاذًا في الكتابة إلا الأستاذ الشيخ محمد عبده على أنه لم

يره، فقال الفقيد: كلنا ليس لنا أستاذ في الكتابة غير الأستاذ.

وأحسب أنه فسّر ذلك بأن التمايز في الكتابة إنما هو بالأفكار وأساليب

التصرف في الكلام، وأن كل من يقرأ ما كتبه الشيخ أو يسمع كلامه يجد فيه القدوة

المثلى والمادة الغزيرة في ذلك. ولم أحفظ من كلامه بنصه وقتئذٍ إلا تلك الكلمة.

وأما الكلمة الثانية فقد قالها منذ ثلاث سنين؛ إذ كنا نتذاكر في داره ببعض

المسائل الاجتماعية، فذكرنا كلمة من حكم الأستاذ في ذلك فسرتها الحوادث فقال:

إن كثيرًا من كلام الشيخ لم يظهر لنا معناه المراد إلا بعد موته. وقد كان يقول

الكلمة فنظن أننا فهمناها ثم يظهر لنا بعد عدة سنين أننا لم نكن فهمنا بعد غوره فيها،

حتى كشفه طول البحث وسعة الاختبار. اهـ بالمعنى.

تلك البيئة الإصلاحية هي التي جعلت استعداد أحمد فتحي زغلول خطيبًا

مفوهًا، كما جعلته كاتبًا قديرًا، فكان في مصر ثاني الأستاذ الإمام في فصاحة لسانه،

والتزام الفصيح في أكثر كلامه، أما الأستاذ فقد كتب الشيخ إبراهيم اليازجي في

ترجمته - وناهيك بنقده ودقته -: إن كلامه الذي كان يلقيه في مجالسه العادية كأبلغ

ما يكتبه المترسلون المتأنقون. أقول: وناهيك به قدوة صالحة، ومربيًا

للملكة.

تلك البيئة الطيبة والقدوة الصالحة هي التي لقحت ذلك الذهن الوقاد بلقاح

الاستقلال، الذي به تظهر ثمرات العلوم عند القيام بالأعمال، فكان مضطلعًا بالعمل

بما تعلم، وكان علمه ملكة ثابتة، وصفة راسخة، وشجرة مثمرة، وأكثر بالعمل

المتعلمين منا مقلدون، يودعون العلم بوداع المدرسة، وما عرفنا رجلاً مثله كانت

الحكومة تشعر بحاجتها إلى علمه، وترجع إليه حتى في القوانين والأعمال التي لا

تتعلق بعلمه، فهو واضع اللائحة الإصلاحية للمحاكم الشرعية، وهو واضع قانون

إصلاح الأزهر، وناهيك بهما، وبما يتوقف عليه وضعهما، وقد اشتهر أنه كان في

نظارة الحقانية الركن الركين لوضع جميع الأنظمة واللوائح والقوانين. لم تشغل

الفقيد خدمة الحكومة التي كان يتقنها من كل وجه، عن خدمة الأمة بالعلم والعمل،

فقد كان عضوًا عاملاً في الجمعية الخيرية الإسلامية، وألف وترجم عدة كتب ينبغي

بها الإصلاح والنهوض بالأمة، دون الكسب والثروة، وكان أول ما أخرجه للغة

العربية من نفائس مصنفات الإفرنج (كتاب أصول الشرائع) لبنتام، وهو كتاب

جليل في فلسفة القوانين وعللها ومداركها، يعجز عن ترجمته من لم يكن راسخًا في

علوم القوانين والفلسفة، وسعة الاطلاع في علم اللغة، ولو كان العلم في الأمة حيًّا

لأعيد طبع هذا الكتاب مرارًا.

وكان آخر كتاب ألفه في القضاء (شرح القانون المدني المصري) شرحه

شرح العالم المجتهد المستقل، وتصرف في تنسيقه وترتيبه تصرف المصلح المنقح،

غير في هذه الترجمة كثيرًا من الاصطلاحات القضائية المترجمة عن اللغة

الفرنسية ترجمة غير صحيحة، فأعجبت الحكومة وجمهور رجال القضاء بهذا

الشرح، واعترفوا بشدة الحاجة إليه، وكان هو الباعث على احتفالهم بالشارح ذلك

الاحتفال الذي نوهنا به في وقته.

وله في هذه المباحث القضائية كتاب حافل سماه (المحاماة) وقد بين في هذه

الكتاب تاريخ المحاماة عند الأمم القديمة بالإجمال وعند الأمم الغربية بالتفصيل ومنه

الكلام في نظامها عند هذه الأمم، والمؤتمر الذي عقد لها، ثم أفاض القول في

المحاماة في مصر، وبيان حال المحاكم المصرية وتاريخها وتأسيس الحكومة

المصرية ودخولها في سلك النظام الأوربي، وأطال الكلام على القضاء فيها، وبعد

استيفاء كل ما أراده من الكلام على المحاماة وأهلها من التاريخ والنظام والقوانين

والآداب، وما يناسب ذلك ختم الكتاب بملحقات في قوانين مصرية سابقة ولوائح

وأوامر رسمية مصرية متممة للموضوع. فكانت صفحات الكتاب 434؛ وصفحات

الذيل 210 وله رسالة قضائية في التزوير مفيدة في بابها.

وله ترجمة كتاب (الإسلام - خواطر وسوانح) للكونت هنرى دي كاستري

الفرنسي، في رد مفتريات الصليبين وأشباههم على الإسلام، فقد كان هذا الكونت

واسع الاطلاع في كتب المسلمين، ونقل في هذا الكتاب من مطاعن الإفرنج في

الإسلام ما لم يخطر على بال مسلم في الدنيا، وردها وأثنى على الإسلام خير الثناء.

وقد ترجم هذا الكتاب وطبعه في أواخر سنة 1305، وهي التي صدر فيها المنار،

وقرظناه في العدد الحادي عشر من السنة الأولى، ونشرنا مقدمته للترجمة العربية

التي نقل الفقيد فيها نبذة من المنار. وكان غرضه من ترجمة هذا الكتاب الدفاع عن

الإسلام وبيان محاسنه وتنبيه المسلمين إلى ذلك.

وأما الكتب التي ترجمها لغرض التجدد العلمي والمدني في مصر وسائر

الأمة العربية فهي كتاب (سر تقدم الإنكليز السكسونيين) في الطريقة المثلى

للتربية والتعليم، لعالم فرنسي اسمه (أدمون ديمولان) وكتاب (روح الاجتماع)

وكتاب (تطور الأمم) كلاهما للفيلسوف الفرنسي الكبير (غوستاف لوبون) فكان

غرضه من هذه الكتب بث فكرة التربية الاستقلالية والتعليم العلمي في الأمة،

واعتماد الأفراد على أنفسهم لا على حكوماتهم [1] وتنبيهها إلى أسباب التحويل

والانقلاب في الأمم والشعوب، وكونه لا يحصل إلا بالتدريج البطيء، وتذكيرها

بالآفات والعلل الكامنة في التطورات الاجتماعية الحديثة في الإفرنج، كالاشتراكية

والأحزاب والجمعيات السياسية، والاقتصادية وغيرها. ولغوستاف لوبون مذهب

خاص في هذه المباحث يخالفه في كثير من آرائه بعض علمائهم والناظر المستقل لا

يقلد أحدًا من المختلفين، وإنما يمحص المسائل ويتبع قوة الحجة والدليل.

ويقال: إنه كان بدأ بترجمة كتاب مدنية العرب أو حضارة العرب لغوستاف

لوبون أيضًا، وكان الأستاذ الإمام حضه على ترجمته، وآخر ما أخرجه قلمه للناس

ترجمة رسالة سياسية في سوء حال الدولة العثمانية وشدة حاجتها إلى تغيير وضعها

ونظامها، وهي للأمير مصطفى فاضل باشا زعيم الأحرار الأول في الآستانة

خاطب بها السلطان عبد العزيز، ورسالة أخرى في قواعد وفذلكات اجتماعية

لغوستاف لوبون جعلها كالمذاكرات والعناوين لما فصله في كتبه الاجتماعية،

فترجمها الفقيد بالعربية وسماها (جوامع الكلم) .

وقصارى القول في صفة الرجل الاجتماعية والسياسية أنه حجة على كفاءة

العربي، وقدرته على العلم والعمل بالنظام الأوربي كأرقى الأوربيين؛ لأنه ركن

في العمل بذلك.

وأما صفاته الشخصية فقد كان حسن المعاشرة، حلو المفاكهة، نزيه النفس

واللسان، يقدر على إرضاء كل جليس بغير دهان، لا يمل جليسه جده، ولا يعبث

بوقار هزله، وقلما تربى في أوربا شاب مثله في عفته وصيانته، والاعتصام من

استخفاف حرية الفسق لشرة الصبا وخفته، وكان دقيق النظام في كل شيء متأنقًا جد

التأنق في زيه ومعيشته بلا تكلف، ولا إضاعة وقت في العبث وأما رأيه في

الإصلاح والتجدد فهو أن يبني ولا يهدم؛ لأن الأمة إذا وجدت البناء الجديد أصلح

لها، تركت المباني العتيقة تسقط من تلقاء نفسها، فلم يكن يدعو إلى ترك العادات

الضارة ويشنع على أنصارها؛ لذلك لم يطعن الناس في رأيه ومذهبه كما طعنوا في

صديقه قاسم بك أمين؛ بل لم يكن الجمهور يعرفون أن له رأيًا يرمي إليه في

الانقلاب الاجتماعي. فإن فهم بعض أذكياء الحزب الوطني أن ما شرحه كتاب

روح الاجتماع من أمر اندفاع الجماعات بغير عقل ولا شعور ينطبق على حزبهم،

فهل كان يسهل عليهم أن يطعنوا بوطنية مترجم الكتاب ويعدونه خصمًا لهم؟

هذا وإن الفقيد قد كان ميالاً إلى الإصلاح الديني، معتقدًا أنه شطر أو شرط

للإصلاح الدين والسياسي، وقد كان أخبرني في أوائل العهد بإنشاء المنار أن

إبراهيم باشا فؤاد ناظر الحقانية مغتبط بالمنار ويرى وجوب تعميم نشره بين

المسلمين. وأنه هو قد سرّ بذلك وتواعد مع الناظر باتخاذ وسيلة لذلك يوزع بها

ألوف من النسخ على طلاب العلم وفقراء القراء بثمن قليل. ثم لم أراجعه ولا كلمت

إبراهيم باشا في ذلك عندما كنت ألقاه وأسمع منه الثناء على المنار. ولا هما وفقًا

لشيء مما تحدثا به.

ولما توفي شيخنا الأستاذ الإمام تذكر أصدقاؤه ومريدوه في عمل شيء يذكر به،

فاقترحت أن تنشأ باسمه مدرسة كلية يجمع بها بين التربية الدينية الصحيحة

وتعليم العلوم الدينية والدنيوية على طريقته التي كان يسعى لها سعيها بإصلاح

الأزهر، فقبلوا الاقتراح بكل ارتياح، وانتخبوا في دار سعد باشا زغلول لجنة

لوضع نظام المدرسة مؤلفة من حسن باشا عاصم والفقيد وصاحب هذه المجلة،

فكان الفقيد مهتمًا بهذا، وذاكر به لورد كرومر - كما تقتضي المصلحة - فأظهر

اللورد له الاستسحان. ووعده بأن يحضر له نظام وبرنامج مدرسة عليكرة

الإسلامية الهندية للاقتباس منه واستحسن أن يبدأ بالعمل صغيرًا ليكبر بالتدريج.

ويعلم الذين يقرؤون المنار منذ سنين أن الذي حال دون إنشاء هذه المدرسة هو

ظهور مشروع مدرسة الجامعة المصرية ونوط أمرها بسعد باشا زغلول وقاسم بك

أمين. وكان سعد باشا هو الركن الركين لمشروعنا فتركه للجامعة وما كان يمكن أن

يشتغل به وبمشروع الجامعة معًا.

ولما عزمت على السفر إلى الآستانة منذ أربع سنين لأجل مشروع الدعوة

والإرشاد اهتم بذلك الفقيد اهتمامًا عظيمًا، وجاءني ليلة من ليالي رمضان الذي

سافرت فيه واقترح أن نتكلم في المشروع منفردين، فأقفلنا باب الدار، وظللنا

نتحدث في المشروع إلى ما بعد نصف الليل، فلما شرحت له وسائله ومقاصده سر

به وبالغ في استحسانه، ووعد بأن يساعد الجمعية التي تؤسس له هناك بقدر الطاقة،

وعهد إلي بأن أتعاهده بالكتابة من الآستانة، فكانت الكتابة بيننا متصلة في ذلك،

ولم أر أحدًا من أصدقائي بمصر اهتم بذلك بعض اهتمامه رحمه الله تعالى.

كان سبب موته مرض ألم بدماغه، سببه كثر تفكره واشتغاله، ولا غرو فقد

كانت قوة ذلك الدماغ أعظم من مادته، وعمله فوق استطاعته، وذلك منتهى أكثر

الرجال الذين همتهم أكبر من قوتهم، تنسى عقولهم حقوق أبدانهم: فيجنون على

أمتهم بجنايتهم على أنفسهم؛ إذ ينتزعهم القدر منها، أقدر ما كانوا على خدمتها،

فمنهم من يغتضر في سن الشباب، ومنهم من يلقى مصرعه عند الاكتهال، وبلوغ

قواه كلها مستوى الكمال، كمن فقدنا اليوم، ومن فقدنا بالأمس، رحمهم الله

تعالى.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

كتبت في منار أول المحرم سنة 1317 مقالة عنوانها: (الاعتماد على النفس) فقال لي وقتئذ: إني استعملت هذه الكلمة في ترجمة كتاب (سر تقدم الإنكليز) الذي طبع الآن وأراك سبقتني إلى استعمالها، ثم كثر استعمال هذه الكلمة بانتشار ذلك الكتاب لا بمقالتي.

ص: 472

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌محاربة متعصبي القبط وغيرهم للمنار

في يوم السبت في 21 جمادى الآخرة دعانا بالمسرّة (التلفون) رئيس النظار

حسين رشدي باشا إلى داره؛ فوافيناه فيها فإذا هو في سرير النوم لانحراف صحته،

وإذا بجانبه جريدة مصر القبطية، فأطلعنا عليها، وسألنا عما تنسبه إلى المنار

من الطعن المعلم عليه بالحبر الأحمر فيها، وملخصه أنه يجعل النصارى كلهم

وثنيين، وأن طعنه يكاد يضرم نار الثورة في البلاد؟ ؟ فلما قرأت ما فيها قلت

للرئيس: يا عطوفة الرئيس! أنت قاضٍ قبل كل شيء، وقد اشتهرت في حياتك

القضائية بالاستقلال، ومن مقتضى ذلك أن تقرأ الطعن الذي تشير إليه جريدة مصر،

قبل أن تحكم في المسألة بشيء. هذه العبارة التي تشير إليها جريدة مصر أوردها

المنار كعنوان لموضوع كتاب في سياق تقريظه له. هذا الكتاب اسمه (نشوء فكرة

الله) مؤلفه إنكليزي، ولخصه بالعربية سلامة أفندي موسى القبطي، وطبعه

بمطبعة يوسف أفندي الخازن الماروني السوري، محرر جريدة الوطن القبطية،

وقرظته الجرائد والمجلات السورية القبطية والإسلامية، ولم يعب المترجم والناشر

أحد منها بأنه عاب النصرانية وكاد يضرم نار الثورة في البلاد! ولكن لما قرظته

مجلة المنار الإسلامية وذكرت أن ملخصه إثبات كون الديانة النصرانية وثنية

الأصل - وقيدتها بالحاضرة تبرئة للمسيحية الصحيحة التي كان عليها المسيح عليه

السلام وحواريه رضي الله عنهم صار ذلك أكبر الجرائم المحركة للثورات والفتن،

واستحق صاحب المنار النفي من مصر، واستحقت الحكومة هذا الإنذار من

جريدة مصر - إذ فيها: أن من أنذر فقد أعذر بعد الاقتراح على الحكومة بأن

تعاقب صاحب المنار بمثل ما عاقبت به عبد العزيز شاويش عدو القبط من سجن

ونفي.

ثم أعطيت للرئيس نسخة المنار فلما قرأ التقريظ فيها ضحك مستغربًا كتابة

جريدة مصر. ثم ذكرت له أن المنار لما كان هو المجلة الإسلامية الوحيدة التي

أخذت على نفسها الدفاع عن الإسلام في هذه البلاد الحرة التي ينشر المبشرون فيها

الصحف والرسائل الكثيرة في الطعن في الإسلام والقرآن والنبي صلى الله عليه

وسلم وجب علينا شرعًا أن نرد عليها اعتداءها ولو بما هو دونه؛ إذ لا يسمح لنا

ديننا أن نطعن في سيدنا عيسى ولا في أصل دينه وكتابه. فأنا لا أترك مدافعة

المبشرين إلا إذا كانت الحكومة تريد منع حرية المسلمين في دينهم وتجعل الحرية

للنصارى وحدهم. فقال الرئيس: كلا إن الحكومة لا تسلبك حرية الدفاع عن الإسلام

ولكن توصيك بالاعتدال والتزام خطة الدفاع. قلت: إنني أعني بالدفاع أنهم البادئون

وأننا نجزيهم بما دون عملهم، وأنهم إذا تركوا الكلام في ديننا تركنا الكلام في دينهم،

وأنني مستعد لتقديم جدول للحكومة بالشواهد من كتب المبشرين ورسائلهم على ما

فيها من الطعن الفاحش في الإسلام

إلخ.

كان ما أطلعني عليه الرئيس أول ما اطلعت عليه من المطاعن الكثيرة التي

وجهتها إلى المنار جريدة مصر، وكنت أسمع بها، ولا أحاول الاطلاع على شيء

منها. ثم جاءني أحد الأصدقاء بعددين منها؛ فإذا في أحدهما ما نصّه تحت عنوان

(صاحب المنار) :

(اتصل بنا أن ولاة الأمر قد اهتموا بما كتبناه عن الشيخ صاحب المنار

وطعنه الطعن الجارح في الدين المسيحي وأهله فاستدعاه عطوفة رئيس النظار إلى

منزله وحذره من الكتابة في مثل هذه المواضيع المهيجة وأنذره بتعطيل مجلته إن

عاد إلى تلك الكتابات. فعسى أن يكون هذا الإنذار مانعًا من الوقوع في المصائب

التي يريد صاحب المنار جلبها على البلاد وأهلها.

دع كذب جريدة مصر على رئيس الحكومة في هذا العدد وانظر ما كتبت في

الآخر: كنت كتبت مقالة في الرد على جريدة (دوكير) التي تصدر بمصر باللغة

الفرنسية؛ إذ نشرت مقالة تنكر فيها على المنار ما كتبه في النصرانية، يظهر أنها

لأحد السوريين، بينت فيها طريقة المنار في الجمع بين الإسلام والمدنية الصحيحة

والتأليف بين المسلمين وغيرهم، والصحف الفرنسية التي شهدت له بذلك، وكون

رده على دعاة النصرانية لا ينافي ذلك. وأرسلت المقالة إلى المؤيد فلم ينشرها إلا

بعد زهاء شهر من إرسالها إليه. وقد هاج نشرها جريدة مصر فكتبت مقالة في

اليوم التالي لنشر المقالة في المؤيد (وهو 27 جمادى الآخرة) استفرغت فيها ما

في قلب صاحبها ومحررها من السباب والشتائم والحقد والضغينة على صاحب

المنار، فظهر من فحوى ذلك سر من الأسرار، وهو سبب حملة جريدة مصر علينا

في هذا الشهر، مع أن المنار يرد على المبشرين من بضع عشرة سنة وهاك ما

فضح السر منها:

(ولكن هذا الرجل المسكين لم يعد يعطف أحد عليه. فالوطنيون يكرهونه

لأنه يعاكس مبادئهم، والإنكليز يبغضونه لأنه عدو مدنيتهم وعلماء المسلمين

يكرهونه لأنه غير واقف على أسرار الدين. وقد أدركت الحكومة سوء طويته،

وستوقفه عند حده عن قريب.

(إننا إذا اغتفرنا لهذا الرجل كل سيئاته وتغاضينا عن مدرسته التي لا ندري

الغرض منها. فإنه لا يرضينا منه تداخله في ما لا يعنيه وشرحه للدين المسيحي

شرحًا يخالف ما يعتقد به أهله. وطعنه ذاك الطعن الأليم في المدنية الأوربية

ووضعه القناصل والمبشرين والمومسات والقوادين في مستوًى واحد.

لذلك كله نرى من واجباتنا الوطنية أن نلاحق هذا الرجل ونعمل جهد

استطاعتنا لمحاربته كما تحارب الحكومات الأمراض المعدية ولو تسلح برضا بعض

ولاة الأمر عنه وشدّ جريدة مثل المؤيد لأزره بقولها عنه: (إن صاحب المنار

مهضوم الجانب وفي حاجة إلى الدفاع عن نفسه ودينه) اهـ. بحروفه.

(المنار)

ظهر لنا من هذا التصريح الذي لا يحتمل التأويل أن سبب انفجار

بركان التعصب على صاحب المنار في جريدة مصر هو تشريف مولانا الأمير

عزيز مصر مدرسة دار الدعوة والإرشاد، وما تضمنته هذه الزيارة من إعلان ثقته

بالمدرسة وعطفه السامي على ناظرها صاحب المنار، ولذلك عرضت جريدة مصر

بذكر المدرسة وقالت إنها تغاضت عنها، على كونها لا تدري الغرض منها! ! كأنه

يجب على كل مسلم يعمل للإسلام عملاً أن يوقف جريدة مصر على غرضه من

علمه! !

تقول جريدة مصر في صاحب المنار: إن المصريين والإنكليز يبغضونه، وإن

الحكومة قد أدركت سوء طويته وستوقفه عند حده عن قريب. أثبتت جريدة مصر

كل هذا، فكان ينتظر من مديرها ومحررها أنصار الديانة المسيحية بزعمهم أن يجد

صاحب المنار من قلوبهم عطفة أو نفحة من الرحمة المسيحية المبني أساسها على

محبة الأعداء ومباركة اللاعنين! ! ولكنهم لم يزدادوا إلا قسوة وحقدًا عليه، فبعد

الجزم بجميع ما ذكر قالوا: إن الواجب عليهم أن يعملوا جهد استطاعتهم لمحاربته ولو

تسلح برضا بعض أولياء الأمور عنه؟ فإذا كان الإنكليز ورجال الحكومة غاضبين

عليه. فمن تعني ببعض أولياء الأمور المتسلح برضاهم عنه؟ ؟

ثم ماذا تريد جريدة مصر بالمحاربة الجديدة التي توعدتنا بها، بعدما كان من

تهييجها المبشرين وغيرهم من رجال النصرانية علينا، وبعد هذه السباب والشتائم

وبعد إنذار الحكومة بخطر الثورة إذا لم تنكل بصاحب المنار؟ وهل بعد هذا من

حرب تقدر عليه جريدة؟ نعم بلغني ممن يعاشر بعض محرري جريدة مصر أنهم

يعنون بهذه المحاربة الاستعانة بنفوذ المبشرين في إنكلترة على إقناع حكومة لندرة

نفسها بوجوب إلغاء المنار والتنكيل بصاحبه وإقفال مدرسة دار الدعوة والإرشاد، إلى

هذا الحد وصلت ثقة متعصبي القبط بكيدهم للمسلمين، فاعتبروا يا أولي الأبصار.

_________

ص: 487

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فتاوى المنار

...

... السكروتة والحرير

(س15) من صاحب الإمضاء الرمزي بدمياط.

صاحب الفضيلة حضرة الأستاذ المرشد والإمام المصلح السيد محمد رشيد

رضا سدده الله ووفقه.

ما قولكم يا فضيلة الأستاذ في هذه الثياب المعروفة التي تسمى بالسكروته،

وما حكم لبسها مع اختلاف الناس فيها أهي حرير أم من نبات؟ فبعضهم يقول: إنها

من حرير الدودة المحرم. وبعضهم يقول: إنها ألياف نباتية تنبت بأرض الهند كالتيل

والكتان. واختلف الناس في شأنه كثيرًا، وقد أصبح الناس يلبسونها كثيرًا

وخصوصًا علماء الدين فلا تجد واحدًا منهم إلا وهو يقتني منها ثوبًا أو أثوابًا؛ بل

ربما يديم لبسها طول الصيف ويفتي الناس بحلها بناء على أنها نباتية، ويقول ذلك

ويقرره بجراءة غريبة، وقد وقع الناس الآن في شأنها كثيرًا في بلدة دمياط،

واهتموا بهذا الموضوع اهتمامًا ذا بال، فنرجو فضيلتكم إجابتنا بما ترونه في ذلك

منطبقًا على دين الله، وما تعلمونه عن حقيقة مادة السكروته هذه، مع ذكر مسألة

الحرير وتحريمه في الدين وحكمة التحريم، ورأيكم الخاص في ذلك. فإن الخلاف

فيه قديم بين الجمهور وقليل من السلف. واقبلوا مزيد الاحترام.

...

...

...

... (م. ل)

(ج) : من اعتقد من الرجال أن النسيج المسمى بالسكروته حرير حرم عليه

لبسه، ومن لم يعتقد ذلك لم يحرم عليه. والمتبادر من التسمية أن السكروته غير

الحرير.

وقد سألت تاجرًا مسلمًا سوريًّا يَتَّجِر بهذا الصنف في (شنغاي) من مواني

الصين فقال: إن الذي يعلمه هو أن السكروته من نسج دود غير الحرير، أي فلهذا

وضع لها اسم غير الحرير. وتفارق الحرير في أخص صفاته وهي النعومة. ولا

يمكن أن يقال: إن جميع ما تنسجه الحشرات حرير. فقد كان نسج العنكبوت معروفًا

عند العرب ولم يسمه أحد حريرًا. وبلغنا أن الإفرنج يتخذون منه قفافيز وغيرها.

والحكمة في تحريم السنة لبس الحرير الخالص على الرجال هو كونه مبالغة

في الترف والنعيم المضعفين للرجولية، والمفسدين لبأس الأمة. وكان ولا يزال

عند أكثر الأمم من خصائص النساء. ولمثل هذه العلة ورد النهي في السنة عن

لبس المعصفر والمزعفر؛ إذ كان من زينة النساء خاصة. فما نعلم من حكمة

تحريم الحرير لا يوجد في السكروته. نعم؛ إن الرقيق من السكروته

إذا كوي بالمكواة يكون له لمعان كالحرير، ولكثير من نسيج القطن

والكتان مثل ذلك. فالظاهر لنا أن لبس السكروته غير محرم. والله أعلم وأحكم.

***

تكرار الفدية بتأخير قضاء الصيام

(س16) من نوح ابن الحاج عبد القادر القاهري السندي

ما قولكم أيها العلماء الأعلام وأئمة الإسلام في قول المنهاج في كتاب الصيام:

" والأصح تكرره بتكرر السنين " ما المراد بتكرر السنين؟ هل هو تأخير قضاء

رمضانيين أو أكثر إلى رمضان آخر؟ أم تأخير قضاء رمضان الواحد إلى

رمضانيين فصاعدا؟ فإن قلتم بالثاني فما المراد بقول الشرقاوي في حاشيته على

شرح التحرير: قوله (إلى رمضان آخر) بالتنوين مصروفًا لأنه نكرة إذ المراد به

غير معين، بدليل وصفه بالنكرة وهي (آخر) وزالت منه إحدى العلتين وهي

العلمية. وبقاء الألف والنون الزائدتين لا يقتضي منعه من الصرف. اهـ

وما المراد بقول السيد الفاضل المصطفى الذهبي في تقريبها على هامش تلك

الحاشية: قوله: رمضان آخر هو مصروف لأنه غير معين، انظر ما الفرق بينه

والأول؟ وغاية ما يقال: الأول مقصود منه الشهر الذي يستقبله المدرك بعينه،

بخلاف الثاني فإنه يتناول ما بعده لا إلى نهاية، فتكرر الكفَّارة بكل رمضان يأتي

بعد الأول فهل يكفي هذا في منع الصرف حرره. اهـ.

وما المراد بقول السيد علوي ابن السيد أحمد سقاف في حاشيته على فتح

المعين: قوله: (لكل سنة) أي لصوم كل يوم من رمضان كالسنة، وبه قال

مالك وأحمد. اهـ.

وقد قال العلامة الدسوقي المالكي في حاشيته على شرح المختصر ما نصه:

فإذا كان عليه يومان من رمضان ومعنى عليه ثلاث رمضانات أو أكثر فإنه إنما يلزمه

مدان. أفيدونا بالمسطور جزاكم الخير رب غفور.

(ج) مراد المنهاج: (والأصح تكرره بتكرر السنين) أن من أخر قضاء ما

فاته من رمضان واحد إلى رمضانيين فأكثر يطعم عن الرمضانيين مسكينين لكل

مسكين مُدّ وعن ثلاث رمضانات ثلاث مساكين وهَلُمَّ جَرَّا، ولا يمكن أن يكون

معناه: من أُخر قضاء يومين فأكثر من رمضانيين فأكثر إلى رمضان آخر لزمه عن

كل يوم مد؛ لأن هذا لغو من القول للاستغناء عنه بما قبله وهو قوله: (ومن أخر

قضاء رمضان مع إمكانه حتى دخل رمضان آخر لزمه مع القضاء لكل يوم مد)

ولأنه لا خلاف فيه حينئذ فلا يكون لوصفه بالأصح معنى؛ إذ مقابل الأصح -

وهو الصحيح - أنه لا يتكرر. فهل يمكن أن يكون المراد بعدم التكرر على

الصحيح أن من أخر قضاء يومين من رمضانيين إلى رمضان آخر لا تجب عليه

فديتان؟ لا لا. وإذا تبين الحق فمن إضاعة الوقت البحث في كلام من لم يعرفه

والاهتمام بفهم المراد منه. على أن بحث الشرقاوي والذهبي في العلة النحوية

لصرف رمضان لا ينافي هذا، ولا حاجة إلى العناية والبحث فيما جاء به السقاف،

ولا الرجوع إلى عبارة الدسوقي المالكي فإنه ليس تفسيرًا لعبارة المنهاج ولا

يتفق مع مذهب الشافعي. فالمعنى واضح والمذهب معروف.

***

التقليد والمذاهب وجمع المسلمين على الكتاب والسنة

(س 17) من صاحب الإمضاء المصري في (السودان)

بسم الله الرحمن الرحيم

فضيلة الأستاذ منار الدين الحق السيد محمد رشيد رضا أدامه الله حاميًا

لدينه.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

سيدي؛ أرفع سؤالي هذا ولي عظيم الأمل في أني سأحصل على الجواب

الشافي الذي يريح ضميري وأغلب المسلمين. نرى اختلافًا كثيرًا بين الأئمة

المجتهدين - رضوان الله عليهم - في مسائل عديدة، إلا أنَّا نعتقد فيهم مثابون

ومصيبون في ذلك، لما نعلم من أعذارهم في مثل هذا، كبلوغ أحدهم الدليل

وعدم بلوغه للآخر أو بلوغه وعدم صحته. فهم مثابون ومصيبون من حيث

تحريهم الحق، لا من حيث إصابتهم لحقيقة الحكم؛ إذ يستحيل أن يكونوا كلهم

مصيبين مع هذا الاختلاف، وإلا فيكون هذا حكمًا صريحًا، على أن في الشرع

تناقضًا، وحاشاه من ذلك. إذا علمنا أن هذا هو سبب اختلافهم وأقوالهم بين

أيدينا فلماذا نختلف نحن أيضًا ويتبع كل فريق منا مذهبًا؟ وهل يتعين على

المسلمين في هذه الحالة أن يستخلصوا الأدلة الصحيحة الثابتة ويتركوا ما عداها

وقد علموا عذر الأئمة في ذلك؟ وإلا فإن المقلد لا يسلم من أن يكون متبعًا إمامه

فيما أخطأ فيه أو على الأقل فيما كان منسوخًا أو مرجوحًا. وهل يصح أن يلتمس

له عذرًا من قلده مع خلوه عنه؟ وهل الخطاب بالكتاب والسنة عام لكل الناس أو

مختص بالأئمة الأربعة فقط؟ وإذا كان الخطاب عامًّا فما عذر من عدل عنهما إلى

سواهما؟ وإن قيل إن الاستدلال بالكتاب والسنة لا يتأتى إلا للعلماء - وهم الأقلون -

فهل يتحتم على هؤلاء العلماء إرشاد العامة إلى السبيل القيم مبينة لهم الأدلة من

كتاب الله وسنة رسوله تاركين هذه الاختلافات القديمة التي لا تخلو من ضر وقد

أصبح ذلك ميسورًا؟

رجائي الإجابة على هذه على صفحات مناركم الأعز، مبينين السبيل الحق

في ذلك، أثابكم الله وأداكم نورًا يستضاء به، تفضلوا بقبول احتراماتي.

محسوبكم سليمان حلمي

(ج) قد سبق للمنار بيان هذه المسائل كلها مرارًا، وأول ما كتبناه فيها

(محاورات المصلح والمقلد) التي نشرت في المجلدين الثالث والرابع، ثم جمعت في

كتاب على حدتها. ثم وقفنا على مناظرة في بحث الاجتهاد والتقليد للمحقق ابن القيم

نشرناها في المجلدين السادس والسابع. وتكرر ذلك في التفسير والفتاوى، ومما

ورد في باب الفتوى أجوبة المسائل الباريسية التي سئل عنها أحمد باشا زكي في

باريس فأرسلها إلينا. وقد طبعت في ذيل كتاب محاورات المصلح والمقلد. فإذا لم

يتيسر للسائل مراجعة هذه المسائل في مواضعها المتفرقة من مجلدات المنار فليكتف

بقراءة كتاب محاورات المصلح والمقلد وذيله، ثم إذا بقي عنده أو تجدد لديه بعض

الأسئلة في ذلك فليسأل عنها. ونزيده هنا فائدة ينبغي أن يفكر فيها بعد أن يقرأ في

أواخر ذلك الكتاب ما قرره المصلح في مسألة وحدة الأمة. وهي أن هذه الوحدة

الدينية قد توجهت إليها نفوس عقلاء المسلمين من جميع المذاهب في جميع الأقطار،

وأنه لا يرجى حصولها في وقت قريب إلا إذا أيد الإصلاح الديني دولة أو إمارة

إسلامية. على أن الأمة لا بد أن تنبذ كل خلاف، وتصير إلى الوحدة ولو بعد جيل

أو أجيال.

* * *

الخلاعة في التمثيل

(س18) من صاحب الإمضاء في بيروت

سلام على إمامنا السيد الرشيد أيده الله.

وبعد فلا يخفى أن مولانا السيد كان أفتى في المنار مَن استفتاه من دمشق

في أمر التمثيل الروائي بأنه جائز إذا لم يكن فيه خلاعة. ونظر الأستاذ ذلك

الجواز بكتب الأدب واللغة التي هي روايات خيالية وعلمية لا عملية كالمقامات.

ولما كان الداعي مختلفًا هو وبعض العلماء في تلك الخلاعة اتفقنا على أن أستفتي

سيادة الأستاذ في بيان وجهها.

فسر الداعي تلك الخلاعة بما يتخيله الفساق ويحصل في المراقص لا في

الروايات التي يمثل فيها النساء مع الرجال، وهي روايات أدب وعلم وصدق

وعدل. وفسر ذلك البعض الخلاعة بحال تلك النساء الممثلات. فإنهن يكن

كاشفات الرأس والوجه واليدين حتى ما فوق المرفقين وأعلى الصدر. مع

المعانقة الجزئية بين العاشق والمعشوقة وتقبيل جبهتها حسب ما يقتضي التمثيل.

ويكن أيضًا لابسات أفخر الثياب مع زينة الحلي. فذكرت لهذا المفسر أن هذه

الحال لا تكون إلا لمجرد التمثيل كي تظهر نتيجتها من حيث التوفيق بين العاشقين

أو الحكم عليهما حسب مقتضى أمرهما كما هو من فوائد التمثيل التي تحدث عظة

أو خلقًا في نفس الرائي.

ثم إنني ذكرت لذلك العالم أنه يسوغ أن يقاس ما فسرت أنا على الحديث

الصحيح الذي فيه أن عائشة رضي الله عنها كانت تنظر مع النبي صلى الله عليه

وسلم إلى الرجال وهم يلعبون. فلما أورد هذا الحديث على الإمام الشافعي رضي

الله تعالى عنه وهو يحرم نظر الأجنبية إلى الأجنبي، أجاب أن نظرها إنما هو

اللعب نفسه ولم يكن مقصودًا به النظر المجرد إلى الرجال. فقال لي ذلك العالم: إن

ذلك كان في زمن غير زمننا المعروفة أحواله. فأجبته بأن تخيل الفسق يكون

إثمه على من يتخيله. فهذا خلافنا رفعته إلى مولاي الأجلّ كي يحكم بيننا بالحق.

فالمرجو الجواب في الجزء الآتي من المنار أعز الله به الإسلام وناصريه والحمد

لله أولاً وآخرًا.

بيروت: الأربعاء 24 رجب سنة 1332

...

...

...

...

... الداعي

راغب القباني

(ج) إن الخلاعة التي ينبغي أن تكون مانعة من رؤية تمثيل القصص هي

ما كان ذريعة للفسق وفساد الأخلاق. فإنه ليس لأحد أن يحرم شيئًا غير ما حرم الله

ورسوله بالنص أو اقتضاء النص وهو سد الذرائع. فمن يخاف أن يغريه هذا

التمثيل في بعض القصص بفعل محرم وجب عليه اجتنابه. ومن لا يخاف على

نفسه ذلك تباح له رؤيته. وإذا غلب فيه كونه ذريعة لمحرم يصح إطلاق القول

بتحريمه. ولم يثبت هذا؛ بل المعروف أن من يحضرون هذا العمل يكون جل

همهم مراقبة الأعمال كرؤية عائشة للعب الحبش، وأن يعرفوا الوقائع وعاقبتها

ومآلها. وقلما سمعنا أن أحدًا منهم يحفل بغير ذلك. فإن وجد من افتتن في بعض

البلاد بامرأة ممثلة فلا يصح أن يجعل نفس التمثيل ذريعة لذلك على الإطلاق؛ إذ

ثبت في كل زمن أن بعض الناس يفتنون ببعض الحسان في الطرق أو المعابد. أما

النساء اللاتي يمثلن في بعض القصص مكشوفات الرؤوس والسواعد فلسن - كما يعهد

في هذه الأقطار - بمسلمات ولا يكلفن من فروع الشريعة ما تكلفه المسلمات. وقد

جرى عرف أهل ملتهن على إسقاط حرمة الستر فلا يعدونه فضيلة؛ بل نقصًا.

وهن يمشين في الأسواق والشوارع حاسرات كما يكن في معاهد التمثيل. ولا فرق

بين رؤيتهن في الأسواق ورؤيتهن في تلك المعاهد ولا بين الاختلاف إلى الأسواق

وهن فيها والاختلاف إلى تلك المعاهد وهن فيها، والعبرة في ضرر ما يمثل

من حيث الخلاعة والتهتك وغيره بموضوع القصة. فإذا كان موضوعها أعمالاً

منكرة بحيث يكون تأثيرها سيئًا ضارًّا، فلا وجه للتردد في حظر ما كان كذلك

ومنعه إن أمكن وإلا فالامتناع من رؤيته، وأما ما كان موضوعه حسنًا مرغبًا في

الفضيلة، منفرًا عن الرذيلة، أو مبينًا لعواقب ظلم الحكام، واستبدادهم في الأحكام،

ومرشدًا للأمة إلى إزالة الظلم، وأطر الظالمين على الحق، ومجزئًا لها على

مقاومة العدوان والبغي - فهو الذي يعده الحكماء من مربيات الأمم، ومهذبات

الأخلاق، وينظمونه في سلك أساليب التربية العملية.

_________

ص: 499

الكاتب: ابن القيم الجوزية

نموذج آخر من مدارج السالكين

من بحث تغير الأخلاق وعدمه في ضرب مثل للانتفاع بكل خلق وكل غريزة

وعدم محاولة تغييرها

فصل

نافع جدًّا عظيم النفع للسالك يوصله عن قريب، ويسير بأخلاقه التي لا يمكنه

إزالتها، فإن أصعب ما على الطبيعة الإنسانية تغيير الأخلاق التي طبعت عليها،

وأصحاب الرياضات الصعبة والمجاهدات الشاقة إنما عملوا عليها ولم

يظفر أكثرهم بتبديلها، لكن النفس اشتغلت بتلك الرياضات عن ظهور سلطانها،

فإذا جاء سلطان تلك الأخلاق وبرز كسر جيوش الرياضة وشتتها واستولى على

مملكة الطبع. وهذا فصل يصل به السالك مع تلك الأخلاق ولا يحتاج إلى علاجها

وإزالتها، ويكون سيره أقوى وأجل وأسرع من سير العامل على إزالتها.

ونقدم قبل هذا مثلاً نضربه مطابقًا لما نريده وهو: نهر جارٍ في صببه

ومنحدره، ومُنْتَهٍ إلى تغريق أرض وعمران ودور، وأصحابها يعلمون أنه لا ينتهي

حتى يخرب دورهم ويتلف أراضيهم وأموالهم، فانقسموا ثلاث فرق: فرقة صرفت

قواها وقوى أعمالها إلى سكره وحبسه وإيقافه فلم تصنع هذه الفرقة كبير أمر، فإنه

يوشك أن يجتمع ثم يحمل على السكر فيكون إفساده وتخريبه أعظم. وفرقة رأت

هذه الحالة وعلمت أنه لا يغني عنها شيئًا فقالت: لا خلاص من محذوره إلا بقطعه

من أصل الينبوع، فرامت قطعه من أصله فتعذر عليها ذلك غاية التعذر، وأبت

الطبيعة النهرية ذلك أشد الإباء، فهم دائمًا في قطع الينبوع، وكلما سدوه من موضع

نبع من موضع، فاشتغل هؤلاء بشأن هذا النهر عن الزراعات والعمارات وغرس

الأشجار. فجاءت فرقة ثالثة خالفت رأي الفرقتين وعلموا أنهم قد ضاعت عليهم

كثير من مصالحهم فأخذوا في صرف ذلك النهر عن مجراه المنتهي إلى خراب

العمران، وصرفوه إلى موضع ينتفعون بوصوله إليه ولا يتضررون به، فصرفوه

إلى أرض قابلة النبات وسقوها به، فأنبتت أنواع العشب والكلإ والثمار المختلفة

الأصناف، فكانت هذه الفرقة هم أصوب الفرق في شأن هذا النهر.

فإذا تبين هذا المثل، فالله سبحانه اقتضت حكمته أن ركّب الإنسان - بل سائر

الحيوان - على طبيعة محمولة على قوتين: غضبية وشهوانية؛ وهي الإرادية،

وهاتان القوتان هما الحاملتان لأخلاق النفس وصفاتها، وهما مركوزتان في جِبِلَّة كل

حيوان، فبقوة الشهوة والإرادة يجذب المنافع إلى نفسه، وبقوة الغضب يدفع المضارَّ

عنها، فإذا استعمل الشهوة في طلب ما تحتاج إليه تولد منها الحرص، وإذا استعمل

الغضب في دفع المضرة عن نفسه تولد منه القوة والعزة، فإذا عجز عن ذلك

الضار أورثه قوة الحقد، وإن أعجزه وصول ما يحتاج إليه ورأى غيره مستبدًّا به

أورثه الحسد. فإن ظفر به أورثته شدة شهوته وإرادته خلق البخل والشح، وإن

اشتد حرصه وشهوته على الشيء ولم يمكنه تحصيله إلا بالقوة الغضبية فاستعملها

فيه أورثه ذلك العدوان والبغي والظلم، ومنه يتولد الكبر والفخر والخيلاء، فإنها

أخلاق متولدة من بين قوتي الشهوة والغضب، وتزوج أحدهما بصاحبه.

فإذا تبين هذا فالنهر مثال هاتين القوتين، وهو منصبٌّ في جدول الطبيعة

ومجراها إلى دُور القلب وعمرانه وحواصله يذهبها ويتلفها ولا بد، فالنفوس

الجاهلة الظالمة تركته ومجراه فخرب ديار الإيمان وقلع آثاره وهدم عمرانه، وأنبت

موضعها كل شجرة خبيثة من حنظل وضريع وشوك وزقوم، وهو الذي يأكله أهل

النار يوم القيامة يوم المعاد، وأما النفوس الزكية الفاضلة فإنها رأت ما يؤول إليه

أمر هذا النهر فافترقوا ثلاث فرق:

فأصحاب الرياضات والمجاهدات والخلوات والتمرنات راموا قطعه من ينبوعه

فأبت ذلك حكمة الله تعالى وما طبع عليه الجبلة البشرية، ولم تنقد لهم الطبيعة،

فاشتد القتال ودام الحرب وحمي الوطيس وصارت الحرب دولاً وسجالاً، وهؤلاء

صرفوا قواهم إلى مجاهدة النفس على إزالة تلك الصفات.

وفرقة أعرضوا عنها وشغلوا نفوسهم بالأعمال ولم يجيبوا دواعي تلك الصفات

مع تخليتهم إياها على مجراها، لكن لم يمكنوا نهرها من إفساد عمرانهم بل اشتغلوا

بتحصين العمران وإحكام بنائه وأساسه، ورأوا أن ذلك النهر لا بد أن يصل إليه،

فإذا وصل إلى بناء محكم لم يهدمه بل يأخذ عنه يمينًا وشمالاً، فهؤلاء صرفوا قوة

عزيمتهم وإرادتهم في العمارة وأحكام البناء، وأولئك صرفوها في قطع المادة

الفاسدة من أصلها خوفا من هدم البناء. وسألت يومًا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه

الله عن هذه المسألة وقطع الآفات والاشتغال بتنقية الطريق وتنظيفها، فقال لي

جملة كلامه: النفس مثل الباطوس (وهو جب القذر) كلما نبشته ظهر وخرج

ولكن إن أمكنك أن تسقف عليه وتعبره وتجوزه فافعل، ولا تشتغل بنبشه فإنك لن

تصل إلى قراره، وكلما نبشت شيئًا ظهر غيره. فقلت: سألت عن هذه المسألة

بعض الشيوخ فقال لي: مثال آفات النفس مثال الحيات والعقارب التي في طريق

المسافر فإن أقبل على تفتيش الطريق عنها والاشتغال بقتلها انقطع ولم يمكنه السفر

قط. ولكن لتكن همتك المسير والإعراض عنها وعدم الالتفات إليها. فإذا عرض

لك فيها ما يعوقك عن المسير فاقتله ثم امض على سيرك. فاستحسن شيخ الإسلام

ذلك جدًّا، وأثنى على قائله.

إذا تبين هذا فهذه الفرقة الثالثة رأت أن هذه الصفات ما خلقت سدًى ولا عبثًا،

وأنها بمنزلة ماء يسقى به الورد والشوك والثمار والحطب، وأنها صوان

وأصداف لجواهر منطوية عليها دومًا، فما خاف منه أولئك هو نفس سبب الفلاح

والظفر، فرأوا أن الكبر نهر يسقى به العلو والفخر والبطر والظلم والعدوان،

ويسقى به علو الهمة والأنفة والحمية والمراغمة لأعداء الله وقهرهم والعلو عليهم،

وهذه درة في صدفته، فصرفوا مجراه إلى هذا الغراس واستخرجوا هذه الدرة من

صدفته وأبقوه على حاله في نفوسهم، لكن استعملوه حيث يكون استعماله أنفع،

وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم أبا دجانة يتبختر بين الصفين فقال: (إنها لمشية

يبغضها الله إلا في مثل هذا الموضع) فانظر كيف خلى مجرى هذه الصفة وهذا

الخلق يجري في أحسن مواضعه، وفي الحديث الآخر - وأظنه في المسند: (إن

من الخيلاء ما يحبها الله ومنها ما يبغضها الله، فالخيلاء التي يحبها الله اختيال

الرجل في الحرب وعند الصدقة) فانظر كيف صارت الصفة المذمومة عبودية،

وكيف استحال القاطع موصلاً. فصاحب الرياضات والعامل بطريق الرياضات

والمجاهدات والخلوات، هيهات هيهات، إنما يوقع ذلك في الآفات والشبهات

والضلالات، فإن تزكية النفوس مسلم إلى الرسل، وإنما بعثهم الله لهذه التزكية

وولاهم إياها، وجعلها على أيديهم دعوة وتعليمًا وبيانًا وإرشادًا، لا خلقًا ولا إلهامًا،

فهم المبعوثون لعلاج نفوس الأمم، قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ

رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي

ضَلالٍ مُّبِينٍ} (الجمعة: 2) وقال تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو

عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ *

فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} (البقرة: 151-152) ، وتزكية

النفوس أصعب من علاج الأبدان وأشد، فمن زكى نفسه بالرياضة والمجاهدة

والخلوة التي لم يجئ بها الرسل، فهو كالمريض الذي يعالج نفسه برأيه، وأين رأيه

من معرفة الطبيب؟ فالرسل أطباء القلوب فلا سبيل إلى تزكيتها وصلاحها إلا من

طريقهم وعلى أيديهم، وبمحض الانقياد والتسليم لهم، والله المستعان.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 505

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الدين والتدين والإلحاد والتعطيل

التدين غريزة فطرية، والدين حاجة من حاجات البشر الطبيعية، والإلحاد

والتعطيل إما نقص في الفطرة. كما يولد بعض الناس مخدوجًا بنقص حاسة من

حواسه، أو تشوه عضو من أعضائه، وإما تصرف سيئ في الفطرة، وجناية على

الطبيعة. وقد خلق الله الإنسان في هذه الأرض وأعطاه فيها سلطان التصرف فيها

وفي نفسه. وأسجد له مَن فيها من ملائكته، الذين هم كالملكات والقوى في تدبير

الأمر، وإقامة النظام في الخلق، فهو بهذا التصرف فيها يفسد فيها ويسفك الدماء،

كما يصلح ويعمر وينفع الناس: يجني على نفسه فيُحَمِّلها فوق طاقتها، ويعرضها

للأمراض التي لا قبل له بها، ويجني على غيره بالعدوان والبغي، وإهلاك الحرث

والنسل. فلا غرو إذا جنى على الدين، بشبهة دليل أو بغير دليل.

كان السواد الأعظم من الناس متدينًا، ولا يزال السواد الأعظم من الناس

متديِّنًا، وسيبقى السواد الأعظم من الناس متدينًا. ولكنهم يتصرفون في أديانهم،

كما يتصرفون في أنفسهم وأبدانهم، وسيظلون زمنًا طويلاً في اضطراب ومخض،

بين رفع وخفض، وإبرام ونقض، حتى تزول العصبيات الدينية، وتسقط

الرياسات المذهبية، ويكون الدين لله، لا للخلفاء والأشياخ، ولا للرهبان والأحبار،

ويكون للإنسان الحرية فيه والاستقلال، فيتفق أكثر المختلفين، ويجتمع أكثر

المتفرقين، فتنقشع السحب عن دين الفطرة، ويدخلون في السلم كافة.

كان الناس متدينين، وكان يكون في كل جيل منهم في كل عصر أناس من

المعطلين، وأفراد من الملحدين، كما يوجد فيهم العُمْي الذين لا يبصرون. والصم

الذين لا يسمعون ، والبكم الذين لا ينطقون {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَاّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ

وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَاّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَاّ يَظُنُّونَ} (الجاثية:

24) ، هذه حكاية القرآن عن بعض جاهلية العرب. وحكى مثله عن قوم نوح أقدم

من أثر تاريخهم من الأمم. ولكن بعض ملاحدة عصرنا يظنون - لجهلهم

بالتاريخ - أن هذا الشذوذ خاص بالفلاسفة وأصحاب الأفكار الراقية، ولهذا الامتياز

الوهمي صار بعض الغوغاء يكفر بالتقليد، لينتظم في سلك الفلاسفة الجديد. ويتفلت

من قيد التكليف.

نعم يوجد من أهل النظر من حجبته نظريات الفلسفة ومسائلها وتعليلاتها

المسلمة عن الدين وجوهره، وما كان من حسن أثره، فطفقوا يقذفون بتلك

النظريات والمسلمات، ظواهر الدين وتقاليده المحدثات، وخيل إليهم أنهم فازوا

بقصب الرهان، وأبرهوا جيوش الأوهام بسيف البرهان. وما ذلك إلا وهم يناطح

وهمًا، هذا يسميه هدى وذلك يدعوه علمًا، ولو كانت تلك النظريات علمًا يقينيًّا لما

تنازعت فيها الأفكار، واختلفت باختلاف الأجيال والأعصار، فإن فلسفة هذا

الزمان، قد نقضت معظم فلسفة اليونان، وينقض بعضها بعضًا في كل عام. وأما

علم اليقين، فلا شيء منه بمناقض لهداية الدين، وإن نقض بعض تواريخ الكتب

المقدسة في بعض الأديان، وبعض عقائدها المخترعة التي ما أنزل الله بها من

سلطان. وحاشا دين القرآن، الذي كفل حفظه الرحمن، فلم تؤثر فيه تأويلات

المتكلمين، ولا تعليلات المتفقهين، دع أباطيل أهل الزيغ أو الزندقة، كالباطنية

والمتفلسفة.

إن في الفلاسفة متدينين، كما أن فيهم ماديين، وكذلك أصحاب العقول الكبيرة

من العلماء والقواد والسياسيين. فتولستوي الفيلسوف الروسي كان متدينًا. والبرنس

بسمارك كان متدينًا، وإمام الأطباء باستور كان متدينًا، وإن أكبر قائد حربي في

فرنسة اليوم متدين. كما كان ابن سينا والفارابي والغزالي وابن رشد من فلاسفة

المسلمين متدينين. وأمثالهم كثيرون في كل أمة.

نعم إن دين أمثال هؤلاء قد يخالف في أصوله وفروعه دين العوام المقلدين؛

لأن لعلومهم وفلسفتهم طريقًا خاصًّا في فهمهم الدين، والعامي المقلد تابع لمن يلقنه،

وللبيئة التي يعيش فيها كل منهم تأثير في فهم ما يتلقنه. فإذا كان العالم المستقبل

يخطئ فهم حقيقة الدين في قليل من المسائل، فالجاهل المقلد أجدر بالخطأ في فهم

الأكثر منها.

يغتر كثير من مقلدة الإلحاد في أمتنا بمن اشتهر من ملاحدة علماء الإفرنج،

غافلين عن الاعتبار بحال المتدينين منهم، وما كل من طعن في الكنيسة وأهلها من

علماء الإفرنج كافر بالله ورسله؛ بل لهؤلاء دين غير دين الكنيسة، وتكفير الكنيسة

لهم كتكفير بعض المتكلمين والصوفية لابن سينا وأمثاله. فمن متديني الإفرنج

المقلدون، ومنهم العقليون والموحدون. ولعل دين السواد الأعظم من المتعلمين

المهذبين منهم كدين مدام (كلاير) : عجوز فرنسية ذات علم وأدب، من بيت في

ليون محترم، جاورتنا مرة في الدار، فرأيتها لاتذهب إلى الكنيسة في أيام الآحاد،

فسألتها: ما بالك لا تذهبين إلى الكنيسة؟ ألستِ متدينة. قالت: أنا مؤمنة بالله

وأصلي له في بيتي، وما فضل الكنيسة على البيت؟ إنها لا فضل لها إلا أن فيها

رجالاً يأكلون أموالنا.. . قلت: أتدينين بعقيدة التثليث؟ قالت: لا أعرف التثليث،

أعرف أن الرب واحد. قلت: وما تقولين في السيد المسيح عليه السلام؟ قالت:

(مثل نبي) . فهذه حال أهل التعليم العالي في القوم. دع السواد الأعظم من العامة،

وكثيرًا ممن يعدون من الخاصة، الذين يتمسكون بمذاهبهم التقليدية، لا يثنيهم عنها

إنكار العقليين ولا غيره.

أفلا ينظرون من وراء ذلك كله - جهلوه أم عرفوه - إلى ما يبذله الإفرنج من

ملايين الجنيهات لجمعياتهم الدينية لأجل نشر دينهم في الخافقين، وتعميمه في

المشرقين والمغربين؟ يقول بعضهم بغير علم: إن الغرض من ذلك سياسي لا

ديني. كذبوا، وحكموا بما لم يعلموا، إن تلك الملايين يبذلها الشعب الذي لا يعرف

السياسة، ولا ننكر أن أهل السياسة يستفيدون من سعي المبشرين، فإذا كانت حكومة

روسيا تستفيد بسياستها من تنصير دعاة الأرثوذكسية لمسلمي بلادها، وإنكلترا

تستفيد من تنصير دعاة البروتستانتية لمن ينصرون من أهل الهند والسودان، فأي

فائدة سياسية لأمريكا في بث دعاة النصرانية في بلاد العرب والترك والفرس والهند

وسائر الأقطار؟

تأملت في حال ملاحدة هذا العصر، فما رأيت أشد عماية، وأبعد غواية،

وأضل سبيلاً، وأفسد قيلاً من ملاحدة المسلمين الجغرافيين.

ما رأيت أحدًا منهم صاحب دعوة سياسية في أمته قد ثبت عنده أن الإسلام

يعارضها، ويحول دون التحول السياسي والاجتماعي الذي يراد بها، فهو ينفرد من

الإسلام وينفر عنه لأجلها، كيف وهم يعترفون - تبعًا لحكماء الإفرنج - بأن الدين

أقوى عوامل السياسة؛ ولا سيّما دين الإسلام، كما صرح بذلك علماءالاجتماع.

ما رأيت أحدًا منهم صاحب مذهب فلسفي أدبي ثبت عنده أن حكمة الإسلام

تناقضه، وأن صلاح الأمة لا يكون إلا به، فهو يلهج بالاعتراض على الإسلام؛

لأنه عقبة في طريق ما يحاول من الإصلاح. كيف وإن التربية عند أئمتهم - أكثر

الإفرنج - لا تزال قائمة على أساس آداب الدين؟

ما رأيت أحدًا منهم عني بفقه القرآن وصحيح السنة. وما كان عليه سلف

الأمة، ثم عرضت له شبه قوية على صحة تلك الهداية فهو يريد التفصي منها.

وقد خانته البينات والدلائل المزيلة لها، كيف ونحن نعلم أن أكثرهم لم يقرأ تفسير

سورة من السور. ولا يميز بين الصحيح والموضوع من الأثر؟ وإن مَن له إلمام

بشيء من علم الدين، قلّما يعرف إلا بعض القشور من هذه التقاليد، فهو يهزأ بالدين

لأجل خرافة أو بدعة. يحسب أنها عقيدة ثابتة أو سنة.

ألا إنهم - على ما هم عليه من جهل بحقيقة الإسلام، وقصور عن النهوض

بدعوة إلى الإصلاح - يطلقون للسانهم العنان، فيجمح بهم في كل ميدان. فمنهم من

يتشدق بالسياسة، ومنهم من يتفيهق بالمقابلة بين القانون والشريعة، ومنهم من يهذر

بالأخلاق والآداب، ومنهم من يهذي بالاعتراض على العبادات، يتخذون الكلام في

ذلك هزؤًا ولعبًا، وأفاكيه يتلذذون بها تلذذًا، في زمن قل فيه العليم بأسرار الدين،

والبصير بحكم التشريع، الذي يفرّق بين الأصول الثابتة بالدليل، والنصوص التي

لا تحتمل التأويل. وبين الفروع المستنبطة بالاجتهاد، والظواهر التي لم يتعين منها

المراد.

على أن الأرض لا تخلو من قائم لله بحجته، ومن مفصح للشرع عن حكمته،

ولكن هؤلاء بمعزل عن الحجة وأهلها، هي مجهولة لهم؛ فهم لا يطلبونها، ثقيلة

عليهم فإذا تليت عليهم آياتها لا يسمعونها، إلا من كان سليم الفطرة، قريب العهد

بهذه الهجرة، وطالما تأذنهم المنار، بما يذهب بالتعلات والأعذار، من الاستعداد

لإزالة كل شبهة، والتصدي لكشف كل غمة.

يا سبحان الله! أتبيح السياسة لبسمرك أعظم رجال أوربا في القرن الماضي -

وهو كما قال جمهوري بالطبع - أن يكون على دين يناقض طبعه فيجعله عبدًا لملك

بروسية؛ لأنه يقول له - إن سلطة المملوك من الله؟ - ولا تبيح لهؤلاء المتشدقين

منا أن يكونوا على دين سبق كتابه إلى وضع أعظم أساس للحكم الذاتي بقوله:

{وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى: 38) ، وأقام على هذا الأساس أركان

المصالح المرسلة، وجعل رفع المفسدة مقدمًا على جلب المصلحة، إلى غير ذلك

من الأركان الثابتة، ثم قِس على هؤلاء المتشدقين، أمثالهم من المتفيهقين والهاذين

والهاذرين.

وإن تعجب فعجب خوضهم في مسائل الأخلاق والآداب، فقد انقلبت عقولهم

فيها شر الانقلاب، حتى صار فيهم من يعدّ العفة والغيرة والرحمة من الرذائل

وأضدادها من الفضائل؛ بناءً على قاعدة الإتخاب الطبيعي التي تغري القوي،

بالضعيف، وتبيح له أن يعجل بسلب حياته ويستأثر دونه بزوجه وماله، ولعل

واحدهم لا يرجع عن هذه الغواية إلا إذا مسه الضر، وعضه ناب الفقر، وتصدى

إخوانه في الكفر لإزهاق روحه، وتعدى أخدانه في الإلحاد على عرض زوجه،

ومنعوها من خدمته ومواساته؛ بناء على قاعدتهم في كون الحق في ذلك للقوي

القادر على الإنتاج، والقيام بشؤون الاجتماع!

ألا إن من بلغ هذه الغاية من ارتكاس الفطرة، وانتكاس الفكرة، فصار يرى

الحقائق بغير صورها، ويزن الأشياء بغير ميزانها، فلا طمع في هدايته، ولا

رجاء في مناظرته، أولئك الذين ختم الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم،

يجادلونك في الحق بعدما تبين، ويمارونك في البديهي وقد تعين.

وأما أكثر المخدوعين بأوهام هؤلاء المبطلين، فهم مستعدون لقبول الدليل،

والاهتداء إلى سواء السبيل، إذا تداركهم العلماء والراسخون، وتعاهدهم الحكماء

الربانيون ولكن قل العلماء القادرون على كشف الشبهات، وكثر المشتبهون،

فالإصلاح موقوف على تكثير سواد المصلحين الجامعين بين علوم الدنيا والدين،

مع استقلال الفكر، وتزكية النفس، ولا يكون هذا إلا بتربية وتعليم، على صراط

الحق المستقيم، فقل للذين هم على الدين يغارون: لمثل هذا فليعمل العاملون.

فسارعوا إليه إن كنتم صادقين، وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين.

_________

ص: 508

الكاتب: أبو إسحاق الشاطبي

فصل [*]

الابتداع بالتشدد في الدين

والتزام ما لم يرد وتتبع آثار الصالحين

من كتاب الاعتصام

للشاطبي

ثم أتى بمأخذ آخر من الاستدلال على صحة ما زعم، وهو أن الدعاء على

ذلك الوجه لم يرد في الشرع نهي عنه مع وجود الترغيب فيه على الجملة، ووجود

العمل به. فإن صح أن السلف لم يعملوا به، فالترك ليس بموجب لحكم في

المتروك إلا جواز الترك وانتفاء الحرج خاصة، لا تحريم ولا كراهية ، وجميع ما

قاله مشكل على قواعد العلم وخصوصًا في العبادات - التي هي مسألتنا - إذ ليس

لأحد من خلق الله أن يخترع في الشريعة من رأيه أمرًا لا يوجد عليه منها دليل؛

لأنه عين البدعة، وهذا كذلك، إذ لا دليل فيها على اتخاذ الدعاء جهرًا للحاضرين

في آثار الصلوات دائمًا، على حد ما تقام، بحيث يعد الخارج عنه خارجًا عن

جماعة أهل الإسلام متجزًا ومتميزًا [1] إلى سائر ما ذكر، وكل ما لا يدل عليه

دليل [2] فهو البدعة.

وإلى هذا [3] فإن ذلك الكلام يوهم أن اتباع المتأخرين المتقلدين خير من اتباع

الصالحين من السلف، ولو كان في أحد جائزين، فكيف إذا كان في أمرين أحدهما

متيقن أنه صحيح والآخر مشكوك فيه؟ فيتبع المشكوك في صحته، ويترك ما لا

مرية في صحته ولو لعا من يتبعه [4] .

ثم إطلاقه القول بأن الترك لا يوجب حكمًا في المتروك إلا جواز الترك، غير

جار على أصول الشرع الثابتة، فنقول: إن هنا أصلاً لهذه المسألة لعل الله ينفع به

من أنصف من نفسه: وذلك أن سكوت الشارع عن الحكم في مسألة ما أو تركه

لأمر ما على ضربين:

(أحدهما) : أن يسكت عنه أو يتركه؛ لأنه لا داعية له تقتضيه، ولا

موجب يقرر لأجله، ولا وقع سبب تقريره، كالنوازل الحادثة بعد وفاة النبي صلى

الله عليه وسلم، فإنها لم تكن موجودة ثم سكت عنها مع وجودها، وإنما حدثت بعد

ذلك، فاحتاج أهل الشريعة إلى النظر فيها وإجرائها على ما تبين في الكليات التي

كمل بها الدين، وإلى هذا الضرب يرجع جميع ما نظر فيه السلف الصالح مما لم

يسنه رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخصوص مما هو معقول المعنى،

كتضمين الصناع، ومسألة الحرام، والجد مع الإخوة، وعول الفرائض، ومنه

جمع المصحف، ثم تدوين الشرائع، وما أشبه ذلك مما لم يحتج في زمانه عليه

السلام إلى تقريره للتقديم [5] كلياته التي تستنبط منها، إذا لم تقع أسباب الحكم فيها

ولا الفتوى منه عليه السلام، فلم يذكر لها حكم مخصوص.

فهذا الضرب إذا حدثت أسبابه فلا بد من النظر فيه وإجرائه على أصوله إن

كان من العاديات، أو من العبادات التي لا يمكن الاقتصار فيها على ما سمع،

كمسائل السهو والنسيان في إجراء العبادات. ولا إشكال في هذا الضرب؛ لأن

أصول الشرع عقيدة، وأسباب تلك الأحكام لم تكن في زمان الوحي، فالسكوت

عنها على الخصوص ليس بحكم يقتضي جواز الترك أو غير ذلك؛ بل إذا عرضت

النوازل روجع بها أصولها فوجدت فيها، ولا يجدها من ليس بمجتهد، وإنما يجدها

المجتهدون الموصوفون في علم أصول الفقه.

(والضرب الثاني) : أن يسكت الشارع عن الحكم الخاص أو يترك أمرًا ما

من الأمور، وموجبه المقتضي له قائم، وسببه في زمان الوحي وفيما بعده موجود

ثابت، إلا أنه لم يحدد فيه أمر زائد على ما كان من الحكم العام في أمثاله ولا

ينقص منه؛ لأنه لما كان المعنى الموجب لشرعية الحكم العقلي الخاص موجوداً ثم

لم يشرع ولا نبه على السبطا [6] كان صريحاً في أن الزائد على ما ثبت هنالك

بدعة زائدة ومخالفة لقصد الشارع، إذ فهم من قصده الوقوف عندما حد هنالك لا

الزيادة عليه ولا النقصان منه.

ولذلك مثال فيما نقل عن مالك بن أنس في سماع أشهب وابن نافع هو غاية

فيما نحن فيه، وذلك أن مذهبه في سجود الشكرالكراهية وأنه ليس بمشروع

وعليه بني كلامه. قال في العتبية: وسئل مالك عن الرجل يأتيه الأمر يحبه فيسجد

لله عز وجل شكرًا؟ فقال: لا يفعل هذا مما مضى من أمر الناس. قيل له: إن أبا

بكر الصديق رضي الله عنه فيما يذكرون - سجد يوم اليمامة شكرًا لله. أفسمعت

ذلك؟ قال: ما سمعت ذلك، وأنا أرى أن قد كذبوا على أبي بكر. وهذا من

الضلال أن يسمع المرء الشيء فيقول: هذا لم تسمعه مني. قد فتح الله على رسول

الله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين بعده. أفسمعت أن أحدًا منهم فعل مثل هذا؟

إذ ما قد كان في الناس وجرى على أيديهم سمع عنهم فيه شيء، فعليك بذلك فإنه

لو كان لذكر؟ لأنه من أمر الناس الذي قد كان فيهم، فهل سمعت أن أحدًا منهم

سجد؟ فهذا إجماع. وإذا جاءك أمر لا نعرفه فدعه - تمام الرواية - وقد احتوت

على فرض سؤال والجواب بما تقدم.

وتقرير السؤال أن يقال في البدعة - مثلاً -: إنها فعل سكت الشارع عن

حكمه في الفعل والترك، فلم يحكم عليه بحكم على الخصوص، فالأصل جواز فعله،

كما أن الأصل جواز تركه؟ إذ هو معنى الجائز، فإن كان له أصل جملي فأحرى

أن يجوز فعله، حتى يقوم الدليل على منعه أو كراهيته، وإذا كان كذلك فليس هنا

مخالفة لقصد الشارع، والسكوت عند الشارع لا يقتضي مخالفة ولا موافقة، ولا

يعين الشارع قصدًا ما دون ضده وخلافه، وإذا ثبت هذا فالعمل به ليس بمخالف إذ

لم يثبت في الشريعة نهي عنه.

وتقرير الجواب معنى ما ذكره مالك رحمه الله، وهو أن التشديد عن حكم

الفعل أو الترك هنا إذا وجد المعنى المقتضي له إجماع من كل ساكت على أن لا

زائد على ما كان؟ إذ لو كان ذلك لائقًا شرعًا أو سائغًا لفعلوه، فهم كانوا أحق

بإدراكه والسبق إلى العمل به، وذلك إذا نظرنا إلى المصلحة، فإنه لا يخلو إما أن

يكون في هذه الأحداث مصلحة أو لا.

والثاني لا يقول به أحد. والأول إما أن تكون تلك المصلحة الحادثة آكد من

المصلحة الموجودة في زمان التكليف أو لا، ولا يمكن أن يكون [7] مع كون المحدثة

زيادة تكليف، ونقضه [8] عن المكلف أحرى بالأزمنة المتأخرة، لما يعلم من قصور

الهمم واستيلاء الكسل، ولأنه خلاف بعث النبي صلى الله عليه وسلم بالحنفية

السمحة، ورفع الحرج عن الأمة، وذلك في تكليف العبادات؛ لأن العادات أمر

آخر - كما سيأتي - وقد مر منه [9] فلم يبق إلا أن تكون المصلحة الظاهرة الآن

مساوية للمصلحة الموجودة في زمان التشريع أو أضعف منها، وعند ذلك تصير

هذه الأحداث عبثًا أو استدراكًا على الشارع؛ لأن تلك المصلحة الموجودة في زمان

التشريع إن حصلت للأولين من غير هذا الأحداث إذًا عبث [10] إذ لا يصح أن

يحصل للأولين دون الآخرين، فقد صارت هذه الزيادة تشريعًا بعد الشارع بسبب

الآخرين ما فات للأولين [11] فلم يكمل الدين إذًا دونها، ومعاذ الله من هذا المأخذ.

وقد ظهر من العادات الجارية فيما نحن فيه أن ترك الأولين لأمر ما من غير

أن يعينوا فيه وجهًا مع احتماله في الأدلة الجملية ووجود المظنة، دليل على أن ذلك

الأمر لا يعمل به، وأنه إجماع منهم على تركه.

قال ابن رشد في شرح مسألة العتبية: الوجه في ذلك أنه لم يره مما في الدين -

يعني سجود الشكر - فرضاً ولا نفلاً، إذ لم يأمر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم،

ولا فعله، ولا أجمع المسلمون على اختيار فعله، والشرائع لا تثبت إلا من أحد

هذه الأمور - قال - واستدلاله على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك

بعده (بأن ذلك لو كان لنقل) صحيح؛ إذ لا يصح أن تتوفر الدواعي على ترك

نقل شريعة من شرائع الدين، وقد أمروا بالتبليغ - قال: وهذا أصل من الأصول،

وعليه يأتي إسقاط الزكاة من الخضر والبقول مع وجود سبب الزكاة فيها؛ لعموم

قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فيما سقت السماء والعيون والبعل العشر، وفيما

سقي بالنضح نصف العشر) لأنا نزّلنا ترك نقل أخذ النبي صلى الله عليه وسلم

الزكاة منها كالسُّنة القائمة في أن لا زكاة فيها، فكذلك نزل ترك نقل السجود عن

النبي صلى الله عليه وسلم في الشكر كالسنة القائمة في أن لا سجود فيه. ثم حكى

خلاف الشافعي والكلام عليه، والمقصود من المسألة توجيه مالك لها من حيث إنها

بدعة، لا توجيه أنها بدعة على الإطلاق.

وعلى هذا النحو جرى بعضهم في تحريم نكاح المحلل، وأنه بدعة منكرة،

من حيث وجد في زمانه عليه السلام المعنى المقتضي للتخفيف والترخيص للزوجين

بإجازة التحليل ليتراجعا كما كانا أول مرة، وأنه لما لم يشرع ذلك مع حرص امرأة

رفاعة على رجوعها إليه دل على أن التحليل ليس بمشروع لها ولا لغيرها، وهو

أصل صحيح إذا اعتبر وضح به ما نحن بصدده؛ لأن التزام الدعاء بآثار الصلوات

جهرًا للحاضرين في مساجد الجماعات لو كان صحيحًا شرعًا أو جائزًا لكان النبي

صلى الله عليه وسلم أولى بذلك أن يفعله.

وقد علل المنكر هذا الموضع بعلل تقتضي المشروعية، وبنى على فرض أنه

لم يأت ما يخالفه وأن الأصل الجواز في كل مسكوت عنه.

أما إن الأصل الجواز فيمتنع؛ لأن طائفة من العلماء يذهبون إلى أن الأشياء

قبل وجود الشرع على المنع دون الإباحة، فما الدليل على ما قال من الجواز؟ وإن

سلمنا له ما قال: فهل هو على الإطلاق أم لا؟ أما في العادات فمسلم، ولا نسلم أن

ما نحن فيه من العاديات؛ بل من العبادات، ولا يصح أن يقال فيما فيه تعبد: إنه

مختلف فيه على قولين: هل هو على المنع؟ أم هو على الإباحة؟ بل هو أمر زائد

على المنع؛ لأن

التعبديات إنما وضعوا للشارع [12] فلا يقال في صلاة سادسة - مثلاً - إنها على

الإباحة، فللمكلف وضعها على - أحد القولين - ليتعبد بها لله؛ لأنه باطل بإطلاق،

وهو أصل كل مبتدع يريد أن يستدرك على الشارع. ولو سلم أنه من قبيل

العاديات أو من قبيل ما يعقل معناه، فلا يصح العمل به أيضاً؛ لأن ترك العمل به

من النبي صلى الله عليه وسلم في جميع عمره، وترك السلف الصالح له على

توالي أزمنتهم، قد تقدم أنه نص في الترك وإجماع من كل مَن ترك؛ لأن عمل

الإجماع كنصه - كما أشار إليه مالك في كلامه.

وأيضًا فما يعلل له لا يصح التعليل به، وقد أتى الرادّ بأوجه منه:

(أحدها) : أن الدعاء بتلك الهيئة ليظهر وجه التشريع في الدعاء، وأنه

بآثار الصلوات مطلوب. وما قاله يقتضي أن يكون سنة بسبب الدوام والإظهار في

الجماعات والمساجد، وليس بسنة اتفاقًا منا ومنه، فانقلب إذًا وجه التشريع.

وأيضًا فإن إظهار التشريع كان في زمان النبي صلى الله عليه وسلم والى،

فكانت الكيفية المتكلم فيها أولى للإظهار، ولما لم يفعله عليه السلام دل على الترك

مع وجود المعنى المقتضي، فلا يمكن بعد زمانه في تلك الكيفية إلا الترك.

(والثاني) : أن الإمام يجمعهم على الدعاء ليكون باجتماعهم أقرب إلى

الإجابة. وهذه العلة كانت في زمانه عليه السلام؛ لأنه لا يكون أحد أسرع إجابة

لدعائه منه، إذ كان مجاب الدعوة بلا إشكال، بخلاف غيره وإن عظم قدره في

الدين فلا يبلغ رتبته، فهو كان أحق بأن يزيدهم الدعاء لهم خمس مرات في اليوم

والليلة زيادة إلى دعائهم لأنفسهم.

وأيضاً فإن قصد الاجتماع على الدعاء لا يكون بعد زمانه أبلغ في البركة من

اجتماع يكون فيه سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فكانوا بالتنبيه لهذه

المنقبة أولى.

(والثالث) : قصد التعليم للدعاء ليأخذوا من دعائه ما يدعون به لأنفسهم لئلا

يدعو بما لا يجوز عقلاً أو شرعًا، وهذا التعليل لا ينهض، فإن النبي صلى الله

عليه وسلم كان المعلم الأول، ومنه تلقَّينا ألفاظ الأدعية ومعانيها، وقد كان من

العرب من يجهل قدر الربوبية فيقول:

رب العباد ما لنا وما لك

أنزل علينا الغيث لا أبا لك

وقال الآخر:

لاهُمَّ إن كنت الذي بعهدي

ولم تغيرك الأمور بعدي

وقال الآخر:

أبنيَّ ليتي لا أحبكم

وجد الإله بكم كما أجد

وهي ألفاظ يفتقر أصحابها إلى التعليم، وكانوا أقرب عهد بجاهلية تعامل

الأصنام معاملة الرب الواحد سبحانه، ولا تنزهه كما يليق بجلاله، فلم يشرع لهم

دعاء بهيئة الاجتماع في آثار الصلوات دائمًا ليعلمهم أو يعينهم على التعلم إذا صلوا

معه؛ بل علم في مجالس التعليم، ودعا لنفسه إثر الصلاة حين بدا له ذلك، ولم

يلتفت إذ ذاك إلى النظر للجماعة، وهو كان أولى الخلق بذلك.

(والرابع) : أن في الاجتماع على الدعاء تعاونًا على البر والتقوى، وهو

مأمور به. وهذا الاحتجاج ضعيف. فإن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أنزل

عليه {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى} (المائدة: 2) وكذلك فعل. ولو كان

الاجتماع للدعاء أثر الصلاة جهرًا للحاضرين من باب البر والتقوى لكان أول سابق

إليه، لكنه لم يفعله أصلا ولا أحد بعده حتى حدث ما حدث. فدل على أنه ليس

على ذلك الوجه بر ولا تقوى.

(والخامس) : أن عامة الناس لا علم لهم باللسان العربي، فربما لحن

فيكون اللحن سبب عدم الإجابة. وحكي عن الأصمعي في ذلك حكاية شعرية لا

فقهية.

وهذا الاحتجاج إلى اللعب أقرب منه إلى الجد، وأقرب ما فيه أن أحدًا من

العلماء لا يشترط في الدعاء أن لا يلحن كما يشترط الإخلاص وصدق التوجيه [13]

وعزم المسألة، وغير ذلك من الشروط.

وتعلم اللسان العربي لإصلاح الألفاظ في الدعاء - وإن كان الإمام أعرف به

- هو كسائر ما يحتاج إليه الإنسان من أمر دينه، فإن كان الدعاء مستحبًّا فالقراءة

واجبة، والفقه في الصلاة كذلك، فإن كان تعليم الدعاء إثر الصلاة مطلوبًا،

فتعليم فقه الصلاة آكد؛ فكان من حقه أن يجعل ذلك من وظائف آثار الصلاة.

فإن قيل بموجبه في المحرف المتعارف، فهذه القاعدة تجتث أصله؛ لأن

السلف الصالح كانوا أحق بالسبق إلى فضله لجميع ما ذكره فيه من الفوائد، ولذلك

قال مالك فيها: أترى الناس اليوم كانوا أرغب في الخير ممن مضى؟

وهو إشارة إلى الأصل المذكور، وهو أن المعنى المقتضي للأحداث - وهو

الرغبة في الخير - كان أتم في السلف الصالح وهم لم يفعلوه، فدل على أنه لا يفعل.

وأما ما ذكر من آداب الدعاء فكله مما لا يتعين له إثر الصلاة؛ بدليل أن

رسول الله صلى الله عليه وسلم علم منها جملة كافية ولم يعلم منها شيئًا إثر الصلاة،

ولا تركهم دون تعليم ليأخذوا ذلك منه في آخر الصلاة، أو ليستغنوا بدعائه عن

تعليم ذلك، ومع أن الحاضرين للدعاء لا يحصل لهم من الإمام في ذلك كبير شيء،

وإن حصل فلمن كان قريبًا منه دون من بعد.

***

فصل

ثم استدل المستنصر بالقياس فقال: وإن صح أن السلف لم يعملوا به، فقد

عمل السلف بما لم يعمل به من قبلهم مما هو خير - ثم قال بعد: قد قال عمر بن

عبد العزيز رضي الله عنه: (تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور)

فكذلك تحدث لهم مرغبات في الخير بقدر ما أحدثوا من الفتور.

وهذا الاستدلال غير جار على الأصول:

(أما أولاً) : فإنه في مقابلة النص، وهو ما أشار إليه مالك في مسألة

العتبية، فذلك من باب فساد الاعتبار.

(وأما ثانيًا) : فإنه قياس على نص لم يثبت بعد من طريق مرضي؛ وهذا

ليس كذلك.

(وأما ثالثًا) : فإن كلام عمر بن عبد العزيز فرع اجتهادي جاء عن رجل

مجتهد يمكن أن يخطئ فيه كما يمكن أن يصيب، وإنما حقيقة الأصل أن يأتي عن

النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن أهل الإجماع، وهذا ليس عن واحد منهما.

(وأما رابعاً) : فإنه قياس بغير معنى جامع أو بمعنى جامع طردي [14] ،

ولكن الكلام فيه سيأتي إن شاء الله في الفرق بين المصالح المرسلة والبدع.

وقوله: (إن السلف عملوا بما لم يعمل به من قبلهم) حاشا لله أن يكونوا ممن

يدخل تحت هذه الترجمة. وقوله: (مما هو خير) أما بالنسبة إلى السلف فما

عملوا خير، وأما فرعه المقيس فكونه خيرًا دعوى؛ لأن كون الشيء خيرًا أو شرًّا

لا يثبت إلا بالشرع، أو لأن الدعاء على تلك الهيئة غير خير شرعًا.

وأما قياسه على قوله: (تحدث للناس أقضية) فمما تقدم [15] وفيه أمر آخر،

وهو التصريح بأن إحداث العبادات جائز قياسًا على قول عمر، وإنما كلام عمر بعد

تسليم القياس عليه في معنى عادي يختلف فيه مناط الحكم الثابت فيما تقدم،

كتضمين الصناع، أو الظنة في توجيه الإيمان، دون مجرد الدعاوى، فيقول: إن

الأولين توجهت عليهم بعض الأحكام لصحة الأمانة والديانة والفضيلة، فلما حدثت

أضدادها اختلف المناط فوجب اختلاف الحكم وهو حكم رادع أهل الباطل عن

باطلهم، فأثر هذا المعنى ظاهر مناسب بخلاف ما نحن فيه، فإنه على الضد من

ذلك، ألا ترى أن الناس إذا وقع فيهم الفتور عن الفرائض فضلاً عن النوافل -

وهي ما هي من القلة والسهولة - فما ظنك بهم إذا زيد عليهم أشياء أخرى يرغبون

فيها، ويرخصون [16] على استعمالها، فلا شك أن الوظائف تتكاثر حتى يؤدي إلى

أعظم من الكسل الأول، وإلى ترك الجميع. فإن حدث للعامل بالبدعة هو في بدعته،

أو لمن شايعه فيها، فلا بد من كسله مما هو أولى [17] .

فنحن نعلم أن ساهر ليلة النصف من شعبان لتلك الصلاة المحدثة لا يأتيه

الصبح إلا وهو نائم أو في غاية الكسل فيخل بصلاة الصبح، وكذلك سائر

المحدثات، فصارت هذه الزيادة عائدة على ما هو أولى منها بالإبطال أو الإخلال،

وقد مرّ أن ما من بدعة تحدث إلا ويموت من السنة ما هو خير منها.

وأيضاً فإن هذا القياس مخالف لأصل شرعي، وهو طلب النبي صلى الله

عليه وسلم بالسهولة والرفق والتيسير وعدم التشديد. وزيادة وظيفة لم تشرع فتظهر

ويعمل بها دائمًا في مواطن السنن، فهو تشديد بلا شك.

وإن سلمنا ما قال، فقد وجد كل مبتدع من العامة السبيل إلى إحداث البدع،

وأخذ هذا الكلام بيده حجة وبرهانًا على صحة ما يحدثه كائنًا ما كان، وهو مرمى

بعيد.

ثم استدل على جواز الدعاء إثر الصلاة في الجملة، ونقل في ذلك عن مالك

وغيره أنواعًا من الكلام، وليس محل النزاع [18] ؛ بل جعل الأدلة شاملة لتلك

الكيفية المذكورة. وعقب ذلك بقول: وقد تظاهرت الأحاديث والآثار وعمل الناس

وكلام العلماء على هذا المعنى، كما قد ظهر - قال - ومن المعلوم أنه عليه السلام

كان الإمام في الصلوات، وأنه لم يكن ليخص نفسه بتلك الدعوات، إذ قد جاء في

سنته: (لا يحل لرجل أن يؤم قومًا إلا بإذنهم، ولا يخص نفسه بدعوة دونهم، فإن

فعل فقد خانهم) فتأملوا يا أولي الألباب، فإن عامة النصوص فيما سمع من أدعيته

في أدبار الصلوات إنما كان دعاء لنفسه، وهذا تناقض، ومن الله نسأل التوفيق.

وإنما حمل الناس الحديث على دعاء الإمام في نفس الصلاة من السجود

وغيره، لا فيما حمله عليه هذا المتأول، ولما لم يصح العمل بذلك الحديث عند

مالك أجاز للإمام أن يخص نفسه بالدعاء دون المأمومين. ذكره في النوادر. ولما

اعترضه نقل العلماء وكلام السلف مما تقدم ذكره، أخذ يتأول ويوجه كلامهم على

طريقته المرتكبة [19] ووقع له في كلام على غير تأمل لا يسلم ظاهره من التناقض

والتدافع لوضوح أمره، وكذلك في تأويل الأحاديث التي نقلها، لكن تركت هنا

استيفاء الكلام عليها لطوله، وقد ذكرته في غير هذا الموضع والحمد لله على ذلك.

***

فصل

(بحث جليل في كون المشتبهات تدخل في البدع الإضافية) :

من كتاب الاعتصام للإمام الشاطبي، قال رحمه الله تعالى:

ويمكن أن يدخل في البدعة الإضافية كل عمل اشتبه أمره فلم يتبين أهو بدعة

فينهى عنه؟ أم غير بدعة فيعمل به؟ فإنا إذا اعتبرناه بالأحكام الشرعية وجدناه من

المشتبهات التي قد ندبنا إلى تركها حذرًا من الوقوع في المحظور، والمحظور هنا

هو العمل بالبدعة، فإذا العالم به لا يقطع أنه عمل ببدعة، كما أنه لا يقطع أنه

عمل بسنة، فصار من جهة هذا التردد غير عامل ببدعة حقيقة، ولا يقال أيضًا:

إنه خارج عن العمل بها جملة.

وبيان ذلك النهي الوارد في المشتبهات إنما هو حماية أن يقع في ذلك الممنوع

الواقع فيه الاشتباه، فإذا اختلطت الميتة بالذكية نهيناه عن الإقدام، فإن أقدم أمكن

عندنا أن يكون آكلاً للميتة في الاشتباه.

فالنهي الأخف إذًا منصرف نحو الميتة في الاشتباه، كما انصرف إليها النهي

الأشد في التحقق.

وكذلك اختلاط الرضيعة بالأجنبية: النهي في الاشتباه منصرف إلى الرضيعة

كما انصرف إليها في التحقق، وكذلك سائر المشتبهات إنما ينصرف نهي الإقدام

على المشتبه إلى خصوص الممنوع المشتبه، فإذا الفعل الدائر بين كونه سنة أو

بدعة إذا نهي عنه في باب الاشتباه نهي عن البدعة في الجملة، فمن أقدم على منهي

عنه في باب البدعة؛ لأنه محتمل أن يكون بدعة في نفس الأمر، فصار من هذا

الوجه كالعامل بالبدعة المنهي عنها - وقد مر أن البدعة الإضافية هي الواقعة ذات

وجهين - فلذلك قيل: إن هذا القسم من قبيل البدع الإضافية. ولهذا النوع أمثلة:

(أحدها) : إذا تعارضت الأدلة على المجتهد في أن العمل الفلاني مشروع

يتعبد به، أو غير مشروع فلا يتعبد به، ولم يتبين له جمع بين الدليلين، أو إسقاط

أحدهما بنسخ أو ترجيح أو غيرهما - فقد ثبت في الأصول أن فرضه التوقف، فلو

عمل بمقتضى دليل التشريع من غير مرجح لكان عاملاً بمتشابه، لإمكان صحة

الدليل بعدم المشروعية، فالصواب الوقوف عن الحكم رأسًا، وهو الفرض في حقه.

(والثاني) : إذا تعارضت الأقوال على المقلد في المسألة بعينها، فقال

بعض العلماء بكون العمل بدعة. وقال بعضهم: ليس ببدعة. ولم يتبين له الأرجح

من العالمين بأعلمية أو غيرها، فحقه الوقوف والسؤال عنهما حتى يتبين له الأرجح

فيميل إلى تقليده دون الأخر، فإن أقدم على تقليد أحدهما من غير مرجح كان حكمه

حكم المجتهد إذا أقدم على العمل بأحد الدليلين من غير ترجيح، فالمثالان في المعنى

واحد.

(والثالث) : أنه ثبت في الصحاح عن الصحابة رضي الله عنهم أنهم

يتبركون [20] بأشياء من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي البخاري عن أبي

جحيفة رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم

بالهاجرة فأُتي بِوَضوء فتوضأ، فجعل الناس يأخذون من فضل وَضوئه فيتمسحون

به، الحديث. وفيه: كان إذا توضأ يقتتلون على وضوئه، وعن المسور - رضي

الله عنه - في حديث الحديبية: (وما انتخم النبي صلى الله عليه وسلم نخامة إلا

وضع في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده) . وخرَّج غيره من ذلك كثيرًا في

التبرك بشعره وثوبه وغيرهما، حتى إنه مس بإصبعه أحدهم بيده فلم يحلق ذلك

الشعر الذي مسه عيه السلام حتى مات، وبالغ بعضهم في ذلك حتى شرب دم

حجامته؛ إلى أشياء هذا [21] كثيرة. فالظاهر في مثل هذا النوع أن يكون مشروعًا

في حق من ثبتت ولايته واتباعه لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يتبرك

بفضل وضوئه، ويتدلك بنخامته، ويستشفى بآثاره كلها، ويرجى نحو مما كان في

آثار المتبوع الأصل [22] صلى الله عليه وسلم [23] .

إلا أنه عارضنا في ذلك أصل مقطوع به في متنه، مشكل في تنزيله، وهو

أن الصحابة رضي الله عنهم بعد موته عليه السلام لم يقع من أحد منهم شيء

من ذلك بالنسبة إلى من خلفه؛ إذ لم يترك النبي صلى الله عليه وسلم بعده في الأمة

أفضل من أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فهو كان خليفته، ولم يفعل به شيء

من ذلك، ولا عمر رضي الله عنهما، وهو كان أفضل الأمة بعده، ثم كذلك عثمان

ثم علي، ثم سائر الصحابة الذين لا أحد أفضل منهم في الأمة، ثم لم يثبت لواحد

منهم من طريق صحيح معروف أن متبركًا تبرك به على أحد تلك الوجوه أو نحوها؛

بل اقتصروا فيهم على الاقتداء بالأفعال والأقوال والسير التي اتبعوا فيها النبي

صلى الله عليه وسلم، فهو إذا إجماع منهم على ترك تلك الأشياء.

وبقي النظر في وجه ترك ما تركوا منه، ويحتمل وجهين:

(أحدهما) : أن يعتقدوا فيه الاختصاص وأن مرتبة النبوة يسع فيها ذلك كله،

للقطع بوجود ما التمسوا من البركة والخير؛ لأنه عليه السلام كان نورًا كله في

ظاهره وباطنه، فمن التمس منه نورًا وجده على أي جهة التمسه، بخلاف غيره

من الأمة وإن حصل له من نور الاقتداء به والاهتداء بهديه ما شاء الله لا يبلغ مبلغه

على حال توازيه في مرتبته، ولا تقاربه، فصار هذا النوع مختصًّا به كاختصاصه

بنكاح ما زاد على الأربع، وإحلال بُضْع الواهبة نفسها له، وعدم وجوب القسم

على الزوجات [24] وشبه ذلك؛ فعلى هذا المأخذ: لا يصح لمن بعده الاقتداء به في

التبرك على أحد تلك الوجوه ونحوها، ومن اقتدى به كان اقتداؤه بدعة، كما كان

الاقتداء به في الزيادة على أربع نسوة بدعة.

(الثاني) : أن لا يعتقدوا الاختصاص ولكنهم تركوا ذلك من باب الذرائع

خوفًا من أن يجعل ذلك سنة - كما تقدم ذكره في اتباع الآثار - والنهي عن ذلك، أو

لأن العامة لا تقتصر في ذلك على حد؛ بل تجاوز فيه الحدود، وتبالغ بجهلها في

التماس البركة؛ حتى يداخلها للمتبرك به تعظيم يخرج عن الحد، فربما اعتقد في

المتبرك به ما ليس فيه، وهذا التبرك هو أصل العبادة، ولأجله قطع عمر -

رضي الله عنه الشجرة التي بويع تحتها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بل هو

كان أصل عبادة الأوثان في الأمم الخالية - حسبما ذكره أهل السير - فخاف عمر

رضي الله عنه أن يتمادى الحال في الصلاة إلى تلك الشجرة حتى تعبد من دون الله،

فكذلك يتفق عند التوغل في التعظيم.

ولقد حكى الفرغاني مذيل تاريخ الطبري عن الحلاج أن أصحابه بالغوا في

التبرك به حتى كانوا يتمسحون ببوله ويتبخرون بعذرته، حتى ادعو فيه الإلهية،

تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا.

ولأن الولاية - وإن ظهر لها في الظاهر آثار - فقد يخفى أمرها؛ لأنها في

الحقيقة راجعة إلى أمر باطن لا يعلمه إلا الله، فربما ادعيت الولاية لمن ليس

بولي، أو ادّعاها هو لنفسه، أو أظهر خارقة من خوارق العادات هي من باب

الشعوذة لا من باب الكرامة، أو من باب [25] أو الخواص أو غير ذلك، والجمهور

لا يعرف الفرق بين الكرامة والسحر، فيعظمون من ليس بعظيم، ويقتدون بمن لا

قدوة فيه - وهو الضلال البعيد - إلى غير ذلك من المفاسد. فتركوا العلم بما تقدم -

وإن كان له أصل - لما يلزم عليه من الفساد في الدين وقد يظهر بأول وهلة أن هذا

الوجه الثاني أرجح، لما ثبت في الأصول العلمية أن كل قرابة أعطيها النبي صلى

الله عليه وسلم فإن لأمته أنموذجًا منها، ما لم يدل دليل على الاختصاص.

إلا أن الوجه الأول أيضًا راجح من جهة أخرى، وهو إطباقهم على عدم

التبرك؛ إذ لو كان اعتقادهم التشريع لعلم به بعضهم بعده، أو عملوا به ولو في

بعض الأحوال، إما وقوفًا مع أصل المشروعية، وإما بناء على اعتقاد انتفاء العلة

الموجبة للامتناع.

وقد خرج ابن وهب في جماعة من حديث يونس بن يزيد عن ابن شهاب،

قال: حدثني رجل من الأنصار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ أو

تنخم ابتدر من حوله من المسلمين وضوءه ونخامته فشربوه ومسحوا به جلودهم؛

فلما رآهم يصنعون ذلك سألهم: (لِمَ تفعلون هذا؟) قالوا: نلتمس الطهور والبركة

بذلك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من كان منكم يحب أن يحبه الله

ورسوله فليصدق الحديث، وليؤد الأمانة ولا يؤذِ جاره) ، فإن صح هذا النقل فهو

مشعر بأن الأولى تركه [26] وأن يتحرى ما هو الآكد والأحرى من وظائف التكليف،

ولا يلزم الإنسان في خاصة نفسه، ولم يثبت من ذلك كله إلا ما كان قبيل الرقية

وما يتبعها، أو دعاء الرجل لغيره على وجه سيأتي بحول الله.

فقد صارت المسألة من أصلها دائرة بين أمرين: أن تكون مشروعة، فدخلت

تحت حكم المتشابه والله أعلم. [27] .

***

فصل

ومن البدع الإضافية التي تقرب من الحقيقة أن يكون أصل العبادة مشروعًا إلا

أنها تخرج عن أصل شرعيتها بغير دليل، توهمًا أنها باقية على أصلها تحت

مقتضى الدليل، وذلك بأن يقيد إطلاقها بالرأي، أو يطلق تقييدها، وبالجملة فتخرج

عن حدها الذي حد لها.

ومثال ذلك أن يقال: إن الصوم في الجملة مندوب إليه لم يخصه الشارع

بوقت دون وقت، ولا حد فيه زمانًا دون زمان، ما عدا ما نهي عن صيامه على

الخصوص كالعيدين، ندب إليه على الخصوص كعرفة وعاشوراء بقول؛ فإذا

خص منه يومًا من الجمعة بعينه، أو أيامًا من الشهر بأعيانها - لا من جهة ما عينه

الشارع - فإن ذلك ظاهر بأنه من جهة اختيار المكلف، كيوم الأربعاء مثلاً في

الجمعة، والسابع والثامن في الشهر، وما أشبه ذلك؛ بحيث لا يقصد بذلك

وجهًا بعينه مما لا ينثني عنه، فإذا قيل له: لم خصصت تلك الأيام دون غيرها؟ لم

يكن له بذل حجة غير التصميم، أو يقول: إن الشيخ الفلاني مات فيه أو ما أشبه

ذلك، فلا شك أنه رأي محض بغير دليل، ضاهى به تخصيص الشارع أيامًا بأعيانها

دون غيرها. فصار التخصيص من المكلف بدعة؛ إذ هي تشريع بغير مستند.

ومن ذلك تخصيص الأيام الفاضلة بأنواع من العبادات التي لم تشرع لها

تخصيصًا، كتخصيص اليوم الفلاني بكذا وكذا من الركعات، أو بصدقة كذا وكذا،

أو الليلة الفلانية بقيام كذا وكذا ركعة، أو بختم القرآن فيها أو ما أشبه ذلك [28] فإن

ذلك التخصيص والعمل به إذا لم يكن بحكم الوفاق أو بقصد يقصد ومثله أهل العقل

والفراغ والنشاط، كان تشريعًا زائدًا.

لا حجة له في أن يقول: إن هذا الزمان ثبت فضله على غيره فيحسن فيه

إيقاع العبادات؛ لأنا نقول: هذا الحسن هل ثبت له أصل أم لا؟ فإن ثبت

فمسألتنا [29] كما ثبت الفضل في قيام ليالي رمضان وصيام ثلاثة أيام من كل شهر

وصيام الاثنين والخميس فإن لم يثبت فما مستندك فيه - والعقل لا يحسن ولا يقبح،

ولا شرع يستند إليه؟ فلم يبق إلا أنه ابتدع في التخصيص، كإحداث الخطب

وتحري ختم القرآن في بعض ليالي رمضان. اهـ

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) تابع لما نشر في ص 433 ج 6.

(1)

كذا في الأصل.

(2)

سقط لفظ: (دليل) من الأصل.

(3)

لعله: وعلى هذا.

(4)

كذا في الأصل.

(5)

كذا في الأصل وهو محرف ولعل في الكلام حذفًا أيضًا، والمعنى المراد ظاهر، وهو أن ما لم يحتج إلى تقريره في عصر النبوة من جزئيات الأحكام قد وجد في الشريعة من القواعد الكلية ما يدخل فيه ويستنبط.

(6)

كذا والمعني ولم ينبه على قاعدة لاستنباطه منها.

(7)

انظر اسم أن يكون وخبره، والظاهر أنه قد سقط من الناسخ، والمعنى الذي يقتضيه السياق ويتعين مما يأتي هو نفي كون المصلحة الحادثة آكد؛ لأنه يقول إنها مساوية أو أضعف، فلعل أصل الكلام:(ولا يمكن أن يكون آكد) وقوله: مع كون المحدثة إلخ تعليل للنفي.

(8)

كذا ولعل الأصل نقصه بالصاد المهملة، أي نقص التكليف وتخفيفه.

(9)

كذا ولعل الأصل: (وقد مر شيء منه) ، أو ما هو بمعنى هذا.

(10)

لعل الأصل (فهي إذًا عبث) .

(11)

لعل الأصل (بسبب للآخرين ما فات للأولين) .

(12)

لعله (إنما وضعها للشارع) .

(13)

أي توجيه القلب إلى الله تعالى المأخوذ من قوله: (وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض) ويحتمل أن تكون (التوجه) الذي هو مطاوع التوجيه.

(14)

لعل الأصل (غير طردي) .

(15)

كذا والظاهر أنه سقط منه شيء، ولعل أصله (فمما تقدم يعلم بطلانه) .

(16)

كذا والترخيص هنا غير مناسب ولا يتعدى بعلى فلعل الأصل (ويحضون) .

(17)

ظاهر أن في هذه العبارة غلطًا والمعنى المفهوم من السياق أن صاحب البدعة إذا كان يعرض له الكسل في بدعته ولمن شايعه عليها، فلا بد من عروض الكسل له في غيرها من الأعمال بالأولى؛ لأن نظرية البدعة أنها بجدتها تحدث نشاطًا بعد الفتور كما تقدم.

(18)

لفظ محل منصوب خبر ليس، أي وليس هذا محل النزاع.

(19)

كذا ولعله (المرتبكة) .

(20)

لعل الأصل: كانوا يتبركون.

(21)

لعله: كهذا.

(22)

يظهر أن هذه الجملة محرفة.

(23)

قد استفاض أنه صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن الغلو في تعظيمه.

(24)

لعل أصله: وعدم وجوب القسم عليه للزوجات.

(25)

بياض في الأصل، ولعل الساقط لفظ (السحر) فإنه يذكره قريبًا.

(26)

قد يقال: إن هذا يدل على الإنكار وكراهة النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الفعل، ويؤيده ما ثبت من مجموع سيرته من كراهة الغلو فيه وإطرائه، وحبه للتواضع ومساواة الناس بنفسه في المعاملات كلها إلا ما خصه الله به؛ حتى إنه طلب أن يقتص منه من لعله آذاه - وهو القائد والمربي الذي جعله الله أولى بالمؤمنين من أنفسهم - ولم يعرف من الأحوال التي تبركوا فيها بفضل وضوئه وببصاقه إلا يوم الحديبية وظهر له يومئذٍ حكمة، فإن مندوب المشركين في صلح الحديبية لما حدثهم بما رأى من ذلك هابوا النبي صلى الله عليه وسلم وخافوا قتال المسلمين فلعل المسلمين قصدوا هذا لهذا.

(27)

ينظر أين الأمر الثاني؟ ولعل الساقط: (أو تكون غير مشروعة) .

(28)

ومنه صلاة الرغائب وصلاة ليلة النصف من شعبان، ومنه تخصيص أيام معينة لزيارة القبور والصدقة عندها؛ كأول جمعة من رجب كل ذلك من البدع والتشريع الذي لم يأذن به الله وقد يتصل بالبدعة الواحدة بدع ومعاص أخرى توجب تركها - ولو لم تكن بدعة - لسد ذريعة هذه المفاسد.

(29)

أي فهو مسألتنا.

ص: 513

الكاتب: محمد رشيد رضا

الجنسيات

في المملكة العثمانية

الجنس في عُرف أهل السياسة كالصنف في عُرف علماء المنطق، فيُطلق

على الأجيال التي تفصل بينها الفصول العامة (كالنسب واللغة) وهما أقدم روابط

الجنسية، ويليها الدين والوطن الأرضي والسياسي. ولم يوجد دين من الأديان ألف

بين شعوب وقبائل مختلفة في جميع روابط الجنسية وجعلها أمة واحدة وجنسًا واحدًا

إلا الدين الإسلامي، وقد بيَّنَّا هذا مرارًا فلا نعيده الآن. ولما كان اتحاد الأمة لا يتم

إلا بوحدة لغتها كان من مقاصد الإسلام جعل لغة القرآن لغة لجميع المسلمين،

وعلى هذا جرى المسلمون في خير القرون بالعمل، فصارت العربية لغة المسلمين

في المشرق والمغرب من القرن الأول. وقد زال من نفوس المسلمين الشعور

بالغيرية الجنسية زمنًا طويلاً، حتى أحياه الفرس والترك كما بيّنّا من قبل.

إن العصبية الجنسية في هذا العصر قد دخلت في طور سياسي جديد، وكان

العرب آخر الأجناس شعورًا بها؛ لأن سوادهم الأعظم مسلمون لا يكادون يشعرون

بغير الجنسية الدينية؛ ولكن الآستانة بسياسة حكومتها وإدارتها بعد الدستور وسياسة

جرائدها قد كونت هذا الشعور وجعلته حيًّا ناميًا - فصدقت كلمتي المحفوظة: إن

العرب يعجزون بأنفسهم عن تكوين جنسية عربية سياسية لهم، ولا يقدر على ذلك

إلا الآستانة وحدها، ولما رأينا بوادر هذا الأمر وكنا نعلم أن التحولات الاجتماعية

السريعة تكون دائمًا محفوفة بالأخطار سعينا لتدارك الخطر في الآستانة نفسها،

ومقالاتنا الست التي نشرناها هنالك تحت عنوان (العرب والترك) لا تزال

محفوظة تشهد لنا بأننا سعينا إلى الوحدة بين العنصرين جد السعي، وبينا من

الحجج على ذلك ما لم يبينه أحد، ولكن ذلك كله لم يفد، ولماذا؟

إن من المقاصد الأساسية لجمعية الاتحاد والترقي إحياء الجنسية التركية

وتقويتها لتوجد منها أمة تركية كأمم أوربا في مدنيتها، ودولة تركية كدول أوربة في

عزتها وحضارتها. وكانوا يظنون أنهم يستطيعون بقوة الدولة أن يتركوا جميع

الأجناس العثمانية في البلاد الحضرية القابلة للعمران، ويجعلوا سائر البلاد

مستعمرات ليس لها من الحقوق ما لسائر العثمانيين. ولهذا كانوا يجدون في تقوية

الجنسية التركية ونشر اللغة التركية، ويعاقبون من يقتدي بهم في ذلك من غير

الترك أشد العقاب.

دار الفلك دورته، فثبت للاتحاديين ضرر هذه التجربة - محاولة تتريك

شعوب المملكة -، وكان من نتائجها المشؤومة الفتنة الألبانية، فالحرب البلقانية

العثمانية، فرجعوا عن فكرة تعميم تتريك الشعوب كلها إلى الاكتفاء بتتريك

الضعيف منها، إما بقلة العدد كاللاز والشركس، وإما بقلة العلم وعدم تدوين اللغة

كالأكراد، وإما بالخضرمة في اللغة كالعرب المتصلين بالترك بالقرب من

الأناضول، ثم بتقوية اللغة التركية في جميع البلاد العثمانية، وجعل الارتقاء في

الحكومة والعلوم والمدينة موقوفًا عليها. وترتب على هذا ترك الضغط السابق

على المستيقظين من الشعوب الكبيرة؛ إذ كانت الجرائد تحاكم وتقفل إذا ذكرت

اسم جنسها، والاعتصام بحبل لغتها، والتذكير بمجد سلفها، حتى إن المجلس

العسكري العرفي في بيروت حاكم مدير جريدة المفيد، وعدّه مجرمًا، وحكم بمنع

صدور الجريدة بذنب غريب جدًّا في هذا الباب، وهو كلمة (يا قوم) وردت في

قصيدة، نشرت في تلك الجريدة! ! قرر رئيس المجلس وأعضاؤه من الترك أن

كلمة (يا قوم) معناها عنصر العرب، فذكرها تفريق بين العناصر العثمانية، وهو

من أعظم الجنايات! ! (كما مر) ذلك بأن الترك يستعملون كلمة (قوم) بمعنى

الجنس والجيل من الناس الذي يعبرون عنه بالعنصر. ولم يلتفت

المجلس لاحتجاج المتهم بأن القصيدة المنشورة في جريدته عربية ولفظ القوم في

اللغة العربية معناه الجماعة من الناس، كما هو منصوص في المعاجم، قيل: يشمل

الرجال والنساء، وقيل: هو خاص بالرجال. وإن الشعراء يستعملونه الآن بمعنى

(يا ناس) . كانت جمعية الاتحاد والترقي قد صرَّحت تصريحًا نشرته جريدتها

(طنين) بالرجوع عن فكرة (تتريك العناصر) وكان ذلك مداراة لم يصدقه العمل،

ولكنها في العهد الأخير عقدت اتفاقًا مع (جمعية الشبيبة العربية) التي يمثلها

(المنتدى الأدبي) في الآستانة، وأشهروا هذا الاتفاق بالاحتفالات والمآدب،

وجعلوه وسيلة وذريعة للاتفاق بين جمعية الاتحاد والترقي والمؤتمر العربي الذي

انعقد في باريس. وصار زعماء الجمعية من وزراء الحكومة يزورون المنتدى

الأدبي ويحضرون بعض احتفالاته، وتمثيل القصة العربية التي يمثلها أعضاؤه كل

سنة. وقد احتفل أعضاء المنتدى في هذا العالم بذكرى المولد النبوي الشريف

فحضر احتفالهم فيه طلعت بك ناظر الداخلية وجمال باشا ناظر البحرية (الآن) ،

وخطب طلعت بك بالتركية باستمساك الترك بالعرب، وأنهم إذا فرّوا منهم

يتبعونهم ويلتزمونهم، فاهتزت لهذه الخطبة أسلاك البرق في العالم، ووعد الزعيم

الكبير في خطبته هذه بأن يخطب في احتفال مولد العام القابل بالعربية، هذا بعد أن

كان أعضاء المنتدى الأدبي لا يسمون أنفسهم جمعية خوفًا من إقفال الحكومة

الاتحادية لناديهم، ومحاكمتهم على ذلك في المجلس العسكري العرفي. فأين هذا

من تسقط هذا المجلس لبعض أعضاء المنتدى بتسميتهم جمعية ليعترف بعضهم بذلك

فيحكم المجلس فيهم حكمه؟ وقع هذا التسقط في تحقيق المجلس مع المتهمين في

حادثة الاعتداء على صاحب جريدة (إقدام) التركية الشهيرة، عقب نشر مقالة أهين

بها العرب، وكان المنتدى الأدبي لم يتجاوز السنة الأولى من عمره.

علم من هذا أن السياسة الجديدة التي ظهر بها الاتحاديون في العاصمة هي أن

العصبية الجنسية نافعة أو ضرورية لترقي كل جنس، وأنه يمكن الجمع بينها وبين

الوحدة العثمانية، ولا سيما الوحدة بين العرب والترك من العثمانيين، وأنه يجب

على كل جنس أن يرقي نفسه من غير أن يضر غيره أو يحول دون الوحدة

العثمانية.

وقد سر جمهور المتعلمين من العرب بهذه السياسة الجديدة، وهم لا يشترطون

لاعتقاد إخلاص الاتحاديين للعرب فيها إلا إطلاق الحرية لجرائدهم وجماعاتهم

وأفرادهم كما أطلقوها للترك، ومساواة الحكومة بينهما في التربية والتعليم

والمساعدة على الأعمال. ولكن الترك في هذا الطور الجديد قد ألفوا عدة جمعيات

تركية محضة، وقاموا بعدة مشروعات تركية خالصة، وألفوا عدة كتب ورسائل في

النهضة التركية والرابطة الجنسية البحتة، وصار شغل جرائدهم الشاغل وجوب

إنشاء أمة تركية محضة ودولة تركية محضة وكان كلام بعضهم في هذا أن الدولة

تركية لا عثمانية.

وإن العثمانية وهم من الأوهام. ولم يفعل العرب شيئًا يذكر من ذلك. نعم إن

بعضهم يتكلم أو يكتب في الجرائد كتابة تعد ضئيلة نحيلة إذا قيست بما يكتبه الترك.

ولم أر لأحد منهم مصنفًا خاصًّا في هذا الموضوع إلا رسالة لأحد أدباء بيروت من

آل الفاخوري. ونشر بعض الغلاة منشورات تهييج وثورة، وقالوا فيها: إن لهم

جمعية، وأنا لا أصدق ذلك.

* * *

الجنسية والإسلام وحزب اللامركزية:

بعد هذا كله قام من كتّاب العرب كاتب من طائفة لها دين لا يتفق مع دين

الإسلام في أصوله ولا فروعه [1] فكتب كتابًا جعل نفسه فيه أشد إسلامًا من جميع

علماء الإسلام. وأشد عصبية تركية من غلاة الترك أنفسهم، وأشد اتحادية من

زعماء جمعية الاتحاد والترقي ووزرائها؛ إذ قام يجاهد فيه الجنسية العربية وحدها،

ويجعلها هادمة للإسلام الذي يغار عليه - بزعمه - ما لا يغار عليه الذين أفنوا

أعمارهم في القيام به علمًا وعملاً ودعوة ودفاعًا، ويلصق تهمة هذه الجناية على

الإسلام بحزب اللامركزية وحده. على أن حزب اللامركزية عثماني محض ليس في

برنامجه ولا في بياناته كلمة واحدة تدعو إلى الجنسية العربية، أو تنفر من

الجنسية التركية؛ وإنما هو يدعو جميع العثمانيين إلى مطالبة الحكومة بالإدارة

اللامركزية، بالطرق المشروعة القانونية. نعم إن فكرته قد انتشرت في العرب؛ لأن

المؤسسين له من العرب، ولم يقدروا على نشر دعوتهم في غير الشعب العربي.

وذلك الكاتب المنحي عليهم يقول: إن دعوتهم لم يحفل بها أحد يذكر.

ولم يستجب لها إلا عدد لا يقدم ولا يؤخر. فلماذا عني إذًا بتأليف كتاب خاص

في التشنيع عليهم؟

ما رأيت مثالاً لإطالة هذا الكاتب القدح في حزب اللامركزية - بدعوى الجناية

على الإسلام بتقوية الجنسية العربية وجعلها هي واللامركزية التي تراد لأجلها أسرع

ما يمحو الإسلام ويوقع المملكة في أيدي الأجانب! ! إلا ما أطال به كاتب أمريكانى

في التشنيع على جمعية إبطال المسكرات في أمريكا. ذلك بأن هذه الجمعية سلكت

أخيرًا السبيل القانوني الموصل إلى غرضها الشريف؛ وهو السعي لانتخاب

أعضائها ومشايعيها لمجلس النواب. وقد فازوا في بعض الولايات فوزًا عظيمًا،

فانبرى لمحاربتهم تجار المسكرات، الذين يربحون الملايين من الريالات، وكان

أغرب حربهم القلمية، مقالات لأحد الكتاب عنوانها (الحرية الشخصية) ما ترك

هذا الكاتب شيئًا اهتدى إليه باطلاعه وذكائه في مدح الحرية الشخصية إلا وقاله،

وجعل إبطال المسكرات مزيلاً له، كأنه الذي يهدم الحكومات الدستورية،

ويوقع العالم في الفوضى والهمجية! ! فكثير من كلامه حق أريد به باطل، ومنه

ما هو باطل أريد به باطل، وهكذا فعل كاتبنا العربي، ونقول في كل منهما: إنه

يمكن تفنيد مقالاته، ودحض شبهاته، بمقالات أصح منها دليلاً، وأقوم قيلاً،

وأوسع تفصيلاً. ولكن الرد على ما يكتب اتباعًا للهوى، وارتيادًا للمناصب إضاعة

للوقت، وسبب للتمادي في الباطل واللغو.

قد يظن هذا الكاتب ويظن من تقرب إليهم بما كتب - ممن لا يحبون أن تقوم

للعرب قائمة، ولا تستيقظ لهم عين نائمة - أن مثل هذه الكتابة تقنع السواد الأعظم

من مسلمي العرب بأن يجيبوا دعوة لمن يدعونهم إلى إحياء لغتهم، وإلى قيامهم

بعمران بلادهم، والاستئثار بخيراتها دون الصهيونيين والأجانب الذين تقذفهم بهم

الحكومة المركزية من كل جانب، بما تعطيهم من امتياز، وما تمكن لهم من امتلاك

البلاد، وأن ينبذوا هؤلاء الدعاة إلى الإصلاح نبذ النوى، اعتقادًا بصدق ذلك

الكاتب في زعمه أن هذا يميت الإسلام ويزيل هداية السنة والقرآن! وإن هذا هو

الذي يرمي إليه زعماء اللامركزية، بدعوتهم إلى إحياء الجنسية العربية. وسيعلم

الظانون كذب ظنهم، وإن هذه الكتابة لا تخدع عامة العرب فضلاً عن خاصتهم؛

بل تكون سببًا لقوة نهضة العرب، وإساءة الظن بمصادر هذه الخدع.

كنا عزمنا على ترك الكتابة في هذه المسائل، ثم بدا لنا بعد هذه الخلابة

والخديعة أن نبين للأمة والتاريخ لباب الحقيقة، وأن ننشر نموذجًا من كلام دعاة

الجنسيتين التركية والعربية؛ لأجل المقارنة بينهما، وليعرف اعتدال حزب

اللامركزية بين غلاتهما، ومنه يظهر أن تخصيصه باللوم والتعنيف، ليس نصرًا

للدين الحنيف؛ إذ الدين لا يحيا إلا بحياة لغته، وارتقاء أمته، وإننا نبدأ بنموذج

من كتاب (قوم جديد) ؛ لأنه جاء الدعوة إلى الجنسية التركية من طريق الدين،

بما فيه أكبر عبرة للمعتبرين، من التحريف والتبديل، والتحريم والتكفير بمحض

الرأي والهوى. وجعل الدين كالمحصور في بذل المال والنفس لحكومة الآستانة

الاتحادية.

* * *

نموذج من كتاب

(قوم جديد)

(مترجم عن النسخة التركية المطبوعة في الآستانة)

جاء في الصفحة 14 من هذا الكتاب:

يجب تعطيل المساجد والتكايا الموجودة في الآستانة ما عدا الجوامع التي بناها

السلاطين، وتخصيص نفقاتها إلى الشؤون الحربية والعسكرية كما ورد في الآيات

الكريمة والأعمال النبوية.

وفي الصفحة 15:

ورد منذ مدة في إحدى الجرائد السياسية أنه من الضروري الاهتمام بتعميم

تعليم اللغة العربية لتفهم الأمة على الأقل الخطب التي تلقى أيام الجمع في المساجد

وهذا الكلام يدل على البلاهة، إذ بدلاً من تعلم جميع الأتراك اللغة العربية تلقى

الخطبة باللغة التركية، وهل هناك أمر أسهل من هذا؟ لا سيما أن ترجمة الحديث

والخطب والقرآن جائز في مذهب الإمام الأعظم [2] . إن النبي لم يبعث إلى العرب

فقط لذلك أصبحت ترجمة القرآن إلى اللغات الأخرى فرضًا من الفروض [3]

{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107) .

نعم إن القرآن الذي نزل على سيدنا محمد المأمور بدعوة العالم جميعًا إلى

الإسلام نزل باللغة العربية؛ ولكن لا يستدل من هذا أن كل قوم دعوا إلى الإسلام

يكونون مضطرين إلى تعليم اللغة العربية.

وفي الصفحة 25:

وهنا أكرر ما قلته آنفًا من أن أكثر الناس يستثنى منهم الفقير المعدوم

والأعرج والأعور ومنهم المشايخ الذين يدّعون أنهم ورثة الأنبياء والمدرسون

والمفتون والقضاة مشايخ الطرق والدراويش والتجار والصناع، والحاصل جميع

الناس أصبحوا في حكم القرآن المجيد مرتدين ومن زمرة المنافقين؛ ومن ثَمَّ وجب

قتلهم؛ لأنهم تعمدوا ترك الجهاد بالمال والنفس الثابت بوجود آلاف من الآيات

البينات، وأورد هنا اثنين منها: الأولى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} (التوبة: 73)، والثانية:{فَرِحَ المُخَلَّفُونَ} (التوبة: 81) .

قال: ويتوقف تجديد إيمان هؤلاء أولاً على الاشتراك بدنًا بالحرب، وثانيًا

على إعطاء نصف ما يمتلكونه إلى دار الخلافة الإسلامية إذا كانوا من أصحاب

الغنى والأموال ليتسنى لرجال الإسلام الانتقام من الكفار الفجار، ونزع البلاد التي

انتزعوها من أيديهم، وإعادة ذكر كلمة الله في مساجدنا وجوامعنا، وإذا لم يفعلوا

هكذا (أي إذا لم يدفعوا نصف ما يمتلكونه للدولة) فلا يقبل منهم تجديد الإيمان

فيحشرون وهم مرتدون وكفرة، ويلحقون بأهل جهنم، وهذا لا بد منه ولو قرؤوا

في اليوم مئة ألف مرة: (آمنت بالله

) ولو صلوا الليل والنهار ولو كانو من الذين

صلوا وراء النبي، ولو حجُّوا إلى بيت الله الحرام مئة ألف مرَّة، ولو كان بدرجة

الإمام الأعظم من العلم أو بدرجة الغوث عبد القادر الكيلاني من القطبية.

وفي (ص 27) :

إن بعض المشايخ والحفاظ والحجاج في الآستانة وكثيرين ممن يتبعونهم وكلهم

من الذين يجرؤن على ارتكاب أنواع المنكرات اشتغلوا بالكتب كالحمير التي تحمل

التوراة فتركوا الجهاد، البعض منهم فسروا الآيات والأحاديث حسب ما تقتضيه

منافعهم، وللحصول على غرض دنيوي، فلعنة الله على أمثال هؤلاء الحفاظ الذين

يقرؤن القرآن بالدراهم وعلى المنافقين الذين تسلطوا بالاشتراك مع أعداء الدين

على فرقة الاتحاد والترقي التي هي في الحقيقة الفرقة المحاربة والساعية لاتحاد

الإسلام، والمجاهدة في سبيل تشييد قوى الإسلام، وبالنتيجة لعنة الله على الذين

كانوا سببًا لدروس الملايين من المسلمين تحت أقدام أعداء الإسلام، وعلى أولئك

الذين سلكوا طرق الدسائس والتغفيل والتزوير لمنع الذين كانوا يريدون أن يجاهدوا

بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، لعنة الله عليهم وعلى آلهم وأقوالهم وعلى تأليفاتهم

ومصنفاتهم واعتقاداتهم أجمعين.

وفي (ص 31) :

يفسر آية {فَرِحَ المُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ} (التوبة: 81) بما

يأتي: إن الذين ثبتوا في الصوم والصلاة والحج أعرضوا اليوم عن الجهاد المفروض

مالاً وبدنًا وأصبحوا خلاف رسول الله، فهؤلاء من المنافقين.

إن البروغرام القديم البالي الفاسد يعرف به بقاء الدين بالصوم والصلاة والحج،

والحقيقة ليست كذلك؛ بل هو حسب البروغرام الجديد بالجهاد مالاً وبدنًا وهذا

ثابت أيضًا بهذه الآية: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلَا النَّصَارَى} (البقرة:

120) فيفهم من هذه الآية صراحة أن المسلمين الموجودين تحت حماية ملوك

النصارى ليسوا مسلمين بحق؛ لأن ملوكهم النصارى راضون عنهم ويضعونهم في

صف أمتهم، على أن الملل النصرانية لا ترضى عنهم إلا بعد أن يرتدّوا إلى دينهم

الباطل.

وفي (ص 32) :

إذا رضي الكافر يغضب الرحمن، وكذلك إذا غضب الرحمن رضي الكافر،

يعني إذا رضي كافر تمام الرضا عن مسلم فهذا المسلم يكون على كل حال موضوع

قهر الرحمن وغضبه مثل المسلمين الساكنين في البلاد المسيحية. وبالعكس كل

كافر يغاضب ويعادي مسلمًا يكون موضوع رضاء الرحمن وحبه مثل خلفاء

المسلمين من الأتراك.

وفي (ص33) :

يفسر هذه الآية {وَقَاتِلُوَهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} (البقرة

: 193) بما يأتي:

فيفهم من هذه الآية الجليلة أن دين المسلمين الموجودين تحت التابعية أو

الحماية الروسية والإنكليزية والفرنسوية لا يتم ولا يعدون من المسلمين ما داموا لا

يشتركون في الجهاد المفروض ما داموا محرومين من إعانة الآستانة مالاً وبدنًا.

وفي (ص 36) :

إن من لا يشترك من رعايا الدولة الإسلامية العثمانية الثابتة خلافتها بالنص

القاطع [4] من العرب أو التتار أو الألبان أو أبناء مكة واليمن، والحاصل جميع

الأقوام المختلفة إذا لم يشتركوا مالاً وبدنًا ونقدًا بالجهاد الذي هو أعظم العبادات في

صفوف حضرات عبد الرحيم وجمال ورضا وشكري وبكر وجاويد ورؤوف وأنور

وعزت وطلعت وأمثالهم من أبناء الترك الذين هم أولياء الله صلى الله تعالى عليهم

وعلى آلهم وأصحابهم وقدّس الله أسرارهم، يكونون في صف المرتدين عن الدين

والمعتنقين طوعاً لدين الصليب الباطل. ومن هذا القبيل الأرناؤد، فإنهم ارتدوا

عن الإسلام - إما لاستعمالهم السلاح ضد الجنود الإسلامية مشتركين مع الكفار

الفجار في ذلك، أو إضعاف قوة الجيش الإسلامي بفرارهم من ساحات القتال،

فسببوا بذلك انهزام الإسلام وأصبحوا من الكفرة الفجرة، ومن هذا القبيل أيضًا

المصريون والهنود والبخاريون والتتار الروسيون وسكان فاس وتونس والجزائر

وأهل الحجاز واليمن فإنهم لم يمدوا الخلافة الإسلامية بالنقد، ولم يكتف قسم من

العثمانيين الأتراك بذلك؛ بل إنهم اتفقوا مع قوزيمدي وبوشو والبطركخانة الرومية

وأعانوا دين الصليب، وأعلنوا العصيان سمعًا وطوعًا على الإسلام، وأقاموا الدنيا

على أهل الإيمان.

وفي (ص39) :

إن القوم العتيق (أي القدماء الذين لا يتبعون كتابه هذا) يتركون الأوامر

الإلهية الأصلية التي تعد بالألوف ويتمسكون بالصوم والصلاة والحج والزكاة وكلمة

الشهادة فقط، ويتخذون كتب البركوي والحلبي والشافعي والكنز ومنية المصلي

والمالكي والحنبلي دستور العمل في أعمالهم وحركاتهم، مع أن هذه الكتب مملوءة

بالنفاق والشقاق والمنافرة (كذا) والاختلافات الكثيرة، فالعمل بما فيها غير جائز.

وفي (ص 52) :

أما القوم الجديد (ويريد بهم: من مدحهم في كتابه من الترك الاتحاديين ومن

يسير على طريقتهم وطريقه) فإنهم لا يبالون بمثل هذه الخرافات القديمة؛ بل إنهم

استخرجوا من الأحكام القرآنية والحديثية الأركان الدينية الآتية: [5]

1-

العقل.

2-

كلمة الشهادة.

3-

الأخلاق الحسنة.

4-

الجهاد مالاً وبدنًا والحرب.

5-

السعي لإعداد لوازم الحرب بالاتحاد والاتفاق تحت راية الخلافة المعظمة

العثمانية.

وفي (ص 56-57) :

يجب أن تقرأ الخطب أيام الجمع والأعياد باللغة التركية ثم تقرر خطبة كل

جمعة بتلقين من الحكومة تتضمن الأحوال السياسية. ويجب أيضًا أن تفضل الأمور

السياسية في بعض الأحوال على الأمور الشرعية حتى ولو لم تكن منطبقة على

الأحكام الشرعية! !

فتعطل مؤقتًا الأمور الشرعية. ويوجد جواز شرعي للعمل هكذا بدليل وضع

النبي توقيعه على عهدة الصلح في وقعة الحديبية مجردًا من ألقاب ونعوت النبوة

حسب طلب كفار قريش، وكما تقتضيه الأحوال ويوجبه الزمان. وكذلك الآيات

الناسخة والمنسوخة هي من متقضيات السياسة.

وفي (ص60) :

وعليه فإن الهنود الذين هم تحت حماية النصارى من الإنكليز لو كانوا من

أصحاب الأخلاق الحسنة فإنهم لا ريب محرومون من العقل، ولو كانوا عقلاء لما

رضوا بالذلة تحت حكم دولة ظالمة شريرة تسلك دين الصليب.

(وفي ص 63) :

وبهذه الصورة سيخرج المسلمون المحكومون بالنصارى من دينهم بالتدريج

ويندمجون بدين حكامهم وسبب ذلك عدم ارتباط هؤلاء المسلمين مالاً وبدنًا بالخلافة

الإسلامية.

(وفي ص 70-71) :

كثير من المسلمين - حتى من علمائهم ومشايخهم - أثبتوا في الحرب البلقانية

الحاضرة أنهم ارتدوا عن دينهم؛ لأنهم ائتلفوا (عبر بلفظ الائتلاف في الأصل)

مع البطركخانة لأجل الدراهم والمنافع، ومن هذا القبيل أيضًا الضباط والجنود

والمعممون الذين فرّوا من ساحات القتال، فهؤلاء ليسوا مسلمين؛ بل هم منافقون

ومرتدون عن دينهم. أما المسلمون الحقيقيون فهم الذين حاربوا في حرب طرابلس

الغرب وحرب البلقان تحت إمرة أنور ورضا وأسعد وجاويد ورؤوف صلى الله

تعالى عليهم، وبقية رجال جمعية الاتحاد والترقي المقدسة، الذين لم يولوا ظهورهم

إلى العدو؛ بل داوموا في جهادهم في سبيل الله، فهؤلاء هم المسلمون الحقيقيون.

وقد كان عدد الذين ينتمون إلى جمعية الاتحاد والترقي في هذه الحرب لا يتجاوز

مئة ألف. أما الباقون فإنهم كانوا من المرتدين المنتمين إلى الائتلاف (أي حزب

الائتلاف) والبطركخانات.

وفي ص 76:

يفسر آية {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} (الكهف: 110) : الحرب بيننا وبينهم

سجال ينالون منا وننال منهم - أفئن مات.... إلخ. فيقول: أنا بشر مثلكم فلا

تستبعدوا موتي، إن الانتصار في الحرب يتوقف على التجهيزات العسكرية....

وفي ص 89:

ما هذا الجهل؟ وما هذه الغفلة التي استولت عليكم أيها الناس؟ تعلقون أسماء

خلفاء العرب على جدران جوامعكم [6] وتتركون أسماء خلفاء الترك الذين قدستهم

الأحاديث النبوية، ولا تكتفون بذلك؛ بل ينزل الخطيب قدمه واحدة عندما يذكر

أسماء الخلفاء الترك تنزيلاً لمقامهم وتذليلاً، ثم تزيدون ركعتين يوم الجمعة باسم

(آخر ظهر) فكل هذا مبتدع ومحدث للحط بشأنكم سياسة.

إنكم أيها الأتراك قوم مقدسون ومبجلون، ومع ذلك تقدسون عبد القادر الكيلاني

والشيخ البدوي والشيخ الفلاني وتدّعون أن الله وملائكته - حتى الموكلين منهم بعذاب

القبر منكر ونكير - يتكلمون باللغة العربية، وتقولون دائمًا:(أوله شام وآخره شام)

وتسعون دائمًا لتغفيل أبناء الترك بأنه سيخرج من العرب مهدي. والحاصل تشتغلون

منذ سبعمائة سنة بمثل هذا الخرافات، فتغشون العالم وتحتقرون بذلك أبناء العثمانية

النجباء الذين ما فتئوا يجاهدون في سبيل الله للدفاع عن الإسلام ويدفعون عنه

تعرض الكفار الفجار له، فكل ما ذكرته موضوع بصورة خصوصية ومقصودة

بالذات لتحقيركم والحط من منزلتكم.

أما سمعتم الآية: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً} (العاديات: 1) فإن الله قدّس

بهذه الآية الجيوش التركية، فخيل هذه الجيوش هي أشرف وأقدس أضعاف مضاعفة

من شرافة وقداسة رؤساء وأشراف الشعوب الأخرى الذين تقدمونهم وتحترمونهم [7] .

* * *

(المنار)

هذا نموذج من كتاب (قوم جديد) الذي صنف لإقناع الترك بما يجب أن

يكونوا عليه في هذا العصر. ولا شك في كون جميع علماء الدين من الترك كغيرهم

ينكرون هذه الضلالات المودعة في هذا الكتاب، ويعلمون أن هذه الجرأة على

تحريف القرآن واتخاذ الإسلام هزؤًا ولعبًا، وهدم أركانه، وتكفير أهله والكذب

على الله ورسوله المراد به تقوية الجنسية التركية - كله كفر وضلال؛ ولكن الملاحدة

الذين ليس لهم من الإسلام إلا اللقب الرسمي أو الجغرافي يرضون بهذا ويغشون به

جهلة العامة من الترك، فما للمنكر على حزب اللامركزية تقوية الجنسية العربية باسم

الإسلام، لا يؤلف كتابًا في الرد على هؤلاء الغلاة المحرفين للقرآن. الهادمين

للإسلام؟ ؟

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

دين هذه الطائفة سري، ومن المعروف عنهم جواز مشايعة غير أهل دينهم على سبيل التقية، ولهذا صرّح بعض الفقهاء بعدم الاعتداد بإظهار أحد منهم للإسلام، وأما أنا فأرى صحة إسلام من تدل القرائن على صدقه، كمن يصرّح على مسمع من أهل ملّته بالخروج منهم وبتخطئتهم في دينهم مع التزام الإسلام بالعمل.

(2)

كذب الكاتب في هذه الدعوى.

(3)

جعل الكاتب الجاهل نفسه شارعًا، وقد أفتى شيخ الإسلام في الآستانة بعدم جواز ترجمة القرآن.

(4)

مذهب أهل السنة أن خلافة الراشدين لم تثبت بالنص؛ بل باجتهاد الصحابة.

(5)

أي ليس في دين (القوم الجديد) صلاة ولا صيام ولا زكاة ولا حج؛ فهم لا يمتُّون إلى المسلمين لأكل أموالهم ومشاركتهم في حقوقهم إلا بعد إنكار الشهادتين، وعلى هذا كثير من ملاحدة العصر ومنافقيه كما قال المؤلف.

(6)

جرت عادة إخواننا الترك بأن يعلقوا في قباب مساجدهم ألواحًا فيها أسماء الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم وسبطي الرسول صلى الله عليه وسلم.

(7)

أي كالخلفاء الراشدين وأئمة آل البيت الطاهرين عند العرب.

ص: 534

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌نموذج من إنشاء طلبة

دار الدعوة والإرشاد

اقترحنا الموضوع الآتي على طلبة السنة الأولى لاختبار إنشائهم وآرائهم في

هذه المسألة، فاخترنا أن ننشر ما كتبه بعضهم كما كتبوه مع تصحيح بعض الغلط

في الهامش، وهو:

آداب الإسلام في معاشرة المخالفين ومعاملتهم

إنشاء الطالب يس إبراهيم:

لم ير التاريخ من لدن آدم إلى ظهورهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم

كالإسلام في معاملته وعدله، ولم ينقل إلينا أثر يدل على أن الإسلام عامل مخالفيه

بالقسوة؛ بل تواترت الآثار والشواهد الدالة على عدله، وأنه ما جاء إلا لهداية

البشر لما فيه صلاحهم في الحال وصلاحهم في المال، وأنه رحمة للناس كافة

{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107) ، وإن أهم ما يستشرف منه

على عدل الإسلام في معاشرة مخالفيه النظر في نصوص الدين، فإنه الميزان الذي

يبين العدل من الجور، ويفصل بين الضغط والحرية، تأمل تر أن الإسلام قد بلغ

حدًّا من القوة لا يقاومه صاد. ولا يحركه مزحزح، ومع ذلك ينادي الإسلام: {لَا

إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: 256) .

فلو أن الإسلام فيه شائبة من ظلم لحمل الناس على الدخول فيه كرهًا أيام

استكمال القوة في عزه وشبابه، كما يفعل أهل الأديان الأخرى في العصر الحاضر

والقرون الخالية، على أن السابقين معذورون، فإنهم ما وصلوا إلى درجة من العلم

والحضارة تحملهم على الالتجاء إلى العدل، بخلاف أهل هذا الجيل فلا عذر لهم مع

صياحهم بصوت العدل. ولا يخفى على أحد ما يفعلونه بالناس من حملهم على

دينهم وسلب أموالهم وجعلهم خدمًا وعبيدًا، إما بالظلم البيّن، أو الجور المستتر،

وهو ما يسميه الأستاذ بالسياسة اللينة. فوربك أما تشعر الآن بأن الإسلام دين

الرحمة والعدالة في القرون المظلمة خير من جميع الأديان وقوانين السياسة في

عصر العلم والحضارة؟

إن الإسلام لم يضغط على معاشريه، ولم يحملهم على المعاملة بأحكامه؛ بل

جعل لهم الحرية التامة في وضع أحكامه، وجعل عقوبة لمن يتعرض لهم بالأذى

من المسلمين، هكذا كان الإسلام في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأيام الخلفاء

بعده. ومما يروى أن يهوديًّا جاء إلى سيدنا عمر بن الخطاب شاكيًا سيدنا عليًّا

رضي الله عنهما من أجل دَيْنٍ ادّعاه عليه، ولما كان الخليفة يحكم بينهما رأى أن

أمير [1] جالسًا قال (قم فساوِ خصمك) ، فيا لله ما هذا العدل والإنصاف بين

يهودي ومسلم لدى أمير المسلمين؟

ما نشأ هذا العدل إلا من نور الإسلام وسماحته. ولا يتوهمن أحد أن القتال

الذي وقع بين المسلمين ومعاشريهم ومن ساعدهم ينافي العدل؛ ما دام يعلم أن الذنب

على المعتدي، وإن البادئ أظلم، فمعلوم أن المسلمين ما آذوا أحدًا ولم يكن

غرضهم إلا إيصال هذا النور إلى القلوب، وكل ما وقع منهم إنما هو دفاع عن

أنفسهم بأمرٍ من الله تعالى بعد التعدي عليهم {فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوَهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ

الكَافِرِينَ * فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفَُورٌ رَّحِيمٌ} (البقرة: 191-192) .

وإن الإسلام لم ينه معتنقيه عن موالاة من خالفهم، ولم يمنعهم من مواساتهم

إلا إذا كانوا يقاتلونهم ويعادونهم، والقرآن أعظم دليل على ذلك: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ

عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ

إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن

دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (الممتحنة: 8-9) أتُراك بعد سماع هذه الآيات تشعر بأن الإسلام ليس دين العدل

والرحمة إذا أزلت عن بصرك عشاء العصبية؟

فلو نظرت نظرة الإنصاف ما وسعك إلا التسليم بأن آداب الإسلام في معاشرة

المخالفين أحسن الآداب، وكم عفا صلى الله عليه وسلم عن مذنب، وأحسن

إلى مسيء؟ وإن التاريخ يدلنا على أنه كان يتحمل أذى الأعداء، ودائمًا يتبع أثر

السلم ولو بالحكم الشاق، ألا تراه مع كثرة تطلعه إلى مكة، وشدة شوقه إلى الكعبة،

وحنينه إلى حجر أبيه إبراهيم، كيف قبل أن يرجع، مع وفرة القوة وإمكان

الوصول، وقساوة الشروط التي منها أنه إذا ارتد أحد من شيعته يقبلونه، وإذا أسلم

أحد منهم لا يقبله - على ما يقول التاريخ - وقد ترك زيارة البيت في هذا العام [2]

هكذا كان الإسلام ولم يزل في تسامحه وعدله بين أهليه ومعاشريه.

ومن أدب الإسلام أنه لم يسمح للمؤمنين أن يساعدوا الذين آمنوا ولم يهاجروا

على من كان بينهم وبينهم ميثاق [3] {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلايَتِهِم

مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إلَاّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ

وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير} (الأنفال: 72) .

ولعمري ما انتشر الإسلام على ما ترى إلا بحسن آدابه وعدله في المعاملة،

فإن العدل يجمع القلوب. وبالآداب الحسنة تملك الأزمة، ولا رأي للقائلين بالضغط

والغلظة.

والقول الفصل في هذا قول الله تعالى: {وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا

مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران: 159) ، فإن الله تعالى أعلم بقلوب عباده خبير بما

يوحدهم ويجمع كلمتهم، وقد أنزل القرآن وضمنه ما يكفل ذلك إن قام به أهله. ولو

تصفحت القرآن آية آية لا تجده يأمر بالغلظة على من التزم حده. وإنما قال {ادْفَعْ

بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (المؤمنون: 96) وقال {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ} (آل

عمران: 159) إلخ.

وقد أجمع عقلاء الاجتماع [4] على أن اللين خير من الشدة مهما كانت القوة،

وأنه ما أثر هذا التأثير رجل واحد إلا بإعطاء الحرية وانتشار العدل ومخاطبته

العقول. ويخيل لي - بل ربما كان أقرب إلى الحقيقة - أن الذي يحتاج إلى استعمال

الشدة والقوة والغلظة هو من يدعو إلى شيء باطل، فإن العقول بطبعها تنفر عنه،

فإن أخذ أصحاب الباطل وسائل القسوة والضغط ربما أمكن أن يخضعوا بعض

الناس في الظاهر زمنًا ما، ولا يلبث أن يحصل رد الفعل ويرجع الناس إلى

فطرتهم، وإن الإسلام ما جاء بشيء يناقض الفطرة فكان مقبولاً بمجرد وصوله إلى

الآذان الصاغية؛ ولذلك قال الله تعالى: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَاّ البَلاغُ} (الشورى: 48) ،

فلو أن المسلمين قاموا بما أوجب الله عليهم وبلغوا هذا الدين إلى الناس كما كان

يفعل النبي صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح وتدبره الناس لدخلوا في دين الله

أفواجًا.

* * *

آداب الإسلام في معاشرة المخالفين ومعاملتهم

إنشاء الطالب محيي الدين رضا

بسم الله الرحمن الرحيم

سبحانك ربي ما أحكمك، وأحكم شرعك ونبيك، لقد صببت الآداب والفضائل

كلها في كتابك الحكيم. وأجريتها على لسان خاتم المرسلين، فبأي لسان نحمدك

ونمجدك؟ وبأي عمل نشكر على آلائك وإحساناتك؟ فشكرًا لك من عبد ضعيف،

وصلاة وسلامًا على نبيك الأمين.

الإسلام وما أدراك ما الإسلام؟ الإسلام هو ذلك الدين الذي سوى بين الأمير

والحقير؛ (بل لا حقير عنده) أما بلغك خبر الأمير العادل (عمر بن الخطاب)

مع ذلك الأمير الغساني جبلة بن الأيهم الذي وطئ الأعرابي وصفعه [5] على قفاه؟

هل قبل منه عمر أن يجعل بينهما درجات متفاوتات؟ كلا! ثم كلا! ولذلك فر

الغساني هاربًا إلى القسطنطينية ولا تسأل عمّا حل به من الندم بعد ذلك. فشعره

يشهد على ندمه العظيم.

هذا ما كان من عمر في قضية الأمير الغساني والصعلوك العربي، وانظر

إلى ما كان منه مع ابن عمرو بن العاص حينما ساط القبطي الذي سبقه (ولا تنس

فضل أبيه الفاتح وأنه كان صغير السن قد يهفو) فقد كتب إلى أبيه: يا عمرو منذ

كم استعبدتم [6] الناس وقد ولدتهم أماتهم أحرارًا؟

ما هذا بعدل إنسان، إنما هو هدى القرآن، نعم هذا هو سبيل الإسلام وأمرائه،

وليس بعجيب إن قلنا إن التاريخ لم ير أعدل منه. ولعلك تتذكر أن عليًّا (وهو

صهر الرسول وابن عمه) تحاكم مع يهودي أمام قاض مسلم [7] فكناه القاضي

ونادى الآخر: يا يهودي! فغضب علي من القاضي وقال له: ما كان لك أن تفعل

هذا في موقف القضاء؛ بل كان يجب أن تسميني وتسميه.

خير الأمور التسامح في محله، وقد جرت الشريعة الإسلامية على هذه الفضيلة

وحثت عليها في مواضع شتى. وكم من موقف لأمراء الإسلام وعلمائه أسرع

التاريخ إليه فاقتنصه وحلى به جيده العاطل، فالشريعة تنادي أهلها أن: خالقوا

الناس بخلق حسن. {وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} (النساء:

86) (من غشنا فليس منا) : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا

وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ

مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ} (النساء: 94) ، {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ

وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ} (النحل: 90) ،

{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ} (النحل: 91) .

ولو أردنا تتبع ما ورد في الشريعة من الآي والحكم الواردة بخصوص

المخالفين لنا فقط لما أمكننا في هذا الموقع، غير أننا نعلم بالجملة من تاريخ السلف

الصالح ومما اقتبسناه وأرشدنا إلى تدبره من قرآن وحديث، أن الدين الإسلامي خير

دين قد أخرج للناس يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويحترم المصالح العامة

والخاصة، ولا يأمر إلا بكل خير وصلاح لمعتنقيه وللمستظلين برايته البيضاء؛

حتى يجعل الجميع في هناء، يرفلون في حلل السعادة وطيب العيشة الراضية.

لا تظن أن الإسلام احتقر أهل الذمة واهتضم حقوقهم كلا! بل هو مع ذلك لم

يرغمهم على الدين به وهو خير دين {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: 256)

فالدين قد جعل لهم أحكامًا ترضيهم، فعقد لذلك الفقهاء الأبواب والفصول، وكلها

مستمدة من الدين القويم، فقد جعلهم أحرارًا. وأي حرية أكبر من حرية ذلك

اليهودي الذي أخذ بتلابيب النبي صلى الله عليه وسلم يجذبه إليه ويصيح به. فهَمَّ

عمر باستلال السيف فناداه النبي: دعه فإنه له حقًّا [8] .

هذه الواقعة التي وقعت من أبي المسلمين محمد صلى الله عليه وسلم تعطينا

درسًا اجتماعيًّا كبير الأهمية عظيم المنفعة، وتعظم منزلة الدين في نفوسنا، ولعلنا

نقوم فنحاكي سلفنا الصالح ونسير على نهجه القويم فنعود أمة حية، وليس بعجيب

على التاريخ أن يعيد نفسه، ونسأل الله سبحانه تعالى أن يوفقنا لهذا بدون إثارة

الغبار على من خالفنا، كما نسأله أن يهدي مخالفينا ويجعلنا أمة صالحة تأمر

بالمعروف وتنهى عن المنكر.

* * *

آداب الإسلام في معاشرة المخالفين ومعاملته

إنشاء الطالب عبد الرحمن عاصم

اقتضت حكمة الله تعالى بأن يرسل رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم بالهدى

ودين الحق، بدين الفطرة السليمة والعقل الصحيح، ليكون الناس أمة واحدة تجمعهم

جامعة الدين على كلمة الإخلاص لله وحده، والشهادة لنبيه محمد صلى الله عليه

وسلم ليتم مكارم الأخلاق، جاء بالآداب السامية والأخلاق الشريفة، من بعد ما أعد

الله تعالى لقبولها نفوسًا زكية وأرواحًا طاهرة. فتقبلتها بقبول حسن، وأنبتتها نباتًا

حسنًا، فكان الناس يدخلون في دين الله أفواجًا، لِمَا يرون من السعادة في لباسها.

وقد سمعت عن كاتب فرنسي ترجم رواية عربية وكتب لها مقدمة قال فيها ما معناه -

إن من سوء حظ فرنسا أن صادمت العرب (ويريد المسلمين) ومنعتهم من

استعمار بلادهم؛ لأنها لو تركتهم يعمرون البلاد لسبقت فرنسا الأمم إلى المدنية

والحضارة بسنين عديدة [9] هذه شهادة رجل بعيد عن الآداب الإسلامية - والفضل

ما شهدت به الأعداء -[10] يقول الله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ

تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ} (آل عمران: 110) وبين طريقة الدعوة

وأسلوبها بقوله سبحانه: {ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم

بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: 125) فبهذي الآية أمرنا الله تعالى بأن ندعو

ونخاطب مخالفينا ومعاندينا باللين واللطف، ونحاجهم بالتي هي أحسن، حتى

نستميلهم إلى الإسلام ليكون لهم ما لنا وعليهم ما علينا. والآثار التاريخية التي تدل

على تسامح المسلمين مع مخالفهم كثيرة، منها أن يهوديًّا لقي النبي صلى الله عليه

وسلم وطالبه بدين له ثم أمسك بثوبه وهزه، وصفح عنه الرسول صلى الله عليه

وسلم الصفح الجميل.

ومن آداب الإسلام في معاملة المخالفين أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان

غانمًا في غزوة من غزواته نَعَمًا كثيرة، وجاءه أحد كبار المشركين ورآها ترعى

فأعجب بها فوهبه إياها الرسول صلى الله عليه وسلم فأسلم المشرك لِمَا رأى من

سماحة النبي صلى الله عليه وسلم وكرم أخلاقه.

ومن آداب الإسلام في معاشرة المخالفين أن ابن فاتح مصر كان يتسابق مع

المتسابقين فسبقه قبطي فأخذته العزة فلطمه، ووصل الخبر لصاحب العدل سيدنا

عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخليفة الثاني، فكتب إلى ابن العاص يعاتبه

على هذا ويزجره قال: (يا عمرو متى استبعدتم الناس وقد وضعتهم أمهاتهم

أحرارًا؟) [11] .

ومن ذلك ما يحكى عن جَبَلة بن الأيْهَم أنه كان يطوف في البيت مسبلاً إزاره

ومر به فَزَارِيّ فوطئ الإزار فسقط عن منكبي جَبَلة فلطمه جبلة لطمة فَشَكا الفزاريّ

جبلة لسيدنا عمر رضي الله عنه فأمر عمر بأخذ حق الفزاري من جبلة - وكان

من كبار العرب - فقال جبلة: يا عمر أتساويني بهذا الرجل وأنا ابن الأيهم؟ فقال

عمر رضي الله عنه: الإسلام قد ساوى بينكما

إلخ.

ومن آداب الإسلام التسوية في الحقوق بين الناس. ومن ذلك ما روي في

رسالة سيدنا عمر بن الخطاب إلى عبد الله بن قيس في القضاء [12] (سوِّ بين

الناس في عدلك ومجلسك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من

عدلك) هذا وإن من ينظر في جميع الأديان التي عليها الناس فلا يجد دينًا كالدين

الإسلامي في آدابه في معاشرة المخالفين ومعاملتهم. فقد روي عن نبي الرحمة

محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال في الذميين ما معناه (لهم ما لنا وعليهم ما

علينا) [13] وقد عرفنا التاريخ ذلك فإنهم بقوا في أوطانهم يقيمون شعائر دينهم آمنين

على أنفسهم متمتعين بالرفاهية والنعيم.

كل ما أتيت به من حسن معاشرة المسلمين للمخالفين ومن المساهلة في

معاملتهم؛ إنما هو أثر من آثار الدين الإسلامي الذي جاء به محمد صلى الله عليه

وسلم نورًا وهدًى ومزكيًا، جاء الناس بسلام من عند ربه ليكونوا به آمنين. جاء

مسهلاً لا معسرًا، مبشرًا لا منفرًا، ليجمع الناس على صفاء وإخلاص يحب الرجل

لأخيه ما يحب لنفسه؛ بل {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (الحشر: 9) .

إذا تبين لنا ما جاء به الإسلام من حسن المعاشرة واللين في المعاملة، فلا

يضيرنا قول جاحد، ولا يهمنا صوت مفسد؛ إذ ليس من كل الأصوات تجب الهيبة؛

بل نقول لأولئك المنكرين لهذه الفضائل: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} (الكافرون: 6) .

كيف لهؤلاء الناس يقولون على دين الله ما لا يعلمون، ويزعمون أن الإسلام

شديد في معاملاته، والله يقول: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى

وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (النحل: 90) .

* * *

آداب الإسلام في معاشرة المخالفين ومعاملتهم

إنشاء الطالب عبد العزيز العتيقي

الدين الإسلامي دين الرحمة والعدل. دين الحكمة والعقل، دين الإحسان

والفضل، دين يأمر بالإحسان لجميع البشر، دين يأمر بالرأفة بالحيوان فضلاً عن

الإنسان، يظهر ذلك في أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله، وما جرى عليه

الخلفاء الراشدون وجميع السلف الصالح من بعده.

أجل؛ نظرة في سيرته الطاهرة تجدها حافلة بالمواعظ مشحونة بالوصايا بالحث

على الإحسان لجميع الخلق كقوله صلى الله عليه وسلم: (الخلق كلهم عيال الله

وأحبهم إليه أنفعهم لعياله) وقوله: (في كل ذي كبد صدقة)[14] ما هذه الرحمة

والحنان! ما هذا الشفقة والإحسان! ما هذه الرأفة التي لم تقصر على بني البشر؛

بل عمت كل من اتصف بالحياة.

الله أكبر إن دين محمد وكتابه

أقوى وأقوم قيلا

لا تذكر الكتب السماوية [15] عنده

طلع الصباح فأطفئ القنديلا

أدر بصرك في أفعاله صلى الله عليه وسلم تجد أنه كان يقابل السيئة بالحسنة،

أضرب لك مثالاً صغيرًا تقيس عليه ما لم تعلم. كان أحد اليهود يؤذيه صلى الله

عليه وسلم ويضع الأقذار في طريقه إذا خرج إلى المصلى، فلمّا مرض ذلك

اليهودي فقده صلى الله عليه وسلم بفقد ما كان يضع، فسأل عنه صلى الله عليه

وسلم فقيل إنه مريض فذهب صلى الله عليه وسلم لزيارته فلما رأى ذلك اليهودي

فعله وحفاوته به مع علمه أنه يعلم ما كان يصنع في أذيه، قال أشهد أن لا إله إلا

الله، وأن محمدًا عبده ورسوله. فيا حبّذا لو جرى المسلمون على هذه القاعدة في

معاملة مخالفيهم في الدين، إخوانهم في الوطن والبشرية، فوالله لو جروا على هذه

القاعدة لدخل الناس في دينهم أفواجًا.

من راجع القرآن الشريف وجد نصوصه الكريمة في كيفية الدعوة تدور على

محور الحكمة والعقل والإحسان والفضل. قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ

بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: 125) ، وامتن

تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ

كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران: 159) وقال تعالى:

{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} (البقرة: 256) وقال: {وَلَا

تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلَاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (العنكبوت: 46) .

نرجع إلى النظر فيما جرى عليه السلف الصالح في ذلك أي في معاملة

مخالفيهم في الدين، نجد أنهم جعلوا لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، لا فرق بين

المسلم وغيره في الحقوق، انظر إلى ما قاله الخليفة الثاني عمر بن الخطاب

لعمرو بن العاص فاتح مصر حينما تسابق ابنه مع ابن القبطي فسبقه فلطمه ابن

عمرو وافتخر عليه بآبائه، فلما بلغ ذلك عمر رضي الله عنه أرسل إليه يهدده ويقول

له: (متى استعبدتم الناس يا عمرو وقد ولدتهم أمهاتُهم أحرارًا) وحكم عليه بأن

يرضي القبطي أو يقتص منه [16] . وقصة اليهودية صاحبة البيت الذي كان في

المسجد مشهورة؛ بل نرى من تسامحهم أنهم قد أرقوهم (؟) إلى أعلى المراتب

فاتخذوا منهم الكتاب وغيرهم، وقد اتخذ الحرس في المدينة المنورة في يوم من

الأيام من النصارى ، ومن راجع تاريخ الدولة العباسية في عنفوان التمدن الإسلامي

رأى أن للذميين من ذلك حظًّا وافرًا، فقد أرقوهم (؟) إلى أعلى المناصب

فصار منهم الأطباء والندماء للملوك وغيرهم، هذه المعاملة تمثل لنا عدالة الدين

الإسلامي وتسامحه وآدابه الراقية.

فعلى رجال الدعوة والإرشاد الذين قد أخذوا على عواتقهم هذه الأمانة وعاهدوا

الله عليها - وهي إرشاد المسلمين إلى أوامر دينهم ودعوة غيرهم إليه - أن يظهروه

في ثوبه الحقيقي، وأن يجعلوا نصوص الكتاب والسنة وأعمال النبي صلى الله عليه

وسلم والسلف الصالح أمام أعينهم ليسيروا عليها، وليفطنوا لمقاصد الدين التي جاء

إليها، وهي إصلاح نفوس البشر وتحليتها بالفضائل، وتطهيرها من الرذائل،

لتكون أهلاً لجوار الله تعالى في الآخرة، وإصلاح حال المتجمع الإنساني في هذه

الدار التي قدر له أن يعيش فيها برهة من الزمن. وليعلموا الناس أن الله قد جعلهم

شعوبًا وقبائل للتعارف والتعاون {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ

اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: 13) وقوله: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} (الزلزلة: 7) وإن الله غني عن العالمين.

* * *

آداب الإسلام في معاشرة المخالفين ومعاملاتهم

إنشاء الطالب محمد أبو زيد

قال الله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم

مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (الممتحنة: 8) ،

من فقه حكمة الإسلام، ووقف على مقاصده وما يرمي إليه، عرف أن المراد منه

إتمام الفطرة البشرية بما يصلح به شأن الإنسان في حياته الأولى، وينال به

الرضوان الأكبر في حياته الأخرى، {فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ

لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ} (الروم: 30) .

ولما كان حسن المعاشرة والمعاملة من أعظم ما يكوّن في النفس الملكات

الفاضلة، ويقوي الصلة بين الأفراد والأمم، كان مما امتاز به ذلك الدين العناية

بشأنها، والحث عليها، غير ناظر إلى ما يكون عليه المعاشر أو المعامل من

المخالفة - وليست المخالفة قاصرة على الدينية فقط؛ بل يدخل فيها الجنسية

واللغوية وغيرها. ولقد مضى النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك فلم يتجاوز أمر

ربه في دعوة مخالفي دينه بالحكمة والموعظة الحسنة؛ {ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ

بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: 125) ، حتى

كان من تمام رقته في مخاطبته ما حكاه عنه ربه {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي

ضَلالٍ مُّبِينٍ} (سبأ: 24) ولم يترك التلطف في معاملاتهم حتى جعل لمن دخل

في حوزته واطمأن من جهته الأمان من كل ما يشينه، وحافظ على حقوقه كما

يحافظ على جميع المسلمين، وسار من بعده من أهل العدل على قوله: (لهم ما لنا

وعليهم ما علينا) حتى لقد شغل كثير منهم مراكز في الحكومات الإسلامية المتقدمة

وغير ذلك مما يشهد به التاريخ.

هذا وإن الإسلام بريء مما يرميه به أعداؤه من التعصبات الدينية على زعمهم

نظرًا لما قرره في أصوله المبنية على الدليل والبرهان؛ {قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} (البقرة: 256) كما وإنه (؟) قد قضى على الجنسيات والامتيازات بغير ما فيه

التقى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: 13) فما أعظمه من دين سوّى

بين الطبقات بعدله، فأنقذ الناس من العبودية القديمة، وما أعرفه بحقوق الإنسان!

قرر الفضيلة برتبتيها - العدل والإحسان - فقضى له بالأولى ليكون مرفوع الرأس

آمنًا من الذل {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} (الشورى: 40) ، وخيره في الثانية

ليذوق حلاوة فضله ويشعر بلذة إحسانه، {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} (الشورى: 40) .

فوالله ما وجد للبشر دين أرحم على الإنسان منه، ولا عرف ضمير المخالفين

معاملة أوفى من معاملته، دين يقول كتابه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى

أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (النساء: 58) جدير بأن يسود

بمتبعيه.

دين يقول نبيه: (سلم على من عرفت ومن لم تعرف) ، (خالق الناس

بخلق حسن) حقيق بأن يسعد من دخل في حظيرته. دين يقول نبيه: (المسلم من

سلم الناس من يده ولسانه) لا يسع كل مجرد عن الأغراض بعيد عن الهوى إلا أن

يقر بفضله، ويخر ساجدًا لآياته.

دين قد شهد لنفسه بما أحدثه في العصور الخالية من الانقلاب المدهش، وأقر

له أعداؤه - والفضل ما شهدت به الأعداء - بأن التاريخ لم ير أكثر عدلاً ولا أحسن

معاملة من أهله، لا شك في تسامحه، ولا ريب في كونه دين الإصلاح العام لجميع

البشر.

_________

(1)

هذا غلط والمراد رأى عليًّا كرم الله وجهه.

(2)

المنار: يشير الكاتب إلى صلح الحديبية ولكنه قصر في البيان واختار الاختصار المخل.

(3)

أي من المشركين.

(4)

الظاهر أنه كان يريد أن يقول (علماء الاجتماع) فسبق القلم.

(5)

الصواب: وطئ الأعرابي ذيله فصفعه إلخ.

(6)

الرواية المشهورة (مذ كم تعبدتم الناس إلخ) وإن عمر استقدم عمرًا مع ولده إلى المدينة وأمر القبطي أن يضرب ابنه كما ضربه وقال له (اضرب ابن الأكرمين) إذ كان ابن عمرو لما ضرب القبطي يقول: أنا ابن الأكرمين.

(7)

إنما تحاكما إلى عمر بن الخطاب فخاطب عمر اليهودي باسمه، لا بنسبته إلى قومه.

(8)

الرواية: أن اليهودي أراد اختبار خلق النبي صلى الله عليه وسلم فاشترى منه تمرًا إلى أجل وأعطاه الثمن وجاء يطالبه بالتمر قبل الأجل بيومين، فأخذ بمجامع قميصه وردائه ونظر إليه بوجه غليظ وقال: ألا تقضيني يا محمد حقي؟ فوالله إنكم يا بني عبد المطلب مطل فوبخه وهدّده عمر فقال له النبي صلى الله عليه وسلم بهدوء: (أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر: تأمرني بحسن الأداء، وتأمره بحسن التقاضي، اذهب به فاقضه وزده عشرين صاعًا مكان ما رعته) ، فأسلم اليهودي لذلك رواه الطبراني وابن حبان والحاكم والبيهقي.

(9)

الصواب: (لسبقت الأمم الأوربية بعدة قرون) والرواية التي أشار إليها هي رواية العباسة أخت الرشيد لجرجي بك زيدان.

(10)

إيراد هذا المثل هنا حجة على الكاتب.

(11)

بينا الصواب من الرواية في هامش النبذة التي قبل هذه.

(12)

كتاب عمر في القضاء هذا كتبه إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.

(13)

الحديث ورد في المهاجرين، واستعمل العلماء العبارة في حقوق الذميين.

(14)

الحديث (في كل ذات كبد حرّى أجر) .

(15)

الصواب: السوالف.

(16)

تقدم الصواب في الرواية.

ص: 545

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مصاب مصر والشام

برجال العلم وحملة الأقلام

2-

الشيخ حسن المدور

هو من بيت معروف في بيروت. اشتغل من أول نشأته بطلب العلوم العربية

والشرعية، وصحب الأستاذ الإمام أيام هجرته في بيروت وتلقى عنه، فاستنار

عقله، وأشرب حب الإصلاح في قلبه، ولكنه كان يداري الجامدين، ويخاف شر

المستبدين، فلهذا لم ينهض بالدعوة إلى الإصلاح، ولم يقم بمظاهرة الظاهرين بها

في زمن الاستبداد، على أنه كان يدرس ويفيد الطلاب باعتداله ورويته، وقد رغب

إليَّ منذ سنتين أن أرسل إليه ما طبع من تفسير القرآن الحكيم؛ ليقرأه درسًا في

الجامع الكبير، فلم أبادر في إرساله إليه، فكنت في ذلك مخطئًا، وما كنت ألتمسه

لنفسي من العذر في التأخير كان ضعيفًا.

وكان الفقيد كريم الأخلاق، حسن المعاشرة واسع الحلم، شديد الاحتياط في

أموره، فوجود فقيه مثله في بيروت كان ضروريَّا؛ إذ كان رحمه الله تعالى وسطًا

بين تشديد الجاهدين، وشذوذ المتساهلين المفرطين، فهو من الأفراد الذين لا

تستغني أمتنا الإسلامية في قطر ولا مصر عن واحد أو آحاد منهم في هذا العصر -

عصر التحول والانقلاب. وقد كان مسلمو بيروت مستفيدين من هذه المزية من

مزاياه وإن لم يعرفها له الجمهور منهم.

وقد صار في العهد الأخير أمينًا للفتوى في بيروت؛ فكان خير عون وظهير

لمفتيها لهذا العهد صديقنا الشيخ مصطفى نجا، ويسوؤنا أننا لا نعرف من ترجمة

هذا الصديق شيئًا كثيرًا نثبته في ترجمته؛ ليكون ذكرًا باقيًا له، فنحن نعلم أنه كان

يفيد طلاب العلم والمستفتين بعلمه وعقله وأدبه. ولا ندري أكتب شيئًا من الكتب

والرسائل المفيدة أم لا. وقد خسرت بيروت بفقده خسارة لا عوض لها الآن عنها،

لضعف الاشتغال بالعلوم الدينية فيها. وهو قد دخل في العقد السادس من عشرات

سني عمره، وكان جيد الصحة، فعرض له المرض أيامًا معدودات انتهت بأجله،

رحمه الله تعالى رحمة واسعة.

***

3-

الشيخ محيي الدين الخياط

ولد بمدينة صيدا في رجب سنة 1229 فكانت وفاته في أواخر السنة القمرية

المتممة للأربعين، ورأينا في بعض جرائد بيروت التي أَبَّنَتْهُ أن والده من السلالة

العلوية، وأنه لرغبته عن التفاخر بالأنساب لم يكن يعرف عنه كلمة تدل على ذلك،

وأن أمه ألبانية الأصل، وكانت كريمة الخلق ذكية الفؤاد، فهي التي تولت تربيته

وعنيت بتعليمه. وقد تعلم التعليم الابتدائي في مدرسة لجمعية المقاصد الخيرية في

بيروت، وتلقى بعض علوم الأدب والدين عن الشيخ إبراهيم الأحدب الطرابلسي

والشيخ يوسف الأسير البيروتي اللذين انتهت إليهما رئاسة العلوم العربية والشرعية

في بيروت. ثم كان جل تحصيله بجده واجتهاده في المطالعة والمراجعة والتعليم،

وعين بالكتابة العصرية ونظر الشعر فكان في الرعيل الأول من فرسانهما في وطنه،

وعلم في بعض المدارس، وحرر في عدة جرائد، وألف عدة كتب قرظها المنار

في أزمنة نشرها، حتى صار أشهر شبان النهضة الإسلامية في بيروت.

لقيته في بيروت قبل هجرتي إلى مصر، فإذا هو شاب يتدفق غيرة على

الأمة وشعورًا بسوء حالها، وشدة حاجتها إلى الإصلاح ومجاراة الأمم الحيّة. ولما

أنشأت المنار جعلته وكيلاً له في بيروت وما يتصل بها، فقبل ذلك بالارتياح،

وكان مغتبطًا بالمنار أشد الاغتباط، على ما كان في ذلك من الخطر والتعرض لأذى

الحكومة الحميدية، ولكنه عهد بعد ذلك بتوزيعه وجمع مال اشتراكاته لصاحب له

من ذوي المطامع الدنيئة وفاسدي الأخلاق، فغشنا به - غير متعمد - عدة سنين

سامحه الله وعفى عنه.

كان الفقيد صاحب همة علية، وحب للاستقلال الفكري والحرية، وميل شديد

للسياسة، ولو أتيح له أن يعيش في بلاد كتاب العصر المصلحين. ولكنه كان

ضعيف الثقة باستقلال نفسه في العمل، فلم يتجرأ على الهجرة ولا على النهوض

بعمل مستقل غير مضمون الربح، ولهذا باع قلمه لأصحاب الجرائد بالأجرة مراعيًا

مشاربهم ومذاهب سياستهم فيها، فكان لا يؤلف كتابًا إلا بعد أن يتعاقد مع رجل

يطبعه على نفقته، ويكون ملكًا لطابعه من دونه، وكان الباعث له على ذلك الحاجة

إلى المال، وحب التعجل بربح قطعي بلا نفقة ولا انتظار، وكان من لوازم هذه

الطريقة من الكسب بالقلم اختيار ما يروج عند الطابعين وسرعة التأليف، فالوقوف

به عند حد في استطاعة المؤلف ما هو أعلى منه، ولولاها لم يحصر جُلَّ ما كتبه

في كتب التعليم الابتدائي، فإنه لم يؤلف إلا كتب دروس التاريخ الإسلامي والعربية

والفقه والمطالعة للمدارس الابتدائية. وعلّق على ديواني أبي تمام وابن المعتز

تفسيرًا لغريبهما، سلك فيه مسلك الاختصار المخل، وأوقعه الاستعجال في كثير

من الغلط، على أنه كان من أحرص كتاب العصر على ضبط اللغة وصحة العبارة،

والثقة مما يضبطه بدقة المراجعة.

فكان يضاهي الشيخ إبراهيم اليازجي في هذا. وكان يعرف اللغة التركية،

وترجم عنها قصة (الوطن) لنامق كمال بك الشهير. وكان يرجى من خدمته للغة

العربية ما هو أعظم من ذلك، ولكن كان من سوء حظ الأمة العربية أن فقدته عندما

بلغ أشده واستوى، وقوي في إتقان خدمة الأمل والرجاء عرضت له حمى وهو

في عنفوان قوته، فقضت في أسبوع واحد على حياته، فخسرت بفقده الأمة العربية

قلمًا سيّالاً، وذهنًا جوالاً، وهمة لا تعرف ملالاً ولا كلالاً.

***

4-

الشيخ محمد جمال الدين القاسمي

هو علامة الشام، وبادرة الأيام، والمجدد لعلوم الإسلام، محيي السنة بالعمل

والتعليم، والتهذيب والتأليف، وأحد حلقات الاتصال بين هدي السلف، والارتقاء

المدني الذي يقتضيه الزمن، الفقيه الأصولي، المفسر المحدث، الأديب المتفنن،

التقي الأواب، الحليم الأواه، العفيف النزيه، صاحب التصانيف الممتعة، والأبحاث

المقنعة، صديقنا الصفي، وخلنا الوفي، أخونا الروحي، قدّس الله روحه، ونوّر

ضريحه، وأحسن عزاءنا عنه.

نشأ الفقيد في بيت من بيوت العلم والدين في دمشق الشام، ولد سنة ثلاث

وثمانين ومئتين وألف. وتلقى مبادئ العلوم العربية والشرعية عن والده الشيخ سعيد

ابن الشيخ قاسم الملقب بالحلاق، والقاسمي نسبة إلى الشيخ قاسم هذا.

ووالدته علوية يتصل نسبها بنسب الشيخ إبراهيم الدسوقي الشهير. وقد عني

الفقيد في آخر عمره بإثبات هذا النسب، وكتب له شجرة، وجاء مصر في العام

الماضي لشؤون تتعلق بذلك فسررنا بلقائه، وجددنا ما لا تخلقه الأيام من عهود إخائه.

وكتبنا له كما أحب كلمات على نسبه. وقد صار بعض تلاميذه وأصحابه

يطلقون عليه لقب (السيد) بعد تحرير هذا النسب؛ بناء على القول بعموم شرف

الأسباط. ولكن العرف الذي عليه أكثر المسلمين على خلاف هذا القول.

والكثيرون من أهل سوريا يطلقون لقب (السيد) على من ليس له لقب علمي ولا

رسمي، ولعل ذلك من نزغات الأمويين، في هضم حقوق العلويين، والشيخ غني

عن هذا اللقب، الذي لا يفهم المراد منه أحد.

وقد تلقى العلوم المتداولة في الشام عن الشيخ بكري العطار أشهر علمائها

وفقهاء الشافعية فيها، وكان يحضر مجالس الأستاذ الكبير الشيخ عبد الرزاق

البيطار مجدد مذهب السلف في الشام، وقد استفاد من علمه وعقيدته الأثرية وهديه

وأخلاقه المرضية، ما لم يستفده من غيره، وصحب الأستاذ المعنّ المفنّ الشيخ

طاهراً الجزائري، فاستفاد من صحبته علمًا بحال العصر، ومعرفة بنوادر الكتب

وغرائب المسائل، وصحب العالم المستقل الشيخ سليم البخاري، وأترابًا من خيرة

شبان العصر المدنيين كرفيق بك العظم ومحمد أفندي كرد علي وغيرهما وجماعتهم.

فكان لصحبة هؤلاء الشيوخ والشبان - وهم خير من أنبتت الشام في هذا الزمان -

تأثيرًا عظيمًا في حياته العلمية، من حيث فتحت لاستعداده الفطري،

واستقلاله الوهبي، أبواب البحث والتحقيق، وعدم الوقوف عن المسلمات من

التقاليد، ونبهته إلى حاجة الأمة إلى الإصلاح المدني كحاجتها إلى الإصلاح الديني

وجاء مصر مع الأستاذ البيطار - على عهد الأستاذ الإمام - فاغتبطا بلقائه واغتبط

بلقائهما، وصارت المكاتبة بعد ذلك متصلة بينه وبينهما. وإنما كان جمال الدين

ذلك الرجل بجوهر نفسه، وقوة استعداده، وكم من طالبِ علمٍ سمع مثل ما سمع،

ولقي من الشيوخ والشبان مثل من لقي، فأنكر كل ما خالف - وعلى كل من خالف -

ما عرف وألف. ولم يهده ذلك إلى طلب علم جديد، ولا إلى مراجعة النظر

واستشارة الدليل. فالحق أن الأفراد الذين امتازوا في هذا العصر من أمتنا بالعلم

الصحيح والتصدي للإصلاح، إنما امتازوا أولاً بقوة الاستعداد، والميل الفطري

إلى الاستقلال، ثم سلوك النظر والاستدلال، فمن كان هذا نفعه لقاء أهل

الاختصاص، والاطلاع على أحاسن الكتب والأسفار، فيكون في ذلك كالنحلة في

الروض، تجني من ناضر الأزهار ويانع الثمار أطيب ما فيها.

رغبت بعض المدرسين، في قراءة كتاب إحياء علوم الدين، فقلب أوراقه

كلها أو بعضها، فلم يقع اختياره على شيء يقرؤه منها، إلا بعض حكايات

الصالحين، وبعض الآثار في فضائل الأعمال، فهو لم يستفد من علم الغزالي مسألة

ما، ولم يعقل من خصائص الكتاب شيئًا. ذلك بأن هم ذلك المدرس كان محصورًا

فيما رأى عليه أمثاله، وهو انتقاء ما يرضي الناس ويلذ لهم، ولا يذكرهم بشيء

من جهلهم، ولا يكشف لهم الستار عن شيء من عيوبهم، ولا ينذرهم سوء عاقبة

إفراطهم وتفريطهم.

نعم إن كل فرد من أولئك الأفراد القلائل الذين نعدهم في هذا العصر من

المصلحين - وصديقنا المترجم منهم - لم يكن امتيازهم إلا بصفاء جوهرهم وقوة

استعدادهم الفطري للاستقلال والكمال. مع التوفيق للطلب والاشتغال، واتفاق لقاء

بعض أصحاب المزايا من الرجال، ذلك بأنه ليس في أمتنا مربّون، ولا معلمون

مصلحون، لا في البيوت ولا في المدارس، ولو وجد فينا كثير من القادرين على

التربية الصحيحة والتعليم الاستقلالي، لوُجِدَ في كل بلد - لا في كل قطر فقط -

كثير من أمثال القاسمي.

ظهر الشيخ جمال الدين في الشام على حين فترة من العلماء، فقد كان من

أدرك من كبار شيوخها آخر الذين عنوا بدراسة الكتب المعهودة التي يطلق على

مدارسيها لقب (علماء) على أن العلم الصحيح - وهو العلم الاستقلالي المبني على

الدليل كان قد حجر عليه وحكم بتحريمه من عدة قرون، فلم يكن أحد يشم ريحه ولا

يشم وميضه إلا قليلاً، وصار الناس كالخفافيش لا يفتحون في هذا النور عينًا، ولا

يحيلون في شعاعه فكرًا.

ظهر الفقيد وفي دمشق الشام أفراد ورثوا عن آبائهم وأجدادهم عمائم العلماء

وألقابهم والرواتب التي كانوا يأخذونها من أوقاف المسلمين ولم يرثوا عنهم من العلم

بتلك الكتب شيئًا. فاتهم العلم ولم يفتهم صرف الأوقات كلها في استنباط الحيل

للتمتع بجاهه ومجده، تبعًا للتمتع بألقابه وأزيائه ونقده، فكان من أكبر الخطوب

عليهم أن يروا في الشام عالمًا يتصدى للتدريس والتصنيف، ويبين حاجة البلاد إلى

الإصلاح والتجديد، فإذا تصدى لذلك أحد يكيدون له المكايد، وينصبون له الحبائل،

ويبغونه الفتنة، ويجعلونه في موقف الظنة، فيسعون به إلى الحكام، أنصار كل

منافق، ويهيجون عليه العوام، أتباع كل ناعق، فماذا يعمل العالم المصلح بينهم.

إذا كان عمل القاسمي للإصلاح وتجديد علوم الدين صغيرًا في نفسه، فهو

كبير جدًّا في بلاده وبين قومه، فما القول فيه إذا كان عمله كبيرًا في الواقع، وقد

عظم المطلوب وقل المساعد؟

كان رحمه الله تعالى يقرأ الدروس العربية والشرعية للطلبة وللعامة،

ويخطب في المسجد خطبة الجمعة، ويصنف الرسائل والأسفار الممتعة، ويصحح

ما يرى نشره نافعًا من كتب المتقدمين، ويشرح المختصر ويختصر المطول منها،

ويسعى في طبعها ونشرها، ويبث روح الاستقلال والاستدلال في ذلك كله بالحكمة

والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن. وكم سعى فيه، وكاد له أولئك

المعممون الجامدون فأنجاه الله منهم، وإن أكبر الكبائر التي يتهمون بها كل من

يدعو مثله إلى العلم والعمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، هي

محاولة هدم الدين بفتح باب الاجتهاد والاستدلال، وما يستلزمه ذلك - بزعمهم -

من تحقير الأئمة، ومن اتبعهم من علماء الأمة!! وقد اتهم مرة بذلك مع بعض

أصدقائه وعقد لهم مجلس في المحكمة الشرعية وسألهم القاضي عن تلك التهمة،

وأخذ الفقيد من دونهم إلى دار الشرطة، وحبس فيها بضع ساعات.

كان له رحمه الله تعالى دروع سابغات من أخلاقه وسيرته تقيه بغي أعداء

العلم والإصلاح من حسّاده؛ إذ كان نزيه اللسان، بعيدًا عن المراء والجدال، متجنبًا

للإزراء بغيره، والتعريض بغميزة خصمه أو مدح نفسه، غير مزاحم لوارثي

العمائم على الحطام، ولا مسابق لهم إلى أبواب الحكام، إلى ما كان عليه من العبادة،

والعفة والاستقامة.

(للترجمة بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 556

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌وجوب تعلم العربية

على كل مسلم

(س19) من صاحب الإمضاء بمصر:

السيد الإمام صاحب المنار

قرأنا في أعداد سابقة من مجلتكم المنار أدلة وجوب تعلم اللغة العربية على كل

مسلم، وأشرتم في بعض الأجزاء إلى أن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى قال بذلك.

ثم قرأنا في الجزء السابع من المجلد 17 قول عبيد الله صاحب (قوم جديد)

باستغناء المسلمين عن تعلم العربية. فنرجو أن تنشروا قول الإمام الشافعي بذلك

إلجامًا لذلك الدجال واطمئنانًا لقوم يؤمنون.

مستفيد يقرأ المنار

(ج) جاء في رسالة الإمام الشافعي التي هي أول رسالة كتبت في أصول

الفقه برواية الربيع بن سليمان المرادي ما نصه:

(قال الشافعي) رضي الله عنه: والقرآن يدل على أن ليس في كتاب الله

شيء إلا بلسان العرب، ووجد قائل هذا القول من قبل ذلك منه تقليدًا له وتركًا

للمسألة له عن حجته ومسألة غيره ممن خالفه، وبالتقليد أغفل من أغفل منهم والله

يغفر لنا ولهم. ولعل من قال: إن في القرآن غير لسان العرب، وقبل ذلك منه

ذهب إلى أن من القرآن خاصًّا يجهل بعضه بعض العرب، ولسان العرب أوسع

الألسنة مذهبًا وأكثرها ألفاظًا، ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غير نبي؛ ولكنه

لا يذهب منه شيء على عامتها، حتى لا يكون موجودًا فيها من يعرفه، والعلم به

عند العرب كالعلم بالسنة عند أهل الفقه، ولا نعلم رجلاً جمع السنن فلم يذهب منها

عليه شيء، فإذا جمع علم عامة أهل العلم بها أتى على السنن، وإذا فرق علم كل

واحد منهم ذهب عليه الشيء منها، ثم كان ما ذهب عليه منها موجودًا عند غيره،

وهم في العلم طبقات، منهم الجامع لأكثره وإن ذهب عليه بعضه، ومنهم الجامع

لأقل مما جمع غيره، وليس قليل ما ذهب من السنن على من جمع أكثرها دليلاً

على أن لا يطلب علمه عند غير أهل طبقته من أهل العلم؛ بل يطلب عند نظرائه

ما ذهب عليه حتى يؤتى على جميع سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأبي هو

وأمي، فينفرد جملة العلماء بجمعها، وهم درجات فيما وعوا منها. وهكذا لسان

العرب عند خاصتها وعامتها لا يذهب منه شيء عليها، ولا يطلب عند غيرها ولا

يعلمه إلا من قبله عنها، ولا يشركها فيه إلا من اتبعها في تعلمه منها، ومن قبله

منها فهو من أهل لسانها، وإنما صار غيرهم من غير أهله بتركه، فإذا صار إليه

صار من أهله، وعلم أكثر اللسان في أكثر العرب أعم من علم أكثر السنن في أكثر

العلماء.

فإن قال قائل: فقد نجد من العجم من ينطق بالشيء من لسان العرب؛ فلذلك

يحتمل ما وصفت من تعلمه منهم، فإن لم يكن ممن تعلمه منهم فلا يوجد ينطق إلا

بالقليل منه، ومن نطق بقليل منه فهو تبع للعرب فيه، ولا ينكر إذا كان اللفظ قبل

تعلمًا أو نطق به موضوعًا أن يوافق لسان العجم أو بعضها قليل من لسان العرب،

كما ياتفق [1] القليل من ألسنة العجم المتباينة في أكثر كلامها، مع تنائي ديارها

واختلاف لسانها، وبعد الأواصر [2] بينها وبين من وافقت بعض لسانه منها.

فإن قال قائل: ما الحجة في أن كتاب الله محض بلسان العرب لا يخلطه فيه

غيره؟ فالحجة فيه كتاب الله، قال الله تبارك وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَاّ

بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ} (إبراهيم: 4)، فإن قال قائل: فإن الرسل قبل محمد صلى

الله عليه وسلم كانوا يرسلون إلى قومهم خاصة وأن محمدًا صلى الله تعالى عليه

وسلم بعث إلى الناس كافة، قيل: فقد يحتمل أن يكون بعث بلسان قومه خاصة،

ويكون على الناس كافة أن يتعلموا لسانه أو ما أطاقوه منه، ويحتمل أن يكون بعث

بألسنتهم، فإن قال قائل: فهل من دليل على أنه بعث بلسان قومه خاصة دون ألسنة

العجم؟

(قال الشافعي) رحمه الله تعالى: فالدلالة على ذلك بينة في كتاب الله عز

وجل في غير موضع: فإذا كانت الألسنة مختلفة بما لا يفهمه بعضهم عن بعض فلا

بد أن يكون بعضهم تبعًا لبعض، وأن يكون الفضل في اللسان المتبع على التابع.

وأولى الناس بالفضل في اللسان من لسانه لسان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم،

ولا يجوز - والله تعالى أعلم - أن يكون أهل لسانه أتباعًا لأهل لسان غير لسانه في

حرف واحد؛ بل كل لسان تبع للسانه، وكل أهل دين قبله فعليهم اتباع دينه. وقد

بيّن الله تعالى ذلك في غير آية من كتابه. قال الله عز ذكره: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ

العَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ

مُّبِينٍ} (الشعراء: 192-195)، وقال:{وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيًّا} (الرعد: 37)، وقال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِياًّ لِّتُنذِرُ أُمَّ القُرَى وَمَنْ

حَوْلَهَا} (الشورى: 7)، وقال تعالى: {حم * وَالْكِتَابِ المُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ

قُرْآناً عَرَبِياًّ لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (الزخرف: 1-3) .

(قال الشافعي) رحمه الله تعالى: فأقام حجته بأن كتابه عربي في كل آية

ذكرناها. ثم أكد ذلك بأن نفى عنه جل وعز كل لسان غير لسان العرب في آيتين

من كتابه فقال تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي

يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} (النحل: 103) وقال: {وَلَوْ

جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ} (فصلت: 44) .

(قال الشافعي) رحمه الله تعالى: وعرفنا قدر نعمه بما خصنا به من مكانة

فقال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ} (التوبة: 128)

الآية - وقال: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً} (الجمعة: 2) الآية، وكان

مما عرف الله تعالى نبيه عليه السلام من إنعامه عليه ان قال: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ

وَلِقَوْمِكَ} (الزخرف: 44)، فخص قومه بالذكر معه بكتابه وقال: {وَأَنذِرْ

عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} (الشعراء: 214)، وقال {وَلِتُنذِرَ أُمَّ القُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} (الأنعام: 92) ، وأم القرى مكة، وهي بلده وبلد قومه، فجعلهم في كتابه خاصة

وأدخلهم مع المنذرين عامة، وقضى أن ينذروا بلسانهم العربي لسان قومه منهم

خاصة. فعلى كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده حتى يشهد به أن لا

إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده رسوله، ويتلو به كتاب الله تعالى

وينطق بالذكر فيما افترضه عليه من التكبير وأمر به من التسبيح والتشهد وغير ذلك.

وما ازداد من العلم باللسان الذي جعله الله لسان مَن ختم به نبوته وأنزل به آخر

كتبه كان خيرًا له، كما عليه أن يتعلم الصلاة والذكر فيها، ويأتي البيت وما أمر

بإتيانه. ويتوجه لما وجه له ويكون تبعًا فيما افترض عليه وندب إليه لا متبوعًا.

(قال الشافعي) رحمه الله تعالى: وإنما بدأت بما وصفت من أن القرآن

نزل بلسان العرب دون غيرهم لأنه لا يعلم من إيضاح جمل علم الكتاب أحد جهل

سعة لسان العرب وكثرة وجوهه وجماع معانيه وتفرقها، ومن علمها انتفت عنه

الشبه التي دخلت على من جهل لسانها، فكان تنبيه العامة على أن القرآن نزل

بلسان العرب خاصة نصيحة للمسلمين، والنصيحة لهم فرض لا ينبغي تركه، أو

إدراك نافلة خير لا يدعها إلا من سَفِهَ نفسه وترك موضع حظه، فكان يجمع بين

النصيحة لهم قيامًا بإيضاح حق، وكان القيام بالحق ونصيحة المسلمين طاعةً لله.

وطاعة الله جامعة للخير.

(قال الشافعي) رحمه الله تعالى: أخبرنا سفيان بن عيينة عن زياد بن

علاقة قال: سمعت جرير بن عبد الله يقول: بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على

النصح لكل مسلم. وأخبرنا سفيان بن عيينة عن سهيل بن أبي صالح عن عطاء

بن يزيد الليثي عن تميم الداري أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: (الدين

النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة. قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله

ولكتابه ولنبيه ولأئمة المسلمين وعامتهم) . اهـ المراد منه.

_________

(1)

قوله (ياتفق) هو مضارع بمعنى يتفق لكن لم تدغم فيه فاء الافتعال؛ بل قلبت حرفًا لينًا من جنس الحركة قبلها وهي لغة أهل الحجاز يقولون: ايتفق ياتفق فهو موتفق ولغة غيرهم الإدغام.

(2)

الأواصر: جمع آصرة، وهي الرحم والقرابة.

ص: 589

الكاتب: أبو إسحاق الشاطبي

فصل [*]

إذا ثبت هذا انتقلنا منه إلى معنى آخر:

وهو أن المحرم ينقسم في الشرع إلى ما هو صغير وإلى ما هو كبير - حسبما

تبين في علم الأصول الدينية - فكذلك يقال في البدع المحرمة إنها تنقسم إلى

الصغيرة والكبيرة اعتبارًا بتفاوت درجاتها - كما تقدم - وهذا على القول بأن

المعاصي تنقسم إلى الصغيرة والكبيرة. ولقد اختلفوا في الفرق بينهما على أوجه،

وجميع ما قالوه لعله لا يوفي بذلك المقصود على الكمال. فلنترك التفريع عليه.

وأقرب وجه يلتمس لهذا المطلب ما تقرر في كتاب الموافقات أن الكبائر

منحصرة في الإخلال بالضروريات المعتبرة في كل ملة، وهي الدين والنفس

والنسل والعقل المال. وكل ما نص عليه راجع إليها، وما لم ينص عليه جرى في

الاعتبار والنظر مجراها، وهو الذي يجمع أشتات ما ذكره العلماء وما لم يذكروه

مما هو في معناه.

فكذلك نقول في كبائر البدع: ما أخل منها بأصل من هذه الضروريات فهو

كبيرة، وما لا فهي صغيرة. وقد تقدمت لذلك أمثلة أول الباب. فكما انحصرت

كبائر المعاصي أحسن انحصار - حسبما أشير إليه في ذلك الكتاب - كذلك تنحصر

كبائر البدع أيضًا، وعند ذلك يعترض في المسألة إشكال عظيم على أهل البدع

يعسر التخلص عنه في إثبات الصغائر فيها. وذلك أن جميع البدع راجعة إلى

الإخلال بالدين إما أصلاً وإما فرعًا؛ لأنها إنما أحدثت لتلحق بالمشروع زيادة فيه أو

نقصانًا منه أو تغييرًا لقوافيه، أو ما يرجع إلى ذلك؛ وليس ذلك بمختص بالعبادات

دون العادات، إن قلنا بدخولها في العادات؛ بل تعم الجميع.

وإذا كانت بكليتها إخلالاً بالدين فهي إذًا إخلال بأول الضروريات وهو الدين، وقد

أثبت الحديث الصحيح أن كل بدعة ضلالة، وقال في الفِرَق: (كلها في النار إلا

واحدة) وهذا وعيد أيضًا للجميع على التفصيل.

هذا وإن تفاوتت مراتبها في الإخلال بالدين فليس ذلك بمخرج لها عن أن

تكون كبائر، كما أن القواعد الخمس أركان الدين وهي متفاوتة في الترتيب، فليس

الإخلال بالشهادتين كالإخلال بالصلاة، ولا الإخلال بالصلاة كالإخلال بالزكاة، ولا

الإخلال بالزكاة كالإخلال برمضان، وكذلك سائرها مع الإخلال؛ فكل منها كبيرة.

وفقد النظر إلى أن كل بدعة كبيرة.

ويجاب عنه بأن هذا النظر يدل على ما ذكره، ففي النظر ما يدل من جهة

أخرى على إثبات الصغيرة من أوجه:

(أحدها) أنَّا نقول: الإخلال بضرورة النفس كبيرة بلا إشكال؛ ولكنها على

مراتب؛ أدناها لا يسمى كبيرة، فالقتل كبيرة وقطع الأعضاء من غير إجهاز كبيرة

دونها، وقطع عضو واحد كبيرة دونها، وهلم جرّا إلى أن تنتهي إلى اللطمة؛ ثم

إلى أقل خدش يتصور، فلا يصح أن يقال في مثله كبيرة، كما قال العلماء في

السرقة: إنها كبيرة؛ لأنها إخلال بضرورة المال. فإن كانت السرقة في لقمة أو

تطفيف بحبة فقد عدُّوه من الصغائر. وهذا في ضرورة الدين أيضًا.

(فقد جاء في بعض الأحاديث عن حذيفة رضي الله عنه قال: أول ما

تفقدون من دينكم الأمانة، وآخر ما تفقدون الصلاة، ولتنقضن عرى الإيمان عروة

عروة، وليصلين نساء وهن حيض - ثم قال - حتى تبقى فرقتان من فرق كثيرة

تقول إحداهما: ما بال الصلوات الخمس؟ لقد ضل مَن كان قبلنا، إنما قال الله

{وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ} (هود: 114) لا تصلُّنَّ إلا ثلاثًا.

وتقول أخرى: إنا لنؤمن بالله إيمان الملائكة، ما فينا كافر. حق على الله أن

يحشرهما مع الدجال) وهذا الأثر - وإن لم تلتزم عهدة صحته - مثال من أمثلة

المسألة.

فقد نبّه على أن في آخر الزمان مَن يرى أن الصلوات المفروضة ثلاث لا

خمس، وبيّن أن من النساء من يصلين وهن حيض، كأنه يعني بسبب التعمق

وطلب الاحتياط بالوساوس الخارج عن السنة. فهذه مرتبة دون الأولى.

وحكى ابن حزم أن بعض الناس زعم أن الظهر خمس ركعات لا أربع ركعات.

ثم وقع في العتبية: قال ابن القاسم: وسمعت مالكًا يقول: أول من أحدث

الاعتماد في الصلاة حتى لا يحرك رجليه رجل قد عرف وسمي إلا أني لا أحب أن

أذكره، وقد كان مُساءً (أي يساء الثناء عليه)، قال: قد عيب ذلك عليه، وهذا

مكروه من الفعل. قالوا: (ومساء) أي يساء الثناء عليه. قال ابن رشد: جائز عند

مالك أن يروّح الرجل قدميه في الصلاة، قاله في المدونة. وإنما كره أن يقرنهما

حتى لا يعتمد على أحدها دون الأخرى؛ لأن ذلك ليس من حدود الصلاة؛ إذ لم

يأت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من السلف والصحابة

المرضيين، وهو من محدثات الأمور. انتهى.

فمثل هذا - إن كان يعده فاعله من محاسن الصلاة وإن لم يأت به أثر - فيقال

في مثله: إنه من كبائر البدع. كما يقال ذلك في الركعة الخامسة في الظهر ونحوها؛

بل إنما يعد مثله من صغائر البدع إن سلمنا أن لفظ الكراهية فيه ما يراد به

التنزيه، وإذا ثبت ذلك في بعض الأمثلة في قاعدة الدين، فمثله يتصور في سائر

البدع المختلفة المراتب، فالصغائر في البدع ثابتة كما أنها في المعاصي ثابتة.

(والثاني) : أن البدع تنقسم إلى ما هي كلية في الشريعة وإلى جزئية،

ومعنى ذلك أن يكون الخلل الواقع بسبب البدعة كليًّا في الشريعة، كبدعة التحسين

والتقبيح العقليين، وبدعة إنكار الأخبار السُّنِّية اقتصارًا على القرآن، وبدعة

الخوارج في قولهم: لا حكم إلا الله. وما أشبه ذلك من البدع التي لا تختص فرعًا

من فروع الشريعة دون فرع؛ بل تجدها تنتظم ما لا ينحصر من الفروع الجزئية،

أو يكون الخلل الواقع جزئيًّا إنما يأتي في بعض الفروع دون بعض، كبدعة

التثويب بالصلاة - الذي قال فيه مالك: التثويب ضلال. - وبدعة الأذان والإقامة

في العيدين، وبدعة الاعتماد في الصلاة على إحدى الرجلين، وما أشبه ذلك. فهذا

القسم لا تتعدى فيه البدعة محلها، ولا تنتظم تحتها غيرها حتى تكون أصلاً لها.

فالقسم الأول إذا عد من الكبائر اتضح مغزاه وأمكن ان يكون منحصرًا داخلاً

تحت عموم الثنتين والسبعين فرقة، ويكون الوعيد الآتي في الكتاب والسنة

مخصوصًا به لا عامًّا فيه وفي غيره، ويكون ما عدا ذلك من قبيل اللمم المرجو فيه

العفو، الذي لا ينحصر إلى ذلك العدد، فلا قطع على أن جميعها من قبيل واحد،

وقد ظهر وجه انقسامها.

(والثالث) : أن المعاصي قد ثبت انقسامها إلى الصغائر والكبائر، ولا شك

أن البدع من جملة المعاصي - على مقتضى الأدلة المتقدمة - ونوع من أنواعها،

فاقتضى إطلاق التقسيم أن البدع تنقسم أيضًا، ولا يخصص وجوهًا (؟) بتعميم

الدخول في الكبائر؛ لأن ذلك تخصيص من غير مخصص، ولو كان ذلك معتبرًا

لاستثنى من تقدم من العلماء القائلين بالتقسيم قسم البدع، فكانوا ينصون على أن

المعاصي ما عدا البدع تنقسم إلى الصغائر والكبائر، إلا أنهم لم يلتفتوا إلى الاستثناء

وأطلقوا القول بالانقسام، فظهر أنه شامل لجميع أنواعها.

فإن قيل: إن ذلك التفاوت لا دليل فيه على إثبات الصغيرة مطلقًا؛ وإنما يدل

ذلك على أنها تتفاضل، فمنها ثقيل وأثقل، ومنها خفيف وأخف؛ والخفة هل تنتهي

إلى حد تعد البدعة فيه من قبيل اللمم؟ هذا فيه نظر، وقد ظهر معنى الكبيرة

والصغيرة في المعاصي غير البدع:

وأما في البدع فثبت لها أمران: أحدهما: أنها مضادة للشارع ومراغمة له،

حيث نصب المبتدع نفسه نصب المستدرك على الشريعة، لا نصب المكتفي بما حدّ

له.

والثاني: أن كل بدعة - وإن قلت - تشريع زائد أو ناقص، أو تغيير للأصل

الصحيح؛ وكل ذلك قد يكون على الانفراد، وقد يكون ملحقًا بما هو مشروع،

فيكون قادحًا في المشروع. ولو فعل أحد مثل هذا في نفس الشريعة عامدًا لكفر؛ إذ

الزيادة والنقصان فيها أو التغيير قل أو كثر كفر، فلا فرق بين ما قل منه وما كثر.

فمن فعل مثل ذلك بتأويل فاسد أو برأي غالط رآه أو ألحقه بالمشروع، إذا لم

نكفره لم يكن في حكمه فرق بين ما قل منه وما كثر؛ لأن الجميع جناية لا تحملها

الشريعة بقليل ولا بكثير.

ويعضد هذا النظر عموم الأدلة في ذم البدع من غير استثناء، فالفرق بين

بدعة جزئية وبدعة كلية، وقد حصل الجواب عن السؤال الأول والثاني.

وأما الثالث فلا حجة فيه لأن قوله عليه السلام: (كل بدعة ضلالة) وما تقدم من كلام

السلف يدل على عموم الذم فيها. وظهر أنها مع المعاصي لا تنقسم ذلك الانقسام؛ بل

إنما ينقسم ما سواها من المعاصي. واعتبر بما تقدم ذكره في الباب

الثاني يتبين لك عدم الفرق فيها. وأقرب منها عبارة تناسب هذا التقرير؛ أن يقال:

كل بدعة كبيرة عظيمة بالإضافة إلى مجاوزة حدود الله بالتشريع، إلا أنها وإن

عظمت لما ذكرناه، فإذا نسب بعضها إلى بعض تفاوتت رتبتها فيكون منها صغار

وكبار؛ إما باعتبار أن بعضها أشد عقابًا من بعض، فالأشد عقابًا أكبر مما دونه،

وإما باعتبار فوت المطلوب في المفسدة، فكما انقسمت الطاعة باتباع السنة إلى

الفاضل والأفضل، لانقسام مصالحها إلى الكامل والأكمل، انقسمت البدع لانقسام

مفاسدها إلى الرذل والأرذل، والصغر والكبر، من باب النسب والإضافات؛ فقد

يكون لا شيء كبيرًا في نفسه لكنه صغير بالنسبة إلى ما هو أكبر منه.

وهذه العبارة قد سبق إليها إمام الحرمين لكن في انقسام المعاصي إلى الكبائر

والصغائر فقال: المرضي عندنا أن كل ذنب كبيرة وعظيم بالإضافة إلى مخالفة الله،

ولذلك يقال: معصية الله أكبر من معصية العباد قولاً مطلقًا، إلا أنها وإن عظمت

لما ذكرناه، فإذا نسب بعضها إلى بعض تفاوتت رتبها. ثم ذكر معنى ما تقدم؛ ولم

يوافقه غيره على ما قال، وإن كان له وجه في النظر وقعت الإشارة إليه في كتاب

الموافقات. ولكن الظاهر يأبى ذلك - حسبما ذكره غيره من العلماء - والظواهر في

البدع لا تأبى كلام الإمام إذا نزل عليها - حسبما تقدم - فصار اعتقاد الصغائر فيها

يكاد يكون من المتشابهات، كما صار اعتقاد نفي الكراهية التنزيه عنها من

الواضحات.

فليتأمل هذا الموضع أشد التأمل ويعط من الإنصاف حقه، ولا ينظر إلى خفة

الأمر في البدعة بالنسبة إلى صورتها وإن دقت؛ بل ينظر إلى مصادمتها للشريعة

ورميها لها بالنقص والاستدراك، وأنها لم تكمل بعد حتى يوضع فيها، بخلاف

سائر المعاصي فإنها لا تعود على الشريعة بتنقيص ولا غض من جانبها؛ بل

صاحب المعصية متنصل منها مقر لله بمخالفته لحكمها.

وحاصل المعصية أنها مخالفة في فعل المكلف لما يعتقد صحته من الشريعة؛

والبدعة حاصلها مخالفة في اعتقاد كمال الشريعة، ولذلك قال مالك بن أنس: من

أحدث في هذه الأمة شيئًا لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن رسول الله صلى الله عليه

وسلم خان الرسالة؛ لأن الله يقول: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (المائدة: 3) إلى

آخر الحكاية. وقد تقدمت.

ومثلها جوابه لمن أراد أن يُحْرِم من المدينة وقال: أي فتنة فيها؟ إنما هي

أميال أزيدها. فقال: وأي فتنة أعظم من أن تظن أنك فعلت فعلاً قصر عنه رسول

الله صلى الله عليه وسلم؟ ! إلى آخر الحكاية، وقد تقدمت أيضًا. فإذًا يصح أن

يكون في البدع ما هو صغيرة.

فالجواب أن ذلك يصح بطريقة يظهر إن شاء الله أنها تحقيق في تشقيق هذه

المسألة.

وذلك أن صاحب البدعة يتصور أن يكون عالمًا بكونها بدعة وأن يكون غير

عالم بذلك. وغير العالم بكونها بدعة على ضربين: وهما المجتهد في استنباطها

وتشريعها والمقلد له فيها. وعلى كل تقدير فالتأويل يصاحبه فيها ولا يفارقه إذا

حكمنا له بحكم أهل الإسلام؛ لأنه مصادم للشارع مراغم للشرع بالزيادة فيه أو

النقصان منه أو التحريف له؛ فلا بد له من تأويل كقوله: (هي بدعة ولكنها

مستحسنة) ، أو يقول:(إنها بدعة ولكني رأيت فلانًا الفاضل يعمل بها) ، أو يقر

بها ولكنه يفعلها لحظ عاجل، كفاعل الذنب لقضاء حظه العاجل خوفًا على حظه،

أو فرارًا من خوف على حظه، أو فرارًا من الاعتراض عليه في اتباع السنة، كما

هو الشأن اليوم في كثير ممن يشار إليه، وما أشبه ذلك.

وأما غير العالم وهو الواضع لها، فإنه لا يمكن أن يعتقدها بدعة؛ بل هي

عنده ما يلحق بالمشروعات، كقول من جعل يوم الإثنين يصام؛ لأنه يوم مولد

النبي صلى الله عليه وسلم، وجعل الثاني عشر من ربيع الأول ملحقًا بأيام الأعياد؛

لأنه عليه السلام ولد فيه، وكمن عد السماع والغناء مما يتقرب به إلى الله بناء على

أنه يجلب الأحوال السنية، أو رغب في الدعاء بهيئة الاجتماع في أدبار الصلوات

دائمًا بناءً على ما جاء في ذلك حالة الوحدة، أو زاد في الشريعة أحاديث مكذوبة

لينصر في زعمه سنة محمد صلى الله عليه وسلم. فلما قيل له: إنك تكذب عليه.

وقد قال: (من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار)، قال: لم أكذب عليه

وإنما كذبت له. أو نقص منها تأويلاً عليها لقوله تعالى في ذم الكفار: {إِن يَتَّبِعُونَ

إلا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئاً} (النجم: 28) ، فأسقط اعتبار

الأحاديث المنقولة بالآحاد لذلك ولما أشبه؛ لأن خبر الواحد ظني؛ فهذا كله من

قبيل التأويل.

وأما المقلد: فكذلك أيضًا؛ لأنه يقول: فلان المقتدى به يعمل بهذا العمل

ويتني (؟) كاتخاذ الغناء جزءًا من أجزاء طريقة التصوف بناء منهم على أن

شيوخ التصوف قد سمعوه وتواجدوا عليه، ومنهم من مات بسببه، وكتمزيق الثياب

عند التواجد بالرقص وسواه؛ لأنهم قد فعلوه، وأكثر ما يقع مثل هذا في هؤلاء

المنتمين إلى التصوف.

وربما احتجوا على بدعهم بالجنيد والبسطامي والشبلي وغيرهم فيما صح

عندهم أو لم يصح، ويتركون أن يحتجوا بسنة الله ورسوله وهي التي لا شائبة فيها

إذا نقلها العدول وفسرها أهلها المكبون على فهمها وتعلمها. ولكنهم مع ذلك لا

يقرون بالخلاف للسنة بحتًا؛ بل يدخلون تحت أذيال التأويل؛ إذ لا يرضى منتم

إلى الإسلام بإبداء صفحة الخلاف للسنة أصلاً.

وإذا كان كذلك فقول مالك: (من أحدث في هذه الأمة شيئًا لم يكن عليه سلفها

فقد زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم خان الرسالة) . وقوله لمن أراد أن يحرم من

المدينة: (أي فتنة أعظم من أن تظن أنك سبقت إلى فضيلة قصر عنها رسول الله

صلى الله عليه وسلم؟) إلى آخر الحكاية - أنها إلزام للخصم على عادة أهل النظر،

كأنه يقول: يلزمك في هذا القول كذا، لا أنه يقول قصدت إليه قصدًا؛ لأنه لا

يقصد إلى ذلك مسلم، ولازم المذهب: هل هو مذهب أم لا؟ هي مسألة مختلف

فيها بين أهل الأصول، والذي كان يقول به شيوخنا البجائيون والمغربيون ويرون

أنه رأي المحققين أيضًا: أن لازم المذهب ليس بمذهب، فلذلك إذا قرر على

الخصم أنكره غاية الإنكار [1] فإذًا اعتبار ذلك المعنى على التحقيق لا ينهض، وعند

ذلك تستوي البدعة مع المعصية صغائر وكبائر، فكذلك البدع.

ثُمَّ إن البدع على ضربين: كلية وجزئية، فأما الكلية فهي السارية فيما لا

ينحصر من فروع الشريعة، ومثالها بدع الفِرَق الثلاث والسبعين فإنها مختصة

بالكليات منها دون الجزئيات، حسبما يتعين [2] بعد إن شاء الله.

وأما الجزئية فهي الواقعة في الفروع الجزئية؛ ولا يتحقق دخول هذا الضرب

من البدع تحت الوعيد بالنار، وإن دخلت تحت الوصف بالضلال، كما لا يتحقق

ذلك في سرقة لقمة أو التطفيف بحبة، وإن كان داخلاً تحت وصف السرقة؛ بل

المتحقق دخول عظائمها وكلياتها كالنصاب في السرقة؛ فلا تكون تلك الأدلة

واضحة الشمول لها، ألا ترى أن خواص البدع غير ظاهرة في أهل البدع الجزئية

غالبًا كالفرقة والخروج عن الجماعة؟ وإنما تقع الجزئيات في الغالب كالزلة

والفلتة، ولذلك لا يكون اتباع الهوى فيها مع حصول التأويل في فرد من أفراد

الفروع، ولا المفسدة الحاصلة بالجزئية كالمفسدة الحاصلة بالكلية؛ فعلى هذا: إذا

اجتمع في البدعة وصفان - كونها جزئية وكونها بالتأويل - صح أن تكون صغيرة،

والله أعلم.

ومثاله مسألة من نذر أن يصوم قائمًا لا يجلس، وضاحيًا لا يستظل، ومن

حرم على نفسه شيئًا ممّا أحل الله من النوم أو لذيذ الطعام، أو النساء أو الأكل

بالنهار، وما أشبه ذلك ما تقدم ذكره أو يأتي، غير أن الكلية والجزئية قد تكون

ظاهرة وقد تكون خفية، كما أن التأويل قد يقرب مأخذه وقد يبعد، فيقع الإشكال في

كثير من أمثلة هذا الفصل، فيعد كبيرة ما هو من الصغائر وبالعكس، فيوكل النظر

فيه إلى الاجتهاد، اهـ.

***

فصل

وإذا قلنا: إن من البدع ما يكون صغيرة. فذلك بشروط، (أحدها) : أن لا

يداوم عليها، فإن الصغيرة من المعاصي لمن داوم عليها تكبر بالنسبة إليه؛ لأن

ذلك ناشئ عن الإصرار عليها، والإصرار على الصغيرة يُصَيِّرُهَا كبيرة، ولذلك

قالوا: لا صغيرة مع إصرار، ولا كبيرة مع استغفار. فكذلك البدعة من غير فرق؛

إلا أن المعاصي من شأنها في الواقع أنها قد يصر عليها. وقد لا يصر عليها،

وعلى ذلك ينبني طرح الشهادة وسخطة الشاهد بها أوعدمه، بخلاف البدعة فإن

شأنها في الواقع المداومة والحرص على أن لا تزال من موضعها، وأن تقوم على

تاركها القيامة، وتنطلق عليه ألسنة الملامة، ويرمى بالتسفيه والتجهيل، وينبز

بالتبديع والتضليل، ضد ما كان عليه سلف هذه الأمة، والمقتدى بهم من الأئمة،

والدليل على ذلك الاعتبار والنقل، فإن أهل البدع كان من شأنهم القيام بالنكير على

أهل السنة إن كان لهم عصبة، أو لصقوا بسلطان تجري أحكامه في الناس وتنفذ

أوامره في الأقطار. ومن طالع سير المتقدمين وجد من ذلك ما لا يخفى.

وأما النقل فما ذكره السلف من أن البدعة إذا أحدثت لا تزيد إلا مضيًّا،

وليست كذلك المعاصي، فقد يتوب صاحبها وينيب إلى الله؛ بل قد جاء ما يشد ذلك

في حديث الفرق، حيث جاء في بعض الروايات: (تتجارى بهم تلك الأهواء كما

يتجارى الكَلَب بصاحبه) ومن هنا جزم السلف بأن المبتدع لا توبة له منها -

حسبما تقدم.

(والشرط الثاني) أن لا يدعو إليها، فإن البدعة قد تكون صغيرة بالإضافة،

ثم يدعو مبتدعها إلى القول بها والعمل على مقتضاها فيكون إثم ذلك كله عليه،

فإنه الذي أثارها، وسبب كثرة وقوعها والعمل بها، فإن الحديث الصحيح قد أثبت

أن كل من سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها لا ينقص ذلك من

أوزارهم شيئًا؛ والصغيرة مع الكبيرة إنما تفاوتها بحسب كثرة الإثم وقلته، فربما

تساوي الصغيرة من هذا الوجه الكبيرة أو تربي عليها.

فمن حق المبتدع إذا ابتلي بالبدعة أن يقتصر على نفسه، ولا يحمل مع وزره

وزر غيره، وفي هذا الوجه قد يتعذر الخروج، فإن المعصية فيما بين العبد وربه

يرجو فيها من التوبة والغفران وما يتعذر عليه مع الدعاء إليها، وقد مر في باب ذم

البدع. وباقي الكلام في المسألة سيأتي إن شاء الله.

(والشرط الثالث) : أن لا تفعل في المواضع التي هي مجتمعات الناس، أو

المواضع التي تقام فيها السنن، وتظهر فيها أعلام الشريعة. فأما إظهارها في

المجتمعات ممن يقتدى به أو ممن به [3] الظن فذلك من أضر الأشياء على سنة

الإسلام، فإنها لا تعدو أمرين: إما أن يقتدى بصاحبها فيها، فإن العوام أتباع كل

ناعق، لاسيّما البدع التي وكل الشيطان بتحسينها للناس، والتي للنفوس في

تحسينها هوى، وإذا اقتدي بصاحب البدعة الصغيرة كبرت بالنسبة إليه؛ لأن كل

من دعا إلى ضلالة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها، فعلى حسب كثرة الأتباع

يعظم عليه الوزر.

وهذا بعينه موجود في صغائر المعاصي، فإن العالم مثلاً إذا أظهر المعصية -

وإن صغرت - سهل على الناس ارتكابها، فإن الجاهل يقول: لو كان هذا الفعل كما

قال من أنه ذنب لم يرتكبه، وإنما ارتكبه لأمر علمه دوننا. فكذلك البدعة إذا

أظهرها العالم المقتدى فيها لا محالة، فإنها في مظنة التقرب في ظن الجاهل؛ لأن

العالم يفعلها على ذلك الوجه؛ بل البدعة أشد في هذا المعنى، إذ الذنب قد لا يتبع

عليه، بخلاف البدعة فلا يتحاشى أحد عن أتباعه إلا من كان عالمًا بأنها بدعة

مذمومة، فحينئذٍ يصير في درجة الذنب، فإذا كانت كذلك صارت كبيرة بلا شك،

فإن كان داعيًا إليها فهو أشد، وإن كان الإظهار باعثًا على اتباع، فبالدعاء يصير

أدعى إليه.

وقد روي عن الحسن أن رجلاً من بني إسرائيل ابتدع بدعة فدعا الناس إليها

فاتُّبع، وأنه لما عرف ذنبه عمد إلى ترقوته فنقبها فأدخل فيها حلقة ثم جعل فيها

سلسلة ثم أوثقها في شجرة فجعل يبكي ويعج إلى ربه، فأوحى الله إلى نبي تلك

الأمة أن لا توبة له قد غفر له الذي أصاب. فكيف بمن ضل فصار من أهل النار؟

وأما اتخاذها في المواضع التي تقام فيها السنن فهو كالدعاء إليها بالتصريح؛

لأن عمل إظهار الشرائع الإسلامية [4] توهم أن كل ما أظهر فيها فهو من الشعائر،

فكأن المظهر لها يقول: هذه سنة فاتبعوها.

قال أبو مصعب: قدم علينا ابن مهدي فصلى ووضع رداءه بين يدي الصف،

فلما سلم الإمام رمقه الناس بأبصارهم ورمقوا مالكًا - وكان قد صلّى خلف الإمام -

فلما سلم قال: من هاهنا من الحرس؟ فجاءه نفسان. فقال: خذا صاحب هذا

الثوب فاحبساه. فحبس، فقيل له: إنه ابن مهدي، فوجه إليه وقال له: ما خفت

الله واتقيته أن وضعت ثوبك بين يديك في الصف، وشغلت المصلين بالنظر إليه،

وأحدثت في مسجدنا شيئًا ما كنا نعرفه؟ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من

أحدث في مسجدنا حدثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) فبكى ابن مهدي

وآلى على نفسه أن لا يفعل ذلك أبدًا في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ولا في

غيره. وفي رواية عن ابن مهدي قال: فقلت للحرسيين: تذهبان بي إلى أبي

عبد الله؟ قالا: إن شئت؛ فذهبنا إليه. فقال: يا عبد الرحمن تصلي مستلبًا؟ فقلت

يا أبا عبد الله إنه كان يومًا حارًّا - كما رأيت - فثقل ردائي عليَّ. فقال: الله ما

أردت بذلك الطعن على من مضى والخلاف عليه، قلت: الله [5] . قال:

خلياه.

وحكى ابن وضاح قال: ثوَّب المؤذن بالمدينة في زمان مالك، فأرسل إليه مالك

فجاءه، فقال له مالك: ما هذا الذي تفعل؟ فقال: أردت أن يعرف الناس طلوع

الفجر فيقوموا. فقال له مالك: لا تفعل، لا تحدث في بلدنا شيئًا لم يكن فيه، قد

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا البلد عشر سنين وأبو بكر وعمر

وعثمان فلم يفعلوا هذا، فلا تحدث في بلدنا ما لم يكن فيه؛ فكف المؤذن عن ذلك

وأقام زمانًا، ثم إنه تنحنح في المنارة عند طلوع الفجر، فأرسل إليه مالك فقال له:

ما الذي تفعل؟ قال: أردت أن يعرف الناس طلوع الفجر. فقال له: ألم أنهك أن

لا تحدث عندنا ما لم يكن؟ فقال: إنما نهيتني عن التثويب. فقال له لا تفعل،

فكفَّ زمانًا. ثم جعل يضرب الأبواب، فأرسل إليه مالك فقال: ما هذا الذي تفعل؟

فقال: أردت أن يعرف الناس طلوع الفجر. فقال له مالك: لا تفعل، لا تحدث

في بلدنا ما لم يكن فيه.

قال ابن وضَّاح: وكان مالك يكره التثويب - قال - وإنما أحدث هذا بالعراق.

قيل لابن وضّاح: فهل كان يعمل به بمكة أو المدينة أو مصر أو غيرها من

الأمصار؟ فقال: ما سمعت إلا عند بعض الكوفيين والأباضيين.

فتأمل كيف منع مالك من إحداث أمر يخف شأنه عند الناظر فيه ببادي الرأي

وجعله أمرًا محدثًا، وقد قال في التثويب: إنه ضلال. وهو بين؛ لأن كل محدثة

بدعة وكل بدعة ضلالة، ولم يسامح للمؤذن في التنحنح ولا في ضرب الأبواب؛

لأن ذلك جدير بأن يتخذ سنة، كما منع من وضع رداء عبد الرحمن بن مهدي

خوف أن يكون حدثًا أحدثه.

وقد أحدث بالمغرب المتسمي بالمهدي تثويبًا عند طلوع الفجر؛ وهو قولهم:

(أصبح ولله الحمد) إشعارًا بأن الفجر قد طلع، لإلزام الطاعة، ولحضور الجماعة،

وللغدو لكل ما يؤمرون به فيخصه هؤلاء المتأخرون تثويبًا بالصلاة كالأذان. ونقل

أيضًا إلى أهل المغرب الحزب المحدث بالإسكندرية، وهو المعتاد في جوامع

الأندلس وغيرها، فصار ذلك كله سنة في المساجد إلى الآن، فإنا لله وإنا إليه

راجعون.

وقد فسّر التثويب الذي أشار إليه مالك بأن المؤذن كان إذا أذن فأبطأ الناس

قال بين الأذان والإقامة: قد قامت الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح.

وهذا نظير قولهم عندنا: الصلاة - رحمكم الله.

وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه دخل مسجدًا أراد أن يصلي فيه،

فثوب المؤذن، فخرج عبد الله بن عمر من المسجد، وقال: اخرج بنا [6] من عند

هذا المبتدع. ولم يصل فيه. قال ابن رشد: وهذا نحو مما كان يفعل عندنا بجامع

قرطبة من أن يفرد المؤذن بعد أذانه قبل الفجر النداء عند الفجر بقوله: حي على

الصلاة. ثم ترك - قال - وقيل: إنما عنى بذلك قول المؤذن في أذانه: حي على

خير العمل. لأنها كلمة زادها في الأذان من خالف السنة من الشيعة. ووقع في

المجموعة أن من سمع التثويب وهو في المسجد خرج عنه كفعل ابن عمر رضي

الله عنهما.

وفي المسألة كلام المقصود منه التثويب المكروه الذي قال فيه مالك: إنه

ضلال. والكلام يدل على التشديد في الأمور المحدثة أن تكون في مواضع الجماعة أو

في المواطن التي تقام فيها السنن، والمحافظة على المشروعات أشد المحافظة؛ لأنها

إذا أقيمت هنالك أخذها الناس وعملوا بها، فكان وزر ذلك عائدًا على الفاعل أولاً،

فيكثر وزره ويعظم خطر بدعته.

(والشرط الرابع) : أن لا يستصغرها ولا يستحقرها - وإن فرضناها

صغيرة - فإن ذلك استهانة بها، والاستهانة بالذنب أعظم من الذنب: فكان ذلك سببًا

لعظم ما هو صغير. وذلك أن الذنب له نظران:

(نظر) من جهة رتبته في الشرط، ونظر من جهة مخالفة الرب العظيم به.

فأما النظر الأول فمن ذلك الوجه يعد صغيرًا إذا فهمنا من الشرع أنه صغير؛ لأنّا

نضعه حيث وضعه الشرع؛ وأما الآخر فهو راجع إلى اعتقادنا في العمل به بحيث

نستحرم جهة الرب سبحانه بالمخالفة، والذي كان يجب في حقنا أن نستعظم ذلك

جدًّا؛ إذ لا فرق في التحقيق بين المواجهتين - المواجهة بالكبيرة والمواجهة

بالصغيرة.

والمعصية من حيث هي معصية لا يفارقها النظران في الواقع أصلاً؛ لأن

تصورها موقوف عليهما، فالاستعظام لوقوعها مع كونها يعتقد فيها أنها صغيرة لا

يتنافيان؛ لأنهما اعتباران من جهتين: فالعاصي وإن تعمد المعصية لم يقصد بتعمده

الاستهانة بالجانب العلي الرباني؛ وإنما قصد اتباع شهوته مثلاً فيما جعله الشارع

صغيرًا أو كبيرًا، فيقع الإثم على حسبه، كما أن البدعة لم يقصد بها صاحبها

منازعة الشارع ولا التهاون بالشرع، وإنما قصد الجري على مقتضاه، لكن بتأويل

زاده ورجحه على غيره، بخلاف ما إذا تهاون بصغرها في الشرع، فإنه إنما

تهاون بمخالفة الملك الحق؛ لأن النهي حاصل ومخالفته حاصلة، والتهاون بها

عظيم، ولذلك يقال: لا تنظر إلى صغر الخطيئة وانظر إلى عظمة من واجهته بها.

وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع: (أي

يوم هذا؟ قالوا: يوم الحج الأكبر. قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم

حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا، لا يجني جان إلا على نفسه، ألا لا يجني

جان على ولده ولا مولود على والده، ألا وإن الشيطان قد يئس ألا يعبد في بلدكم

هذا أبدًا، ولا تكون له طاعة فيما يحتقرون من أعمالكم فسيرضى به) [7] فقوله

عليه السلام (فسيرضى به) دليل على عظم الخطب فيما يستحقر.

وهذا الشرط مما اعتبره الغزالي في هذا المقام، فإنه ذكر في الإحياء أن مما

تعظم به الصغيرة أن يستصغرها - قال - فإن الذنب كلما استعظمه العبد من نفسه

صغر عند الله، وكلما استصغره كبر عند الله. ثم بين ذلك وبسطه.

فإذا تحصلت هذه الشروط، فإذ ذاك يرجى أن تكون صغيرتها صغيرة، فإن

تخلف بشرط منها أو أكثر صارت كبيرة، أو خيف أن تصير كبيرة، كما أن

المعاصي كذلك، والله أعلم.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) تابع لما نقل من كتاب الاعتصام للإمام الشاطبي.

(1)

ما كل لازم للمذهب ينكره صاحبه لو عرض عليه؛ ولذلك جعل بعضهم الإنكار شرطًا لكون لازم المذهب ليس بمذهب وهذا التفصيل هو التحقيق.

(2)

لعله يتبين.

(3)

لعل الأصل (بمن يحسن به الظن) .

(4)

هذا قسم حذفت أداته، لقنه القسم فحلف على ما لقنه فكأنه قال له: قل والله ما أردت بهذا الطعن، إلخ، فقال: والله، أي ما أردت ذلك.

(5)

كذا ولعل فيها تحريفًا وسقطًا، والمراد ظاهر من القرينة.

(6)

يظهر أنه كان معه صاحب قال له ذلك، وهل كان في كلام المصنف تصريح بذلك سقط من الناسخين أم لا؟ الله أعلم.

(7)

كذا في نسخة الكتاب ولا أذكر لأحد روايته بهذا اللفظ، وفي حديث عمر بن الأحوص عند أصحاب السنن ما عدا أبا داود:(ألا إن الشيطان قد أيس أن يعبد في بلدكم هذا أبدًا، ولكن سيكون له طاعة في بعض ما تحقرون من أعمالكم فيرضى بها) .

ص: 593

الكاتب: أحمد بن أحمد بن عمر أقيت

‌ترجمة الإمام الشاطبي

من كتاب نيل الابتهاج بتطريز الديباج [1]

هو إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي أبو إسحاق الشهير

بالشاطبي، الإمام العلامة، المحقق القدوة، الحافظ الجليل المجتهد، كان أصوليًا

مفسرًا، فقيهًا محدثًا، لغويًّا بيانيًّا، نظارًا ثَبْتًا، وَرِعًا صالحًا، زاهدًا سُنّيًّا، إمامًا

مطلقًا، بحّاثًا مدققًِّا، جدليًّا بارعًا في العلوم، من أفراد العلماء المحققين الأثبات،

وأكابر الأئمة المتفننين الثقات، له القَدَمُ الرّاسخ والإمامة العظمى في الفنون - فقهًا

وأصولاً، وتفسيرًا وحديثًا، وعربية وغيرها - مع التحرّي والتحقيق، له

استنباطات جليلة، ودقائق منيفة، وفوائد لطيفة، وأبحاث شريفة، وقواعد محررة

محققة، على قدم راسخ من الصلاح والعفة والتحري والورع، حريصًا على اتباع

السنة، مجانبًا للبدع والشبهة، ساعيًا في ذلك مع تثبت تام، منحرفًا عن كل ما

ينحو للبدع وأهلها، وقع له في ذلك أمور مع جماعة من شيوخه وغيرهم في مسائل.

وله تآليف جليلة، مشتملة على أبحاث نفيسة، وانتقادات وتحقيقات شريفة.

قال الإمام الحفيد ابن مرزوق في حقه: إنه الشيخ الأستاذ الفقيه الإمام المحقق

العلامة الصالح أبو إسحاق انتهى. وناهيك بهذه التحلية من مثل هذا الإمام،

وإنما يعرف الفضل لأهله أهله.

أخذ العربية وغيرها عن أئمة، منهم الإمام المفتوح عليه في فنها ما لا مطمع

فيه لسواه، بحثًا، وحفظًا، وتوجيهًا، وابن الفخار الألبيري؛ لازمه إلى أن مات،

والإمام الشريف رئيس العلوم اللسانية، أبو القاسم السبتي، شارح مقصورة حازم،

والإمام المحقق أعلم أهل وقته الشريف أبو عبد الله التلمساني، والإمام علامة

وقته بإجماع أبو عبد الله المقري، وقطب الدائرة، شيخ الجلة، الأمير الشهير،

أبو سعيد ابن لبّ، والإمام الجليل، الرحلة الخطيب، ابن مرزوق الجد، والعلامة

المحقق المدرس الأصولي أبو علي منصور بن محمد الزواوي، والعلامة المفسر

المؤلف أبو عبد الله البلنسي، والحاج العلامة الرحلة الخطيب أبو جعفر الشقوري.

وممن اجتمع معه، واستفاد منه، العالم الحافظ الفقيه أبو العباس القبَّاب، والمفتي

المحدث أبو عبد الله الحفار، وغيرهم.

اجتهد وبرع، وفاق الأكابر، والتحق بكبار الأئمة في العلوم، وبالغ في

التحقيق، وتكلم مع كثير من الأئمة في مشكلات المسائل من شيوخه وغيرهم،

كالقبَّاب، وقاضي الجماعة الفشتالي، والإمام ابن عرفة، والولي الكبير أبى عبد

الله بن عباد. وجرى له معهم أبحاث ومراجعات، أجلت عن ظهوره فيها، وقوة

عارضته وإمامته، منها مسألة مراعاة الخلاف في المذهب [2] فيها له بحث عظيم،

مع الإمامين القبَّاب وابن عرفة. وله أبحاث جليلة في التصوف وغيره. وبالجملة

فقدره في العلوم فوق ما يذكر، وتحليته في التحقيق فوق ما يشهر.

ألّف تواليف نفيسة، اشتملت على تحريرات للقواعد، وتحقيقات لمهمات

الفوائد. منها شرحه الجليل على الخلاصة في النحو، في أسفار أربعة كبار، لم

يؤلف عليها مثله بحثًا وتحقيقًا فيما أعلم. وكتاب (الموافقات) في أصول الفقه

سماه: (عنوان التعريف بأصول التكاليف) كتاب جليل القدر جدًّا لا نظير له،

يدل على إمامته، وبعد شأوه في العلوم، سيّما علم الأصول، قال الإمام الحفيد بن

مرزوق: كتاب الموافقات المذكور، من أنبل الكتب، وهو في سفرين. وتأليف

كبير نفيس في الحوادث والبدع في سفر في غاية الإجادة، سماه (الاعتصام)

وكتاب (المجالس) شرح فيه كتاب البيوع من صحيح البخاري. فيه من الفوائد

والتحقيقات، ما لا يعلمه إلا الله. وكتاب (الإفادات والإنشادات) في كراسين، فيه

طرف وتحف، وملح أدبيات وإنشادات. وله أيضًا كتاب (عنوان الاتفاق، في علم

الاشتقاق) ، وكتاب (أصول النحو) ، وقد ذكرهما معًا في شرح الألفية. ورأيت

في موضع آخر أنه أتلف الأول في حياته وأن الثاني أتلف أيضًا. وله غيرها،

وفتاوى كثيرة.

ومن شعره لما ابتلي بالبدع:

بليت يا قوم والبلوى منوّعة

بمن أداريه حتى كاد يرديني

دفع المضرة لا جلبًا لمصلحة

فحسبي الله في عقلي وفي ديني

أنشدهما تلميذه الإمام أبو يحيى ابن عاصم له مشافهة.

أخذ عنه جماعة من الأئمة كالإمامين العلامتين، أبي يحيى بن عاصم الشهير،

وأخيه القاضي المؤلف أبي بكر بن عاصم، والشيخ أبي عبد الله البياني،

وغيرهم. وتوفي يوم الثلاثاء ثامن شعبان سنة تسعين وسبعمائة ولم أقف على

مولده رحمه الله.

(فائدة) وكان صاحب الترجمة ممن يرى جواز ضرب الخراج على الناس

عند ضعفهم وحاجتهم؛ لضعف بيت المال عن القيام بمصالح الناس، كما وقع

للشيخ المالقي في كتاب الورع. قال: توظيف الخراج على المسلمين من المصالح

المرسلة، ولا شك عندنا في جوازه، وظهور مصلحته في بلاد الأندلس في زماننا

الآن. لكثرة الحاجة لما يأخذه العدو من المسلمين، سوى ما يحتاج إليه الناس،

وضعف بيت المال الآن عنه، فهذا يقطع بجوازه الآن في الأندلس، وإنما النظر

في القدر المحتاج إليه من ذلك، وذلك موكول إلى الإمام، ثم قال أثناء كلامه:

ولعلك تقول كما قال القائل لمن أجاز شرب العصير بعد كثرة طبخه وصار رُبًّا:

أحللتها والله يا عمر. يعني هذا القائل أحللت الخمر بالاستجرار إلى نقص الطبخ،

حتى تحل الخمر بمقالك، فإني أقول - كما قال عمر رضي الله عنه: والله لا أحل

شيئًا حرّمه الله، ولا أحرّم شيئًا أحلّه، وأن الحق أحق أن يتبع، (ومن يتعد حدود

الله فقد ظلم نفسه) .

وكان خراج بناء السور في بعض مواضع الأندلس في زمانه موظفًا على أهل

الموضع، فسئل عنه إمام الوقت في الفُتْيَا بالأندلس الأستاذ الشهير أبو سعيد ابن لب،

فأفتى أنه لا يجوز ولا يسوغ، وأفتى صاحب الترجمة بسوغه، مستندًا فيه إلى

المصلحة المرسلة، معتمدًا في ذلك إلى قيام المصلحة التي إن لم يقم بها الناس

فيعطونها من عندهم ضاعت. وقد تكلم على المسألة الإمام الغزالي في كتابه،

فاستوفى. ووقع لابن الفراء في ذلك مع سلطان وقته وفقهائه كلام مشهور، لا نطيل

فيه.

وكتب جوابًا لبعض أصحابه في دفع الوسواس العارض في الطهارة وغيرها:

(وصلني جوابكم فيما تدفعون به الوسواس، فهذا أمر عظيم في نفسه، وأنفع شيء

فيه المشافهة، وأقرب ما أجد الآن، أن تنظروا من إخوانكم من تدلون عليه

وترضون دينه، ويعمل بصلب الفقه، ولا يكون فيه وسوسة، فتجعلونه إمامكم

على شرط أن لا تخالفوه، وإن اعتقدتم أن الفقه عندكم بخلافه، فإذا فعلتموه رجوت

لكم النفع، وأن تواظبوا على قول: (اللهم اجعل لي نفسًا مطمئنة توقن بلقائك،

وتقتنع بعطائك، وترضى بقضائك، وتخشاك حق خشيتك، ولا حول ولا قوة إلا

بالله العلي العظيم) فإنه نافع للوسواس، كما رأيته في بعض المنقولات.

وكان يقول: لا يحصل الوثوق والتحقيق بشأن الرواية في الأكيال المنقولة

بالأسانيد، واختبرت ذلك فوجدت الأكيال مختلفة، متباينة الاختلاف، وهي ذوات

روايات، فالكيل الشرعي تقريبًا منقول عن شيوخ المذهب، يدركه كل أحد، حفنة

من البر أو غيره بكلتا اليدين مجتمعين، من ذوي يدين متوسطتين بين الصغرى

والكبرى، فالصاع منها أربع حفنات، جربته فوجدته صحيحًا. فهذا الذي ينبغي أن

يعوّل عليه؛ لأنه مبني على أصل التقريب الشرعي، والتدقيقات في الأمور غير

مطلوبة شرعًا؛ لأنها تنطُّع وتكلُّف، فهذا ما عندي.

ومن كلامه: أما من تعسف وطلب المحتملات، والغلبة بالمشكلات،

وأعرض عن الواضحات، فيخاف عليه التشبه بمن ذمه الله في قوله: {َأَمَّا الَّذِينَ

فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} (آل عمران: 7) .

وكان لا يأخذ الفقه إلا من كتب الأقدمين، ولا يرى لأحد أن ينظر في هذه

الكتب المتأخرة، كما قرره في مقدمة كتابه الموافقات، وترد عليه الكتب في ذلك

من بعض أصحابه، فيوقع له: وأما ما ذكرتم من عدم اعتمادي على التآليف

المتأخرة، فليس ذلك مني محض رأي، ولكن اعتمدته بحسب الخبرة عند النظر في

كتب المتقدمين مع المتأخرين كابن بشير، وابن شاس، وابن الحاجب، ومن

بعدهم، ولأن بعض من لقيته من العلماء بالفقه، أوصاني التحامي عن كتب

المتأخرين، وأتى بعبارة خشنة ولكنها محض النصيحة، والتساهل في النقل عن

كل كتاب جاء لا يحتمله دين الله. ومثله ما إذا عمل الناس بقول ضعيف، ونقل

عن بعض الأصحاب، لا تجوز مخالفته، وذلك مشعر بالتساهل جدًّا، ونص ذلك

القول لا يوجد لأحد من العلماء فيما أعلم.

والعبارة الخشنة التي أشار إليها، كان ينقلها عن صاحبه أبي العباس القبَّاب

أنه كان يقول في ابن بشير وابن شاس: أفسدوا الفقه. وكان يقول: شأني عدم

الاعتماد على التقاييد المتأخرة. إما للجهل بمؤلفيها أو لتأخر أزمنتهم جدًّا، فلذلك

لا أعرف كثيرًا منها ولا أقتنيته، وعمدتي كتب الأقدمين المشاهير.

ولنقتصر على هذا القدر من بعض فوائده.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

تأليف أحمد بن أحمد بن عمر أقيت المعروف ببابا التكروري ثم التنبكي المولود سنة 963 والمتوفى سنة 1032.

(2)

أشار إلى هذه المسألة في المقدمة الثالثة عشرة من كتاب الموافقة.

ص: 611

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الجنسيات في المملكة العثمانية

(2)

بيَّنَّا في المقالة الأولى من هذا البحث أن الحكومة العثمانية الاتحادية تركت في

طورها الأخير عقاب من يلهج بالعرب والعربية من أصحاب الجرائد العربية

وغيرهم، وأن العرب لم يغلوا في إحياء الجنسية العربية كما غلت الجمعيات

والجرائد التركية، التي جاهرت بالدعوة إلى كل شيء في الدولة تركيا، بالقول

والفعل، وهجر اسم (العثمانية) ولم نسمع لأحد من كتاب الترك صوتًا في إنكار

هذا الغلو والانتصار للجامعتين الإسلامية والعثمانية على التركية إلا لعلي بك كمال،

فقد كتب في جريدة (بيام) ردًّا على أولئك الغلاة بيّن فيه أن الحياة التركية، لا

تقوم إلا بالجامعة العثمانية السياسية، وأن المجاهرة بحصر كل شيء في الترك

والتركية يبعث العرب والكرد وغيرهم من العناصر العثمانية إلى مثل هذه الدعوة

فلا يبقى للترك شيء. واشتدت المناظرة بينه وبين (أقجورا) وغيره من غلاة

الجنسية التركية حتى انتهت إلى السباب والشتم.

وكان مما كتبه (أقجورا) في (تورك يوردي) بالآستانة في أوائل ربيع

الآخر من هذا العام ما ترجمته بالاختصار والإجمال:

يجب أن نعمد إلى الحقائق فنقررها. ما العثمانية؟ ولماذا لا نقول التركية؟

أليست العثمانية نسبة إلى عثمان التركي؟ إن الحقيقة تغلب الخيال، ومن المحال

العقلي أن تظل هذه العناصر المتباينة مرتبطًا بعضها ببعض وراء ستار وهمي،

وتحت اسم خَلِق بالٍ.

يجب علينا ما دام في استطاعتنا الحياة أن نعمد إلى الجيش والأسطول والعلوم

والآداب والشرائع والقوانين وكل شيء فنصبغه بالصبغة التركية المحضة: (ليت

شعري هل تدخل الشريعة الإسلامية في هذه الشرائع التي عناها أم هم في غنى

عنها؛ لأن الله تعالى يقول: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِياًّ} (الرعد: 37) ؟) .

يجب أن نعلم أنَّا من أمة ظهر فيها قواد أعظم من نابليون. وعظماء أشهر من

يوليوس قيصر، وشعراء أكبر من هيغو. وأن في استطاعتنا أن نفعل ما يفعله

الجرمان أو السكسونيون لحياة قومهم، فلا ينبغي أن نظل مقيدين بالأوهام

والخرافات الماضية.

وقد انهزم علي كمال بك أمام حملات الغلاة واضطر إلى مجاراتهم. وإننا

لنرى أشد كتّاب العرب لهجًا بالعربية لا يعدون غلاة بالنسبة إلى الكتاب المعتدلين

من الترك؛ بل يعدون مقصرين، وإن جماعة حزب اللامركزية لم يجعلوا مسألة

الجنسية العربية من موضوع حزبهم؛ إلا إذا كانت المحافظة على اللغة العربية بين

أهلها يعد دعوة إلى الجنسية العربية، ولهذا أنكرنا على ذلك الكاتب العربي رميهم

بالعصبة الجنسية التي ذمها ذمًّا إسلاميًّا، وجعلها هادمة للإسلام كأن الإسلام الذي

دخل فيه يموت بحياة لغته العربية، ويحيا باللغة التركية.

استدللنا بتخصيص الحزب بهذا الذم وبسكوته عن غلاة العصبية التركية،

على أنه لم يكتب ما كتب إلا تزلفًا ونفاقًا، وجعل اسم الدين الإسلامي شبكة لصيد

المال والجاه. ولو أنكر على أولئك الغلاة والمعتدلين في العصبية الجنسية، واتبع

هواه بإضافة اللامركزيين إليهم، وإشراكه معهم، لما اعتقدنا فيه كل هذا الاعتقاد.

سلكت الجماعات العربية كلها مسلك الاعتدال فيما تطلبه لأمتها من الدولة

وفيما تنصح به للأمة، إلا ما عرض لجماعة البصرة، فقد كان في بعض كلامها

شيء من الشدة، ثم كان زعيمها السيد طالب بك النقيب ساعد الحكومة وعضدها في

عقد الوفاق بينها وبين الأمير عبد العزيز بن سعود أمير نجد، وفي غير ذلك مما

عهدته إليه من خدمتها في تلك البلاد، وقد تبرع هو ووجهاء البصرة للأسطول

وغير الأسطول بمبالغ قلّما رأت مثلها الدولة من بلد آخر. على أنها لم تجبهم إلى

شيء مما طلبوه من الإصلاح. فكان ذلك دليلاً على أن أشد العرب في ولايات

الدولة شكيمة، وأقواهم عصبية، لا يني ولا يقصر في خدمتها، إذا هي أظهرت

الثقة به، وعهدت إليه بعمل يعمله.

***

الجنسية اللبنانية

نعم إن بعض الجرائد والجمعيات اللبنانية قد غلت في الدعوة إلى الانسلاخ من

كل صفة عثمانية، والاستقلال بجنسية لبنانية لا عربية. فلبنان يتمتع باستقلال

داخلي لا يشاركه في مثله جبل من الجبال، ولا سهل من السهول، ولا ولاية ولا

مملكة في الأرض، حتى قال الدكتور يعقوب صروف - وهو من يفتخر لبنان

بمكانه في العلم والفلسفة ومعرفة شؤون العالم -: إن كل تغيير يطرأ على نظام

لبنان يكون شرًّا؛ إذ لا خير مما هو عليه. ولكن كثيرًا من اللبنانيين لا ينظرون

إلى هذه النعمة بالعين التي ينظر بها هذا العالم الخبير، فترى صراخ شكواهم قد

ملأ فضاء أمريكا الشمالية والجنوبية ومصر، ونقلت الجرائد صداه إلى كل قطر

يوجد فيه لبنانيون أو سوريون. فمنهم من يدعو إلى الاستقلال التام، ومنهم من

يدعو إلى احتلال فرنسا للبلاد. ولهم عدة جمعيات سياسية يشترك فيها ألوف منهم

في الوطن وفي ديار الهجرة من مصر إلى أوربة وأمريكا وغيرها من الممالك.

وقد قرأنا كثيرًا من مقالاتهم وقصائدهم وأناشيدهم الاستقلالية فرأيناهم يفخرون

فيها بعراقة هذا الجبل في الاستقلال، وامتناعه على الفاتحين من جميع الأمم

والأجيال، أي فهم لا يطلبون الآن، إلا الاستقلال الذي كانوا متمتعين به في كل

زمان. وقد جددوا لأنفسهم علمًا وطوابع بريد، ومنهم من يختار الاستقلال تحت

حماية فرنسة والاستظلال بعلمها. وقد عرف أهل الخافقين ما كان من مبالغة أهل

الجبل في الحفاوة بضباط الأسطول الفرنسي والمظاهرات الولائية لهم عندما زاروا

بطرك الموارنة وبعض البلاد منذ أشهر؛ إذ كان الأسطول في مياه بيروت. ويلي

ذلك ما كان لمسيو جورج بيكو قنصل فرنسة عندما زار لبنان مصاحبًا لمسيو

مورسي بارس أحد أعضاء مجلس النواب الفرنسي. وهذا النوع من الاحتفالات

والمظاهرات قد تكرر، وتكررت الوعود من فرنسة بإنالة الجبل ما يريد.

لسنا نريد الاستقصاء التاريخي في هذا المسائل فنفصل القول فيه، ولا

الانتقاد على الغلو والشذوذ الذي كان يتخلل ذلك مما لا يعهد له نظير للأجانب في

مملكة من الممالك، فنتتبع من ذلك ما قيل وما كتب، وما انتقده بعض المسلمين في

جرائد بيروت على ذلك وما رد به اللبنانيون على هؤلاء. وإنما نريد أن نبين

بالإجمال أن اللبنانيين منهم المعتدلون فيما ينقمون من الدولة وما يطلبون لبلادهم،

ومنهم الغلاة. وأن ذلك الكاتب العربي المدافع عن الجامعة العثمانية أو الجامعة

الإسلامية، المعادي للجنسية العربية والموضعية (كاللبنانية) لم يكتب كلمة في

انتقاد هؤلاء الغلاة من أبناء وطنه، وأين منهم مؤسسو حزب اللامركزية، الذين لم

يدخلوا حزبهم في باب مباحث المسألة الجنسية.

وإننا نثبت ما قلناه عن اللبنانيين أولاً بنشر ما جاء في جريدة الهدى التي

تصدر في نيويورك من مطالب جمعية النهضة اللبنانية التي يرأسها مدير تلك

الجريدة، وهذا نصه:

من مبادئ النهضة اللبنانية ومنازعها

(لكل امرئ من دهره ما تعودا) ، وما تعودناه أن نصون الوعد فلا نخلفه،

والعهد فلا نخفره، وإن نكث الناكثون، وعبث العابثون، مستأثرين بأيام، نرجو

أن تنقضي على سلام، فلا يلؤم فيها أحد، بما يجيئه من الفيش والفند.

أرسلنا في (الأغراض من سياحتنا) كلمة، ونرسل الآن في بعض مبادئ

النهضة اللبنانية أخرى؛ نحن دون أحد من الناس المسئولون عنها.

كنا في رحلتنا نبشر بهذه المبادئ بلساننا، ونحن الآن نبشر بها بقلمنا، إلى

أن تعود الخطابة، فتنوب عن الكتابة.

اللبنانيون مظلومون وظالمون - مظلومون لأن السلطة ضعيفة ضاغطة

وجائرة، وظالمون لأنهم وهم تحت الضغط والجور يتنابذون ويتطاحنون مؤثرين

الخصوصيات على العموميات. فيجب على خدمتهم - ونحن منهم - التجرد في

النصح لهم، والدعوة إلى ما فيه صلاحهم ونجاحهم، ووضع مبادئ يقوم عليها

حزبهم السياسي الأكبر المدعو (النهضة اللبنانية) .

قد يقوم من اللبنانيين أنفسهم من يناكر ويصادر، ويشاكس ويعاكس، ولكن

لبنانية المناوئين هؤلاء غير صحيحة، لقيامها على التعصب والتحزب والنكاية

والغواية. والحق ظافر، والإخلاص ظاهر.

فمن مبادئ النهضة اللبنانية:

1-

جمع اللبنانيين بدين الوطنية الشامل الكامل الفاضل (وتمزيق الأناجيل

الطائفية ليسلم إنجيل المسيح) وما يقال عن الإنجيل يقال عن القرآن والتلمود وكل

كتاب مقدّس عند أهله. إلا أن ذلك لا يعني الكفر ولا التعطيل، فليعبد الناس إلههم

في كنيستهم وكنيسهم وجامعهم وخلوتهم وتحت أفياء الشجر وظلال الصخور إذا

شاؤوا وإنما فليجتمعوا (؟) بدين الوطنية الواحد وهم المفلحون.

2-

استقلال المهاجرين (بنهضتهم اللبنانية) ما زال الإصلاح لا يتم إلا عن

طريق المهاجرة وعلى همم المهاجرين. إلا أن هذا الاستقلال لا يعني الانفصال؛

بل توحيد قوة المهاجرين ما بين القطبين وجعلهم قوة واحدة تسعى للإصلاح سعيًا

مجردًا صادقًا، إلى أن ينفلت المتخلفون من قيود الوظائف، ويكشفوا عنهم غيوم

السفاسف التي لا يزال حتى في المهجر أثر مجلوب (؟)

3-

طلب أمير أجنبي من دول أوربا الست الضامنة استقلال لبنان تكون

غايته غايتنا ومصلحته مصلحتنا، ولغتنا لغته ولغة أولاده، فلا يكون دخيلاً لا

يشعر بشعورنا، ولا يهمه - وهو المرجع الأكبر في الجبل - أن يتعلم لغة الناس

فيه ليكون حكمه معقولاً وقضاؤه مقبولاً - أمير أجنبي يكون لنا ما كان مثله لرومانيا

وبلغاريا واليونان وألبانيا ولا تعود تهمه (المدة) تنقضي وينقضي الاهتمام بعد

الابتداء بها بأيام - الشعب الخامل الغافل يرضى بحاكمه وقاضيه دخيلاً أعجميًّا لا

يشعر معه ولا يفهم لغته ليقضي بالعدل، ولا يهمه إلا تناول المرتب وربما

الرشوة (؟) مباشرة وبواسطة، وتفريق الناس لاتخاذ الأحزاب منهم. وقد يكون

وضيعًا قبل أن يصير حاكمًا بلقب كبير ومرتب كبير وتغطرس كبير وعمل

صغير.

4-

إرجاع لواء لبنان إليه فإن لكل شعب على شيء من الاستقلال راية أو

علمًا أو لواء إلا لبنان الذي كان منذ بدء التاريخ على كثير من الاستقلال حتى وقوع

حوادثه الأخيرة التي زعم أنه نال بعدها حكمًا ذاتيًّا لا نرى له أثرًا.

5-

(تمديد لبنان بعد تقلصه) أي إعادة حدوده الأولى والطبيعية إليه ما بين

نهري القاسمية والعاصي. ومعنى ذلك أن تكون حدوده كما كانت على عهد أمرائه

الأصلاء من القاسمية إلى جبل الشيخ إلى لبنان الشرقي إلى حمص فالنهر الكبير

وهي حدود تتناول بيروت وطرابلس وصيدا والسهول المحيطة به - اللبنانيون لا

يطلبون التوسع بهذه المطالب؛ بل إعادة الحدود التي انتزعها المنتزعون إليهم.

6-

إعادة الجمارك والبريد والبرق إلى لبنان؛ لأن الدولة (ضمنتها من لبنان

ضمانًا) ولكنها لم تتقيد بشروط الضمان ولم تدفع إلى لبنان ما هو من حقوقه ولكل

صاحب ملك حق باستعادة ملكه الذي لا يدفع الضامن ضمانه أو المستأجر أجرته،

فضلاً عن أن اللبنانيين لم يطلبوا المرافئ لتكون بغير جمارك، ولا البريد ليظل

عمال الأتراك عابثين ومتلاعبين به وبأقدس أسراره وغير حافلين بغير سرقة

الحوالات المالية حتى من الكتب المضمونة وبمصادرة الصحافة الحرة لئلا يستفيق

الشعب من غفلته.

7-

جعل كل قدم تتكسر عليها أمواج البحر المتوسط من شواطىء لبنان مرفأ

له إذا شاء اللبنانيون عدم الاكتفاء بجونة النبي يونس.

8-

إطلاق حرية الفكر والخطابة والكتابة وإنشاء الجمعيات إذ لا يوجد في

نظام لبنان مما يحول دون ذلك (لولا انتصاب التماثيل الشمعية المحركة بزنابرك

(؟) المآرب والمفاسد في مجلس إدارة لبنان) إن مجلس إدارة لبنان هو المجلس

المشترع في الأصل ويجب أن يكون الأكفاء دون سواهم فيه لا أن يجاز القمار،

الذي هو على كل شعب متمدن عار، لمجرد أن أعضاء مجلس الإدارة مقمرون -

إن حرية الصحافة ضرورية للبنان إلا إذا رضي مجلس الإدارة بأن يكون خائنًا

متلاعبًا؛ خوفًا من الانتقاد وعملاً بالاستبداد، ولكن كم يطول هذا الوقت؟ - يجب أن

يكون لبنان في الشرق مثل سويسرا في أوربا، فهل تتحرك (التماثيل) لإبقاء آثار

وطنية لا آثار عار وأقذار! ! !

9-

إقامة مندوب في أوربا يمثل اللبنانيين ويطالب بحقوقهم ولا يكون له

اهتمام بغير مفاوضة الدول الضامنة استقلال لبنان ومفاوضة وزاراتها الخارجية بكل

ما يحتاج إليه الجبل.

10-

إقامة (رقيب) على الحكومة اللبنانية في نفس لبنان يناصر الأكفاء

المخلصين للوطن ويصادر الأدنياء الخونة فيه وينشئ الفروع للنهضة في كل

قضاء ومديرية وبلدة ويكون الحزب من ورائه يشد أزره وأزر كل مندوب أمين.

11-

ما زالت أكثرية المهاجرين من اللبنانيين فيجب (؟) أن يكون القناصل

في كل مهجر من المهاجر من اللبنانيين أو يستغنى عنهم وتفاوض قناصل الدول

الضامنة في أمر حماية اللبنانيين ومصالحهم.

12-

إنشاء مدارس عمومية في لبنان تعلم فيها لغة البلاد قبل سائر اللغات

وتنصرف فيها الهمم إلى تعليم الصناعة والتجارة والزراعة والتعدين وغير ذلك مما

يحتاج إليه اللبنانيون، ويجب أن يوضع للبنان تاريخ صادق وخريطة صحيحة

لمدارسه العمومية. والهدى الذي يقترح هذا الاقتراح يقوم بنفقات الطبع فلا نظل

نتعلم تواريخ الأمم الغربية وحدودها ونجهل تاريخنا وحدود بلادنا.

13-

وضع قانون عام للنهضة اللبنانية لا يجوز لأي فرع منها الزيادة عليه

أو الحذف منه إلا في الترتيبات المحلية التي لا علاقة لها بالمبادئ، ويجب أن يكون

المركز الرئيسي للولايات المتحدة وكندا والمكسيك وجزائر الهند الغربية وبعض

الجمهوريات اللاتينية واحدًا في نيويورك، أما في سائر المهاجر فيجب أن يكون

النظام واحدًا باستقلال كل بلاد بنهضتها وفروعها بشرط التقيد (النظام الواحد)

والاشتراك في العمل الواحد على حد ما هي الولايات من (مركز الاتحاد) أو

المقاطعات من العاصمة (؟ ؟) .

14-

إصدار كتاب كل عام من أقلام أدباء النهضة اللبنانية في كل بقعة من

العالم تكون مواضيعه الإصلاح والتربية والسياسة والاجتماع والتعليم بفروعه وغير

ذلك مما تدعو إليه الحاجة، ويجب أن تكون أسماء الأعضاء وبيان الدخل والخرج في

آخر هذا الكتاب مع قانون النهضة المعدل.

15-

تعديل قانون النهضة اللبنانية عند التئام كل مؤتمر تعقده يكون مؤلفًا من

نواب كل فرع مستقل أو مرتبط في مدينة متوسطة وموافقة للجميع وقبل انتهاء مدة

المتصرف بسنة (؟ ؟) .

16-

من حق كل مشترك في النهضة اللبنانية التصويت لمرشحي المركز

الرئيسي مباشرة لمن كان غير منضم إلى فرع أو بوساطة الفرع الذي يكون منه

ويعلن الترشيح مقدمًا.

17-

للمرأة الحقوق الوطنية بالانضمام إلى النهضة اللبنانية وبإنشاء الفروع

لها أو بالانتخابات عمومًا (؟) .

18-

السعي مع المتمولين لإنشاء الشركات على اختلافها لا تكون النهضة

فيها إلا منشطة (؟) وتكون كل شركة مستقلة بإدارتها ونظامها - الشعب الذي لا

يتَّحِد في الشركات لا يستطيع الاتحاد في غيرها، وبكل أسف نقول إنه لا يكون

ارتقى كثيرًا.

19-

العدول عن التبرعات للمشاريع المدعوة في الوطن عمومية وهي

خصوصية لم يتم منها حتى الآن مشروع واحد على ما نعلم بعد جمع عشرات ألوف

الدولارات، ولا سيّما أن (؟) فضل المهاجرين غير معترف به وإذا كان من اعتراف

فبتفوق عليهم (؟) وبذكر واجب لا ندري مصدره قبل الاعتراف المخلص

بالمساواة (؟) - المهاجرون ساعدوا كل مشروع وهمي في الوطن منذ ثلاثة عقود

من السنين ولم يساعدهم المتخلفون بشيء حتى في إصلاح البلاد، فمن العدل أن

يعدلوا عن الاستئثار إلى الخدمة الوطنية المتساوية، وأمام المهاجرين واجبات كثيرة

من الضروري القيام بها - يجب العدول عن التبرعات إلى أن يتم المشروع الوطني

على الأقل.

20-

تكافل المهاجرين والمتخلفين في كل ما يعود على الوطن بالإصلاح

والرقي.

21-

الاهتمام بالجندية اللبنانية اهتمامًا تنظر فيه النهضة.

22-

بذل العناية التامة لإنجاح قلم المهاجرة وصون أموال وأعراض

المهاجرين الجدد.

23-

إذا كان المهاجرون مطالبين بالأموال الأميرية وسائر الضرائب فمن

الواجب أن يكون لهم رأي في حكومتهم وأعمالها وانتخاباتها.

24-

عضو مجلس الإدارة (شيخ مشترع) أو (سناتور) فمن العار على

البلاد أن يكون غير متعلم ولا متهذب إن لم يكن متشرعًا.

25-

ترمي النهضة اللبنانية إلى إنشاء مدرسة داخلية في أمريكا الشمالية

لإحياء اللغة العربية وبهاء الوطنية، ولتنشئة الصغار على المبادئ القويمة، وأهم ما

ترمي إليه حمل مدارس الوطن على تعديل أنظمتها فلا ينفق التلميذ ربع عمره قاتلاً

ويخرج بعد هذه الخسارة غافلاً.

26-

جعل لبنان مصيفًا جميلاً ونقيًّا بالآداب والأخلاق مثله بالمناظر والماء

والهواء (؟)

27-

تحويل أفكار المهاجرين عن إقامة الدور والقصور- إلا ما كان

ضروريًّا - إلى إنشاء المعامل والعناية بالزراعة والصناعة واستثارة دفائن كنوز

لبنان.

28-

تعليم الاقتصاد على أنواعه وترويج المصنوعات والمستغلات الوطنية.

29-

حؤول أعضاء النهضة اللبنانية دون الخلافات الطائفية والقومية والبلدية

والفصل بين المختلفين منهم في محاكم النهضة الخصوصية إلا إذا عز التوفيق.

30-

إنشاء جريدة رسمية مساهمة في كل بلاد فيها مركز رئيسي للنهضة

وإنشاء مجلة نسائية عند الحاجة والمقدرة.

31-

الاهتمام بالغرف التجارية الضرورية للمهاجرين.

32-

السعي لإقامة رؤساء أساقفة في المهاجر للطوائف النائلة امتيازات في

الوطن لصون الشرف ومنع الاستئثار أسوة بالطوائف الممتازة في أوروبا.

33-

مساعدة نوابغ أعضاء النهضة أو نوابغ أبنائهم.

34-

عدم مساعدة الكنائس إلا إذا كان لها مدارس في الوطن والمهجر.

35-

التفاهم مع رؤساء الأديان لخدمة الشعب وإفادته بتنفيذ غاية الواقفين من

الأوقاف دون تعرض لأي حق راهن لهم.

36-

يجب إقامة وكلاء للنهضة حيث لا يوجد فروع أو حيث يكون إنشاء

الفروع مبددًا لا موحدًا.

37-

مرتب الدخول دولار واحد في السنة يجب إيصاله إلى المركز الرئيسي

من كل عضو في النهضة إلا إذا شاء العضو التبرع. أما الفروع فلها أن تتفاهم مع

الأعضاء على طرائق القيام بالنفقات المحلية (؟)

38-

ينتخب نائب الرئيس وأمناء الصندوق والمديرون من التجار، أما

الرئيس فيجب أن يكون غير تاجر صونًا لحقوق مصالح سائر التجار.

39-

لا يقبل الأمي - الذي لا يحسن القراءة - عضوًا إلا في السنين الخمس

بعد إعداد القانون الأساسي ولا يقبل غير المستقيم على الإطلاق.

40-

يجب ترغيب الشبان في تعليم الصناعات والفنون استعدادًا لخدمة الوطن

بما يكونون تعلموه.

41-

يعتبر مفشي أسرار الجمعية (خائنًا) ويطرد بعد المحاكمة.

42-

لا يقبل عضو في النهضة كل (؟) من يكون منتظمًا في سلك جمعية

في مبادئها ما يخالف مبادئ النهضة اللبنانية.

43-

للجمعية شارة وكلمة تعارف وقوانين تعرف من النظام العمومي بعد

طبعه.

44-

تسعى النهضة اللبنانية لإحياء ذكر النوابغ في العلم والوطنية من رجال

ونساء بطبع نتاج قرائحهم وإقامة تماثيل للعظماء منهم.

45 -

من مساعي النهضة اللبنانية إنشاء المتاحف الوطنية وصون كنوز

الحفريات والعادات وحفظ كل ما يهتم القوم الراقي (؟) بحفظه.

46-

يجب أن يكون لنا (جمعية علماء) تبذل منتهى العناية بإحياء اللغة

والفنون الجميلة ومنها تتفرع فروع العلوم والتاريخ والجغرافيا وغير ذلك.

هذا أهم ما مرّ في خاطرنا من المبادئ والمنازع التي تقبل المسؤولية عليها

دون أحد من الناس، ولنا في أكثر هذه البنود كلام نتبسط فيه ونرجو أن يكون عند

صادقي الوطنية مقبولاً.

إلا أننا لا ندّعي بأن ما جئنا به يجب أن يعتبر فصل الخطاب؛ وإنما أردنا أن

نوقف الشعب على الأهم من مرامي هذا الحزب الأكبر المدعو نهضة لبنانية، وهو

حزب لم يظهر مثله حتى يومنا هذا في العالم العربي ولا انضوى تحت لواء أي

جمعية عربية العدد المنضوي تحت لوائه.

في كل مصر وقطر أنصار لهذا الحزب لا نعلن أسماء جميعهم لحوائل سياسية،

ونؤكد للبنانيين أننا بعد سنة واحدة نصبح 25 ألفًا في المهاجر وحدها فمن كان

مؤمنًا بكتاب اللبنانية الشريف فليحمل لواءه بالإخلاص خفَّاقًا، وينشر تعاليمه

بالوطنية نطاقًا، والفوز للمجاهدين، اهـ.

(المنار) :

نشرنا هذه المقالة بحروفها ووضعنا بجانب بعض المفردات

والجمل علامة (؟) للإشارة إلى ما فيها من خطأ أو ضعف لفظي أو معنوي

(ولولا أن استحسنا إنشاء الكاتب لما أشرنا إلى ذلك) . ويظهر منها أن هذه الجمعية

سياسية علمية اقتصادية أدبية خيرية سرية جهرية. وفي هذه المواد المنشورة

تعارض وتهافت، يمني بعضها بمملكة مستقلة، كما بني بعضها على تابعية مبهمة.

ولعل رئيس النهضة البارع يصححها ويرتبها بعد إعادة النظر فيها. ولا نسأله

عن القوة التي يؤسس المهاجرون بها هذا الملك العظيم.

ولنرد ما تقدم بيانًا بنقل النبذة التالية من جريدة أبي الهول التي تصدر في

البرازيل وهي:

أنا لبناني

ليقرأها اللبنانيون بتمعن! !

لا تصبح الأمة أمة حقيقية ولا يستتب لها كيان إلا متى نمت في صدور

أغلبيتها عاطفة حب الوطن، وكان هذا الحب مؤسسًا على معرفة تاريخها، وما

التاريخ إلا قطعة من قلب الأمة، وما أبناء هذا الجيل إلا أحفاد أجيال إذا تناسيناها

مسخنا نفوسنا وأنكرنا الأصول التي إنما نحن لها فروع.

ولقد أثبت المدققون أن قوة الشعوب الحقيقية قائمة في إيمانها الوطني،

وعرف العالم بأجمعه أن العثماني قد غلب في الحرب البلقانية لأنه فاقد هذا الإيمان،

وإن الأمم البلقانية لم تنتصر ذلك الانتصار الباهر إلا لامتلاكها القوة الأدبية علاوة

على قواها الحربية.

ومن الثابت أن السرب مثلاً قد انتصروا لأنهم بأجمعهم - من القائد الكبير إلى

الجندي الصغير - كانوا قد رسموا في قلوبهم وأدمغتهم تذكارات تاريخهم القديم الذي

طمست به سنوات الحكم العثماني عليهم.

وفي سنة 1907 تشكلت لجنة نيابية سربية لفحص حالة استعداد الجيش

العامة، وأرادت اللجنة أن تعلم مقدار معرفة الجنود تاريخ بلادهم فوقعت القرعة

على فرقة من الفرق المقيمة في أقصى أرجاء سربيا فألقيت على كل من الجنود

الأسئلة العشرة التالية:

ماذا تعرف عن كراليفتش ماركو؟ وعن ميلوش أو بليتش؟ عن الأمير لازار؟

وعن الإمبراطور دوشان؟ عن موقعة قوصوه؟ وعن كاراجورجس؟ عن الأمير

ميلوش وما هو اسم الملك الحالي؟ واسم ولي العهد وهل يوجد سربيون خارج

سربيا؟

فأيدت الأجوبة أن مائة في المائة من الجنود يعرفون أن (كراليفتش ماركو)

ملك سربيا وبطل التاريخ الوطني كان آخر حماة استقلال سربيا ضد الأتراك.

ومائة في المائة يعرفون أن السربي (ميلوش أوبليتش) قتل السلطان مراد

في موقعة قوصوه سنة 1389.

ومائة في المائة يعرفون أن الأمير (لازار) قاد الجيش السربي في معركة

قوصوه وقتل فيها.

وثمانون في المائة يعرفون أن الإمبراطور (دوشان) المتوفى سنة 1355

كان أعظم ملوك سربيا القديمة.

ومائة في المائة يعرفون أن الإمبراطورية السربية قد سقطت في موقعة

قوصوه.

واثنان وستون في المائة يعرفون أن (كراجورجس) كان زعيم الثورة الأولى

السربية ضد الأتراك سنة 1804 - 1813.

وتسعة وخمسون في المائة يعرفون أن الأمير (ميلوش) قاد الثورة الثانية

التي ولدت منها سربيا الحالية سنة 1815م.

واثنان وأربعون في المائة يعرفون اسم الملك الحالي.

وثلاثة وعشرون في المائة يعرفون اسم ولي العهد.

وثمانية وتسعون في المائة أجابوا أنه يوجد سربيون كثيرون خارج سربيا.

فهذه النتائج تثبت بوضوح أن الشعب السربي بأجمعه كان - ساعة شهر

الحرب على تركيا - متشربًا تذكارات تاريخه الوطني البعيدة والقريبة ومعتقدًا بأن

أمنية سربيا الحالية قائمة بتوسيع حدودها لامتلاك الأراضي المغتصبة، وجعل

سربيا كافية لضم جميع السربيين.

في هذه التذكارات كمنت قوة سربيا الحقيقية. وبهذه التذكارات انتقمت للتاريخ

وانتصرت على تركيا.

لم أرو كل هذه المقدمات لأحدث القراء عن سربيا والسربيين. ولكنها أمثولة

للأمم التي تريد أن تتكون وتحيا!

نحن معاشر اللبنانيين لا نحلم بمحاربة تركيا أو الثورة عليها. ولكن الأوان قد

آن لنسعى في تعزيز جامعتنا القومية وتأليف أمة يعرفها العالم المتمدن (بالأمة

اللبنانية) . ومن أجل ذلك يجب أن نبدأ باعتناق الإيمان الوطني وأن نؤسس هذا

الإيمان على تذكارات تاريخنا البعيدة والقريبة.

لقد أنهكت مذابح الستين قوانا الوطنية؛ ولكن نصف جيل خلا كاف لتجديد

الدم اللبناني.

لو ألفت اليوم لجنة لبنانية واختارت بضعة قرى من قرى لبنان وأخذت تطرح

على أبنائها الأسئلة التالية:

من هم أجداد اللبنانية؟ هل فقد لبنان يومًا استقلاله؟ من هم أعظم أمير

لبناني؟ من أخرج محمد علي من سوريا؟ ما هي حدود لبنان الأصلية؟ ما

هي المسألة اللبنانية؟ ما رأيك بمذابح الستين؟ ما الفرق بين المسيحي والدرزي؟

من هو أحسن متصرف وأسوأ متصرف حكم لبنان؟ بماذا يجب أن يحلم

اللبناني اليوم؟

لو ألفت هذه اللجنة وسالت هذه الأسئلة وأجاب مائة في المائة أن أجداد

اللبنانيين هم الفينيقيون غزاة البحر وتجّاره، وأساتذة اليونان، وممدنو قسم من

إفريقيا الشمالية وإيطاليا وفرنسا وإسبانيا.

ومائة في المائة: إن لبنان لم يخضع يومًا لدولة من الدول التي اجتاحت

سوريا خضوعًا تامًّا، وأنه لا يستطيع الحياة إلا مستقلاً.

وثمانون في المائة بأن أعظم أمير لبناني هو الأمير فخر الدين المعني الثاني

الذي أوصل حدود لبنان في الجيل السابع عشر من أطراف حلب إلى أوائل فلسطين

ولقبه سلطان تركيا (بسلطان البر) - يليه الأمير الشهابي الكبير الذي نريد نقل

رفاته من الآستانة إلى لبنان إحياء للروح الوطنية.

ومائة في المائة بأن سيوف اللبنانيين كانت العامل الأول في إخراج محمد

على باشا المصري وإعادة سوريا إلى تركيا في أوائل الجيل الأخير.

ومائة في المائة أيضًا بأن حدود لبنان الأصلية التي اغتصبتها الدولة تمتد من

أعالي طرابلس إلى صيدا ومن ساحل البحر المتوسط وفيه بيروت إلى أطراف الشام

وفيها سهل البقاع وجبل انتيلبنان المعروف بجبل حرمون أو جبل الشيخ.

ومائة في المائة بأن المسألة اللبنانية مشكلة بين الدولة ولبنان لا تحل إلا

باستعادة لبنان حدوده المغتصبة وحقوقه في الكمرك والبريد - وأن هذه المسألة

يجب أن يطرحها المجلس الإداري أمام محكمة أوربا التي تحمينا، ولنا بها علاقة

منذ بضعة أجيال بتقديم دعوى الديون التي لنا في ذمة الدولة.

وثمانون في المائة بأن مذابح الستين التي كان لمأموري الدولة اليد الأولى في

إثارتها وصمة على جبين لبنان يجب أن يمحوها بنزع التعصب الديني وإبداله

بالتعصب الوطني.

ومائة في المائة بأن الدرزي أخ للمسيحي في الوطنية، للأول ما للثاني وعليه

ما عليه.

وإن أحسن متصرف جاء قبل المتصرف الحالي هو داود باشا الأرمني الذي

سعى في تحسين شؤون الجبل وتوسيع أراضيه، وأسوأ متصرف هم كل

المتصرفين الذين سبقوا متصرفنا الحالي.

وإن على اللبناني أن يحلم اليوم باستعادة الإمارة اللبنانية، ويساعد جمعيات

المجاهدين المخلصة ليعود المهاجرون إلى بلادهم، وتعود إلى لبنان حياته ومعها

العز والفخار

في ذلك اليوم

في ذلك اليوم يصبح اللبنانيون أمة حقيقة

ويستطيع اللبناني أن يسمي بلده وطنًا، وأن ينادي على رؤوس الملأ بكل مباهاة

وافتخار: (أنا لبناني!)(أنا لبناني! ! !) .

(المنار) :

لولا هذه النقط التي أبهم بها الكاتب النتيجة، لقال القارئ إن النتيجة جاءت

أصغر من المقدمات، لا متبعة أخس المقدمات كما يقول علماء المنطق. والمجال

واسع أمام من يريد انتقاد ما كتب الكاتب، وأهم ما يهم دعاة النهضة العربية من

ذلك جعل البلاد السورية أوطانًا متعددة، ومن فروع ذلك جعل هذا الكاتب اللبنانيين

كلهم فينيقيين - على مذهب عبيد الله التركي الذي زعم أن نصارى سورية ليسوا

عربًا - وهذا خطأ مبين، فإن كثيرًا من سكان الجبل يعرفون أنهم من سلالة العرب،

ومنهم أمراؤه كبني معن وبني شهاب الذين يفخر الكتاب بكبيريهما الأمير فخر

الدين والأمير بشير، وبني رسلان وغيرهم من الدروز. والباقون من سلائل

العرب والفينيقيين وغيرهم. ولكنهم صاروا كلهم عربًا بتوحيد لغتهم؛ وإنما

الجنسية باللغة فكثير من الأسبانيين من سلالة العرب ولكنهم لا يعدون الآن عربًا.

يظهر مما نشرنا ومما لم ننشر مما يكتبه غلاة الدعوة اللبنانية أنهم يمنون

أنفسهم بما ليس في طاقتهم، يمنون أنفسهم بأن يكونوا دولة قوية مستقلة تمام

الاستقلال، منفصلة عن جدتهم الأمة العربية وأمهم سورية نفسها، لا عن الدولة

العثمانية فقط. ولا يكون مثل هذا إلا لشعب حربي قوي، ولذلك يكثر أصحاب

دعوة هذا الاستقلال من ذكر قوة الجبل وامتناعه عن الفاتحين، وانتصاره على

المصريين، وإخراجهم جيش محمد علي الكبير من سورية وردها إلى الدولة!

والاسترسال في المبالغات التي ليس من موضوعنا البحث فيها. ولنسلم لهم حديثهم

عن ماضيهم؛ فإنه لا يمنعنا من الجزم بأنهم لا يستطيعون أن يأخذوا بقوتهم شبرًا

من أرض الدولة ولا درهمًا من خزينتها؛ وإنما مسألتهم أوربية مفتاحها بيد الدول

الكبرى، فإذا هن اتفقن على إعطاء الجبل شيئًا فهو الذي يرجى أن يأخذوه، وإذا لم

يتفقن ففرنسة وحدها لا تستطيع أن تعمل للجبل شيئًا. وإذا استطاعت الدولة أن

ترضي الدول بإلغاء امتياز لبنان فإنها تلغيه، وخلاف فرنسة وحدها لا يحول دون

ذلك. فمن يعرف هذه الحقائق يجزم بأن مؤسسي جمعية (الاتحاد اللبناني) في

مصر أرسخ قدمًا في السياسة من سائر اللبنانيين. وأن وراء ذلك كله سياسة مثلى

لو قدروها قدرها، ولم تحجبهم آمالهم بفرنسة وغيرها عنها! !

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 615

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مصاب مصر والشام

برجال العلم وحملة الأقلام

4-

الشيخ محمد جمال الدين القاسمي

(تتمة ترجمته)

تصانيفه ورسائله:

كان أثابه الله سيّال القلم سيّال القريحة، سريع الذاكرة سريع المراجعة، وقد

كتب كثيرًا من الكتب والرسائل تصنيفًا وشرحًا واختصارًا لبعض المطولات،

وأحصاها لنا بعض تلاميذه فزادت على السبعين، وهو العقد الذي تعبر به العرب

من الكثرة. وهذه أسماؤها مرتبة على حروف المعجم:

(1)

الاستئناس في تصحيح أنكحة الناس. طبع في دمشق سنة 1332.

(2)

الأنوار القدسية على متن الشمسية في المنطق، كتب عليها إلى آخر

قسم التصورات.

(3)

إيضاح الفطرة في أهل الفترة.

(4)

الارتفاق، بمسائل الطلاق.

(5)

إزالة الأوهام بما يستشكل من ترك سيدنا عمر لكتابة الكتاب الذي

همَّ به عليه الصلاة والسلام.

(6)

إفادة مَن صحا في تفسير سورة " والضحى ".

(7)

إعلام الجاحد عن قتل الجماعة المتمالئة بالواحد.

(8)

الأقوال المروية في من حلف بالطلاق الثلاث في قضية.

(9)

الأوراد المأثورة - مطبوع في دمشق.

(10)

الأجوبة المرضية مطبوع في دمشق سنة 1326.

(11)

إصلاح المساجد من البدع والعوائد.

(12)

بذل الهمم لموعظة أهل وادي العجم.

(13)

بديع المكنون في أهم مسائل الفنون.

(14)

بيت القصيد في ديوان الإمام الوالد السعيد.

(15)

بحث في جمع القراءات المتعارف.

(16)

تعطير المشمامّ، في مآثر دمشق الشام.

(17)

تعليقات على حصول المأمول لصديق حسن خان.

(18)

تنوير اللب في معرفة القلب.

(19)

تاريخ الجهمية والمعتزلة. نشر في مجلة المنار وطبع في مطبعتها

سنة 1331.

(20)

تنبيه الطالب إلى معرفة الفرض والواجب - طبع في مصر سنة

1326.

(21)

ثمرة التسارع إلى الجب في الله وعدم التقاطع.

(22)

الجواب السني عن سؤال السيد أحمد السني.

(23)

الجوهر الصاف في نقابة الأشراف.

(24)

جواب المسألة الحورانية.

(25)

جوامع الآداب في أخلاق الأنجاب.

(26)

جدول في مخارج الحروف وصفاتها.

(27)

جواب الشيخ السناني في مسألة العقل والنقل، نشر في مجلة المنار.

(28)

حسن السبك في الرحلة لوعظ قضاء البنك.

(29)

حياة البخاري. طبع في صيدا سنة 1330.

(30)

حاشية على الروضة الندية.

(31)

درء الموهوم من دعوى جواز المرور بين يدي المأموم.

(32)

دلائل التوحيد. مطبوع في دمشق سنة 1326.

(33)

ديوان خطب مطبوع في دمشق سنة 1325.

(34)

رفع المناقضات، بين ما يزيد في العمر وبين المقدرات.

(35)

رسالة في الشاي والقهوة والدخان. مطبوعة في بيروت سنة 1323

(36)

رسالة في أوامر من مشايخ الإسلام بالحكم بغير المذهب الحنفي.

مطبوعة بعد نشرها في مجلة المنار سنة 1331.

(37)

رسالة في المسح على الجوربين. مطبوعة في بيروت سنة 1332.

(38)

رسالة في المسح على الرجلين.

(39)

زوال الغشاء عن وقت العشاء.

(40)

زبدة الأخبارعن أولاد الكفار.

(41)

السطوات في الرد على منع العشاء قبل الصلوات.

(42)

شمس الجمال على منتخب كنز العمال.

(43)

الشذرة البهية في حل ألفاظ نحوية. مطبوعة في دمشق سنة 1322.

(44)

شذرة من السيرة المحمدية. مطبوعة بمطبعة المنار في مصر سنة

1331.

(45)

شرح لقطة العجلان. مطبوعة في مصر سنة 1326.

(46)

شرح مجموعة أربع رسائل في الأصول. مطبوعة في بيروت سنة

1324.

(47)

شرح مجموعة أربع رسائل في الأصول أيضًا. مطبوعة في دمشق

سنة 1323.

(48)

شرح مجموعة ثلاث رسائل في أصول التفسير وأصول الفقه

مطبوعة في دمشق سنة 1332.

(49)

شرح مختصر المستصفى لابن رشيق.

(50)

الطائر الميمون في حل لغز الكنز المدفون. مطبوع مرتين سنة

1316 وسنة 22.

(51)

طراز الخلعة فيما نقل من قول الرملي: وأقسام الاسم تسعة.

(52)

الطالع المسعود على تفسير أبي السعود (لم يتم) .

(53)

الطالع السعيد في مهمات الأسانيد.

(54)

العقود النظيمة في ذكرى مولد النبي صلى الله عليه وسلم وأخلاقه

العظيمة، ومحاسن شريعته القويمة.

(55)

غنيمة الهمة على كشف الغمة.

(56)

فصل الكلام في حقيقة عود الروح إلى الميت حين الكلام.

(57)

الفضل المبين على عقد الجوهر الثمين، ويعرف بشرح الأربعين

العجلونية.

(58)

فتاوى الأشراف في العمل بالتلغراف. مطبوع في دمشق

سنة 1329.

(59)

قواعد التحديث من فن مصطلح الحديث.

(60)

الكواكب السيارة في مدح الفوارة.

(61)

كتاب الفتوى في الإسلام. مطبوع في دمشق في سنة 1329.

(62)

كتاب إرشاد الخلق إلى العمل بخبر البرق. طبع بدمشق سنة

1329.

(63)

كتاب الإسراء والمعراج. طبع دمشق سنة 1331.

(64)

كتاب شرف الأسباط. طبع بدمشق.

(65)

كتاب (شرح العقائد) وهو كتاب كبير كتب الفقيد منه نحوًا من

مائتي صفحة ولم يتم.

(66)

اللف والنشر في طبقات المدرسين تحت قبة النسر.

(67)

لزوم المراتب في الأدب مع الإمام الراتب.

(68)

المسند الأحمد على مسند الإمام أحمد.

(69)

منتخب التوسلات. مطبوع في دمشق سنة 13.

(70)

مذاهب الأعراب وفلاسفة الإسلام في الجن. طبع بدمشق سنة 328.

(71)

ميزان الجرح والتعديل، طبع في مصر سنة 1330.

(72)

موعظة المؤمنين من أحياء علوم الدين. طبع بمصر سنة 133.

(73)

(محاسن التأويل) وهو التفسير العظيم الذي يقع في اثني عشر

مجلدًا مع مقدمته التي كتبت في مجلد حافل.

(74)

النفحة الرحمانية على متن الميدانية. مطبوعة في دمشق سنة

1323.

(75)

نقد النصائح الكافية. طبع بدمشق سنة 1328.

(76)

هداية الألباب لتفسير آية: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ} (المائدة: 5) .

(77)

الوعظ المطلوب من (قوت القلوب) .

(78)

وفاء الحبيب وحده، في إيضاح جهة الوحدة (المسوقة في الفناري) .

(79)

ينابيع العرفان في مسائل الأرواح بعد مفارقة الأبدان.

أقول: إن بعض ما ذكرنا رسائل صغيرة مؤلفة من كراسة أو كراستين أو

كراسات قليلة، له أو لغيره، وبعض ما ذكرنا من الشروح عبارة عن تعليقات لا

يصح أن تسمى شرحًا، وقد كتب إليّ في العام الماضي أنه له كتابًا في العبادات

مقتبسًا من كتب المذاهب مع بيان حكمة التشريع. كان أخذه منه الشيخ أحمد طباره

ليطبعه في مطبعته ببيروت ولم يعده إليه، وعلمت ممّا كتب إليّ أنه من أهم كتبه،

وكنت وعدت بتأليف كتاب في ذلك فسبقني رحمه الله إليه، فتمنيت لو يطبع

لأستغني به. ولعل هذا الكتاب وتفسيره الحافل هما أكبر مظاهر علمه وإصلاحه،

على أن له رسائل مختصرات لا تغني عنها المطولات.

سيقول كثير من الناس: إنك عددت القاسمي من رجال الإصلاح، وإن أسماء

كثير من هذه الكتب التي صنفها أو شرحها تدل على أنها ليست من الإصلاح في

ورد ولا صدر، ولا تشتمل على عين منه ولا أثر؛ فكيف يضيع العالم المصلح

وقته في شرح لغز، أو ما يعد أبعد عن الإصلاح من اللغز؟

ويمكنني أن أقول: إن الرجل كان من خيار مصلحي المسلمين في هذا العصر،

وإن لم يدخل كل ما كتبه في باب الإصلاح الذي يفهمه قراء المنار، فمسمى

الإصلاح ومفهومه واسع، وهو يختلف باختلاف الزمان والمكان، والسن والعشراء

والأقران، والتلاميذ والمريدين، وغيرهم من المخاطبين، والمصلح لا يخلق

مصلحًا بالفعل؛ بل يخلق كغيره لا يعلم شيئًا، ويكون الاستعداد للإصلاح فيه كامنًا،

ثُمَّ تظهره التربية والتعليم، وما يتجدد المرة بعد المرة له من العبرة والتأثير. فهل

يطلب ممن عاش خمسين، ترك فيها من هذه الكتب والرسائل نحوًا من سبعين، أن

يكون جميع ما كتبه أو شرحه إصلاحًا في الدنيا والدين، مرضيًا عند الكهول

المجربين، والشيوخ المحنكين؟

طريقته في الإصلاح:

حسب من نشأ وتعلم وتربى في أرض التعصب للتقليد، والجمود على العادات

والخرافات، تحت سماء الاستبداد، والحجر على الألسنة والأقلام، - ولم تكن هذه

المفاسد في الآستانة أشد منها في الشام - أن يكون بسلامة فطرته، وعناية الله به،

مثل الشيخ جمال الدين القاسمي في استقلاله، ونزاهته واعتداله، ونظافة عقله

وقلمه ولسانه، وجرأته على مجاهدة الجمود والتقليد، والجمع في إحياء علوم اللغة،

والدين بين الطريف والتليد.

أما طريقته في الإصلاح وغايته منه فلم يكن فيها ما على خطة مقررة من أول

النشأة، وإنما كونتهما الحاجة بقدر استعداد البيئة: فتح الرجل عينيه فرأى أطلال

العلم في بلده دارسة، وأعلامه طامسة، وقد كانت مهاجرًا يرحل الطلاب إليها،

فأصبحت مهجورة يرحل عنها. فكان الإصلاح الضروري فيها إيجاد نشء جديد

من طلبة العلم يعلمون تعليمًا صالحًا يرجى أن يحيا به وبهم العلم، وقد كان سبب

اختيار الشيخ لقراءة بعض الكتاب ولكتابة بعض الشروح والتعليق على بعضها،

هو الضرورة أو الحاجة إلى تدريسها، لا كونها صالحة في نفسها، أو محاولته

إصلاح التعليم بها. مثال ذلك ما كتبه على شرح الفناري ومتن الشمسية في المنطق،

كان ما لا بد منه؛ لأن طلبة العلم كانوا يمتحنون بهما لأجل إعفائهم من الخدمة

العسكرية. ونقيس ما لم نعرف عذره فيه - كقراءة كتاب جمع الجوامع وشرح

بعض المتون - على ما عرفنا عذره فيه كمتن الشمسية وشرح الفناري، وكلاهما لا

يصلحان للتدريس في رأي العارفين بطرق إصلاح التعليم. ولو كان الشيخ في

مصر لقلنا إن عذره في قراءة جمع الجوامع اعتماد الجامع الأزهر عليه في

الامتحان ونيل شهادة العالمية.

لعلنا لو اطلعنا على جميع ما كتبه لظهر لنا من عذره ما لا يظهر لنا الآن، أو

ننتقد منها ما لا نظن الآن أنه منتقد، وحسب الرجل أن يكون مصلحًا في سيرته

ومجموع أعماله.

قد اطلعنا على كتاب دلائل التوحيد وبعض الرسائل من مؤلفاته المطبوعة،

وقرظنا بعضها في المنار وبينا مزيتها فيه. ويمكنا أن نستنبط منها ومن مذاكراتنا

القصيرة له ما نعده للقارئين من مزاياه ومزاياها:

(1)

إن القاسمي درس فنون اللغة العربية والعلوم الشرعية على الطريقة

المألوفة في مدارس المسلمين منذ قرون، وتلقى تلك الكتب التي اختارها المتأخرون

للتدريس، ورأى حاجة أهل البلاد إلى بعض تلك الكتب لأجل امتحان الإعفاء من

العسكرية، وأن المشتغلين بالعلم منهم يظنون أن العالم لا يكون عالمًا حقيقة إلا

بتحصيل كذا وكذا منها (كجمع الجوامع وكتب السعد التفتازاني) فكانت هذه الأمور

الثلاثة أسبابًا لمحافظته على بعض ذلك التليد.

(2)

أنه كان يرى أن ما يثبت بالدليل النقلي في النقليات والعقلي في

العقليات وبالتجربة في المجربات لا تتلقاه بالقبول هذه الأمة التي جمدت على التقليد،

وبعد عهد جمهورها بالحجة والدليل، إلا إذا أيد بنقل عن بعض العلماء السابقين،

ولا سيّما إذا كان من المشهورين، فكان يرى هذا ركنًا من أركان الإصلاح في

التدريس والتأليف لأجل إقناع المستدلين والمقلدين معًا، ونحن نجري على هذا في

المنار والتفسير أحيانًا.

(3)

أنه كان يتحرى مذهب السلف في الدين وينصره في دروسه

ومصنفاته، وما مذهب السلف إلا العمل بالكتاب والسنة، بلا زيادة ولا نقصان، على

الوجه الذي كانوا يفهمونه في الصدر الأول. وقد اتهم - كما اتهم غيره من

المستقلين - بأنه أحدث مذهبًا جديدًا في الإسلام، ولما كانت حادثة السعاية التي

أشرنا إليها، وذكرنا أنه حبس فيها، لغط حساده بهذه المسألة فقال يرد عليهم:

زعم الناس بأني

مذهبي يدعى الجمالي

وإليه حينما أف

تي الورى أعزو مقالي

لا وعمر الحق إني

سلفيّ الانتحال

مذهبي ما في كتا

ب الله ربي المتعالي

ثم ما صح من الأخـ

بار لا قيل وقال

أقتفي الحق ولا أر

ضى بآراء الرجال

وأرى التقليد جهلاً

وعمى في كل حال

وقال أيضًا في هذا المعنى:

أقول كما قال الأئمة قبلنا

صحيح حديث المصطفى هو مذهبي

أألبس ثوب القيل والقال باليًا

ولا أتحلى بالرداء المذهب

(4)

كان يتحرى في المسائل الخلافية الاعتدال والإنصاف، واتباع ما يقوم

عليه الدليل من غير تشنيع على المخالف ولا تحامل. وكان لحرصه على الوفاق

وجمع كلمة المسلمين يجتهد في استبانة حجة كل فريق من أصحاب المذاهب،

وتقريب أحدهما من الآخر، بإظهار حجته أو شبهته، وحكاية ما يعارض الخصم

به. ومن كانت هذه طريقته فكثيرًا ما يغضب الخصمين معًا. فيتهمه كل منهما

بالتشيع للآخر. ثم إذا كان أحدهما مصيبًا والآخر مخطئًا يتعذر على محب الاعتدال

في الحكم بينهما أن يرضى باستحداث مذهب ثالث يجعله وسطًا بينهما؛ إذ ليس بين

الحق والباطل وسط، وإنما يكون الحق وسطًا بين باطلين، أو أباطيل ترجع كثرتها

إلى نوعين - الزيادة على الحق أو النقص منه. وقد اتهم الفقيد بعض السلفيين بأنه

خالف مذهب السلف في رسالته (تاريخ الجهمية والمعتزلة) التي نشرناها في

المنار، على شدة حرصه عليه وتحريه إياه؛ وانتقدها بعض الشيعة كما يأتي.

واتهمه بعض المستقلين بعثرة أخرى في رسالته (نقد النصائح الكافية) وهي أن

حب الاعتدال وتقريب أحد الخصمين من الآخر أخرجه عن الاعتدال في بعض

المسائل؛ ولكن بقصد الإصلاح.

وههنا مسألتان:

(إحداهما) أن المستقل في علمه وحكمه حق الاستقلال يتحرى ما يظهر له

أنه الحق فيقوله ويحكم به، وإن أغضب جميع الناس عليه. وقصارى ما يستبيحه

من إرضاء الناس أو استمالتهم التلطف في القول، وتزيين الحق الذي ثبت عنده

بحلي البيان وحلله، دون إبرازه لهم عاري الجسد عاطل الجيد.

(الثانية) أن الإصلاح بين الرجلين أو القبيلين من الناس فضيلة حث عليها

الشرع وعرف حسنها العقل، وقد أبيح فيها الكذب عند الرواة عملاً بقاعدة

(ارتكاب أخف الضررين) فبالأولى يباح فيها التماس العذر لكل خصم فيما خالف فيه

الآخر، وتوجيه ما قام عنده من الحجة أو شبه الحجة. وهذه الطريقة في الإصلاح

أقرب الطرق لإرضاء المعتدلين من أهل المذاهب المختلفة، وأما الغلاة في

التعصب لمذاهبهم فلا يرضيهم إلا موافقتهم واتباعهم.

أما العمل بهاتين المسألتين وإعطاء كل واحدة منهما حقها فهو عسر جدًّا، فإن

المستقل جد الاستقلال إذا تصدى للتوفيق بين الخصمين المتعصبين يغضبهما جميعًا،

وإنما يمكن أن يرضي المستقل من كل فريق أو المستعد للاستقلال إذا أوتي

الحكمة وفصل الخطاب.

ومن الآيات على ذلك أن رسالة (تاريخ الجهمية والمعتزلة) لم يكتب أحد في

هذا العصر كتابة أعدل منها في التأليف بين فرق المسلمين الكبرى - وهم أهل السنة

الأثرية والأشاعرة والمعتزلة والشيعة والخوارج - وقد كتب بعض علماء الشيعة

ردًّا عليها قبل إتمام نشرها، وهل يرضى شيعي بتعديل بعض الخوارج والرواية

في الصحيحين عنهما؟ وأنكر بعض أهل السنة الأثريين بعض المسائل فيها كما

تقدم. فأين هذه من تلك الرسالة التي كتبها أحد علماء الشيعة للتوفيق بين الأمة

بزعمه أو دعواه الظاهرة فكانت عبارة عن دعوة أهل السنة إلى التشيع بتخطئتهم

وتصويب الشيعة في جميع مسائل الخلاف! !

أخلاقه وشمائله:

كان من أكمل ما رأيت في أخلاقه وآدابه وشمائله: كان أبيض اللون نحيف

الجسم ربعة القد، أقرب إلى القصر منه إلى الطول، غضيض الطرف، كثير

الإطراق، خافض الصوت، ثقيل السمع، خفيف الروح، دائم التبسم.

وكان تقيًّا ناسكًا، واسع الحلم، سليم القلب، نزيه النفس واللسان والقلم، برًّا

بالأهل، وفيًّا للإخوان، يأخذ ما صفا ويدع ما كدر، عائلاً عفيفًا قانعًا.

لا يطبيه طمع مدنس

إذا استمال طمع أو أطبى

وقد بينا ما كان لأخلاقة الكريمة من حسن الأثر، والوقاية من كيد الجاهدين

والحاسدين، والإعانة على الإصلاح.

ومن حسن وفائه أنه لم يقطع مراسلتنا ولا مراسلة الأستاذ الإمام في إبان ثقل

وطأة الاستبداد الحميدي؛ إذ كانت مراسلتنا تعد من الجنايات السياسية التي تعاقب

الحكومة صاحبها أشد العقاب، ولكنه ترك التصريح بنقل شيء عنا كما يعلم من

كتابه (دلائل التوحيد) وصرّح لنا بذلك.

وقد عبرنا عن بعض ما وجدناه من الحزن لفقده بكتاب وجهناه إلى أهله،

وكان من يعرف ما بيننا من الإخاء يعزينا عنه كما يعزي الإخوة في النسب. وما

بيننا من أخوة النسب الروحي أعلى من النسب الجسدي، على أن نسب أمه

يتصل بنسبنا أيضًا.

وحسبي أن أدون من تلك التعازي ما كتبه إليَّ صديقي وصديقه علامة العراق

ورحلة أهل الآفاق، السيد محمود شكري الألوسي الشهير. وقد كتبت إليه مثل الذي

كتبه إليّ بباعث القلب، ولكنه سبق كدأبه في السبق إلى كل فضل. وهذا ما كتبه

بعد الألقاب، وفاتحة الخطاب:

(أما بعد؛ فقد نعت إلينا صحف البلاد الشامية وفاة العلامة السيد جمال الدين

القاسمي قدّس الله روحه الزكية، فأمضّ ذلك الخبر قلبي وأفض لبّي، وجرح فؤادي

وطرد رقادي. وأحدث لي حزنًا ملازمًا، وألمًا دائمًا، وأورثني قلقًا واخزًا.

وانزعاجًا حافزًا. وحيث كان المشار إليه من أعزة أحبابكم، وخُلّص أصفيائكم،

مع ما كان عليه من الفضل الوافر، والأدب الباهر، والورع الظاهر، والنسب

الطاهر، والذب عن الشرع المبين، وقوة الإيمان واليقين، ومناضلة الحائدين

والملحدين، وأنه حسبما اعترف له الموافق والمخالف:

أحيا به الله الشريعة والهدى وأقام فيه شعائر الإسلام

حكم على أهل العقول يبثها

منعوتة الأوضاع والأحكام

ويريك في ألفاظه وكلامه

سحر العقول وحيرة الأفهام

فإني أعزيك على فقده، وتوسده للحده، ومفارقته لهذه الدنيا الغدارة الخائنة

المكارة، فإن نعيمها زائل، وكوكب سعدها آفل، فلا أوجع الله لك قلبًا، ولا كدر

لك خاطرًا ولا لبًّا، وللإسلام من طلعتكم الغراء سلوان عمن مضى من الفضلاء،

وإنما يجل الرزء إذا قل العوض، ويكبر المصاب إذا عدم الخلف. فأما إذا كنت

الباقي، وغيرك الماضي، وصرت الموجود، وسواك المفقود، فالفادحة خفيفة

الوقع، مرؤبة الصدع، ويد الدهر فيما نال قصيرة، ومنته فيما ترك كبيرة.

هذا مع أسفي عليه كل الأسف، وتصاعد أنفاسي بمزيد اللهف، وقد جرت

عليه من العيون عيون، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

نسأله تعالى أن يديمكم ركنًا للإسلام، ومرجعًا للخاص والعام، ويصونكم من

طوارق الليالي والأيام، تذكرة للسلف الأعلام) . اهـ.

وأقول: إن مما يعزيني ويعزي هذا الأخ الكريم والمصلح العظيم، الذي لا

أستحق بعض ثنائه، ولا ينسيني نقصي كمال إطرائه، أن أخانا الفقيد قد ربّى وعلّم

أفرادًا من إخوته وغيرهم يرجى أن يقفوا أثره، ويتلوا تلوه، وإن كان نسيج وحده

فتبقى بهم ديار الشام، آهلة إن شاء الله بالعلماء والأعلام، على مدى السنين والأيام.

* * *

5-

جرجي بك زيدان

قضى الله - ولا راد لقضائه - أن لا نفرغ من رثاء وترجمة رجال العلم الذين

فجعت بهم الأمة العربية في هذه السنة في مصر والشام، إلا وقد رزئ القُطران

بفجيعة أخرى، فقد فاجأت المنية في التاسعة والعشرين من هذا الشهر جرجي بك

زيدان صاحب مجلة الهلال، وأحد أركان النهضة العربية الحديثة، فاجأته كهلاً قد

بلغ أشده واستوى، حسن الصحة تام القوى - وقد أتم في هذه الليلة تصحيح آخر

كراسة من آخر جزء من أجزاء السنة الثانية والعشرين للهلال، آخر كراسة من

كتاب تاريخ العرب. وتنفس الصعداء من تعب ليلة شعر بأنه ألقى عن عاتقه في

أولها تعب عشرة أشهر، ثم ألقى نفسه على سريره ليبدأ فيها باستراحة شهرين

كاملين، فغاضت نفسه، فإذا هو قد ألقى عنها تعب ربع قرن في الجهاد العقلي كان

هو القاضي على مادة ذلك الدماغ الذي يشبه معملاً من معامل الكهرباء، في السرعة

والنور والحرارة والضياء، والمقوض لدعائم تلك الحياة الحميدة، حياة الجد والعمل

والعفة والاستقامة. فإذا كان الجهاد العقلي قد صرع أحمد فتحي باشا زغلول

والأستاذ القاسمي بعد مرض طويل أو قصير، فقد صرع جرجي بك زيدان من غير

مرض ولا شكوى.

فقدت الأمة العربية بهذا الرجل ركنًا من أركان نهضتها الحديثة في العلم

والأدب، بعد أن نضج علمه، واتسعت معارفه، وكملت تجاربه، وصار أقدر على

إتقان خدمتها، ومساعدة نهضتها.

نشأ الرجل عصاميًّا، فقد ولد في أواخر سنة 1861م من أبوين فقيرين أميين،

ولكن يظهر أنه كان له في الأرومة العربية عرق راسخ، فقد بحث عن أصل

بينهم - وكان يسمى بيت مطر - فانتهى به البحث إلى ترجيح كونه من عرب

حوران، وكان يظن أنه كأكثر الروم الأرثوذكس في سوريا من بني غسان.

تلقى مبادئ القراءة والكتابة في بعض مكاتب بيروت الابتدائية. وكان

يشتغل مع والده في مهنته لأجل المعاش؛ ولكن استعداده للعلم وعشقه للمدارس كان

قويًّا جدًّا، فكان يختلف إلى بعض المدارس الليلية، يتعلم فيها اللغة الإنكليزية.

ويبحث عن رجال العلم والأدب ويتقرب إليهم، وانتظم مع طائفة من خيارهم في

سلك جمعية شمس البر الأدبية، فازداد حبًّا للعلم ورغبة في طلبه، وكان بعض من

آنس فيه الاستعداد من أهل العلم يقرأ له دروسًا خاصة يستعد بها لدخول القسم

الطبي من المدرسة الكلية الأمريكانية الشهيرة ببيروت، وبعد تحصيل قليل أدى

الامتحان ودخل المدرسة فكان يتعلم فنون الصيدلة ويؤدي بعض الخدمة لأجل

المعاش؛ ولكنه ترك المدرسة في أثناء السنة الثانية لما كان عرض فيها من

الاختلال الداخلي المعروف. وقصد بعد ذلك الديار المصرية ليتم دروسه في مدرسة

القصر العيني فلم يتح له ذلك؛ بل دخل في طور العمل والكسب.

إن كثيرًا من النابغين لم يقيموا في المدارس زمنًا طويلاً، ومن الثابت

بالاختبار أن طول الإقامة في المدارس تضعف ملكة الاستقلال، فيخرج الطالب

بعده مقلدًا جامدًا على ما أطال درسه ومزاولته. فإن كانت سعة العلم لا تحصل إلا

في الوقت الواسع، فالواجب أن يكون أطول زمن التحصيل خارج المدرسة لا

داخلها، وفي أثناء العمل بالعلم، لا في أثناء تلقي نظرياته ومصطلحاته. ورُبَّ

ذكي أو مجتهد يحصّل من مسائل العلم في سنة ما لا يحصله غيره في سنين كثيرة

وما تحصيل المدرسة إلا دلالة على طريق العمل بالعلم، فمن يطلب العلم فيها لأجل

الاستعانة به على العمل بعد الخروج منها، فربما يكفيه القليل من العلم، فيجعله

أهلاً للعمل الذي لا يكمل العلم إلا به. وأما من يطلب العلم لأجل نيل شهادة مدرسية

يتوسل بها إلى رزق لا يتوقف على دوام الاشتغال به والارتقاء فيه، فهجرته إلى ما

هاجر إليه، فهو يحصل ورقة الشهادة، ولكنه قلّما يكون عالمًا عاملاً بعلمه مرتقيًا

فيه. وناهيك إذا كان طلبه للعلم بإرادة ولي أمره، لا بإرادته الذاتية ورغبته.

أما فقيدنا اليوم فقد كانت نفسه العصامية هي الحافزة لهمته والباعثة له على

طلب العلم، وكان يقصد من العلم أن يعمل به فيفيد مالاً وجاهًا يكون به في مقدمة

أمته لا في ساقتها. ولذلك حصل بجده وقوة إرادته في الزمن القليل ما مكنه من

العمل الذي عجز عن مثله مَن هم أكثر منه تحصيلاً، وأوسع في العلوم والفنون

عرفانًا. وأمّا إذا اتفق لمثل صاحب هذه الهمة والإرادة تحصيل المقدمات تامة من

أول النشأة، فإن عمله يكون أقوم، وسيره فيه يكون أسرع وأتم.

اشتغل الفقيد عقب هجرته إلى مصر بالتحرير في جريدة يومية اسمها الزمان

نحوًا من سنة، ثم سافر مع الحملة النيلية الإنكليزية إلى السودان مترجمًا في قلم

المخابرات، وشهد بعض وقائع الحرب في السودان، ومكث هنالك عشرة أشهر،

ثم عاد وسافر إلى سورية فاشتغل فيها مدة بدراسة اللغتين العبرانية والسريانية، ثم

إلى بلاد الإنكليز، ثم عاد إلى مصر فندبه أصحاب المقتطف إلى مساعدتهم في

إدراته فتولاها سنة وأشهرًا، ثم استقال منها وانصرف بكل همته إلى التأليف فألف

تاريخ الماسونية ومختصر التاريخ العام وتاريخ مصر الحديث. ثم تولى إدارة

التعليم بالمدرسة العبيدية سنتين.

وفي أواخر سنة 1892 ميلادية أنشأ مجلة الهلال، وجعل جل عنايته فيها

بالتاريخ والأخبار العلمية، وجعل لها ذيلاً من القصص (الروايات) الغرامية

الممزوجة بتاريخ الإسلام، فظهر من خطته فيما ينشئ وينقل أنه من أقدر من

اشتغل بالصحف العربية والتأليف في هذا العصر، أو أقدرهم على جذب جمهور

القراء إلى ما يكتب، بمحاولة جعل ما يكتبه لذيذًا سهل الفهم، كالطعام اللذيذ سهل

الهضم، وكان يختار في كل وقت ما يناسبه، وفي كل حال ما يلائمه، فإذا ألمّت

ملمة، أو حدثت حادثة مهمة- كالحروب ومشاكل الدول وموت الملوك والكبراء -

بادر إلى كتابة ما يتعلق بذلك من مباحث التاريخ القديم والحديث، مزينًا له بما

يتعلق به من الصور والرسوم.

وكان سلمًا نزيه القلم، يتقي كل ما يثير غضب أصحاب المذاهب الدينية،

والأحزاب السياسية، ولكنه لم يسلم مع ذلك من اتهام بعض سيئي الظن من

المسلمين والنصارى، فقد اتهمه بعض الأولين بتعمد الطعن في الإسلام بفرية

يفتريها، أو دسيسة يدسها، وكانوا يستدلون على ذلك ببعض الأغلاط التي وقع فيها،

أو تصوير بعض المسائل بغير الصورة التي يعرفونها، لفهمها بغير الصفة التي

يفهمونها، ورد عليه بعض هؤلاء في المؤيد. وطالما رددت على بعضهم مبرئًا له

من سوء القصد، لما لي فيه من حسن الظن. وأشرت إلى ذلك في المنار غير مرة.

وقد حدثني أن بعض سيئي الظن من النصارى قد اتهمه بضد ما يتهمه به

بعض المسلمين: اتهموه بمصانعة المسلمين ومحاباتهم، ومدح الإسلام والمسلمين

تقربًا إليهم لأجل الكسب منهم. ولا يسلم من ألسنة الناس أحد، كيف وقد كفروا

بالواحد الأحد، الفرد الصمد، سبحانه وتعالى.

نعم إنه قد ظهر منه بعد الانقلاب العثماني نزعة جديدة، تقدمتها نزغة عدت

إحياء لمذهب الشعوبية: ذلك بأنه زار الآستانة ولقي فيها بعض زعماء جمعية

الاتحاد والترقي، ثم عاد متشبعًا بالنهضة التركية، مستنكرًا مجاراة العرب

لإخوانهم الترك بالقيام بنهضة عربية، مستصوبًا خطة الاتحاديين الأولى من تتريك

العناصر وإدغام العرب في الترك. وقد كتب في الهلال ما يشعر بهذه النزعة،

فهاج ما كتبه جماعات فتيان العرب في الآستانة وسورية، وكادوا يحملون عليه في

الصحف ردًّا واحتجاجًا؛ ولكن حالت دون ذلك معارضة مسموعة مقبولة.

وأما النزغة التي سبقت هذه النزعة، فهي مطاعن للفقيد في العرب أودعها

في تاريخ التمدن الإسلامي فطن لها أخيرًا من لم يكن يحفل بها. وزادهم التفاتًا إليها

ترجمة جريدة (إقدام) التركية لتاريخ التمدن الإسلامي ونشره فيها بالتتابع.

فتشاور كثير من الشبان المتعلمين في الرد على هذا التاريخ ولم يظهر منهم شيء.

ثم اتفق أن انبرى للرد عليه في هذه المسألة الأستاذ الشهير الشيخ شبلي النعماني من

أشهر علماء الهند وأوسعهم اطلاعًا في التاريخ. وكتب إلينا هذا الأستاذ الكبير وهو

صديقنا وصديق فقيدنا المردود عليه يخبرنا بما شرع فيه من الرد، ويقترح علينا

أن ننشر رده في المنار، ولما كنا نعهد من الفقيد تلقي الانتقاد عليه بسعة الصدر؛

بل عهدنا منه مطالبة الكتاب بهذا الانتقاد - ونعلم أن الأستاذ الشيخ شبلي النعماني

صديقه - ونرى أن تمحيص هذه المسألة أصبح ضروريًّا - بادرنا إلى نشر الرد من

غير أن نقرأه؛ بل نشر في أثناء رحلتنا الهندية، ثم قرأناه بعد عودتنا من الهند

وعمان والعراق وسورية، فرأيناه فوق ما كنا نظن من شدة الرد، ورمي الفقيد بسوء

القصد. وكنا علمنا من المنتقد عند لقائه في الهند أنه كان يرى بعض الغلط في

تاريخ التمدن الإسلامي وغيره من مؤلفات صاحبه فيحمله على الخطأ أو سوء الفهم،

ولكنه لما قرأ مجموع طعنه في العرب جزم بأنه صادر عن سوء قصد. فهذا

سبب شدة حملته عليه، على ما كان من مودته له. وقد كتبنا مقدمة لانتقاد الشيخ

شبلي إذ طبع على حدته بينا فيها ذلك، وإننا لو اطلعنا على ما فيه من الشدة قبل

نشره، لراجعنا الكاتب فيه واستأذناه بحذف الطعن الشخصي منه، وقد نشرنا تلك

المقدمة في المنار تعزيزًا لدفاعنا السابق بالقلم واللسان، عن رجل عددناه صديقًا لنا،

وعضوًا نافعًا في أمتنا، على أننا لم نسلم مع ذلك من سوء ظنّه فينا:

ثقلت وطأة رد الشيخ شبلي النعماني على الفقيد لشدته؛ ولأنه كان يعده من

أصدقائه، وأثنى عليه غير مرة في هلاله، فلم يصدق أولاً أنه هو المنتقد، واتهمنا

بذلك، وكتب إلى الشيخ شبلي كتابًا ذكر فيه ذلك، راجيًا أن يكتب إليه متنصلاً منه

ليبين ذلك في الهلال، ويظهر أن النقد لصاحب المنار! ! وقد أطلعني الأستاذ

الشيخ شبلي على كتابه ذاك في (لكهنؤ) أيام كنت فيها، ورأيته متعجبًا منه، فكان

عجبي أشد من عجبه. وقد ذكرت للفقيد ذلك معاتبًا، فكان حقي عليه في سوء ظنه

بي، أكبر من حقه علي في نشر النقد - وقد نشر في غيبتي.

وقد اتفق لي مثل هذا مع كاتب سوري آخر، كانت حقوق الصحبة بيني

وبينه أقوى منها بيني وبين جرجي بك زيدان، وكنت أثني عليه للأستاذ الإمام

وأستميله لمساعدته، فكتب إلى الأستاذ كتابًا يطعن بي فيه، ويتهمني بتنفير الأستاذ

عنه، والطعن فيه عنده، فتعجب الأستاذ من أمري وأمره! !

أما مؤلفاته فهي مطبوعة مشهورة وهاك أسماؤها:

1-

التاريخ العام.

2-

تاريخ مصر الحديث، جزآن.

3-

تاريخ التمدن الإسلامي، خمسة أجزاء.

4-

تاريخ العرب قبل الإسلام، جزء واحد.

5-

تاريخ الماسونية العام، جزء واحد.

6-

تاريخ اليونان والرومان، جزء واحد صغير.

7-

تاريخ إنكلترا والرومان، لم نره.

8-

تاريخ اللغة العربية، لم نره.

9-

تاريخ آداب اللغة العربية (4) أجزاء.

10-

الفلسفة اللغوية، جزء صغير.

11-

أنساب العرب القدماء، جزء صغير.

12-

علم الفراسة الحديث، جزء صغير.

13-

طبقات الأمم، جزء صغير.

14-

عجائب الخلق.

(15- 36 قصص (روايات) منها (18) قصة تتعلق بتاريخ الإسلام

وثلاث تتعلق بتاريخ مصر، وواحدة غرامية محضة.

وأما أخلاقه وشمائله فقد كان أديب النفس، نزيه اللسان والقلم، بشوش الوجه

معتصمًا بحبوة الجد، متنزهًا عن اللغو والعبث، محبًّا للنظام، حفيًّا بالأهل،

وصولاً للرحم، محبًّا للقريب.

ورأيي فيه أن عقله كان أكبر من عمله، ومن فضل عقله على علمه حسن

اختيار ما كان يكتب، وحسن ترتيبه وتبويبه، فقد كان في هذا - وهو من ثمرات

العقل - أبرع منه في تحرير المباحث وتنقيحها، وتمحيص الحقائق بالقول الفصل

فيها. وسبب ما انتقد وما ينتقد من الغلط على كتبه بحق، هو أنه كان يقدم على

الكتابة في مباحث لم تسبق له دراستها، معتمدًا على مراجعتها من مظانها عند

الحاجة إليها، ومن كان يكتب المقالة في يوم أو أيام أو ساعة أو ساعات؛ لأجل أن

تنشر في مجلة شهرية، ويؤلف الكتاب في عدة أشهر؛ لأنه وعد بنشره في وقت

معين من السنة، قلما يستطيع أن يجمع بين المواد وتنسيقها وترتيبها، وبين

تمحيص الحقائق فيها وتحريرها. ولعمر الإنصاف أنه ليقل من يستطيع كتابة تلك

الكتب في مثل الزمن الذي كتبها فيها مصنفها، وهل وجد في أمتنا كثير من أمثال

من فقدته اليوم؟

وقد ترك للأمة ما يعزيها عنه - تلك المصنفات الجامعة بين الفائدة واللذة،

ونجله النجيب أميل زيدان الذي أحسن تعليمه وتربيته. وقد رأى قراء الهلال من

آثار قلمه فيه، ما يبشر باستمرار بزوغه عليهم ما داموا مقبلين عليه موازرين له،

(ولا غَرْو أن يحذو الفتى حذو والده) .

_________

ص: 628

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تفسير

] لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ [[*]

(س20) من صاحب الإمضاء في بركة السبع (مصر) .

فضيلة الأستاذ: السلام عليكم ورحمة الله؛

لي الشرف الرفيع والقدح المعلى بمثول مسطوري بين يديكم، وإنني وإن لم

أحظ من الأستاذ بالمعرفة الشخصية فقد عرَّفتني به آدابه الجمة، وهداني إليه منار

علمه الغزير، ومشكاة فضله العميم، ولا غَرو بعدُ إذا رفعت هذا إليكم مستفتيًا عن

الآتي: جاء في كتاب (الإسلام دين الفطرة) للأستاذ المفضال (الشيخ عبد العزيز

شاويش) تنديد على بعض مفسري الزمن الغابر.

نرى فضيلته قد ذهب مذهبًا غير الذي ذهب إليه المفسرون كالجلالين والنسفي

وغيرهما. ولقد جاء في كلامه المنشور على (ص 33و44) من الكتاب المشار

إليه في تفسير الآية التالية ما لا يتفق مع السابقين:

{عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الكَبِيرُ المُتَعَالِ * سَوَاءٌ مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ القَوْلَ وَمَن جَهَرَ

بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ * لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ

يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} (الرعد: 9-11) فسر الأوائل المعقبات بالملائكة

تتعاقب على العبد ليل نهار. ورووا في ذلك حديثًا عن كنانة العدوي قال: دخل

عثمان بن عفان على رسول الله فقال: أخبرني عن العبد كم معه من ملك. قال (ملك

على يمينك على حسناتك وهو أمين على الذي على الشمال. وملكان من بين يديك

ومن خلفك، يقول الله: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ

اللَّهِ} (الرعد: 11) وملك قابض على ناصيتك فإذا تواضعت لله رفعك، وإذا

تجبرت على الله قصمك، وملكان على شفتيك ليس يحفظان عليك إلا الصلاة على

محمد عليه الصلاة والسلام، وملك على فيك لا يدع الحية تدخل إليه وملكان

على يمينك. فهؤلاء عشرة أملاك على كل آدمي ينزلون وملائكة النهار فهؤلاء

عشرون ملكًا على كل آدمي وإبليس بالنهار وولده بالليل) . اهـ.

وفسَّر الشيخ شاويش المستخفي بالليل والسارب بالنهار فقال إنهما المتخذان

لهما حرسًا وجلاوزة، إلخ وهنا يتضح من سياق كلامه أنه جحد وجود ملائكة

تحفظ العبد، وصفوة القول إني حيال هذه التفاسير المتضاربة وتلك الآراء المتباينة

كريشة في مهب الرياح.

بيد أن تقتي بكم واعتمادي على علو كعبكم في العلوم الدينية سيدنيان مني

الغرض ويقصيان عني الريب.

وها أنا (ذا) على أحر من الجمر، حتى يرد عليَّ القول الفصل، وما هو

شفاء للصدور. ورجائي أن تشمل الإجابة الأسئلة الآتية:

(1)

أي الطرفين أصاب وما وجه إصابته وأيهما الجدير بالاتباع.

(2)

لم لا يعود الضمير في قوله تعالى: (له معقبات) على من ذكر اسم

الله كقول المفسرين ولم لا أثر لذلك في الآية أصلاً كرأي فضيلة الشيخ شاويش؟

(3)

ما هو تفكيك نظام الآية الذي جاء به المفسرون وكيف قطعوا الحال

من صاحبها وفرّقوا بين الأجزاء التي تتألف منها؟

(4)

كذب الشيخ شاويش الحديث. وبأي وجه يحتمل تكذيبه له مع أن راويه

البخاري وهو كما تعلم من رؤوس الرواة وأصحها سندًا؟

المخلص محمد السيد الجارحي

(ج) اختلف مفسرو السلف في المعقبات هنا فأخذ الشيخ عبد العزيز

شاويش بما أعجبه، وشنع على من قالوا بغيره، وما كان ينبغي له ذلك - وقد ذكر

الحديث المرفوع فيه - وإننا لم نطلع على ما كتبه، ويظهر مما كتبه السائل أنه رد

الحديث من غير أن يبني رده على علَّة فيه أوطعن في سنده. وأن عبارته توهم أن

ما اعتمده في تفسير المعقبات مما استنبطته قريحته الوقادة وكان دليلاً على تفضيل

الأواخر على الأوائل! وقد عهدنا منها في مجلته رد الأحاديث الصحيحة المتفق

عليها إذا لم يعجبه معناها. وحديث كنانة العدوي في تفسير المعقبات ليس في

الصحيحين، وقد عزاه في الدر المنثور إلى ابن جرير، وخرجه ابن جرير في

تفسيره بسند ضعيف قال: (حدثني المثنى قال: حدثنا عبد السلام بن صالح القشيري

قال: ثنا علي بن حرب عن حماد بن سلمة عن عبد الحميد بن جعفر عن كنانة

العدوي) وذكره. وعبد السلام بن صالح اختلفوا فيه فقالوا: إنه يروي المناكير

واتهمه بعضهم بالوضع، ولكن أنكر الحافظ قول العقيلي فيه: إنه كذّاب. وفي

غيره من رجال السند مقال لا محل لبسطه. ولو صحّ هذا السند عن ابن جرير

لما رجح عليه غيره. وقد روي عن ابن عباس أنه قال في تفسير المعقبات: يعني

السلطان يكون عليه الحرّاس يحفظونه من بين يديه ومن خلفه، إلخ. كذا في

الدر المنثور. وفي تفسيره بسنده عنه قال: ذكر ملكًا من ملوك الدنيا له حرس من

دون حرس. وفي رواية أخرى له عنه قال: يعني ولي الشيطان يكون عليه

الحرس. وروى أيضًا عن عكرمة أنه قال في أصحاب المعقبات: هم هؤلاء

الأمراء. وقال في رواية أخرى أنه قال في المعقبات: المواكب من بين يديه ومن

خلفه. قال ابن جرير بعد ما روى القولين في المعقبات عن ابن عباس وعن غيره:

(وأولى التأويلين في ذلك بالصواب قول من قال: الهاء في قوله: (لَهُ

مُعَقِّبَاتٌ) [راجع إلى](من) التي في قوله: (وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ

بِالنَّهَارِ) ، وأن المعقبات من بين يديه ومن خلفه هي حرسه وجلاوزته. كما

قال ذلك من ذكرنا قوله، وإنما قلنا إن ذلك أولى التأويلين بالصواب؛ لأن قوله:

(لَهُ مُعَقِّبَاتٌ) أقرب إلى قوله: (وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ) منه إلى قوله:

(عَالِمُ الغَيْبِ) فهي لقربها منه أولى بأن تكون من ذكره (فيها) وأن يكون المعني

بذلك، هذا مع دلالة قول الله:{وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلَا مَرَدَّ لَهُ} (الرعد:

11) على أنهم هم المعنيون بذلك. وذلك أنه جل ثناؤه ذكر قومًا أهل معصية له

وأهل ريبة يستخفون بالليل ويظهرون بالنهار، ويمتنعون من عند أنفسهم بحرس

يحرسهم ومنعة تمنعهم من أهل طاعته أن يحولوا بينهم وبين ما يأتون من معصية

الله، ثم أخبر أن الله تعالى ذكره إذا أراد بهم سوءًا لم ينفعهم حرسهم ولا يدفعهم عنهم

حفظهم. اهـ ما قاله وهو الذي نختاره.

أما حديث أبي هريرة في الصحيحين والنسائي فهذا نصه: (يتعاقبون فيكم

ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر. ثم

يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم - وهو أعلم بهم - كيف تركتم عبادي؟

فيقولون: تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون) ورواه البزار بلفظ: (إن

لله ملائكة يتعاقبون فيكم: ملائكة بالليل وملائكة بالنهار) إلخ. فأنت ترى أنه

لم يرد تفسيرًا للآية.

ولا أدري أكذب عبد العزيز شاويش هذا الحديث وأنكر أن يكون في الملائكة

حفظة يتعاقبون في المكلفين؟ أم أنكر أن يكون ذلك هو المراد من الآية؟ ظاهر

عبارة السؤال: الأول، ولا يبعد ذلك على هذا الرجل فقد عُهد منه مثله، ولا عبرة

بقوله، فلا هو من أهل العلم بالحديث رواية ولا دراية، ولا بغير الحديث من علوم

الدين، ولكن له مشاركة في الفنون العربية وبعض العلوم العصرية، فتصدى بذلك

للتشبه بالمصلحين الذين يجمعون بين الدين والعقل، فتجرأ على رد الأحاديث

الصحيحة بغير علم. وقوله هو المردود. وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم هو

المقبول. ولعل ما ذكرناه يغني عن بقية مباحث السؤال اللفظية غير الواضحة.

_________

(*)(الرعد: 11) .

ص: 655

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌السبي والرق في التوراة والإنجيل

(س21) من صاحب الإمضاء في الكويت.

حضرة الأستاذ السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار الأغر.

نرجو من فضلكم تبيين حكم السبي في الشرائع القديمة هل هو مشروع فيها أم

لا؟ وهل له ذكر في هذه الأناجيل وهذه التوراة الموجودة في أيدي الناس اليوم

إثباتًا أو نفيًا أم لا؟ وما هو أحسن جواب للمعترضين به على الدين الإسلامي

بدعوى أنه من الهمجية أو أنه ينافي الإنسانية أو ما أشبه ذلك من العبارات.

وكيل المنار

سليمان العدساني

(ج) يؤخذ من أسفار العهد القديم التي يسمونها التوراة أن السبي والرق كان

مشروعًا على عهد الأنبياء السابقين إبراهيم صلى الله عليه وسلم فمن بعده (راجع

سفر التكوين 14: 14) وأن شريعة موسى تقضي بأن يستأصل الإسرائيليون

الأمم التي يغلبونها في الأرض المقدسة التي أُعْطوها فلا يُبقوا من أهلها صغيرًا ولا

كبيرًا. وأن يسبوا مَن غلبوهم في غير تلك الأرض. وللسبايا والعبيد والإماء من

العبرانيين وغيرهم أحكام متفرقة في سفر الخروج وسفر اللاويين وسفر التثنية.

ومنها أنه شرع لهم تحرير العبراني دون الغريب، وكذلك يجب الرفق بالعبراني

منهم دون غيره.

ومن نصوص سفر اللاويين في ذلك ما جاء في الفصل الخامس عشر منها

وهو مما ذكروه من كلام الرب لموسى بعد توصية الإسرائيلي بأخيه إذا بيع له لفقره

قال: (44 وأما عبيدك وإماؤك الذين يكونون لك فمن الشعوب الذين حولكم، منهم

تقتنون عبيدًا وإماءً 45 وأيضًا من المستوطنين النازلين عندكم. منهم تقتنون ومن

عشائرهم الذين يلدونهم في أرضكم فيكونون ملكًا لكم 46 وتستملكونهم لأبنائكم من

بعدكم ميراث ملك تستعبدونهم إلى الدهر. وأما إخوتكم بنو إسرائيل فلا يتسلط

عليهم أحد بعنف) .

والظاهر من هذه العبارة أنه لا يجوز عتق العبد الغريب عندهم، وأما

العبراني فيعتق سنة اليوبيل عندهم إلا إذا أحب هو أن يبقى رقيقًا، فعند ذلك تثقب

أذنه ويبقى عبدًا إلى الأبد. وأن لاستعباد العبراني عندهم ثلاثة أسباب: الفقر،

والسرقة إذا لم يجد السارق قيمة المسروق، وبيع الوالد بنته لتكون سرية.

فإذا تم للصهيونيين ما يريدون من امتلاك فلسطين وأقاموا شريعتهم فيها فإنهم

يستأصلون أهلها ويستعبدون جميع من يقدرون على استعباده من جيرانهم إلى

الأبد.

ولا يرضون أن يكون لأحد معهم حق ولا ملك، دع الملك الذي صرح سفر

التثنية فيه بأنه لا يحل للإسرائيلي أن يجعل عليه ملكًا أجنبيًّا ليس هو أخاه؛

(راجع 17: 13و15) .

وفي الفصل العشرين من سفر التثنية ما نصه: (10 حين تقرب من مدينة

لكي تحاربها استدعها إلى الصلح 11 فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك فكل الشعب

الموجود فيها يكون لك للتسخير والسبي ويستعبد لك 12 وإن لم تسالمك بل عملت

معك حربًا فحاصرها 13 وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد

السيف 14 وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة كل غنيمتها فتغنمها

لنفسك وكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك 15 هكذا تفعل بجميع المدن

البعيدة منك جدًّا التي ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا، وأما مدن هؤلاء الشعوب

التي يعطيك الرب إلهك فلا تَسْتَبْقِ منها نسمة ما) .

تأملوا! تأملوا أيها المنصفون ما أشد ظلم الذين ينتقدون الإسلام وهم يدعون

الإيمان بالتوراة! فالقرآن يأمر المسلمين إذا أثخنوا في مقاتليهم، وظهرت لهم الغلبة

عليهم أن يكفوا عن القتل، ويكتفوا بالأسر، ثم شرع لهم في الأسرى أن يمنوا

عليهم بالعتق فضلاً وإحسانًا، أو يفادوهم إن احتاجوا إلى ذلك، كما قال {حَتَّى إِذَا

أَثْخَنتُمُوَهُمْ فَشُدُّوا الوَثَاقَ فَإِمَّا مَناًّ بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الحَرْبُ أَوْزَارَهَا} (محمد: 4) .

وإذا تزوج الإسرائيلي امرأة من السبايا يشرع له أن يكرمها لإذلاله لها. كما

في الفصل الحادي والعشرين من سفر التثنية، وهذا التكريم هو أن يتركها لنفسها

إذا لم يُسَرّ بها ولا يبيعها ولا يسترقها.

أما الإنجيل فقد أقر الإسرائيلين على الرق كما أقر الرومانيين ولم يأمر السادة

بالعتق ولا بالرفق؛ بل أوصى العبيد بالخضوع والطاعة بغير شرط ولا قيد.

ومن وصايا بطرس في رسالته الأولى: (أيها الخدام كونوا خاضعين بكل هيبة

للسادة ليس للصالحين المترفقين فقط، بل للعنفاء أيضًا) إلخ. ومن وصايا بولس

في رسالته إلى أهل أفسس (6: 5 أيها العبيد أطيعوا سادتكم حسب الجسد بخوف

ورعدة في بساطة قلوبكم للمسيح) وفي رسالته إلى أهل كولوسي (3: 22

أيها العبيد أطيعوا في كل شئ سادتكم حسب الجسد) .

وقد شرحنا في عدة مجلدات من المنار عدل الإسلام ورحمته وحكمته في

تخفيف وطأة الرق التي كانت عند جميع الأمم والملل وتمهيده السبيل إلى تحريره،

فهو لم يوجب الاسترقاق كما كان يوجبه بعض الملل، ولكنه أباحه لأن المصلحة،

قد تقتضيه حتى لمصلحة السبايا؛ إذ كانت طبيعة العمران - ولا تزال - في

بعض البلاد على غير ما هي عليه الآن في ممالك الحضارة. فإذا قتل رجال قبيلة

وبقي نساؤهم وأطفالهم ما كانوا يجدون من يكلفهم وينفق عليهم، ففي مثل هذه

الحال قد يكون الاسترقاق خيرًا لهم، إذا كان كاسترقاق الإسلام يهدي إلى إطعام

الأرقاء مما يأكل منه السادة وإلباسهم كما يلبسون وعدم تكليفهم ما لا يطيقون.

وعدم إهانتهم حتى بالتعبير عنهم بلقب العبد والأَمة. وناهيك بما شرعه من الأسباب

الموجبة لإعتاقهم. وقد فصّلنا ذلك في مواضع من مجلدات المنار كما قلنا آنفًا

فراجع الفهارس تجد ذلك مفصلاً، وتجد حجة الإسلام قائمة على جميع الخلق ولا

سيّما اليهود والنصارى منهم.

_________

ص: 658

الكاتب: الذهبي

‌أقوال علماء القرن الثالث الأثبات

في عقيدة السلف وإثبات الصفات

(1)

لما ظهرت بدعة الجهمية في إنكار صفات الله عز وجل، وتأويل ما ورد منها

في الكتاب والسنة - هَبَّ حفظة الدين وحملته من التابعين ومن بعدهم للرد عليهم،

وتفنيد تأويلاتهم، والاستمساك بعروة النقل، حذرًا من تحريفها بنظريات العقل،

التي ينخدع بها بعض القاصرين، توهمًا أنها من قطعيات البراهين، وإننا ننقل من

كتاب العلو للذهبي (الذي يطبع في مطبعة المنار) بعض أقوال الأئمة المتبوعين،

الذين جهل أقوالهم من يجلهم من المعاصرين، ولكن الذهبي ينقل في هذا الكتاب ما

صح وما لم يصح، ويشير إلى ضعف الرواية الضعيفة أو نكارتها غالبًا على أن

من غلاة الأثريين من يقبل كل ما روي في ذلك، قال:

... طبقة الشافعي وأحمد رضي الله عنهما

روى شيخ الإسلام أبو الحسن الهكاري والحافظ أبو محمد المقدسي بإسنادهم

إلى أبي ثور وأبي شعيب، كلاهما عن الإمام محمد بن إدريس الشافعي ناصر

الحديث رحمه الله قال: القول في السنة التي أنا عليها، ورأيت عليها الذين

رأيتهم مثل سفيان ومالك وغيرهما: إقرار بشهادة لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله

، وأن الله على عرشه في سمائه، يقرب من خلقه كيف شاء، وينزل إلى

السماء الدنيا كيف شاء. وذكر سائر الاعتقاد.

وبإسناد لا أعرفه عن الحسين بن هشام البلدي قال: هذه وصية الشافعي،

أنه يشهد أن لا إله إلا الله. فذكر الوصية بطولها، وفيها: القرآن غير مخلوق،

وأن الله يُرى في الآخرة عيانًا ويسمعون كلامه، وأنه تعالى فوق العرش.

إسنادهما واهٍ.

قال الحاكم: سمعت الأصم يقول، سمعت الربيع، سمعت الشافعي وقد روى

حديثًا فقال له رجل: تأخذ بهذا يا أبا عبد الله؟ فقال: إذا رويت حديثًا عن رسول

الله صلى الله عليه وسلم فلم آخذ به فأشهدكم أن عقلي قد ذهب.

***

ابن خزيمة وعدة

سمعت يونس يقول قال الشافعي: لا يقال للأصل لم ولا كيف.

أبو ثور وغيره قالا: سمعنا الشافعي يقول: ما ارتدى أحد بالكلام فأفلح.

وقال الربيع: سمعت الشافعي يقول: المراء في الدين يقسي القلب ويورث

الضغائن. وعن يونس بن عبد الأعلى: سمعت الشافعي يقول: لله تعالى أسماء

وصفات لا يسع أحدًا قامت عليه الحجة ردها. قال ابن أبي حاتم: سمعت الربيع بن

سليمان، يقول: سمعت الشافعي يقول: من حلف باسم من أسماء الله فحنث فعليه

الكفارة؛ لأن اسم الله غير مخلوق، ومن حلف بالكعبة وبالصفا والمروة فليس عليه

كفارة لأنها مخلوقة.

(قلت) : تواتر عن الشافعي ذم الكلام وأهله، وكان شديد الاتباع للآثار في

الأصول والفروع. مات في رجب سنة أربع ومائتين بمصر كهلاً، عاش أربعًا

وخمسين سنة.

***

القعنبي ذاك الإمام

قال بنان بن أحمد: كنا عند القعنبي رحمه الله فسمع رجلاً من

الجهمية يقول {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) فقال القعنبي: من

لا يوقن أن الرحمن على العرش استوى كما يقر في قلوب العامة فهو جهمي.

أخرجها عبد العزيز القحيطي في تصانيفه. والمراد بالعامة عامة أهل العلم، كما بيناه

في ترجمة يزيد بن هارون إمام أهل واسط. ولقد كان القعنبي من أئمة الهدى، حتى

لقد تغالى فيه بعض الحفاظ وفضله على مالك الإمام، توفي سنة إحدى وعشرين

ومائتين عن بضع وثمانين سنة، وهو أكبر شيخ لمسلم مطلقًا.

***

عفان أحد أعلام السنة

قال ابن أبي حاتم: ثنا يحيى بن زكريا بن عيسى: حدثني يحيى بن أبي بكر

السمسار، سمعت عفان بن مسلم بعد ما جاء من دار إسحاق بن إبراهيم لما امتحنه

في القرآن فقال: إنه كتب إليّ أن أدرّ أرزاقك إن أجبت إلى خلق القرآن. فقلت:

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللهِ} (الفتح: 15) {لَا إِلَهَ

إِلَاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (البقرة: 256){قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإِخلاص: 1)

أمخلوق هذا؟ أدركت شعبة وحماد بن سلمة وأصحاب الحسن يقولون: القرآن كلام

الله ليس مخلوقًا. قال: إذًا تقطع أرزاقك. قلت: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُون َ} (الذاريات: 22) قيل: كان رزقه في الشهر ألف درهم فترك ذلك لله عز وجل،

توفي سنة تسع عشرة ومائتين.

***

عاصم بن علي شيخ البخاري

روينا عن عاصم بن علي بن عاصم الواسطي قال: ناظرت جهمًا فتبين من

كلامه أنه لا يؤمن أن في السماء ربًّا. قلت: كان عاصم حافظًا من أوعية العلم

صادقًا، حمل عن شعبة وابن أبي ذئب وخَلق. ذكر الخطيب في ترجمته أن

المعتصم وجه من يحزر مجلس عاصم هذا في رحبة جامع الرصافة، وكان يجلس

على سطح الرحبة ويجلس الخلق في الرحبة وما يليها، فعظم الجمع مرة حتى قل

أربع عشرة مرة. ثنا الليث بن سعد، والناس لا يسمعون لكثرتهم وكان

المستملي هارون يركب نخلة يستملي عليها، فحزروا الجمع فكان عشرين ومائة

ألف. وقال يحيى بن معين: عاصم بن علي سيد المسلمين. قلت: مات مع القعنبي

في سنة (أي سنة 221) .

***

الحميدي

أخبرنا إسماعيل بن عبد الرحمن المعدل أنبأ عبد الله بن أحمد الفقيه سنة سبع

عشرة وستمائة أنبأ سعد الله بن نصر أنبأ أبو منصور الخياط أنبأ عبد الغفار بن

محمد أنبأ أبو علي الصواف أنبأ بشر بن موسي الحميدي قال: أصول السنة عندنا

فذكر أشياء، ثم قال: وما نطق به القرآن والحديث مثل: {وَقَالَتِ اليَهُودُ يَدُ

اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} (المائدة: 64) ومثل قوله {وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ

بِيَمِينِهِ} (الزمر: 67) وما أشبه هذا من القرآن والحديث، لا نزيد فيه ولا

نفسره، ونقف على ما وقف عليه القرآن والسنة ونقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ

اسْتَوَى} (طه: 5) ومن زعم غير هذا فهو مبطل جهمي.

كان العلامة أبو بكر عبد الله بن الزبير القرشي الأسدي الحميدي مفتي أهل

مكة وعالمهم بعد شيخه سفيان بن عيينة، حدث عنه البخاري والكبار. مات سنة

تسع عشرة ومائتين.

***

عالم المشرق يحيى بن يحيى النيسابوري

قال ابن منده: أنبأ محمد بن يعقوب الشيباني ثنا محمد بن عمرو بن النضر

ثنا يحيى بن يحيى قال: كنت عند مالك فجاءه رجل فقال: يا أبا عبد الله {الرَّحْمَنُ

عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) فأطرق ثم قال: الاستواء غير مجهول،

والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. وقال ابن أبي حاتم:

سمعت مسلم بن الحجاج: سمعت يحيى بن يحيى يقول: من زعم أن من القرآن من

أوله إلى آخره آية منه مخلوقة فهو كافر. كان يحيى بن يحيى إليه المنتهى في الإتقان

والورع والجلالة بنيسابور، قل أن ترى العيون مثله، حمل عن مالك وخارجة بن

مصعب والكبار، ومات سنة ست وعشرين ومائتين.

***

عالم الري هشام بن عبيد الله الرازي

قال ابن أبي حاتم: ثنا علي بن الحسن بن يزيد السلمي سمعت أبي يقول:

سمعت هشام بن عبيد الله الرازي - وحبس رجلاً في التجهم فجيء به إليه ليمتحنه -

فقال له: أتشهد أن الله على عرشه بائن من خلقه؟ فقال: لا أدري ما بائن من

خلقه، فقال: ردوه فإنه لم يتب بعد.

كان هشام بن عبد الله من أئمة الفقه على مذهب أبي حنيفة، تفقه على محمد

ابن الحسن، كان ذا جلالة عجيبة وحرمة عظيمة ببلده، توفي سنة إحدى وعشرين

ومائتين.

ابن أبي حاتم: حدثنا أبو هارون محمد بن خلف الجزار: سمعت هشام بن

عبيد الله يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق: قال له رجل: أليس الله تعالى يقول:

{مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ} (الأنبياء: 2) ؟ فقال: محدث إلينا وليس

عند الله بمحدث.

قلت:لأنه من علمه وعلمه قديم فعلم عباده منه. قال تعالى:

{الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ القُرْآنَ} (الرحمن: 1-2) فالمقري يلقن الختمة مائة نفس

ومائتين فيحفظونه وهو لا ينفصل عنه منه شيء، كسراج أوقدت منه سرجًا ولم

يتغير.

***

فقيه المدينة عبد الملك بن الماجشون

قال ابن أبي حاتم: ثنا يحيى بن زكريا بن عيسى ثنا هرون بن موسى الفروي

قال: ما سمعت الكلام في القرآن إلا سنة تسع ومائتين، جاء نفر إلى عبد الملك بن

الماجشون وكلموه فأنكر ذلك عليهم، فكان في بعض ما كلمهم به أن قال: {قُلْ هُوَ

اللَّهُ أَحَدٌ} (الإِخلاص: 1) أهذا مخلوق؟ ثم قال: لو أخذت بشرًا المريسي

لضربت عنقه.

كان عبد الملك من أَجَلِّ تلامذة مالك، وكان أبوه عبد العزيز بن الماجشون

يفتي مع مالك في دولة المهدي، توفي عبد الملك في سنة أربع عشرة ومائتين.

(المنار)

سننشر طائفة أخرى من نقول هذا الكتاب، ونبين أن مذهب

السلف هو الموافق للعقل السليم دون مذهب الجهمية.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 661

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الطامة الصغرى أو الحرب الكبرى

{قُلْ هُوَ القَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ

يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} (الأنعام: 65) [.

{إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} (العلق: 6-7) وإنه ليبغي أن

رآه اعتز واستعلى، وإن مدّ الطغيان لإلى جزر، وإن غناه لإلى فقر، وإن البغي

مصرعه وخيم، وإن علوّ الجبارين لإلى هبوط ذميم.

كانت المسألة الشرقية فزّاعة أوربا إذا فزعت من سوء العواقب، ومشأمتها إذا

تطيرت من أمارات النوائب، وكانت ترى أن مشكلتها أعقد من ذَنَب الضَّب، وأن

حلها أعسر من تربيع الدائرة. وقد أنذرها داهية ساستها (البرنس بسمارك) بأن

شرارة واحدة من نار حرب بلقانية تكفي لإحراق ممالك أوربة كلها، ولكنهم تماروا

بالنذر، وغرهم ما كانوا يسمونه التوازن الأوربي بين وفاق مثلث وحلاف مثلث.

وألفت دولة الروسية بين المختلفين من الدول البلقانية، فجعلت البلغار واليونان

والصرب والجبل الأسود إلبًا واحدًا على الدولة العثمانية. بعد أن أغارت إيطاليا

على مملكة كبيرة من ممالكها وهي طرابلس الغرب وبرقة.

ثم سمحت الدول الكبرى كلها للبلقانيين بقتال الدولة العثمانية، ولكنهن

صرحن بأنهن لا يسمحن بتغييرٍ ما في خريتة البلقان؛ لأن التنازع على تلك

الأرض مثار البغي والعدوان، فاشتعلت نيران الحرب، وأظهر البلقانيون فيها من

القسوة والوحشية والفظائع والفواحش ما لا مزيد عليه، ولم ينبض في قلوب رجال

الدول الكبرى عِرق من عروق الرأفة والرحمة، ولا احتج أحد منهم على تلك

المذابح والفظائع بكلمة، وإنما كان همهم محصورًا في حصر الحرب في البلقان،

ومنع شررها أن يصل إلى ممالكهم الكبار.

ثم شرع البلقانيون في قسمة ما استولوا عليه من البلاد العثمانية، فسمحت لهم

الدول بذلك متناسية وعدها بعدم السماح. فوقع بينهم التنازع والتقاطع، وحل

الخلاف محل الحلاف، ولم يُرضهم ما حكم به في القسمة مؤتمر السفراء، فأوقدوا

نار القتال بينهم، ونقضوا ما أبرمته الدول لهم. ثم دخلت رومانية في الأمر معهم،

وضربت من الغنيمة بسهم، وكانت القسمة ضئزى، غبن بها البلغار، وكان القدح

المعلى لليونان، واغترّت الصرب أي اغترار، وكانت النمسة مسعر نار الفتنة

بينهن، لتأمن مغبة اغترار الروسية بهن.

وقعت الواقعة، وفتح باب المسألة الشرقية، وسوَّل الغرور للدول الكبرى

عملها، وظنت أن ساستها قدروا بدهائهم على حصر نيرانها في مواقدها، ومنع

شررها أن يتعدى إلى ما حولها، وأن أوربة المملوءة من البارود والديناميت، أمنت

أن تصيبها الشرارة التي أنذرها بسمرك فيعمها الحريق. ونسوا عدل الله العام في

جميع الأمم والأقوام، وأنه يعاقب المقر للشر كمجترحه، ويجزى الساعي بالخير

كفاعله {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} (الزمر: 47) .

غرَّ الصرب ما أوتيت من نصر ومن سعة في الملك، ومن عود الصربيين

العثمانيين إليها، فطمعت في صرب النمسويين وفيما يسكنونه من البلاد أيضًا،

فزادت جمعياتها السرية الساعية إلى ذلك جرأة وإقدامًا، حتى اغتال بعض الفدائيين

منهم ولي عهد النمسة وقرينته في 28 يونيو الماضي، في مدينة بوسنة سراي

عاصمة البوسنة عند زيارتهما لها. وقد ثبت لدى حكومة النمسا والمجر أن هذه

الجناية كانت إثر مكيدة دبرت في بلغراد عاصمة الصرب. وأن بعض الضباط

وعمال الحكومة من الصربيين هم الذين أعطوا الجناة ما كان معهم من السلاح

والقذائف النارية، وكلهم من جمعية صربية ثورية. فأرسلت حكومة النمسة والمجر

بلاغ تهديد وإنذار لحكومة الصرب اشتمل على ما يرهقها ويذلها.

فما كلفتها إياه تصريحًا أو ضمنًا أن تعترف باشتراك بعض ضباطها وموظفيها

في جناية قتل ولي العهد وزوجه، وتتبرأ من عملهم وتصرح بالأسف لوقوعه، وأن

تنشر الاعتراف والبراءة في جريدتها الرسمية وجريدتها العسكرية، وأن تتبرأ من

أعمال الجمعيات الصربية المحرضة على عداوة النمسة، وأن تحل جمعية (نارونا)

أو (إبرانا) وأن تضبط جميع المطبوعات الصربية المشتملة على التحريض

على النمسة والتنفير منها لهذا الجمعية ولغيرها، وأن تعزل جميع الضباط

والمستخدمين الذين تثبت لدى حكومة النمسة تهمة تحريضهم على عداوتها - وأن

تعاقب الشركاء في جناية اغتيال ولي العهد من الصربيين المقيمين في بلادهم،

ومنهم بعض الضباط والموظفين المعينين بأسمائهم، ومنها أن تحذف من كتب

التعليم كل ما يعد دعوة إلى معاداة النمسة، وتعزل المعلمين الذين يبثّون هذه الدعوة،

ومنها أن تمنع تهريب السلاح والمواد المفرقعة إلى ما وراء الحدود، ومنها أن

تقبل من تندبهم حكومة النمسة لمساعدة حكومة الصرب على تنفيذ هذه الاقتراحات.

كتب إنذار النمسة في 23 يوليو الماضي، وكلفت الصرب أن تجيب عنه في

مدة 48 ساعة. أما الصرب فلم تقبل مطالب النمسة، وبلغت الدول الإنذار وطلبت

منها التوسط في الأمر، وأما الدول فقد اختلف رأيهم: فروسيّة عدَّت

بلاغ النمسا وسيلة منها إلى قتال الصرب وإذلالها، وصرّحت بأنها لا تسكت

على ذلك، وبادرت إلى مذاكرة فرنسا وإنكلترا ومطالبتهما بالاتحاد معها على الحرب

والقتال، فأسرعت فرنسا إلى وعدها بالقيام بجميع عهودها التي تفرضها عليها

المحالفة. ولكن إنكلترا ترددت في الأمر، ولم تعد بالمساعدة على الحرب، وطفقت

تخاطب سفراءها بلسان البرق، مجتهدة في رتق الفتق. وأما ألمانيا فقد أظهرت

العطف على حليفتها وارتأت وجوب حصر الخلاف بين النمسة والصرب دون

سواهما، حتى لا يتعدى لهيب النار إلى أوربة كلها، وتبادل عاهل الألمان وقيصر

الروس البرقيات في وجوب صيانة السلم في أوربا، وصرّح الأول للثاني بأن ذلك

موقوف على عدم تصدي روسيا للاستعداد للحرب؛ ولكن روسيا بادرت إلى تعبئة

جيشها تعبئة عامة، وبلغ ناظر خارجيتها سفير إنكلترة أن عند حكومته براهين قاطعة

على أن ألمانيا تستعد برًّا وبحرًا لمهاجمتها. فروسيا بدأت بالتعبئة

جهرًا، متهمة ألمانيا بأنها تستعد سرًّا، وأنها لا تدعها تسبقها في الاستعداد.

والمتبادر مما دار بين الدول في هذه المسألة أن ما كانوا يقولونه ويكتبونه كان

له ظاهر وباطن، والظاهر منه أن إنكلترة وفرنسة كانتا حريصتين على منع الحرب

الأوربية؛ ولكن روسيا وألمانيا لم تدعا لهما طريقًا يسلكانه لذلك. ففي 21 يوليو قر

قرار الروسية على التعبئة العامة رسميًّا، وألمانيا وفرنسا أمرتا بذلك في أول

أغسطس. وأعلنت ألمانيا الحرب على روسيا في 2 منه بناءً على اجتياز بعض

الجنود الروسية للحدود، وتتايعت [1] سائر الدول الكبرى على الحرب ماعدا إيطاليا

فإنها لزمت الحياد.

نعم إن وراء الأسباب الرسمية للحرب أسبابًا أخرى تقدمتها ترجع إلى أصل

واحد في السياسية، وهو تعارض الدول الكبرى في المصالح والمنافع والسيادة

والعظمة في الأرض، فروسيا ترمي إلى أن تكون ذات السيادة العليا بضم عصبية

الشعوب السلافية في البلقان والنمسة إليها، والتوسل بذلك إلى النفوذ من زقاقي

الآستانة (البوسفور والدردنيل) إلى البحر الأبيض المتوسط، الذي هو بين أوربة

وآسية وإفريقية بمنزلة القلب من جسد الإنسان.

وألمانيا تود أن تكون ذات السيادة العليا في أوربة كلها؛ بل في العالم كله،

بالجمع بين القوتين البرية والبحرية على أكمل ما يصل إليه ارتقاء العلوم الطبيعية،

والفنون الآلية. وكانت إنكلترة قد سبقت الدول كلها بالقوة البحرية التي جعلت لها

السيادة العليا في الاستعمار، فهي ترى أنه يجب عليها أن تحافظ على ما آتاها الله

بجدها وتدبيرها، فكانت كلّما رأت ألمانيا أنشأت بارجة حربية تنشئ بارجتين مثلها؛

لأنها إذا لم تفعل ذلك لا تلبث أن تسلبها ألمانيا ملكها.

وأما فرنسا فهي على ما كان لها من السبق في الفنون والأعمال الحربية، من

برية وبحرية، لم تكن هذا في العهد الذي عظمت فيه المباراة بين إنكلترا وألمانيا،

مجتهدة في الاستعداد للحرب الأوربية بحسب ما تخولها ثروتها ومعارفها؛ بل

اكتفت من العظمة بتوسيع مساحة مستعمراتها، بالاستيلاء على مملكة المغرب

الأقصي بعد إضعافها بإيقاع الفتن والحروب الداخلية فيها. وانصرفت إلى التمتع

بسعة الثروة ونعمة الحضارة، واكتفت من اتقاء زحف ألمانيا عليها بتحصين

حدودها، وبمحالفة روسيا ثم مودة إنكلترا لها، فكانت تمد روسيا بالقناطير المقنطرة

من الذهب وتغريها بما يوافق هواها من الاستعداد للحرب، وتوغر صدرها

وتستثير دفين حقدها، وتستخرج كمين ضغنها على النمسا وألمانيا معًا. وكان من

سياستها أن تعطي روسيا المال الذي تقتضي الحال إنفاقه على الاستعداد الحربي

مباراة لألمانيا، فتستفيد بذلك فائدتين: استغلال المال بدلاً من إضاعته في زيادة

أُهبة الحرب، وإعداد جند غريب للدفاع عن فرنسا بدلاً من تعريض معظم شبابها

للقتل، مع ما منيث به من قلة النسل؛ ولكن إنكلترا حملتها بعد الاتفاق معها على

تعزيز قوتها البحرية، كما حملت هي روسيا على زيادة العناية بجميع المعدات

الحربية.

بذلك كله أصبحت هذه الدول العريقة في العلم والصناعة والثروة والحضارة،

تنفق مئات الملايين ممّا تمصه من ثروة البشر وثمرات كسبهم، على الاستعداد

لإراقة دمائهم، وتدمير حضارتهم، وكلها مشتركة في هذا الوزر الكبير، ومُصرة

على هذا الحنث العظيم، الذي لا باعث له إلا الطمع في الكسب، وحب العلو في

الأرض وإن كانت تموهه بدعوى تأييد السلم بالاستعداد للحرب، وعدم استعمال هذا

السلاح في غير المتوحشين، الذين تريد تهذيبهم بالمدنية والدين!!

وإنما تراهم يخصون ألمانيا أو عاهلها غليوم الثاني بمزيد الذم، ويرمونه

بتعمده إغراق أوربة في بحر من الدم؛ لأن أمته قد صارت بسعيه أشد أمم الأرض

عناية بالفنون والأعمال العسكرية، واستعدادًا للحروب البرية والبحرية، حتى

اضطرت سائر الدول اضطرارًا لمجاراتها في ذلك، فإذا كانت ألمانيا لم ترض من

الدول التي سبقتها إلى الاستعمار بمساواتهن لها في حرية التجارة والكسب في

بلادهن ومستعمراتهن، ولا بما بَذَّتْهُنَّ به من النماء النسبي في تجارتها وصناعتها

فقامت تستعد لسلبهن ما في أيديهن، أو الاستعلاء عليهن، فكيف يرضين بأن

يعرضن ملكهن للضياع والخضوع لقوة الشعب الجرماني العسكرية القاهرة؟

هذه حجة الأمم الأوربية على ألمانيا التي أرادت أن تعامل الدول التي جارتها

أو سبقتها بالحضارة، بمثل ما عاملن به الأمم التي غلب عليها الجهل والبداوة،

وهي السيادة بقوة العلم والصناعة. على أن الجرائد المصرية الرئيسة كالمقطم

والأهرام نقلت لنا عن لندن وباريس وبطرسبرج أن جميع الشعوب تلقت نبأ

إعلان الحرب بالسرور والابتهاج، والهتاف في الشوارع والأسواق؛ واستثنوا

الشعب الألماني فزعموا أنه كاره للحرب، مسوق إليها بتأثير العاهل غليوم الثاني

والحزب العسكري. فإن صح قولهم هذا - ولن يصح - فهو فضيلة لهذا الشعب على

سائر الشعوب الأوربية. ولكنهم أرادوا أن يهونوا أمره، ويبالغوا في ذم عاهله،

فمدحوه بغير قصد، وسيرجعون عن هذا المدح.

حسبنا هذه الجملة الوجيزة من بيان أسباب هذه الحرب ومقدماتها، ونختم

المقال بعبرة المؤمنين بالله فيها، فنقول: إن هذه الحرب تربية من الله تعالى للبشر

الذين بغى أقوياؤهم على ضعفائهم، ولم يشكروا نعم الله عليهم بتسخير الطبيعة لهم،

وتمكينهم بسعة العلم بسننه فيها، من جميع أنواع الانتفاع بها؛ بل كفروا هذه

النعم بالبغي في الأرض، واستعلاء بعضهم على بعض، حتى إنهم حقروا أخاهم

الإنسان الذي لم يصل إلى درجتهم في العلم، فجعلوه - وقد كرمه الله - أدنى منزلةً

من الحيوانات العجم، فلو أنهم رأوا قطيعًا من الأنعام أو أسرابًا من الطير يفتك

بعضها ببعض، وتسرف في الظلم والعدوان كما فعل جيرانهم في البلقان، لحالوا

بينها ومنعوها من التمادي في ظلمها.

أما وقد فعلوا ما فعلوا ورضوا بما رضوا، وجعلوا جل همهم الاستعداد لسفك

الدماء ودك صروح العمران، فلا بد أن ينتقم الله تعالى منهم لكفرهم بنعمته،

ويزلزل قواهم بما استعلوا وبغوا به على الضعفاء من خلقه - وكذلك فَعَل - فقد

جعل الآلات الحربية التي بها يتحكمون وبالاً عليهم، وعذابًا يأتيهم من فوقهم ومن

تحت أرجلهم، فتفتك بهم مناطيدهم وطيراتهم، وبوارجهم وغواصاتهم، وألغامهم

وبنادقهم ومدافعهم، وتُفني من جموعهم أكثر مما أفنوا من إخوانهم البشر بأيديهم،

أو بمساعدتهم وإقرارهم. وأذاق بعضهم بأس بعض، فجعل محالفاتهم واتفاقاتهم

وبالاً عليهم، وسببًا لتعميم الانتقام بهم. فصدق قول الله الذي صدرنا به الكلام

عليهم. وسيصدق وعده أيضًا بجعل العاقبة للمتقين، الذين يحررون الشعوب

المظلومة من استعباد الظالمين، وإنما يرحم الله الراحمين (الراحمون يرحمهم

الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) .

_________

(1)

التتايع - بالمثناة التحتية - بمعنى التتابع بالموحدة، إلا أنه خاص بالشر.

ص: 667

الكاتب: أبو إسحاق الشاطبي

‌من كتاب الاعتصام في الابتداع

هل يدخل في الأمور العادية أم يختص بالأمور العبادية؟

الباب السابع [*]

قد تقدم في حد البدعة ما يقتضي الخلاف فيه: هل يدخل في الأمور العادية أم

لا؟ أما العبادية فلا إشكال في دخوله فيها، وهي عامة الباب؛ إذ الأمور العبادية

إما أعمال قلبية وأمور اعتقادية، وإما أعمال جوارح من قول أو فعل، وكلا

القسمين قد دخل فيه الابتداع كمذهب القدرية والمرجئة، والخوارج والمعتزلة،

وكذلك مذهب الإباحة واختراع العبادات على غير مثال سابق ولا أصل مرجوع إليه.

وأما العادية فاقتضى النظر وقوع الخلاف فيها وأمثلتها ظاهرة مما تقدم في

تقسيم البدع، كالمكوس والمحدثة من الظالم، وتقديم الجهال على العلماء في

الولايات العلمية، وتولية المناصب الشريفة من ليس لها بأهل بطريق الوراثة،

وإقامة صور الأئمة وولاة الأمور والقضاة، واتخاذ المناخل وغسل اليد بالأشنان،

ولبس الطيالس، وتوسيع الأكمام، وأشباه ذلك من الأمور التي لم تكن في الزمن

الفاضل والسلف الصالح، فإنها أمور جرت في الناس وكثر العمل بها، وشاعت

وذاعت فلحقت بالبدع، وصارت كالعبادات المخترعة الجارية في الأمة، وهذا من

الأدلة الدالة على ما قلنا، وإليه مال القرافي وشيخه ابن عبد السلام، وذهب إليه

بعض السلف.

فروى أبو نعيم الحافظ عن محمد بن أسلم أنه ولد له ولد، قال محمد بن القاسم

الطوسي: فقال: اشتر لي كبشين عظيمين، ودفع إليّ دراهم، فاشتريت له

وأعطاني عشرة أخرى، وقال لي: اشتر بها دقيقًا ولا تنخله واخبزه. قال:

فنخلت الدقيق وخبزته ثم جئت به، فقال: نخلت هذا؟ وأعطاني عشرة أخرى وقال:

اشتر به دقيقًا ولا تنخله واخبزه. فخبزته وحملته إليه، فقال لي: يا أبا عبد الله!

العقيقة سنة، ونخل الدقيق بدعة، ولا ينبغي أن يكون في السنة بدعة، ولم أحب أن

يكون ذلك الخبز في بيتي بعد أن كان بدعة. ومحمد بن أسلم هذا هو الذي فسر

به الحديث إسحاق بن راهويه حيث سئل عن السواد الأعظم في قوله عليه السلام:

(عليكم بالسواد الأعظم) فقال: محمد وأصحابه. حسبما يأتي - إن شاءالله - في

موضعه من هذا الكتاب.

وأيضًا فإن تصور في العبادات، وقوع الابتداع وقع في العادات؛ لأنه لا

فرق بينهما، فالأمور المشروعة تارة تكون عبادية وتارة عادية، فكلاهما مشروع

من قبل الشارع: فكما تقع المخالفة بالابتداع في أحدهما تقع في الآخر.

ووجه ثالث وهو أن الشرع جاء بالوعد بأشياء تكون في آخر الزمان هي

خارجة عن سنته، فتدخل فيما تقدم تمثيله؛ لأنها من جنس واحد.

ففي الصحيح عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله

عليه وسلم:: (إنكم سترون بعدي أثرة وأمورًا تنكرونها، قال فما تأمرنا يا رسول

الله؟ قال: أدّوا إليهم حقهم وسلوا حقكم) وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن

النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من كره من أميره شيئًا فليصبر، وفي رواية:

(مَن رأى من أميره شيئًا يكرهه فليصبر عليه، فإنه من فارق الجماعة شبرًا فمات

مات ميتة جاهلية) .

وفي الصحيح أيضًا: (إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظروا الساعة) .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يتقارب

الزمان، ويقبض العلم، ويلقى الشح، [1] وتظهر الفتن، ويكثر الهرج. قال:

يارسول الله أيما هو؟ قال: القتل القتل) وعن أبي موسى رضي الله عنه قال:

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن بين يدي لأيامًا [2] ينزل فيها الجهل،

ويرفع فيها العلم، ويكثر فيها الهرْج) . والهرج القتل.

وعن حذيفة رضي الله عنه. قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم

حديثين، رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر: حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب

الرجال، ثم علموا من القرآن، ثم علموا من السنة، وحدثنا عن رفعها ثم قال:

(ينام [الرجل] النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل الولث [3] ثم ينام

النومة فتقبض، فيبقى أثرها مثل أثر المحل كجمر دحرجته على رجلك فنفص فتراه

ينتثر وليس فيه شيء، ويصبح الناس يتبايعون ولا يكاد أحد يؤدي الأمانة. فيقال:

إن في بني فلان رجلاً أمينًا. ويقال للرجل: ما أعقله! وما أظرفه! وما أجلده!

وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان) الحديث.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا

تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان، يكون بينهما مقتلة عظيمة، دعواهما واحدة،

وحتى يبعث دجالون كذابون قريب من ثلاثين، كلهم يزعم أنه رسول، وحتى

يقبض العلم، ثم قال: وحتى يتطاول الناس في البنيان) إلى آخر الحديث.

وعن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(تخرج في آخر الزمان أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقرؤن القرآن لا يجاوز

تراقيهم، يقولون من قول خير البرية، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من

الرمية) .

ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه عليه السلام قال: (بادروا

بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا يبيع دينه

بعرض الدنيا) وفسّر ذلك الحسن قال: يصبح محرمًا لدم أخيه وعرضه وماله،

ويمسي مستحلاًّ له. كأنه تأوله على الحديث الآخر: (لا ترجعوا بعدي كفارًا

يضرب بعضكم رقاب بعض) والله أعلم.

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

(إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم، ويظهر الجهل، ويفشو الزنا ويشرب الخمر،

ويكثر النساء، ويقل الرجال، حتى يكون للخمسين امرأة قيم واحد) .

ومن غريب حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله

صلى الله عليه وسلم (إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء، قيل: وما

هي يا رسول الله؟ قال: إذا صار المغنم دولاً، والأمانة مغنمًا، والزكاة مغرمًا،

وأطاع الرجل زوجته وعقّ أمه، وبرّ صديقه وجفا أباه، وارتفعت الأصوات في

المساجد، وكان زعيم القوم أرذلهم، وأُكرِم الرجل مخافة شره، وشربت الخمور،

ولبس الحرير، واتخذت القيّان والمعازف، ولعن آخر هذه الأمة أولها، فليرتقبوا

عند ذلك ريحًا حمراء، وزلزلة وخسفًا، أو مسخًا وقذفًا) .

وفي الباب عن أبي هريرة رضي الله عنه قريب من هذا وفيه (ساد القبيلة

فاسقهم، وكان زعيم القوم أرذلهم) وفيه: ظهرت القيان والمعازف، وفي آخره

(فليرتقبوا عند ذلك ريحًا حمراء وزلزلة وخسفًا وآيات تتابع كنظام بال قطع

سلكه فتتابع) .

فهذه الأحاديث وأمثالها مما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم أنه يكون في

هذه الأمة بعده إنما هو في الحقيقة تبديل الأعمال التي كانوا أحق بالعمل بها، فلما

عرضوا منها غيرها، وفشا فيها كأنه من المعمول به تشريعًا كان من جملة الحوادث

الطارئة على نحو ما بين في العبادات.

والذين ذهبوا إلى أنه مختص بالعبادات لا يسلمون جميع [4] الأولون. في

الجملة، ومخالفات المشروع، كالمكوس والمظالم، وتقديم الجهال على العلماء،

وغير ذلك، والمباح منها كالمناخل إن فرض مكروهًا - كما أشار إليه محمد بن أسلم -

فوجه الكراهية عنده كونها عدت من المحدثات، إذ في الأثر: أول ما أحدث بعد

رسول الله صلى الله عليه وسلم المناخل - أو كما قال - فأخذ بظاهره من أخذ به

كمحمد بن أسلم، وظاهره أن ذلك من ناحية السرف والتنعم الذي أشار إلى كراهيته

قوله تعالى {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} (الأحقاف: 20) الآية [5] لا من

جهة أنه بدعة.

وقولهم: كما يتصور ذلك في العبادات يتصور في العادات - مسلم، وليس

كلامنا في الجواز العقلي، وإنما الكلام في الوقوع، وفيه النزاع.

وأما ما احتجوا به من الأحاديث فليس فيها على المسألة دليل واحد، إذ لم

ينص على أنها بدع أو محدثات أو ما يشير إلى ذلك المعني، وأيضًا إن عدوا كل

محدث العادات بدعة، فليعدوا جميع ما لم يكن فيهم من المآكل والمشارب والملابس

والمسائل النازلة التي لا عهد بها في الزمان الأول بدعًا، وهذا شنيع، فإن من

العوائد ما تختلف بحسب الأزمان والأمكنة والاسم، فيكون كل من خالف العرب

الذين أدركوا الصحابة واعتادوا مثل عوائدهم غير متبعين لهم، هذا من المستنكر

جدًّا، نعم لا بد من المحافظة في العوائد المختلفة على الحدود الشرعية والقوانين

الجارية على مقتضى الكتاب والسنة.

وأيضًا فقد يكون التزام [6] الواحد والحالة الواحدة أو العادة الواحدة تعبًا ومشقة

لاختلاف الأخلاق والأزمنة والبقاع والأحوال، والشريعة تأبى التضييق والحرج

فيما دل الشرع على جوازه ولم يكن ثَمَّ معارض. وإنما جعل الشارع ما تقدم في

الأحاديث المذكورة من فساد الزمان وأشراط الساعة لظهورها وفحشها بالنسبة إلى ما

تقدم ليفعلها فإن الخير كان أظهر، والشر كان أخفى وأقل، بخلاف آخر الزمان فإن

الأمر فيه على العكس، والشر فيه أظهر والخير أخفى.

وأما كون تلك الأشياء بدعًا فغير مفهوم على الطريقتين في حد البدعة، فراجع

النظر فيه تجده كذلك.

والصواب في المسئلة طريقة أخرى وهي تجمع شتات النظرين، وتحقق

المقصود في الطريقتين، وهو الذي بني عليه ترجمة هذا الباب، فلنفرده في فصل

على حدته والله الموافق للصواب.

***

فصل

أفعال المكلفين بحسب النظر الشرعي فيها على ضربين: أحدهما أن تكون

من قبيل التعبدات، والثاني أن تكون من قبيل العادات، فأما الأول فلا نظر فيه

هاهنا.

وأما الثاني وهو العادي، فظاهر النقل عن السلف الأولين أن المسألة تختلف

فيها، فمنهم من يرشد كلامه إلى أن العاديات كالعباديات، فكما أنا مأمورون في

العبادات بأن لا نحدث فيها، فكذلك العاديات، وهو ظاهر كلام محمد بن أسلم، حيث

كره في سنة العقيقة مخالفة مَن قبله في أمر عادي، وهو استعمال المناخل، مع العلم

بأنه معقول المعنى، نظرًا منه - والله أعلم - إلى أن الأمر باتباع الأولين على العموم

غلب عليه جهة التعبد، يظهر أيضًا من كلام مَن قال: أول ما أحدث الناس بعد

رسول الله صلى الله وعليه وسلم المناخل. ويحكى عن الربيع بن أبي راشد أنه

قال: لولا أني أخاف مَن كان قبلي لكانت الجبانة مسكني إلى أن أموت. والسكنى [7]

عادي بلا إشكال. وعلى هذا الترتيب يكون قسم العاديات داخلاً في قسم العباديات،

فدخول الابتداع فيه ظاهر. والأكثرون على خلاف هذا، وعليه نبني الكلام فنقول:

ثبت في الأصول الشرعية أنه لا بد في كل عادي من شائبة التعبد؛ لأن ما لم

يعقل معناه على التفصيل من المأمور به أو المنهي عنه فهو المراد بالعادي،

فالطهارات والصلوات والصيام والحج كلها تبعدي، والبيع والنكاح والشراء

والطلاق والإجارات والجنايات كلها عادي؛ لأن أحكامها معقولة المعنى، ولا بد

فيها من التعبد؛ إذ هي مقيدة بأمور شرعية لا خيرة للمكلف فيها، كانت اقتضاء أو

تخييرًا، فإن التخيير في التعبدات إلزام، كما أن الاقتضاء إلزام - حسبما تقرر

برهانه في كتاب الموافقات - وإذا كان كذلك فقد ظهر اشتراك القسمين في معنى

التعبد، فإن جاء الابتداع في الأمور العادية من ذلك الوجه، صحَّ دخوله في

العاديات كالعباديات، وإلا فلا.

وهذه هي النكتة التي يدور عليها حكم الباب ويتبين ذلك بالأمثلة، فما أتى به

القرافي [8] وضع المكوس في معاملات الناس، فلا يخلو هذا الوضع المحرم أن

يكون على قصد حجر التصرفات - وقتًا ما أو في حالة ما - لنيل حطام الدنيا،

على هيئة غصب الغاصب، وسرقة السارق، وقطع القاطع للطريق، وما أشبه

ذلك. أو يكون على قصد وضعه على الناس كالدين الموضوع والأمر المحتوم

عليهم دائمًا، أو في أوقات محدودة، على كيفيات مضروبة، بحيث تضاهي

المشروع الدائم الذي يحمل عليه العامة، ويؤخذون به وتوجه على الممتنع منه

العقوبة، كما في أخذ زكاة المواشي والحرث وما أشبه ذلك.

فأما الثاني فظاهر أنه بدعة؛ إذ هو تشريع زائد، وإلزام للمكلفين يضاهي

إلزامهم الزكاة المفروضة، والديات المضروبة والغرامات المحكوم بها في أموال

الغصاب والمتعدين؛ بل صار في حقهم كالعبادات المفروضة واللوازم المحتومة،

أو ما أشبه ذلك. فمن هذه الجهة يصير بدعة بلا شك؛ لأنه شرع مستدرك، وسن

في التكليف مهيع، فتصير المكوس على هذا الفرض لها نظران: نظر من جهة

كونها محرمة على الفاعل أن يفعلها كسائر أنواع الظلم، ونظر من جهة كونها

اختراع لتشريع يؤخذ به الناس إلى الموت كما يؤخذون بسائر التكاليف، فاجتمع

فيها نهيان: نهي عن المعصية، ونهي عن البدعة، وليس ذلك موجودًا في البدع

في القسم الأول، وإنما يوجد به النهي من جهة كونها تشريعًا موضوعًا على الناس

أمر وجوب أو ندب؛ إذ ليس فيه جهة أخرى يكون بها معصية؛ بل نفس التشريع

هو نفس الممنوع.

وكذلك تقديم الجهال على العلماء، وتولية المناصب الشريفة مَن لا يصلح [9]

بطريق التوريث، هو من قبيل ما تقدم، فإن جعل الجاهل في موضع العالم حتى

يصير مفتيًا في الدين، ومعمولاً بقوله في الأموال والدماء والأبضاع وغيرها،

محرم [10] في الدين. وكون ذلك يتخذ ديدنًا حتى يصير الابن مستحقًّا لرتبة الأب -

وإن لم يبلغ رتبة الأب في ذلك المنصب - بطريق الوراثة أو غير ذلك بحيث يشيع

هذا العمل ويطّرد ويَرِده الناس كالشرع الذي لا يخالف - بدعة [11] بلا إشكال، زيادة

إلى القول بالرأي غير الجاري على العلم، وهو بدعة أو سبب البدعة كما سيأتي

تفسيره إن شاء الله، وهو الذي بيّنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (حتى إذا لم

يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا) وإنما

ضلوا وأضلوا لأنهم أفتوا بالرأي؛ إذ ليس عندهم علم.

وأما إقامة صور الأئمة والقضاة وولاة الأمر على خلاف ما كان عليه السلف،

فقد تقدم أن البدعة لا تتصور هنا، وذلك صحيح، فإن تكلف أحد فيها ذلك فيبعد

جدًّا، وذلك بفرض أن يعتقد في ذلك العمل أنه مما يطلب به الأئمة على الخصوص

تشريعًا خارجًا عن قبيل المصالح المرسلة، بحيث يعد من الدين الذي يدين به

هؤلاء المطالبون به، أو يكون ذلك مما يعد خاصًّا بالأئمة دون غيرهم، كما يزعم

بعضهم أن خاتم الذهب جائز لذوي السلطان، أو يقول: إن الحرير جائز لهم لبسه

دون غيرهم، وهذا أقرب من الأول في تصور البدعة في حق هذا القسم.

ويشبهه على قرب: زخرفة المساجد؛ إذ كثير من الناس يعتقد أنها من قبيل

ترفيع بيوت الله، وكذلك تعليق الثريات الخطيرة الأثمان، حتى يعد الإنفاق في ذلك

إنفاقًا في سبيل الله، وكذلك إذا اعتقد في زخارف الملوك وإقامة صورهم أنها من

جملة ترفيع الإسلام وإظهار معالمه وشعائره، أو قصد ذلك في فعله أولاً بأنه ترفيع

للإسلام لما لم يأذن لله به، وليس ما حكاه القرافي عن معاوية من قبيل هذه

الزخارف؛ بل من قبيل المعتاد في اللباس والاحتياط في الحجاب مخافة من انخراق

خرق يتسع فلا يرقع؛ هذا إن صح ما قال، وإلَاّ فلا يعول على نقل المؤرخين

ومَن لا يعتبر من المؤلفين، وأحرى أن ينبني عليه حكم [12] .

وأما مسألة المناخل فقد مرَّ ما فيها، والمعتاد فيها أنه لا يلحقها أحد بالدين،

ولا بتدبير الدنيا بحيث لا ينفك عنه كالتشريع، فلا نطول به، وعلى ذلك الترتيب

ينظر فيما قال ابن عبد السلام من غير فرق، فتبين مجال البدعة في العاديات من

مجال غيرها، وقد تقدم أيضًا فيها كلام فراجعه إن احتجت إليه.

وأما وجه النظر في أمثلة الوجه الثالث من أوجه دخول الابتداع في العاديات

على ما أريد تحقيقه، فنقول: إن مدار تلك الأحاديث على بضع عشرة خصلة،

يمكن ردها على أصول هي كلها أو غالبها بدع، وهي قلة العلم وظهور الجهل

والشح، وقبض الأمانة، وتحليل الدماء والزنا والحرير والغناء والربا والخمر،

وكون المغنم دولاً، والزكاة مغرمًا، وارتفاع الأصوات في المساجد، وتقديم

الأحداث، ولعن آخر الأمة أولها، وخروج الدجالين، ومفارقة الجماعة.

أما قلة العلم وظهور الجهل فبسبب التفقه للدنيا، وهذا إخبار بمقدمة أنتجتها

الفتيا بغير علم - حسبما جاء في الحديث الصحيح (إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا

ينتزعه من الناس) إلى آخره. وذلك أن الناس لا بد لهم مِن قائد يقودهم في الدين

بجرائمهم، وإلا وقع الهرج وفسد النظام، فيضطرون إلى الخروج إلى

مَن انتصب لهم منصب الهداية، وهو الذي يسمونه عالمًا، فلا بد أن يحملهم

على رأيه في الدين؛ لأن الفرض أنه جاهل، فيضلهم عن الصراط المستقيم،

كما أنه ضال، وهذا عين الابتداع؛ لأنه التشريع بغير أصل من كتاب ولا سنة.

ودل هذا الحديث على أنه لا يؤتى الناس قط من قِبَل العلماء، وإنما يؤتون من قِبَل

أنه إذا مات علماؤهم أفتى مَن ليس بعالم فتؤتى الناس من قِبَله، وسيأتي لهذا المعنى

بسْط أوسع من هذا إن شاء الله.

وأما الشح فإنه مقدمة لبدعة الاحتيال على تحليل الحرام، وذلك أن الناس

يشحون بأموالهم فلا يسمحون بتصريفها في مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم،

كالإحسان بالصدقات والهبات والمواساة والإيثار على النفس. ويليه أنواع القرض

الجائز، ويليه التجاوز في المعاملات بإنظار المعسر، وبالإسقاط كما قال: {وَأَن

تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 280) ، وهذا كان شأن من تقدم من

السلف الصالح، ثم نقص الإحسان بالوجه الأول فتسامح الناس بالقرض، ثُم نقض

ذلك حتى صار الموسر لا يسمح بما في يديه فيضطر المعسر إلى أن يدخل في

المعاملات التي ظاهرها الجواز وباطنها المنع، كالربا والسلف الذي يجر النفع

فيُجعل بيعًا في الظاهر، ويجري في الناس شرعًا شائعًا، ويدين به العامة،

وينصبون هذه المعاملات متاجر. وأصله الشح بالأموال وحب الزخارف الدنيوية

والشهوات العاجلة. فإذا كان كذلك فالحري أن يصير ذلك ابتداعًا في الدين، وأن

يُجعل من أشراط الساعة.

فإن قيل: هذا انتجاع من مكان بعيد، وتكلف لا دليل عليه. فالجواب: إنه

لولا أن ذلك مفهوم من الشرع لما قيل به، فقد روى أحمد في مسنده من حديث ابن

عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله وعليه وسلم يقول (إذا

ضن الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة، واتبعوا أذناب البقر، وتركوا

الجهاد في سبيل الله، أنزل الله بهم بلاءً فلا يرفعه حتى يراجعوا دينهم) ، ورواه

أبو داود، أيضًا وقال فيه: (إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع

وتركتم الجهاد سلّط الله عليكم ذلاًّ لا ينتزعه حتى ترجعوا إلى دينكم) .

فتأمل كيف قرن التبايع بالعينة بضنة الناس، فأشعر بأن التبايع بالعينة يكون

عن الشح بالأموال - وهو معقول في نفسه - فإن الرجل لا يتبايع أبدًا هذا التبايع

وهو يجد مَن يسلفه أو من يعينه في حاجته، إلا أن يكون سفيهًا لا عقل له. ويشهد

لهذا المعنى ما خرّجه أبو داود أيضًا عن علي رضي الله عنه قال: (سيأتي

على الناس زمان عضوض يعض الموسر على ما في يديه، ولم يؤمر بذلك. قال

الله تعالى: {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (سبأ: 39)

وينشد شرار خلق الله، يبايعون كل مضطر. إلا إن بيع المضطر حرام! المسلم

أخو المسلم لا يظلمه ولا يخونه، وإن كان عندك خير فعد به على أخيك، ولا تزده

هلاكًا إلى هلاكه) .

وهذه الأحاديث الثلاثة - وإن كانت أسانيدها ليست هناك - مما يعضد بعضه

بعضًا، وهو خبر حق في نفسه يشهد له الواقع. قال بعضهم: عامة العينة إنما تقع

من رجل يضطر إلى نفقة يضن عليه الموسر بالقرض إلا أن يربحه في المائة ما

أحب، فيبيعه ثمن المائة بضعفها أو نحو ذلك، ففسر بيع المضطر ببيع العينة،

وبيع العينة إنما هو العين بأكثر منها إلى أجل حسبما هو مبسوط في الفقهيات. فقد

صار الشح إذًا سببًا في دخول هذه المفاسد في البيوع.

فإن قيل: كلامنا في البدعة لا في فساد المعصية؛ لأن هذه الأشياء بيوع

فاسدة فصارت من باب آخر لا كلام لنا فيه.

فالجواب: إن مدخل البدعة هاهنا من باب الاحتيال الذي أجازه بعض الناس،

فقد عده العلماء من البدع المحدثات، حتى قال ابن المبارك في كتاب وضع في

الحيل: مَن وضع هذا فهو كافر، ومن سمع به فرضي به فهو كافر، ومَن حمله

من كورة إلى كورة فهو كافر، ومَن كان عنده فرضي به فهو كافر. وذلك أنه وقع

فيه الاحتيالات بأشياء منكرة، حتى احتال على فراق الزوجة زوجها بأن ترتد.

وقال إسحق بن راهويه عن سفيان بن عبد الملك: إن ابن المبارك قال في

قصة بنت أبي روح حيث أُمرت بالارتداد، وذلك في أيام أبي غشان، فذكر شيئًا ثم

قال ابن المبارك وهو مغضب: أحدثوا في الإسلام، ومَن كان أمر بهذا فهو كافر،

ومَن كان هذا الكتاب عنده أو في بيته ليأمر به أو صوبه ولم يأمر به فهو كافر. ثم

قال ابن المبارك: ما أرى الشيطان يحسن مثل هذا، ثم جاء هؤلاء فأفادها

منهم فأشاعها حينئذٍٍ، وكان لحسنها [13] ولم يجد من يمضيها فيهم، حتى جاء هؤلاء.

وإنما وضع هذا الكتاب وأمثاله ليكون حجة على زعمهم في أن يحتالوا للحرام

حتى يصير حلالاً، وللواجب حتى يكون غير واجب وما أشبه ذلك من الأمور

الخارجة عن نظام الدين، كما أجازوا نكاح المحلل، وهو احتيال على رد المطلقة

ثلاثًا لمن طلقها، وأجازوا إسقاط فرض الزكاة بالهيئة المستعارة، وأشباه ذلك. فقد

ظهر وجه الإشارة في الأحاديث المتقدمة المذكور فيها الشح، وأنها تتضمن ابتداعًا

كما تتضمن معاصي جملة.

وأما قبض الأمانة فعبارة عن شياع الخيانة، وهي من سمات أهل النفاق،

ولكن يوجد في الناس بعض أنواعها تشريعًا، وحكيت عن قوم ممن ينتمي إلى العلم،

كما حكيت عن كثير من الأمراء، فإن أهل الحيل المشار إليهم إنما بنوا في بيع

العينة على إخفاء ما لو أظهروه لكان البيع فاسدًا فأخفوه لتظهر صحته، فإن بيعه

الثواب بمائة وخمسين إلى أجل [14] لكنهما أظهرا وساطة الثوب، وأنه هو المبيع

والمشترى، وليس كذلك بدليل الواقع.

وكذلك يهب ماله عند رأس الحول قائلاً بلسان حاله ومقاله: أنا غير محتاج إلى

هذا المال وأنت أحوج إليه مني. ثم يهبه، فإذا جاء الحول الآخر قال الموهوب له

للواهب مثل المقالة الأولى، والجميع في الحالين؛ بل في الحولين في تصريف المال

سواء؛ أليس هذا خلاف الأمانة، والتكليف من أصله أمانة فيما بين العبد وربه،

فالعمل بخلافه خيانة.

ومن ذلك أن بعض الناس كان يحقر الزينة ويرد [15] من الكذب، ومعنى

الزينة التدليس بالعيوب، وهذا خلاف الأمانة والنصح لكل مسلم. وأيضًا والنصح

لكل مسلم. وأيضًا فإن كثيرًا من الأمراء يجتاحون أموال الناس اعتقادًا منهم أنها

لهم دون المسلمين. ومنهم مَن يعتقد نوعًا من ذلك في الغنائم المأخوذة عنوة من

الكفار، فيجعلونها في بيت المال، ويحرمون الغانمين من حظوظهم منها تأويلاً

على الشريعة بالعقول. فوجه البدعة هاهنا ظاهر. وقد تقدم التنبيه على ذلك في

تمثيل البدع الداخلة في الضروريات في الباب قبل هذا ويدخل تحت هذا النمط كون

الغنائم تصير دولاً. وقوله: (سترون بعدي أثرة وأمورًا تنكرونها، ثم قال: أدّوا

إليهم حقهم وسلوا الله حقكم) .

(لها بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) تابع لما نشر في ص 593.

(1)

في رواية أحمد والشيخين هنا زيادة (ويظهر الجهل) .

(2)

لعله: بين يدي الساعة، وروي بلفظ (إن من ورائكم أيامًا) إلخ، رواه الترمذي وابن ماجه

عنه.

(3)

الولث بقية الماء أو النبيذ أو العجين في الإناء والقليل من المطر.

(4)

كذا ولا بد أن يكون قد سقط من هنا كلام، ولعل أصله: لا يسلمون جميع ما قاله الأولون أو جميع ما ذهب إليه الأولون.

(5)

لعل ابن أسلم يخص كراهة الدقيق المنخول بما كان أداءً لسُنة كالعقيقة ليفعلها كما كانوا يفعلونها.

(6)

بياض بالأصل لعل مكانه (الزي) .

(7)

ربما سقط من هنا كلمة (أمر) .

(8)

لعله سقط من هنا كلمة (من جواز) أو (في مسألة) .

(9)

أي لا يصلح لها.

(10)

قوله: (محرم) خبر قوله: (فإن جعل الجاهل) .

(11)

(بدعة) خبر قوله: (وكون ذلك) .

(12)

لعل الأصل: (وأحرى ألا ينبني عليه حكم) .

(13)

لعل الأصل: (ولو كان يحسنها لم يجد) إلخ.

(14)

أين خبر (إن) ؟ .

(15)

كذا في الأصل.

ص: 673

الكاتب: ابن القيم الجوزية

الأدب وكلام الصوفية فيه [*]

فصل

وأما الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم فالقرآن مملوء به، فرأس الأدب

معه كمال التسليم له والانقياد لأمره وتلقي خبره بالقبول والتصديق، دون أن يحمله

معارضة خيال باطل يسميه معقولاً، أو يحمله شبهة أو شكًّا، أو يقدم عليه آراء

الرجال وزبالات أذهانهم، فيوحده بالتحكيم والتسليم والانقياد والإذعان، كما وحد

المرسل بالعبادة والخضوع والذل والإنابة والتوكل، فهما توحيدان لا نجاة للعبد من

عذاب الله إلا بهما: توحيد المرسل وتوحيد متابعة الرسول، فلا يحاكم إلى غيره

ولا يرضى بحكم غيره، ولا يقف تنفيذ أمره وتصديق خبره على عرضه على قول

شيخه وإمامه وذوي مذهبه وطائفته ومن يعظمه، فإن أذنوا له نفذه وقبل خبره،

وإلا فإن طلب السلامة أعرض عن أمره وخبره وفوضه إليهم، وإلا حرّفه عن

مواضعه وسمى تحريفه تأويلاً وحملاً فقال: نؤوّله ونحمله، فلأن يلقى العبد ربه

بكل ذنب على الإطلاق ما خلا الشرك، خير له من أن يلقاه بهذا الحال.

ولقد خاطبت يومًا بعض أكابر هؤلاء فقلت له: سألتك بالله لو قدّر أن الرسول

صلى الله عليه وسلم حي بين أظهرنا وقد واجهنا بكلامه وبخطابه أكان فرضًا علينا

أن نتبعه من غير أن نعرضه على رأي غيره وكلامه ومذهبه؟ أم لا نتبعه حتى

نعرض ما سمعناه منه على آراء الناس وعقولهم؟ فقال: بل كان الفرض المبادرة

إلى الامتثال من غير التفات إلى سواه، فقلت: فما الذي نسخ هذا الفرض عنّا؟

وبأي شيء نُسِخ؟ فوضع أصبعه على فيه وبقي باهتًا متحيّرًا وما نطق بكلمة.

هذا أدب الخواص معه، لا مخالفة أمره والشرك به، ورفع الأصوات

وإزعاج الأعضاء بالصلاة عليه والتسليم، وعزل كلامه عن اليقين، وأن يستفاد

منه معرفة الله أو يتلقى منه أحكامه؛ بل المعمول في باب معرفة الله على العقول

المنهوكة المتحيرة المتناقضة، وفي الأحكام على تقليد الرجال وآرائها. والقرآن

والسنة إنما نقرأهما تبركًا، لا أنا نتلقى منهما أصول الدين ولا فروعه. ومن طلب

ذلك ورامه عاديناه وسعينا في قطع دابره واستئصال شأفته {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ

مِّنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ * حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ

إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ * لَا تَجْأَرُوا اليَوْمَ إِنَّكُم مِّنَّا لَا تُنصَرُونَ * قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ

فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ * مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ * أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا القَوْلَ أَمْ

جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ * أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُوَلَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ * أَمْ

يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ * وَلَوِ اتَّبَعَ الحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ

لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ *

أَمْ تَسأَلهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * وَإِنَّكَ لَتَدْعُوَهُمْ إلَى

صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} (المؤمنون

: 63-74) .

والناصح لنفسه العامل على نجاتها، يتدبر هذه الآيات حق تدبرها، ويتأملها

حق تأملها، وينزلها على الواقع يرى العجب، ولا يظنها اختُصت بقوم كانوا فبانوا

(فالحديث لك واسمعي يا جارة) والله المستعان.

ومن الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم أن لا يتقدم بين يديه بأمر ولا

نهي ولا إذن ولا تصرف حتى يأمر هو وينهى ويأذن، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا

الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (الحجرات: 1) وهذا باقٍ إلى

يوم القيامة ولم يُنسخ. فالتقدم بين يدي سنته بعد وفاته، كالتقدم بين يديه في حياته،

لا فرق بينهما عند ذي عقل سليم. قال مجاهد رحمه الله: لا تفتاتوا على

رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء حتى يقضيه الله على لسانه. وقال الضحاك:

لا تقضوا أمرًا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال أبو عبيدة: تقول العرب

لا تقدم بين يدي الإمام وبين يدي الأب. أي: لا تعجلوا بالأمر والنهي دونه. وقال

غيره: لا تأمروا حتى يأمر ولا تنهوا حتى ينهي.

ومن الأدب معه أن لا تُرفع الأصوات فوق صوته فإنه سبب لحبوط الأعمال،

فما الظن برفع الآراء ونتائج الأفكار على سنته وما جاء به؟ أترى ذلك موجبًا

لقبول الأعمال، ورفع الصوت فوق صوته موجب لحبوطها؟

ومن الأدب معه أن لا يُجعل دعاؤه كدعاء غيره، قال تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ

الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضاً} (النور: 63) وفيه قولان للمفسرين:

(أحدهما) : أنكم لا تدعونه باسمه كما يدعو بعضكم بعضًا؛ بل قولوا:

يارسول الله! يا نبي الله! فعلى هذا: المصدر مضاف إلى المفعول، أي دعاءكم

الرسول.

(الثاني) أن المعنى: لا تجعلوا دعاءه لكم بمنزلة دعاء بعضكم بعضًا إن

شاء أجاب وإن شاء ترك؛ بل إذا دعاكم لم يكن لكم بد مِن إجابته، ولم يسعكم

التخلف عنها ألبتة. فعلى هذا: المصدر مضاف إلى الفاعل، أي: دعاءه إياكم.

ومن الأدب أنهم إذا كانوا معه على أمر جامع من خطبة أو جهاد أو رباط لم

يذهب أحد مذهبًا في حاجته حتى يستأذنه، كما قال تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَذِينَ

آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} (النور: 62) فإذا كان هذا مذهبًا مقيدًا بحاجة عارضة لم يوسع لهم فيه إلا بإذنه،

فكيف بمذهب مطلق في تفاصيل الدين: أصوله وفروعه دقيقه وجليله؟ هل يشرع

الذهاب إليه بدون استئذانه؟ {فَاسْأََلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (النحل:

43) .

ومن الأدب معه أن لا يستشكل قوله؛ بل تُستشكل الآراء لقوله، ولا يعارض

نصه بقياس؛ بل تهدر الأقيسه وتلقى [1] لنصوصه، ولا يحرف كلامه عن حقيقته

لخيال يسميه أصحابه معقولاً، نعم هو مجهول، وعن الصواب معزول. ولا يوقف

قبول ما جاء به على موافقة أحد، فكل هذا من قلة الأدب معه صلى الله عليه وسلم،

وهو عين الجرأة.

***

فصل

وأما الأدب مع الخلق فهو معاملتهم على اختلاف مراتبهم بما يليق بهم، فلكل

مرتبة أدب، والمراتب فيها أدب خاص، فمع الوالدين أدب خاص، وللأب منهم

أدب هو أخص به، ومع العالم أدب آخر، ومع السلطان أدب يليق به، وله مع

الأقران أدب يليق بهم، ومع الأجانب أدب غير أدبه مع أصحابه وذوي أنسه،

ومع الضيف أدب غير أدبه مع أهل بيته.

ولكل حال أدب: فللأكل آداب وللشرب آداب، وللركوب والدخول والسفر

والإقامة والنوم آداب، وللبول آداب، وللكلام آداب، وللسكوت والاستماع آداب.

وأدب المرء عنوان سعادته وفلاحه، وقلة أدبه عنوان شقاوته وبواره، فما

استُجلب خير الدنيا والآخرة بمثل الأدب، ولا استُجلب حرمانهم بمثل قلة الأدب.

فانظر إلى الأدب مع الوالدين كيف نجى صاحبه من حبس الغار حين أطبقت

عليه الصخرة، والإخلال به مع الأم تأوُّلاً وإقبالاً على الصلاة كيف امتحن صاحبه

بهدم صومعته، وضرب الناس له ورميه بالفاحشة، وتأمل أحوال كل شقي ومغتر

ومدبر كيف تجد قلة الأدب هو الذي ساقه إلى الحرمان، وانظر قلة أدب عوف مع

خالد كيف حرمه السلب بعد أن برد بيديه، وانظر أدب الصديق رضي الله عنه

مع النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة أن يتقدم بين يديه فقال: ما كان ينبغي

لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف أورثه

مقامه والإمامة بالأمة بعده، فكان ذلك التأخر إلى خلفه - وقد أومأ إليه أن اثبت

مكانك - جمزًا لا سعيًا إلى قدام، بكل خطوة إلى وراء مراحل إلى قدام تنقطع فيها

أعناق المطي. والله أعلم.

***

فصل

قال صاحب المنازل: (الأدب حفظ الحد بين الغلو والجفاء بمعرفة ضرر

العدوان) هذا من أحسن الحدود. فإن الانحراف إلى طرفي الغلو والجفاء هو قلة

الأدب، والأدب: الوقوف في الوسط بين الطرفين، فلا يقصر بحدود الشرع عن

تمامها ولا يتجاوز بها ما جعلت حدودًا له، فكلاهما عدوان والله لا يحب المعتدين،

والعدوان هو سوء الأدب، وقال بعض السلف: دين الله بين الغالي فيه والجافي

عنه، فإضاعة الأدب بالجفاء كمن لم يكمل أعضاء الوضوء ولم يوف الصلاة آدابها

التي سنّها رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعلها، وهي قريب من مئة أدب ما بين

واجب ومستحب.

وإضاعته بالغلو كالوسوسة في عقد النية ورفع الصوت بها، والجهر بالأذكار

والدعوات التي شرعت سرًّا، وتطويل ما السنة تخفيفه وحذفه، كالتشهد الأول

والسلام الذي حذفه سنة. وزيادة التطويل على ما فعله رسول الله صلى الله عليه

وسلم لا على ما يظنه سرّاق الصلاة والنقّارون لها ويشتهونه، فإن النبي صلى الله

عليه وسلم لم يكن ليأمر بأمر ويخالفه، وقد صانه الله من ذلك وكان يأمرهم

بالتخفيف ويؤمهم بالصافات، ويأمرهم بالتخفيف وتقام صلاة الظهر فيذهب الذاهب

إلى البقيع فيقضي حاجته ويأتي أهله ويتوضأ ويدرك رسول الله صلى الله عليه

وسلم في الركعة الأولى. فهذا هو التخفيف الذي أمر به، لا نَقر الصلاة وسرَقها،

فإن ذلك اختصار - بل اقتصار - على ما يقع عليه الاسم ويسمى به مصليًا. وهو

كأكل المضطر في المخمصة ما يسد به رمقه، فليته شبع على القول الآخر. وهو

كجائع قدم إليه طعام لذيذ جدًّا فأكل منه لقمة أو لقمتين فماذا يغنيان عنه؟ ولكن لو

أحسن مجموعة لما قام عن الطعام حتى يشبع منه وهو يقدر على ذلك، لكن القلب

شبعان من شيء آخر.

ومثال هذا التوسط في حق الأنبياء عليهم السلام أن لا يغلو فيهم كما

غلت النصارى في المسيح، ولا يجفو عنهم كما جفت فيهم اليهود، فالنصارى

عبدوهم واليهود قتلوهم وكذبوهم، والأمة الوسط آمنوا بهم وعزّروهم ونصروهم

واتبعوا ما جاؤوا به.

ومثال ذلك في حقوق الخلق أن لا يفرط في القيام بحقوقهم، ولا يستغرق فيها

بحيث يشتغل بها عن حقوق الله أو عن تكميلها أو عن مصلحة دينه وقلبه، وأن لا

يجفو عنها حتى يعطلها بالكلية، فإن الطرفين من العدوان الضار، وعلى هذا الحد

فحقيقة الأدب هو العدل، والله أعلم.

***

فصل

قال: (وهو على ثلاث درجات، الدرجة الأولى منع الخوف أن يتعدى إلى

اليأس [2] وحبس الرجاء أن يخرج إلى الأمن، وضبط السرور أن يضاهي الجرأة)

يريد أنه لا يدع الخوف يفضي به إلى حد يوقعه في القنوط واليأس من رحمة الله

فإن هذا خوف مذموم. وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: حد

الخوف ما حجزك عن معاصي الله، فما زاد على ذلك فهو غير محتاج إليه. وهذا

الخوف الموقع في الإياس إساءة أدب على رحمة الله تعالى التي سبقت غضبه

وجهلٌ بها.

وأما حبس الرجاء أن يخرج إلى الأمن فهو أن لا يبلغ به الرجاء إلى حد يأمن

معه العقوبة، فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون، وهذا إغراق في الطرف

الآخر، بل حد الرجاء ما طيّب لك العبادة، وحملك على السير، فهو بمنزلة الرياح

التي تُسيّر السفينة، فإذا انقطعت وقفت السفينة، وإذا زادت ألقتها إلى المهالك،

وإذا كانت بقدر أوصلت إلى البُغية.

وأما ضبط السرور أن يخرج إلى مشابهة الجرأة، فلا يقدر عليه إلا الأقوياء

أرباب العزائم الذين لا تستفزهم السرّاء فتغلب شكرهم، ولا تضعفهم الضرّاء فتغلب

صبرهم، كما قيل:

لا تغلب السراءُ منهم شكرَهم

كلا ولا الضراءُ صبرَ الصابر

والنفس قرينة الشيطان ومصاحبته وتشبهه في صفاته، ومواهب الرب تبارك

وتعالى تنزل على القلب والروح، فالنفس تسترق السمع، فإذا نزلت على القلب

تلك المواهب وثَبتْ لتأخذ قسطها منها وتصيره من عدتها وحواصلها،

فالمسترسل معها الجاهل بها يدعها تستوفي ذلك، فبينا هو في موهبة للقلب والروح

وعدة وقوة له، إذ صار ذلك كله من حاصل النفس والتها وعددها، فصالت به

وطغت لأنها رأت غناها به، والإنسان يطغى أن رآه استغنى بالمال، فكيف بما

هو أعظم خطرًا وأجلّ قدرًا من المال، بما لا نسبة بينهما من علم أو حال أو معرفة

أو كشف؟ فإذا صار ذلك من حاصلها انحرف العبد به - ولا بد - إلى طرف مذموم

من جرأة أو شطح أو إدلال ونحو ذلك.

ولله كم ههنا من قتيل وسليب وجريح يقول: من أين أوتيت؟ ومن أين دُهيت

؟ ومن أين أُصبت؟ وأقل ما يعاقب به من الحرمان بذلك أن يغلق عنه باب المزيد،

ولهذا العارفون وأرباب البصائر إذا نالوا شيئًا من ذلك انحرفوا إلى طرف الذل

والانكسار ومطالعة عيوب النفس، واستدعوا حارس الخوف، وحافظوا على الرباط

بملازمة الثغر بين القلب وبين النفس، ونظروا إلى أقرب الخلق من الله وأكرمهم

عيه وأدناهم منه وسيلة وأعظمهم عنده جاهًا، وقد دخل مكة يوم الفتح وذقنه تمس

قربوس سرجه انخفاضًا وانكسارًا وتواضعًا لربه تعالى في مثل تلك الحال التي عادة

النفوس البشرية فيها أن يملكها سرورها وفرحها بالنصر والظفر والتأييد ويرفعها إلى

عنان السماء، فالرجل مَن صان فتحه ونصيبه من الله، وواراه عن استراق نفسه

وبخل عليها به، والعاجز من جاد لها به، فيا له من جود ما أقبحه، وسماحة ما

أسفه صاحبها! والله المستعان.

***

فصل

قال: (الدرجة الثانية: الخروج من الخوف على ميدان القبض، والصعود [3]

عن الرجاء إلى ميدان البسط، ثم الترقي عن [4] السرور إلى ميدان المشاهدة) ذكر

في الدرجة الأولى كيف يحفظ الحد بين المقامات حتى لا يتعدى إلى غلو أو جفاء،

وذلك سوء أدب، فذكر منع الخوف أن يخرجه إلى اليأس [5] والرجاء أن يخرجه

إلى الأمن، والسرور أن يخرجه إلى الجرأة. ثم ذكر في هذه الدرجة أدب الترقي

من هذه الثلاثة إلى ما يحفظه [6] عليها ولا يضيعها بالكلية، كما أن في الدرجة

الأولى لا يبالغ به؛ بل يكون خروجه من الخوف إلى القبض، يعني لا يزايل

الخوف بالكلية، فإن قبضه لا يؤيسه ولا يقنطه ولا يحمله على مخالفة ولا بطالة،

وكذلك رجاؤه لا يقعد به عن ميدان البسط؛ بل يكون بين القبض والبسط، وهذه

حال المال، وهي السير بين القبض والبسط، وسروره لا يقعد [7] به عن ترقيه

إلى ميدان مشاهدته، بل يرقى بسروره إلى المشاهدة، ويرجع من رجائه إلى البسط،

ومن خوفه إلى القبض. ومقصوده أن ينتقل من أشباح هذه الأحوال إلى أرواحها،

فإن الخوف شبح والقبض روحه، والرجاء شبح والبسط روحه، والسرور شبح

والمشاهدة روحه، فيكون حظه [8] من هذه الثلاثة أرواحها وحقائقها، لا صورها

ورسومها.

***

فصل

قال: (الدرجة الثالثة معرفة الأدب، ثم الفناء [9] عن التأدب بتأديب الحق،

ثم الخلاص من شهود أعباء الأدب) قوله: (معرفة الأدب) يعني لا بد من

الاطلاع على حقيقته في كل درجة، وإنما يكون ذلك في الدرجة الثالثة، فإنه

يشرف منها على الأدب في الدرجتين الأوليين، فإذا عرفه وصار له حالاً فإنه ينبغي

له أن يفنى عنه، بأن يغلب عليه شهود مَن أقامه فيه فينسبه إليه تعالى دون نفسه،

ويفنى عن رؤية نفسهِ وقيامها بالأدب بشهود الفضل لِمَن أقامه فيه ومنته، فهذا هو

الفناء عن التأدب بتأديب الحق. قوله: (ثم الخلاص من شهود أعباء الأدب) يعني

أنه يفنى عن مشاهدة الأدب بالكلية لاستغراقه في شهود الحقيقة في حضرة الجمع التي

غيبته عن الأدب، ففناؤه عن الأدب فيها هو الأدب حقيقة، فيستريح حينئذٍ من كُلفة

حمل أعباء الأدب وأثقاله؛ لأن استغراقه في شهود الحقيقة لم يبق عليه شيئًا من

أعباء الأدب. والله سبحانه وتعالى أعلم.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) نموذج من كتاب مدارج السالكين للإمام العارف المحقق ابن قيم الجوزية وقد أطال في بحث

الأدب مع الله تعالى ثم قال.

(1)

في ب (وتلغى) .

(2)

في ب (الإياس) وكذلك في نسخة المتن.

(3)

في ب (والقعود) .

(4)

وفيها (من) .

(5)

وفيها (الإياس) .

(6)

كتب في هامشه: (لعله يحفظها) وكان يجب أن يزيد كلمة (عليه) .

(7)

في ب (يقصد) .

(8)

في ن (حفظه) .

(9)

في نسخة المتن (الغنى) .

ص: 689

الكاتب: أوسيشكن

‌البروغرام الصهيوني السياسي

بقلم الزعيم الصهيوني أوسيشكن

شرعت جريدة فلسطين بترجمة هذا الكتاب بالعربية ونشره تباعًا فيها،

فرأينا أن ننقل بعض فصوله عنها بمناسبة ما نشرناه في الأجزاء الماضية عن

الجنسية في البلاد العثمانية، ولما فيها من العبر.

الفصل الأول

إن المساعي التي بذلها الشعب الإسرائيلي للخلاص من منفاه بعد أن مضى

عليه فيه نحو ألفي عام، قد تحولت منذ 25 سنة من حالة التفكير والسكون إلى حالة

الحركة والعمل، وذلك لإعادة حياته السياسية الحرة في بلاد أجداده.

ولقد كان ما لاقاه اليهود من المذابح وما قاسوه من الاضطهادات في غربي

روسيا من أكبر البواعث على إخراج هذه المجهودات من حيز الفكر إلى حيز العمل.

ومن يتتبع تلك المساعي يجد أنها كانت تتغير وتتطور تبعًا للظروف ومجاورة لِمَا

كان يضعه الزعماء من البروغرمات والخطط. فجمعيات (محبة صهيون)

و (الصيهونية الروحية) و (الصهيونية السياسية) لم تكن إلا وسائط مختلفة وطرقًا

متعددة ترمي جميعها إلى غاية واحدة وتوصل إلى غرض واحد.

***

الصهيونية السياسية

كل أمة تسعى وراء كيان سياسي مستقل حر، يجب عليها توصلاً لغايتها هذه

أن تراعي ثلاث حالات ضرورية: حالة الشعب - وحالة البلاد - وحالة الظروف

الخارجية.

1-

حالة الشعب: من الشروط الأولية لكل أمة تسعى وراء الاستقلال

السياسي والاقتصادي والأدبي أن يكون شعبها على شيء من الاستعداد لذلك، كأن

يكون ذا شعور قويم راق، وجمعيات قوية منظمة، ورؤوس أموال كبيرة عمومية،

وصبر على احتمال المصاعب، وأهم من ذلك كله أن يكون مستعدًّا دائمًا لتضحية

مصالحه الحاضرة أمام الصالح العام المستقبل. فإذا كانت هذه الشروط جميعها لا

توجد في الشعب ولم تبذل المساعي اللازمة لإيجادها فيه، استحال على الأمة أن

تنشئ لنفسها مركزًا سياسيًّا حرًّا.

2-

حالة البلاد: أمّا حالة البلاد أو الأرض التي تريد الأمة أن تستقل بها

استقلالاً سياسيًّا فيجب أن تكون ملكًا لها بالفعل من الوجهتين الاقتصادية والعقلية،

أعني أن تكون جميع قوى تلك الأرض الحيوية في يد شعبها، وإن كانت الأرض

نفسها تحت سيادة غيره اسمًا، وأن يكون للشعب بها علاقة روحية، وتكون تربتها

مشبعة من دمه وعرق جبينه، وإلا كانت غير صالحة للاستقلال.

3-

حالة الظروف الخارجية: ثم لو فرضنا أن الشعب كان جامعًا لكل شروط

الاستقلال وكانت حالة البلاد موافقة له، فاستقلاله فيها وإعلان حكمه عليها، لا

يتيسران له إلا إذا ساعدته الظروف الخارجية أيضًا، لارتباط مصالح جميع

الشعوب بعضها ببعض وإن تشعبت الطرق المؤدية إليها. ولذلك كان لا بد في كل

حركة قومية من بروغرام سياسي تتمشى عليه لاجتناب ما ربما يقف في طريقها من

العثرات، وإقناع الحكام والمحكومين بإخلاص تلك الحركة وما ينجم عنها من الفوائد،

مع السعي في الوقت نفسه باستمالة الرأي العام الأجنبي، واستخدام أحسن ما فيه

من القوى العقلية والإنسانية لمنفعة تلك الحركة، وإلا أصابها الفشل.

***

الفصل الثاني

إن أحسن بروغرام يجب السير عليه في كل حركة قومية تتطلب الخلاص

والاستقلال هو العمل لها من الجهات الثلاث المذكورة. وبهذه الطريقة فقط تتقدم

وتتقوى من يوم إلى يوم ومن سنة إلى أخرى.

فيصلح حال الشعب ويسهل عليه امتلاك البلاد، وتصبح الظروف الخارجية

ملائمة له، وتكون جميع القوى التي تملكها الأمة قد استخدمت لفائدة تلك الحركة،

فبينما تسعى جماعة مثلاً لتكثير رؤوس الأموال وإفعام خزائن الشعب منها، تكون

غيرها ساعية وراء تعليم العامة وإنماء مداركها وشعورها، وبينما تكون جماعة

ترود البلاد وتدرس حالتها، تأتي أخرى لاستثمارها واستعمارها، وبينما يقوم

البعض بشرح رغبات الأمة وغاياتها أمام الشعوب الأجنبية، يسعى آخرون

بالتعارف مع الملوك والوزراء وما يترتب على ذلك من الأمور السياسية؛ لأن على

مجموع هذه الأعمال المتفرقة التي يقوم بها الأفراد والجماعات في جهات متعددة

وفي وقت واحد - يتوقف نمو الحركة ونجاحها.

وبالعكس فإن النتيجة تكون عقيمة أو قليلة الفائدة [1] إذا حصر المسعى في

جهة واحدة، وبقيت قوى كثيرة مهملة بدون عمل. ومن المحتمل أيضًا أن يكون

هذا العمل الناقص ذا نتائج محزنة في المستقبل؛ لأن أقل عارض يطرأ عليه يوقف

مجاريه فيفقد العملة نشاطهم ومراكزهم، وتقع عامة الشعب في أزمة شديدة، وتصبح

الحركة في طور حرجٍ جدًّا، وفي ذلك من الأضرار ما لا يخفى على أحد.

أما إذا كان العمل مشتركًا، وفي جهات متعددة فحبوط جزء منه في جهة

يعادله نجاح جزء آخر في جهة أخرى. وهكذا تبقي الحركة سائرة سيرًا طبيعيًّا

مطردًا.

لنتصور الآن أن الظروف الخارجية كانت موافقة لرغبات أمة ما تريد أن

تجدد تاريخها وحياتها الاستقلالية في أرض ما، ووافقت الحكومات والشعوب

جميعها على رغبتها هذه، ولم تجد مانعًا خارجيًّا يقف في سبيلها؛ ولكن شعبها كان

من وجهته قليل الثقة بقواه الخاصة قليل الاستعداد لبلوغ الغاية التي ترمي إليها: لا

جمعيات منظمة لديه، ولا أموال عمومية تساعده على اغتنام الفرص المهمة

واستخدامها، فماذا تكون النتيجة؟ تكون النتيجة حينئذٍ أن تلك الفرصة المهمة التي

سنحت تفوت، وربما لا تعود في عدة قرون. ومثل هذه الفرص عرضت مرتين

لليهود عندما طردوا من أسبانيا في أيام الدوق جوزيف دي نكسوس فلم يستخدموها.

ثم لو تصورنا عكس ذلك ورأينا الشعب مستعدًّا للحياة الاستقلالية وليده جميع

الوسائط اللازمة وكانت البلاد في قبضة يده فعلاً ولكن الظروف الخارجية كانت لا

تساعده أو لا تسمح له بالحصول على بغيته، إما لأنه لم يهتم بها، وإما لأنها لم

تكن على استعداد تام لقبول فكرته، فماذا تكون النتيجة؟ تكون النتيجة إذ ذاك أن

الشعب يضطر إلى أن يبقى تحت العبودية والنير في انتظار أيام أحسن. ومثل هذه

الحالة تنطبق الآن تمامًا على حالة أرمينيا العثمانية التي وإن كان استقلالها أمرًا لا بد

منه، إلا أن ذلك يطول ما دامت الظروف الخارجية غير موافقة له.

على أنا إذا وجدنا لِمَا تقدم مثالاً، صَعُبَ علينا جدًّا أن نجد في التاريخ العلم كله

من أوله إلى آخره حالة مفجعة أسوأ من حالة شعب ذكي متعلم راق كالشعب

اليهودي، هبَّ لجمع شتات قواه وتنظيم رؤوس أمواله، وشعر بوجوب استمالة

شعوب وحكام العالم أجمع لمساعدته والأخذ بيده، فوجد بعد كل هذا العناء أن البلاد

التي ينشدها وهي غاية أمانه ومطمح أنظاره ومرمى مساعيه التاريخية - بين أيدي

شعب آخر يضارعه اجتهادًا ولا يقل عنه في مداركه الاقتصادية. ولذلك

فإنني [2] أشعر بوجل شديد وترتجف أعصابي عندما أتصور أن الشعب الإسرائيلي

ربما وجد نفسه في مثل هذه الحالة يومًا ما إذا ظلت مساعي بعض زعمائه منصرفة

إلى جهة واحدة. وحينئذٍ قل: السلام على تاريخه المملوء بالآلام والاضطهادات

وعلى أمانيه وموضوع أحلامه وآماله، وقل: السلام على مستقبله الذي أضرّ به

جهل الزعماء، أكثر من مساعي الأعداء.

***

الفصل الثالث

إن سبب قلة نجاح الحركة الصهيونية في الخمس وعشرين سنة الأخيرة يرجع

معظمه إلى النقص في العمل، فجمعية (محبة صهيون) لم تهتم في بحر عشر

سنوات في غير أمر البلاد وحالة الأرض فقط، فلم تفكر في إعداد الشعب لها وإنماء

مداركه العقلية، ولا بإنشاء رؤوس أموال عمومية، ولم تعرف أن تحول هذه

الحركة إلى حركة رسمية سياسية، ولم تجرب أن تستميل إليها الدول الأجنبية؛ بل

اكتفت بأن تظهر في مظهر المحسن بإنشاء بضع مستعمرات تعيش من مال

الإحسان، ولذلك انتهت هذه المدة الأولى من تاريخ الصهيونية بأزمة سنة 1891.

على أن المدة الثانية التي تلت تلك الأزمة وهي مدة انتشار الصهيونية

الروحية لم تكن بأسعد حظًّا من الأولى فقد أُهمل فيها أمر البلاد كما أُهمل في التي

قبلها أمر الظروف الخارجية. وبعد خمس سنين انصرفت في أثنائها جميع المساعي

إلى التعليم الداخلي وتنبيه الشعور العقلي فقط، نبغ عدد قليل وجملة من الخياليين،

فلم يجدوا لما تعلموه فائدة محسوسة أو عملاً ماديًّا، وبقي مجموع الأمة جامدًا،

وأصبحت الحركة الصهيونية مهددة بالموت. إلى أن عُقد المؤتمر الأول فابتدأت به

المدة الثالثة وهي عصر الصهيونية الذهبي، فبعثت الحركة من مرقدها ودبت في

الأمة روح جديدة؛ لأنها وجدت في المؤتمر ضالتها، ووافقت قراراته هوى في

نفسها.

إن جميع الصهيونيين الحقيقيين أصحاب الوجدان ومفكري الأمة رأوا في

بروغرام مؤتمر (بال) الأول إدعام البروغرامات السابقة بأخرى جديدة حوت صفوة

ما تقرر، وخلاصة رغبات الأمة، ولا سيّما في تصريحه جليًّا على مسمع من

العالم أجمع بأننا نجاهد لإنشاء حكومة يهودية في فلسطين، وأنه لا بد لنا لنصل

إلى هذه الغاية من أربعة أمور:

1-

امتلاك فلسطين اقتصاديًّا وأدبيًّا.

2-

تنظيم قوى الشعب وإنشاء رؤوس أموال عامة له.

3-

إنماء الشعور القومي في الشعب وترقيته.

4-

السعي بكل الطرق السياسية لجعل جميع الظروف الخارجية موافقة لنا.

وفي الحقيقة: إن الشجاعة الأدبية التي أظهرها هذا المؤتمر في إعلان حقوق

الأمة الإسرائيلية في فلسطين، والخطة الجلية الصريحة التي رسمها لبلوغ هذه

الغاية، والقوة المعنوية التي تجلت من خلال أبحاثه - كان فعلها في الشعب اليهودي

فعل المعجزات، فإنه تنبه من سباته العميق، وفي كل محل بلغت إليه أخبار

المؤتمرعقدت الاجتماعات، وألقيت الخطب، فأسست الجمعيات، وتألفت

الشركات. ومنذ ذلك الحين أخذ العمل يتقدم بسرعة وبجد واجتهاد عظيمين، فاشتد

ساعد الجمعية الصهيونية وأنشأت صندوق المال الملي، وانضمت لها قوى سياسية

خارجية، وظهر لنا من نتيجة مقابلات الملوك والوزراء بأن حركتها ستنمى وتتقوى

على مر الأيام.

غير أن القريب من مركز إدارة هذه الحركة والواقف على مجرياتها، يلاحظ

في الحال أن الخطأ العظيم الذي كانت الصهيونية تتألم منه في مدتيها الأولى والثانية -

وأعني به قيادة الحركة من جهة واحدة فقط وتوحيد المساعي وصرفها وراء نقطة

واحدة من نقط البروغرام - مازال يُرتَكَب حتى الآن، وذلك بسعينا وراء العمل

السياسي فقط لاجتناب العقبات الخارجية.

أما الجهات الأخرى فلم يلتفت إليها؛ بل أهملت بالكلية.

فالأمر الأول من بروغرام مؤتمر (بال) وهو امتلاك (فلسطين) اقتصاديًّا

وأدبيًّا كان من نتيجة قلة الاهتمام به أن اللجنة التي عينها المؤتمر للنظر في المسائل

الاستعمارية لم تعمل شيئًا؛ لأنه لم يدخل صندوقها شيء من المال، ووجد مديرو

هذه الحركة في فلسطين أنفسهم بعد ست سنوات أنهم لم يتقدموا خطوة إلى الأمام؛

بل ظلوا في ذات النقطة التي ابتدأوا منها.

ثم إن الآداب الإسرائيلية لم تتقدم أيضًا تقدمًا محسوسًا، وكانت مسألة البحث

في إحيائها تبدو في كل مؤتمر كشبح مرعب. والدليل على ذلك النجاح البطيء

الذي صادفته اللغة العبرانية في السبع السنوات الأخيرة مع أنها من أكبر العوامل

على تنبيه الشعور القومي.

***

الفصل الرابع

ظهر مما تقدم أن إدارة العمل من جهة واحدة لا يمكن أن تأتي بالفائدة

المقصودة، ففي الوقت الذي كانت فيه مساعي الرؤساء جميعها منصرفة إلى العمل

السياسي، كان بقية الأعضاء يطلبون بالحاح شغلاً عمليًّا آخر، ولكن هذا الشغل لم

يكن موجودًا، والعمل السياسي - كما لا يخفى - لا يصلح له إلا رجال

مخصوصون، وهكذا أهملت نفسها التي عليها مدار الحركة، ولم يلتفت إلى حفظ

المواصلات معها، وإرسال قوى جديدة إليها، كما أنه لم يهتم أحد للأعمال العقلية

وتنبيه الشعور القومي، وجل ما عمل إذ ذاك كان منحصرًا في جمع المال وإلقاء

الخطب، إلى أن جاء المؤتمر الرابع. وهذا بدلاً من أن يكون صهيونيًّا - أي أن

يهتم بقيادة الحركة في الطريق السوي - اقترح وضع بروغرام، خلاصته: إنشاء

جمعيات للتعاون وجمعيات خيرية وجمعيات إسعاف لإطعام الجياع وصندوق

للتسليف. فجعل للحركة الصهيونية دخلاً في كل شئ حتى في جمعيات رجال

المطافي الحرة، فكانت النتيجة أن العزائم انحلت وشعر الناس بأن هذه الأعمال لا

تصل بهم إلى الغاية.

ثم حدث ما هو أنكى من ذلك فقد استقرّ في الأذهان أن الصهيونية السياسية

رغم ما بذلته من المساعي واستفادته من وعد الحكومات بمعاضدتها، هي عاجزة

عن تغيير طرق معيشة الشعب اليهودي وإصلاح أحواله وتحسين معاملته ودفع

الحيف عنه في أكثر البلاد التي يقطنها، ولذلك كان كل عمل الصهيونية في نظر

الأمة الإسرائيلية لا يساوي شيئًا. وقد أصاب الناس في هذا الاعتقاد؛ لأن أمورهم

الاقتصادية كانت تزداد سوءًا من يوم إلى يوم، والمهاجرين يغادرون بلادهم

بالألوف، والحرائق والمذابح والاضطهادات يتلو بعضها بعضًا، الأفواه تردد

بأصوات عالية قائلة: أعطونا عملاً، نريد شغلاً، فلم يجدوا من الصهيونية ما

يحقق آمالهم فيها. ومما زاد في الطين بلة على إثر ذلك: قيام عثرة جسيمة في

طريق سياستنا اضطرتها في سنتها السابعة أن توقف عملها مدة من الزمن فوقفت

الحركة من جميع الجهات.

على أن وقوف دولاب الحركة هذا لم يكن ليضرها بمقدار ما أضرّت بها فكرة

بعضهم في استعمار أوغندا، وهي أعظم غلطة ارتكبت في مدة الخمس وعشرين

سنة الماضية من تاريخ الصهيونية؛ لأن الأنظار تحولت إذ ذاك إلى هذه الوجهة.

وانشقت الحركة إلى قسمين وانتشبت الحرب بين الإخوة وتمزق العمل فكان من

نتيجة ذلك حدوث أزمة هائلة. وبعد أن كان الصهيونيون قبل المؤتمر السادس

أقوياء لا في سياستهم أو في أموالهم أو في جمعياتهم فقط؛ بل في اتحادهم ووحدة

مبدئهم - جاءت هذه الفكرة فهدمت ذلك الاتحاد إلى سنين كثيرة، وزادت عليه

فقضت بما أحدثته من التأثير السيئ على زعيمنا الأكبر هرتسل العظيم منشئ

المؤتمرات، وذلك عندما رأى صروح عمله تنهار وأتعابه تذهب أدراج الرياح.

إن الأمة الإسرائيلية تجتاز الآن زمنًا مخيفًا فقد أصبحت لا قائد لها ولا

بروغرام، وأصبح أفرادها لا ثقة للواحد منهم بالآخر، والكل يجهل ما تؤدي إليه

هذه الحالة. ومَن يعلم ماذا يضمر لها المؤتمر السابع، وهل هو يجري على خطة

المؤتمر السادس ويتمم ما ابتدأ به من هدم جميع ما اشتغلنا فيه مدة 25 سنة أو هو

يستخرج من اليأس قوة عظيمة فيسعى للتفكير عن تلك الزلة الهائلة التي ارتكبها

المؤتمر السادس فيضع خطة جديدة لإدارة العمل.

إنني أريد أن أعتقد أنه سيختار الخطة الثانية؛ لأن السبيل الموصل إليها سهل

هين، وهو الرجوع إلى بروغرام مؤتمر (بال) بجملته وما فيه من الصراحة.

***

الفصل الخامس

إن النقطة الأساسية في بروغرام مؤتمر (بال) هي إنشاء وطن سياسي حر

مستقل للشعب الإسرائيلي في فلسطين. ويفهم من هذا بوضوح أن الغاية الوحيدة

من الحركة الصهيونية هي إنشاء بلاد سياسية حرة مستقلة لليهود في فلسطين، لا

إيجاد ملجأ أو مركز روحي لهم، وقد ذُكرت فلسطين ولم يُذكر غيرها؛ لأن كل

سعي يرمي إلى بلاد غير فلسطين ليس هو من الصهيونية في شيء، وأحرى بالقائمين

به أن لا يستظلوا بالعلم الصهيوني لنشر فكرتهم. ولذلك أصبح من واجب المؤتمر

السابع أن يهدم ما وضعه أولئك المنافقون المتظاهرون بالصهيونية، ويزيد على

بروغرام المؤتمر الأول كلمة واحدة لها معنى كبير وهي كلمة (فقط) أي (في

فلسطين فقط) ويحتاط بمادة أخرى يضيفها إلى القوانين الأساسية الصهيونية تضمن

لمجموعها التنقيح والتغيير فيها.

وهنالك أيضًا أشياء أخري يجب على المؤتمر تقريرها. منها أن يصادق على

طرق العمل التي وردت في المواد الأربع المذكورة في بروغرام مؤتمر بال. وأن

لا ينقص حرفًا منها ولا يزيد عليها شيئًا من شأنه أن يصرف الأذهان إلى طرق

أخرى كإنشاء ملاجئ أو مستعمرات خيرية، فإذا عمل ذلك سَهُل عليه إنهاض

الحركة من كبوتها والقبض على أَزِمَّتِها والسير بها في أقوم طريق. وها نحن أولاء

نأتي الآن على شرح تلك المواد الأربع من بروغرام مؤتمر بال لا كما وردت

بالترتيب ولكن بحسب درجاتها في الأهمية وما يتراءى لنا من سهولة تناولها.

(لها بقية)

(المنار)

لو لم ينشر من هذا الكتاب الصهيوني إلا هذه الفصول لكفت من يعتبر من

العرب الفلسطينيين وغيرهم عبرة وبيانات لمقاصد هؤلاء الصهيونيين. وليعلم من

لم يكن يعلم دين هذه الأمة وتاريخها أن الصهيونيين إذا تم لهم ما يريدون فإنهم لا

يبقون (في أرض الميعاد) التي يؤسسون ملكهم الجديد فيها مسلمًا ولا نصرانيًّا.

وليست أرض الميعاد أو فلسطين عندهم ما نسميه نحن الآن فلسطين فقط؛ بل هي

في عرفهم وتحديد كتبهم الدينية تمتد إلى سوريا حتى (النهر الكبير) أي نهر

الفرات. فهذه بلاد لا يجوز عندهم أن يقيم فيها أحد غير الإسرائيليين. وفي سفر

(تثنية الاشتراع) أن الرب أمرهم عند دخولهم فيها بعد خروجهم من مصر على

يد موسى صلى الله عليه وسلم أن لا يستبقوا من أهلها نسمة ما. والنص في ذلك

تجده في باب الفتاوى. نعم إنهم لا يبيدون الآن مَن فيها من غير اليهود بالسيف

والنار كما فعل أسلافهم من قبل؛ بل يبيدونهم بقيد الكيد والمال، وهما قوتان لهذا

الشعب الصغير ترهبهما كبرى الأمم والدول، حتى إن دولة الروسية القوية القاهرة

أنشأت تستميل في هذه الأيام يهود بلادها على قلتهم لئلا يحدثوا فيها أحداثًا وفتنًا

داخلية تزلزل أقدامها في هذه الحرب التي تقتضي مصلحة الدول المحاربة فيها أن

لا يكون لها شاغل داخلي يشغلها. فماذا عسى أن يفعل العرب أصحاب فلسطين من

أسباب المحافظة على وطنهم وأملاكهم فيه على تفرقهم أو جهل السواد الأعظم منهم

بكنه الخطر وكنه قوة مزاحميهم، وعلى جهلهم أيضًا بقوة أنفسهم وبطريق الانتفاع

بها؟

لا أقول: إنه لا يمكن أن يعملوا؛ ولكن أقول: لا بد من الروية والحزم وقوة

الاجتماع، ولا بد من المسارعة إلى تنظيم وسائل الدفاع، وليعلموا أنه لا يكاد يوجد

شعب من شعوب الأرض غافل عن قوته واستعداده كالشعب العربي. فقوته

واستعداده كامنان فيه كمون النار في حجر الصوان تحت الثلج، فمن ذا الذي يزيل

أو يذيب الثلج عن هذا الحجر الصلد، وأين مقدحة الحديد التي تقدح النار من هذا

الزند؟ ستجيب عن هذين السؤالين الأيام، فإن الجواب عنهما أحداث وأفعال لا

أحاديث ولا كلام.

_________

(1)

هذه عبارة تستعملها الجرائد على أنها منطقية، وما هي بمنطقية، ولكنها فاسدة فالنتيجة لا تكون عقيمة؛ وإنما تسمى المقدمات التي ليس لها نتيجة صحيحة مقدمات عقيمة أي غير منتجة، ولفظ العكس مستعمل في محله أيضًا والمراد من الكلام أن نتيجة ما يأمن السعي يكون ضد نتيجة ما تقدم.

(2)

يكثر مثل هذا التعبير في الجرائد وكتابة بعض المتأخرين أعني الجمع بين لام التعليل وفاء السببية بهذه الصفة وقد يكون المقام لأحدهما فقط والاستعمال الفصيح في الجمع بينهما أن يقال: فلذلك أشعر بوجل شديد، فإن احتيج إلى التأكيد قيل: فإنني لذلك أشعر بوجل، إلخ.

ص: 697

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌المراسلة والمناظرة

...

...

(تمثيل القصص)

بسم الله الرحمن الرحيم

إلى فضيلة الرشيد المرشد، شائد منار السنة، مولانا السيد محمد رشيد رضا،

أيَّدَهُ اللهُ وأَيَّدَ ثَمَرَاتِ مَسْعَاهُ آمين.

السلام عليكم ورحمة الله. إني أَحْمَدُ إِلَيْكُمُ اللهَ الآمرَ بالتواصي بالحقِّ،

وأصلي وأسلمُ على صفوةِ الخَلْقِ وآله وصحبه أَلْسِنَةِ الصِّدْقِ.

أما بعد؛ فقد رأيت لفضيلتكم في الجزء السابع من المجلد السابع عشر من

مناركم الأغر فتوى في حل التمثيل وحضوره عُلّل فيها الحل بأنه لا نص على

حرمته وليس ذريعة لفساد حتى يحرم سدًّا للذرائع، فلا يحرم إلا على مَن يغريه

بمحرم، ما لم يكن موضوعه منكرًا بحيث يكون موضوع القصة الممثلة عملاً

محظورًا فيحرم إذًا، ولا عبرة بوجود نساء في موضعه كاشفات الرؤوس والسواعد؛

إذ الغالب أن يكن كافرات غير مخاطبات بالفروع، وأن يكون الناظر لمقصود

التمثيل فقط، على أنهن كثيرًا ما يرين في الطرق على تلك الصفة فلا فرق بين

رؤيتهن كذلك فيها ونظرهن بهذه الصفة في موضع التمثيل. هذا معنى ما جاء في

جوابكم. وفيه أن كون التمثيل لا نص على حرمته يرد بأن حضور النساء كاشفات

على ما مر مبديات زينتهن المبالغ في التأنق فيها جزء من التمثيل الغرامي وذلك

محرم بنص {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} (النور: 30) {وَلَا يُبْدِينَ

زِينَتَهُنَّ} (النور: 31) الآية.

والنصوص المانعة من حضور المنكر والتسبب فيه، وعدم كونه ذريعة فساد

يرد بأنا نعلم بالسير أن الأكثر يتهافتون جدًّا على التمثيل الغرامي لا لشيء سوى

وجود أولئك النساء؛ بدليل أنهم لا يعتنون كذلك بما لا يحضرونه، ونسمع الكثير

يسألون عن حال الممثلات من حيث نحو الجمال قبل السعي إلى التمثيل، حتى لقد

اتخذ هذا الضرب من التمثيل وسيلة لمحض التكسب به كثير من فاسدي الأخلاق

الذين لا يعقل أن يقصدوا تهذيب غيرهم، وسمعنا كثيرًا غب مفارقة التمثيل يلهجون

بوصف جمال الممثلات ورونق زينتهن ورخامة أصواتهن، وأنبأنا بعض مَن

حضروا ذلك التمثيل ثم تابوا لما رأوا من سيئ أثره بأن من الحضور مَن كان

مستصحبًا نظارة تجعل الممثلة كأنها إلى جنبه، وهذا مما يؤكد سوء آثار حضور

التمثيل المذكور وأنه لا يكاد يسلم من ذلك أحد مهما كان ورعًا، على أنه يحضره

كثير ممن لا عناية لهم بالأخلاق، ولا وازع يزعهم عن الاسترسال في مطلق

الشهوات، فيخرجون وقد استفحل الداء في نفوسهم، واستولت الاضطرابات على

قلوبهم، وكون الكفار غير مخاطبين بالفروع مختلف فيه ومعتمد الشافعية

والمالكية الخطاب لدخولهم في عموم الوعيد، والآية: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ

نَكُ مِنَ المُصَلِّينَ} (المدثر: 42-43) إلخ، ولئن سلم جواز السفور للكافرات

لم يسلم جواز حضور مكانهن حال السفور مع نظرهن، للأمر بغض البصر

وتحريم النظر لغير الوجه والكف بالسنة دون فرق بين مؤمنة وكافرة.

وهو مقتضى حكمة تحريم النظر، وهو كونه بريد الزنا - كما ورد - بلى

سُمِّيَ في الصحيح زنا العين، وقد أطلتم في بعض أبحاث المنار القول في مفاسد

النظر بما يُعلم به أن مفسدته تغلب مصلحة التمثيل الغرامي، إن كانت.

أما كون الناظر إنما يلاحظ مقصود التمثيل، فخلاف ما عهدنا في كثير. نعم

من الناس من هو كذلك ولكن قليل ما هم. وأما التسوية بين نظر السافرات في

مواضع التمثيل ونظرهن في الطرق فقد يرد بأن الماشي في الطريق غير مستقر في

موضع فتصادفه منهن من تصادفه بدون قصد أو به، مع شدة الحاجة إلى الشيء

فيه، ومع كون اللاتي فيه لا يتأنقن في الزينة تأنق الممثلاث اللاتي يُختارون من

أجمل الطبقات، ويعددن من الزينة ما تجلب به الرجال للتمثيل ويبالغن في ترخيم

أصواتهن عند قراءة الأشعار الغرامية التي قد تحدث وحدها في النفس أثرًا سيئًا،

فما الظن إذا حدث من نسوة على هذه الصفات بهذا الترخيم على مرأى من الرجال

الذين جبلوا على شدة الميل إلى مثل ذلك، فهذا كله يقتضي أن مفسدة مثل هذا

التمثيل غالبة، على أن لنا عما يقصد منه من الاعتبار والتهذيب غنى بآداب ديننا

التي جاء بها القرآن والآثار وحكم العارفين، فما بالنا نفزع في طلب العظة إلى هذا

الأمر الذي ضُره أضعاف نفعه؟ إني لأعتقد أن لتمثيل القصص الغرامية الحظ

الأوفر في إفساد أخلاق المصريين والمصريات، والذين عُرف بالاستقراء فرط

شغفهم بالشهوات وتكالبهم على الزخارف وإن كانت محظورات، وعدم مبالاتهم

بالتهتك، ولذا كنت أود أن تفسحوا في مناركم الأغر مكانًا لانتقاد ذلك التمثيل

والتنفير منه جدًّا مادام على غير صفة شرعية. والآن أرجو إبانة رأيكم بعد ما

ذكرت لكم ما عندي ليستنبين الحق أتم استبانة، لازلتم عضدًا للحق والحقيقة.

...

...

...

...

... (محمد زهران)

(المنار)

إن ما ذكره أخونا الكاتب من وصف التمثيل خاص بتمثيل القصص الغرامية

المعهود بمصر، وهو مبني على السماع والمبالغة في دعوى براعة جمال الممثلات

ورخامة أصواتهن وافتتان الرجال بهن. وكلام المنار السابق في التمثيل المطلق،

ومنه ما يقوم به الرجال وحدهم وما يقوم به نساء لسن من مظنة الفتنة في شيء.

وإذا ثبت أن التمثيل الذائع هنا مصدر للفتنة، وذريعة للمفسدة، فهو مما جزمنا

بتحريمه في كلامنا السباق، ومن الغريب جعله آية نهي المؤمنات عن إبداء زينتهن

نصًّا على وجوب ذلك على الكوافر بمعنى مطالبتهن به كالمسلمات، وجعل هذا

مذهبًا للشافعية! وإنما المذهب أن الكفار يعاقبون على ترك فروع الشريعة في

الآخرة بدليل آية المدثر التي ذكرها، بل قال (لعموم الخطاب) وإنما الخطاب في

الآية للمؤمنات، وفي الرسالة مسائل أخرى قابلة للبحث والنقد ولا حاجة إلى ذلك.

وحسبنا أن نقول: إن حكم هذا التمثيل منوط بمافيه من المصلحة أو المفسدة، والثاني

هو الذي يحظر دون الأول.

* * *

المعازف - آلات اللهو

بسم الله الرحمن الرحيم

فضيلة الأستاذ الأوحد رافع منار الدين، وحامي حوزته السيد محمد رشيد

رضا الحسيني أنجح الله تعالى مساعيه وأكثر في المسلمين من أمثاله.

السلام عليكم ورحمة الله؛ إني أحمد إليكم الله الذي وفقكم لأجل الخدمات

الإسلامية، وأصلي وأسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسائر القائمين بنصرة

الشريعة المحمدية.

أما بعد فقد كنت منذ بدء اشتغالي بالعلم شديد العطش إلى معرفة الحق في

مسألة آلات الملاهي فكنت أراجعها في كل كتاب تيسر لي من كتب المقلدين

والمستقلين فلا يُشفى لي غليل، حتى أتيح لي مراجعتها في نيل الأوطار مرارًا فكاد

يثلج صدري بتحقيق ذلك العالم الرباني، وكنت أقرأ في المنار الأسمى أجوبة أسئلة

في هذا الشأن تحيل استيفاء البحث على أول أجزاء المجلد التاسع وتاليه فيشتد

شغفي لاقتنائهما حتى تيسر ذلك، فأمتعت الفكر بمطالعة المبحث فيها فإذا حاصل ما

زدتموه على الشوكاني في نيل الأوطار أن رجحتم أدلة الإباحة على أدلة الحظر

بموافقتها للبراءة الأصلية ومقتضى الفطرة وسماحة الدين وكونها صحيحة دون أدلة

الحظر. وقولكم: إن أدلة الحظر تحظر المعازف - والدف منها قطعًا - أي فتكون

معارضة لأحاديث جواز الدف. فتُقَدَّم هذه لما مر - وقولكم: إن غناء النساء الثابت

جوازه في الصحيح أشد الملاهي تأثيرًا في النفس. أي فغيره أولى بالجواز -

وقولكم عقب نقل كلام الشوكاني: ومعلوم أن نذر الحرام أو المكروه لا ينعقد، وهذا

يبطل دعوى الشوكاني نهوض أدلة المانعين شبهة على المنع - وقولكم في حاشيتي

صفحتي 46و47 من الجزء الأول بعد نقل كلام الشوكاني في رد الحافظ ابن حجر

على ابن حزم في دعواه انقطاع حديث المعازف الذي في الصحيحين ما نصه:

ومنه تعلم أن الحافظ ابن حجر والشوكاني يعترفان بأنه لم يصح من الأحاديث

الواردة في حظر آلات اللهو إلا الحديث الأول مما أوردنا، وزيادات أخرى

أوردتموها في بحث القياس الفقهي في السماع وفي خلاصة البحث، أما ترجيح أدلة

الجواز لموافقتها لأصل الإباحة ولمقتضى الفطرة ويسر الشريعة فإنما يصح لو

تعارضت أدلة الجواز وأدلة المنع، ولا تعارض؛ إذ القاعدة الأصولية تقتضي

تخصيص أحاديث تحريم المعازف بغير ما صح في الأحاديث جوازه من الدف

والغناء كما هو الشأن في تخالف العام والخاص، ولذا لم يحرم الشافعية ما ذُكر من

الدف والغناء حيث أُمنتْ الفتنة بالثاني، وخص المالكية جواز الدف في النكاح أو

لكل سرور وقوفًا مع ظاهر الوارد. وأرى هذا قريبًا وأحوط.

وأما الترجيح بصحة أدلة الجواز وضعف مقابلها ففيه أنكم اعترفتم تبعًا

للحافظين بصحة حديث البخاري في المعازف، وهو كافٍ في إثبات المنع غير أنه

يخص بأحاديث الدف والغناء كما مر، وبذا علم ما في قولكم أن أدلة المنع تحظر

المعازف والدف منها.

وأما كون غناء النساء أشد الملاهي تأثيرًا في النفس فغير مُسلّم على العموم؛

إذ ليس غناء كل امرأة أشد تأثيرًا من كل لهو آخر؛ بل كثيرًا ما يكون صوت العود

مثلاً أشد تأثيرًا من غناء بعض النساء.

على أنه بعد صحة الحديث بتحريم المعازف المراد بها غير الغناء والدف

بدليل الأحاديث الأخرى - لا مساغ لهذا؛ إذ لا يجوز إلغاء حديث صحيح لمجرد

توهم مخالفته لمقتضى القياس الأولوي على ما في حديث آخر؛ لأنه لا وثوق لنا

بأن عليَّة جوازها في هذا الحديث هي ما فهمناه؛ إذ لا مانع من كون العلة شيئًا آخر

لم يبلغه إدراكنا، فلماذا لا نجمع بين الأدلة ما أمكن ونعمل بجميعها امتثالاً لما أُمرنا به

من الأخذ بكل ما أتانا به الرسول صلى الله عليه وسلم؟

وأما كون الأمر بضرب الدف لمن نذره يدل دلالة واضحة على جواز الملاهي

لعدم انعقاد نذر المنهي عنه - ففيه أن ذا إنما يدل جليًّا على جواز ضرب الدف فقط

فيخصص بذلك وبأحاديث الغناء - حديث منع المعازف كما سبق - فيبقى باقيها

على المنع، فكيف يقال: إن الأمر المذكور قد منع نهوض أدلة المنع شبهة.

وأما كون اقتصار الحافظ على رد تضعيف حديث البخاري في المعازف يدل

على أنه يرى ضعف سائر الباب - ففيه أنه قد يكون سكوته عن بيان حالها لعدم علمه

به لا لعمله بضعفها.

وبعدُ فإني أرى أن ما استنتجه الشوكاني من كلامه الطويل من أن المقام مقام

شبهة فقط لا يصلح نتيجة لبحثه فإنه نقل أجوبة المجوزين عن حديث البخاري

المعلق وردها، فعلم منه أن الحديث حجة للمانعين، وقد قال في خلال البحث: إن

الأحاديث ينهض مجموعها حجة لتعاضدها، فقد نصر المانعين بحجتين سلمهما.

وما احتج به للمجوزين من نحو عموم {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} (الأعراف:

157) يرد بتخصيصه بتينك الحجتين. وبعد دلالة السنة على المنع لا مساغ لمقاس

فقهي ولا غيره إلا قياس مع وجود دليل من كتاب أو سنة. فصفوة بحث الشوكاني

نُصرة المانعين وترجيح التحريم، لا مجرد أن المقام مقام شبهة.

نعم قد يقال: إن لفظ المعازف جمع محلى بال وهو للعموم، فمعنى

استحلال المعازف استحلال جميعها حتى نحو الغناء المهيج على محرم، فيكفي في

تحقق معنى الحديث تحريم مثل ذلك ويكون هذا جمعًا مقبولاً بين الأدلة يتفق مع

القياس الفقهي ومع الأمور التي رجحتم بها أدلة الجواز.

وقد يرد كون مجموع أحاديث الحظر غير الأول ينهض حجة بأن تعدد

الأحاديث الضعيفة إنما يقتضي بلوغ درجة الحسن إذا كان الضعف لنحو سوء حفظ

الراوي لا لفسقه أو اتهامه بكذب، والأول غير متحقق هنا فلا جزم بالحسن. ولو

أن الشوكاني ذكر هذين النقضين لأنتج بحثه ما ذكره من أن الموضوع موضوع

شبهة. فخلاصة بحث الفقير هو ما رآه الشوكاني أخيرًا من الاشتباه لا ما رأيتموه.

وقد أطلعت فضيلتكم عليه كي تروه أو تردوه. ولي وطيد الأمل أن تعيروا ذلك

عناية تامة إحقاقًا للحق، وإزالة للثام الشبهة عن وجهه، لا برحتم عَلَمًا للمهتدين،

ونبراسًا للمستضيئين.

...

...

...

... محمد زهران

خادم العلم الشريف ببندر المحمودية (بحيرة)

...

...

...

وأحد مشتركي المنار الأغر

(المنار)

يؤخذ من لسان العرب وغيره من المعاجم أن العزف يطلق في اللغة

على اللهو وعلى اللعب وعلى بعض الأصوات كالغناء والنواح والرعد والريح،

وصوت الرمل إذا هبت بها الريح، وقيل إن هذا هو الذي كانت العرب تطلق كلمة

(عزيف الجن) على ما يسمع منه في الليل. ويطلق بكثرة على الدف أو صوته،

والعزيف: الصوت. قال في اللسان: عزف يعزف عزفًا: لَهَا، والمعازف:

الملاهي، واحدها معزف ومعزفة. وعزف الرجل يعزف إذا أقام في الأكل

والشرب. وقيل واحد المعازف: عزفة، على غير قياس، ونظيره ملامح ومشابه

في جمع شبهة ولمحة، والملاعب التي يضرب بها يقولون للواحد والجمع: معازف،

رواية عن العرب. فإذا أفرد المعزف ضرب من الطنابير ويتخذه أهل اليمن.

وغيرهم يجعل العود معزفًا، وعزف الدف: صوته وفي حديث عمر أنه مر بعزف

دف فقال ما هذا؟ قالوا ختان، فسكت. العزف: اللعب بالمعازف، وهي

الدفوف وغيرها مما يضرب به. وكل لعب عزف. اهـ المراد.

فمن تأمل هذه المعاني يعلم أنها هي التي كانت تراد من العزف والمعازف في

عصر النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يصح نص بتحريم شيء منها، وكان أشهر

آلات الملاهي في ذلك العصر الدف وقد ثبت في السنن العملية والقولية إباحته

واستحبابه في بعض الأوقات كالعرس. وسائر آلات اللهو التي لم تكن في ذلك

العصر معروفة أو مشهورة يصح إطلاق لفظ المعازف عليها كما يصح إطلاق لفظ

الخمر على المسكرات التي حدثت بعد عصر الوحي وإن لم تكن تخطر هذه ولا تلك

في بال من يطلق اللفظ قبل وجودها. ولو جاء في الكتاب أو السنة نص صريح في

تحريم المعازف لكان أول ما يتبادر إلى فهم الصحابة منه تحريم ما كان ذائعًا في

عصرهم منه كالدف. ثم يلحق به غير الذائع وغير المعروف عندهم بعموم اللفظ

إذا كان الوضع اللغوي يساعد على ذلك، أو بطريق القياس إذا اتحدت العلة.

وقد علمنا من عبارة لسان العرب أن تسمية العود معزفًا ليس متفقًا عليها.

ولو كان المشهور من المعازف التي كانت في عصره صلى الله عليه وسلم محرمًا

لورد النص عليه في الكتاب أو السنة المشهورة لتوفر الدواعي على نقل ذلك

واشتهاره، ولم يصح حديث مشهور ولا دون المشهور في التنصيص على تحريم

شئ منها؛ بل صح ما يدل على الإباحة كما يعلم أخونا الباحث المنتقد. واشتهر

عن بعض كبار الصحابة والتابعين وأئمة الحديث كرواة الصحيحين والسنن أنهم

كانوا يبيحون الغناء والأوتار لا الدفوف فقط! وكان جمهور هؤلاء من أهل المدينة

الذين هم أجدر الناس بمعرفة السنن المتبعة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم.

أما الحديث الذي هو موضوع البحث والسؤال فليس نصًّا ولا ظاهرًا في إنشاء

حكم تحريم المعازف ولا خبرًا بمعنى إنشاء ذلك. وإنما هو حديث آحادي في

الإخبار عن شيء يقع في المستقبل كالأحاديث في أشراط الساعة وأماراتها الواردة

في سياق الكلام عن الساعة. أو في مناسبات أخرى: كحديث أبي هريرة عند أحمد

ومسلم: (صنفان من أهل النار لم أرهما بعد: قوم معهم سياط كأذناب البقر

يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات، مميلات مائلات، على رؤوسهن

كأسنمة البخت، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا

وكذا) فهذا الحديث ليس إنشاء لتحريم حمل السياط التي تشبه أذناب البقر (وهي

التي نسميها الكرابيج) وضرب الناس بها، ولا لتحريم كل وصف من أوصاف

النساء التي فيه؛ ولكنه يدل ضمنًا على أن كلاًّ من الصنفين يتلبس بمحرم يستحق

به عذاب الله تعالى. إن لم يكن في جزئيات ما وصف به ففي جملتها ومجموعها.

ولا بد أن يكون لتلك المحرمات أدلة تدل عليها من شرع الله تعالى في غير هذا

الحديث.

فأنا أفهم حديث المعازف الذي نتكلم فيه كما أفهم هذا الحديث: أفهم أن

حديث أبي هريرة يبين حال رجال من الظلمة يحملون نوعًا من السياط يضربون

بها الناس بغير حق، لأنهم أنشأوا لأنفسهم شريعة في عقاب المذنبين إليهم بذلك.

فحمل السياط التي تشبه أذناب البقر ليس محرمًا؛ إذ لا دليل على تحريمه،

وضرب الناس بها إذا كان في إقامة حد الله تعالى على الوجه المشروع ليس محرمًا

أيضًا.

ولكن ضرب الكرابيج الذي كان معهودًا بمصر محرم شرعًا لأنه من الظلم

المبين، وحرمته معلومة من الدين بالضرورة. وكذلك النساء الكاسيات العاريات

بما يلبسن من الشفوف التي تحكي ما تحتها من البدن، لا دليل في الشريعة على

تحريم هذا منه إذا فعلنه أمام أزواجهن فقط، ولك أن تقول مثل هذا في سائر

أوصافهن في الحديث، ولكن وجد في هذا العصر نساء يبرزن بهذه الصفات مع

الأجانب، وقد فسدن وأفسدن بذلك كثيرًا من الناس، فكل أفعالهن هذه محرمة بلا

ريب.

وعلى هذا النحو ومثل هذا الفهم أفهم حديث أبي عامر أو أبي مالك: (ليكونن

من أمتي قوم يستحلون الحِر والحرير والخمر والمعازف) ، معناه: سيوجد من

أمتي قوم يغلب عليهم الجهل بالدين أو التأويل للنصوص حتى توافق أهوائهم،

فيقعون في الحرام معتقدين بالجهل بالدين أو التأويل للنصوص حتى توافق أهواءهم،

فيقعون في الحرام معتقدين بالجهل أو بالتأويل أنه حلال، كاستحلالهم الفروج

بالمحلل من الطلاق الثلاث، وبالتسري بالحرائر اللواتي يبيعهن آباؤهن أو يُختطفن

من بلادهن، وكذلك يستحلون لبس الحرير الذي هو منتهى الزينة التي لا تليق إلا

بالنساء باعتقاد أن المحرم منه ما كان حريرًا خالصًا، وما يلبسونه مشوبًا بقطن أو

كتان - مثلاً - ويستحلون الخمر التي يستحدثونها بدعوى أن المحرم لذاته منها ما

كان من عصير العنب، ولا يحرم من غيره إلا القدر المسكر الذي لا يميز شاربه

السماء من الأرض - مثلاً - ويستحلون المعازف المستحدثة على الوجه الذي بُين في

رواية الحديث الأخرى: (يعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات) والمراد

بالمغنيات هنا القيان المشار إليهن في حديث علي وأبي هريرة عند الترمذي في

الخصال الخمس عشرة التي يترتب عليها نزول البلاء بهذه الأمة قبل الساعة ومنها:

(وظهرت القيان والمعازف وشربت الخمور) فالمراد من ذلك شيء لم يكن في

زمنه صلى الله عليه وسلم مع العلم بأن كل هذه المفردات كانت موجودة، وهو ما

استحدثه بعض الفساق مع الجمع بين العزف والغناء وشرب الخمر، ويدل عليه

قول بعض علماء اللغة في تفسير القينة؛ وهو أن المراد بها الجارية البيضاء التي

تغني للرجال في مجلس الشرب. فاقتران المعازف بالقيان وشرب الخمر هو

المخبر عنه بأنه من أسباب حلول البلاء وإن لم يذكر ذلك في كل رواية للحديث -

وهو حديث واحد لا يعرف المراد منه إلا بعد معرفته كله - وكثيرًا ما يكون

الاقتصار على بعض ألفاظ الحديث سببًا لجهل المراد منه. ومثله في هذا الحديث:

(وأَطَاعَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ وَعَقَّ أمَّهُ وأَدْنَى صَدِيقَهُ وأَقْصَى أَبَاهُ) فإطاعة المرأة

وإدناء الصديق ليس منكرًا في الدين؛ وإنما كان أنكر باعتبار اقترانه بعقوق الأم

وإقصاء الأب. أو فهم منه أن إطاعة المرأة وإدناء الصديق في اتباع الهوى

والمنكرات.

وجملة القول أنني أفهم الحديث الذي نحن بصدد البحث فيه كما أفهم أمثاله مما

ورد في أنباء المستقبل التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم، فأجزم بأنها ليست

تشريعًا، وإنما هي إخبار بأشياء ستحدث بعده فما دل منها على تحريم شيء لا

يعرف فيه دليل على تحريمه فلا بد أن يكون ما أخبر به صلى الله عليه وسلم سيقع

على وجه محرّم، وأن يكون عنى به وقوعه على ذلك الوجه، كحديث الرجال

الذين بأيديهم سياط كأذناب البقر إلخ وغيره.

فهذه الأحاديث لا يقع التعارض والترجيح بينها وبين نصوص الكتاب والسنة

في التحليل والتحريم كما فعل الباحث؛ إذ جعل السنن العملية والقولية التي صحت

في إباحة المعازف والغناء مخصصة لعموم لفظ المعازف في حديث: (ليكونن

أناس من أمتي) كأنه هو الأصل في تحريم ما ذكر، وكأن النبي صلى الله عليه

وسلم أراد بما سمعه وما أجازه وأقره أو ندب إليه من سماع الدفوف والغناء في

الوقائع المختلفة تخصيص ذلك العموم، وجعل ما كان يقع في عصره من عزف

الناس وسماعهم بسائق الفطرة استثناء من ذلك الأصل التشريعي العام ولا يفهم هذا

الفهم ويقول هذا القول ذو ملكة عربية إلا إذا حصر نظره في تحكيم قواعد أصول

الفقه في أمرين أحدهما: لفظ يدل على حرمة المعازف مطلقًا، وثانيهما: لفظ أو

عمل يدل على إباحة بعضها، فهو يعد الأول بمعنى:(حرمت عليكم المعازف)

أو (اجتنبوا المعازف) أما إذا نظر في أسلوب الحديث وسياقه الذي بيَّناه وقارنه

بأمثاله من الأحاديث، فإنه يجزم بما جزمنا به. ويعلم أن تحريم الشيئ ابتداء وجعله

حكمًا شرعيًّا لا يكون بمثل تلك العبارة، وناهيك بشيء من مقتضى الفطرة عهد من

الناس في كل زمان ومكان.

فلو أراد الشارع تحريم مثله لحرمه بنص صريح يبلغه جمهور الأمة، وتتوفر

الدواعي على نقله بالتواتر أو الاستفاضة.

فعُلم مما شرحنا أن هذا الحديث لم يقصد به تحريم ما ذكر؛ وإنما قصارى ما

يدل عليه أنه سيوجد قوم يسرفون في ذلك إسرافًا مقترنًا بالفساد، وبمنكرات قبيحة

محرمة بنص الكتاب، كشرب الخمر وتهتك القيان، وأنهم يستحلون ذلك بِعدِّ

معازفهم الإفسادية من قبيل المعازف التي أباحها الشرع لترويح النفس في بعض

الأحايين، أو السرور بنعمة الله في أيام الأعياد والأعراس وقدوم المسافرين، من

غير أن يقترن بها منكر من المنكرات المحرمة في الدين، كما يستحلون بعض

الخمور بعدها من قبيل النبيذ المباح الذي هو نقيع نحو التمر والزبيب في الماء الذي

لم يختمر فيصير مسكرًا. وما شدد من شدد من الفقهاء في إطلاق تحريم السماع إلا

لمثل هذه المفاسد التي فتن بها المغرمون به حتى صارت من لوازمه عندهم. وما

أنكر عليهم مَن أنكر من المحدثين والفقهاء والصوفية إلا تعميم التحريم، وتكلف

الاستدلال عليه بالآيات والأحاديث، ولم يسلم لهم دليل مما استدلوا به. كما يعلم من

الكتب المؤلفة في إباحته، ومن مثل نيل الأوطار والإحياء وشرحه.

والقول الفصل أن الأصل في العزف والمعازف (ومنه الغناء واللعب)

الحل. وأنه ورد في السنة ما يؤيد هذا الأصل كلعب الحبشة في المسجد وغناء

الجواري وسماع الدف والإذن به، وإن الحرمة تعرض لبعض ذلك، كما يعرض

لبعضها الاستحباب، ولا يبعد أن تصل معازف الحرب إلى درجة الوجوب إذا

كانت الحرب شرعية، فقد ثبت بالتجارب المتعددة المفيدة للقطع أن معازف الحرب

التي يسمونها (موسيقى) تنشط المقاتلين وتحفز هممهم وتزيد في ثباتهم وإقدامهم

وجرأتهم، وتزيل الشعور بالتعب والمشقة أو تخففه عنهم، كما يفعل الحداء

بالإبل. فإذا كان الثبات والإقدام من الواجبات بنص قوله تعالى: {فَاثْبُتُوا} (الأنفال: 45) وبعموم الأدلة الأخرى فقد تكون المعازف في بعض الأحيان

داخلة في قاعدة ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

هذا وإن أصول دين الفطرة والشريعة السمحة، الثابتة بالنصوص القطعية،

والمعلومة من الدين بالضرورة، أصل اليسر ونفي الحرج، وعدم تحريم شيء على

الناس إلا لضرره، ورفع الإصر والأغلال عن الأمم التي كانت قبله، حتى إن

النبي صلى الله عليه وسلم علل أمره للحبشة باللعب في مسجده بإظهار هذه المزية

في الإسلام.

أفنهدم هذه الأصول الثابتة والقواعد الراسخة، ونستنبط من حديث آحادي

روي بالمعنى في سياق الإخبار عن المستقبل، وذكر بعض الرواة من ألفاظه وقيوده

ما لم يذكره غيره - أن الأصل في آلات اللهو أن تكون محرمة في الإسلام وإن

وجدت بباعث الفطرة عند جميع الأمم، ولم تحرمها قبله الأديان الإلهية في ملة من

الملل، ثم نفرع عن هذا الأصل أن إباحة كل آلة منها تحتاج إلى نص من الشارع

يخصص ذلك الأصل العام، إن لم يمكن تأويله وتطبيقه عليه كما فعل المشددون؟

كلا إن الأمر بالعكس كما تقدم، ولا سبيل إلى تحريم شيء من ذلك بخصوصه،

وإنما نجزم بحرمة ما فيه مفسدة ظاهرة من سماع الفُسّاق وعزفهم الذي نراه في

عصرنا مصداقًا للحديث، وبهذا الشرح نستغني عن بيان رأينا في سائر مباحث هذه

الرسالة.

_________

ص: 709

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الحرب الأوربية

والدولة العثمانية

كان أخوف ما نخاف على دولتنا قبل هذه الحرب اتفاق الدول الكبرى على

تقسيم بلادها إلى مناطق نفوذ اقتصادي، يتبعه النفوذ السياسي، فتمهد كل منهن

السبل في منطقتها للاستيلاء التام عليها، وتنتظر الفرص لإعلان امتلاكها، وكنا

قد رأينا بوادر هذا الاتفاق، ومنها الاتفاق مع فرنسا على منافعها في سوريا ومع

إنكلترا على العراق، بإزاء ما لألمانيا من الحقوق بامتياز سكة الحديد بين الآستانة

وبغداد.

أما وقد وقع بين تلك الدول ما كانت تتمخض به حوادث الأعصار وتشخص

لرؤية أهواله الأبصار، فقد سنحت لها فرصة للم شعثها، وتوفير ثورتها، وجمع

كلمة شعوبها، وإعداد وسائل الدفاع الوطني في بلادها، وإزالة ما للأجانب من

النفوذ والامتياز فيها، مع حفظ حقوقهم وتأمينهم على أنفسهم وأموالهم، بحيث

تكون مستقلة في داخليتها حق الاستقلال، ولا تكون دون الجبل الأسود والبلغار

واليونان، وما شرعت فيه من الاستعداد العسكري وتعبئة الجيش المنظم يجب أن

تراعي فيه الاقتصاد. وتجعله وسيلة للاستفادة من الحياد، ولا شك أن الأمة كلها

تشد أزرها في ذلك (وعند الشدائد تذهب الأحقاد) .

هذا ما نراه وما يراه كل مَن نعرف من العقلاء الذين ذكرناهم في هذه المسألة

من عرب وترك وغيرهما، وإنا لنعلم مع ذلك أن بين الحكومة الاتحادية والدولة

الألمانية اتفاقًا سريًّا قبل الحرب، والظاهر أن الثانية جعلته ذريعة لاستخدام جيش

الأولى في قتال أعدائها.

الدولة قريبة العهد بحرب لم تبق في خزائنها مالاً، ولا في مسالحها سلاحًا،

وقد أبيد بها مئات الألوف من خير جندها، والأمة فقيرة لا تستطيع أن تمد الدولة

عن سعة بما تستطيع أن تحارب به دولة كبيرة كالروسية وحدها، فكيف تحاربها

ومعها إنكلترا وفرنسا واليابان، وبعض حكومات البلقان؟ وهذه الحرب قد تستمر

عدة أعوام، كم تَسُوق من الجند إلى روسيا وكم تُبْقي لحماية بلادها الواسعة،

وثغورها غير محصنة؟ وإذا غلب جيش لها في رجاء من الأرجاء، أو احتاج إلى

الميرة والذخيرة والسلاح، فكيف السبيل إلى إمداده من الأرجاء الأخرى والبحار

محرمة عليها، ولا سكك حديدية تصل بين أقطارها؟

_________

ص: 720

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌علم الله بصفاته

الرضاع من الجدة

(س22) من صاحب الإمضاء الجاوي بمصر:

سيدي الأستاذ الأكبر السيد رضا زاده الله من مرضاته.

أما بعد فإني ألقي إليَّ مسألتان من البلاد إحداهما مسألة علمه سبحانه

بصفات كمالاته، فإنها قد شوهت أفكار الأغلب من أهل بلادي في سومترا إذا لم

يوجد منهم للآن من يفصل القول المحكوم بالدليل أو السنة فيتبعونه، يقولون:

هل يعلم الله أعداد بقية صفاته التي هي صفات الكمالات خلاف العشرين مثل كذا

أو كذا من العدد أم لا؟

فإن أجبتم بنعم، فما المراد بقولهم إن صفات الكمالات من غير نهاية فإن

المتبادر من معنى تلك الكلمة معلوم وظاهر. وإن أجبتم بلا، فما المراد أيضًا بقول

الآية {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} (الجن: 28) ثم ألا يُعَدُّ عجزًا عليه سبحانه

وتعالى لو فرضنا أنه لا يعلم تلك الأعداد. فها هي (ذي) المسألة الأولى.

أما الثانية فهي مسألة الرَّضَاعة. ويقول فيها السائل: هل عثرتم من مفهوم

الكتاب أو السنة من قول بعض العلماء على أن الطفل إذا رضع من جدته من جهة

الأم يؤدي إلى وقوع الطلاق بين والدي الطفل فيقع الطلاق واحدًا إذا رضع الطفل

مرة واثنتين إذا كان مرتين وثلاثًا إذا كان ثلاث مرات.

فتانكم المسألتان احترت عليهما [1] إذ قلبت كثيرًا من كتب الفقه ومن كتب

التوحيد لعلي أعثر من عبارة تحل عقد تينك المسألتين فلم أجد، وحقيقة إنهما

لغريبتان بجانب فهمي القصير، ولذلك وجهت بهما إلى بحر علومكم راجيًا أن

تحلوا وِثاقهما، وما ذلك على واسع علومكم بعظيم.

...

...

...

إبراهيم بستاري سراج الجاوي

...

...

...

...

...

...

...

...

... تحريرًا في21 شعبان 1332

علم الله تعالى بصفاته

الجواب عن المسألة الأولى: أن الله سبحانه وتعالى يعلم صفاته بلا شك،

سواء كان مراد العلماء بقولهم: إن صفات الله لا نهاية لها ولا حصر - أنها كذلك

بالنسبة إلى علم الخلق، أو في الواقع ونفس الأمر. ولا إشكال في ذلك فإن الله

تعالى يعلم ما لا نهاية له من الحوادث أيضًا كالحوادث التي تكون في الجنة والنار

وسائر العالم في المستقبل الذي لا نهاية له.

ههنا يحسن التذكير بأمرين هما أهم من تينك المسألتين:

أحدهما: أنه سبحانه وتعالى قد وصف نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله

صلى الله عليه وسلم بصفات من الكمال معروفة، والألفاظ الدالة عليها هي أسماؤه

الحسنى. وحكمته في ذلك أن نعرف بها كماله وعظمته وآثار فضله ورحمته فينا

ونعمه علينا، لنزداد بذكرها إيمانًا وتزكيةً لأنفسنا وحبًا في الكمال وأفعال البر، لا

لأجل أن نعدها عدًّا، ونبحث فيما زاد عنها، ثم نشغل أنفسنا بالفكر والكلام في

إمكان إحصائها أو عدمه، وفي كيفية علمه بها، وإحاطته بعَدِّها، فإن أمثال هذه

المباحث مما لم نُكلَّفه ولا نرى لنا فائدة فيه؛ بل ربما يضر البحث فيها ضعيف

العلم أو الفهم ويحدث له شوكًّا في الدين.

ولهذا قال العلماء في تفسير الإحصاء من حديث: (إن لله تسعة وتسعين اسمًا

مَن أحصاها دخل الجنة) [2] : أي من أحصاها حفظًا لمعانيها وعلمًا بها وإيمانًا، أو

من استخرجها من كتاب الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم لأجل أن يزداد

بها إيمانًا ومعرفةً بربه عز وجل ويدعوه بها، أو من أطاق العمل بما تهدي إليه من

الكمال والبر، أو من أَخْطَرَها بباله وتفكر في معانيها عند ذكرها بتلاوة القرآن

والأذكار المأثورة خاشعًا معتبرًا متدبرًا راغبًا راهبًا، هذا مجمل ما قالوه في معنى

الإحصاء ولك أن تقول به كله. ولم يقل أحد يعتد بعمله وفهمه أن المراد عدها

بالأرقام أو إحصاؤها على السِّبح، ولم يثبت برواية صحيحة أنه صلى الله عليه

وسلم عدّها لهم، واستشكلوا روايات عدها من جهة المتن، كما تكلموا فيها من جهة

السند. قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: والذي عوّل عليه جماعة من الحفاظ

أن سرد الأسماء مدرج في الحديث وأنهم جمعوها من القرآن. وأجابوا عن ذلك

بما لا حاجة إلى ذكره هنا، وقد ورد في بعض روايات الحديث الضعيفة:

(وما من عبد يدعو بها إلا وجبت له الجنة) رواه الديلمي من حديث علي كرم الله

وجهه، وفي أخرى:(من دعا بها استجاب الله له) رواه ابن ماجه عن أبي هريرة.

وليس فيهما ذكر الإحصاء. وعندنا فوق ذلك كله قول الله عز وجل في سورة

الأعراف: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} (الأعراف:180) وقوله في سورة الإسراء {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَياًّ مَّا

تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى} (الإسراء:110) فهو تعالى يهدينا إلى أن ندعوه

ونتضرع إليه بهذه الأسماء الحسنى لاشتمالها على أحسن المعاني الدالة على منتهى

الكمال والفضل.

الأمر الثاني: لا ينبغي لأحد أن يجعل ما لا يفهمه من كلام العلماء وما لا

يتضح له أنه صواب - مُشكَلاً مِن مُشكَلَات الدين؛ بل يحسن أن يعدّه كأن لم يُقَلْ،

ولا سيّما أقوال المتكلمين واصطلاحاتهم التي استنبطتها قرائحهم لتأييد مذاهبهم

والرد على مخالفيهم، فإن فيما قالوه الخطأ والصواب، وما إذا احتيج إليه للرد على

خصم كان في زمنهم لا يحتاج إليه في زمن آخر. وكذلك ما صوروا به عقيدة

الإسلام التي يدافعون عنها، لا ينبغي أن يجعل هو الإسلام الذي يلقنه المسلمون في

كل عصر، ويجعلون حظهم من حماية الدين الدفاع عنه.

مثال ذلك ما كتبه السنوسي رحمه الله تعالى من العقائد ولا سيّما العقيدة

الصغرى التي انتشرت في المشرقين والمغربين، وحذا حذوه فيها معلمو المدارس

الرسمية وغيرها حتى فيما يضعونه من العقائد للمبتدئين. وقاعدتها في الإلهيات أن

الواجب على كل مكلف شرعًا أنه يؤمن بأن يجب لله تعالى عشرون صفة ويستحيل

عليه أضدادها. واصطلاحه في هذه الصفات مخالف لما كان يفهمه السلف وأهل

اللغة من معنى كلمة صفة ومن إطلاقهم الإيمان بصفات الله تعالى. فهو يعد الأمور

الاعتبارية والعدمية صفات، فالوجود والمخالفة للحوادث - أي عدم الاحتياج إلى

المكان والمخصص - صفتان لله تعالى عنده، والقدرة وكونه تعالى قادرًا صفتان

متغايرتان. ولم ينقل مثل هذا عن أحد من الصحابة ولا التابعين، دع عدم ذكره في

القرآن أو في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم فكيف نقتصر عليه ونجعله هو

العمدة في تلقين عقيدة الإسلام، ونجعل ما عساه يخالفه ولو في عدد الصفات محلاًّ

للإشكال.

مسألة رضاع الطفل من جدته

وأما الجواب عن المسألة الثانية فهو أننا لم نطلع في الكتاب ولا في السنة،

ولا في كتب الأئمة على كلام يدل بمنطوقه أو مفهومه على أن الطفل إذا رضع من

جدته لأمه رضعة تطلق أمه من أبيه طلقة واحدة وإذا رضع مرتين تطلق طلقتين،

وإذا رضع ثلاثًا تطلّق ثلاثة. وإنما الطلاق كلام يقوله الرجل يدل على حله لعقدة

الزوجية، والله أعلم.

_________

(1)

الصواب أن يقول: حرت أو تحيرت فيهما.

(2)

رواه أحمد والشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم عن أبي هريرة.

ص: 737

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌كلمات الاستقلال

والاعتماد على النفس والاجتهاد

(س23) من أحد المشتركين السوريين بمصر:

سيدي الأستاذ الحكيم السيد محمد رشيد رضا دام نفعه.

المعروض بعد التحية أن بعض الأفاضل منتقد استعمال كلمة: (الاعتماد على

النفس) أو (الاستقلال الشخصي) بمعنى اجتهاد الإنسان، ودليله في ذلك عدم

استعمال العرب له، ولما لم يكن يقنع مني بأن ذلك الاستعمال محمول على اجتهاد

المرء الذي هو ضد كسله وخموله فقال بأن المستعملين ذلك لا يعنون منه سوى

اجتهاده في كل حاجياته بحيث لا يعتمد على غيره ألبتة كما هو ظاهر ذلك

الاستعمال. جئتكم بهذه الكلمات راجيًا منكم البيان الوافي المقنع لمثل ذلك المنتقد

في المنار الأغر، ولكم الفضل.

(ج) قال في القاموس المحيط: واستقله: حمله ورفعه وأقله (أي أطاق حمله

وهذا أصل المعنى) والطائر في طيرانه ارتفع. وقال غيره: استقل الطائر: نهض

للطيران وارتفع. وقال الزبيدي فيما استدركه على القاموس في هذه المادة من

شرحه: والاستقلال: الاستبداد، يقال: هو مستقل بنفسه: ضابط لأمره، وهو لا

يستقل بهذا: أي لا يطيقه. اهـ

وأما الاعتماد على الشيء فأصله الاتكاء عليه والتورك عليه. ومنه العماد

والعمود الذي يقام عليه البناء والاعتماد على المرء عبارة عن الاتكال عليه ونوط

الأمور به. ومنه عمدة القوم وعميدهم وعمودهم، وهو سيدهم الذي يعتمدون عليه

في مصالحهم. هذا ما يؤخذ من جميع معاجم اللغة.

وأما الاجتهاد فهو بذل الجهد والمشقة في تحصيل الشيء. سواء استقل

الإنسان بالسعي والعمل أو اعتمد على مساعدة غيره مع بذل جهده.

فإذا تدبرت معاني هذه الألفاظ ترى أن المنتقد مخطئ، وأن استعمال كلمة

الاستقلال فيما نستعملها فيه فصيح ولا تحل محلها كلمة الاجتهاد.

_________

ص: 740

الكاتب: فؤاد الخطيب

‌شعر منثور في العربية والعرب

من إنشاء فؤاد الخطيب

أستاذ الآداب العربية في مدرسة غردون الكلية بالخرطوم

لا جرم أن اللغة العربية أجزل اللغات السامية، وأوسعها مجالاً، وأحكمها

استعمالاً، لا يذهب مرّ العشي بسلاستها، ولا يعبث كرّ الغداة بطلاوتها.

ولقد طاحت دول وبادت ملل، فاستسرّت لغاتها، وعفت آياتها؛ وتلك اللغة

تدور مع الأحقاب، في غلائل الآداب، وغلواء الشباب، لا يرهقها هرم، ولا

يُخلقها قِدَم. فكأنها وهي ابنة القرون الخالية والأمم الماضية، نشأت في اليوم

الحاضر أو أمس الدابر، فجاءت دفعة واحدة مستوفيةً أقسام جمالها، وصحة أبنية

أسمائها وأفعالها؛ تجول بها أسلات الألسنة وأطراف اليراع، في صدور المحافل

وبطون الرقاع، فتنظم فرائها، وتعقل شواردها، فلا تشذ نادرة، ولا تندّ بادرة.

أجل: إن السيف الباتر، والجبروت القاهر، والمكاتب المتماوجة بالزحام،

والمدارس المكتظة بالطلاب، والصحف الذائعة في الآفاق، والوفود الضاربة في

الأصقاع، لم تُحوِّل لغة عن أصلها، ولم تجذب أمة بحبلها. فأين ذلك مما وقع

للعربية، مع تلك الشراذم البدوية؟ فإنها لم تنهب الأرض في قطار، ولم تجزع [1]

الفضاء في منطاد، ولم تمخر البحار بالبخار؛ بل جابت المسارح، ورادت المكامن،

وطافت المجامع؛ فولجت كل مصر، وسكنت كل نفس، وقالت لكل شيء:

حسبك فإنك عربي منذ اليوم.

فسقى الغيث ذلك العهد القديم، ورعى الله ذلك العربيّ الصميم؛ فلقد كان نورًا

في الظلمات، وهدى في الشبهات؛ إذا جال في مضمار الفكر، وراوح بين النظم

والنثر؛ صور على الطرس، حقيقة النفس، فناجتك بأسرارها، وحدثتك بأخبارها؛

فإذا الغيب تكاد تراه عيناك، وإذا الوهم تكاد تلمسه يداك.

فهكذا الأدب، وكذلك العرب: فلقد سبروا غور العلم، ومشوا إلى أعماق

الفهم، فانتزعوا العقول من عقالها، واستلوا الوجود من العدم، واستخرجوا اليقين

من الريب، وتغلغلوا بين الذرة وأجزائها، وتسرّبوا بين العصا ولحائها، فكانوا

وكل سحر غير سحرهم باطل، وكل بلد خيّموا فيه بابل.

اللهم سبحانك! أينطق العربي بالحكمة الناصعة، ويهتف بالقافية الرائعة،

فتكاد لحلاوة أبياتها تقبل أفواه رواتها؛ وهو في ذلك المنقطع من الأرض، يهيم

في ظلمات بعضها فوق بعض، إذا مشت عيونه ففي صميم القفر، وإذا وقفت به

فعلى أديم الصخر..؟

فلا يزال في الوجود، كالمثل الشرود، تتلقفه الأقطار، وتتخطفه الأسفار،

فمن هضاب يحوم فيها كالعقبان، إلى بطاح يعمل فيها كالسّيدان، ومن مجالدة

زعزع نكباء تنسف التلال، إلى مكابدة هاجرة سجراء تأكل الظلال.

فما ثَم مرتع شائق فيستمد من جماله البيان. وما ثَم مورد رائق فيمتح من

عذبه اللسان، وإنما هي أرجاء عابسة، وبيداء طامسة، تجول فيها الأفكار فتكل،

وتدور فيها الأبصار فتضل.

فسلام على تلك الجزيرة الجرداء، ومرحى لتلك المجاهل الخلاء، فوالله ما

تعوزها الرياض مبثوثة الزرابي والأنماط، ولا الحقول مبسوطة البرود والرياض،

ولا النمير يترقرق، على حصباء تتألق، فقد نبتت فيها حسنات الزمان، وتفجرت

منها ينابيع العرفان، فغنيت بنضرة الآداب، عن بهجة الأعشاب، وبكمال السكان

عن جمال المكان؛ بل كانت مسبح الروح الأمين، وموئل الدنيا والدين، فتبارك

الله أحسن الخالقين.

فأي نياط لا يتقطع، وأي مهجة لا تتصدع؟ وقد أودى أولئك الكرام،

وتنكرت تلك الأيام، حتى تبازى الرُّهام، واستنسر الحمام، ولم يبق غير أمة

مكسال، لا تتحرك إلا بزلزال، ولا تقطع من أشواط الدهر، إلا مسافة العمر من

القبر.

فأين بنو قحطان وفتيان عدنان؟ فيهبوا بالنفوس من غمرتها، وينهضوا

باللغة من كبوتها، فتلك مفاخر بلادهم، ومآثر أجدادهم، ملء الأمجاد والأغوار،

وطلاع الدفاتر والأسفار، وإنها لتطوي بالمرء مراحل العصور والأجيال، وتطل

به على عالم الحقائق من ملكوت الخيال.

أما والله لولا تنطس بعض المتزمتين [2] وسدهم على اللغة أبواب التعريب

والاشتقاق، فحجروها في الحواشي، وأقبعوها في المتون - لما ازورّ الطلاب عنها،

وامتلأوا نفورًا منها، وكان العلم كل العلم أن يمضغ المرء كلام غيره، ويلوك

أقوال سواه، فيتشدق بالمذاهب العقيمة، ويتبجح بالأمثال السقيمة، وإن قعد به

العجز عن إنشاء فقرة، وتصوير فكرة، ولم يغن عنه سواد الحدود والمصطلحات،

وما افْتَنَّ فيه من الشواهد والنكات.

ولا بِدع فإن الأصول وسيلة والإنشاء غاية، ولشد ما بينهما من شاسع الفرق

وواسع البون. وكم بين الماء والسراب، والقشور واللباب!

وأما من رزق قريحة وقادة، وبصيرة نقادة، وإحاطة بما لا مندوحة عنه من

قواعد اللغة وأصول العربية، ثم راض نفسه على مزاولة أساليب العرب ومناحيهم،

وتوفر على مطالعة تراكيبهم ومراميهم، فقد اكتسب من ملكتهم ما أخرجه إلى

لهجتهم فبات وما يعترضه عيّ ولا ترتهنه لكنة، ولا تتحيف بيانه عجمة.

وهل البلاغة - لعمري - إلا بصقال الديباجة، ومتانة الأسلوب، وحلاوة

الأداء، لتكون المعاني أعلق بالخاطر، وأسرى في السمع، وأفعل في النفس؟

أرأيتك - وقد تثقفت الألفاظ المتخيرة، وعرفت أين تضع يدك في سبكها وتأليفها -

كيف تهز القلوب وتخلب الألباب، وتملك قياد الأهواء؟

ولله در أبي هلال العسكري إذ قال في الصناعتين: (إن مدار البلاغة على

تحسين اللفظ. وليس يطلب من المعنى إلا أن يكون صوابًا) . وقال ابن الأثير:

إن اللفظة الواحدة تنتقل من هيئة إلى أخرى فتحسن أو تقبح.

هذه لفظة الأرض فإنها لم ترد في القرآن الكريم إلا مفردة سواء أفردت بالذكر

عن السماء كما في قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُم مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتاً} (نوح: 17) أو

قرنت بالسماء مفردة كما في قوله تعالى: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إلَاّ

بِإِذْنِهِ} (الحج: 65) أو مجموعة كما في قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ

وَالأَرْضَ} (إبراهيم: 32) ولو كان استعمالها بلفظ الجمع مستحسنًا لكان هذا

الموضع أو شبهه أليق به. ولمّا أراد أن يأتي بها مجموعة قال: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ

سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} (الطلاق: 12) وكذلك قول أفصح الخلق لبعض

النساء: (ارجعن مأزورات غير مأجورات) . وحسبك أن المعاني المنقولة من لغة

إلى أخرى تفقد ماءها، وتفارق صفاءها، وما ذلك إلا لأنها انسلخت من برودها

المعلمة، وانخلعت من قوالبها المحكمة. فكانت شبحًا ناحلاً، وخيالاً ماثلاً.

وليت شعري ماذا يضر المعاني إذا أجيدت لها المباني، فكانت شرعًا في

المتانة، وسواء في الصياغة؟ ولا سيّما وقد جاشت غوارب العجمة، وفشت لوثة

اللحن، ومست الحاجة إلى شد أواصر اللغة، وتقويم منآد اللسان.

ألا وإنه لمن البرّ بالأدب، والغيرة الصادقة على العرب؛ أن ينسج المتأدب

على منوال الفصحاء، ويطبع على غِرار البلغاء، فذلك تاريخ آبائنا يصيح بنا

من ورائنا، وكله دموع تترى، لا ألفاظ تتلى {وَمَا يَذَّكَّرُ إلَاّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (البقرة: 269) والله الموفق إلى الصواب.

_________

(1)

لعل أصلها: تزعج.

(2)

المتزمّت: من يظهر بمظهر الزِّميت وهو الكثير السكون والسكوت وقارًا ورزانة، والتنطس: التأنق والتدقيق والاستقصاء في الأشياء. يريد مبالغة بعض أهل العلم في المحافظة على القديم من استعمال اللغة.

ص: 741

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌التعريف بكتاب الاعتصام

{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 101) .

{وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (آل عمران:

101) .

العلماء المستقلون في هذه الأمة ثُلة من الأولين، وقليل من الآخرين، والإمام

الشاطبي من هؤلاء القليل، وما رأينا من آثاره إلا القليل، رأينا كتاب (الموافقات)

من قبل، ورأينا كتاب (الاعتصام) اليوم، فأنشدنا قول الشاعر:

قليل منك يكفيني ولكن

قليلك لا يقال له قليل

ادخل دار الكتب الخديوية وارم ببصرك إلى الألوف من المصنفات في

خزائنها، تر أن كثرتها قلة، وكثيرها قليل؛ لأن القليل منها هو الذي تجد فيه علمًا

صحيحًا لا تجده في غيره؛ لأنه مما فتح الله به على صاحبه دون غيره. وقد كان

كتاب (الاعتصام) من هذا القليل، فأحسنت نظارة المعارف إلى الأمة الإسلامية

كلها بإجابة مجلس إدارة دار الكتب الخديوية إلى طبعه.

اتفق علماء الاجتماع والسياسة والمؤرخون من الأمم المختلفة على أن العرب

ما نهضوا نهضتهم الأخيرة بالمدنية والعمران إلا بتأثير الإسلام في جمع كلمتهم،

وإصلاح شؤونهم النفسية والعلمية، ولكن اضطرب كثير من الناس في سبب ضعف

المسلمين بعد قوتهم، وذهاب ملكهم وحضارتهم، فنسب بعضهم كل ذلك إلى دينهم،

ومَن يتكلم في ذلك على بصيرة يثبت أن الدين الذي كان سبب الصلاح والإصلاح،

لا يمكن أن يكون سبب الفساد والاختلال؛ لأن العلة الواحدة لا يصدر عنها

معلولات متناقضة، فإذا كان لدين المسلمين تأثير في سوء حال خلفهم، فلا بد أن

يكون ذلك من جهة غير الجهة التي صلحت بها حال سلفهم، وما هي إلا البدع

والمحدثات التي فرقت جماعتهم، وزحزحتهم عن الصراط المستقيم.

من أجل ذلك كان تحرير مسائل البدع والابتداع مما ينفع المسلمين في أمر

دينهم وأمر دنياهم، ويكون أعظم عون لدعاة الإصلاح الإسلامي على سعيهم. وقد

كتب كثير من العلماء في البدع، وكان أكثر ما كتبوا في الترهيب والتنفير. والرد

على المبتدعين. ولكن الفرق التي يرد بعضها على بعض، يدعي كل منها أنه هو

المحق، وأن غيره هو الضال والمبتدع، إما بالإحداث في الدين، وإما بجهل

مقاصده، والجمود على ظواهره، وما أرينا أحدًا منهم هدي إلى ما هدي إليه (أبو

إسحاق الشاطبي) من البحث العلمي الأصولي في هذا الموضوع، وتقسيمه إلى

أبواب يدخل في كل واحد منها فصول كثيرة.

لولا أن هذا الكتاب ألف في عصر ضعف العلم والدين في المسلمين لكان مبدأ

نهضة جديدة لإحياء السنة، وإصلاح شؤون الأخلاق والاجتماع، ولكان المصنف

بهذا الكتاب وبصنوه كتاب الموافقات - الذي لم يسبق إلى مثله سابق أيضًا - من

أعظم المجددين في الإسلام. فمثله كمثل الحكيم الاجتماعي عبد الرحمن بن خلدون،

كل منهما جاء بما لم يسبق إلى مثله، ولم تنتفع الأمة - كما كان يجب - بعلمه.

كتاب الموافقات لا ند له في بابه (أصول الفقه وحِكَم الشريعة وأسرارها)

وكتاب الاعتصام لا ند له في بابه، فهو ممتع مشبع، ولم يتمه المصنف رحمه الله

تعالى. وقد صدَّره بمقدمة في غربة الإسلام وحديث (بدأ الإسلام غريبًا) المنبئ

بذلك. ثم جعل مباحث ما كتبه في عشرة أبواب.

(الباب الأول) : في تعريف البدع ومعناها (الثاني) في ذم البدع وسوء

منقلب أهلها (الثالث) في أن ذم البدع والمحدثات عام، وفيه الكلام على شبه

المبتدعة، ومن جعل البدع حسنة وسيئة (الرابع) في مأخذ أهل البدع في

الاستدلال (الخامس) في البدع الحقيقية والإضافية والفرق بينهما (السادس)

في أحكام البدع وأنها ليست على رتبة واحدة (السابع) في الابتداع: يختص

بالعبادات، أم تدخل فيها العادات؟ (الثامن) في الفرق بين البدع والمصالح

المرسلة والاستحسان، (التاسع) في السبب الذي لأجله افترقت فرق المبتدعة عن

جماعة المسلمين (العاشر) في الصراط المستقيم الذي انحرفت عنه المبتدعة.

وفي هذه الأبواب مباحث تشتبه فيها المسائل، وتتعارض الدلائل، وتنتفج

الشبهات، وتتراءى في معارض البينات، حتى يعز تحرير القول فيها، والفصل

بين قوادمها وخوافيها، إلا على مَن كان مثل المصنف في نور بصيرته، وغزارة

مادته، وقوة عارضته، وفصاحة عبارته.

ومِن أغمض هذه المسائل ما كان سنة أو مستحبًّا في نفسه وبدعة لوصف

وهيئة عرضت له، كالتزام المصلين المكث بعد الصلاة لأذكار وأدعية مأثورة

يؤدونها بالاجتماع والاشتراك، حتى صارت شعارًا من شعائر الدين، ينكر الناس

على تاركيها دون فاعليها، وقد أطال المصنف في إثبات كونها بدعة وأورد جميع

الشبه التي دعمت بها، وكر عليها بالنقض فهدمها كلها.

وما لي لا أذكر لعلماء الشرع الأعلام، ولأهل السياسة من علماء الحقوق

والأمراء والحكام، أهم ما شرحه لهم هذا الكتاب من أصول الإسلام، وهو بحث

المصالح المرسلة والاستحسان، من أصول مذهبي مالك وأبي حنيفة النعمان،

وبهما يظهر اتساع الشرع لمصالح الناس في كل زمان ومكان؟

بين المصنف وجه اشتباه ما سموه البدع المستحسنة، بالاستحسان الفقهي

والمصالح المرسلة، ثُم كَشَفَ كل شبهة. وأزال كل غمّة. فبين أن البدع ليست من

هذين الأصلين في وِرد ولا صَدْر، ولا تتفق معهما في علة ولا غرض، فإن

البدعة كيفما كانت صفتها استدراك على الشرع وافتيات عليه، وأما مسائل

المصالح المرسلة والاستحسان فهي موافقة لحكمته، وجارية على غير المعين من

عموم بيناته وأدلته. وقد أورد المصنف ما قيل في تعريف ذينك الأصلين ووضح

ذلك بالشواهد والأمثلة، فلو أنك قرأت جميع ما تتداوله المدارس الإسلامية من كتب

أصول الفقه وفروعه، لانثنيت وأنت لا تعرف حقيقة المصالح المرسلة

والاستحسان، كما تعرفها من هذا البحث الذي أوردها المصنف فيه تابعة لبيان

حقيقة البدعة لا مقصودة بالذات.

مَن أراد أن يعرف فضل الإسلام وسماحته، وسهولته ومرونته، فليأخذه من

ينبوعه، وليستعن على فهمه بهؤلاء الحكماء الذين يشددون في إنكار البدع،

ويدعون المسلمين إلى السنة التي كان عليها السلف، ويرون ضلال من يزيد في

العبادات عليهم، أشد وأضر من ضلال من ينقص في غير أصول الفرائض عنهم،

ويوسعون على الناس في أمور العادات، بناء على أصل الإباحة في الأشياء، وإن

ظن كثير من الجاهلين، أن هذا هو عين الجمود في الدين، وجعله دينًا خاصًّا بأهل

البداوة، لا يطيق احتماله أهل المدنية والحضارة، والأمر بالضد، ولله الأمر من

قبل ومن بعد.

كان هذا الكتاب كنزًا مخفيًّا لا توجد منه في هذه الأقطار إلا نسخة بخط

مغربي في كتب الشيخ محمد محمود الشنقيطي المحفوظة في دار الكتب الخديوية،

فاستخرجه مجلس إدارتها في العام الماضي واقترح طبعه، فوافق ذلك رغبة

صاحب السعادة أحمد حشمت باشا ناظر المعارف لذلك العهد، وعهد إليّ بطبعه

بشروط بيّنها في الكتاب الذي كتبه إليّ بذلك، وأرسلت إلي دار الكتب الجزء

الأول منه منسوخًا نسخًا جديدًا على أوراق متفرّقة لتجمع حروف الطبع عنها.

فتصفحت بعضها فألفيت فيها غلطًا وتحريفًا كثيرًا حتى في الأحاديث، فكتبت في

حاشية ما جمعت حروفه منها ليكون نموذجًا للطبع تصحيحًا لما ظهر لي غلطه،

وتخريجًا لحديث: (بدأ الإسلام غريباً) الذي بنى عليه المصنف مقدمة الكتاب

وجعله الأصل في وجه الحاجة إليه. وفسرت فيها بعض الكلم الغامض وأطلعتُ

على ذلك صديقي الأستاذ الفاضل السيد محمد الببلاوي وكيل دار الكتب الخديوية

الذي يُرجَع إليه في تصحيح الكتب التي تطبع على نفقتها، وقلت له: يعز علي أن

يطبع هذا الكتاب النفيس من غير أن يصحح أصله ويعلق عليه شيء. وأنا أتبرع

بما أراه ضروريًّا من ذلك، ومطبعتي تتبرع بتصحيح الطبع أيضًا. ولو كنت في

سعة من وقتي لخرجت أحاديثه كلها، وبذلت العناية بمراجعة كل نُقُولِه من مظانها،

وبغير ذلك من تصحيحه. فقال: نحن نرى من التوفيق أن يطبع هذا الكتاب تحت

نظرك وإشرافك، ونرى أنك أجدر وأحق بتصحيحه

ما تيسر لي قراءة شيء من الكتاب في وقت فراغ؛ بل كانت المطبعة

تعرض علي الأوراق عند إرادة الاشتغال بطبعها، فكنت أرى الغلط فيه أنواعًا:

(أحدها) : ما أقطع بأن صوابه كذا كتحريف بعض الآيات، أو الأحاديث

المعزوة إلى مخرجيها، وتحريف أو تصحيف بعض الكلم، فأنا أصحح هذا ولا

أذكر في الحاشية ما كان في الأصل إلا قليلاً.

(ثانيها) : ما أظن أن صوابه كذا، وهو ما أكتب في الحاشية (لعل أصله

كذا) أو ما يفيد هذا المعنى.

(ثالثها) : ما أشتبه في أصله: ما هو. فمنه ما أفهم المراد منه بالقرينة،

فإما أن أشير إليه في الحاشية، وإما أن أتركه للقارئ. ويقل فيما تركته التحريف

الذي لا يفهم المراد منه مطلقًا، أو إلا بعد تأمل طويل.

وقد يرى القارئ في بعض المواضع منه كلمات بين هذه العلامات () التي

يعبرون عنها بالأَهِلَّةِ أو الأقواس أو بدونها، وقد تكون من حرف صغير، ويرى

أن المعنى لا يلتئم إلا بها، ويجزم بأنها من الأصل، وإنما ميزناها بما ذكر

ليعلم أنها من المصحح، ويرى في بعض المواضع علامة الاستفهام بين قوسين

هكذا (؟) ويشار بها إلى خفاء في تلك المواضع أو غلط لم نهتد إلى أصله. ولكن

لم نلتزم ذلك في كل مواضع الغلط المبهم.

وقد تركت تصحيح بعض الأحاديث والآثار التي أحفظها من كتب الصحاح

والسنن على غير ما وردت عليه في الكتاب، لئلا يكون بعض المحدثين الذين لم

نطلع على كتبهم رواها بسياق المصنف. وكتبت بإزاء بعض ذلك علامة المراجعة

على أوراق الطبع، مريدًا بذلك أن تعيده المطبعة إليّ للتأمل فيه أو مراجعته في

مظانه. وعلمت بعد ذلك أن المطبعة كانت تراجع في بعض ذلك نسخة الكتاب

المغربية فإذا رأت المعد للطبع موافقًا لها طبعته ولم تعده إلي، فيفوتني ما أريد من

تصحيحه.

وجملة القول أنني على ما أقاسي من العناء في تصحيح الكتاب لا أدعي أنه

قد تيسر لي تصحيحه كما أحب. وإنما أقول: إنه صُحح تصحيحًا يمكن القارئ من

فَهمه، فلا يكاد يخفى عليه منه إلا النادر من المفردات أو الجمل التي لا يخل

خفاؤها بفهم المسألة التي عرضت له فيها. فهذا هو الطريق الذي سلكته في

تصحيحه، بينته قبل الإتمام، وعسى الله أن يوفقني بالخير إلى زيادة العناية وحسن

الختام، وكتبه في 15 شوال سنة 1332.

...

...

...

محمد رشيد رضا

...

...

منشئ المنار وناظر مدرسة دار الدعوة والإرشاد

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 745

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌ترجمة الإمام الشاطبي

من كتاب نيل الابتهاج بتطريز الديباج

ديباج ابن فرحون باختصار

هو إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي أبو إسحاق الشهير

بالشاطبي الإمام العلامة، المحقق القدوة، الحافظ الجليل المجتهد، كان أصوليًّا

مفسرًا، فقيهًا محدثًا، لغويًّا بيانيًّا، نظّارًا ثبتًا، ورعًا صالحًا، زاهدًا سُنيًّا، إمامًا

مطلقًا، بحّاثًا مدقِّقًا، جدليًّا بارعًا في العلوم، من أفراد العلماء المحققين الأثبات،

وأكابر الأئمة المتقنين الثقات، له القَدم الراسخ والإمامة العظمى في الفنون - فقهًا

وأصولاً، وتفسيرًا وحديثًا، وعربيةً وغيرها - مع التحري والتحقيق، له

استنباطات جليلة، ودقائق منيفة، وفوائد لطيفة، وأبحاث شريفة، وقواعد محررة

محققة، كان على قدم راسخ من الصلاح والعفة والتحري والورع، حريصًا على

اتباع السنة، مجانبًا للبدع والشبهة، ساعيًا في ذلك مع تثبت تام، منحرفًا عن كل

ما ينحو للبدع وأهلها، وقع له في ذلك أمور مع جماعة من شيوخه وغيرهم في

مسائل.

وله تآليف جليلة، مشتملة على أبحاث نفيسة، وانتقادات وتحقيقات شريفة.

قال الإمام الحفيد ابن مرزوق في حقه: إنه الشيخ الأستاذ الفقيه، الإمام المحقق

العلامة الصالح، أبو إسحاق. انتهى. وناهيك بهذه التحلية من مثل هذا الإمام،

وإنما يعرف الفضل لأهله أهله.

أخذ العربية وغيرها عن أئمة، منهم الإمام المفتوح عليه في فنها ما لا مطمع

فيه لسواه، بحثًا، وحفظًا، وتوجيهًا، ابن الفخار الألبيري، لازمه إلى أن مات،

والإمام الشريف رئيس العلوم اللسانية، أبو القاسم السبتي، شارح مقصورة حازم،

والإمام المحقق أعلم أهل وقته، الشريف أبو عبد الله التلمساني، والإمام علامة

وقته بإجماع، أبو عبد الله المقري، وقطب الدائرة شيخ الجلة، الأمير الشهير، أبو

سعيد ابن لب، والإمام الجليل، الرحلة الخطيب، ابن مرزوق الجد، والعلامة

المحقق المدرس الأصولي، أبو علي منصور بن محمد الزواوي، والعلامة المفسر

المؤلف أبو عبد الله البلنسي، والحاج العلامة الرحلة الخطيب أبو جعفر الشقوري.

وممن اجتمع معه واستفاد منه العالم الحافظ الفقيه أبو عباس القباب، والمفتي المحدث

أبو عبد الله الحفار، وغيرهم.

اجتهد وبرع، وفاق الأكابر، والتحق بكبار الأئمة في العلوم، وبالغ في

التحقيق، وتكلم مع كثير من الأئمة في مشكلات المسائل من شيوخه وغيرهم،

كالقباب وقاضي الجماعة الفشتالي، والإمام ابن عرفة، والولي الكبير أبي عبد الله

ابن عباد.

وجرى له معهم أبحاث ومراجعات، أجلت عن ظهوره فيها، وقوة عارضته

وإمامته؛ منها مسألة مراعاة الخلاف في المذهب [1] له فيها بحث عظيم مع

الإمامين القباب وابن عرفة. وله أبحاث جليلة في التصوف وغيره. وبالجملة

فقدره في العلوم فوق ما يذكر، وتحليته في التحقيق فوق ما يشهر.

ألّف تواليف نفيسة، اشتملت على تحريرات للقواعد، وتحقيقات لمهمات

الفوائد. منها شرحه الجليل على الخلاصة في النحو في أسفار أربعة كبار، لم

يؤلف عليها مثله بحثًا وتحقيقًا فيما أعلم. وكتاب (الموافقات) في أصول الفقه

سمّاه: (عنوان التعريف بأصول التكليف) كتاب جليل القدر جدًّا لا نظير له،

يدل على إمامته، وبعد شأوِهِ في العلوم، سيّما علم الأصول. قال الإمام الحفيد بن

مرزوق: كتاب الموافقات المذكور، من أنبل الكتب، وهو في سفرين. وتأليف

كبير نفيس في الحوادث والبدع في سفر في غاية الإجادة، سمّاه (الاعتصام)

وكتاب (المجالس) شرح فيه كتاب البيوع من صحيح البخاري. فيه من الفوائد

والتحقيقات ما لا يعلمه إلا الله. وكتاب (الإفادات والإنشادات) في كراسين فيه

طرف وتحف وملح أدبيات وإنشادات. وله أيضًا كتاب: (عنوان الإنفاق في

علم الاشتقاق) وكتاب (أصول النحو) وقد ذكرهما معًا في شرح الألفية.

ورأيت في موضع آخر أنه أُتلِف الأول في حياته، وأن الثاني أُتلِف أيضًا. وله

غيرها. وفتاوى كثيرة.

ومن شعره لما ابتلي بالبدع:

بليت يا قوم والبلوى منوعة

بمن أداريه حتى كاد يرديني

دفع المضرة لا جلبًا لمصلحة

فحسبي الله في عقلي وفي ديني

أنشدهما تلميذه الإمام أبو يحيى بن عاصم له مشافهة.

أخذ عنه جماعة من الأئمة كالإمامين العلامتين أبى يحيى بن عاصم الشهير

وأخيه القاضي المؤلف أبي بكر بن عاصم. والشيخ أبي عبد الله البياني، وغيرهم ،

وتوفي يوم الثلاثاء ثامن شعبان سنة تسعين وسبعمائة ولم أقف على مولده رحمه

الله.

(فائدة) : وكان صاحب الترجمة ممن يرى جواز ضرب الخراج على

الناس، عند ضعفهم وحاجتهم، لضعف بيت المال عن القيام بمصالح الناس، كما

وقع للشيخ المالقي في كتاب الورع. قال: توظيف الخراج على المسلمين من

المصالح المرسلة، ولا شك عندنا في جوازه، وظهور مصلحته في بلاد الأندلس

في زماننا الآن. لكثرة الحاجة لما يأخذه العدو من المسلمين، سوى ما يحتاج إليه

الناس، وضعف بيت المال الآن عنه، فهذا يقطع بجوازه الآن في الأندلس، وإنما

النظر في القدر المحتاج إليه من ذلك، وذلك موكول إلى الإمام، ثم قال أثناء كلامه:

ولعلك تقول كما قال القائل لمن أجاز شرب العصير بعد كثرة طبخه وصار ربا:

أحللتها والله يا عمر. يعني هذا القائل أحللت الخمر بالاستجرار إلى نقص الطبخ.

حتى تحل الخمر بمقالك، فإني أقول - كما قال عمر رضي الله عنه: والله لا أحل

شيئًا حرمه الله، ولا أحرم شيئًا أحله، وإن الحق أحق أن يتبع {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ

اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (الطلاق: 1) .

وكان خراج بناء السور في بعض مواضع الأندلس في زمانه موظفًا على أهل

الموضع، فسئل عنه إمام الوقت في الفُتْيَا بالأندلس الأستاذ الشهير أبو سعيد بن لب،

فأفتى أنه لا يجوز ولا يسوغ، وأفتى صاحب الترجمة بسوغه. مستندًا فيه إلى

المصلحة المرسلة. معتمدًا في ذلك إلى قيام المصلحة، التي إن لم يقم بها الناس

فيعطونها من عندهم ضاعت. وقد تكلم على المسألة الإمام الغزالي في كتابه

فاستوفى. ووقع لابن الفراء في ذلك مع سلطان وقته وفقهائه كلام مشهور، لا

نطيل به.

وكان لا يأخذ الفقه إلا من كتب الأقدمين. ولا يرى لأحد أن ينظر في هذه

الكتب المتأخرة، كما قرره في مقدمة كتابه الموافقات. وترد عليه الكتب في ذلك

من بعض أصحابه. فيوقع له: وأما ما ذكرتم من عدم اعتمادي على التآليف

المتأخرة. فليس ذلك مني محض رأي ولكن اعتمدته بحسب الخبرة عند النظر في

كتب المتقدمين مع المتأخرين كابن بشير وابن شاس. وابن الحاجب. ومن بعدهم.

ولأن بعض مَن لقيته من العلماء بالفقه أوصاني بالتحامي عن كتب المتأخرين.

وأتى بعبارة خشنة ولكنها محض النصيحة. والتساهل في النقل عن كل كتاب جاء

لا يحتمله دين الله، ومثله ما إذا عمل الناس بقول ضعيف. ونقل عن بعض

الأصحاب: لا تجوز مخالفته. وذلك مشعر بالتساهل جدًّا. ونص ذلك القول لا

يوجد لأحد من العلماء فيما أعلم.

والعبارة الخشنة التي أشار إليها كان ينقلها عن صاحبه أبي العباس القباب أنه

كان يقول في ابن بشير وابن شاس: أفسدوا الفقه، وكان يقول: شأني عدم

الاعتماد على التقاييد المتأخرة، إما للجهل بمؤلفيها أو لتأخر أزمنتهم جدًّا. فلذلك لا

أعرف كثيرًا منها ولا اقتنيته. وعمدتي كتب الأقدمين المشاهير. ولنقتصر على

هذا القدر من بعض فوائده.

_________

(1)

أشار إلى هذه المسألة في المقدمة الثالثة عشرة من كتاب الموافقات.

ص: 750

الكاتب: أبو إسحاق الشاطبي

‌دخول الابتداع في العاديات [*]

وأما تحليل الدماء والربا والحرير والغناء والخمر، فخرج أبو داود وأحمد

وغيرهما عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى

الله عليه وسلم يقول: (ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها)

زاد ابن ماجه: (يعزف على رؤوسهم بالمعازف والقينات، يخسف الله بهم

الأرض، ويجعل منهم القردة والخنازير) وخرجه البخاري عن أبي عامر

وأبى مالك الأشعري قال فيه: (ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الخز [1]

والحرير والخمر والمعازف، ولينزلن أقوام إلى جنب علم، تروح عليهم سارحة

لهم. يأتيهم رجل لحاجة فيقولون: ارجع إلينا غدًا، فيبيتهم الله ويضع العلم، ويمسخ

آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة) وفي سنن أبي داود: (ليكونن من أمتي

أقوام يستحلون الخز والحرير، وقال في آخره: يمسخ منهم آخرين قردة وخنازير

إلى يوم القيامة) .

والخز هنا نوع من الحرير ليس الخز المأذون فيها المنسوج من حرير

وغيره. وقوله في الحديث: (لينزلن أقوام) يعني - والله أعلم - من هؤلاء

المستحلين، والمعنى أن هؤلاء المستحلين ينزل منهم أقوام إلى جنب علم - وهو

الجبل - فيواعدهم إلى الغد، فيبيتهم الله - وهو أخذ العذاب ليلاً - ويمسخ منهم

آخرين، كما في حديث أبي داود كما في الحديث قبل: يخسف الله بهم الأرض

ويمسخ منهم قردة وخنازير. وكأن الخسف هاهنا هو التبييت المذكور في الآخر.

وهذا نص في أن هؤلاء الذين استحلوا هذه المحارم كانوا متأولين فيها حيث

زعموا أن الشراب الذي شربوه ليس هو الخمر، وإنما له اسم آخر إما النبيذ أو

غيره، وإنما الخمر عصير العنب النيء، وهذا رأي طائفة من الكوفيين، وقد ثبت

أن كل مسكر خمر.

قال بعضهم: وإنما أتى على هؤلاء حيث استحلوا المحرمات بما ظنوه من

انتفاء الاسم، ولم يلتفتوا إلى وجود المعنى المحرم وثبوته. قال: وهذه بعينها

شبهة اليهود في استحلالهم أخذ الحيتان يوم الأحذ بما أوقعوها به يوم السبت في

الشِبَاك والحفائر من فعلهم يوم الجمعة حيث قالوا: ليس هذا بصيد، ولا عمل يوم

السبت، وليس هذا باستباحة الشح [2] .

بل الذي يستحل الخمر زاعمًا (أنه ليس خمرًا مع علمه بأن معناه معنى

الخمر ومقصوده مقصود الخمر، أفسد تأويلاً، من جهة أن أهل الكوفة من أكثر

الناس قياسًا، فلئن كان من القياس ما هو حق، فإن قياس الخمر المنبوذة على

الخمر العصيرة من القياس في معنى الأصل، وهو من القياس الجلي؛ إذ ليس

بينهما من الفرق ما يتوهم أنه مؤثر في التحريم.

فإذا كان هؤلاء المذكورون في الحديث إنما شربوا الخمر استحلالاً لها لما

ظنوا أن المحرم مجرد ما وقع عليه اللفظ، وظنوا أن لفظ الخمر لا يقع على غير

عصير العنب النيئ، فشبهتهم في استحلال الحرير والمعازف أظهر بأنه أبيح

الحرير (للنساء) مطلقًا وللرجال في بعض الأحوال فكذلك الغناء والدف قد

أبيح في العرس ونحوه، وأبيح منه الحداء وغيره، وليس في هذا النوع من دلائل

التحريم ما في الخمر؛ فظهر ذم الذين يخسف بهم ويمسخون، إنما فعل ذلك بهم من

جهة التأويل الفاسد الذي استحلوا به المحارم بطريق الحيلة، وأعرضوا عن

مقصود الشارع وحكمته في تحريم هذه الأشياء.

وقد خرَّج ابن بطة عن الأوزاعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يأتي

على الناس زمان يستحلون فيه الربا بالبيع) قال بعضهم: يعني العينة. وروي

في استحلال الربا حديث رواه إبراهيم الحربي عن أبي ثعلبة عن النبي صلى الله

عليه وسلم قال: (أول دينكم نبوة ورحمة، ثم ملك وجبرية، ثم ملك عضوض

يستحل فيه الحِر والخز) يريد استحلال الفروج الحرام، والحِر (بكسر الحاء المهملة

والراء المخففة) الفرج، قالوا: ويشبه - والله أعلم - أن يراد بذلك ظهور استحلال

نكاح المحلل ونحو ذلك بما يوجب استحلال الفروج المحرمة؛ فإن الأمة لم يستحل

أحد منها الزنا الصريح، ولم يرد بالاستحلال مجرد الفعل، فإن هذا لم يزل معمولاً

في الناس؛ ثم لفظ الاستحلال إنما يستعمل في الأصل فيمن اعتقد الشيء حلالاً،

والواقع كذلك؛ فإن هذا الملك العضوض الذي كان بعد الملك والجبرية قد كان في

أواخر عصر التابعين، في تلك الأزمان صار في أولي الأمر مَن يفتي بنكاح المحلل

ونحوه، ولم يكن قبل ذلك من يفتي به أصلاً.

ويؤيد ذلك أنه في حديث ابن مسعود رضي الله عنه المشهور أن رسول

الله صلى الله عليه وسلم لعن آكل الربا وشاهديه وكاتبه والمحلل له.

وروى أحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه

وسلم قال: (ما ظهر في قوم الربا والزنا إلا أحلوا بأنفسهم عقاب الله) فهذا يشعر

بأن التحليل من الزنا كما يشعر أن العينة من الربا.

وقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفًا ومرفوعًا قال: (يأتي على

الناس زمان يُستحل فيه خمسة أشياء: يستحلون الخمر بأسماء يسمونها بها،

والسحت بالهدية، والقتل بالريبة، والزنا بالنكاح، والربا بالبيع) ، فإن الزيادة

المذكورة أولاً قد سنت، وأما السحت الذي هو العطية للوالي والحاكم ونحوهما باسم

الهدية فهو ظاهر، واستحلال القتل باسم الإرهاب الذي يسميه ولاة الظلم سياسة

وأبهة الملك ونحو ذلك فظاهر أيضًا، وهو نوع من أنواع شريعة القتل المخترعة.

قد وصف النبي صلى الله عليه وسلم الخوارج بهذا النوع من الخصال فقال: (إن

من ضئ ضئ هذا قومًا يقرؤن القرآن لا يتجاوز حناجرهم، يقتلون أهل الإسلام،

ويَدَعون أهل الأوثان، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) ولعل

هؤلاء المرادون بقوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة رضي الله عنه:

(يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا) الحديث، يدل عليه تفسير الحسن قال: يصبح

محرّمًا لدم أخيه وعرضه ويمسي مستحلاًّ

إلى آخره.

وقد وَضع القتل شرعًا معمولاً به على غير سُنة الله وسُنة رسوله المتسمى

بالمهدي المغربي الذي زعم أنه المبشر به في الأحاديث، فجعل القتل عقابًا في

ثمانية عشر صنفًا ذكروا منها: الكذب، والمُداهنة، وأخذهم أيضًا بالقتل في ترك

امتثال أمر من يستمع أمره، وبايعوه على ذلك؛ وكان يعظهم في كل وقت ويذكرهم،

ومَن لم يحضر أُدّب، فإن تمادى قتل، وكل من لم يتأدب بما أُدّب به ضرب

بالسوط المرة والمرتين، فإن ظهر منه عناد في ترك امتثال الأوامر قتل، ومن

داهن على أخيه أو أبيه أو من يكرم أو المقدم عليه قتل. وكل من شك في عصمته

قتل أو شك في أنه المهدي المبشر به، وكل من خالف أمره أمر أصحابه فعزروه،

فكان أكثر تأديبه القتل - كما ترى - كما أنه كان من رأيه أن لا يصلي خلف إمام أو

خطيب يأخذ أجرًا على الإمامة أو الخطابة، وكذلك لبس الثياب الرفيعة - وإن كانت

حلالاً - فقد حكوا عنه قبل أن يستفحل أمره أنه ترك الصلاة خلف خطيب أغمات

بذلك السبب. فقُدم خطيب آخر في ثياب حفيلة تباين التواضع - زعموا -[3] فترك

الصلاة خلفه.

وكان من رأيه ترك الرأي واتباع مذاهب الظاهرية. قال العلماء: وهو بدعة

ظهرت في الشريعة بعد المائتين. ومن رأيه أن التمادي على ذرة من الباطل

كالتمادي على الباطل كله.

وذكر في كتاب الإمامة أنه هو الإمام، وأصحابه هم الغرباء الذين قيل فيهم:

(بُدئ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدئ، فطوبى للغرباء) وقال في الكتاب

المذكور: جاء الله بالمهدي وطاعته صافية نقية لم ير مثلها قبل ولا بعد؛ وإن به

قامت السموات والأرض، وبه تقوم، ولا ضد له ولا مثل ولا ند، انتهى. وكذب

فالمهدي عيسى عليه السلام.

وكان يأمرهم بلزوم الحزب بعد صلاة الصبح، وبعد المغرب، فأمر المؤذنين

إذا طلع الفجر أن ينادوا: (أصبح ولله الحمد) إشعارًا - زعموا - بأن الفجر قد

طلع لإلزام الطاعة، ولحضور الجماعة، وللغد، ولكل ما يؤمرون به.

وله اختراعات وابتداعات غير ما ذكرنا، وجميع ذلك إلى [4] إنه قائل برأيه

في العبادات والعادات، مع زعمه أنه غير قائل بالرأي. وهو التناقض بعينه، فقد

ظهر إذًا جريان تلك الأشياء على الابتداع.

وأما كون الزكاة مغرمًا، فالمغرم (ما) يلزم أداؤه من الديون، والغرامات

كان الولاة يلزمونها الناس بشيء معلوم من غير نظر إلى قلة مال الزكاة أو كثرته

أو قصوره علن النصاب أو عدم قصوره؛ بل يأخذونهم بها على كل حال إلى

الموت، وكون هذا بدعة ظاهر.

وأما ارتفاع الأصوات في المساجد فناشئ عن بدعة الجدال في الدين، فإن من

عادة قراءة العلم وإقرائه وسماعه وإسماعه أن يكون في المساجد، ومن آدابه أن لا

ترفع فيه الأصوات في غير المساجد، فما ظنك به في المساجد؟ فالجدال فيه زيادة

الهوى، فإنه غير مشروع في الأصل، فقد جعل العلماء من عقائد الإسلام ترك

المراء والجدال في الدين، وهو الكلام فيما لم يأذن في الكلام فيه، كالكلام في

المتشابهات من الصفات والأفعال وغيرهما، وكمتشابهات القرآن؛ ولأجل ذلك جاء

في الحديث عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: تلا رسول الله صلى الله

عليه وسلم هذه الآية {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ} (آل

عمران: 7) .... الآية، قال (فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهم الذين عنى الله

فاحذورهم) وفي الحديث: (ما ضل قوم بعد هدى إلا أوتوا الجدل) وجاء عنه

عليه السلام أنه قال: (لا تماروا في القرآن فإن المراء فيه كفر) وعنه عليه

السلام أنه قال: (إن القرآن يصدق بعضه بعضًا، فلا تكذبوا بعضه ببعض، ما

علمتم منه فاقبلوه وما لم تعلموا منه فكلوه إلى عالمه) وقال عليه السلام (اقرؤا

القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فيه فقوموا عنه) وخرج ابن وهب عن

معاوية بن قرة قال: إياكم والخصومات في الدين فإنها تحبط الأعمال. وقال

النخعي في قوله تعالى: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} (المائدة: 64) قال:

الجدال والخصومات في الدين.

وقال معن بن عيسى: انصرف مالك يومًا إلى المسجد وهو متكئ على يدي،

فلحقه رجل يقال له أبو الجديرة يتهم بالإرجاء، فقال: يا أبا عبد الله! اسمع مني

شيئًا أكلمك به وأحاجّك وأخبرك برأيي. فقال له: احذر أن أشهد عليك. قال:

والله ما أريد إلا الحق. اسمع مني، فإن كان صوابًا فقل به أو فتكلم؛ قال: فإن

غلبتني؟ قال: اتبعني. قال: فإن غلبتك؟ قال اتبعتك؛ قال: فإن جاء رجل

فكلمناه فغلبنا؟ قال: اتبعناه. فقال له مالك: يا عبد الله! بعث الله محمدًا بدين

واحد وأراك تنتقل. وقال عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه عرضًا للخصومات

أكثر التنقل. وقال مالك: ليس الجدال في الدين بشيء.

والكلام في ذم الجدال كثير. فإذا كان مذمومًا فمن جعله محمودًا وعدّه من

العلوم النافعة بإطلاق فقد ابتدع في الدين. ولما كان اتباع الهوى أصل الابتداع لم

يعدم صاحب الجدال أن يماري ويطلب الغلبة، وذلك مظنة رفع الأصوات.

فإن قيل: عددت رفع الأصوات من فروع الجدال وخواصه وليس كذلك؛

فرفع الأصوات قد يكون في العلم، ولذلك كره رفع الأصوات في المسجد، وإن

كان في العلم أو في غير العلم. قال ابن القاسم في المبسوط: رأيت مالكًا يعيب

على أصحابه رفع أصواتهم في المسجد. وعلل ذلك محمد بن مسلمة بعلتين:

إحداهما: أنه يجب أن ينزه المسجد عن مثل هذا؛ لأنه مما أمر بتعظيمه

وتوقيره.

والثانية: أنه مبني للصلاة، وقد أمرنا أن نأتيها وعلينا السكينة والوقار، فلأن

يلزم ذلك في موضعها المتخذ لها أولى.

وروى مالك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بنى رحبة بين ناحية المسجد

تسمى البطحاء [5] وقال: من كان يريد أن يلغط أو ينشد شعرًا أو يرفع صوته

فليخرج إلى هذه الرحبة. فإذا كان كذلك، فمِن أين يدل ذم رفع الصوت في المسجد

على الجدل المنهي عنه؟

فالجواب من وجهين:

(أحدهما) : أن رفع الصوت من خواص الجدل المذموم، أعني في أكثر

الأمر دون الفلتات؛ لأن رفع الصوت والخروج عن الاعتدال فيه ناشئ عن الهوى

في الشيء المتكلم فيه، وأقرب الكلام الخاص بالمسجد إلى رفع الصوت الكلام فيما

لم يؤذن فيه، وهو الجدال الذي نبه عليه الحديث المتقدم. وأيضًا لم يكثر الكلام

جدًّا في نوع من أنواع العلم في الزمان المتقدم إلا في علم الكلام، وإلى غرضه

تصوبت سهام النقد والذم، فهو إذًا هو. وقد روي عن عميرة ابن أبي ناجية

المصري أنه رأى قومًا يتعارّون في المسجد وقد علت أصواتهم فقال: هؤلاء قوم قد

ملوا العبادة، وأقبلوا على الكلام، اللهم أمت عميرة، فمات من عامه ذلك في الحج؛

فرأى رجل في النوم قائلاً يقول: مات في هذه الليلة نصف الناس، فعرفت تلك

الليلة، فجاء موت عميرة هذا.

(والثاني) : أنا لو سلمنا أن مجرد رفع الأصوات يدل على ما قلنا لكان

أيضًا من البدع إذا عد كأنه من الجائز في جميع أنواع العلم فصار معمولاً به

لا يفي [6] ولا يكف عنه مجرى البدع المحدثات [7] .

وأما تقديم الأحداث على غيرهم؛ من [8] قبيل ما تقدم في كثرة الجهال وقلة

العلم، كان ذلك التقديم في رتب العلم أو غيره؛ لأن الحدث أبدًا أو في غالب الأمر

غِرٌّ لم يتحنك، ولم يرتض في صناعته رياضة تبلغه مبالغ الشيوخ الراسخين

الأقدام في تلك الصناعة، ولذلك قالوا في المثل:

وابن اللبون إذا ما لُزَّ في قرن

لم يستطع صولة البُزْل القناعيس

هذا إن حملنا الحدث على حداثة السن، وهو نص في حديث ابن مسعود

رضي الله عنه، فإن حملناه على حدثان العهد بالصناعة، ويحتمله قوله: (وكان

زعيم القوم أرذلهم) وقوله: (وساد القبيلة فاسقهم) وقوله: (إذا أسند الأمر

إلى غير أهله) فالمعنى فيها واحد. فإن الحديث العهد بالشيء لا يبلغ مبالغ القديم

العهد فيه. ولذلك يحكى عن الشيخ أبى مدين أنه سئل عن الأحداث الذين نهى

شيوخ الصوفية عنهم؛ فقال: الحدث الذي لم يستكمل الأمر بعد، وإن كان ابن

ثمانين سنة.

فإذًا تقديم الأحداث على غيرهم، من باب تقديم الجهّال على غيرهم. ولذلك

قال فيهم: (سفهاء الأحلام، وقال: يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم) إلى آخره،

وهو منزل على الحديث الآخر في الخوارج (إن من ضئضئ هذا قومًا يقرؤون

القرآن لا يجاوز حناجرهم) إلى آخر الحديث. يعني أنهم لم يتفقهوا فيه، فهو في

ألسنتهم لا في قلوبهم.

وأما لعن آخر هذه الأمة أولها؛ فظاهر مما ذكر العلماء عن بعض الفرق

الضالة؛ فإن الكاملية من الشيعة كفرت الصحابة رضي الله عنهم حين لم يصرفوا

الخلافة إلى علي رضي الله عنه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكفرت عليًّا

رضي الله عنه حين لم يأخذ بحقه فيها.

وأما ما دون ذلك مما يوقف فيه عند السبب، فمنقول موجود في الكتب، وإنما

فعلوا ذلك لمذاهب سوء لهم رأوها فبنوا عليها ما يضاهيها من السوء والفحشاء،

فلذلك عُدُّوا من فرق أهل البدع.

قال مصعب الزبيري وابن نافع: دخل هارون - يعني الرشيد - المسجد

فركع، ثم أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فسلم عليه، ثم أتى مجلس مالك فقال:

السلام عليك ورحمة الله وبركاته. ثم قال لمالك: هل لمن سب أصحاب رسول

الله صلى الله عليه وسلم في الفيء حق؟ قال: لا كرامة ولا مسرة. قال: من أين

قلت ذلك؟ قال: قال الله عز وجل: {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفَّارَ} (الفتح: 29) فمن عابهم فهو كافر، ولا حق لكافر في الفيء.

واحتج مرة أخرى في ذلك بقوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا

مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} (الحشر: 8)

إلى آخر الآيات الثلاث، قال: فهم

أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هاجروا معه وأنصاره، {وَالَّذِينَ

جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} (الحشر:

10) فمن عدا هؤلاء فلا حق لهم فيه. وفي فعل خواص الفرق من هذا المعنى

كثير.

وأما بعث الدجالين؛ فقد كان جملة، منهم من تقدم في زمان بني العباس

وغيرهم. ومنهم معدّ [9] من العبيدية الذين ملكوا إفريقية؛ فقد حكي عنه أنه جعل

المؤذن يقول: أشهد أن معدًّا رسول الله. عوضًا من كلمة الحق: (أشهد أن

محمدًا رسول الله) فهمّ المسلمون بقتله ثم رفعوه إلى معد ليروا هل هذا عن أمره،

فلما انتهى كلامهم إليه، قال: اردد عليهم أذانهم، لعنهم الله.

ومن يدّعي لنفسه العصمة: فهو شبه من يدعي النبوة. ومن يزعم أنه به

قامت السموات والأرض فقد جاوز دعوى النبوة، وهو المغربي المتسمي بالمهدي.

وقد كان في الزمان القريب رجل يقال له الفازازي ادعى النبوة واستظهر

عليها بأمور موهمة للكرامات، والإخبار بالمغيبات، ومخيلة الخوارق للعادات،

تبعه على ذلك من العوام جملة؛ ولقد سمعت بعض طلبة ذلك البلد الذي اختله هذا

البأس - وهو ما لقة - آخذًا ينظر في قوله تعالى: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (الأحزاب:

40) وهل يمكن تأويله؟ وجعل يطرق إليه الاحتمالات، ليسوغ إمكان بعث نبي

بعد محمد صلى الله عليه وسلم، وكان مقتل هذا المفتري على يد شيخ شيوخنا أبى

جعفر بن الزبير رحمه الله.

ولقد حكى بعض مؤلفي الوقت قال: حدثني شيخنا أبو الحسن بن الجياب،

قال: لما أمر بالتأهب يوم قتله وهو في السجن الذي أخرج منه إلى مصرعه جهر

بتلاوة سورة يس، فقال له أحد الذعرة ممن جمع السجن بينهما: اقرأ قرآنك، لأي

شيء تتفضل على قرآننا اليوم؟ أو في معنى هذا، فتركها مثلاً بلوذعيته.

وأما مفارقة الجماعة، فبدعتها ظاهرة؛ ولذلك يُجازى [10] بالميتة الجاهلية.

وقد ظهر في الخوارج وغيرهم ممن سلك مسلكهم كالعبيدية وأشباههم.

فهذا أيضًا من جملة ما اشتملت عليه تلك الأحاديث. وباقي الخصال المذكورة

عائد إلى نحو آخر ككثرة النساء وقلة الرجال، وتطاول الناس في البنيان،

وتقارب الزمان.

فالحاصل أن أكثر الحوادث التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم من أنها

تقع وتظهر وتنتشر أمور مبتدعة على مضاهاة التشريع لكن من جهة التعبد لا من

جهة كونها عادية وهو الفرق بين المعصية التي هي بدعة، والمعصية التي هي

ليست ببدعة. وأن العاديات من حيث هي عادية لا بدعة فيها، ومن حيث يتعبد بها

أو توضع وضع التعبد تدخلها البدعة. وحصل بذلك اتفاق القولين، وصار

المذهبان مذهبًا واحدًا، وبالله التوفيق.

***

فصل

فإن قيل: أما الابتداع بمعنى أنه نوع من التشريع على وجه التعبد في

العاديات من حيث (هو) توقيت معلوم معقول؛ فإيجابه أو إجازته بالرأي - كما

تقدم - من أمثلة بدع الخوارج ومن داناهم من الفرق الخارجة عن الجادة -

فظاهر [11] ومن ذلك القول بالتحسين والتقبيح العقلي، والقول بترك العمل بخبر

الواحد، وما أشبه ذلك، فالقول بأنه بدعة قد تبين وجهه واتضح مغزاه.

وإنما يبقى وجه آخر يشبهه وليس به، وهو أن المعاصي والمنكرات

والمكروهات قد تظهر وتفشو ويجري العمل بها بين الناس على وجه لا يقع لها

إنكار من خاص ولا عام، فما كان منها هذا شأنه: هل يعد مثله بدعة أم لا؟

فالجواب: إن مثل هذه المسألة لها نظران:

(أحدهما) : نظر من حيث وقوعها عملاً واعتقادًا في الأصل، فلا شك أنها

مخالفة لا بدعة، إذ ليس من شرط كون الممنوع والمكروه غير بدعة أن لا ينشرها

ولا يظهرها أنه ليس من شرط أن تنشر؛ بل لا تزول المخالفة ظهرت أو لا،

واشتهرت أم لا؛ وكذلك دوام العمل أو عدم دوامه لا يؤثر في واحدة منهما،

والمبتدع قد يقام عن بدعتة، والمخالف قد يدوم على مخالفته إلى الموت، عياذًا بالله.

(والثاني) : نظر من جهة ما يقترن من خارج؛ فالقرائن قد تقترن فتكون

سببًا في مفسدة حالية وفي مفسدة مالية، كلاهما راجع إلى اعتقاد البدعة.

أما الحالية فبأمرين: الأول أن يعمل بها الخواص من الناس عمومًا، وخاصة

العلماء خصوصًا وتظهر من جهتهم. وهذه مفسدة في الإسلام ينشأ عنها عادة من

جهة العوام استسهالها واستجارتها؛ لأن العالم المنتصب مفتيًّا للناس بعمله كما هو

مفتٍ بقوله. فإذا نظر الناس إليه وهو يعمل بأمره هو مخالفة [12] حصل في

اعتقادهم جوازه، ويقولون: لو كان ممنوعًا أو مكروهًا لامتنع منه العالم. هذا وإن

نص على منعه أو كراهته، فإن عمله معارض لقوله؛ فإما أن يقول العامي: إن

العالم خالف بذلك، ويجوز عليه مثل ذلك. وهم عقلاء الناس وهم الأقلون. وإما

أن يقول: إنه وجد فيه رخصة فإنه لو كان كما قال لم (يأت) به فيرجح بين قوله

وفعله. والفعل أغلب من القول في جهة التأسي - كما تبين في كتاب الموافقات -

فيعمل العامي بعمل العالم تحسينًا للظن به فيعتقده جائزًا، وهؤلاء هم الأكثرون.

فقد صار عمل العالم عند العامي حجة، كما كان قوله حجة على الإطلاق

والعموم في الفتيا، فاجتمع على العامي العمل مع اعتقاد الجواز بشبهة دليل، وهذا

عين البدعة.

بل قد وقع مثل هذا في طائفة ممن تميز عن العامة بانتصاب في رتبة العلماء،

فجعلوا العمل ببدعة الدعاء بهيئة الاجتماع في آثار الصلوات، وقراءة الحزب،

حجة في جواز العمل بالبدع في الجملة، وأن منها ما هو حسن؛ وكان منهم من

ارتسم في طريقة التصوف فأجاز التعبد لله بالعبادات المبتدعة، واحتج بالحزب

والدعاء بعد الصلاة كما تقدم.

ومنهم من اعتقد أنه ما عُمل به إلا لمستند، فوضعه في كتاب وجعله فقهًا

كبعض أما أريد الرس ممن قيد على الأمة ابن زيد.

وأصل جميع ذلك سكوت الخواص عن البيان، والعمل به على الغفلة، ومن

هنا تستشنع زلة العالم، فقد قالوا: ثلاث تهدم الدين: زلة العالم، وجدال منافق

بالقرآن، وأئمة ضالون.

وكل ذلك عائد وباله على عالم [13] وزَلَلُه المذكور عند العلماء يحتمل

وجهين:

(أحدهما) : زَلَلُه في النظر حتى يفتي بما خالف الكتاب والسنة فيتابع عليه،

وذلك الفتيا بالقول.

و (الثاني) : زَلَلُه في العمل بالمخالفات، فيتابع عليها أيضًا على التأويل

المذكور، وهو في الاعتبار قائم مقام الفتيا بالقول؛ إذ قد علم أنه متبع ومنظور إليه،

وهو مع ذلك يظهر بقوله ما ينهى عنه الشارع، فكأنه مفت به، على ما تقرر في

الأصول.

والثاني من قسمي المفسدة الحالية أن يعمل بها العوام وتشيع فيهم وتظهر،

فلا ينكرها الخواص، ولا يرفعون لها رؤوسهم [14] قادرون على الإنكار فلم

يفعلوا، فالعامي من شأنه إذا رأى أمرًا يجهل حكمه يعمل العالم به فلا ينكر عليه،

اعتقد أنه جائز أو أنه حسن أو أنه مشروع، بخلاف ما إذا أنكر عليه فإنه يعتقد أنه

عيب، أو أنه غير مشروع (أو) أنه ليس من فعل المسلمين. هذا أمر يلزم مَن

ليس بعالم بالشريعة؛ لأن مستنده الخواص والعلماء في الجائز مع غير

الجائز.

فإذا عدم الإنكار ممن شأنه الإنكار، مع ظهور العمل وانتشاره وعدم خوف

المنكر، ووجود القدرة عليه، فلم يفعل؛ دل عند العوام أنه فعل جائز لا حرج فيه،

فنشأ فيه هذا الاعتقاد الفاسد بتأويل يقنع بمثله من العوام [15] فصارت المخالفة

بدعة كما في القسم الأول.

وقد ثبت في الأصول أن العالم في الناس قائم مقام النبي عليه الصلاة والسلام؛

والعلماء ورثة الأنبياء؛ فكما أن النبي صلى الله عليه وسلم يدل على الأحكام

بقوله وفعله وإقراره، كذلك وارثه يدل على الأحكام بقوله وفعله وإقراره. واعتبر

ذلك ببعض ما أُحدث في المساجد من الأمور المنهي عنها فلم يُنكرها العلماء، أو

عملوا بها فصارت بعد سننًا ومشروعات كزيادتهم مع الأذان: (أصبح ولله الحمد)

والوضوء للصلاة: (تأهبوا) ودعاء المؤذنين بالليل في الصوامع؛ وربما

احتجوا ذلك بعض الناس بما وضع في نوازل ابن سهل غفلة عما عليه فيه [16] وقد

قيدنا في ذلك جزءًا مفردًا، فمَن أراد الشفاء في المسألة فعليه به، وبالله التوفيق.

وخرج أبو داود قال: اهتم النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة كيف يجمع

الناس لها، فقيل: انصب راية عند حضور الصلاة فإذا رأوها أذن بعضهم بعضًا.

فلم يعجبه ذلك. قال: فذكر له القمع، يعني الشبور، وفي رواية: شبور اليهود،

فلم يعجبه؛ وقال: (هو من أمر اليهود. قال: فذكر له الناقوس، فقال: هو من

أمر النصارى) فانصرف عبد الله بن زيد بن عبد ربه وهو مهتم لهمِّ رسول الله

صلى الله عليه وسلم فأري الأذان في منامه - إلى آخر الحديث.

وفي مسلم عن أنس بن مالك أنه قال: ذكروا أن يعلموا وقت الصلاة بشيء

يعرفونه، فذكروا أن ينوروا نارًا، أو يضربوا ناقوسًا [17] فأمر بلال أن يشفع

الآذان ويوتر الإقامة. والقمع والشبور: هو البوق، وهو القرن الذي وقع في

حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

فأنت ترى كيف كره النبي صلى الله عليه وسلم شأن الكفار فلم يعمل على

موافقته. فكان ينبغي لمن اتسم بسمة العلم أن ينكر ما أحدث من ذلك في المساجد

إعلامًا بالأوقات أو غير إعلام بها؛ أما الراية فقد وضعت إعلامًا بالأوقات، وذلك

شائع في بلاد المغرب، حتى إن الأذان معها قد صار في حكم التبع [18] .

وأما البوق فهو العلم في رمضان إلى غروب الشمس ودخول وقت الإفطار،

ثم هو علم أيضًا بالمغرب والأندلس على وقت السحور ابتداءً وانتهاءً [19]

والحديث قد جعل علمًا لانتهاء نداء ابن أم مكتوم قال ابن شهاب: وكان ابن أم

مكتوم رجلاً أعمى لا ينادي حتى يقال له أصبحت أصبحت.

وفي مسلم وأبى داود: (لا يمنعن أحدكم نداء بلال من سحوره فإنه يؤذن

ليرجع قائمكم ويوقظ نائمكم) الحديث. فقد جعل أذان بلال لأن ينتبه النائم لما

يحتاج إليه من سحوره وغيره، فالبوق ما شأنه؟ وقد كرهه عليه السلام، ومثله

النار التي ترفع دائمًا في أوقات الليل وبالعشاء والصبح في رمضان أيضًا، إعلامًا

بدخوله، فتوقد في داخل المسجد ثم في وقت السحور، ثم ترفع في المنار إعلامًا

بالوقت؛ والنار شعار المجوس في الأصل.

قال ابن العربي: أول من اتخذ البخور في المسجد بنو برمك يحيى بن خالد

ومحمد بن خالد، ملَّكهما الوالي أمر الدين فكان محمد بن خالد حاجبًا ويحيى وزيرًا،

ثم ابنه جعفر بن يحيى. قال: وكانوا باطنية يعتقدون آراء الفلاسفة، فأحيوا

المجوسية، واتخذوا البخور في المساجد - وإنما تطيب بالخلوق - فزادوا

التجمير [20] ويعمرونها بالنار منقولة حتى يجعلوها عند الأندلس ببخورها ثاتبة [21]

انتهى.

وحاصله أن النار ليس إيقاد ما في المساجد من شأن السلف الصالح، ولا كانت

مما تزين به المساجد ألبتة، ثم أحدث التزين بها حتى صارت من جملة ما يعظم به

رمضان؛ واعتقد العامة هذا كما اعتقدوا طلب البوق في رمضان في المساجد،

حتى لقد سأل بعضهم عنه: أهو سنة أم لا؟ ولا يشك أحد أن غالب العوام يعتقدون

أن مثل هذه الأمور مشروعة على الجملة في المساجد، وذلك بسبب ترك الخواص

الإنكار عليهم.

وكذلك أيضًا لما لم يتخذ الناقوس للإعلام، حاول الشيطان فيه بمكيدة أخرى،

فعلق بالمساجد واعتد به في جملة الآلات التي توقد عليها النيران وتزخرف بها

المساجد، زيادة إلى زخرفتها بغير ذلك، كما تزخرف الكنائس والبيع.

ومثله إيقاد الشمع بعرفة ليلة الثامن. وذكر النواوي أنها من البدع القبيحة،

وأنها ضلالة فاحشة جُمع فيها أنواع من القبائح: منها إضاعة المال في غير

وجهه، ومنها إظهار شعائر المجوس، ومنها اختلاط الرجال والنساء والشمع بينهم

ووجوههم بارزة، ومنها تقديم دخول عرفة قبل وقتها المشروع. اهـ.

وقد ذكر الطرطوشي في إيقاد المساجد في رمضان بعض هذه الأمور، وذكر

أيضًا قبائح سواها. فأين هذا كله من إنكار مالك لتنحنح المؤذن أو ضربه الباب

ليعلم بالفجر، أو وضع الرداء؟ وهو أقرب مرامًا وأيسر خطبًا من أن تنشأ بدع

محدثات، يعتقدها العوام سننًا بسبب سكوت العلماء والخواص عن الإنكار وسبب

عملهم بها.

وأما المفسدة المالية فهي على فرض [22] أن يكون الناس عالمين بحكم المخالفة،

وأنها قد ينشأ الصغير على رؤيتها وظهورها، ويدخل في الإسلام أحد ممن يراها

شائعة ذائعة فيعتقدونها جائزة أو مشروعة؛ لأن المخالفة إذا فشا في الناس فعلها من

غير إنكار، لم يكن عند الجاهل بها فرق بينها وبين سائر المباحات أو الطاعات.

وعندنا كراهية العلماء أن يكون الكفار صيارفة في أسواق المسلمين لعلمهم

بالربا [23] فكل من يراهم من العامة صيارف وتجارًا في أسواقنا من غير إنكار يعتقد

أن ذلك جائز كذلك؛ وأنت ترى مذهب مالك المعروف في بلادنا أن الحلي

الموضوع من الذهب والفضة لا يجوز بيعه بجنسه إلا وزنًا بوزن، ولا اعتبار

بقيمة الصياغة أصلاً [24] والصاغة عندنا كلهم أو غالبهم يتبايعون على ذلك أن

يستفضلوا قيمة الصياغة أو إجارتها، ويعتقدون أن ذلك جائز لهم، ولم يزل العلماء

من السلف الصالح ومَن بعدهم يتحفّظون من أمثال هذه الأشياء، حتى كانوا يتركون

السنن خوفًا من اعتقاد العوام أمرًا هو أشد من ترك السنن، وأولى أن يتركوا

المباحات أن لا يعتقد فيها أمر ليس بمشروع. وقد مرّ بيان هذا في باب البيان من

كتاب الموافقات. فقد ذكروا أن عثمان رضي الله عنه كان لا يقصر في السفر

فيقال له: أليس قد قصرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقول بلى؛

ولكني إمام الناس، فينظر إلي الأعراب وأهل البادية أصلي ركعتين فيقولون: هكذا

فرضت. [25]

قال الطرطوشي: تأملوا رحمكم الله: فإن في القصر قولين لأهل الإسلام،

منهم مَن يقول: فريضة. ومَن أتم فإنما يتم ويعيد أبدًا؛ ومنهم من يقول: سنّة.

يعيد من أتم في الوقت. ثم اقتحم عثمان ترك الفرض أو السنة لما خاف من سوء

العاقبة أن يعتقد الناس أن الفرض ركعتان.

وكان الصحابة رضي الله عنهم لا يضحون: (يعني أنهم لا

يلتزمون [26] ) قال حذيفة بن أسد: شهدت أبا بكر وعمر رضي الله عنهما لا

يضحيان مخافة أن يُرى أنها واجبة. وقال بلال: لا أبالي أن أضحي بكبشين أو

بديك.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يشتري لحمًا بدرهم يوم

الأضحى، ويقول لعكرمة: من سألك فقل: هذه أضحية ابن عباس. وقال ابن

مسعود: إني لأترك أضحيتي - وإني لمن أيسركم - مخافة أن يظن أنها واجبة.

وقال طاووس: ما رأيت بيتًا أكثر لحمًا وخبزًا أو علمًا من بيت ابن عباس، يذبح

وينحر كل يوم، ثُم لا يذبح يوم العيد؛ وإنما كان يفعل ذلك لئلا يظن الناس أنها

واجبة. وكان إمامًا يقتدى به.

قال الطرطوشي: والقول في هذا كالذي قبله، وإن لأهل الإسلام قولين في

الأضحية، أحدهما: سنة، والثاني: واجبة. ثم اقتحمت الصحابة ترك السنة حذرًا

من أن يضع الناس الأمر على غير وجهه فيعتقدونها فريضة.

قال مالك في الموطأ في صيام ستة بعد الفطر من رمضان: إنه لم ير أحدًا

من أهل العلم والفقه يصومها. قال: ولم يبلغني ذلك عن أحد من السلف، وإن أهل

العلم يكرهون ذلك ويخافون بدعته، وأن يلحق أهل الجهالة والجفاء برمضان ما

ليس منه لو رأوا في ذلك رخصة من أهل العلم، ورأوهم يقولون ذلك. فكلام مالك

هنا ليس فيه دليل على أنه لم يحفظ الحديث كما توهم بعضهم؛ بل لعل كلامه مشعر

بأنه يعلمه؛ لكنه لم ير العمل عليه - وإن كان مستحبًّا في الأصل - لئلا يكون ذريعة

لما قال، كما فعل الصحابة رضي الله عنهم في الأضحية، وعثمان في الإتمام

في السفر.

وحكى الماوردي ما هو أغرب من هذا وإن كان هو الأصل: فذكر أن الناس

كانوا إذا صلوا في الصحن من جامع البصرة أو الطرقة ورفعوا من السجود مسحوا

جباههم من التراب، كأنه كان مفروشًا بالتراب، فأمر زياد بإلقاء الحصا في صحن

المسجد: وقال: لست آمن مِن أن يطول الزمان فيظن الصغير إذا نشأ أن مسح

الجبهة من أثر السجود سنة في الصلاة. وهذا في مباح، فكيف به في المكروه أو

الممنوع؟

ولقد بلغني في هذا الزمان عن بعض من هو حديث عهد بالإسلام أنه قال في

الخمر: ليست بحرام ولا عيب فيها؛ وإنما العيب أن يفعل بها ما لا يصلح كالقتل

وشبهه. وهذا الاعتقاد لو كان ممن نشأ في الإسلام كان كفرًا، لأنه إنكار لما علم

من دين الأمة ضرورة؛ وسبب ذلك ترك الإنكار من الولاة على شاربها، والتخلية

بينهم وبين اقتنائها، وشهرته بحارة أهل الذمة فيها [27] وأشباه ذلك.

ولا معنى للبدعة إلا أن يكون الفعل في اعتقاد المبتدع مشروعًا وليس

بمشروع. وهذا الحال متوقع أو واقع. فقد حكى القرافي عن العجم ما يقتضي أن

ستة الأيام من شوال ملحقة عندهم برمضان، لإبقائهم حالة رمضان الخاصة به كما

هي إلى تمام الستة الأيام. وكذلك وقع عندنا مثله، وقد مر في الباب الأول.

وجميع هذا منوط إثمه بمن يترك الإنكار من العلماء أو غيرهم، أو من يعمل

ببعضها بمرأى من الناس أو في مواقعهم؛ فإنهم الأصل في انتشار هذه الاعتقادات

في المعاصي أو غيرها.

وإذا تقرر هذا فالبدعة تنشأ عن أربعة أوجه:

(أحدها) : وهو أظهر الأقسام: أن يخترعها المبتدع.

(والثاني) : أن يعمل بها العالم على وجه المخالفة فيفهمها الجاهل مشروعة.

(والثالث) : أن يعمل بها الجاهل مع سكوت العالم عن الإنكار وهو قادر

عليه، فيفهم الجاهل أنها ليست بمخالفة.

(والرابع) : من باب الذرائع، وهي أن يكون العمل في أصله معروفًا، إلا

أنه يتبدل الاعتقاد فيه مع طول العهد بالذكرى.

إلا أن هذه الأقسام ليست على وزان واحد، ولا يقع اسم البدعة عليها

بالتواطئ؛ بل هي في القرب والبعد على تفاوت؛ فالأول هو الحقيق باسم البدعة،

فإنها تؤخذ علة بالنص عليها، ويليه القسم الثاني، فإن العمل يشبهه التنصيص

بالقول؛ بل قد يكون أبلغ منه في مواضع - كما تبين في الأصول - غير أنه لا

ينزل هاهنا من وجه منزلة الدليل أن العالم قد يعمل وينص على قبح عمله. ولذلك

قالوا: لا تنظر إلى عمل العالم ولكن سله يصدقك. وقال الخليل بن أحمد أو غيره:

اعمل بعلمي ولا تنظر إلى عملي

ينفعك علمي ولا يضررك تقصيري

ويليه القسم الثالث، فإن ترك الإنكار - مع أن رتبة المنكر رتبة من يعد ذلك

منه إقرار - يقتضي أن الفعل غير منكر، ولكن يتنزل منزلة ما قبله؛ لأن

الصوارف للقدرة كثيرة، قد يكون الترك لعذر بخلاف الفعل، فإنه لا عذر في فعل

الإنسان بالمخالفة، مع علمه بكونها.

ويليه القسم الرابع؛ لأن المحظور الحالي فيما تقدم غير واقع فيه عرض،

فلا تبلغ المفسدة المتوقعة أن تساوي رتبة الواقعة أصلاً، فلذلك كانت من باب

الذرائع، فهي إذاً لم تبلغ أن تكون في الحال بدعة، فلا تدخل بهذا النظر تحت

حقيقة البدعة.

وأما القسم الثاني والثالث فالمخالفة فيه بالذات، والبدعة من خارج، إلا أنها

لازمة لزومًا عاديًّا، ولزوم الثاني أقوى من لزوم الثالث. والله أعلم.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) تابع لما نشر من كتاب الاعتصام في ص 673 ج 9 وهو تتمة بحث النظر في أمثلة الوجه الثالث من أوجه دخول الابتداع في العاديات.

(1)

الرواية المشهورة بمهملتين، وسيأتي ذكر هذا اللفظ وتفسيره في حديث آخر في ص 755.

(2)

كذا ولعله: (السبت) والعبارة كلها مضطربة ليست سالمة من التحريف.

(3)

كلمة (زعموا) جملة معترضة تؤذن بالبراءة مما يحكى عنهم، وأفصح منه أن يقال كما قال

تعالى: {فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} (الأنعام: 136) .

(4)

كذا في الأصل، والمعنى المراد أن جميع ذلك يدل على أنه قائل برأيه.

(5)

كذا في الأصل.

(6)

الكلمة غير منقوطة في الأصل وتحتمل بالتصحيف والتحريف عدة احتمالات.

(7)

كذا ولعل أصله: فجرى مجرى البدع المحدثات.

(8)

لعل الأصل (فمن) .

(9)

هو اسم أول خلفاء العبيديين الملقب بالمعز لدين الله.

(10)

أي يجازى مفارقها، ولعل الفاعل قد سقط من الأصل بسهو الناسخ.

(11)

قوله (فظاهر) جواب (أما الابتداع) في أول الفصل وما بينهما اعتراض، وقوله فيه (فإيجابه) مبتدأ، خبره (من أمثلة بدع الخوارج) وفي الكلام تعقيد معنوي ظاهر.

(12)

كذا في الأصل، وهو تحريف ظاهر، والمعنى مفهوم من القرينة؛ وهو: فإذا نظر إليه الناس يعمل ما يأمر هو بمخالفته - أي بتركه - حصل في اعتقادهم جوازه.

(13)

كذا ولعل أصله: (على العالم) بفتح اللام على حد قولهم: إذا زل العالم زل العالم (بالفتح) .

(14)

سقط من هنا كلمة ربما كانت (وهم) .

(15)

كذا ولعل الأصل (من كان من العوام) .

(16)

لعل الأصل (وربما احتجوا على ذلك بما يفعله بعض الناس، وبما وضع في نوازل ابن سهل غفلة عما أخذ عليه فيه) ، أو أن في الكلام حذفًا غير ما ذكر تصح به العبارة.

(17)

يظهر أنه قد سقط من هذا الموضع كلام بمعنى ما تقدم من الإعراض عن هذه الأشياء؛ لأنها شعائر المِلَل السابقة، وبما كان من اختيار الأذان، ثم فرع عليه أمر بلال بالتفرقة بين الأذان والإقامة بجعله شفعًا وجعلها وترًا.

(18)

في بعض بلاد الشام يرفعون علمًا من منارة الجامع الذي يكون فيه الموقت؛ لأجل أن يراه المؤذنون من سائر المنارات فيؤذنون في وقت واحد، وإنما يكون ذلك في وقت الظهر والعصر والمغرب.

(19)

قد استبدلت المدافع في هذا العصر بالبوق.

(20)

قال بعض المؤرخين: إن البرامكة زينوا للرشيد وضع المجامر في الكعبة المشرفة ليأنس المسلمون بوضع النار في أعظم معابدهم، والنار معبود المجوس والظاهر أن البرامكة كانوا من رؤساء جمعيات المجوس السرية التي تحاول هدم الإسلام وسلطة العرب وإعادة الملك للمجوس وإنما فتك بهم هارون الرشيد؛ لأنه وقف على دخائلهم.

(21)

كذا في الأصل ولعله قد سقط من الكلام شيء.

(22)

قوله: (على فرض) ظرف خبر قوله: (فهي) والجملة من المبتدأ والخبر خبر قوله:

(وأما المفسدة المالية) .

(23)

لعل أصله: لعملهم أو لتعاملهم بالربا.

(24)

في كتاب (أعلام الموقعين) للمحقق ابن القيم بيان وتحقيق لاعتبار قيمة الصياغة وجواز بيع الحلي بأكثر من زنته لأجل ذلك.

(25)

تقدم ذكر هذه المسألة مع تنبيه في الحاشية على ما أجابوا به عن عثمان فيها.

(26)

لعل المفعول وهو (الأضحية) سقط من قلم الناسخ.

(27)

ينظر ما مراده بهذه الجملة؟ والظاهر أنه كان لأهل الذمة في الأندلس حارات يسكنونها أو يكثرون فيها وأن الخمر كانت تباع فيها كما هي الحال في بعض بلاد المسلمين بالمشرق.

ص: 753

الكاتب: ابن القيم الجوزية

ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين

منزلة التعظيم

فصل [*]

وهذه المنزلة تابعة للمعرفة، فعلى قدر المعرفة يكون تعظيم الرب تعالى في

القلب، وأعرف الناس به أشدهم له تعظيمًا وإجلالاً، وقد ذم الله تعالى مَن لم يعظمه

حق عظمته، ولا عرفه حق معرفته، ولا وصفه حق صفته. وأقوالهم تدور على

هذا. وقال تعالى: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} (نوح: 13) قال ابن

عباس ومجاهد: لا ترجون لله عظمة، وقال سعيد بن جبير: ما لكم لا تعظمون الله

حق عظمته؟ وقال الكلبي: ولا تخافون لله عظمة. قال البغوي: والرجاء بمعنى

الخوف، والوقار: العظمة، اسم من التوقير وهو التعظيم. وقال الحسن: لا تعرفون

لله حقًّا، ولا تشكرون له نعمة. وقال ابن كيسان. ولا ترجون في عبادة الله أن

يثيبكم على توقيركم إياه خيرًا.

وروح العبادة هو الإجلال والمحبة، فإذا خلى أحدهما عن الآخر فسدت

العبودية، فإذا اقترن بهذين الثناء على المحبوب المعظم فذلك حقيقة الحمد، والله

سبحانه أعلم.

* * *

فصل

قال صاحب المنازل رحمه الله: (التعظيم معرفة العظمة مع التذلل لها، وهو

على ثلاث درجات: الأول تعظيم الأمر والنهي، وأن لا يعارضا بترخص جاف،

ولا يُعرَّضا لتشدد غال، ولا يُحمَلا على علة توهن الانقياد) .

هاهنا ثلاثة أشياء تنافي تعظيم الأمر والنهي؛ (أحدها) : الترخص الذي يجفو

به صاحبه عن كمال الامتثال (والثاني) : الغلو الذي يتجاوز به صاحبه حدود الأمر

والنهي فالأول تفريط والثاني إفراط، وما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزعتان، إما

إلى تفريط وإضاعة، وإما إلى إفراط وغلو، ودين الله وسط بين الجافي عنه والغالي

فيه، كالوادي بين الجبلين، والهدى بين ضلالتين، والوسط بين طرفين ذميمين.

وكما أن الجافي عن الأمر مضيع له، فالغالي فيه مضيع له، هذا بتقصيره عن الحد،

وهذا بتجاوزه عن الحد.

وقد نهى الله عن الغُلُو بقوله: {قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ

الحَقِّ} (المائدة: 77)، والغلو نوعان: نوع يخرجه عن كونه مطيعًا، كمن زاد

في الصلاة ركعة، أو صام الدهر مع أيام النهي، أو رمى الجمرات بالصخرات

الكبار التي رُمي بها في المنجنيق، أو سعى بين الصفا والمروة عشرًا، أو نحو

ذلك عمدًا.

وغلو يخاف منه الانقطاع والاستحسار، كقيام الليل كله، وسرد الصيام

الدهر أجمع بدون صوم أيام النهي، والجور على النفوس في العبادات والأوراد

الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا

غلبه، فسددوا وقاربوا ويسروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة)

يعني استعينوا على طاعة الله بالأعمال في هذه الأوقات الثلاثة فإن المسافر يستعين

على قطع مسافة السفر بالسير فيها، وقال:(ليُصَلِّ أحدكم نشاطه فإذا فتر فليرقد)

رواهما البخاري. وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (هلك

المتنطعون) قالها ثلاثًا. وهم المتعمقون المشددون. وفي صحيح البخاري عنه:

(عليكم من الأعمال ما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملوا) وفي السنن عنه

صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، ولا تُبغِّض

إلى نفسك عبادة الله) أو كما قال.

وأما قوله: (ولا يُحمَلا على علة توهن الانقياد) يريد أن لا يتأول في الأمر

والنهي علة تعود عليه بالإبطال، كما تأول بعضهم تحريم الخمر بأنه معلل بإيقاع

العداوة والبغضاء والتعرض للفساد، فإذا أمن من هذا المحذور منه جاز شربه، كما

قيل:

أدرها فما التحريم فيها لذاتها ولكن لأسباب تضمنها السكر

إذا لم يكن سكر يضل عن الهدى

فسيان ماء في الزجاجة أو خمر

وقد بلغ هذا بأقوام إلى الانسلاخ من الدين جملة، وقد حمل طائفة من العلماء

أن جعلوا تحريم ما عدا شراب العنب معللاً بالإسكار، فله أن يشرب منه ما لم

يسكر.

ومن العلل التي توهن الانقياد أن يعلل الحكم بعلة ضعيفة لم تكن هي الباعثة

عليه في نفس الأمر فيضعف انقياده إذا قام عنده أن هذه هي علة الحكم، ولهذا

طريقة القوم عدم التعرض لعلل التكاليف خشية هذا المحذور. وفي بعض الآثار

القديمة: (يا بني إسرائيل لا تقولوا: لم أمر ربنا؟ ولكن قولوا: بم أمر ربنا)

وأيضًا فإنه إذا لم يمتثل الأمر حتى تظهر له علته لم يكن منقادًا للأمر، وأقل

درجاته أن يضعف انقياده له، وأيضًا فإنه إذا نظر إلى حكم العبادات والتكاليف

مثلاً [1] وجعل العلة فيها هي جمعية القلب والإقبال به على الله، فقال: أنا

أشتغل بالمقصود عن الوسيلة، فاشتغل بجمعيته وخلوته عن أوراد العبادات فعطلها،

وترك الانقياد بحمله الأمر على العلة التي أذهبت انقياده، وكل هذا من ترك تعظيم

الأمر والنهي، وقد دخل من هذا الفساد على كثير من الطوائف ما لا يعلمه إلا

الله، فما يدري ما أوهنت العلل الفاسدة من الانقياد إلا لله، وكم عطلت لله من أمر

وأباحت من نهي وحرمت من مباح! وهي التي اتفقت كلمة السلف على ذمها.

* * *

فصل

قال: (الدرجة الثانية تعظيم الحكم أن لا يُبغى له عوج، أو يُدافَع بعلم؛ أو

يرضى بعوض) الدرجة الأولى تتضمن تعظيم الحكم الديني الشرعي، وهذه

الدرجة تتضمن تعظيم الحكم الكوني القدري، وهو الذي يخصه المصنف باسم

الحكم، وكما يجب على العبد أن يرعى حكم الله الديني بالتعظيم فكذلك يرعى حكمه

الكوني به، فذكر من تعظيمه ثلاثة أشياء (أحدها) :(أن لا يُبغى له عوج) أي

يُطلب له عوج أو يُرى فيه عوج؛ بل يُرى كله مستقيمًا؛ لأنه صادر عن عين

الحكمة فلا عوج فيه، وهذا موضع أشكل على الناس جدًّا. فقالت نفاة القدر: ما

في خلق الرحمن من تفاوت ولا عوج، والكفر والمعاصي مشتملة على أعظم

التفاوت والعوج، فليست بخلقه ولا مشيئته ولا قدره. وقالت فرقة تقابلهم: بل هي

من خلق الرحمن وقدره، فلا عوج فيها وكل ما في الوجود مستقيم. والطائفتان

ضالّتان منحرفتان عن الهدى. وهذه الثانية أشد انحرافًا؛ لأنها جعلت الكفر

مستقيمًا لا عوج فيه، وعدم تفريق الطائفتين بين القضاء والمقضي والحُكم

والمحكوم به هو الذي أوقعهم فيما أوقعهم فيه.

وقول سلف الأمة وجمهورها: إن القضاء غير المقضي، فالقضاء فعله

ومشيئته وما قام به، والمقضي مفعوله المباين له المنفصل عنه، وهو المشتمل

على الخير والشر والعوج والاستقامة، فقضاؤه كله حق، والمقضي منه حق

ومنه باطل. وقضاؤه كله عدل، والمقضي منه عدل ومنه جور، وقضاؤه

كله مرضي، والمقضي منه مرضي ومنه مسخوط. وقضاؤه كله مُسالِم،

والمقضي منه ما يُسالِم ومنه ما يُحارِب.

وهذا أصل عظيم تجب مراعاته، وهو موضع مزلة أقدام كما رأيت،

والمنحرف عنه إما جاحد للحكمة أو القدرة أو للأمر والشرع ولا بد، وعلى هذا

يحمل كلام صاحب المنازل رحمه الله، أي لا يبتغي للحكم عوج.

وأما قوله: (أو يدفع بعلم) فأشكل من الأول، فإن العلم مقدم على القدر

وحاكم عليه، ولا يجوز دفع العلم بالحكم. فأحسن ما يحمل عليه كلامه أن يقال:

قضاء الله وقدره وحكمه الكوني: لا يناقض دينه وشرعه وحكمه الديني بحيث تقع

المدافعة بينهما؛ لأن هذا مشيئته الكونية وهذا إرادته الدينية. وإن كان المرادان قد

يتدافعان ويتعارضان؛ ولكن من تعظيم كل منهما أن لا يدافع بالآخر ويعارض،

فإنهما وصفان للرب تعالى، وأوصافه لا يدفع بعضها ببعض، وأن استعيذ ببعضها

من بعض. فالكل منه سبحانه وهو المعيذ من نفسه بنفسه، كما قال أعلم الخلق به:

(أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بعفوك من عقوبتك، وأعوذ بك منك)

فرضاؤه وإن أعاذ من سخطه فإنه لا يبطله و (لا) يدفعه، وإنما يدفع تعلقه

بالمستعيذ، وتعلقه بأعدائه باق غير زائل، فهكذا أمره وقدره سواء، فإن أمره لا

يبطل قدره، ولا قدره يبطل أمره، ولكن يدفع ما قضاه وقدره بما أمر به وأحبه،

وهو أيضًا من قضائه، فما دفع قضاؤه إلا بقضائه وأمره، فلم يدفع العلم الحكم؛

بل المحكوم به، والعلم والحكم دفعا المحكوم به الذي قدر دفعه وأمر به.

فتأمل هذا فإنه محض العبودية والمعرفة والإيمان بالقدر والاستسلام له،

والقيام بالأمر والتنفيذ له بالقدر، فما نفذ المطيع أمر الله إلا بقدر الله، ولا دفع

مقدور الله إلا بقدر الله وأمره.

وأما قوله: (ولا يرضى بعوض) أي إن صاحب مشهد الحكم قد وصل إلى

حد لا يطلب معه عوضًا، ولا يكون ممن يعبد الله بالعوض، فإنه يشاهد جريان

حكم الله عليه، وعدم تصرفه في نفسه، وإن المتصرف فيه حقًّا مالكه الحق، فهو

الذي يقيمه ويقعده ويقلبه ذات اليمين وذات الشمال، وإنما يطلب العوض من غاب

عن الحكم وذهل عنه، وذلك منافٍ لتعظيمه، فمن تعظيمه أن لا يرضى العبد

بعوض يطلبه بعمله؛ لأن مشاهدة الحكم وتعظيمه يمنعه أن يرى لنفسه ما يعارض

عليه. فهذا الذي يمكن حمله كلامه عليه من غير خروج عن حقيقة الأمر. والله

سبحانه أعلم.

* * *

فصل

قال: (الدرجة الثالثة تعظيم الحق سبحانه، وهو أن لا يجعل دونه سببًا، ولا

يرى عليه حقًّا، ولا ينازع له اختيارًا) هذه الدرجة تتضمن تعظيم الحاكم سبحانه

صاحب الخلق والأمر، والتي قبلها تتضمن تعظيم قضائه لا مقتضيه، والأولى

تتضمن تعظيم أمره. وذكر من تعظيمه ثلاثة أشياء:

(أحدها) : (أن لا تجعل [1] دونه سببًا) أي لا تجعل للوصلة إليه سببًا

غيره؛ بل هو الذي يوصل إليه عبده، فلا يوصِّل إلى الله إلا الله، ولا يقرب إليه

سواه، ولا أدنى إليه غيره، ولا يتوصل إلى رضاه إلا به، فما دل على الله

إلا الله، ولا هدى إليه سواه، ولا أدنى إليه غيره، فإنه سبحانه هو الذي جعل

السبب سببًا، فالسبب وسببيته وإيصاله، كله خلقه وفعله.

(الثاني) أن لا يرى عليه حقًّا، أي لا ترى لأحد من الخلق لا لك ولا

لغيرك حقًّا على الله؛ بل الحق لله على خلقه. وفي أثر إسرائيلي (إن داود عليه

السلام قال: يا رب بحق آبائي عليك. فأوحى الله تعالى إليه: يا داود! أي حق

لآبائك علي؟ ألست أنا الذي هديتهم ومننت عليهم واصطفيتهم ولي الحق عليهم؟)

وأما حقوق العبيد على الله تعالى من إثابته لمطيعهم وتوبته على تائبهم وإجابته

لسائلهم، فتلك حقوق أحقها الله سبحانه على نفسه بحكم وعده وإحسانه، لا أنها

حقوق أحقوها هم عليه، فالحق في الحقيقة لله على عبده، وحق العبد عليه هو ما

اقتضاه جوده وبره وإحسانه إليه بمحض جوده وكرمه. وهذا قول أهل التوفيق

والبصائر، وهو وسط بين قولين منحرفين قد تقدم ذكرهما مرارًا. والله أعلم.

وأما قوله [2] : (ولا ينازع له اختيارًا) أي إذا رأيت الله عز وجل قد

اختار لك أو لغيرك شيئًا إما بأمره ودينه، وإما بقضائه وقدره - فلا تنازع اختياره؛

بل ارض باختيار ما اختاره، فإن ذلك من تعظيمه سبحانه. ولا يرد عليه ما قدره

عليه من المعاصي، فإنه سبحانه وإن قدرها لكنه لم يخترها له، فمنازعتها غير

اختياره من عبده، وذلك من تمام تعظيم العبد له سبحانه. والله أعلم. اهـ

(المنار)

هذا الكلام لا يسلم على إطلاقه؛ بل له قيد لا بد منه. وقد سبق للمصنف

تحقيقه فلهذا اكتفى هنا بالإجمال؛ وإنما نحتاج إلى القيد إذا أردنا (بالاختيار) متعلقه

وهو ما اختاره الله لنا من الأمور، وهو المقضي والمقدر. كما هو المتبادر هنا. فهذا

إذا كان شرًّا لنا كالأمراض والمظالم والفتن فإنه لا يشرع لنا أن نرضى به؛ بل

يجب أن نقاومه وندافع الأقدار بالأقدار، كما قال عمر بن الخطاب بإقرار جمهور

من الصحابة رضي الله عنهم عندما فر من الشام ولم يدخلها لوباء فيها: (نفرّ

من قدر الله إلى قدر الله) أما نفس اختيار الله تعالى الذي هو فعله فلا وجه لمنازعته

فيه، ولا تردد في الرضا به وعدم الاعتراض عليه فيه. ولا فرق بين الذي قلناه

آنفًا - وقد سبق تقرير المصنف له - وبين ما قاله هنا آنفًا في المعاصي، ومسألة

الاختيار مبهمة هنا، فاختياره تعالى - بالمعنى المصدري - لا ينازع ولا

يعارض مطلقًا. وهو يتناول كل ما قضاه وقدره؛ لأنه فعله، وكل أفعاله اختيارية.

فلا يمكن أن يقال أنه قدر المعاصي بغير اختيار منه. وأما الاختيار بالمعنى

الحاصل بالمصدر أي ما اختاره سبحانه لعباده، فهو قسمان: أفعال وأحكام، أو

خلق وأمر، فأما أحكام دينه وأمره ونهيه فلا ينازع فيها؛ بل تؤخذ بالرضاء

والتسليم، وأما أفعاله التي تقع بقدره وحسب سننه في خلقه فقسمان:

(أحدها) : ما يوافق مصالح الناس ومنافعهم فيجب الرضاء بها مع الشكر

عليها.

(وثانيها) : ما لا يوافق مصالحهم ومنافعهم كالأمراض وتعدي بين الظالمين

وطغيان المياه، فهذه تنازع وتقاوم مع الصبر عليها.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) منقول من الجزء الثاني من مدارج السالكين.

(1)

الظاهر أن نسخة الشارح بالخطاب وأن ذكر عبارة المتن وما يأتي من حكايتاه في الشرح بأفعال الغائب من تصرف النساخ.

(2)

كان الظاهر أن يحكي هذا بالعدد فيقول: الثالث أن لا ينازع له اختيارًا.

ص: 777

الكاتب: الذهبي

‌أقوال علماء السلف الأثبات

في عقيدة السلف وإثبات الصفات

(2)

(أحمد بن محمد بن حنبل شيخ الإسلام)

رحمه الله ثراه [1] وجعل الجنة مثواه

المنقول عن هذا الإمام في هذا الباب طيب كثير مبارك فيه، فهو حامل لواء

السنة، والصابر في المحنة، والمشهود بأنه من أهل الجنة، فقد تواتر عنه تكفير

مَن قال بخلق القرآن العظيم جل منزله، وإثبات الرؤية والصفات والعلو والقدر،

وتقديم الشيخين، وأن الإيمان يزيد وينقص، إلى غير ذلك من عقود الديانة مما

يطول شرحه، فقال يوسف بن موسى القطان شيخ أبي بكر الخلال: قيل لأبي عبد

الله: الله فوق السماء السابعة على عرشه بائن من خلقه، وقدرته وعلمه بكل مكان؟

قال: نعم هو على عرشه ولا يخلو شيء من علمه.

وقال أبو طالب أحمد بن حميد: سألت أحمد بن حنبل عن رجل قال: الله

معنا وتلا {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إلا هُوَ رَابِعُهُمْ} (المجادلة: 7) فقال: قد

تَجَهَّمَ هذا، يأخذون بآخر الآية ويدعون أولها، قرأت عليه {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ} (المجادلة: 7) فعلمه معهم. وقال في سورة ق: {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ

وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ} (ق: 16) فعلمه معهم.

قال المروذي: قلت لأبي عبد الله: إن رجلاً قال: أقول كما قال الله: {وَنَعْلَمُ مَا

تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ} (ق: 16) أقول هذا ولا

أجاوزه إلى غيره. فقال: هذا كلام الجهمية بل علمه معهم، فأول الآية يدل على أنه

علمه. رواه ابن بطة في كتاب الإبانة عن عمر بن محمد عن رجاء عن محمد بن

داود عن المروذي.

وقال حنبل بن إسحاق: قيل لأبي عبد الله: ما معنى] وَهُوَ مَعَكُمْ [؟ قال: علمه

محيط بالكل، وربنا على العرش بلا حد ولا صفة.

قال ابن أبي حاتم في كتاب مناقب الإمام أحمد: ثنا محمد بن مسلم ثنا سلمة

ابن شديد قال: كنت عند أحمد بن حنبل، فدخل عليه رجل عليه أثر السفر فقال: مَن

فيكم أحمد بن حنبل؟ فأشاروا إلى أحمد بن حنبل، فقال: إني ضربت البر والبحر

من أربع مائة فرسخ، أتاني الخضر عليه السلام فقال: ائت أحمد بن حنبل فقل له: إن

ساكن السماء راض عنك لما بذلت نفسك في هذا الأمر.

قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: حدث محدث وأنا عنده بحديث: (يضع الرحمن

فيها قدمه) وعنده غلام، فأقبل على الغلام فقال: إن لهذا تفسيرًا. فقال أبو عبد الله:

انظر إليه كما تقول الجهمية سواء.

قال ابن أبي حاتم: ثنا صالح بن أحمد بن حنبل قال: سمعت أبي يحتج بأن

القرآن غير مخلوق، يقول: قال تعالى: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ القُرْآنَ} (الرحمن:

1-

2) فأخبر تعالى أن القرآن من علمه، قال يعقوب الدورقي: قال لي أحمد:

اللفظية إنما يدورون على كلام جهم يزعمون أن جبريل إنما جاء بشيء مخلوق.

* * *

(إسحاق بن راهويه عالم خراسان)

قال حرب بن إسماعيل الكرماني قلت لإسحاق بن راهويه قوله تعالى:

{مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إلا هُوَ رَابِعُهُمْ} (المجادلة: 7) كيف تقول فيه؟ قال

حيثما كنت فهو أقرب إليك من حبل الوريد، وهو بائن من خلقه. ثم ذكر عن ابن

المبارك قوله: هو على عرشه، بائن من خلقه. ثم قال أعلى شيء في ذلك وأبينه

قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) رواه الخلال في السنة

عن حرب.

* * *

(الحافظ أبو عوانة صاحب الصحيح)

كان من كبار الحفاظ، حمل عن أصحاب سفيان بن عيينة ووكيع. قال

الحاكم في ترجمته: سمعت يحيى بن منصور القاضي يقول: سمعت أبا عوانة

رحمه الله يقول: دخلت على إبراهيم المزني في مرضه الذي مات فيه فقلت له: ما

قولك في القرآن؟ فقال: كلام الله غير مخلوق. فقلت هلاّ قلت قبل هذا؟ قال:

لم يزل هذا قولي وكرهت الكلام فيه لأن الشافعي كان ينهى عن الكلام فيه، يعني

البحث والجدال في ذلك.

* * *

(أبو الحسن الأشعري صاحب التصانيف)

قال الإمام أبو الحسن علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري البصري

المتكلم في كتابه الذي سماه (اختلاف المضلين ومقالات الإسلاميين) فذكر فرق

الخوارج والروافض والجهمية وغيرهم؛ إلى أن قال: (ذكر مقالة أهل السنة

وأصحاب الحديث جملة) قولهم الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله، وبما جاء عن

الله، وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يردون من ذلك شيئًا،

وأن الله على عرشه كما قال {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) وأن

له يدين بلا كيف كما قال: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (ص: 75) وأن أسماء الله لا

يقال: إنها غير الله كما قالت المعتزلة والخوارج، وأقرّوا أن لله علمًا كما قال:

{أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} (النساء: 166) {وَمَا تَشَاءُونَ إلا أَن يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ

عَلِيماً حَكِيماً} (الإِنسان: 30) وأثبتوا السمع والبصر، ولم ينفوا ذلك عن الله

كما نفته المعتزلة، وقالوا: لا يكون في الأرض من خير وشر إلا ما شاء الله، وأن

الأشياء تكون بمشيئته كما قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إلا أَن يَشَاءَ اللَّهُ} (الإِنسان:

30) إلى أن قال: ويقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق. ويصدقون

بالأحاديث التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ينزل إلى

السماء الدنيا فيقول: هل مستغفر) كما جاء الحديث، ويقرون أن الله يجيء يوم

القيامة كما قال: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفاًّ صَفاًّ} (الفجر: 22) وأن الله

يقرب من خلقه كيف يشاء قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ} (ق:

16) إلى أن قال: فهذا جملة ما يأمرون به ويستعملونه ويرونه، وبكل ما ذكرنا

من قولهم نقول، وإليه نذهب، وما توفيقنا إلا بالله.

وذكر الأشعري في هذا الكتاب المذكور في باب (هل الباري تعالى في مكان

دون مكان أم لا في مكان أم في كل مكان) فقال اختلفوا في ذلك على سبع عشرة

مقالة: منها مقالة أهل السنة وأصحاب الحديث إنه ليس بجسم ولا يشبه الأشياء وإنه

على العرش كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) ولا نتقدم

بين يدي الله بالقول؛ بل نقول استوى بلا كيف، وإن له يدين كما قال: (خلقت

بيدي) وإنه ينزل إلى سماء الدنيا كما جاء في الحديث.

ثم قال: وقالت المعتزلة: استوى على عرشه بمعنى استولى، وتأولوا اليد

بمعنى النعمة، وقوله:{تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} (القمر: 14) أي بعلمنا.

وقال أبو الحسن الأشعري في كتاب (جمل المقالات) له - رأيته بخط

المحدث أبي علي بن شاذان - فسرد نحوًا من هذا الكلام في مقالة أصحاب الحديث

تركت إيراد ألفاظه خوف الإطالة والمعنى واحد.

وقال الأشعري في كتاب (الإبانة في أصول الديانة) له، في باب الاستواء:

فإن قال قائل: ما تقولن في الاستواء؟ قيل: نقول: إن الله مستوٍ على عرشه كما

قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) وقال: {إلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ

الطَّيِّبُ} (فاطر: 10) وقال: {بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إلَيْهِ} (النساء: 158) وقال

حكاية عن فرعون: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ *

أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً} (غافر: 36-37)

كذب موسى في قوله إن الله فوق السموات، وقال عز وجل: {أَأَمِنتُم مَّن فِي

السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} (الملك: 16) فالسموات فوقها العرش، فلما

كان العرش فوق السموات وكل ما علا فهو سماء، وليس إذا قال كذب موسى في قوله إن الله فوق السموات، وقال عز وجل:{أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ} (الملك:

16) يعني جميع السموات، وإنما أراد العرش الذي هو أعلى السموات، فلولا

أن الله على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش. وقد قال قائلون من المعتزلة

والجمهية والحرورية: إن معنى استوى: استولى وملك وقهر، وأنه تعالى في

كل مكان، وجحدوا أن يكون على عرشه كما قال أهل الحق، وذهبوا في الاستواء

إلى القدرة. فلو كان كما قالوا كان لا فرق بين العرش وبين الأرض السابعة؛ لأنه

قادر على كل شيء، والأرض (شيء) فالله قادر عليها وعلى الحشوش، وكذا لو

كان مستويًا على العرش بمعنى الاستيلاء لجاز أن يقال هو مستو على الأشياء كلها،

ولم يجز عند أحد من المسلمين أن يقول: إن الله مستو على الأخيلة والحشوش،

فبطل أن يكون الاستواء الاستيلاء. وذكر من الكتاب والسنة والعقل سوى ذلك.

وكتاب الإبانة من أشهر تصانيف أبي الحسن، شَهَرَه الحافظ ابن عساكر

واعتمد عليه، ونسخه بخطه الإمام محيي الدين النواوي، ونقل الإمام أبو بكر بن

فورك المقالة المذكورة عن أصحاب الحديث عن أبى الحسن الأشعري في كتاب

(المقالات والخلاف بين الأشعري وبين أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب

البصري) تأليف ابن فورك فقال: الفصل الأول في ذكر ما حكى أبو الحسن -

رضي الله عنه في كتاب المقالات من جمل مذاهب أصحاب الحديث، وما

أبان في آخره أنه يقول بجميع ذلك. ثم سرد ابن فورك المقالة بهيئتها ثم قال في

آخرها: فهذا تحقيق لك من ألفاظه أنه معتقد لهذه الأصول التي هي قواعد

أصحاب الحديث وأساس توحيدهم.

قال الحافظ أبو العباس أحمد بن ثابت الطرقي: قرأت كتاب أبي الحسن

الأشعري الموسوم (بالإبانة) أدلة على إثبات الاستواء. قال في جملة ذلك: ومن

دعاء أهل الإسلام إذا هم رغبوا إلى الله أن يقولوا: يا ساكن العرش. ومن حلفهم:

لا والذي احتجب بسبع.

وقال الأستاذ أبو القاسم القشيري رحمه الله في شكاية أهل السنة: ما نقموا من

أبي الحسن الأشعري إلا أنه قال بإثبات القدر، وإثبات صفات الجلال لله من قدرته

وعلمه وحياته وسمعه وبصره ووجهه ويده، وأن القرآن كلامه غير مخلوق.

سمعت أبا علي الدقاق يقول: سمعت زاهر بن أحمد الفقيه يقول: مات

الأشعري رحمه الله ورأسه في حجري فكان يقول شيئًا في حال نزعه: لعن الله

المعتزلة موهوا ومخرقوا.

قال الحافظ الحجة أبو القاسم ابن عساكر في كتاب (تبيين كذب المفتري،

فيما نسب إلى الأشعري) فإذا كان أبو الحسن رحمه الله كما ذكر عنه من حسن

الاعتقاد، مستصوب المذهب عند أهل المعرفة والانتقاد، يوافقه في أكثر ما يذهب

عند أهل المعرفة والانتقاد، يوافقه في أكثر ما يذهب إليه أكابر العباد، ولا يقدح

في مذهبه غير أهل الجهل والعناد - فلا بد أن يحكى عنه معتقده على وجهه بالأمانة،

ليعلم حاله في صحة عقيدته في الديانة، فاسمع ما ذكره في كتاب الإبانة، فإنه قال:

(الحمد لله الواحد، العزيز الماجد، المتفرد بالتوحيد، المتمجد بالتمجيد، الذي لا

تبلغه صفات العبيد، وليس له مثل ولا نديد) فرد في خطبته على المعتزلة

والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة، فعرفونا قولكم [2] الذي

تقولون وديانتكم التي بها تدينون؟ قيل له: قولنا الذي به نقول، وديانتنا التي بها

ندين، التمسك بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وما روي عن الصحابة

والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان عليه أحمد بن حنبل

نضر الله وجهه قائلون، ولمن خالف قوله مجانبون؛ لأنه الإمام الفاضل، والرئيس

الكامل، الذي أبان الله به الحق عند ظهور الضلال، وأوضح به المنهاج وقمع به

المبتدعين، فرحمه الله من إمام مقدم وكبير مفهم وعلى جميع أئمة المسلمين.

وجملة قولنا أن نقر بالله وملائكته ورسله وما جاء من عند الله. ورواه الثقات عن

رسول الله صلى الله عليه وسلم. لا نرد من ذلك شيئًا، وأن الله إله واحد فرد صمد لا

إله غيره، وأن محمدًا عبده ورسوله وأن الجنة والنار حق. وأن الساعة آتية لا

ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور. وأن الله تعالى مستوٍ على عرشه كما قال:

{الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) وأن له وجهًا كما قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ

رَبِّكَ} (الرحمن: 27) وأنه له يدين كما قال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} (المائدة

: 64) وأن له عينين بلا كيف كما قال {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} (القمر: 14) وأن

من زعم أن اسم الله غيره كان ضالاًّ، وندين أن الله يُرى بالأبصار يوم القيامة كما

يُرى القمر ليلة البدر يراه المؤمنون. إلى أن قال: وندين بأنه يُقَلِّب القلوب وأن

القلوب بين إصبعين من أصابعه. وأنه يضع السموات والأرض على إصبع كما جاء

في الحديث. إلى أن قال: وأنه يقرب من خلقه كيف شاء كما قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ

إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ} (ق: 16) وكما قال {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ

أَوْ أَدْنَى} (النجم: 8-9) ونرى مفارقة كل داعية إلى بدعة. ومجانبة أهل

الأهواء. وسنحتج لما ذكرناه من قولنا وما بقي بابًا بابًا وشيئًا شيئًا.

ثم قال ابن عساكر: فتأملوا رحمكم الله هذا الاعتقاد ما أوضحه وأبينه!

واعترفوا بفضل هذا الإمام الذي شرحه وبينه. وقال الحافظ ابن عساكر: وقال

الإمام أبو الحسن في كتابه الذي سماه (العمد في الرؤية) : ألفنا كتابًا كبيرًا في

الصفات تكلمنا فيه على أصناف المعتزلة والجهمية، فيه فنون كثيرة من الصفات

في إثبات الوجه واليدين وفي استوائه على العرش.

كان أبو الحسن أولاً معتزليًّا أخذ عن أبي علي الجبائي، ثم نابذه ورد عليه

وصار متكلمًا للسنة. ووافق أئمة الحديث في جمهور ما يقولونه، وهو ما سقناه

عنه من أنه نقل إجماعهم على ذلك وأنه موافقهم. وكان يتوقد ذكاء. أخذ علم الأثر

عن الحافظ زكريا الساجي وتوفي سنة أربع وعشرين وثلاثمائة وله أربع وستون

سنة، رحمه الله تعالى.

فلو انتهى أصحابنا المتكلمون إلى مقالة أبي الحسن هذه ولزموها لأحسنوا؛

ولكنهم خاضوا كخوض حكماء الأوائل في الأشياء ومشوا خلف المنطق، فلا قوة إلا

بالله.

* * *

(ابن أبي زيد)

قال الإمام أبو محمد بن أبي زيد المغربي شيخ المالكية، في أول رسالته

المشهورة في مذهب مالك الإمام: وأنه تعالى فوق عرشه المجيد بذاته، وأنه في كل

مكان بعلمه. وقد تقدم مثل هذه العبارة عن أبي جعفر ابن أبي شيبة وعثمان بن سعيد

الدارمي. وكذلك أطلقها يحيى بن عمار واعظ سجستان في رسالته، والحافظ أبو

نصر الوائلي السجزي في كتاب الإبانة له. فإنه قال: وأئمتنا كالثوري ومالك

والحمَّادان وابن عيينة وابن المبارك والفضيل وأحمد وإسحاق متفقون على أن الله

فوق العرش بذاته، وأن علمه بكل مكان. وكذلك أطلقها ابن عبد البر كما سيأتي.

كذا عبارة شيخ الإسلام أبي إسماعيل الأنصاري، فإنه قال: وفي أخبار شتى أن

الله في السماء السابعة على العرش بنفسه، وكذا قال أبو الحسن الكرجي

الشافعي في تلك القصيدة:

عقائدهم أن الإله بذاته

على عرشه مع علمه بالغوائب

وعلى هذه القصيدة مكتوب بخط العلامة تقيّ الدين ابن الصلاح: هذه

عقيدة أهل السنة وأصحاب الحديث.

وكذا أطلق هذه اللفظة أحمد بن ثابت الطرقي الحافظ والشيخ عبد القادر

الجيلي، والمفتي عبد العزيز القحيطي وطائفة. والله تعالى خالق كل شيء بذاته،

ومدبر الخلائق بذاته، بلا معين ولا كوازر. وإنما أراد ابن أبي زيد وغيره التفرقة

بين كونه تعالى معنا وبين كونه تعالى فوق العرش، فهو كما قال. ومعنا بالعلم وأنه

على العرش كما أعلمنا حيث يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5)

وقد تلفظ بالكلمة المذكورة جماعة من العلماء كما قدمناه. وبلا ريب أن فضول

الكلام، تركه من حسن الإسلام.

وكان ابن أبي زيد من العلماء العاملين بالمغرب، وكان يلقب بمالك الصغير،

وكان غاية في علم الأصول وقد ذكره الحافظ ابن عساكر في كتاب (تبيين كذب

المفتري فيما نسب إلى الأشعري) ، ولم يذكر له وفاة. توفي سنة ست وثمانين

وثلاثمائة، وقيل سنة تسع وثمانين وثلاثمائة، وقد نقموا عليه في قوله (بذاته) فليته

تركها [3] .

_________

(1)

كذا ولعل أصله (طيب الله ثراه) أو رحمه الله وطيب ثراه) .

(2)

وفي نسخة (ما قولكم) .

(3)

لله در المؤلف ما ألطف نقده وإنكاره لهذه الكلمة وإنما تلطف هذا التلطف لأن الهفوة من بعض علماء الأثر وأنصار مذهب السلف، ولو قالها أحد المعتزلة لشنع عليه بأنه قال في أصول العقيدة

ما لم يقله أحد من السلف ولا ورد به أثر، ولا هو مما ثبت بالبرهان العقلي أيضًا ولكثير من الأثريين مثل هذه الهفوات والشذوذ، يحشرون آراءهم في النصوص ويفسرونها بها مع ادعائهم اتباع مذهب السلف وأنه التفويض والإمساك عن تعيين المراد من آيات الصفات وأحاديثها ونرى كثيرًا من الناس يقبل منهم ذلك ويقول به ويعده اتباعًا للسلف ولو بمعنى مخالفة الجهمية ولا يستغرب مع هذا تسليمهم وقبولهم بعض الروايات المنكرة المخالفة للأحاديث الصحيحة كقول مجاهد: إن الله تعالى يُقعد النبي معه على العرش، كأن مَن قبله اكتفى بأن يخالف الجهمية في عدم قبول مثله وإن صح إلا بالتأويل، وقد تقدم بيان المصنف لنكارته ومخالفته للأحاديث الصحيحة مع ذكر من قبله، ونقل آنفًا عن الدارقطني أنه لا يجحده! ! على أن العقائد يطلب فيها القطع وهذا لم يصل إلى مرتبة الظن وهنالك مخالفة أخرى لطريقة السلف بينها الغزالي في (إلجام العوام عن علم الكلام) وهي جمع معاني الآيات والأحاديث الواردة في الصفات بترتيب لم يرد في الكتاب والسنة بحيث يفيد الجمع معنى غير معنى الإيمان بكل منها مع التنزيه عن الكيفية: كأن تلقن العامي عقديته بمثل قولك: يجب أن تؤمن بأن لله تعالى وجهًا وعينين ويدين وقدمين وأنه ينزل ويمشي ويهرول ويضحك، فإن هذا يُحدث في خيال العامي صورة حسية لعله لا يزيلها منه قولك: وإنه لا يشبه في ذلك البشر ولا غيرهم من الخلق، ومذهب السلف أن يذكر ما ورد في السياق الذي ورد فيه، مع اعتقاد التنزيه ونفي التشبيه، وترك التأويل، والقال والقيل.

ص: 783

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌المراسلة والمناظرة

...

... بسم الله الرحمن الرحيم

نحمده ونصلي على رسوله الكريم

مَنْ أنصاري إلى الله

يا إخواني المسلمين: رحمكم اللهُ وحماكم، وحفظكم ونجّاكم، إن بعض سكان

بلدانكم المحروسة قد سمع حالاتي وعرفها، وإني أرى أن أذكر لكم مما أنا عليه

لازدياد المعرفة:

إني جئت من الهند من مدة تزيد على سنة ونصف إلى لندرة،

واطلعت على حالات أهلها في صولهم على ديننا الحق، تكدّرت جدًّا لأنهم

يقدمونه بين يدي الناس بوجوه رديّة لينفروهم عن القرب إليه، وذلك بنقلهم إلى

الغث سمينه، وإلى الكدر معينه، وإلى الظلمات نوره، وإلى الأخربة قصوره.

فهذه بلية عظمى على ديننا الإسلام، ما سُمع نظيرها من قبل. وما وجد مثلها في

الأولين. فلما رأيت ذلك عزمت على أن أشمر الذيل لإشاعة التدين القويم، وإعلاء

كلمة الحق، وما التوفيق إلا بالله. فالحمد لله ثم الحمد لله، ما انصرمت سنة كاملة

إلا ورأيت التوجه إلى ديننا الإسلام. وذلك فضل الله - إن الله على كل شيء قدير -

فإنكم قد سمعتم دخول لورد هيدلي في الإسلام، وغيره أيضًا من الرجال والنساء من

الأمراء المشهورين، مثل (واي كونت) وابن الأمير الروسي (بور كويت) الذي

تزوج ابنة الملك (أعني من أقارب خديو مصر) المسماة صالحة، فقد أسلم على

يدي والحمد لله على ذلك، فالآن عدد الذين هم دخلوا في الإسلام ثلاثون شخصًّا.

وذلك من فضل الله تعالى. وإن شاء الله تعالى يدخلون في ديننا الإسلام جم كثير؛

لأنه دين الفطرة السليمة. وليس المقصود التام دخول بعض النصارى في الإسلام؛

بل المقصود التام قمع الشبهات، ورفع الأغلوطات، التي نحتوها أعداء الدين.

ولذلك أجريت المجلة المسماة (إسلامك ريبويو) والحمد لله تعالى قد قبلت بأحسن

وجه، وسلمت طاقتها عند أولي البصائر.

ولكن يا سادتي إني وحيد فريد! وإن تبليغ الإسلام وإشاعته بين الخواص

والعوام، فرض واجب على كل مسلم ومسلمة. قال الله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ

أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ} (آل عمران: 110)

فلا بد من أهل الهمم العالية السنية من إخواني المسلمين أن يوآزروني ويمدوني

بحصة من أموالهم لحصول الأجر والثواب في إشاعة ديننا الإسلام، وذلك ازدياد

طبع مجلة (إسلامك ريبويو) وإشاعتها مجانًا في جميع الأطراف، فتكون فائدة

تامة إن شاء الله تعالى.

ثم ترجمنا القرآن الكريم بلسان الإنكليزي أحسن وجه، ونريد طبعه وإشاعته

أيضًا، وأما التراجم التي طبعت فإنها محشوة من الأغلوطات [1] لأنها ترجمة

المخالفين، وقد فعلوا ما فعلوا. فيا إخواني لا بد من طبع ترجمتها وإشاعتها مع

الأصل وتلك لا تكون إلا ببذل المال الجزيل. وإنكم مسلمون وقد بايعتم الله على أن

لكم الجنة بأموالكم وأنفسكم. قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ

وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ} (التوبة: 111) وأيضًا إن الإسلام قد شاع أولاً في

بلدانكم المحروسة فلها شرفية على سائر البلدان. ولذلك نرجو الإعانة منكم في

إرسال حصة من أموالكم لأجل إشاعة القرآن الكريم، وإشاعة (إسلامك ريبويو)

قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى} (المائدة: 2) وقال: {يَا أَيُّهَا

الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد: 7) .

وقال سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم: (مَن كان في عون أخيه كان

الله في عونه) والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

...

...

... خادم الإسلام والمسلمين

...

...

... خواجا كمال الدين مدير إسلامك ريبويو

* * *

(المنار)

نحض من بلغته هذه الدعوة على مساعدة أخينا صاحب هذه المجلة الإسلامية

الإنكليزية على إدامة إصدارها. وننصح له بأن لا يطبع ترجمة القرآن، التي نوّه

بها إلا بعد عرضها على جماعة من كبار العلماء في مصر أو الهند وإجازتهم إياها.

فإن رسالته هذه تدل على ضعفه في اللغة العربية فيخشى أن تكون ترجمته كثيرة

الغلط كغيرها. على أن ترجمة القرآن ترجمة تامة تؤدي من المعاني والتأثير ما

تؤديه عبارته العربية ضرب من المحال. وحسب من يترجم القرآن للأجانب أن

يأتيهم بتفسير مختصر سليم من الحشو وإنما تقوم بذلك الجمعيات لا الأفراد.

***

بسم الله الهادي إلى الحق

الدين النصيحة

إلى إخوتي المسلمين. إنني قد ولدت ونشأت مسلمًا ودرست القرآن وتفاسيره

مع العلوم الإسلامية على أعظم علماء سوريا ومصر ورأيت القرآن يشهد بأنه جاء

مصدقًا للتوراة والإنجيل ومهيمنًا عليهما أي حافظًا لهما من التغيير والتحريف لكن

لدى دراستي للتوراة والإنجيل رأيت القرآن يخالفهما في حقائق كثيرة لا سيّما مخالفته

لهما في مسألة الكفارة والفداء التي هي خلاصة الكتاب المقدّس. مع أن القرآن قد

تكلم عن القربان منذ زمن آدم وقد أثبتت السنة القربان في عيد الأضحى مع أن

جميع القرابين والذبائح التي كانت تقدم في العهد القديم كلها رمز وإشارة إلى الذبيحة

الحقيقية (المسيح) الذي قدم نفسه قربانًا فدية عن الخاطئين الذين يؤمنون به وإلا

فكيف يعقل أن حيوانًا أبكم يكون فداء عن إنسان عاقل؛ إذ لا بد أن يكون الفداء

على الأقل معادلاً للمفتدى إن لم يكن الفداء أثمن منه. يا أيها الأخوة تبصروا في

هذا الأمر المهم الذي يتوقف عليه خلاص نفوسكم من الهلاك الأبدي واعلموا أن

كاتب هذه الرسالة هو من سلالة نبيكم ونشأ مسلمًا ولكن الله قد أنار بصيرته حتى

رأى الحق صريحًا وذلك أن الكتاب المقدس هو كلمته وكتابه الوحيد لم يعتره تغيير

ولا تحريف وأنه لا يمكن لأحد من البشر أن يتخلص من الهلاك الأبدي إلا بواسطة

كلمة الله المتجسد في أحشاء مريم، وقد اتبعته وآمنت به واعتمدت باسمه تاركًا دين

آبائي وأملاكي وأقاربي وأصدقائي؛ لأجل أن أتخلص من الهلاك الأبدي! والآن

أدعوكم وأنصحكم بإخلاص ومحبة أخوية لتقرءوا كتاب الله تاركين كل تحزب

وتعصب؛ إذ الدين بالاستدلال لا بالإرث عن الآباء وحينئذٍ فالله نفسه يهديكم إلى

الصراط المستقيم الذي تطلبونه منه كل يوم مرات عديدة وإذا صعب فهم شيء من

الكتاب المقدس على أحدكم فعليه بسؤال الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وهم يجيبونكم

عن كل ما ترومونه والله القادر يرشدكم إلى طريق الحق والحياة بنعمته وهدايته

آمين.

(المنار)

جاءتنا هذه الرسالة في البريد بإمضاء متنصر سمى نفسه باسمين، أو اسم

جعل نفسه به عبدًا لإلهين، وهو (عبد الله، عبد الفادي) ونحن لا نناقشه فيما ادعاه

من النسب. ولا من ترك النشب، فأما دعواه دراسة التفسير والعلوم الإسلامية فلا

يبعد أن يكون لها أصل، لأن كثيرًا من الناس يزاول دراسة بعض الكتب عدة سنين

ولا يفهم منها شيئًا. ويجوز أن لا يكون له أصل، ويترجح إذا كان الرجل صحيح

الفهم؛ لأن من يدرس التفاسير وعلوم الإسلام، لا يمكن أن يثبت مسألة الفداء

الأخروي التي صرح بنفيها القرآن ويستدل عليها بالأَضحية والقربان، فالقرآن إنما

شرع لنا الفدية في الدنيا فقط، كفدية الصيام لمن يطيقه بمشقة شديدة لهرم أو داء

عضال وهي أن يطعم عن كل يوم مسكينًا، وفدية محرمات الإحرام قال تعالى:

{فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} (البقرة: 196) وفداء الأسير، ويُفدى

الأسير بمثله أو بمال كما هو المتبع عند جميع الأمم. وأما النجاة في الآخرة فإنما

تكون بالإيمان الصحيح والعمل الصالح كما هو منصوص في الآيات الكثيرة. ولا

يمكن أن تكون بالفداء. قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ

جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ القِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ} (المائدة: 36) وقال تعالى في شأن يوم القيامة: {وَاتَّقُوا يَوْماً لَاّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن

نَّفْسٍ شَيْئاً وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ} (البقرة:

48) والعدل هنا الفدية، وهو بمعنى المعادل.

وأما حكمة الأَضحية وما في معناها من النسك فهي التوسعة على الفقراء

ومساواتهم بالأغنياء في خير أطعمتهم وألذها. قال تعالى: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا

وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ} (الحج: 37) .

فمن عرف هذه الضروريات من الإسلام يجزم بأن صاحب هذه النشرة إما

كاذب في دعواه أنه كان مسلمًا وأنه قرأ شيئًا من علم الإسلام، وإما أنه قرأ شيئًا

وهو يتعمد اليوم تحريفه وتبديله، ويريد أن يغش عوام المسلمين به كما يفعل أمثاله

وأقتاله. فعليه أن ينصح نفسه قبل أن ينصح غيره. وأن يعلم أن الدنيا لا تغني عن

الآخرة التي لا تنفعه فيها فدية فادٍ ولا شفاعة شافع، إلا أن يؤمن بالله وحده،

ويزكي نفسه بالعمل الصالح {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ * فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ

مُعْرِضِينَ} (المدثر: 48-49) .

إن التحريف صار صنعة لدعاة النصرانية حتى إن من يلتصق بهم لأمر ما لا

يلبث أن يتقن صنعتهم، ولهذا نرى صاحب هذه الرسالة حرف ما ورد من الفدية

في القرآن عن موضعه ووضعه لمعنى طالما صرّح القرآن ببطلانه، كما حرف

معنى قوله تعالى: {وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} (المائدة: 48) ومعناه أن القرآن رقيب

على ما قبله من الكتب الإلهية يُظهر ما حرف منها ويفضح أصحابه، فجعله بمعنى

منع الناس من تحريفه بالفعل لا بإظهار تحريفهم، وكيف يكون مانعًا من شيء وقع

قبل نزوله؟ ولا يبعد أن يدعي في رسالة أخرى أن القرآن يثبت التثليث، وينهى

عن التوحيد! ! ألم تر أنه ادعى أن خلاصه الكتاب المقدس - أي ما يعزى إلى

أنبياء بني إسرائيل من وحي وغيره - لا تخرج عن معنى الكفارة والفداء؟ وهذه

دعوى افتحرها القوم الذين التصق بهم، ما أنزل الله بها من سلطان، ولا خطرت

على بال أحد من الأنبياء ولا ممن عاصرهم أو جاء بعدهم من الأحبار، وقد بينا

من قبل أصلها ومأخذها فلا حاجة إلى إعادته هنا.

وأعجب من هذا وذاك أن مثل هذا الرجل يذكر كلمة (الدين بالاستدلال)

فيالله العجب من تهافت نوع الإنسان! !

_________

(1)

الأغلوطات: المسائل التي يغلط فيها الناس أو يغالط بها بعضهم بعضًا ولا نردي أيريد هذا أم يريد جمع الغلط.

(2)

في برقية من لندن للمقطم الذي صدر في 14 أغسطس ما نصه: أعلن ولاة الأمور رسميًّا هنا أن مدافع الميدان الألمانية من طبقة واطئة جدًّا.

ص: 793

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌جيوش الدول المتحاربة

أنشأ المقطم مقالاً مطولاً عنوانه: (الجيوش المتحاربة: تأليفها وعددها في

زمن السلم والحرب) قال في الفصل الذي تكلم فيه عن الجيش الألماني (في عدد

الجمعة 7 أغسطس 15 رمضان) بعد تفصيل:

(فيكون مجموع الجيش الألماني كله في زمن الحرب خمسة ملايين ومئة

وخمسين ألف جندي. ولكن الثقات الحربيين لا يظنون أن ألمانيا تستطيع رصد هذا

العدد من الجنود للحرب ويرجحون أنها لا تقوى على رصد أكثر من 4.150.000

إلى 4.500.000 جندي على أكبر تقدير، وقال في آخرها:

(ويقول الثقات العسكريون الذين شهدوا مناورات الجيش الألماني: إن

الفنون الحربية والحركات العسكرية المتبعة فيه صارت قديمة (!) وإن رجال

المدفعية في الجيش الفرنسي أمهر في الرماية منهم في الجيش الألماني. ولكن كلا

الجيشين متساويان في سرعة التعبئة. فإن الجيش الألماني يُعبأ كله في تسعة أيام

ويوضع على حدود روسيا أو على حدود فرنسا) .

وقال في آخر الفصل الذي عقده لجيش فرنسا (في عدد السبت 8 أغسطس) ،

(ويبلغ عدد الجيش الفرنسوي في زمن الحرب نحو أربعة ملايين جندي وفيه نحو

ثلاثة آلاف مدفع. والجندي الفرنسوي مشهور بإقدامه وكرّه وحماسته وشجاعته

ومقدرته على تحمل المشاق وقوة الابتكار الفائقة. ورجال المدفعية الفرنسيون أحسن

رجال المدفعيات في العالم في الرماية، وهم متمرنون عليها ولا سيّما على إطلاق

المدافع السريعة تمرنًا لا مثيل له في الجيوش الأوربية. وموضع الضعف في

الجيش الفرنسوي هو في مدفعيته الكبيرة) .

(وتتم تعبئه الجيش الفرنسوي في ثمانية أيام و 12 ساعة؛ أي أنه يعبأ

أسرع من الجيش الألماني باثنتي عشرة ساعة) .

(وسلاح الجنود بندقية لبل من عيار 13، وهي طراز قديم قليلاً ولكنها

أحدث من بندقية موزر المستعملة في الجيش الألماني. أما مدافع الميدان فمن التي

قطر فوهتها ثلاث بوصات وهي أحدث من مدافع الميدان في الجيش الألماني

أيضًا) [1] .

وقال في أواخر الفصل الذي عقده للجيش الروسي: (أما قوته في زمن

الحرب فلا حد لها؛ وإنما يقال إنها تبلغ سبعة ملايين ونصف مليون جندي، فهو

أضخم جيوش الأرض وأكبرها كلها) .

ثم ذكر أن تعبئته تستغرق نحو ثلاثة أسابيع، وأن هذا موضع الضعف فيه.

وقال في الفصل الذي عقده للجيش الإنكليزي: إن جملته في زمن السلم

في الإمبراطورية كلها 849 و 810 وكان في العام الماضي 729.991 (ثم ذكر

أنه سيزاد حتى يبلغ مليونًا ونصف مليون.

***

برقيات الحرب ملخصة من المقطم

استعداد الدول الكبرى

(من لندن 31 يوليو) طلبت الحكومة الألمانية من الحكومة الروسية أن

تكف عن تعبئته الجيوش وإلا فإنها تشرع في التعبئة مقابلة لها بالمثل.

والظاهر أن روسيا مصممة على التدرع بالحزم ووقوف موقف صحيح

العزيمة في المشكلة الحالية.

تظن دوائر برلين السياسية أن الحكومة الألمانية تشرع في التعبئة اليوم

(الجمعة) والاستعداد في فرنسا وإنكلترا قائم على ساق وقدم، والهمة مبذولة لإعداد

كل ما يستطاع بأسرع ما يستطاع.

(1 أغسطس) أصدر قيصر روسيا أمره بجعل تعبئه الجيوش عامة في

جميع أنحاء الإمبراطورية الروسية، وكانت (من قبل) مقتصرة على خمسين

ولاية منها.

وقد أجابت ألمانيا على هذا الأمر بإعلان الحكم العرفي في جميع أنحاء

الإمبراطورية الألمانية. وينتظر أن يسري الحكم العرفي بعد التعبئة يوم السبت

(اليوم) وقد شرعت كل من ألمانيا وفرنسا وروسيا في إرسال الفيالق إلى الحدود

من قبيل الاستعداد والاحتياط، أما الاحتياطات التي تتخذ في بريطانيا العظمى فمن

أعظم ما يكون.

***

إعلان الحرب وبدءها

(لندن - 2 أغسطس) علمت وكالة أن تلغرافًا رسميًّا وصل الساعة الثالثة

بعد ظهر اليوم وفيه أن الألمانيين غزوا فرنسا واجتازوا الحدود عند سيري (بلدة

على الحدود قرب ستراسبورج) .

(برلين - 2 منه) غزا جيش روسي بمدافعه وفرسانه من القوزاق بلاد

ألمانيا بقرب بيالا.

(لندن 2 أغسطس) رسمي: أعلنت ألمانيا الحرب على روسيا. وقد برح

كل من سفير روسيا في برلين وسفير ألمانيا في بطرسبرج مقر وظيفته.

وقد شرعت الحكومة الفرنسية في تعبئة جيشها استعدادًا للحرب، وكانت

ألمانيا قبل ذلك قد أرسلت أمس (السبت) بلاغًا نهائيًّا إلى روسيا وفرنسا،

وأعطتهما مهلة اثنتي عشرة ساعة للإجابة عليه. فكان جواب روسيا وفرنسا عليه

جوابًا غير مرضي. وشاع بعد إرسال ألمانيا لبلاغها النهائي أنها مددت هذه المهلة

حتى ظهر يوم الاثنين، وتوسط ملك الإنكليز في الأمر فأرسل تلغرافين لقيصر روسيا

وإمبراطور ألمانيا ولكن كل المساعي ذهبت أدراج الرياح فيما يظهر.

(لندن 4 منه) برح السفير الألماني باريس في الليلة البارحة فتم بذلك قطع

العلاقات السياسية تمامًا بين الدولتين.

استولى الألمانيون على ثلاث مدن وثلاث جزائر من فرنسا في بحر البلطيك.

(لندن 5 منه) رسمي: أعلنت إنكلترا الحرب على ألمانيا الساعة السابعة

من أمس. (بناء على عدم احترام ألمانيا حياد بلجيكا) .

(برلين 5 منه) أعلنت ألمانيا الحرب على إنكلترا (وبدأت الحرب بينها

وبين بلجيكا) .

(لندن 7 منه) أعلنت النمسا الحرب رسميًا على روسيا.

(لندن 13) منه أعلنت إنكلترا الحرب في منتصف هذا الليل على

النمسا والمجر.

_________

(1)

في برقية من لندن للمقطم الذي صدر في 14 أغسطس ما نصه: أعلن ولاة الأمور رسميًّا هنا أن مدافع الميدان الألمانية من طبقة واطئة جدًّا.

ص: 798

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌منع المنار من السودان

أمرت حكومة السودان بمصادرة مجلة المنار وإحراق نُسخِها ، وما أنذرتنا ولا

أخبرتنا؛ بل علمنا ذلك من بعض المشتركين، وكان ذلك في غيبة الحاكم العام، فلمّا

عاد من أوربا بعد وقوع الحرب شكونا إليه ذلك، وطالبناه باسم الحريّة الدينية التي

امتاز بالعناية باحترامها إنصافنا، ولعله يفعل عن قريب.

_________

ص: 800

الكاتب: الشوكاني

‌صفات البارئ تعالى

تحقيق الحق في مذاهب السلف واختلاف الخلف فيها

فتوى للإمام الشوكاني رحمه الله تعالى

اعلم أن الكلام في الآيات والأحاديث الواردة في الصفات قد طالت ذيوله،

وتشعبت أطرافه، وتباينت فيه المذاهب، وتفاوتت فيه الطرائق، وتخالفت النحل؛

وسبب هذا عدم وقوف المنتسبين إلى العلم حيث أوقفهم الله، ودخولهم في أبواب لم

يأذن الله لهم بدخولها، ومحاولتهم لعلم شيء استأثر الله بعلمه؛ حتى تفرّقوا فرقًا

وتشعبوا شعبًا وصاروا أحزابًا، وكانوا في البداية، ومحاولة الوصول إلى ما

يتصورونه من العامة مختلفي المقاصد، متبايني المطالب.

فطائفةٌ؛ وهي أخف هذه الطوائف المتكلفة علم ما لم يكلفها الله سبحانه بعلمه

إثمًا، وأقلها عقوبة ورجمًا، وهي التي أرادت الوصول إلى الحق والوقوف على

الصواب؛ لكن سلكت في طلبه طريقة متوعرة، وصعدت في الكشف عنه إلى

عقبة كؤود، لا يرجع من سلكها سالمًا، فضلاً عن أن يظفر فيها بمطلوب صحيح.

ومع هذا أصَّلوا أصولاً ظنوها حقًّا، فدفعوا بها آيات قرآنية، وأحاديث صحيحة

نبوية، واعتلوا في ذلك الدفع بشبهة واهية، وحالات مختلفة.

وهؤلاء هم طائفتان: الطائفة التي غلت في التنزيه فوصلت إلى حد يقشعر

عنده الجلد، ويضطرب له القلب؛ من تعطيل الصفات الثابتة بالكتاب والسنة ثبوتًا

أوضح من شمس النهار، وأظهر من فلق الصباح، ظنوا هذا من صنيعهم موافقًا

للحق مطابقًا لما يريده الله سبحانه، فضلوا الطريق المستقيمة وأضلوا من رام

سلوكها.

والطائفة الأخرى هي الطائفة التي غلت في إثبات القدرة غلوًّا بلغ إلى حدّ أنه

لا تأثير لغيرها، ولا اعتبار بما سواها وأفضى ذلك إلى الجبر المحض، والقسر

الخالص فلم يبق لبعثة الرسل وإنزال الكتب كبير فائدة، ولا يعود ذلك على عباده

بعائدة، وجاؤا بتأويلات للآيات البيّنات. ومحاولات لحجج الله الواضحات، فكانوا

كالطائفة الأولى في الضلال والإضلال، مع أن كلا المقصدين صحيح، ووجه كل

منهما صبيح، لولا ما شانه من الغلو القبيح.

وطائفة توسطت [1] ورامت الجمع بين الضب والنون وظنت أنها قد وقفت

بمكان بين الإفراط والتفريط، ثم أخذت كل طائفة من هذه الطوائف الثلاث تجادل

وتناضل وتحقق وتدقق في زعمها. وتجول على الأخرى وتصول بما ظفرت به

مما يوافق ما ذهبت إليه. وكل حزب بما لديهم فرحون. وعند الله تلتقي الخصوم.

ومع هذا فهم متفقون فيما بينهم على أن طريق السلف أسلم، ولكن زعموا أن

طريق الخلف أعلم، فكان غاية ما ظفروا به من هذه (الأعلمية) بطريق الخلف أن

تمنى محققوهم وأذكياؤهم في آخر أمرهم دين العجائز، وقالوا هنيئًا للعامة! فتدبر

هذه الأعلمية التي كان حاصلها أن يهنأ من ظفر لأهل الجهل (؟) البسيط،

ويتمنى أنه في عدادهم، وممن تدين بدينهم، ويمشي على طريقتهم. فإن هذا ينادي

بأعلى صوت يدل بأوضح دلالة، على أن هذه الأعلمية التي طلبوها الجهلُ خير

منها بكثير. فما ظنك بعلم يقر صاحبه على نفسه أن الجهل خير منه، ويتمنى

عند البلوغ إلى غايته والوصول إلى نهايته، أن يكون جاهلاً به عاطلاً عنه؟ ففي

هذا عبرة للمعتبرين، وآية بينة للناظرين، فهلاّ عملوا على جهل هذه المعارف التي

دخلوا فيها بادئ بدء، وسلموا من تبعاتها، وأراحوا أنفسهم من تعبها، وقالوا كما

قال القائل:

رأى الأمر يفضي إلى آخر

فصير آخره أولاً

وربحوا الخلوص من هذا التمني والسلامة من هذه التهنئة للعامة! فإن العاقل

لا يتمنى رتبة مثل رتبته أو دونها. ولا يهنئ لمن هو مثله أو دونه؛ بل لا يكون

ذلك إلا لمن رتبته أرفع من رتبته، ومكانه أعلى من مكانه، فيالله العجب من علم

يكون الجهل البسيط أعلى رتبة منه. وأفضل مقدارًا بالنسبة إليه! وهل سمع

السامعون بمثل هذه الغريبة أو نقل الناقلون ما يماثلها أو يشابهها.

وإذا كان حال هذه الطائفة [2] التي قد عرفناك أنها أخف الطوائف تكلفًا،

وأقلها تبعة فما ظنك بما عداها من الطوائف التي قد ظهر فساد مقاصدها، وتبين

بطلان مواردها ومصادرها، كالطوائف التي أرادت بالمظاهر التي تظاهرت بها

كيد الإسلام وأهله، والسعي في التشكيك فيه، بإيراد الشبه وتقرير الأمور المفضية

إلى القدح في الدين وتنفير أهله عنه [3] .

وعند هذا تعلم أن خير الأمور السالفات على الهدى، شر الأمور المحدثات

البدائع [4] ؛ وأن الحق الذي لا شك فيه ولا شبهة، هو ما كان عليه خير القرون ثم

الذين يلونهم، وقد كانوا - رحمهم الله تعالى وأرشدنا إلى الاقتداء بهم والاهتداء

بهديهم - يُمرُّون آيات الصفات على ظاهرها، ولا يتكلفون علم ما لا يعلمون، ولا

يحرفون ولا يؤلون، وهذا المعلوم من أقوالهم وأفعالهم، والمتقرر من مذاهبهم، لا

يشك فيه شاك، ولا ينكره منكر، ولا يجادل فيه مجادل، وإن نزغ من بينهم نازغ،

أو نجم في عصرهم ناجم، أوضحوا للناس أمره، وبيّنوا لهم أنه على ضلالة،

وصرّحوا بذلك في المجامع والمحافل، وحذروا الناس من بدعته، كما كان منهم لمَّا

ظهر معبد الجهني وأصحابه وقالوا (إن الأمر أنف)[5] فتبرأوا منه، وبيّنوا

ضلالته وبطلان مقالته للناس؛ فحذروه إلا من ختم الله على قلبه وجعل على

بصره غشاوة.

وهكذا كان من بعدهم يوضح للناس بطلان أقوال أهل الضلال ويحذرهم منها،

كما فعله التابعون رحمهم الله بالجعد بن درهم ومن قال بقوله وانتحل نحلته

الباطلة [6] . ثم ما زالو هكذا لا يستطيع المبتدع في الصفات أن يتظاهر

ببدعته، بل يتكتمون بها كما يتكتم الزنادقة بكفرهم. وهكذا سائر المبتدعين في الدين

على اختلاف البدع وتفاوت المقالات الباطلة.

ولكنا نقتصر ههنا على الكلام في هذه المسئلة التي ورد السؤال عنها وهي

مسألة الصفات وما كان من المتكلفين علم ما لم يأذن الله بأنه يعلموه، وبيان أن

إمرار آيات الصفات على ظاهرها هو مذهب السلف الصالح من الصحابة والتابعين

وتابعيهم، وأن كل من أراد من نزّاع المتكلفين، وشذّاذ المحرفين المتأولين، أن

يظهر ما يخالف المرور على ذلك الظاهر، قاموا عليه وحذروا الناس منه. وبينوا

لهم أنه على خلاف ما عليه أهل الإسلام.

فصار المبتدعون في الصفات، القائلون بأقوال تخالف ما عليه السواد الأعظم

من الصحابة والتابعين وتابعيهم - في خبايا وزوايا لا يتصل بهم إلا مغرور، ولا

ينخدع بزخارف أقوالهم إلا مخدوع، وهم مع ذلك على تخوّفٍ من أهل الإسلام،

وترقب لنزول مكروه بهم من حماة الدين من العلماء الهادين والرؤساء والسلاطين،

حتى نجم ناجم المحنة، وبرق بارق الشر من جهة الدولة، ومَن لهم في الأمر

والنهي والإصدار والإيراد أعظم صولة. وذلك في الدولة المأمونية بسبب قاضيها

أحمد بن أبي دؤاد. فعند ذلك أطلع المكمشون في تلك الزوايا رؤوسهم، وانطلق ما

كان قد خرس من ألسنتهم، وأعلنوا مذاهبهم الزائغة، وبدعهم المضلة، ودعوا

الناس إليها، وجادلوا عنها، وناضلوا المخالفين لها، حتى اختلط المعروف بالمنكر،

واشتبه على العامة الحق بالباطل، والسنة بالبدعة.

ولما كان الله سبحانه قد تكفل بإظهار دينه كله وحفظه عن التحريف والتغيير

والتبديل، أوجد من علماء الكتاب والسنة لهم في كل عصر من العصور من يبين

للناس دينهم، وينكر على أهل البدع بدعهم، فكان لهم - ولله الحمد - المقامات

المحمودة، والمواقف المشهودة في نصر الدين وهتك المبتدعين.

وبهذا الكلام القليل الذي ذكرناه تعرف أن مذهب السلف من الصحابة والتابعين

وتابعيهم هو إمرار آيات الصفات على ظاهرها، من دون تحريف لها، ولا تأويل

متعسف لشيء منها، ولا جبر ولا تشبيه ولا تعطيل، يفضي إليه كثير من التأويل

وكانوا إذا سأل سائل عن شيء من الصفات تَلَوْا عليه الدليل، وأمسكوا عن القال

والقيل وقالوا: قال الله هكذا، ولا ندري بما سوى ذلك ولا نتكلف ولا نتكلم بما لم

نعلمه ولا أذن الله لنا بمجاوزته، فإن أراد السائل أن يظفر منهم بزيادة على الظاهر

زجروه عن الخوض فيما لا يعنيه، ونهوه عن طلب ما لا يمكن الوصول إليه إلا

بالوقوع في بدعة من البدع التي هي غير ما هم عليه وما حفظوه عن رسول الله

صلى الله عليه وآله وسلم، وحفظه التابعون عن الصحابة، وحفظه مَنْ بعد التابعين

عن التابعين.

وكان في هذه القرون الفاضلة الكلمة في الصفات متحدة، والطريقة لهم جميعًا

متفقة، وكان اشتغالهم بما أمرهم الله به، وكلفهم القيام بفرائضه، من الإيمان بالله

وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والصيام والحج والجهاد وإنفاق الأموال في أنواع البر،

وطلب العلم النافع، وإرشاد الناس إلى الخير على اختلاف أنواعه، والمحافظة

على موجبات الفوز بالجنة والنجاة من النار، والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن

المنكر، والأخذ على يد الظالم بحسب الاستطاعة، وبما تبلغ إليه القدرة، ولم

يشتغلوا بغير ذلك مما لم يكلفهم الله بعلمه، ولا تعبدهم بالوقوف على حقيقته؛ فكان

الدين إذا ذاك صافيًا عن كدر البدع، خالصًا عن شوب قذر التمذهب.

فعلى هذا النمط كان الصحابة والتابعون وتابعوهم بهدي رسول الله صلى الله

عليه وآله وسلم اهتدوا، وبأفعاله وأقواله اقتدوا، فمن قال: إنهم تلبسوا بشيء من

هذه المذاهب الناشئة في الصفات أو غيرها، فقد أعظم عليهم الفرية، وليس

بمقبول في ذلك؛ فإنّ نُقُول الأئمة المطلعين على أحوالهم العارفين بها الآخذين لها

عن الثقات الأثبات، ترد عليه وعليهم وتدفع في وجهه.

يعلم ذلك كل من له علم، ويعرفه كل عارف. فاشدد يديك على هذا واعلم أنه

مذهب خير القرون ثم الذين يلونهم، ودع عنك ما حدث من تلك التمذهبات في

الصفات وأرح نفسك من تلك العبارات التي جاء بها المتكلمون واصطلحوا عليها،

وجعلوها أصلاً يرد إليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن وافقاها

فقد وافقا الأصول المقررة في زعمهم، وإن خالفاها فقد خالفا الأصول المقررة في

زعمهم، ويجعلون الموافق لها من قسم المقبول والمحكم، والمخالفَ لها من قسم

المردود والمتشابه؛ ولو جئت بألف آية واضحة الدلالة ظَاهرة المعنى أو ألف

حديث مما ثبت في الصحيح - لم يبالوا به ولاء رفعوا إليه رؤوسهم، ولا عدوه

شيئًا. ومن كان منكرًا لهذا فعليه بكتب هذه الطوائف المصنفة في علم الكلام. فإنه

يقف على الحقيقة ويسلم هذه الجملة ولا يتردد فيها.

ومن العجب العجيب، والنبأ الغريب، أن تلك العبارات الصادرة عن جماعة

من أهل الكلام التي جعلها مَن بعدهم أصولاً، لا مستند لها إلا مجرد الدعوى على

العقل، والفرية على الفطرة، وكل فرد من أفرادها تنازعت فيه عقولهم، وتخالفت

فيه إدراكاتهم، فهذا يقول: حكم العقل في هذا كذا، وهذا يقول: حكم العقل

في هذا كذا.

ثم يأتي بعدهم مَن يجعل ذلك الذي يعقله مَن يقلده ويقتدي به أصلاً يرجع إليه

ومعيارًا لكلام الله وكلام رسوله، يقبل منهما ما وافقه ويرد ما خالفه فيالله

وياللمسلمين! ويالعلماء للدين! من هذه الفواقر الموحشة التي لم يصب الإسلام

وأهله بمثلها.

وأغرب من هذا وأعجب وأشنع وأفظع، أنهم بعد أن جعلوا هذه التعقلات

التي تعقلوها على اختلافهم فيها وتناقضهم في معقولاتها أصولاً ترد إليها أدلة

الكتاب والسنة - جعلوها أيضًا معيارًا لصفات الرب سبحانه، فما تَعَقَّله هذا من

صفات الله قال به جزمًا، وما تعقله خصمه منها قطع به. فأثبتوا لله الشيء

ونقيضه، استدلالاً بما حكمت به في صفات الله عقولهم الفاسدة وتناقضت في شأنه،

ولم يلتفتوا إلى ما وصف الله به نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وآله

وسلم؛ بل إن وجدوا ذلك موافقًا لما تعقلوه جعلوه مؤيدًا له ومقويًا، وقالوا: قد ورد

دليل السمع مطابقًا لدليل العقل؛ وإن وجدوه مخالفًا لما تعقلوه جعلوه واردًا على

خلاف الأصل، ومتشابهًا وغير معقول المعنى ولا ظاهر الدلالة، ثم قابلهم

المخالف بنقيض قولهم، فافترى على عقله بأنه قد تعقل خلاف ما تعقله خصمه،

وجعل ذلك أصلاً يرد إليه أدلة الكتاب والسنة، وجعل المتشابه عند أولئك محكمًا

عنده، والمخالف لدليل العقل عندهم موافقًا له عنده.

فكان حاصل كلام هؤلاء أنهم يعلمون من صفات الله ما لا يعلمه! وكفاك بهذا

وليس بعده شيء؛ وعنده يتعثر القلم حياء من الله عز وجل.

وربما استبعد هذا مستبعد واستكبره مستكبر، وقال: إن في كلامي هذا مبالغة

وتهويلاً، وتشنيعًا وتطويلاً، وإن الأمر أيسر من أن يكون حاصله هذا الحاصل

الذي ذكرت، وثمرته مثل هذه الثمرة التي أشرت إليها فأقول: خذ جملة البلوى

ودع تفصيلها * واسمع ما يصك سمعك، ولولا هذا الإلحاح منك ما سمعته ولا

جرى القلم بمثله.

هذا أبو علي [7] وهو رأس من رؤوسهم، وركن من أركانهم، وأسطوانة من

أسطاينهم، قد حكى عنه الكبار منهم، وآخر من حكى ذلك عنه صاحب شرح

القلائد يقول: والله لا يعلم الله من نفسه إلا ما يعلم هو! ! فخذ هذا التصريح، حيث

لم تكتف بذلك التلويح، وانظر هذه الجرأة على الله التي ليس بعدها جرأة، فيالأم

أبي علي الويل! أينهق بمثل هذا النهيق، ويدخل نفسه في هذا المضيق، وهل

سمع السامعون بيمين أفجر من هذه اليمين الملعونة، أو نقل الناقلون كلمة تقارب معنى

هذه الكلمة المفتونة؟ بلغ مفتخر إلى ما بلغ إليه هذا المختال الفخور؟ أو وصل من

يفجر في أيمانه إلى ما يقارب هذه الفجور؟ وكل عاقل يعلم أن أحدنا لو حلف أن

ابنه أو أباه لا يعلم من نفسه إلا ما يعلمه هو لكان كاذبًا في يمينه فاجرًا فيها؛ لأن كل

فرد من أفراد الناس ينطوي على صفات وغرائز لا يحب أن يطلع عليها غيره،

ويكره أن يقف على شيء منها سواه، ومن ذا الذي يدري بما يجول في خاطر غيره

ويستكن في ضميره؟ ومن ادعى علم ذلك وأنه يعلم من غيره من بني آدم ما يعلمه

ذلك الغير من نفسه، ولا يعلم ذلك الغير من نفسه إلا ما يعلمه هذا المدعي، فهو إما

مصاب العقل، يهذي بما لا يدري، ويتكلم بما لا يفهم، أو كاذب شديد الكذب عظيم

الافتراء، فإن هذا أمر لا يعلمه غير الله سبحانه، فهو الذي يحول بين المرء وقلبه،

ويعلم ما توسوس به نفسه، وما يسر عباده وما يعلنون، وما يظهرون وما يكتمون

كما أخبرنا بذلك في كتابه العزيز في غير موضع، فقد خاب وخسر من أثبت لنفسه

من العلم ما لا يعلمه إلا الله سبحانه من عباده، فما ظنك بمن تجاوز هذا وتعداه،

وأقسم بالله إن الله لا يعلم من نفسه إلا ما يعلمه هو؟ ولا يصح لنا أن نحمله على

اختلال العقل 1 فلو كان مجنونًا لم يكن رأسًا يقتدي بقوله جماعات من أهل عصره

ومن جاء بعده، وينقلون كلامه في الدفاتر ويحكون عنه في مقامات الاختلاف.

ولعل أتباع هذا ومَن يقتدي بمذهبه لو قال لهم قائل وأورد عليهم مُورد قول

الله عز وجل: {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} (طه: 110) وقوله: {وَلَا يُحِيطُونَ

بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إلا بِمَا شَاءَ} (البقرة: 255) وقال لهم: هذا يرد ما قاله

صاحبهم ويدل على أن يمينه هذه فاجرة مفتراة - لقالوا: هذا ونحوه مما يدل دلالته

ويفيد مفاده من المتشابه الوارد على خلاف دليل العقل بالأصول المقررة.

وبالجملة فإطالة ذيول الكلام في مثل هذا المقام إضاعة للأوقات، واشتغال

بحكاية الخرافات المبكيات لا المضحكات؛ وليس مقصودنا هنا إلا إرشاد السائل

إلى أن المذهب الحق في الصفات هو إمرارها على ظاهرها من دون تأويل ولا

تحريف، ولا تكلف ولا تعسف ولا جبر ولا تشبيه ولا تعطيل، وإن ذلك هو مذهب

السلف الصالح والصحابة والتابعين وتابعيهم.

فإن قلت: وماذا تريد بالتعطيل في مثل هذه العبارات التي تكررها؟ فإن أهل

المذاهب الإسلامية يتنزهون عن ذلك ويتحاشون عنه، ولا يصدق معناه ويوجد

مدلوله إلا في طائفة من طوائف الكفار، وهم المنكرون للصانع (قلت) يا هذا إن

كنت ممن له إلمام بعلم الكلام الذي اصطلح عليه طوائف من أهل الإسلام؛ فإنك لا

محالة قد رأيت ما يقوله كثير منهم، ويذكرونه في مؤلفاتهم، ويحكونه عن أكابرهم،

أن الله سبحانه وتعالى وتقدس لا هو جسم ولا جوهر ولا عرض ولا داخل العالم

ولا خارجه [8] فأنشدك الله أي عبارة تبلغ مبالغ هذه العبارة في النفي؟ وأي مبالغة

في الدلالة على هذا النفي تقوم مقام هذه المبالغة؟ فكان هؤلاء في فرارهم من شبهة

التشبيه إلى هذا التعطيل كما قال القائل:

فكنت كالساعي إلى مثعب

موائلاً من سبل الراعد [9]

أو كالمستجير من الرمضاء بالنار، والهارب من لسعة الزنبور إلى لدغة

الحية، أو من قرصة النملة إلى قضمة الأسد.

وقد كان يُغني هؤلاء وأمثالهم من المتكلمين المتكلفين كلمتان من كتاب الله

تعالى وصف بهما نفسه، وأنزلهما على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وهما:

{وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} (طه: 110) و {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشورى:

11) فإن هاتين الكلمتين قد اشتملتا على فصل الخطاب، وتضمنتا ما يغني أولي

الألباب، السالكين في تلك الشعاب والهضاب، الصادعين في متوعرات هاتيك

العقاب.

فالكلمة الأولى منهما دلت دلالة بيّنة على أن كل ما تكلم به البشر في ذات

الله وصفاته على وجه التدقيق ودعاوى التحقيق، فهو مشوب بشعبة من شعب

الجهل، مخلوط بخلوط هي منافية للعلم مباينة له، فإن الله سبحانه قد أخبرنا أنهم لا

يحيطون به علمًا، فمَن زعم أن ذاته كذا أو صفته كذا؛ فلا شك أن صحة ذلك

متوقفة على الإحاطة. وقد نفيت عن كل فرد؛ لأن هذه القضية هي في قوة: لا

يحيط به فرد من الأفراد علمًا، فكل قول من أقوال المتكلفين صادر عن جهل، إما

من كل وجه أو من بعض الوجوه، وما صدر عن جهل فهو مضاف إلى جهل، ولا

سيّما إذا كان في ذات الله وصفاته، فإن في ذلك من المخاطرة بالدين ما لم يكن في

غيره من المسائل، وهذا يعلمه كل ذي علم ويعرفه كل عارف، ولم يحظ بفائدة هذه

الآية ويقف عندها ويقتطف من ثمارها، إلا الممرون للصفات على ظاهرها،

المريحون أنفسهم عن التكلفات والتعسفات والتأويلات والتحريفات، وهم السلف

الصالح كما عرفت، فهم الذين اعترفوا بعدم الإحاطة، وأوقفوا أنفسهم حيث أوقفها

الله وقالوا: الله أعلم بكيفية ذاته وماهية صفاته؛ بل العلم كله له، وقالوا كما

قال مَن قال، ممن اشتغل بطلب هذا المحال فلم يظفر بغير القيل والقال:

العلم للرحمن جل جلاله

وسواه في جهالته يتغمغم

ما للتراب وللعلوم وإنما

يسعى ليعلم أنه لا يعلم

بل اعترف كثير من هؤلاء المتكلفين بأنه لم يستفد من تكلفه وعدم قنوعه بما

قنع به السلف الصالح إلا مجرد الحيرة التي وجد عليها غيره من المتكلفين فقال.

وقد طفت في تلك المعاهد كلها

وسرحت طرفي بين تلك المعالم

فلم أر إلا واضعًا كف حائرِ

على ذقن أو قارعًا سنَّ نادمِ

وها أنا (ذا) عن نفسي أوضح لك ما وقعت فيه في أمسي، فإني أيام

الطلب وعنفوان الشباب، شغلت بهذا العلم الذي سمّوه تارةً علم الكلام، وتارة علم

التوحيد، وتارة علم أصول الدين وأكببت على مؤلفات الطوائف المختلفة منهم،

ورمت الرجوع بفائدة، والتعود بعائدة، فلم أظفر من ذلك بغير الخيبة والحيرة؛

وكان ذلك من الأسباب التي حببت إليّ مذهب السلف على أني كنت من قبل ذلك

عليه، ولكن أردت أن أزداد فيه بصيرة وبه شغفًا، وقلت عن النظر في تلك

المذاهب:

وغاية ما حصلته من مباحثي

ومن نظري من بعد طول التدبر

هو الوقف ما بين الطريقين حيرة

فما علم مَن لم يلق غير التحير

على أنني قد خضت منه غماره

وما قنعت نفسي بدون التبحر

وأما الكلمة الثانية وهي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشورى: 11) فبها

يستفاد نفي المماثلة في كل شيء فيدفع بهذه الآية في وجه المجسمة، ويعرف به

الكلام عند وصفه سبحانه بالسميع والبصير، وعند ذكر السمع والبصر واليد

والاستواء ونحو ذلك ما اشتمل عليه القرآن والسنة، فيتقرر بذلك الإثبات لتلك

الصفات، لا على وجه المماثلة والمشابهة للمخلوقات، فيدفع به جانبي [10] الإفراط

والتفريط وهما المبالغة في الإثبات المفضي إلى التجسيم، والمبالغة في النفي

المفضية إلى التعطيل، فيخرج من بين الجانبين، وغلو الطرفين، حقية مذهب

السلف الصالح، وهو قولهم بإثبات ما أثبت لنفسه من الصفات على وجه لا يعلمه

إلا هو، فإنه القائل:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (الشورى: 11) .

ومن جملة الصفات التي أمرّها السلف على ظاهرها وأجروها على ما جاء به

القرآن والسنة من دون تكلف ولا تأويل - صفة الاستواء التي ذكرها السائل؛ فإنهم

يقولون: نحن نثبت ما أثبته الله لنفسه، من استوائه على عرشه، على هيئة لا

يعلمها إلا هو، وفي كيفية لا يدري بها سواه [11] ولا نكلف أنفسنا غير هذا، فليس

كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته، ولا يحيط عباده به علمًا.

وهكذا يقولون في مسئلة الجهة التي ذكرها السائل وأشار إلى بعض ما فيه

دليل عليها. والأدلة في ذلك طويلة كثيرة في الكتاب والسنة، وقد جمع أهل العلم

منها - لا سيّما أهل الحديث - مباحث طوّلوها بذكر آيات قرآنية وأحاديث صحيحة،

وقد وقفت من ذلك على مؤلف بسيط في مجلد جمعه مؤرخ الإسلام الحافظ الذهبي

استوفى فيه كل ما فيه دلالة على الجهة من كتاب أو سنة أو قول صاحب [12]

والمسألة أوضح من أن تلتبس على عارف، وأبين من أن يحتاج فيها إلى التطويل،

ولكنها لما وقعت فيها تلك القلاقل والزلازل الكائنة بين بعض الطوائف الإسلامية،

كثر الكلام فيها وفي مسئلة الاستواء وطال، خصوصًا بين الحنابلة وغيرهم من

أهل المذاهب. فلهم في ذلك تلك الفتن الكبرى، والملاحم العظمى، وما زالوا هكذا

في عصر بعد عصر.

والحق هو ما عرفناك من مذهب السلف الصالح: فالاستواء على العرش،

ولكن في تلك الجهة، قد صرّح به القرآن الكريم في مواطن يكثر حصرها؛

ويطول نشرها. وكذلك صرّح به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غير

حديث؛ بل هذا مما يجده كل فرد من أفراد المسلمين في نفسه، ويحسّه في فطرته،

وتجذبه إليه طبيعته، كما تراه في كل مَن استغاث بالله سبحانه، والتجأ إليه ووجه

أدعيته إلى جنابه الرفيع، وعزه المنيع، فإنه يشير عند ذلك بكفه، أو يرمي إلى

السماء بطرفه، ويستوي في ذلك عند عروض أسباب الدعاء، وحدوث بواعث

الاستغاثة، ووجود مقتضيات الانزعاج، وظهور دواعي الالتجاء - عالم الناس

وجاهلهم، والماشي على طريقة السلف، والمقتدي بأهل التأويل القائلين بأن

الاستواء هو الاستيلاء - كما قاله جمهور المتأولين - أو الإقبال كما قاله أحمد بن

يحيى ثعلب والزجّاج والفراء وغيرهم، أو كناية عن الملك والسلطان [13] كما قاله

آخرون. فالسلامة والنجاة في أمرار ذلك على الظاهر والإذعان بالاستواء والكون [14]

على ما نطق به الكتاب والسنة من دون تكييف ولا تكلف ولا قيل ولا قال، ولا

فضول في شيء من المقال، فمن جاوز هذا المقدار بإفراط أو تقريظ فهو غير مقتد

بالسلف ولا وافق طريق النجاة، ولا معتصم عن الخطأ، ولا سالك في طريق

السلامة والاستقامة.

وكما نقول هذا في الاستواء والكون في تلك الجهة؛ فكذا نقول في مثل قوله

سبحانه: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} (الحديد: 4) وقوله: {مَا يَكُونُ مِن

نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إلَاّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إلا هُوَ سَادِسُهُمْ} (المجادلة: 7) وفي

نحو: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (البقرة: 153) {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا

وَالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} (النحل: 128) إلى ما يشابه ذلك وما يماثله ويقاربه

ويضارعه، فنقول في مثل هذه الآيات: هكذا جاء القرآن أن الله سبحانه مع هؤلاء،

ولا نتكلف بتأويل ذلك كما يتكلف غيرنا بأن المراد بهذا الكون وهذه المعية هو كون

العلم ومعيته، فإن هذه من شعبة التأويل تخالف مذاهب السلف، وتباين ما كان عليه

الصحابة والتابعون وتابعوهم [15] .

وأذا انتهيت إلى السلا

مة في مداك فلا تجاوز

_________

وهذا الحق ليس به خفاء

فدعي من بُنيات الطريق

وقد هلك المتنطعون، ولا يهلك على الله إلا هالك، وعلى نفسها براقش تجني،

وفي هذه الجملة - وإن كانت قليلة - ما يغني مَن يشح بدينه ويحرص عليه عن

تطويل المقال وتكثير ذيوله، وتوسيع دائرة فروعه وأصوله. والمهدي من هداه الله،

والله أعلم. انتهى

_________

(1)

هي فرقة الأشعرية التي توسطت بين المعتزلة والجبرية السابق ذكرهما.

(2)

الأشعرية.

(3)

هذا وصف طوائف الباطنية كالإسماعيلية والبابية.

(4)

هذا بيت شعر أوله: (وخير الأمور إلخ) جعله نثرًا.

(5)

أُنُف - بضمتين - أي: مستأنف جديد، يعني أن أفعال الباري تعالى ليست بقدر سابق، ولا نظام اقتضته الحكمة، وإنما يبتدئ كل فعل ابتداء، وهم القدرية أي منكرو القدر.

(6)

هم الجهمية منكرو الصفات الإلهية.

(7)

يعني الجبائي، وإنما جاء بالشاهد من قول المعتزلة لفظاعته ولأن أهل وطنه (اليمن) من الزيدية

لا يزالون يأخذون بأقوالهم، وما من فرقة من الفرق إلا ولها شذوذ في هذه المسائل، حتى لم يسلم منه من سموا أنفسهم الأثرية أو الحنابلة، فإن منهم من بالغ في الرد على غيره، حتى قال ما لم يقله سلفه وكذلك الأشعرية الذين حاولوا الجمع بين المأثور والمعقول.

(8)

قولهم هذا له تتمة وهي: ولا هو متصل به ولا هو منفصل عنه ولا مباين له ولا محايث له، ولا هو فينا ولا خارج عنا.

(9)

المثعب: المكان الذي يتفجر منه الماء المجتمع في حوض ونحوه، والموائل: اللاجئ إلى مأمن يأمن به من ضر أو شر يخافه، والمعنى: فكنت كالهارب من مطر يخافه إلى سيل متفجر يجرفه، ولعلَّ (سبل) محرفة عن (سيله) .

(10)

كذا والصواب (جانبا) لأنه فاعل (يندفع) إلا أن يكون في الكلام نقص سقط به فاعل

(يندفع) .

(11)

إنما يذكر لفظ الهيئة والكيفية في هذا المقام كما يذكر لفظ الصفة، بناء على أن ما يستعمل في الكلام عن الباري تعالى من الألفاظ إنما يشار بها إشارة إلى المعنى الشريف الذي يعرفه الخلق من أنفسهم مع نفي التشبيه والتمثيل من كل وجه بناء على ما ثبت من التنزيه عقلاً ونقلاً، ومن العلماء من يعبر عن مذهب السلف بنفي الكيف لا بإثباته مع نفي العلم به، وهو ما عبروا عنه (بالبلكفة) المنحوتة من قولهم: بلا كيف.

(12)

قد طبع هذا الكتاب في مطبعة المنار، وفيه أيضًا ما نقل عن أشهر علماء السلف، ومَن بعدهم من كبار الفقهاء والمتكلمين في إثبات الصفات.

(13)

هذا القول لا ينافي إمرار اللفظ على ظاهره والتسليم باستواء يليق بالرب ويفوض إليه علم

كنهه؛ لأن الكناية لا تنافي الحقيقة كما ينافيها المجاز عند الجمهور المانعين من جمعها معها، فذكر الاستواء في القرآن في سياق خلق السموات والأرض يفيد معنى القيام بأمر الملك وتدبيره، وصرّح به في سورة يونس فقال:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ} (يونس: 3) وهذا المعنى هو الذي يتبادر إلى فهم كل عربي قح من كلمة (استوى فلان على عرش الروم أو الفرس مثلاً) ، فهو لا يفكر عند سماع الكلمة في كيفية الكرسي الخاص بملك تلك البلاد، ولا في كيفية جلوس الملك عليه، وإنما يفكر في المراد من هذا التعبير ولو أن خادمًا من خدم قصر الملك جلس على عرشه عند تنظيف الحجرة التي هو فيها لا يقال فيه: إنه استوى على عرش تلك المملكة، فإذا قلنا: إنه ينبغي لنا في تدبر آيات الاستواء على العرش أن نفكر في لازم الاستواء - وهو الانفراد بالملك والسلطان والتدبير - لم نكن بذلك متأولين للآيات، ولا خارجين عن مذهب السلف في إمرارها كما جاءت، من غير أن نجيز لأنفسنا البحث عن كيفية ذلك الاستواء من حيث معناه الحقيقي.

(14)

لعله سقط من ههنا (في جهة العلو) .

(15)

ورد عن الإمام أحمد وغيره من علماء السلف جعل المعية بمعنى العلم، فصار هذا التأويل مما يعترف به الحنابلة والأثريون، وإنما الجأهم إليه رد قول الجهمية وغيرهم أنه تعالى في كل مكان، وقد نقل الذهبي ذلك في كتابه المشار إليه آنفًا عن كثيرين.

ص: 817

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فتاوى المنار

(س23و24) من صاحب الإمضاء الرمزي في سمبس برنيو (جاوه)

حضرة العلامة الكبير، والإمام الجليل، أستاذنا السيد محمد رشيد رضا صاحب

المنار الأغر نفعني الله والمسلمين بوجوده الشريف آمين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد فيا سيدي الأستاذ نرجو من فضيلتكم

التكرم علي بأن تجيبوني عن الأسئلة الآتي ذكرها جوابًا مقنعًا، ولكم الفضل

والشكر وهي:

(أ) ما تقولون في قول الفقهاء: لا يجوز تحليف القاضي ولا الشهود وإن

كان ينفع الخصم تكذيبهما أنفسهما؛ لأن منصبهما يأبى ذلك؛ ولأن التحليف كالطعن

في الشهادة أو في الحكم. فإذا علم الشاهد أو القاضي أنه يحلف امتنع الأول من

الشهادة والثاني من الحكم فيؤدي ذلك إلى ضياع حقوق الناس، وهذا فساد عام،

فهل هذا القول صحيح؟ وقد جرت الحكومة الهولندية بتحليف الشهود قبل أن يؤدوا

الشهادة سواء كانوا صادقين أو كاذبين فرأى كثير من عمال الحكومة أن ذلك هو

الأحسن والأحوط والأوفق لهذا العصر. والمرجو من فضيلة سيدي الأستاذ إبداء

رأيه السديد في هذه المسألة بالحجة والبرهان.

(ب) هل من العقل والحكمة ومن مقاصد الشريعة الإسلامية ما اشترطه

الفقهاء في الهبة من أنها لا تصح إلا بإيجاب وقبول، ولا تلزم إلا بقبض الموهوب

له بإذن الواهب؟ قال في بداية المجتهد: وأما الهبة فلا بد من الإيجاب فيها والقبول

عند الجميع، وأما الشروط فأشهرها القبض. أعني أن العلماء اختلفوا: هل

القبض شرط في صحة العقد أم لا؟ فاتفق الثوري والشافعي وأبو حنيفة أن من

شرط صحة الهبة القبض، وأنه إذا لم يقبض لم يلزم الواهب، وقال مالك: ينعقد

بالقول ويجبر على القبض كالبيع. إلى قوله: فمالك، القبض عنده في الهبة من

شروط التمام لا من شروط الصحة، وهو عند الشافعي وأبي حنيفة من شروط

الصحة. وقال أحمد وأبو ثور: تصح الهبة بالعقد، وليس القبض من شروطها

أصلاً، لا من شروط تمام ولا من شروط صحة. اهـ

فأي الأصح من هذه الأقوال المختلفة فيها؟ القول باشتراط القبض؟ أم القول

بعدم اشتراطه؟ وهل يصح أن يحتج من اشترط القبض في الهبة بحديث أبي بكر

أنه كان نحل عائشة جذاذ عشرين وسقًا من مال الغابة فلما حضرته الوفاة قال: والله

يا بنية ما من الناس أحد أحب إلي غنى بعدي منك. ولا أعز علي فقرًا بعدي منك.

وإني كنت نحلتك جذاذ عشرين وسقًا، فلو كنت جذذتيه واختزنتيه كان لك، وإنما

هو اليوم مال ورث؟ وهل صح ما استدلوا به على أن القبض شرط في صحة الهبة

من خبر أنه صلى الله عليه وسلم أهدى للنجاشي ثلاثين أوقية مسكًا فمات قبل أن

يصل إليه فقسمه صلى الله عليه وسلم بين نسائه؟

هذا وأرجو فضيلتكم بيان هذه المسائل على قاعدة: (درء المفاسد مقدم على

جلب المصالح) .

...

...

(م. ب. ع)

...

...

...

...

... تحليف القاضي والشهود

(ج) القول بأن تحليف القاضي والشهود لا يجوز شرعًا لما ذكر من العلل

لم يظهر لنا وجه صحته، فقولهم: إن ذلك ما يأباه منصبهما، لا نعرف له مستندًا

في الكتاب والسنة، وما يليق بالمنصب وما لا يليق به ليس أمرًا ثابتًا مطردًا دائمًا؛

بل هو مما يختلف باختلاف العرف والعادة ويتغير آنًا بعد آن، كما يعهد من الناس

في الأمكنة المختلفة والأزمان. مثال ذلك أن العرف والعادة في مصر والآستانة

والشام أن لا يخرج القاضي الشرعي والمفتي وكبار العلماء إلى زيارة أحد بغير

عمامة، وهذه عادة قديمة حتى عند بعض العلماء من أعذار ترك الجمعة والجماعة

فقد العمامة اللائقة بأمثال هؤلاء. ولكن هذه العادة لا تلتزم في الهند؛ فقد يخرج

كبار العلماء من بيوتهم إلى زيارة بعض الإخوان بغير عمائم، وإنما يضعون على

رؤوسهم نوعًا من الكُمات الرقيقة: (الكُمة - بالضم - شيء مستدير يوضع

على الرأس ومنه ما يسمى في مصر طاقية وفي غيرها عراقية) وقد ورد أن

النبي صلى الله عليه وسلم خرج مع بعض أصحابه لزيارة وليس على

رؤوسهم شيء.

وقولهم: إن التحليف كالطعن في الشهادة أو الحكم، فممنوع، وقد يقال: إنه

تأكيد لهما، وأما قولهم: إن القاضي والشاهد يمتنعان من القضاء والشهادة إذا علما

أنهما يحلفان، فهو من النظريات المنقوضة بما عليه عمل كثير من الأمم الآن.

فالحكومة العثمانية والحكومة المصرية قد جرتا على تحليف الشهود ولم يمتنعوا،

وعلى تحليف من تسند إليهم المناصب الكبيرة يمين الإخلاص لرئيس الحكومة

(السلطان) ولو قالوا: إن التحليف لمن ذكر لا يجب شرعًا، لَمَا وجدنا إلى

مخالفتهم سبيلاً؛ ولكن نفي الجواز لا يسلم إلا بدليل شرعي.

هذا وإن لتأكيد الشهود شهادتهما بالقسم أصلاً في القرآن كما ترى في شهادة

الوصية {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناًّ} (المائدة: 106)

{فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا} (المائدة: 107) وقد قال تعالى بعد

بيان أحكام هذه الشهادة معللاً لها: {ذَلِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا} (المائدة: 108) إلخ وسيأتي في التفسير قريبًا إن شاء الله تعالى.

***

الهبة وما يشترط فيها

معنى الهبة عند الجمهور: تمليك بلا عوض، ويرى بعضهم أنه يدخل

في عمومها الإبراء من الدين والهدية والصدقة، وإنما يخص بعض الأنواع باسم

لإفادة المعنى الخاص الذي انفرد به عن سائر الأنواع، فالصدقة هبة يراد بها

ثواب الآخرة والأصل فيها أن تكون للمحتاج. والهدية هبة يراد التودد بها إلى المُهدى

إليه، وتكون بين الأغنياء والفقراء؛ لأن التودد يكون بين جميع أصناف

الناس.

والعمدة فيها العرف؛ فما تعارف الناس عليه كان صحيحًا شرعًا ما لم يكن

مخالفًا للشرع. وتحصل بالإيجاب القولي من الواهب والقبول القولي من الموهوب

له كما تحصل بالتعاطي وهو إيجاب وقبول بالفعل. وهي تتحقق بالقبض قطعًا.

وعدم القبض قد يكون ردًّا وقد يكون توانيًا. فهو جدير بأن يختلف فيه. وليس في

الباب نصوص عن الشارع كلف الناس اتباعها في طرق التمليك والتملك. والحديث

في هدية النبي صلى الله عليه وسلم للنجاشي جارٍ على مسألة العرف وتحقق الهبة

بالفعل أو عدم تحققها، وهو في مسند أحمد من حديث أم كلثوم بنت أبي سليمة،

وفي إسناده مسلم بن خالد الزنجي اختلف في توثيقه وتضعيفه. وأم موسى بنت

عقبة، قال في مجمع الزوائد: لا أعرفها.

وأما أثر عائشة فقد رواه مالك في الموطأ من طريق ابن شهاب عن عروة

عنها، وروى البيهقي نحوه عن مالك وغيره. وظاهر الأثر أن عائشة لم تقبل نحلة

أبيها فبقيت في يده إلى أن أدركته الوفاة فذكر لها أنه يتركها إرثًا. وأن هذا ليس من

باب الاعتصار، وهو رجوع الوالد بما يهبه للولد في حياته، وهو جائز عند أكثر

الفقهاء.

وما قاله ابن رشد - من أن الهبة لا بد فيها من الإيجاب والقبول عند الجميع -

فهو غير صحيح إذا أراد بهما الصيغة باللسان أو الكتابة، فقد نقل العلماء الخلاف

في ذلك كالحافظ ابن حجر والإمام الشوكاني وغيره. وتجد تحرير هذه المسألة

بدلائلها في جميع العقود في المبحث النفيس الذي كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية في

مسألة العقود، فراجعه في المجلد الثالث من مجوعة فتاواه المطبوعة بمصر،

وخص بالتأمل الوجه الثالث في ص 272 - 274.

_________

ص: 829

الكاتب: أبو إسحاق الشاطبي

الفرق بين البدع

والمصالح المرسلة والاستحسان [*]

من مباحث كتاب الاعتصام للإمام الشاطبي. وهو ما عقد له الباب الثامن

منه، قال رحمه الله تعالى:

هذا الباب يُضطرُّ إلى الكلام فيه عند النظر فيما هو بدعة وما ليس ببدعة،

فإن كثيرًا من الناس عَدُّوا أكثر المصالح المرسلة بدعًا، ونسبوها إلى الصحابة

والتابعين، وجعلوها حجة فيما ذهبوا إليه من اختراع العبادات. وقوم جعلوا البدع

تنقسم بأقسام أحكام الشريعة، فقالوا: إن منها ما هو واجب ومندوب، وعدُّوا من

الواجب كَتْبَ المصحف وغيره، ومن المندوب الاجتماع في قيام رمضان على

قارئ واحد.

وأيضًا فإن المصالح المرسلة يرجع معناها إلى اعتبار المناسب الذي لا يشهد

له أصل معين، فليس له على هذا شاهد شرعي على الخصوص، ولا كونه قياسًا

بحيث إذا عرض على العقول تلقته بالقبول. وهذا بعينه موجود في البدع

المستحسنة، فإنها راجعة إلى أمور في الدين مصلحية - في زعم واضعيها - في

الشرع على الخصوص.

وإذا ثبت هذا، فإن كان اعتبار المصالح المرسلة حقًّا، فاعتبار البدع

المستحسنة حق؛ لأنهما يجريان من وادٍ واحد. وإن لم يكن اعتبار البدع حقًّا، لم

يصح اعتبار المصالح المرسلة.

وأيضًا فإن القول بالمصالح المرسلة ليس متفقًا عليه؛ بل قد اختلف فيه أهل

الأصول على أربعة أقوال: فذهب القاضي وطائفة من الأصوليين إلى رده؛ وأن

المعنى لا يعتبر ما لم يستند إلى أصل. وذهب مالك إلى اعتبار ذلك، وبنى الأحكام

عليه على الإطلاق. وذهب الشافعي ومعظم الحنفية إلى التمسك بالمعنى الذي لم

يستند إلى أصل صحيح؛ لكن بشرط قربه من معاني الأصول الثابتة. هذا ما حكى

الإمام الجويني.

وذهب الغزالي إلى أن المناسب إن وقع في رتب التحسين والتزيين لم يعتبر

حتى يشهد له أصل معين، وإن وقع في رتبة الضروري فميله إلى قبوله؛ لكن

بشرط. قال: ولا يبعد أن يؤدي إليه اجتهاد مجتهد. واختلف قوله في الرتبة

المتوسطة، وهي رتبة الحاجي، فرده في المستصفى وهو آخر قوليه، وقبله في

شفاء الغليل كما قبل ما قبله. وإذا اعتبر من الغزالي اختلاف قوله -: فالأقوال

خمسة، فإذاً الراد لاعتبارها لا يبقى له في الواقع له [1] في الوقائع الصحابية مستند

إلا أنها بدعة مستحسنة (كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في

الاجتماع لقيام رمضان: نعمت البدعة هذه) إذا لا يمكنهم ردها، لإجماعهم عليها.

وكذلك القول في الاستحسان فإنه - على ما [2] المتقدمون - راجع إلى الحكم

بغير دليل، والنافي له لا يعد الاستحسان سببًا، فلا يعتبر في الأحكام ألبتة، فصار

كالمصالح المرسلة إذا قيل بردها.

فلما كان هذا الموضع مزلة قدم لأهل البدع أن يستدلوا على بدعتهم من جهته

كان من الحق المتعين: النظر في مناط الغلط الواقع لهؤلاء؛ حتى يتبين أن

المصالح المرسلة ليست من البدع في ورد ولا صدر، بحول الله، والله الموفق

فنقول:

المعنى المناسب الذي يربط به الحكم لا يخلو من ثلاثة أقسام:

(أحدها) : أن يشهد الشرع بقبوله، فلا إشكال في صحته، ولا خلاف في

إعماله؛ وإلا كان مناقضًا للشريعة، كشريعة القصاص حفظًا للنفوس والأطراف

وغيرها.

و (الثاني) : ما شهد الشرع بردّه، فلا سبيل إلى قبوله؛ إذ المناسبة لا

تقتضي الحكم لنفسها؛ وإنما ذلك مذهب أهل التحسين العقلي؛ بل إذا ظهر المعنى

وفهمنا من الشرع اعتباره في اقتضاء الأحكام، فحينئذٍ نقبله؛ فإن المراد بالمصلحة

عندنا: ما فهم رعايته في حق الخلق من جلب المصالح ودرء المفاسد على وجه لا

يستقل العقل بدركه على حال: فإذا لم يشهد الشرع باعتبار ذلك المعنى؛ بل برده،

كان مردودًا باتفاق المسلمين.

ومثاله ما حكى الغزالي عن بعض أكابر العلماء أنه دخل على بعض السلاطين

فسأله عن الوقاع في نهار رمضان، فقال: عليك صيام شهرين متتابعين. فلما

خرج راجعه بعض الفقهاء وقالوا له: القادر على إعتاق الرقبة كيف يعدل به إلى

الصوم والصوم وظيفة المعسرين، وهذا الملك يملك عبيدًا غير محصورين؟ فقال

لهم: لو قلت له: عليك إعتاق رقبة، لاستحقر ذلك وأعتق عبيدًا مرارًا، فلا يزجره

إعتاق الرقبة ويزجره صوم شهرين متتابعين.

فهذا المعنى مناسب؛ لأن الكفارة مقصود الشرع منها الزجر، والمَلك لا

يزجره الإعتاق ويزجره الصيام. وهذه الفُتْيَا باطلةٌ؛ لأنَّ العلماء بين قائلين: قائل

بالتخيير، وقائل بالترتيب، فيقدم العتق على الصيام. فتقديم الصيام بالنسبة إلى

الغني لا قائل به على أنه قد جاء عن مالك شيء يشبه هذا، لكنه على صريح الفقه.

قال يحيى بن بكير: حنث الرشيد في يمين، فجمع العلماء فأجمعوا أن عليه

عتق رقبة. فسأل مالكًا؛ فقال: صيام ثلاثة أيام. واتبعه على ذلك إسحاق بن

إبراهيم من فقهاء قرطبة.

حكى ابن بشكوال أن الحكم أمير المؤمنين أرسل في الفقهاء، وشاورهم في

مسألة نزلت به؛ فذكر لهم عن نفسه أنه عمد إلى إحدى كرائم [3] ووطئها في

رمضان، فأفتوا بالإطعام، وإسحاق بن إبراهيم ساكت. فقال له أمير المؤمنين: ما

يقول الشيخ في فتوى أصحابه؟ فقال له: لا أقول بقولهم، وأقول بالصيام. فقيل

له: أليس مذهب مالك الإطعام؟ فقال لهم: تحفظون مذهب مالك؛ إلا أنكم تريدون

مصانعة أمير المؤمنين. إنما أمر مالك بالإطعام لمن له مال، وأمير المؤمنين لا مال

له، إنما هو بيت مال المسلمين. فأخذ بقوله أمير المؤمنين وشكر له عليه.

اهـ. وهذا صحيح.

نعم حكى ابن بشكوال أنه اتفق لعبد الرحمن بن الحكم مثل هذا في رمضان

فسأل الفقهاء عن توبته من ذلك وكفارته. فقال يحيى بن يحيى: يكفر ذلك صيام

شهرين متتابعين. فلما برز ذلك من يحيى سكت سائر الفقهاء حتى خرجوا من

عنده، فقالوا ليحيى: ما لك لم تفته بمذهبنا عن مالك من أنه مخير بين العتق والطعام

والصيام؟ فقال لهم: لو فتحنا له هذا الباب سهل عليه أن يطأ كل يوم ويعتق رقبة؛

ولكن حملته على أصعب الأمور لئلا يعود. فإن صح هذا عن يحيى بن يحيى -

رحمه الله وكان كلامه على ظاهره، كان مخالفًا للإجماع.

(الثالث) : ما سكتت عنه الشواهد الخاصة، فلم تشهد باعتباره ولا بإلغائه.

فهذا على وجهين:

أحدهما: أن يرد نص على وفق ذلك المعنى، كتعليل منع القتل للميراث،

فالمعاملة بنقيض المقصود تقدير إن لم يرد نص على وفقه [4] فإن هذه العلة لا عهد

بها في تصرفات الشرع بالفرض، ولا بملائمها بحيث يوجد لها جنس معتبر، فلا

يصح التعليل بها، ولا بناء الحكم عليها باتفاق. ومثل هذا تشريع من القائل به،

فلا يمكن قبوله.

والثاني: أن يلائم تصرفات الشرع، وهو أن يوجد لذلك المعنى جنس اعتبره

الشارع في الجملة بغير دليل معين، وهو الاستدلال المرسل المسمى بالمصالح

المرسلة، ولا بد من بسطه بالأمثلة حتى يتبين وجهه بحول الله.

ولنقتصر على عشرة أمثلة:

(أحدها) : أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اتفقوا على جمع

المصحف، وليس ثَمَّ نص على جمعه وكتبه أيضًا؛ بل قد قال بعضهم: كيف نفعل

شيئًا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فروي عن زيد بن ثابت - رضي

الله عنه - قال: أَرسل إليَّ أبو بكر رضي الله عنه مقتل (أهل) اليمامة،

وإذا عنده عمر رضي الله عنه قال أبو بكر: (إن عمر أتاني فقال) : إن

القتل قيد استحرَّ بقراء القرآن يوم اليمامة [5] وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء

في المواطن كلها فيذهب قرآن كثير، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن (قال)

فقلت له: هو والله خير. فلم يزل عمر يراجعني في ذلك حتى شرح الله صدري له،

ورأيت فيه الذي رأى عمر. قال زيد: فقال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل لا

نتهمك، قد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبع القرآن

فاجمعه. قال زيد: فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي من ذلك.

فقلت: كيف تفعلون شيئًا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال أبو بكر:

هو والله خير. فلم يزل يراجعني في ذلك أبو بكر حتى شرح الله صدري للذي

شرح له صدورهما. فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والعسب واللخاف [6] ومن

صدور الرجال.

فهذا عمل لم ينقل فيه خلاف عن أحد من الصحابة.

ثم روي عن أنس بن مالك أن حذيفة بن اليمان كان يغازي أهل الشام وأهل

العراق في فتح أرمينية وأذربيجان، فأفزعه اختلافهم في القرآن، فقال لعثمان:

يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب كما اختلفت اليهود

والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة: أرسلي إلي بالصحف ننسخها في

المصاحف ثم نردها عليك. فأرسلت حفصة بها إلى عثمان، فأرسل عثمان إلى زيد

ابن ثابت وإلى عبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاصي، وعبد الرحمن بن الحارث

ابن هشام، فأمرهم أن ينسخوا الصحف في المصاحف. ثم قال للرهط القرشيين

الثلاثة: ما اختلفتم فيه أنتم وزيد بن ثابت فاكتبوه بلسان قريش، فإنه نزل بلسانهم.

قال: ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، بعث عثمان في كل أفق

بمصحف من تلك المصاحف التي نسخوها. ثم أمر بما سوى ذلك من القراءة في

كل صحيفة أو مصحف أن يحرق.

فهذا أيضًا إجماع آخر في كتبه وجمع الناس على قراءة لا يحصل منها في

الغالب اختلاف؛ لأنهم لم يختلفوا إلا في القراءات - حسبما نقله العلماء المعتنون

بهذا الشأن - فلم يخالف في المسألة إلا عبد الله بن مسعود فإنه امتنع من طرح ما

عنده من القراءة المخالفة لمصاحف عثمان، وقال: يا أهل العراق، ويا أهل

الكوفة: اكتموا المصاحف التي عندكم وغلوها، فإن الله يقول: {وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ

بِمَا غَلَّ يَوْمَ القِيَامَةِ} (آل عمران: 161) وألقوا إليه بالمصاحف. فتأمل كلامه

فإنه لم يخالف في جمعه. وإنما خالف أمرًا آخر. ومع ذلك فقد قال ابن هشام:

بلغني أنه كره ذلك من قول ابن مسعود رجال من أفاضل أصحاب رسول الله صلى

الله عليه وسلم.

ولم يرد نص عن النبي صلى الله عليه وسلم بما صنعوا من ذلك، ولكنهم

رأوه مصلحة تناسب تصرفات الشرع قطعًا، فإن ذلك راجع إلى حفظ الشريعة،

والأمر بحفظها معلوم، وإلى منع الذريعة للاختلاف في أصلها الذي هو القرآن،

وقد علم النهي عن الاختلاف في ذلك بما لا مزيد عليه [7] .

وإذا استقام هذا الأصل فاحمل عليه كتب العلم من السنن وغيرها، إذا خيف

عليها الاندراس، زيادة على ما جاء في الأحاديث من الأمر بكتب العلم.

وأنا أرجو أن يكون كتب هذا الكتاب الذي وضعت يدي فيه من هذا القبيل؛

لأني رأيت باب البدع في كلام العلماء مُغَفّلاً جدًّا إلا من النقل الجلي كما نقل ابن

وضاح، أو يؤتى بأطراف من الكلام لا يُشفى الغليل بالتفقه فيه كما ينبغي، ولم

أجد على شدة بحثي عنه إلا ما وضع فيه أبو بكر الطرطوشي، وهو يسير في

جنب ما يحتاج إليه فيه، وإلا ما وضع الناس في الفرق الثنتين والسبعين، وهو

فصل من فصول الباب وجزء من أجزائه، فأخذت نفسي بالعناء فيه، عسى أن

ينتفع به واضعه، وقارئه، وناشره، وكاتبه، والمنتفع به، وجميع المسلمين، إنه

ولي ذلك ومسديه بسعة رحمته.

المثال الثاني

اتفاق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على حد شارب الخمر ثمانين.

وإنما مستندهم فيه الرجوع إلى المصالح والتمسك بالاستدلال المرسل. قال العلماء:

لم يكن فيه في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم حد مقدر؛ وإنما جرى الزجر

فيه مجرى التعزير. ولما انتهى الأمر إلى أبي بكر رضي الله عنه قرّر على

طريق النظر بأربعين، ثم انتهى الأمر إلى عثمان رضي الله عنه فتتابع الناس

فجمع الصحابة رضي الله عنهم فاستشارهم، فقال علي رضي الله عنه: من

سكر هذي ومن هذي افترى، فأرى عليه حد المفتري.

ووجه إجراء المسألة على الاستدلال المرسل أن الصحابة أو الشرع [8] يقيم

الأسباب في بعض المواضع مقام المسببات، والمظنة مقام الحكمة؛ فقد جعل

الإيلاج في أحكام كثيرة يجري مجرى الإنزال، وجعل الحافر للبئر في محل

العدوان وإن لم يكن ثَمَّ مرد كالمردي نفسه، وحرم الخلوة بالأجنبية حذرًا من

الذريعة إلى الفساد، إلى غيره من الفساد: فرأوا الشرب ذريعة إلى الافتراء الذي

تقتضيه كثرة الهذيان؛ فإنه أول سابق إلى السكران (قالوا) فهذا من أوضح الأدلة

على إسناد الأحكام إلى المعاني التي لا أصول لها (يعني على الخصوص به)

وهو مقطوع من الصحابة رضي الله عنهم.

المثال الثالث

إن الخلفاء الراشدين قضوا بتضمين الصناع. قال علي رضي الله عنه: (لا

يصلح الناس إلا ذاك) ووجه المصلحة فيه أن أن الناس لهم حاجة إلى الصناع، وهم

يغيبون عن الأمتعة في غالب الأحوال، والأغلب عليهم التفريط وترك الحفظ، فلو

لم يثبت تضمينهم مع مسيس الحاجة إلى استعمالهم لأفضى ذلك إلى أحد أمرين: إما

ترك الاستصناع بالكلية، وذلك شاق على الخلق؛ وإما أن يعملوا ولا يضمنوا ذلك

بدعواهم الهلاك والضياع، فتضيع الأموال، ويقل الاحتراز، وتتطرق الخيانة،

فكانت المصلحة التضمين. هذا معنى قوله: (لا يصلح الناس إلا ذاك) .

ولا يقال: إن هذا نوع من الفساد وهو تضمين البريء؛ إذ لعله ما أفسد ولا

فرّط، فالتضمين مع ذلك كان نوعًا من الفساد؛ لأنَّا نقول: إذا تقابلت المصلحة

والمضرة فشأن العقلاء النظر إلى التفاوت، ووقوع التلف من الصُناع من غير

تسبب ولا تفريط بعيد، والغالب الفوت، فوت الأموال، وأنها لا تستند إلى التلف

السماوي؛ بل ترجع إلى صُنع العباد على المباشرة أو التفريط، وفي الحديث: (لا

ضرر ولا ضرار) وتشهد له الأصول من حيث الجملة، فإن النبي صلى الله عليه

وسلم نهى عن أن يبيع حاضر لباد، وقال: (دع الناس يرزق الله بعضهم من

بعض) وقال: (لا تلقوا الركبان بالبيع حتى يهبط بالسلع إلى الأسواق) وهو

من باب ترجيح المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، فتضمين الصناع من ذلك

القبيل.

...

... المثال الرابع

إن العلماء اختلفوا في الضرب بالتهم. وذهب مالك إلى جواز السجن في

التهم، وإن كان السجن نوعًا من العذاب. ونص أصحابه على جواز الضرب،

وهو عند الشيوخ من قبيل تضمين الصناع، فإنه لو لم يكن الضرب والسجن

بالتهم؛ لتعذر استخلاص الأموال من أيدي السراق والغصاب؛ إذ قد يتعذر إقامة

البينة، فكانت المصلحة في التعذيب وسيلة إلى التحصيل بالتعيين والإقرار.

فإن قيل: هذا فتح باب تعذيب البريء [9] قيل: ففي الإعراض عنه إبطال

استرجاع الأموال؛ بل الإضراب عن التعذيب أشد ضررًا؛ إذ لا يعذب أحد لمجرد

الدعوى، بل مع اقتران قرينة تحيك في النفس وتؤثر في القلب نوعًا من الظن.

فالتعذيب في الغالب لا يصادف البريء، وإن أمكن مصادفته، فتغتفر، كما اغتفر

في تضمين الصناع [10] .

فإن قيل: لا فائدة في الضرب، وهو لو أقر لم يقبل إقراره في تلك الحال.

فالجواب: إن له فائدتين، إحداهما: أن يعين المتاع فتشهد عليه البيّنة لربه،

وهي فائدة ظاهرة، والثانية: أن غيره قد يزدجر حتى لا يكثر الإقدام، فتقل أنواع

هذا الفساد.

وقد عد له سحنون فائدة ثالثة؛ وهي الإقرار حالة التعذيب؛ فإنه يؤخذ عنده

بما أقر في تلك الحال. قالوا وهو ضعيف، فقد قال الله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي

الدِّينِ} (البقرة: 256) ولكن نزله سحنون على من أكره بطريق غير مشروع،

كما إذا أكره على طلاق زوجته، أما إذا أكره بطريق صحيح فإنه يؤخذ به،

كالكافر يسلم تحت ظلال السيوف، فإنه مأخوذ به. وقد تتفق له بهذه الفائدة على

مذهب غير سحنون إذا أقر حالة التعذيب ثم تمادى على الإقرار بعد أمنه فيؤخذ به.

قال الغزالي بعد ما حكى عن الشافعي أنه لا يقول بذلك: وعلى الجملة فالمسألة

في محل الاجتهاد. قال: ولسنا نحكم بمذهب مالك على القطع، فإذا وقع النظر في

تعارض المصالح، كان ذلك قريبًا من النظر في تعارض الأقيسة المؤثرة.

المثال الخامس

إنّا إذا قررنا إمامًا مُطاعًا مفتقرًا إلى تكثير الجنود لسد الثغور وحماية الملك

المتسع الأقطار، وخلا بيت المال، وارتفعت حاجات الجند إلى ما لا يكفيهم،

فللإمام إذا كان عدلاً أن يوظف على الأغنياء ما يراه كافيًا لهم في الحال، إلى أن

يظهر مال بيت المال، ثم إليه النظر في توظيف ذلك على الغلات والثمار وغير

ذلك، كي لا يؤدي تخصيص الناس به إلى إيحاش القلوب. وذلك يقع قليلاً من

كثير بحيث لا يجحف بأحد ويحصل المقصود.

وإنما لم ينقل مثل هذا عن الأولين لاتساع مال بيت المال في زمانهم بخلاف

زماننا، فإن القضية فيه أحرى، ووجه المصلحة هنا ظاهر؛ فإنه لو لم يفعل الإمام

ذلك النظام بطلت شوكة الإمام، وصارت ديارنا عرضة لاستيلاء الكفار.

وإنما نظام كله شوكة الإمام بعدله. فالذين يحذرون من الدواهي لو تنقطع

عنهم الشوكة، يستحقرون بالإضافة إليها أموالهم كلها، فضلاً عن اليسير منها، فإذا

عورض هذا الضرر العظيم بالضرر اللاحق لهم بأخذ البعض من أموالهم، فلا

يتمارى في ترجيح الثاني عن الأول. وهو مما يعلم من مقصود الشرع قبل النظر

في الشواهد.

والملاءمة الأخرى: أن الأب في طفله، أو الوصي في يتيمه، أو الكافل

فيمن يكفله، مأمور [11] برعاية الأصلح له، وهو يصرف ماله إلى وجوه من

النفقات أو المؤن المحتاج إليها. وكل ما يراه سببًا لزيادة ماله أو حراسته من التلف

جاز له بذل المال في تحصيله.

ومصلحة الإسلام عامة لا تتقاصر عن مصلحة طفل، ولا نظر إمام المسلمين

يتقاعد عن نظر واحد من الآحاد في حق محجوره.

ولو وطئ الكفار أرض الإسلام لوجب القيام بالنصرة وإذا دعاهم الإمام وجبت

الإجابة، وفيه إتعاب النفوس وتعريضها إلى الهلكة، زيادة إلى إنفاق المال، وليس

ذلك إلا لحماية الدين، ومصلحة المسلمين.

فإذا قدرنا هجومهم [12] واستشعر الإمام في الشوكة ضعفًا وجب على الكافة

إمدادهم. كيف والجهاد في كل سنة واجب على الخلق؟ وإنما يسقط باشتغال

المرتزقة، فلا يتمارى في بذل المال لمثل ذلك.

وإذا قدرنا انعدام الكفار الذين يخاف من جهتهم، فلا يؤمن من انفتاح باب

الفتن بين المسلمين. فالمسألة على حالها كما كانت، وتوقع الفساد عتيد، فلا بد من

الحراس.

فهذه ملائمة صحيحة، إلا أنها في محل ضرورة، فتقدر بقدرها، فلا يصح

هذا الحكم إلا مع وجودها. والاستقراض في الأزمات إنما يكون حيث يرجى لبيت

المال دخل ينتظر أو يرتجى، وأما إذا لم ينتظر شيء وضعفت وجوه [13] الدخل

بحيث لا يغني كبير شيء، فلا بد من جريان حكم التوظيف.

وهذه المسألة نص عليها الغزالي في مواضع من كتبه، وتلاه في تصحيحها

ابن العربي في أحكام القرآن له، وشرط جواز ذلك كله عندهم عدالة الإمام، وإيقاع

التصرف في أخذ المال وإعطائه على الوجه المشروع.

المثال السادس

إن الإمام لو أراد أن يعاقب بأخذ المال على بعض الجنايات [14] فاختلف

العلماء في ذلك - حسبما ذكره الغزالي - على أن الطحاوي حكى أن ذلك كان في

أول الإسلام ثم نسخ فأجمع العلماء على منعه.

فأما الغزالي فزعم أن ذلك من قبيل الغريب الذي لا عهد به في الإسلام، ولا

يلائم تصرفات الشرع مع أن هذه العقوبة الخاصة لم تتعين لشرعية العقوبات

البدنية بالسجن والضرب وغيرهما (قال) فإن قيل: فقد روي أن عمر بن الخطاب -

رضي الله عنه شاطر خالد بن الوليد في ماله، حتى أخذ رسوله فرد نعله

وشطر عمامته. قلنا: المظنون من عمر أنه لا يبتدع العقاب بأخذ المال على خلاف

المألوف من الشرع، وإنما ذلك لعلم عمر باختلاط ماله بالمال المستفاد من الولاية

وإحاطته بتوسعته، فلعله ضمن المال فرأى شطر ماله من فوائد الولاية، فيكون

استرجاعًا للحق لا عقوبة في المال؛ لأن هذا من الغريب الذي لا يلائم قواعد

الشرع. هذا ما قال. ولِما فعل عمر وجه آخر غير هذا؛ ولكنه لا دليل فيه على

العقوبة بالمال كما قال الغزالي.

وأما مذهب مالك فإن العقوبة في المال عنده ضربان:

(أحدهما) : كما صوره الغزالي، فلا مرية في أنه غير صحيح، على أن

ابن العطار في رقائقه صغى إلى إجازة ذلك، فقال في إجازة أعوان القاضي إذا لم

يكن بيت مال: إنها على الطالب، فإن أدى المطلوب كانت الإجازة عليه. ومال

إليه ابن رشد. ورده عليه ابن النجار القرطبي، وقال: إن ذلك من باب العقوبة في

المال، وذلك لا يجوز على حال.

و (الثاني) : أن تكون جناية الجاني في نفس ذلك المال أو في عوضه،

فالعقوبة فيه عنده ثابتة. فإنه قال في الزعفران المغشوش إذا وجد بيد الذي غشه:

إنه يتصدق به على المساكين قل أو أكثر. وذهب ابن القاسم ومطرف وابن

الماجشون إلى إنه يُتصدق بما قل منه دون ما كثر. وذلك محكي عن عمر بن

الخطاب رضي الله عنه، وأنه أراق اللبن المغشوش بالماء، ووجه ذلك التأديب

للغاش. وهذا التأديب لا نص يشهد له، ولكن من باب الحكم على الخاصة لأجل

العامة. وقد تقدم نظيره في مسألة تضمين الصناع.

على أن أبا الحسن اللخمي قد وضع له أصلاً شرعيًّا، وذلك أنه عليه السلام

أمر بإكفاء القدور التي أغليت بلحوم الحُمُر قبل أن تقسم. وحديث العتق بالمثلة

أيضًا من ذلك.

ومن مسائل مالك في المسألة: إذا اشترى مسلم من نصراني خمرًا فإنه يكسر

على المسلم، ويتصدق بالثمن أدبًا للنصراني إن كان النصراني لم يقبضه. وعلى

هذا المعنى فرع أصحابه في مذهبه، وهو كله من العقوبة في المال، إلا أن وجهه

ما تقدم.

المثال السابع

إنه لو طبق الحرامُ الأرضَ، أو ناحيةً من الأرض يعسر الانتقال منها،

وانسدت طرق المكاسب الطيبة، ومست الحاجة إلى الزيادة على سد الرمق - فإن

ذلك سائغ أن يزيد على قدر الضرورة، ويرتقي إلى قدر الحاجة في القوت والملبس

والمسكن؛ إذ لو اقتصر على سد الرمق لتعطلت المكاسب والأشغال، ولم يزل

الناس في مقاساة ذلك إلى أن يهلكوا، وفي ذلك خراب الدين. لكنه لا ينتهي إلى

الترفه والتنعم، كما لا يقتصر على مقدار الضرورة.

وهذا ملائم لتصرفات الشرع وإن لم ينص على عينه، فإنه قد أجاز أكل

الميتة للمضطر، والدم ولحم الخنزير، وغير ذلك من الخبائث المحرمات.

وحكى ابن العربي الاتفاق على جواز الشبع عند توالي المخمصة، وإنما

اختلفوا إذا لم تتوال: هل يجوز له الشبع أم لا؟ وأيضًا فقد أجازوا أخذ مال الغير

عند الضرورة أيضًا. فما نحن فيه لا يقصر عن ذلك.

وقد بسط الغزالي هذه المسألة في الإحياء بسطًا شافيًا جدًّا [15] وذكرها في كتبه

الأًولية كالمنخول وشفاء العليل.

المثال الثامن

إنه يجوز قتل الجماعة بالواحد. والمستند فيه المصلحة المرسلة؛ إذ لا نص

على عين المسألة، ولكنه منقول عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وهو

مذهب مالك والشافعي. ووجه المصلحة أن القتيل معصوم، وقد قتل عمدًا،

فإهداره داع إلى خرم أصل القصاص، واتخاذ الاستعانة والاشتراك ذريعة إلى

السعي بالقتل إذا علم أنه لا قصاص فيه، وليس أصله قتل المنفرد فإنه قاتل تحقيقًا،

والمشترك ليس بقاتل تحقيقًا.

فإن قيل: هذا أمر بديع في الشرع [16] وهو قتل غير القاتل. قلنا: ليس

كذلك؛ بل لم يقتل إلا القاتل، وهم الجماعة من حيث الاجتماع عند مالك والشافعي،

فهو مضاف إليهم تحقيقًا إضافته إلى الشخص الواحد، وإنما التعيين في تنزيل

الأشخاص منزلة الشخص الواحد، وقد دعت إليه المصلحة فلم يكن مبتدعًا مع ما

فيه من حفظ

مقاصد الشرع في حقن الدماء، وعليه يجري عند مالك قطع الأيدي باليد الواحدة،

وقطع الأيدي في النصاب الواجب [17] .

المثال التاسع

إن العلماء نقلوا الاتفاق على أن الإمامة الكبرى لا تنعقد إلا لمن نال رتبة

الاجتهاد والفتوى في علوم الشرع، كما أنهم اتفقوا أيضًا - أو كادوا أن يتفقوا - على

أن القضاء بين الناس لا يحصل إلا لمن رقي في رتبة الاجتهاد. وهذا صحيح على

الجملة، ولكن إذا فرض خلو الزمان عن مجتهد يظهر بين الناس، وافتقروا على

إمام يقدمونه لجريان الأحكام وتسكين ثورة الثائرين، والحياطة على دماء المسلمين

وأموالهم، فلا بد من إقامة الأمثل ممن ليس بمجتهد، لأنا بين أمرين: إما أن يترك

الناس فوضى، وهو عين الفساد والهرج. وإما أن يقدموه فيزول الفساد به، ولا

يبقى إلا فوت الاجتهاد، والتقليد كافٍ بحسبه.

وإذا ثبت هذا فهو نظر مصلحي يشهد له وضع أصل الإمامة؛ وهو مقطوع

به بحيث لا يفتقر في صحته وملاءمته إلى شاهد؛ فهذا - وإن كان ظاهره مخالفًا لما

نقلوا من الإجماع في الحقيقة - إنما انعقد على فرض أن يخلو الزمان من مجتهد،

فصار مثل هذه المسئلة مما لم ينص عليه، فصح الاعتماد فيه على المصلحة.

المثال العاشر

إن الغزالي قال في بيعة المفضول مع وجود الأفضل: إن ردَّدنا في مبدأ

التولية بين مجتهد في علوم الشرائع وبين متقاصر عنها؛ فيتعين تقديم المجتهد؛ لأن

اتباع الناظر علم نفسه له مزية على اتباع علم غيره، فالتقليد والمزايا لا سبيل

إلى إهمالها مع القدرة على مراعاتها.

أما إذا انعقدت الإمامة بالبيعة أو تولية العهد لمنفك عن رتبة الاجتهاد، وقامت

له الشوكة، وأذعنت له الرقاب، بأن خلا الزمان عن قرشي مجتهد مستجمع جميع

الشرائط - وجب الاستمرار [18] .

وإن قُدِّر حضور قرشي مجتهد مستجمع للفروع والكفاية، وجميع شرائط

الإمامة، واحتاج المسلمون في خلع الأول إلى تعرضهم لإثارة فتن واضطراب

أمور- لم يجز لهم [19] خلعه والاستبدال به؛ بل تجب عليهم الطاعة له، والحكم بنفوذ ولايته وصحة إمامته، لأنا نعلم أن العلم مزية روعيت في الإمامة تحصيلاً

لمزيد المصلحة في الاستقلال بالنظر والاستغناء عن التقليد، وأن الثمرة المطلوبة

من الإمام تطفئة الفتن الثائرة؛ من تفرق الآراء المتنافرة. فكيف يستجيز العاقل

تحريك الفتنة، وتشويش النظام، وتفويت أصل المصلحة في الحال؟ تشوُّفًا إلى

مزيد [20] دقيقة في الفرق بين النظر والتقليد (قال) وعند هذا ينبغي أن يقيس

الإنسان ما ينال الخلق من الضرر بسبب عدول الإمام عن النظر إلى التقليد، بما

ينالهم لو تعرضوا لخلعه والاستبدال به، أو حكموا بأن إمامته غير منعقدة.

هذا ما قال [21] ، هو متجه بحسب النظر المصلحي، وهو ملائم لتصرفات

الشرع - وإن لم يعضده نص على التعيين.

وما قرره هو أصل مذهب مالك. قيل ليحيى بن يحيى: البيعة مكروهة؟

قال: لا! قيل له: فإن كانوا أئمةَ جَورٍ؟ فقال: قد بايع ابن عمر لعبد الملك بن

مروان، وبالسيف أخذ الملك؛ أخبرني بذلك مالك عنه أنه كتب إليه وأمر له بالسمع

والطاعة على كتاب الله وسنة نبيه.

قال يحيى: والبيعة خير من الفرقة (قال) ولقد أتى مالكًا العمريُّ فقال له:

يا أبا عبد الله بايعني أهل الحرمين، وأنت ترى سيرة أبي جعفر، فما ترى؟ فقال

له مالك: أتدري ما الذي منع عمر بن عبد العزيز أن يولي رجلاً صالحًا؟ فقال

العمري: لا أدري. قال مالك: لكني أنا أدري، إنما كانت البيعة ليزيد بعده،

فخاف عمر إن ولى رجلاً صالحًا أن لا يكون ليزيد بدٌّ من القيام، فتقوم هجمة فيفسد

ما لا يصلح. فصدر رأي هذا العمري على رأي مالك.

فظاهر هذه الرواية أنه إذا خيف عند خلع غير المستحق وإقامة المستحق أن

تقع فتنة وما لا يصلح، فالمصلحة في الترك.

وروى البخاري عن نافع قال: لما خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية جمع ابن

عمر حشمه وولده فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

(يُنصب لكل غادر لواءٌ يوم القيامة) وإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيعة الله

ورسوله، وإني لا أعلم أحدًا منكم خلعه ولا تابع في هذا الأمر إلا كانت الفيصل

بيني وبينه.

قال ابن العربي: وقد قال ابن الخياط: إن بيعة عبد الله ليزيد كانت كُرْهًا،

وأين يزيد من ابن عمر؟ ولكن رأى بدينه وعلمه التسليم لأمر الله والفرار عن

التعرض لفتنة فيها من ذهاب الأموال والأنفس ما لا يخفى. فخلع يزيد لو تحقق

أن الأمر يعود في نصابه.. [22] فكيف ولا يعلم ذلك؟ وهذا أصل عظيم فتفهموه

والزموه ترشدوا إن شاء الله.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) تابع لما نشر في ص 753.

(1)

قوله: (في الواقع له) لا معنى له ولعله زائد.

(2)

بياض في الأصل ويصح المعنى بتقدير الساقط: (قال) أو (ذهب إليه) .

(3)

المراد بكرائمه: عقائل نسائه الحرائر لا بناته، كما هو المستعمل في عرف زماننا.

(4)

تأمل العبارة من أولها.

(5)

استحرَّ القتل: اشتد وكثر، والقُرَّاء: حفظة القرآن.

(6)

العسب: جمع عسيب؛ وهو جريد النخل، واللخاف كلحاف: حجارة بيض رقاق، واحدتها لخفة كسمكة.

(7)

هذا القول يحتاج إلى مزيد بيان، وهو أن الله تعالى سمّى القرآن كتابًا؛ فأفاد ذلك وجوب كتابته كله، ولذلك اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم كتَّابًا للوحي، وتفريق الصحف المكتوبة لا يعقل أن يكون مطلوبًا للشارع حتى يحتاج جمعها إلى دليل خاص. ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بجمعها في حياته لاحتمال المزيد في كل سورة ما دام حيًّا، كما قال العلماء.

(8)

في نسخة ثانية (الشريعة تقيم) كما يستفاد من هامش الأصل.

(9)

لعل الأصل (لتعذيب البريء) .

(10)

ينظر أين يرجع الضمير الذي أسند إليه هذا الفعل، فإن كان (المصادفة) فالظاهر أن يؤنث بالتاء؛ فيقال:(اغتفرت) كما قال: (فتغتفر) وإن أرجع إلى (التعذيب) رد بأن تضمين الصناع ليس تعذيبًا، ولعل الأصل تأنيث الفعل، أو حذف (في) وجعل (تضمين) هو الفاعل.

(11)

قوله: (مأمور) خبر (أن الأب) باعتبار ما عطف عليه.

(12)

قوله: (هجومهم) يعني المسلمين الذين وطئ الكفار أرضهم محاربين لهم.

(13)

في الأصل (وجوده) وهو غلط.

(14)

ينظر أين جواب (لو) ؟ وما موقع الفاء من قوله: (فاختلف العلماء) .

(15)

للغزالي كلمة في عدم تعدي الحرام إذا كثر وعم؛ وهي: (إذا حرم كله حل كله) أي لا يبحث المرء في هذه الحال عن أصل المال؛ بل يتحرى أن يأخذه من وجه حلال.

(16)

البديع: المختَرَع على غير مثال سابق، والمعنى ليس له أصل من الشرع، لا خاص فيكون قياسًا عليه، ولا عام فيكون من المصالح المرسلة.

(17)

أي إذا قطع جماعة يد أحد أو سرقوا نصابًا بالتعاون والاشتراك: تقطع أيديهم كلهم.

(18)

قوله: (وجب) إلخ جواب قوله: (أما إذا انعقدت) .

(19)

قوله: (لم يجز لهم) إلخ جواب وجزاء قوله: (وإن قدر) إلخ.

(20)

كذا ولعله (مزية) .

(21)

أي الغزالي، وقد فاته وفات أمثاله أن ينبهوا المسلمين على أن هذه الأقوال والفتاوى المبنية على الضرورة تتقدر بقدرها كسائر الضرورات، وأن يسعى المسلمون لإزالتها بوسائل تُتقى فيها الفتنة أو يرتكب فيها أخف الضررين، وقد يكون أخفهما خلع الإمام الجائر الجاهل، وكم من سلطان خلع، ومن دولة دالت، ولم يكن ضرر ذلك أرجح من الصبر عليه، على أن ذلك لم يكن إلا تنازعًا على الملك، فكيف لو كان لأجل وضع الحق في نصابه.

(22)

سقط من هنا خبر المبتدأ الذي هو قوله: (فخلع يزيد) ولعل الساقط قوله: (تعرض للفتنة) كما يفهم من سياق الكلام أي أن خلع يزيد تعرض للفتنة لا يجوز مع العلم بأن الخلافة تعود إلى

مستحقها، فكيف وذلك غير معلوم، لجواز أن ينكل بمن خلعوه ويبقى الأمر بيده أو تعود إلى مثله أو شر منه.

ص: 833

الكاتب: محمد توفيق صدقي

مدرسة دار الدعوة والإرشاد

دروس سنن الكائنات

محاضرات علمية طبية إسلامية للدكتور محمد توفيق صديق

بسم الله الرحمن الرحيم

الغرض من هذه المحاضرات إيقافكم على أصول بعض أنواع العلوم الطبيعية

والطبية، خصوصًا ما كان منها له مساس بعلم قانون الصحة، فإنه هو

المقصد الأصلي الذي نرمي إليه في جميع هذه المحاضرات؛ لأن هذا العلم هو كثمرةٍ

شهيَّةٍ ممّا تنتجه شجرة العلوم العصرية، طبيعية كانت أو طبية، والغرض منه

معرفة الأصول والقواعد الصحية التي بها يحفظ الجسم من الضعف والانحلال

بقدر الإمكان، وكذا من الأمراض المعدية وغير المعدية.

وستسمعون مني في سياق هذه المحاضرات تعريب كثير من الألفاظ العلمية،

وتطبيق حقائق هذه العلوم على نصوص الديانة الإسلامية الغراء.

وهاكم أسماء العلوم التي نريد أن نتكلم عليها بعون الله تعالى:

1 -

الكيمياء 2 - الطبيعة 3 - التشريح 4 - الفسيولوجيا [1]

5-

الهستولوجيا [2] 6 - البكتيريولوجيا [3] الأمراض المعدية، وغير ذلك.

***

نبذة في علم الكيمياء Chemistry

الكيمياء القديمة كان الغرض منها معرفة حجر الفلاسفة وهو الجوهر الذي إذا

وضع على أي معدن يُصيِّره ذهبًا على زعمهم. ومعرفة إكسير الحياة، وهو الذي

كانوا يظنون أنه يعيد الشيخ شابًّا أو أنه يشفي جميع الأمراض. وأما الآن فالغرض

من الكيمياء معرفة أصول المركبات وكيفية تركيبها وتحليلها. وهذه الأصول تسمى

بالعناصر، والعناصر كثيرة؛ ولكنها الآن لا تتجاوز الثمانين، ومن أهمها الحديد

والنحاس والأكسجين والكربون.

وأما المركبات فمنها الخشب والسكر والماء وغير ذلك. والراجح عند العلماء

الآن أن جميع العناصر هي أيضًا مركبات وكلها ترجع إلى أصل واحد، وهو

الأثير الذي هو أبسط جميع الموجودات ومنه ركبت؛ وأصغر أجزاء هذه العناصر

تسمى بالجواهر الفردة، وهي التي لا يمكن تقسيمها إلى أقل منها ولو في الذهن.

والعناصر جميعًا تنقسم إلى قسمين: معادن وغير معادن؛ فالمعادن هي مثل

النحاس والحديد، وغيرها ما ماثل الفحم والكبريت (المسمى بالعمود) والمعادن

تختلف عن غير المعادن في أربعة أشياء:

(1)

أن المعادن لها لمعة خاصة بها، وغيرها ليس كذلك.

(2)

أن المعادن توصل الحرارة والكهرباء.

(3)

أن المعادن تقبل الانطراق والتمدد، وغير المعادن لا يقبل ذلك.

(4)

أن أكسيد المعادن يسمى القاعدة، وأكسيد غير المعادن يتركب منه

الحمض. والأكسيد هو ما ينشأ من اتحاد الأكسجين مع أي عنصر من العناصر،

مثال ذلك صدأ الحديد فإنه يسمى أكسيد الحديد لتركبه من الأكسجين مع الحديد،

والقاعدة سميت بذلك؛ لأنها كالأساس تُبنى عليه الأملاح، والحمض غير العضوي

ينشأ من إذابة أكسيد غير المعادن في الماء، واتحاد القواعد مع الحوامض يولد

الأملاح.

ثم إن أكسيد المعادن الذي يذوب في الماء يسمى (قلوي) ولفظ قلوي نسبة

إلى قلي وهي كلمة فارسية معربة تطلق على نبات ينبت بشواطئ البحر يسمى

الأشنان، إذا أُحرق تخلف منه رماد يشتمل على كثير من ملح يسمى:

(كربونات الصوديوم) ، ومنه يعمل الصابون. وكربونات الصوديوم تسمى

بالعربية نطرونًا، ولفظ النطرون أخذ منه اسم العنصر المسمى (صوديوم) فسموه

نطريوم، ومن كلمة (قلي) أخذ لفظ قليوم وهو اسم لعنصر (البوتاسيوم) .

وأشهر القلويات أكسيد الصوديوم أو النطريوم وأكسيد البوتاسيوم أو القليوم.

وإذا أذيب القلوي في الماء تكون منه ما يسمى (هيدرات) أو إيدرات، ومعنى كل

منهما (ماء) فإذا قيل هيدرات الصوديوم فمعناه ماء الصوديوم أو بالحري ماء

أكسيد الصوديوم.

***

أشهر العناصر

وأشهر العناصر ما يأتي 1 - الأكسجين. 2 - الهيدروجين. 3 -

النيتروجين. 4 - الكلورين. 5 - الصوديوم. 6 - البوتاسيوم. 7 - الكلسيوم.

(وهو ما يتركب منه الجير) 8 - الفُسفُور. 9 - الكبريت 10 - الحديد. 11 -

الكربون (الفحم) .

فالأربعة الأول كلها غازات طيَّارة كالهواء، وهي لا لون لها، ما عدا

الكلورين فإنه أخضر اللون، وهو معنى اسمه باليونانية. وأما الصوديوم

والبوتاسيوم وإلخ فهي أجسام صلبة.

***

العناصر المركبة في الجسم

ويتركب من هذه العناصر أجسام أخرى مركبة تدخل في جسم الإنسان وهي

تنحصر في خمسة أنواع 1 - الماء 2 - المواد الزلالية 3 - المواد الدهنية

4 -

المواد السكرية والنشوية ونحوها 5 - أملاح عديدة أهمها كلوريد الصوديوم

(ملح الطعام) وكربونات الكلسيوم (معدن الجير) وسُلفات الصوديوم (كبريتات) .

فأما الماء فهو مركب من الأكسجين والهيدروجين ويدخل في جميع أجزاء

الجسم، ومنه يتكون أكبر جزء فيه، وهو من أهم ما يلزم لحياة الجسم، بحيث إن

الإنسان وأي حيوان آخر إذا امتنع عنه بضعة أيام يموت قطعًا.

وأما المواد الزلالية فهي كزلال البيض (بياضه) وهي مركبة من

الأكسجين والهيدروجين والنيتروجين والكربون (الفحم) والكبريت. وبعضها

يدخل فيه الحديد كالمادة المسماة (هيموجلوبين) وهي الداخلة في كرات الدم

الحمراء. ويتركب من المواد الزلالية: العظام واللحم والمخ والنخاع وجميع

الأحشاء.

وأما المواد الدهنية فهي مركبة من الكربون والهيدروجين والأكسجين، وتوجد

في الغالب تحت الجلد وحول الأحشاء في البطن وغيره.

ثم إن هذه العناصر الثلاثة الأخيرة يتركب منها الغلسرين وأحماض عضوية.

فالأحماض العضوية هي التي لا تتكون بنفسها إلا في أعضاء النباتات والحيوانات.

وباجتماع الغلسرين مع الأحماض العضوية ينشأ الدهن والزيوت الثابتة

(مثل زيت السمك وزيت الزيتون) أما الزيوت غير الثابتة فهي مثل

زيوت الروائح العطرية، وتركيبها يختلف عن ذلك كثيرًا.

وأما المواد النشوية والسكرية ونحوها فتسمى في علم الكيمياء

(بالكربوهيدرات) لأنها مركبة من الكربون والهيدروجين والأكسجين، والفرق

بينها وبين المواد الدهنية هو في عدد الذرات وفي وضع بعضها بالنسبة إلى البعض

الآخر. والمواد السكرية والنشوية توجد بكثرة في الدم والكبد، فيوجد في الدم سكر

العسل وفي الكبد نوع من النشا يسمى النشا الحيواني (الجليكوجين) .

واعلم أن الياء والكاف (يك) إذا أضيفتا إلى آخر اسم الحامض دَلَّتَا على أن

فيه أكسجين كثيرًا، والواو والزاي (وز) يدلان على أكسجين قليل، ولفظ (فوق)

يدل على أن الأكسجين أكثر مما في الحمض المنتهي بالياء والكاف ولفظ (تحت)

يدل على أنه أقل الحوامض التي من نوعه في الأكسجين، مثال ذلك:

1ً - فوق حامض الكلوريك: فيه 4 ذرات من الأكسجين.

2ً - وحامض الكلوريك: فيه 3 ذرات من الأكسجين.

3ً - وحامض الكلوروز: فيه 2 ذرات من الأكسجين.

4ً - وتحت حامض الكلوروز: فيه 1 ذرة من الأكسجين.

والملح الذي ينشأ من الأول يسمى (فوق كلورات) والذي ينشأ من الثاني

(كلورات) والذي ينشأ من الثالث (كلوريت) والذي ينشأ من الرابع (تحت

كلوريت) .

وكل ياء ودال (يد) يدلان على أن الجسم مركب من عنصرين فقط مثل

كلوريد الصوديوم فإنه مركب من عنصرين فقط هما الكلورين والصوديوم،

ولأجل تمييز الحوامض عن القلويات يستعمل ورق عباد الشمس Litmus فالحمض

يصيره أحمر، والقلوي يصيره أزرق، والملح لا يغير لونه ويسمى (متعادلاً) .

***

الاتحاد والمزج

بقيت مسألة واحدة تتعلق بموضوع الكيمياء وهي الفرق بين الاتحاد وبين

الخلط أو المزج.

فالاتحاد معناه الارتباط والانضمام، والخلط والمزج معناهما ظاهر.

وهناك في علم الكيمياء ثلاثة فروق كبيرة بين الاتحاد وبين الخلط أو المزج.

(1)

ففي حالة الاتحاد ينشأ مركب يخالف في صفاته وخواصه وطبائعه

صفات أجزائه التي يتركب منها. وفي حالة الخلط أو المزج ليس الأمر كذلك،

مثال ذلك الخشب فإن له صفات تغاير صفات عناصره كل المغايرة، وإذا خلطنا

السكر مع الفحم بقي كل منهما حافظًا لصفاته وخواصه، وهناك مثال آخر وهو

الماء والهواء، فالماء مركب متحد، والهواء مركب ممزوج.

(2)

أن الاتحاد الكيماوي يكون دائمًا بنسب ثابتة لا تتبدل ولا تتغير،

والنسب في الخلط ليست ملتزمة.

(3)

أن الاتحاد الكيماوي قد يولد حرارة وكهرباء، والخلط لا يولد شيئًا

منها.

***

النبذة الثانية

في علم الطبيعة (Physics)

علم الطبيعة هو علم ظواهر المادة يُبحث فيه عن طباعها وخواصها وقواها

فهو علم الظاهر، والكيمياء علم الباطن.

أما قوى المادة فمعناها حركات جواهرها (ذراتها) المختلفة، وتنشأ منها

أعراض كثيرة أهمها ما نسميه بالكهرباء والحرارة والنور والمغناطيس؛ فإن

الأشياء الأربعة ليست إلا حركات مختلفة لذرات المادة.

ثم إن المادة لها ثلاثة أحوال: (1) اليبوسة. (2) السيولة. (3)

البخارية أو الغازية، ويسمى الجسم في الحالة الأخيرة: الساطع أو الريح أو البخار

وبالإفرنجية الغاز.

واختلاف هذه الأحوال الثلاثة إنما نشأ من اختلاف مقدار الحرارة الموجودة

في كل منها، فذرّات الغاز أشدَّها اضطرابًا وأكثرها حركة وحرارة، وذرات الجامد

(اليابس) أقلها حركة وحرارة، وذرات السائل متوسطة بين الحالتين في الحرارة

والحركة. فلا يمكننا تحويل الجسم من حالة اليبوسة إلى حالة السيولة إلا بالحرارة

ولا يمكننا تحويله من حالة السيولة إلى الحالة الغازية إلا بالحرارة أيضًا. وكذلك

الحالة في إذابة جميع الأجسام الجامدة في السوائل فإنها تمتص الحرارة من الأجسام

المجاورة لها فإذا أذبنا مثلاً الملح الإنكليزي في الماء أحسسنا ببرودة في الإناء بسبب

امتصاص حرارته لأجل الإذابة.

والحرارة نوعان: حرارة كامنة وهي منصرفة في تفريق ذرات المادة ولا يمكن

الإحساس بها، وحرارة ظاهرة وهي التي يشعر بها الإنسان.

***

سنن التجاذب وأنواع التجاذب

بين ذرات المادة تجاذب يظهر في أجرامها العظيمة كالكواكب، وفي أجرامها

الصغيرة كالحصى، ويشاهد هذا الجذب بين القمر والأرض مثلاً في ماء البحار

فيحصل فيه ما يسمى بالمد.

ويُسمى هذا التجاذب بأسماء مختلفة باختلاف الأحوال: فالتجاذب بين ذرَّات

الجسم الواحد كالحصى يسمى قوة الانضمام؛ وبالإنكليزية Cohesion والتجاذب

بين جسمين مختلفين كالجدار وطلائه يسمى قوة الالتصاق؛ وبالإنكليزية

Adhesion وبين الأرض وما عليها يسمى قوة الجذب Gravitation وكل ثقل

لأي جسم إنما هو ناشئ من هذا الجذب الأرضي. واختلاف الأثقال هو ناشئ عن

اختلاف عدد الذرات، فالجسم الثقيل هو ما كانت ذراته كثيرة، والجسم الخفيف هو

ما كانت ذراته قليلة. وكل ما نعرفه ونشاهده على الأرض من الأجسام حتى الهواء

له ثقل تسبب عن جذب الأرض له.

وثقل الهواء على الأجسام يسمى الضغط الجوي، ولقياسه يستعمل البارومتر.

أما البارومتر فهي كلمة يونانية معناها: (مقياس الثقل) أي ثقل الهواء

وأبسط طريقة لصناعته أن تملأ أنبوبة زجاجية بالزئبق عادة طولها 90 سنتي مترًا

وقطرها سنتي واحد ثم تسد بالإصبع وتغطس فتحتها في إناء مملوء بالزئبق ثم يرفع

الإصبع فترى أن الزئبق ينزل في الأنبوبة ويترك مسافة فارغة في أعلاها ويكون

ارتفاع الزئبق في الأنبوبة عن سطح الزئبق الذي في الإناء نحو 76 سنتي مترًا،

والذي رفعه إلى هذه المسافة هو ضغط الهواء على سطح الزئبق الذي في الإناء.

ويمكن أيضًا عمل البارومتر بأنبوبة على شكل حرف (ل) مسدودة من طرفها

الأعلى ومفتوحة من الأسفل فيبقى الزئبق مرفوعًا كما في الطريقة الأولى.

ومن فوائد البارومتر معرفة ارتفاع الجبال وغيرها كالمناطيد؛ لأن الزئبق

ينزل في الأنبوبة كلما ارتفعنا لخفة الهواء في الأماكن العالية، وكذلك نعرف منه

قرب حصول المطر؛ فإن الهواء المشبع بالرطوبة أخف من الهواء الجاف فينخفض

الزئبق إذا اقترب المطر.

***

تمدد الأجسام ومقياس الحرارة

وجميع الأجسام تتمدد بالحرارة في جميع جهاتها أي يكبر حجمها بسبب تفرق

أجزائها فتتسع المسام التي بينها، وتنكمش أيضًا بالبرودة أي يصغر حجمها وتقل

المسافات (المسام) التي بين ذراتها.

وعلى هذه القاعدة بني مقياس الحرارة Thermometer وهو عبارة عن أنبوبة

من الزجاج فارغة من الهواء يوضع في أسفلها الزئبق ثم يبرد بالثلج حين ذوبانه

حتى يصل إلى أصغر حجمه ثم توضع في بخار الماء الذي يغلي حتى يصل الزئبق

في الأنبوبة إلى أكبر حجمه. وتسمى النقطة الأولى التي وصل إليها الزئبق بالتبريد

(نقطة الصفر) وهي درجة الجليد. أي التي يجمد بها الماء فيكون جليدًا والنقطة

الثانية التي وصل إليها بالتسخين (نقطة المئة) وهي درجة الغليان - أي للماء - ثم

تقسم المسافة التي بين هاتين النقطتين إلى مائة قسم يسمى كل قسم منها درجة

ويرمز للدرجة بدائرة صغيرة كرقم (5) فإذا وضعت بجانب عدد كان المراد أنه عدد

الدرجات كما ترى قريبًا وقد يوضع في هذه الأنبوبة مواد أخرى غير الزئبق

كالكحول (روح الخمر أو السبرتو) .

وفي بعض البلاد يقسمون المسافة التي بين النقطتين المذكورتين إلى 80 قسمًا

أو درجة، وفي هذا المقياس تكون الدرجة أكبر من درجة المقياس الأول، وقد

يقسمون هذه المسافة أيضًا إلى 180 قسمًا فتكون الدرجة أصغر، ويضعون في

هذا المقياس الأخير بدل الصفر رقم 32 وبدل 100 رقم 212.

ويسمى المقياس الأول بالمقياس المئيني Centigrade (سنتجراد) .

ويسمى المقياس الثاني مقياس (ريومر) والمقياس الثالث يسمى مقياس

(فهرنهيت) وأكثر هذه المقاييس استعمالاً في مصر وفرنسا هو الأول ويليه الثالث

كما في بلاد الإنكليز، وأما الثاني فهو قليل الاستعمال. أما حرارة الجسم الإنساني

الطبيعية فهي بالمقياس الأول من 36 درجة صباحًا إلى 37 درجة مساءً، وبالمقياس

الثالث من 98 درجة إلى 99 درجة تقريبًا.

وكل درجة من هذه الدرجات تقسم إلى عشرة أقسام، فالخمسة منها هي نصف

الدرجة وهكذا. وطريقة معرفة حرارة الإنسان أن يوضع المقياس في أي جزء من

الجسم بحيث يكون محاطًا باللحم من جميع الجهات مدة ثلاث دقائق تقريبًا. وأشهر

هذه الأماكن تحت اللسان وتحت الإبط وقد تؤخذ الحرارة أيضًا من الشرج وذلك في

الأنعام والأطفال.

والحيوانات تنقسم إلى قسمين باعتبار الحرارة:

القسم الأول: الحيوانات ذوات الدم الحار كالإنسان والخيل والسباع والطيور

وغيرها.

والقسم الثاني: ذوات الدم البارد كالضفادع والأسماك والزواحف.

فحيوانات القسم الأول تبقى حرارتها على حالة واحدة تقريبًا في الحر والبرد،

في أواسط الأرض عند خط الاستواء، وفي أعلاها عند المتجمد الشمالي مثلاً.

وحيوانات القسم الثاني تختلف حرارتها باختلاف البيئة (الوسط) فترتفع

حرارتها إذا كان المكان ساخنًا وتنخفض إذا كان باردًا.

أما الإنسان فإذا قلت حرارته عن 35 أو ارتفعت عن 44 مات غالبًا،

وارتفاع الحرارة هو ما يسمى بالحمى، وانخفاضها يسمى بالهمود (أو الهبوط)

وهو الحالة التي يكون الإنسان فيها عند الموت عادة.

***

المادة وقواها

إن جميع الأجسام وقواها المشاهدة في هذا العالم لا توجد الآن من العدم ولا

تقبل العدم أو الزوال، وذلك بحسب استقرائنا الحالي وعلى ذلك يجب علينا أن نبين

مصادر (أو منابع الحرارة) في العالم؛ حيث لا تنبعث من العدم.

مصادر الحرارة

للحرارة مصدران: طبيعي وصناعي.

(1)

أما المصدر الطبيعي فهو الشمس، وباقي الشموس الأخرى

المسماة عندنا بالنجوم الثابتة، والحرارة التي فيها إنما تنشأ من احتراق

أجزائها. والاحتراق عبارة عن اتحاد الأجزاء بعضها مع بعض اتحادًا كيماويًّا،

وأهم أنواع الاحتراق المشاهد في هذه الأرض ما يحصل من اتحاد الفحم مع

الأكسجين، والهيدروجين مع الأكسجين أيضًا. والاحتراق لا يعدم المادة وإنما

يحولها إلى صور وأشكال أخرى.

(2)

وأما المصدر الصناعي فهو ينشأ من الأسباب الآتية:

(أ) الاحتكاك.

(ب) القرع؛ كقدح الزناد الحجرية أو زناد الآلات النارية (البنادق) .

(ج) التفاعل الكيماوي أو الاتحاد الكيماوي (كاحتراق الخشب) .

(د) التيار الكهربائي (كالأتون الكهربائي) .

فالحرارة الحيوانية تتولد في الجسم من الاحتراق من الشمس، ومن الحركات

الجثمانية الظاهرة والباطنة. وأهم احتراق يحصل في الجسم هو اتحاد ما يوجد فيه

من الفحم أو الهيدروجين بأكسجين الهواء. والفرق بين اشتعال الجسم الإنساني

وبين اشتعال غيره أن اشتعال الجسم تدريجي بطيء واشتعال الآخر سريع شديد.

ويتولد من اتحاد الفحم مع الأكسجين غاز يسمى (ثاني أكسيد الفحم) ويرمز إليه

هكذا (ك أ 2)[4] ومن اتحاد الهيدروجين مع الأكسجين يتولد الماء ويرمز إليه

هكذا (هـ 2 أ) ، وهذان الجسمان ينشآن أيضًا من احتراق كثير من أجسام

أخرى كالخشب والشمع وزيت البترول [5] .

ولخروج الحرارة من الجسم الإنساني عدة طرق:

(1)

طريق التوصيل وذلك بسريان الحرارة من الجسم الإنساني إلى جميع

الأجسام المحيطة به كالملابس والفرش والهواء.

(2)

الإشعاع، أي خروج الحرارة من الجسم بشكل أشعة كأشعة النور منبعثة

في جميع الجهات، وسريانها هذا يكون في الأثير.

(3)

طريقة الحمل وذلك يكون بحمل الهواء المحيط بالجسم للحرارة

وارتفاعه بسبب خفته وحلول هواء آخر بارد محله؛ فإن الهواء الحار أخف

من الهواء البارد.

(4)

طريقة الإفرازات كالبول والبراز وغيرهما فإنهما يحملان شيئًا كثيرًا

من حرارة الجسم. ومثلهما الهواء الخارج من الرئتين في الشهيق.

(5)

التبخر وذلك يكون بتبخر عرق الجسم، ولا يخفى أن تحول الماء إلى

بخار يحتاج إلى حرارة كما قلنا سابقًا، فلذلك كان العرق في تبخره مخرجًا لكثير

من حرارة الجسم وهو من أهم الطرق المذكورة هنا.

فإذا اشتدت حرارة الجو انبعث الدم من داخل الجسم إلى خارجه وملأ الجلد

كله وكثر إفراز العرق وقل الاحتراق الداخلي في الجسم حتى لا تزيد الحرارة عن

الدرجة الطبيعية.

وإذا اشتدت برودة الهواء كثر الاحتراق الداخلي في الجسم وهرب الدم من

ظاهره إلى باطنه وامتنع العرق وبذلك تحفظ حرارة الجسم فيه وتبقى في الدرجة

الطبيعية.

وكل هذه الحركات التي تحصل في الجسم من هروب الدم إلى الباطن

وخروجه إلى الظاهر ومن زيادة الاحتراق أو قلته - مدبَّرة بالأعصاب ومركز هذا

التدبير في الدماغ أو المخ.

فإذا أصيبت مراكز التدبير بأي شيء اختلت وظيفتها، فإما أن يبرد الجسم

برودة شديدة أو يسخن سخونة شديدة. وذلك الأخير هو الحمى وقد يموت الشخص

بسبب البرودة أو السخونة.

والذي يفسد عمل هذه المراكز العصبية المدبِّرة في الغالب سموم تتولد في

الجسم من الجراثيم المرضية (الميكروبات) وقد ينشأ اختلال هذه المراكز من

إصابات أخرى للدماغ أو آلام شديدة في جزء من أجزاء الجسم كالمغص الكلوي.

فأعظم أسباب ارتفاع الحرارة الجثمانية (أي الحمى) شيئان:

(1)

سموم الميكروبات التي تدور في الدم.

(2)

كل ما يؤثر في المراكز العصبية كالألم الشديد أو ضربة الشمس أو

غيرهما.

ومما تقدم يفهم أن الحمى تتولد في الجسم بثلاثة طرق:

(1)

زيادة الاحتراق مع خروج الحرارة من الجسم كالمعتاد.

(2)

قلة خروج الحرارة عن المعتاد مع كون التولد كالمعتاد.

(3)

اجتماع الطريقتين السابقتين بأن يزيد الاحتراق ويقل خروج الحرارة،

وهذا أشد طرق الحمى.

ففي الأمراض المختلفة المصحوبة بالحمى يحصل أحد هذه الطرق وخصوصًا

الأول والثالث منها.

فالحمى على ذلك ضرب من ضروب النار. وأفيد عمل لإطفائها بسرعة

استعمال الماء البارد مصداقًا للحديث الشريف: (الحمى من فيح جهنم فأبردوها

بالماء) أي كأنه من حر جهنم أو مما انتشر منها إلى الأرض.

ومن الغلط الشائع معالجة الحمى بكثرة التدفئة بالملابس وغيرها فإن ذلك يزيد

حرارة الجسم ويضر المريض كما لا يخفى.

***

كلمة في الخمر

يظن كثير من جهلة الناس أن استعمال الخمور في البلاد الباردة ضروري

للحياة، وقد أثبت جميع أطباء العالم بلا خلاف بينهم نقيض هذه الدعوى وظهر لهم

أن الخمر من أعظم ما يخفض الحرارة الجثمانية لأسباب:

(أحدها) أنها تقلل الاحتراق الداخلي في الجسم المسمى بالتفاعل الحيوي.

(ثانيها) أنها تمدد جميع أوعية الجلد وتكثر العرق وبذلك يخرج كثير من

حرارة الجسم.

(ثالثها) أنها إذا تعوطيت بمقادير كبيرة انتهى الأمر بها إلى إضعاف جميع

قوى الجسم فيضعف القلب والدورة الدموية، ولذلك شوهد في البلاد الباردة كثير من

الناس الذين تقتلهم الخمر.

نعم إن جزءًا منها يحترق في الجسم فيولد فيه حرارة ولكنها لا تعد شيئًا في

جانب تبريدها الشديد للجسم كما بيَّنّا.

أما الإحساس بالحرارة عقب تعاطيها فذلك ناشئ من ورود الدم بكثرة إلى

الجلد لا للزيادة في الاحتراق، فهو إحساس كاذب ضار بالجسم.

ومما تقدم يعلم أن الخمر نافعة في تبريد حرارة الجسم إذا أصابته الحمى،

وهي كذلك، فإن خير استعمالها طبيًّا هو في الحميات بشرط عدم الاستمرار عليها

طويلاً وعدم الإكثار منها، وإلا لأحدثت سرعة في النبض وزادت في هذيان

المحموم.

وقد تستعمل أيضًا بمقادير قليلة للتنبيه والإنعاش فإنها في أول أمرها وبمقادير

قليلة تؤدي إلى تنشيط حركة الجسم؛ ولكن ذلك يعقبه غالبًا - وخصوصًا إذا أخذت

بمقادير كبيرة - هبوط ضار في جميع القوى.

أضف إلى ذلك مضراتها الأخرى الكثيرة بجميع الأحشاء وغيرها من أجزاء

الجسم، فإن الخمر هي من أعظم أسباب جميع الأمراض العقلية والعصبية

والجثمانية، وهي تضعف النسل وتورثه بعض ما أصابت به والديه كالصرع مثلاً،

ومن أكبر مضاراتها أيضًا أنها تعوق حركة الكرات البيضاء التي في الدم، وبذلك

يتغلب كثير من الأمراض على الجسم فتفتك به كما هو مشاهد كثيرًا في السِّكِّيرين

فقل أن ينجو منهم أحد أصيب بمرض شديد.

وقد يتوهم بعض الناس مما ذكر أن الخمر إذا شربت بمقادير قليلة نفعت

الجسم! والحقيقة خلاف ذلك، فإن الإدمان والمواظبة على شرب الخمر ولو قليلاً لمدة

طويلة قد ينشأ عنه كثير من الأمراض التي ذكرت، والقليل يجر الكثير حتمًا وإلا

لضاعت مزيتها عند الشارب.

والمدمن على تعاطيها - ولو باعتدال - هو دائمًا ضعيف القوى بحيث لا

يتحمل ما يتحمله غيره من المشاق، وهو أيضًا معرض لكثير من الأمراض المعدية

كالسل والحمرة؛ لأن الخمر تقلل مقاومة الجسم لجميع الميكروبات كما قلنا

وخصوصًا ميكروب الالتهاب الرئوي. ولذلك لوحظ أن الجنود الإسلامية أقوى

الناس تحملاً للمشاق وأقلهم تعرضًا للأمراض.

والخلاصة: أن الخمر إذا أخذ منها قليل مرة أو مرتين قد تنفع؛ ولكن

الإدمان على قليلها هو ضار جدًّا كالإكثار منها غير أن ضرر القليل بطيء،

وضرر الكثير سريع قد يقتل الشخص في أقرب وقت، فهي كما أخبرنا الله تعالى في

كتابه: وفيها منافع للناس وإثمها أكبر من نفعها.

***

الذوبان وما يتعلق به

إذا وضع جزء من السكر أو نحوه في الماء، وترك قليلاً من الزمن مع

تحريك السائل أو السكر انحل السكر، كأنه فقد، والحقيقة أنه لا يزال باقيًا في

الماء فيعطيه خواصه وصفاته.

وإذا مزج قليل من الدقيق بالماء شوهد أنه باق فيه بلا انحلال.

فالحالة الأولى تسمى حالة الذوبان والحالة الثانية تسمى حالة التعليق؛ لأن

ذرات الجسم الصلب تكون معلقة أو محمولة على ذرات الجسم السائل.

وكما يحصل الذوبان في الأجسام الصلبة كذلك يحصل في السوائل والغازات

فإذا مزجنا بعض السوائل بالبعض الآخر يشاهد فيها هذا الانحلال (الذوبان)

مثال ذلك اختلاط الخل بالماء والخمر به فإنهما يذوبان فيه.

وكذلك الغازات فإن بعضها يذوب في السوائل أي تنحل وتمتزج بها امتزاجًا

تامًّا كالهواء مع الماء.

وكما أن بعض الأجسام الصلبة لا يذوب في بعض السوائل كذلك توجد سوائل

لا تذوب فيها كالزيت في الماء.

وأحسن طريقة لتعليق الزيت في الماء أن يمزج الماء قبل إضافة الزيت إليه

بقليل من الصمغ ويسمى المزيج الحاصل من هذه الأشياء الثلاثة (مستحلبًا) .

فمن أمثلة التعليق في الأجسام الحيوانية الدم واللبن؛ فإن الدم مركب من

بعض أجسام ذائبة وبعض أجسام غير ذائبة وكذلك اللبن فإن الدهن معلق فيه كتعليق

الزيت فيما سميّناه هنا مستحلبًا تشبيهًا له باللبن الحليب (المحلوب) .

ويمتاز الجسم المعلق عن الجسم الذائب بما يأتي:

(1)

إن الجسم المعلق يشاهد بالعين المجردة أو بالآلات المكبرة

(الميكروسكوب) .

(2)

إذا ترك الجسم المعلق زمنًا ما شوهد أنه ينفصل عن السائل الذي كان

معلقًا فيه، فإما أن يصعد إلى أعلى كالزيت أو يسقط إلى أسفل كالدقيق.

(3)

إذا وضع السائل المعلق عليه شيء في إناء ناضح نضح السائل وحده

وبقي الجسم المعلق في داخله.

(4)

توجد آلة تسمى (المبعدة عن المركز) إذا وضع فيها سائل عليه

أشياء معلقة وأديرت بسرعة شديدة طردت الأشياء الثقيلة إلى جهة دائر محيطها،

واقتربت الخفيفة نحو مركزها، وبذلك يمكن فصل الأجسام المعلقة بعضاه عن

بعض، وهذه الآلة تستعمل في فصل زبدة اللبن عنه فنجد فيها الزبدة بقرب المركز

لخفتها، وكذلك تستعمل في فصل كريات الدم عن بقيته؛ فتوجد الكريات عند

محيطها لثقلها.

ولفصل الجسم الذائب عن السائل عنه طريقة شهيرة وهي التبخير السريع أو

البطيء. والسائل الذي يبخر إذا برد وجمع يسمى مقطرًا، وهو يكون خاليًا من

جميع الأجسام التي كانت ذائبة فيه إلا التي تتصاعد بالحرارة كالروائح الزكية

وغيرها.

وهذه سنة الله تعالى في استخراج ماء المطر من البحار كما قال الله تعالى:

{أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} (النازعات: 31) ويستعملها الإنسان لاستخراج

المِلح لطعامه، ولاستخراج الماء العذب من الماء الملح إذا كان مسافرًا في البحار

المحيطة.

وتختلف الأجسام في الذوبان باختلاف أنواعها فمنها ما يذوب كثيرًا، ومنها ما

يذوب قليلاً، ولها كلها في الذوبان نسب خاصة ثابتة، وكلها تحتاج لحرارة في

ذوبانها فتختلف النسَبُ حينئذٍ باختلاف درجة الحرارة، فإذا كانت الحرارة كثيرة

ذاب كثير وإذا كانت قليلة ذاب قليل، ولا يستثنى من ذلك إلا أجسام قليلة كمِلح

الطعام الذي يذوب في الماء البارد كالساخن مع فرق طفيف.

وإذا أذيب في السائل في درجةٍ ما أكبر مقدار يمكن إذابته فيه في هذه الدرجة

سمي السائل مشبعًا، وهذه الطريقة تسمى سنة (الإشباع) .

وإذا أشبع السائل وهو حار بمقدارٍ ما من الملح ثم برد السائل رسب من الملح

ما ذاب في حالة السخونة وبقي مقدار قليل ذائبًا يناسب الدرجة التي وصل إليها

الماء في برودته.

وهذه الأجسام الراسبة تتخذ أشكالاً هندسية بديعة عجيبة في أثناء رسوبها

تسمى (البلورات) وكما أن الرسوب يحصل إذا اختلفت الحرارة من عالية إلى

واطئة، كذلك يحصل إذا قل مقدار السائل بالتبخر. ومما يساعد على رسوب الأجسام

من السائل المتبخر وجود أي جسم غريب فيه يكون كمبدء للرسوب، وكما أن

الرواسب تحصل في الخارج إذا انخفضت حرارة السائل أو وضع فيه جسم غريب،

كذلك يجوز أن تتكون الحصوات في الجسم الإنساني (كالحصوات الكلوية

والصفراوية) من انخفاض حرارته فجأة في بعض الحميات ومن وجود بعض

أجسام غريبة في داخله كبويضات الديدان الطفيلية. وهذا من جهة، ومن جهة

أخرى فإن أكثر الحصوات الكلوية هي من حامض البوليك، وهو يكثر إفرازه

في الحميات ويرسب في البول إذا اشتدت حموضته؛ فلذا أرى أن الحميات هي

من أعظم أسباب الحصوات الكلوية؛ لأن البول يكثر فيه هذا الحامض ويكون

شديد الحموضة فلذا يرسب فيه حامض البوليك وأملاحه خصوصًا إذا انخفضت

الحرارة.

أما ذوبان الغازات في السائل كالماء فإنه يختلف في أحكامه عن الأجسام

الصلبة، فالغازات تذوب بكثرة كلما اشتدت برودة السائل وكلما زاد الضغط عليها،

وهي في ذوبانها كباقي الأجسام الأخرى تختلف أيضًا باختلاف طبيعتها، فمنها ما

يذوب كثيرًا ومنها ما يذوب قليلاً.

ولولا ذوبان الهواء في الماء لماتت الحيوانات البحرية، فإنه ضروري لحياتها

كالحيوانات البرية سواء بسواء. أما الأكسجين الموجود في الهواء الذائب فهو بنسبة

خمسة وثلاثين في المائة من حجمه. وفي الهواء العادي 21 % وهذه الحقيقة

الأخيرة تثبت أن الأكسجين في الهواء ليس متحدًا اتحادًا كيماويًّا مع النيتروجين؛

بل ممزوجًا به فقط، ولذلك اختلفت النسبة في حالة الذوبان عنها في الجو.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

وظائف الأعضاء.

(2)

التشريح الدقيق.

(3)

علم الميكروبات أو الجراثيم.

(4)

أي جوهر فرد من الكربون (الفحم) متحد مع جوهرين من الأكسجين في كل ذرة من ذرات الغاز.

(5)

البترول معناه زيت الصخر أو الحجر؛ لأنه ينبع منه، وتسميه العامة بالجاز أو الكاز.

ص: 853

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الامتيازات

والشريعة الإسلامية [*]

الأسباب التي تحمل الدول الأوروبية على صيانة الامتيازات الأجنبية في

تركيا - الشريعة الإسلامية قائمة على القرآن لا تساوي بين المسلم وغير المسلم.

أعلنت الحكومة العثمانية أنها ألغت امتيازات الأجانب في بلادها فاحتجت

الدول الأوروبية والولايات المتحدة على هذا العمل الذي خرقت به تركيا المعاهدات

الدولية، وعلت الأصوات بالشكوى من الحالة السيئة التي يصير إليها الأجانب في

تركيا فيما لو أُلغيت الامتيازات المذكورة وصار الأجانب في تركيا مثل العثمانيين

خاضعين للمحاكم الأهلية، ولم يبق لهم الحق على رجوعهم إلى محاكم قنصلياتهم

في دعاويهم المدنية والجنائية.

وقد عثرنا على مقالة خطيرة في هذا الشأن لأحد الكَتَبَةِ السياسيين في جريدة

الصن النيويركية أردنا تلخيصها إتمامًا للفائدة، قال:

لا الولايات المتحدة ولا دولة أخرى أجنبية نصرانية ترضى أن رعاياها الذين

لهم مصالح في تركيا والذين لسبب من الأسباب اضطروا أن يسكنوا فيها مؤقتًَا أو

دائمًا - أن يكونوا خاضعين للمحاكم القضائية القائمة على تعاليم القرآن، فطرائق

العدالة الإسلامية شرقية بلفظها ومعناها، وطرائق العقاب الإسلامية بلغت من

القساوة مبلغًا عظيمًا بحيث إن الحكومة الأجنبية التي تترك رعاياها تحت رحمة

محاكم تركيا الوطنية تخسر ثقة شعبها.

وفضلاً عن ذلك أن الأجانب بعد إلغاء هذه الامتيازات لا يكونون تحت رحمة

تلك المحاكم الجائرة فقط؛ بل يعرضون نفوسهم لضرائب فادحة فإن الحكومة

العثمانية التي تنفق أموالاً طائلة على جنديتها وبحريتها وعليها دين وطني وأجنبي

عظيم، وهي منكوبة بأشد أزمة مالية - لا بد أن تضرب في المستقبل ضرائب

فادحة على الأجانب في بلادها، بعد أن نضبت مواردها الوطنية بكثرة ما وضعته

عليها من الضرائب الباهظة.

ولا يقدر الباب العالي أن يمنح الحكومات الأجنبية شيئًا يذكر في مقابل

موافقتها على إلغاء الامتيازات الأجنبي في تركيا، فالحكومة الحاضرة في الآستانة

غير قائمة على أساس ثابت؛ بل هي دائمًا تحت رحمة أناس مغامرين متهوسين

نظير أنور باشا ناظر الحربية السابق (؟) أو المسيطر الحقيقي على تركيا، الذي

تلطخت يداه بدم ناظم باشا القائد العثماني الشجاع المقتول بخيانة جبانة. ولذلك

باتت الحكومة العثمانية تحت خطر دائم، ولا يبعد أن تقع ثورة في الغد تسقط هذه

الحكومة وتلغي الدستور وتنقض كل الاتفاقات التي عقدتها الحكومة السابقة، وتعيد

الحكم الاستبدادي بما يرافقه من جور وفظاعة.

وما لابد من ذكره أن امتيازات الأجانب في تركيا لم تؤخذ منها بالقوة؛ بل

هي منحتها مختارة، ومنشأها احتقار المسلم الشديد لكل من هو غير مسلم، فالإسلام

لا يقدر أن يتصور وجود مملكة مختلفة، فهو لا يحسب حسابًا إلا للبلاد التي كل

سكانها مسلمون، ويعتقد أن العالم كله سيؤلف في آخر الأمر مثل هذه المملكة.

هذا من جهة النظريات، أما من الوجه العملي فالمسلم لا يكترث لوجود غير

مسلم في بلاده، ولا يعترف بمساواة غير المسلم به. وبالتالي إن المسلمين لا يهمهم

ما يفعله غير المسلمين ويتفكرون به ما زالوا خارجين عن دائرة الإسلام.

والذي يستحق الذكر أيضًا أن الإسلام انتشر بالفتح لا بمساعٍ سلمية، وقد

استعان المسلم الفاتح على إدارة شؤون البلدان التي فتحها بالطرائق الإدارية التي

وجدها مرعية فيها، وقد رأى في تلك البلدان دوائر روحية للنصارى واليهود أبقاها

على حالها، وصار الأساقفة والحاخاميون ورؤساؤهم المسؤولون واسطة بينهم وبين

الحكام المسلمين.

وعلى هذه القاعدة صار الأجانب الساكنون والمتاجرون في تركيا وبلاد فارس

ومصر وبقية الممالك الإسلامية تحت سيطرة قناصلهم القضائية أولاً باستمرار

العادة، وثانيًا بعقد معاهدات. ولم ينالوا هذا الأمر من باب الامتياز بل من وجه

أنهم أحط من أن ينتفعوا بمنافع العدالة الإسلامية القائمة على القرآن.

وقد فتحت عن هذه الطريقة شريعة الامتيازات الخارقة العادة التي أعفت

السفير الأجنبي وبيته وأملاكه من القضاء العثماني، وتناولت هذه الشريعة رعايا

دولته الأصليين والمجنسين بجنسيتها. ومع نقصان قوة المملكة الإسلامية وازدياد

قوات الدول الأجنبية كانت امتيازات الأجانب تزداد قوةً وأهمية في البلدان الخاضعة

للحكم الإسلامي حتى أصبحت المستعمرات الأجنبية في كل مملكة إسلامية أشبه

بممالك صغيرة ضمن مملكة كبيرة.

ومن الأدلة على أن الامتيازات الأجنبية في الممالك الإسلامية لم تُنَل بالقوة أن

سويسرا والبرتوغال والبلجيك تتمتع في تركيا وبلاد فارس ومصر بنفس

الامتيازات التي تتمتع بها الولايات المتحدة وإنكلترا وفرنسا وروسيا وألمانيا

وغيرها من الدول العظمى.

هذا وإن كثيرين من رجال الحكومة العثمانية نظير أحمد رستم بك السفير

العثماني في واشنطون المتعصب لإسلامه الجديد - يقولون: إن قوانين تركيا

المدنية والجنائية لا تنقص بشيء عن القوانين الغربية بعد أن وضعها مشترعون

عثمانيون وأوروبيون.

إنهم مصيبون في قولهم، فالقوانين العثمانية خليط بين نظام نابليون والشريعة

الإسلامية وملتقى الأنهر، ولكنها موجودة بالاسم فقط، فإن نجم الدين بك ناظر

العدلية في الحكومة العثمانية الجديدة أدرى الناس بهذا الأمر، فقد رفع بالأمس

تقريرًا عن الإصلاحات التي أدخلتها حكومته على دوائر الشريعة والقضاة وإنفاذ

النظام الجديد، ولما سئل عما إذا كان هذا النظام يساوي بين المسلم والنصراني

واليهودي أجاب بكلام لا يحتمل الريب، وقال: (إن هذا الأمر يستحيل على

المسلم أن يتصوره فهو لا يفكر به أبدًا) .

وبناء على ما تقدم يظهر أن نظام العدل في تركيا ديني غير خاضع لناظر

العدلية كما هو في بقية الحكومات؛ بل لشيخ الإسلام الذي ليس رئيس رجال الدين

الإسلامي في المملكة العثمانية فقط؛ بل قاضيها الأكبر، فلا مرد لحكمه ولا

اعتراض على فتواه. وهو يرأس مرتين في الأسبوع محكمة العدل العليا المتصلة

بقصره في إستامبول.

ولشيخ الإسلام سيطرة على الأمة والعلماء والمتصوفة، وعلى رؤساء الكليات

الدينية والمحاكم القضائية، فكل القضاة في محاكم تركيا العليا والبدائية ينالون

مناصبهم منه وهم تحت نفوذ ديني شديد، بدليل أن مرتباتهم المالية تؤخذ من ريع

الأوقاف الإسلامية التي هي ثلاثة أرباع العقارات المدنية في المملكة العثمانية، وقد

رافقت أُجَّارها من الفلاحين شروط جائرة: منها أن الفلاح المستأجر بعضها إذا

مات بدون عقب فأرضه تعاد إلى الأوقاف لأنه لا يقدر أن يتركها لأرملته أو أحد

أنسابه.

ولا يمكن حمل مفسري الشريعة الإسلامية على جعلها حديثة، أو إقناعهم بأن

الأحكام تتغير بتغير الأزمان، وبأن الأزمنة قد تغيرت منذ أربعة عشر قرنًا حين

وضع النبي محمد الشريعة الإسلامية في بلاد العرب لتنطبق على حاجات أبناء

البادية وسكان الوبر. فشيخ الإسلام في الآستانة والمفتي الأكبر في القاهرة وكل

قاض مسلم كبيرًا كان أم صغيرًا يعتبرون الحَيَدَان عن تعاليم النبي محمد خطيئة

مميتة أو جريمة ضد الأشياء المقدسة.

ومن الأدلة على عدم إمكان تطبيق أحوال النصارى على منطوق الشريعة

الإسلامية ما جرى في القاهرة سنة 1910 حين رفض المفتي الأكبر الموافقة على

إعدام الورداني قاتل بطرس باشا غالي رئيس الوزارة المصرية والأول مسلم

والثاني نصراني قبطي، وكانت حجة المفتي في عدم الموافقة على إعدامه أن

الشريعة الإسلامية لا تحكم بإعدام المسلم لقتله نصرانيًّا، فالمسلم الذي يقتل نصرانيًّا

لا يعتبر مجرمًا في نظر الشريعة الإسلامية.

وقد استغربت الحكومة الإنكليزية هذه الفتوى ولم تعمل بها، وشنقت الورداني

غير مكترثة لفتوى المفتي الأكبر الذي ذكر سببًا آخر لامتناعه عن الفتوى بإعدام

الورداني فقال: إنه لم يرد في القرآن ذكر للمسدسات، ولا في الشريعة القائمة على

الحديث، ولذلك لا يعتبر المسلم بالشريعة المقدسة مجرمًا إذا استعمل المسدس لجرح

أو قتل.

وزبدة القول: أن فتوى مفتي الديار المصرية في عدم تجريم مسلم يقتل

نصرانيًّا، وقول ناظر العدلية العثمانية باستحالة مساواة النصراني واليهودي بالمسلم

أمام الشريعة العثمانية - حجة قاطعة تحتج بها دول أوربا والولايات المتحدة في عدم

تنازلها عن الامتيازات الأجنبية في تركيا والسماع للباب العالي بإلغائها.

***

تفنيد مزاعم السياسي الأمريكاني

في الشريعة الإسلامية

يتوهم كثير من الشرقيين ولا سيّما المتفرنجين منهم أن كُتاب السياسة والتاريخ

وعلماء القوانين والشرائع من الإفرنج لا يكتبون في جرائدهم الشهيرة ومصنفاتهم

إلا الحقائق الثابتة التي قتلوها بحثًا وتدقيقًا وتمحيصًا. ويظن الذين يسيئون الظن

بالإفرنج ويتهمونهم بالتعصب وغمط حقوق الشرقيين كافة والمسلمين خاصة؛ أنه لا

يكاد يوجد فيهم عارف منصف يقول الحق إذا كان لغير قومه لا لهم، ولا حظ لهم

فيه، والمحققون المعتدلون يعلمون أن المستقلين فيهم كثيرون، ويظنون أن

الأمريكيين منهم أقرب إلى الإنصاف، وأبعد عن الجور والاعتساف فيما يحكمون

به على الشرق والإسلام ويصفونهما به؛ لأنه ليس بين الأمريكيين والشرقيين من

المنازعات والمطامع السياسية مثل ما بين الأوربيين والشرقيين. وهؤلاء

يستغربون مثل هذه المقالة من سياسي أمريكي في جريدة أمريكية شهيرة.

بل أقول: قد يستغرب مثل هذه المقالة كل من قرأها من أبناء العربية في مصر

وسوريا بقدر احترامه للأمة الأمريكية الجليلة؛ لأنه لا يستطيع أن يبرئ الكاتب

من إحدى الخلتين: الجهل أو التعصب الحامل على قول الزور، فإن من لم يعلم

من أهل هذه البلاد أن ما حكم به الكاتب على الإسلام زور وبهتان كقليلي الاطلاع

من النصارى - يعلم أن ما نسبه إلى مفتي مصر من القول بأن الشريعة الإسلامية لا

تحكم بقتل المسلم الذي يقتل النصراني، قول باطل لم يقله ولا يمكن أن يقوله مفتي

مصر؛ لأن جميع الكتب التي يستمد منها نصوص الفتوى مصرحة بأن المسلم يقتل

بغير المسلم.

جعل الكاتب السياسي العلة الأولى لوجوب عدم رضاء الدول بالخضوع

للمحاكم العثمانية هي كونها قائمة على تعاليم القرآن وكون المسلم يحتقر غير المسلم

ولا يعترف بمساواته له.

ماذا عرف هذا الكاتب من أحكام القرآن في العدل والمساواة، ومن أين

استنبط حكمه عليه؟

قال الله تعالى في مسألة الحكم بين اليهود وكانوا أشد الناس عداوة للنبي

صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين من جميع مَن ناصبوه: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم

بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (المائدة: 42) والقسط هو العدل.

وقال تعالى في مسألة الحقوق والحكم العام بين الناس كافة من مسلم وغيره:

{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا

بِالْعَدْلِ} (النساء: 58) قال: بين الناس، ولم يقل: بين المسلمين.

وقال في العدل العام والشهادة التي هي ركن القضاء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِياًّ

أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الهَوَى أَن تَعْدِلُوا وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ

كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} (النساء: 135) أمر بالمبالغة في العدل وشهادة الحق،

ومنع أن يحابي أحد في ذلك نفسه أو والديه أو أحدًا من أقاربه أو غنيًّا لغناه أو

فقيرًا لفقره، وأن يتبع هوى نفسه في ترك شيء من العدل أو يحرف فيه أو يعرض

عنه. وكل هذه الآيات في سورة واحدة.

وقد نهى تعالى عن ترك العدل مع الأعداء، سواء كان في الأحكام أو الشهادة

كما نهي عن ترك العدل مع الأعداء، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ

شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى ألَاّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا

اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (المائدة: 8) الشنآن: البغض والعداوة؛ أي

ولا يكسبنكم ويحملنكم بغض قوم وعداوتهم لكم أو عداوتكم لهم على ترك العدل فيهم

إذا حكمتم بينهم أو شهدتم في خصام لهم.

وليست هذه الآيات كل ما في القرآن من الأمر بالعدل؛ بل ثَمَّ آيات أخرى

كقوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} (النحل: 90) وقوله:

{قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} (الأعراف: 29) ومثلها ما ورد في الميزان.

فليأتنا ذلك السياسي الذي يفر هو وقومه من حكم القرآن بمثل هذا التشديد في

الأمر بالعدل المطلق والمُفيَّد بالأعداء وتحريم المحاباة فيه - لعلة من العلل - من

التوراة أو الإنجيل أو كتب الأولين والآخرين. أما نحن فنستطيع أن نأتيه

بالنصوص والشواهد على عدم مساواة الإفرنج الأفريقيين والآسيويين بأنفسهم.

وأما المساواة فهي لم توجد على حقيقتها وإطلاقها وعمومها إلا في الإسلام،

كما تدل على ذلك النصوص والأعمال، وتشهد به تواريخ القرون والأجيال.

أما النصوص فحسبك منها ما تقدم من الآيات آنفًا فإنها أمرت بالتزام الحق

والعدل في الحكم والشهادة والمعاملة مع الموافق في الدين والمخالف، والغني

والفقير، والقريب والبعيد، والمحب الوديد، والعدو البغيض. وإنما يخرج الناس

عن صراط المساواة بمحاباة من يمت إليهم بصلة الدين أو لُحمة النسب ووشيجة

الرحم، أو رابطة الصداقة والمودة، أو من يطمعون في غناه أو يرحمونه لفقره،

وحينئذٍ يظلمون خصم من يحابونه، ومن الناس من يظلم كل من يخالفهم في دين أو

جنس، أو يبغضونه لسبب ما. وقد أتت الآيات على جميع ذلك.

وأما العمل فقد اشتهر عن الخلفاء الراشدين وغيرهم من أمراء المسلمين من

العدل والمساواة ما لم يؤثر عن غيرهم. وناهيك بقضية غضب علي المرتضى من

عمر الفاروق؛ لأنه كنَّاه وسمى خصمه اليهودي ولم يساوِ بينهما في التسمية كما

ساوى بينهما في سائر الأمور. واعترف عمر بذلك. ولا تنس مساواة عمر بين

الغلام القبطي وولد عمرو بن العاص فاتح مصر وأميرها. فأمثال هذه القضايا لا

يتجرأ أمريكاني ولا أوربي أن يدعي مثلها لحكومته! وكيف ومن قواعد حكومة

الولايات المتحدة التي هي من أرقى حكومات الغرب أن المساواة بين الأبيض

والأسود غير جائزة؟ بل رأينا بعض محاكمهم في هذه الأيام - ولا أقول في هذا

القرن الذي يضربون المثل بارتقاء البشر فيه - تنكر على السوريين حق الجنسية

الأمريكانية والتشرف بمساواة البيض، على عراقة السوريين في النسب السامي من

الجنس الأبيض وكونهم من وطن المسيح عليه السلام، الذي يعبده الأمريكيون

ويتخذونه ربًّا وإلهًا.

فالشريعة الإسلامية وحدها هي التي ساوت بين جميع البشر في الحقوق،

حتى إن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم كان يعد نفسه مساويًا لغيره

في الحقوق، وقصة اليهودي الذي جذبه من طوقه لدَين له لم يحل أجله، مشهورة.

وقد طلب من الناس في مرض موته أن يقتصّ منه مَن كانت له قِبَله مظلمة، فادّعى

عكاشة بن محصن رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم ضربه مرة على

عاتقه مكشوفًا فكشف له صلى الله عليه وسلم عاتقه ليضربه كما ضربه! !

وليس للخلفاء في الإسلام امتياز على أحد من الناس في الحقوق المدنية ولا

الجزائية، وكان الموالي والذميون والمعاهدون يتحاكمون مع الخليفة إلى القاضي

فيساوي بينهم. فإن كان العثمانيون قد قالوا في قانونهم الأساسي: (إن السلطان

مقدّس وغير مسئول) وجعلوه من قبل ذلك لا يحاكم ولا يخاصم، فهم إنما أخذوا

ذلك عن الأجانب غير المسلمين.

وإننا نعد من استعلاء الإفرنج بقوتهم على ضعفنا تحكمهم بذم كل شيء لنا أو

عندنا، وإن كانوا لم يعرفوا كنهه ولا وقفوا على حقيقته، كأنهم يرون أن الحق

والفضيلة والخير وكل ما يمدح لا يكون إلا للأقوياء أصحاب المدافع الكبيرة والذهب

الكثير؛ بل هذا مذهب معروف صرّح به كثير من فلاسفتهم وساستهم، وهم

يجرون عليه في مستعمراتهم.

ولولا اطلاعنا على أقوال العلماء المستقلين والحكماء الراسخين في وصف

الإسلام والمسلمين كغوستاف لوبون وجبون، وأضرابهما - لظننا أنه لا يوجد

في الإفرنج كلهم عارف منصف يقول الحق الذي يعتقده.

يقول الكاتب الأمريكي: إن المسلمين أعطوا الأجانب ما أعطوهم من امتياز

الحكم فيما بينهم طوعًا واختيارًا؛ لأن الإسلام لا يقدر أن يتصور وجود أناس غير

مسلمين يستحقون أن يتمتعوا بعدل الإسلام. فكأنه يقول: إن المسلمين يريدون بذلك

أن يتجاهلوا وجود أحد غير مسلم في الأرض!

وإنما المعروف من القرآن العظيم أن الله تعالى خيَّر رسوله صلى الله عليه

وسلم في الحكم بين اليهود في قضية عرضوها عليه، وأمره بأن يحكم بالعدل إذا

هو اختار الحكم بينهم في تلك القضية التي كان لهم فيها هوىً بيناه في التفسير من

عهد قريب. ثم قال: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} (المائدة:

49) فقيل هذا ناسخ للتخيير وقيل غير ناسخ.

فمن هنا أخذ المسلمون أن حكامنا مخيرون في غير المسلمين بين الحكم

بينهم وبين السماح لهم بأن يحكموا بشريعتهم فيما بينهم. ولغلبة الحرية الدينية

والتسامح في الإسلام واحترام عقائد الناس سمح الخلفاء والملوك لغير المسلمين بأن

يتحاكموا إلى رؤساء دينهم في الأمور الشخصية، وكذا في غيرها أحيانًا إذا كان

خاصًّا بهم. فهذه المبالغة في الحرية والتسامح واحترام المخالفين، كان يجب أن

يطري به الأمريكي وغيره الإسلام والمسلمين، فما كان منه إلا أن قلب الحقيقة،

وعكس القضية، فجعل ما يقتضي الإطراء في المدح، موجبًا للإسراف في الذم

والقدح! !

ثم إن الكاتب أخطأ فيما نقله عن شيخ الإسلام في حكومة الآستانة كما أخطأ

فيما نقله عن مفتي الديار المصرية، فهل يوثق بعلمه بالشريعة الإسلامية نفسها

وبأحكامها، وهو لا يوثق بعلمه في الأمور الرسمية التي تقع في عصره، وهو لا

يحتاج فيها إلى علم واسع، بل يكفي فيها التثبت في النقل، وإننا نحمل كلامه على

الخطأ وسوء الفهم، وعدم التثبت في النقل، ونربأ به عن تعمد الكذب، لمحض

الغلو في التعصب.

الجهل والخطأ أهون من الكذب، وشر الكذب ما حمل عليه التعصب واحتقار

الأمم، وأقبحه ما صدر ممن يدعي الحرية والإنصاف، ويحتكر لنفسه وقومه

فضيلة العدل والمساواة، ولولا الأدب مع الكاتب لاحترام أمته لقلنا أنه كذب شر

الكذب وأقبحه على الإسلام والمسلمين عامة، وعلى ناظر العدلية العثماني إذ زعم

أنه قال: إنه يستحيل على المسلم أن يتصور المساواة بين المسلم أو النصراني

واليهودي، وعلى مفتي الديار المصرية إذ زعم أنه احتج على امتناعه من الإفتاء

بقتل قاتل بطرس باشا بأن الشريعة لا تحكم بإعدام المسلم لقتله نصرانيًّا ولا تعده

مجرمًا.

وليس الخطأ في كلمات أو وقائع أسندت إلى بعض الرجال بأقبح منه في

الشرائع والنظام العام، ومنه قول الكاتب: إن نظام العدل في تركية ديني غير خاضع

لناظر العدلية، وإن شيخ الإسلام في الآستانة هو القاضي الأكبر الذي لا مرد لحكمه،

وإنه يرأس مرتين في كل أسبوع محكمة العدل العليا المتصلة بقصره في إستانبول،

وإن له السيطرة على الأمة وعلى العلماء والمتصوفة، وعلى رؤساء الكليات

الدينية والمحاكم القضائية، وإن جميع القضاة في المحاكم التركية الابتدائية والعالية

ينالون منه مناصبهم وهم تحت نفوذ ديني شديد.

وليست هذه المزاعم بأغرب من الاستدلال عليها بكون مرتبات مَن ذكر من

القضاة وغيرهم تؤخذ من الأوقاف الإسلامية، ومِن زَعْم الكاتب أن تلك الأوقاف

هي ثلاثة أرباع العقارات المدنية في المملكة العثمانية.

شيخ الإسلام ليس قاضيًا لمحكمة تسمّى العدل العليا، ولا سيطرة له على

الأمة ولا على محاكم العدلية المدنية والجنائية، ولا هو يعين أحدًا من قضاة هذه

المحاكم؛ بل يعين رؤساءها ناظر العدلية، وأعضاؤها ينتخبون انتخابًا من الأهالي

المسلمين وغير المسلمين، ويأخذون مرتباتهم من خزينة الحكومة لا من الأوقاف

الإسلامية، والأوقاف الإسلامية ليست ثلاثة أرباع العقارات ولا ربعها ولا عشرها،

وليس شيخ الإسلام ناظرًا للأوقاف ليكون مسيطرًا على مَن يأخذ مرتبًا منها.

نعم إن شيخ الإسلام هو الذي يولي القضاة الشرعيين الذين يحكمون بين

المسلمين في الأمور الشخصية، وهؤلاء تستأنف أحكامهم وتميز في باب المشيخة

الإسلامية، في مجالس لها رؤساء غير شيخ الإسلام، ومرتباتهم كمرتبات قضاة

المحاكم المدنية تؤخذ من خزينة الحكومة. في باب المشيخة رئيس للمدارس الدينية

التي بناها السلاطين في الآستانة وغيرها يسمى وكيل الدرس، وبالتركية (درس

وكيلي) ، ولهذه المدارس أوقاف خاصة بها تديرها نظارة الأوقاف.

ولا حاجة إلى تفنيد كلامه في إجارة الأوقاف الإسلامية وعيبه إياها بأن

المستأجرين لها لا يتركونه إرثًا لأولادهم، فإن أجهل الناس في كل أمة وملة يعلمون

أن المستأجر لا يكون مالكًا حتى يترك ما استأجره إرثًا لأولاده.

بقي مما يؤبه له: كلامه في تعذر إقناع مفسري الشريعة الإسلامية بأن الأحكام

تتغير بتغير الأزمان، وبأن الأزمنة تغيرت عما كانت عليه منذ أربعة عشر قرنًا،

وأن الشريعة الإسلامية وضعت في بلاد العرب لتنطبق على حاجات أبناء البادية

فهذا الكلام لا نلومه عليه؛ لأنه قلد فيه كثيرًا من الأوربيين الذين لا يخطر في بال

مثله أن كلامهم لا يؤخذ على علاته. وهذا التعليق لا يتسع لإطالة الكلام في بيان

الحق في هذه المسألة، فنكتفي بكلمة وجيزة نقولها له ولأمثاله وهي:

إن مفسري الشريعة الإسلامية لا يحتاجون إلى الإقناع بأن الأحكام تتغير بتغير

الأزمنة فكلهم يعرفون ذلك، وطالما قرّروه في كتبهم، وأقدم كلمة يروونها في

التصريح بذلك عن إمامٍ في العلم والحكم من أهل العصر الأول ما قاله عمر بن عبد

العزيز الذي يعده المسلمون خامس الخلفاء الراشدين في علمه وعدله وهو: (يحدث

للناس أقضية بحسب ما أحدثوا من الفجور) ومثله ما يُحدِثونه من غير الفجور

أيضًا. ويعلمون أيضًا أن الزمان مخالف للزمان الذي وجدت فيه الشريعة الإسلامية،

ويعلمون أن الشريعة الإسلامية وضعت لتنطبق على حاجات أبناء البادية كما يعلم

الكاتب وأمثاله.

ويعلمون أيضًا ما لا يعلمه هو وأمثاله؛ وهو أن هذه الشريعة وضعت لتنطبق

على حاجات أهل الحضر في ذلك الزمان وفي كل زمان ومكان أيضًا، وكان لهم

في الشرق وفي الغرب حضارة كحضارة بغداد والأندلس، وأن الشريعة الإسلامية

كانت مطبقة عليها ولم يكن عندهم شريعة غيرها، وأن عدلها هو الذي جعل الناس

يخضعون لها مختارين ولولا ذلك لم يستطع أولئك الشراذم من العرب فتح الشرق

والغرب في جيل واحد. فالدين الإسلامي هو الذي أوجد الحضارة والفتوحات

بطبيعته لا بقوة سيوف أهله، ولم تكن الفتوحات الموجدة أو الناشرة له.

وقد بيّن علماء الشريعة أن معنى سعتها وموافقتها لمصالح الناس من بدوٍ

وحضرٍ في كل زمان ومكان هو كون قواعدها العامة مبنيّة على أساس الشورى

والعدل والمساواة، واعتبار عرف الناس الحسن في معاملاتهم، ودرء المفاسد

وجلب المصالح ودفع الضرر والضرار، وكون أولي الأمر ورجال الشورى فيها

يجب أن يكونوا من أهل الاجتهاد القادرين على استنباط الأحكام التي تمس إليها

حاجة الناس في سياستهم وأقضيتهم. ولم يقل أحد من أئمة هذه الشريعة ما يدّعيه

هذا الكاتب وأمثاله من أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع أحكامًا تفصيلية لجميع

ما تحتاج إليه أمته في زمنه - دع سائر الأزمنة - وأنه يحرم على سائر المسلمين

أن يزيدوا فيها شيئًا تقتضيه المصلحة؛ بل صرح بعض الأئمة بأن مراعاة المصالح

في كل زمان ومكان أصل من أصول هذه الشريعة يتفرع عنه ما لا يحصى من

الأحكام. وقد شرحنا هذه المسألة وفصلناها غير مرة في تفسير القرآن الحكيم وفي

غيره من مباحث المنار.

نعم إن حكام المسلمين والمشتغلين بالعلم منهم قصروا منذ قرون فيما يجب

عليهم من الاجتهاد في الشريعة، وجمدوا على بعض الكتب التي ألفها مَن قبلهم،

فجنوا بذلك على أنفسهم وعلى ملتهم، وكان من آثار هذا الجمود والجهل أن لجأت

بعض حكوماتهم إلى الاستمداد من القوانين الأوربية كما نقل الكاتب عن السفير

العثماني في بلاده بعد أن كان الأوربيون يستمدون من كتب شريعتنا كما فعل نابليون

الأول. ولكن نابليون اقتبس من شريعتنا في قانونه ما رآه موافقًا لمصلحة أمته،

وأمّا حكامنا فإنهم صاروا يأخذون من قانونه ومن سائر القوانين الأوربية ما يوافق

مصالح أمتهم وما يخالفها، ذلك بأن نابليون اقتبس بعقلٍ واجتهاد، وحكامنا يقلّدون

الإفرنج تقليدًا، ومن هذا الجمود توقف بعض المتفقهة عن جعل القتل بالرصاص

كالقتل بالسيف أو السكين، ولولا هذا الجمود لما اضطروا الحكام الجاهلين بالشريعة

إلى الالتجاء إلى قوانين الأمم الأخرى، فهذا شر عواقب جهل رؤسائنا بأصول

شريعتنا وتركهم الاجتهاد الواجب فيها، والأئمة متفقون على اشتراط الاجتهاد في

الحكام والمفتين، ولكن مَن ينفذ هذا الشرط.

ومن التناقض في كلام الكاتب أنه جعل العلة لنفور الأجانب من الخضوع

للمحاكم العثمانية هي كونها تستند في أحكامها إلى أحكام القرآن المنافية للعدل

والمساواة، ثم اعترف بأن العثمانيين أخذوا معظم قوانينهم عن الأوربيين. وليته

يعلم أنهم لو حكموا بين الأجانب بما يأمر به القرآن لكان خيرًا لهم؛ لأنهم حينئذٍ

يحكمون بعدل كامل يقيمونه بالإخلاص سرًّا وجهرًا، وليست حالهم في القوانين

كذلك. وهذا وإن الحقائق التي أشرنا إليها يعرفها كثير من الأوربيين، ويصرّح بها

بعض المستقلين. وقد نقلنا من عهد غير بعيد قول لورد كتشنر لعضوٍ من أعضاء

مجلس الأمة العثماني أن هذه القوانين لا توافق حال العثمانيين كما توافق حال مَن

أخذوها عنهم، وقوله: إن عندكم شريعة عادلة تنطبق على مصالحكم، فخير لكم

أن تعملوا بها.

وقد كان لورد كرومر كتب في آخر تقرير له عن مصر كلمة في الشريعة

الإسلامية في معنى كلمة الكاتب الأمريكي من حيث موافقتها هذا الزمان وعدمها،

فكتبت إليه كتابًا قلت له فيه: إذا كان يعني بما كتبه الدين الإسلامي الذي هو القرآن

والسنة فأنا مستعد لأن أبيِّن له أن معظم ما جاء فيهما من الأحكام القضائية

والسياسية قواعد عامة توافق مصلحة البشر في كل زمان ومكان؛ لأن أساسها درأ

المفاسد وجلب المصالح بحكم الشورى. وإن كان يعني كتب الفقه الإسلامي فتلك

من وضع الناس، فيها كثير من آرائهم التي ينتقدها عليهم غيرهم.

فأجابني عن ذلك بأنه يعني بما كتبه مجموعة القوانين الإسلامية التي تسمى

الفقه، قال: (ولم أعنِ الدين الإسلامي نفسه، ولذلك قلت في هذا التقرير وفي غيره

بوجوب مساعدة الحزب الإسلامي الذي يطلب الإصلاح ويسير مع المدنية من غير

أن يمس أصول الدين) .

ونص كتابي وكتابه في ذلك مطبوعان في ص 231، 232 من مجلد المنار

العاشر.

أكتفي بهذه العجالة في الرد على الكاتب الأمريكي، وكان لي أن أوجه

كلمة عتاب إلى رصيفنا صاحب جريدة الهدى الذي ترجم هذه المقالة وصدرها

بمقدمة تدل على إقرار كاتبها على ما كتبه، ولم يعقب عليه بكلمة إنكار. ولكنني

أستبدل بالعتاب الرغبة إلى إنصافه بأن ينشر هذا الرد في جريدته وينبّه (جريدة

الصن) إلى ما يجب عليها من ترجمته ونشره لتنسخ ذلك الباطل بالحق اليقين،

وحيَّا الله الإنصاف والمنصفين.

_________

(*) هذه المقالة لكاتب أمريكي ترجمتها بالعربية جريدة الهدى العربية السورية التي تصدر في نيويورك فرأينا أن ننقلها عنها ونعلق عليها ما فيه العبرة.

ص: 868

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تاريخ إعلان الدول الحرب

ذكرنا من قبل إعلان أكثر الدول للحرب، والآن نعيده مستوفى فنقول: أعلنت

النمسا الحرب على الصرب في 28 يوليو سنة 1914. وأعلنتها ألمانيا على روسيا

في 1 أغسطس، وفي 4 أغسطس أعلنتها على البلجيك وفرنسا وفي منتصف ليل 5

أغسطس أعلنت إنكلترا الحرب على ألمانيا. وفي 6 أغسطس أعلنتها النمسة على

روسيا، وفي 7 أغسطس أعلنها الجبل الأسود على النمسا. وفي 10 منه أعلنتها

فرنسا على النمسا، وفي 12 منه أعلنتها إنكلترا على النمسا.

وفي 17 منه أعلنها الجبل الأسود على ألمانيا، وفي 23 منه أعلنتها اليابان على

ألمانيا، وفي 26 منه أعلنتها النمسا على اليابان.

_________

ص: 880

الكاتب: محمد توفيق صدقي

مدرسة دار الدعوة والإرشاد

دروس سنن الكائنات

محاضرات علمية طبية إسلامية للدكتور محمد توفيق صدقي

(2)

(المطر)

{اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ

كِسَفًا فَتَرَى الوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} (الروم: 48) .

المطر يتولد من تصاعد بخار مياه البحار وغيرها، والعمدة في تبخيرها

حرارة الشمس. والفرق بين الغليان وبين هذا التبخر التدرجي هو أن التبخر

يحصل من سطح السائل فقط، وفي حالة الغليان ينبعث البخار من جميع أجزاء

الماء.

أما الحرارة اللازمة للتبخر في الحالتين فكميتها واحدة.

وتتولد الحرارة أيضًا في مياه البخار من احتكاك بعض ذراتها ببعض ومن

احتكاك الهواء بسطح البحر. وعمل الريح ضروري جدًّا لتولد السحاب من البحر،

ذلك:

(1)

أنه باحتكاكه بسطح البحر يولد حرارة تساعد على التبخر.

(2)

وأنه يحمل معه كثيرًا من ذرات الماء بمجرد هبوبه عليه حملاً آليًّا

(ميكانيكيًّا) .

(3)

وأنه يسوق الهواء الذي شبع بالماء ويرفعه إلى السماء ليحل محله

هواء آخر خالٍ من الماء، وبذلك يزداد تبخر البحر، ولولا ذلك لوقفت حركة

التبخر لامتلاء الهواء الذي على سطح البحار بالماء.

لذلك قال الله تعالى:] اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا [أي تهيجه

وتحركه وترفعه عن سطح البحار كما ترفع التراب عن الأرض.

والماء يوجد في الهواء بصور مختلفة أشهرها الطل والضباب والبَرَد

والصقيع والمطر. ففي حالة البَرَد والصقيع يكون الماء متجمدًا، وفي حالة

الضباب والطل والمطر يكون سائلاً، والفرق بين هذه الأحوال إنما هو في درجة

الحرارة فقط.

وإذا اجتمعت ذرات الضباب بعضها ببعض سقطت إلى الأرض بصورة طل

أو مطر وإذا اجتمعت ذرات البرد بعضها ببعض سقطت إلى الأرض بصورة قطع

صغيرة من الثلج تسمى الصقيع.

وعليه فلا فرق بين أنواع السحاب سواء أكانت قريبة من سطح الأرض أم

بعيدة عنه، فهي على كل حال عبارة عن ذرّات صغيرة جدًّا من الماء السائل أو

المتجمد.

وفي أثناء سقوط المطر يختلط بالهواء فيذوب فيه بالنسبة التي سبق بيانها،

وكذلك يختلط بكل ما يوجد في الهواء من تراب أو أي غبار آخر أو جراثيم مَرَضية

أو غير مرضية

إلخ.

ولذلك يتلون المطر في بعض البلاد بألوان مختلفة كالأسود والأحمر بحسب ما

يختلط به.

فماء المطر وإن كان أنقي ماء في الكون إلا أنه ليس أنقى من الماء المقطر

الذي نحصل عليه صناعيًّا.

ومن هذه الأجزاء الذائبة في ماء المطر ما هو نافع للحيوانات والنباتات، فإن

الهواء الذائب في الماء ضروري للحيوانات البحرية ونافع للحيوانات البرية

كالإنسان.

فإنه يجعل الماء خفيفًا على معدته، بخلاف ما إذا كان خاليًا من الهواء،

وكذلك توجد بعض مواد ذائبة في ماء المطر كانت سابحة في الهواء، فإذا سقطت

إلى الأرض نفعت النباتات فتغذت منها، ولا تمتص النباتات شيئًا من الأرض ما لم

يذب في الماء. ومن الأشياء المختلطة بالمطر ما هو ضار كالجراثيم المَرَضِيَّةِ.

***

الأنهار والعيون

إذا نزل المطر إلى الأرض سالت منه أودية على سطحها تسمى بالأنهار

وامتصت الأرض جزءًا آخر منه يسيل في جوفها كالأنهار؛ وهو في الحقيقة أنهار

باطنية، وجميع هذه الأنهار الظاهرة والباطنة تتجه شطر البحار ونحوها.

ومن هذه الأنهار الباطنية تتفجر الينابيع ويستخرج ماء الآبار.

فجميع الماء العذب الذي يشربه الحيوان سواء أكان أصله من الأنهار أم من

الآبار أو الينابيع هو كله من ماء المطر. قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ

السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ} (الزمر: 21) الآية.

وإذا امتصت الأرض الماء أو سال على ظهرها اختلط بجميع ما يوجد فيها

من الأملاح وغيرها، ومن ذلك نشأ الاختلاف بين أنواع المياه لاختلاف تربتها،

فمنها العذب الفرات ومنها الملح الأجاج، وإن كانت في الأصل كلها عذبة.

أما سبب انفجار الينابيع [1] الطبيعية فهو اختلاف في مستويات طبقات

الأرض المتنوعة، فإذا كنا في بقعة من الأرض منخفضة عن باقي سطحها سهل

انفجار الينابيع فيها بنفسها أو بمساعدتنا، فإن من السنن الإلهية أن السوائل تميل

إلى الموازنة فلذا يصعد ماء الينبوع المتفجر حتى يساوي ماء النهر الباطن الذي

صدر منه.

والآبار نوعان: آبار قريبة وآبار عميقة؛ فالآبار القريبة هي التي يأتيها الماء

من الطبقة الإسفنجية [2] الأولى وهي عرضة لأن تتلوث بالمياه القذرة التي على

سطح الأرض أو بالمياه القريبة من هذه الآبار كالمراحيض.

والآبار العميقة هي التي يأتي إليها الماء بثقب طبقة الأرض البعيدة حتى تصل

إلى الطبقة الإسفنجية الثانية، وقد يرتفع الماء بنفسه في هذه الآبار بنوعيها إذا كان

مصدره عاليًا وقد نحتاج إلى الآلات لجذبه إلينا. والنوع الثاني من الآبار أبعد عن

التلوث من النوع الأول ويسمى بالآبار الأرتوازية نسبة إلى إقليم أرتواز (Artois)

بشمال فرنسا حيث حفرت أول بئر سنة 1126.

ولأجل صيانة الآبار عن التلوث يجب أن تراعى الشروط الآتية في حفرها:

الشرط الأول: أن تكون بعيدة عن جميع المنازل المسكونة بنحو 30 مترًا

على الأقل.

الثاني: أن لا تكون في الجهة البحرية للمنازل في بلاد مصر؛ لأن المياه

الباطنية في مصر تنحدر كمياه النيل من الجهة القبلية إلى الجهة البحرية وعلى ذلك

تكون الآبار المحفورة في الجهة البحرية في طريق المياه الملوثة من المنازل.

الثالث: أن تكون حيطان (جدران) هذه الآبار صقيلة، وأن تكون الآبار

دائمًا مغطاة.

ولسهولة الحصول على مياه صحية نقية توجد طريقة أخرى سهلة وهي

استعمال الطلمبات الحبشية لنرتون (Norton) وهي مؤلفة من أنابيب معدنية تدق

في الأرض إلى بعد عميق جدًّا وتكون الأولى منها ذات طرف دقيق (مدبب)

كالمسمار وجميع جوانبها مخرقة إلى بعد نحو قدمين، وفي نهاية هذه الأنابيب من

الجهة العليا يركب عليها طلمبة لجذب الماء.

والمياه التي تخرج بهذه الطلمبة نقية جدًّا؛ لأنها صادرة من أعماق الأرض

البعيدة ولا تتلوث بشيء مما على سطح الأرض أو في داخلها.

والأشياء التي توجد في المياه هي كما سبق نوعان: أشياء معلقة، وأشياء

ذائبة، أما الأشياء المعلقة فهي توجد في مياه الأنهار بكثرة عظيمة. وأما مياه الآبار

فإنها تكاد تكون خالية إلا من الأشياء الذائبة؛ لأنها تصفّى من خلال طبقات الأرض.

فالمياه الباطنية إذًا أقل ضررًا للصحة من مياه الأنهار الظاهرة كما لا يخفى،

وللحصول على ماء نظيف من مياه الأنهار الظاهرة يجب إما غليها أو تقطيرها أو

تصفيتها بالآلات المسماة بالنواضح (المرشحات) وقد يستعمل (الشب) لتنقية

الماء وهو لا ضرر فيه والسبب في فعله هذا أنه يتحد مع بعض أملاح الماء مثل:

(بيكربونات الجير) فيتكون ما يسمى هيدرات الألومنيوم [3] وهي مادة غروية

تريب إلى أسفل الإناء فتحمل معها كل ما كان معلقاً في الماء تقريبًا وبذلك يتنقى.

ويوضع الشب في الماء بنسبة جرام إلى كل 14 لترًا من الماء تقريبًا.

أما تنقيته بنوى المشمش المُرّ فهي ضارة؛ لأنه قد يتولد منه حامض

الهيدروسينيك وخصوصًا إذا كان مقداره عظيمًا وتُرك مدة طويلة، وهذا الحامض

هو سم زعاف سريع التأثير جدًّا.

وعيب الماء المغلي أنه يشتمل على المواد المعلقة ويكون خاليًا من الهواء

وعيب الماء المقطر أنه يكون خاليًا من جميع الأملاح التى كانت في الماء

فيكون قليل التغذية للجسم، فإن هذه الأملاح ضرورية للحياة.

وعيب الماء المنقى بالشب أنه لا يكون نقيًّا للغاية المطلوبة، وإذا زاد مقدار

الشب أفسد طعم الماء، وأحدث عند متعاطيه إمساكًا شديدًا. أما الماء المصفى

بالنواضح فهو خير المياه؛ لأنه يكون مشتملاً على الهواء والأملاح اللازمة للجسم

ونظيفًا من كل ما يضر تقريبًا.

وأنواع النواضح كثيرة فمنها الخابية (الزير) ومنها ما يكون مصنوعًا من

الفخار أو الفحم (وهو أردؤها) وقد يستعمل الرمل لتنقية الماء بالنضح أيضًا.

والنواضح عبارة عن أنبوبة من الفخار جوفاء يمر في مسامها الماء من

ظاهرها إلى جوفها الفارغ، والدافع للماء على هذا المرور هو الضغط عليه.

وفي البلاد التي فيها الشركات المائية يندفع الماء بسبب ارتفاع الخزانات التي

تضعها هذه الشركات دائمًا في مكان أعلى من المدينة.

ويجب تنظيف هذه النواضح كل ثلاثة أيام بغسلها جيداً بالماء والصابون مع

شيء خشن كالمسفرة (الفرشة) أو الليف ثم تغلى في الماء لمدة عشر دقائق على

الأقل لقتل جميع الجراثيم الساكنة فيها.

وأسهل طريقة لتنظيف الخوابي (الأزيار) هي غسلها أولاً بالماء المغلي من

الداخل والخارج غسلاً جيدًا، ثم طرحها في الشمس مدة طويلة حتى تجف تمامًا

وبذلك يمكن أن تموت جل أو كل ميكروباتها الضارة.

أما مرور الماء أو خزنه في أنابيب أو خزانات من الرصاص ففيه ضرر،

وهذا الضرر يختلف باختلاف أنواع المياه والمواد الذائبة فيها: فأملاح الكلوريد

والنترات تساعد على إذابة شيء من الرصاص في الماء وكذلك الهواء والأحماض؛

فإذا اشتمل الماء على شيء من هذه الأشياء المذكورة - وهو قَل أن يخلو منها -

ذاب من الرصاص ما يكفي لإفساد صحة الإنسان.

أما الأملاح الأخرى الآتية - وهي السلفات والفسفات والكربونات - فإنها

تعوق ذوبان الرصاص في الماء ولذلك قلنا: إن ضرر الرصاص يختلف باختلاف

الأشياء الذائبة في الماء.

وإذا استمر الإنسان على تعاطي الماء الملوث بالرصاص أدى إلى أعراض

مَرَضية كثيرة منها:

الضعف، والصغار، والمغص الشديد، وزرقة تشاهد في اللثة، ومرض في

الكُلَى. وضعف واضطراب في أعضاء التناسل، وشلل في بعض أعضاء الجسم

فيحصل في اليدين ارتخاء يسمى عند الأطباء (الرسغ الساقط) .

ولتوقي هذا المضار يجب أن يوضع الماء في خزانات من الحجر أو الحديد

ونحوهما وأن تكون المواسير مصنوعة من مثل الحديد المصبوب (الزهر) أو

الفخار.

(يتبع)

((يتبع بمقال تالٍ))

...

...

...

_________

(1)

من الينابيع ما ماؤه حار جدًّا إلى درجة الغليان كما في الولايات المتحدة لصدوره من مكان غائر جدًا في جوف الأرض الملتهب.

(2)

أعني ذات المسام الممتلئة بالماء.

(3)

هو العنصر الذي يتركب منه الشب مع عناصر أخرى وتُعمل منه الآن أدوات كثيرة منزلية وغيرها خفية جدًّا.

ص: 897

الكاتب: ابن القيم الجوزية

ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين

منزلة المحبة

فصل [1]

وهي المنزلة التي فيها يتنافس المتنافسون، وإليها شخص العاملون، وإلى

عَلَمها شمر السابقون، وعليها تفانى المحبون، وَبِرَوْحِ نسيمها تروّح العابدون،

فهي قوت القلوب وغذاء الأرواح وقرة العيون، وهي الحياة التي مَن حُرِمَها فهو

من جملة الأموات، والنور الذي مَن فقده ففي بحار الظلمات، والشفاء الذي مَن

عدمه حلت بقلبه جميع الأسقام، واللذة التي مَن لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام،

وهي روح الإيمان والأعمال، والمقامات والأحوال، التي متى خلت منها فهي

كالجسد الذي لا روح فيه، تحمل أثقال السائرين إلى بلاد لم يكونوا إلا بشق الأنفس

بالغيها، وتوصلهم إلى منازل لم يكونوا بدونها أبدًا واصليها، وتبوئهم من مقاعد

الصدق مقامات لم يكونوا لولا هي داخليها، وهي مطايا القوم التي مسراهم في

ظهورها دائمًا إلى الحبيب، وطريقهم الأقوم الذي يبلغهم إلى منازلهم الأولى من

قريب، تالله لقد ذهب أهلها بشرف الدنيا والآخرة؛ إذ لهم من معية محبوبهم أوفر

نصيب، وقد قضى الله يوم قدر مقادير الخلائق بمشيئته وحكمته البالغة أن المرء

مع من أحب، فيالها نعمة على المحبين سابغة! تالله لقد سبق القوم السعادةَ وهم

على ظهور الفرش نائمون. ولقد تقدموا الركب بمراحل، وهم في سيرهم واقفون.

مَن لي بمثل سيرك المدلل

تمشي رويدًا وتجي في الأول

أجابوا مؤذن الشوق إذ نادى بهم: حي على الفلاح! وبذلوا نفوسهم في طلب

الوصول إلى محبوبهم وكان بذلهم بالرضا والسماح، وواصلوا إليه المسير بالإدلاج

والغدو بالرواح، تالله لقد حمدوا عند الوصول سراهم، وشكروا مولاهم على ما

أعطاهم، وإنما يحمد القوم السرى عن الصباح.

فحيهلا إن كنت ذا همةٍ فقدْ

حدا بك حادي الشوقِ فاطو المراحلا

وقل لمنادي حبهم ورضاهم

إذا ما دعا (لبيك) ألفاً كواملا

ولا تنظر الأطلال من دونهم فإن

نظرتَ إلى الأطلال عُدْنَ حوائلا

ولا تنتظر بالسير رفقة قاعد

ودعه فإن الشوق يكفيك حاملا

وخذ منهم زادًا إليهم وسِرْ على

طريق الهدى والفقر تصبح واصلا

وأحي بذكراهم سرا إذا ونت

ركابك فالذكرى تعيدك عاملا

وإما تخافن الكلال فقل لها

أمامك ورد الوصل فابغي المناهلا

وخذ قبسًا من نورهم ثُم سَرْ به

فنورهم يهديك ليس المشاعلا [2]

وحي على وادِ الأراك فقل به

عساك تراهم فيه إن كنت قائلا

وإلا ففي نعمان عند معرَف الـ

أحبة فاطلبهم إذا كانت سائلا

وإلا ففي جمعٍ [3] بليته فإن

تفت فمتى؟ يا ويح مَن كان غافلا

وحي على جناتِ عدن بقربهم

منازلك الأولى بها كنت نازلا

ولكن سَبَاكَ الكاشحون لأجل ذا

وقفت على الأطلال تبكي المُنازلا

فدعها رسومًا دارسات فما بها

مقيل فجازوها فليست منازلا

رسوم عفت تفنى بها الخلق كم بها

فقيل وكم فيها لذا الخلق قاتلا [4]

وخذ يُمنةً عنها على المنهج الذي

عليه سرى وفد المحبة آهلا

وقل ساعدي يا نفس بالصبر ساعة

فعند اللقا ذا الكد يصبح زائلا

فما هي إلا ساعة ثم تنقضي

ويصبح ذو الأحزان فرحان جاذلا

أول نقدة من أثمان المحبة بذل الروح، فما للمفلس الجبان البخيل وسومها؟

بدم المحب يباع وصلهم

فمَن الذي يبتاع بالثمن

تالله ما هزلت فيستامها المفلسون، ولا كسدت فيبيعها بالنسيئة [5] المعسرون،

لقد أقيمت للعرض في سوق مَن يزيد، فلم يرض لها بثمن دون بذل النفوس،

فتأخر البطّالون، وقام المحبون ينظرون، أيهم يصلح أن يكون ثمناً، فدارت السلعة

بينهم ووقعت في يد {أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ} (المائدة: 54) .

لما كثُر المدّعون للمحبة طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى، فلو يعطى

الناس بدعواهم لادعى الخلي حرقة الشجي، فتنوع المدعون في الشهود، فقيل: لا

تُقبل هذه الدعوى إلا ببينة {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (آل

عمران: 31) فتأخر الخلق كلهم وثبت أتباع الحبيب في أفعاله وأقواله وأخلاقه،

فطولبوا بعدالة البينة بتزكية {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} (المائدة: 54) فتأخر أكثر المحبين وقام المجاهدون، فقيل لهم: إن نفوس المحبين

وأموالهم ليست لهم فهلموا إلى بيعة {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم

بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ} (التوبة: 111) فلما عرفوا عظمة المشتري وفضل الثمن وجلالة

من جرى على يديه عقد التبايع عرفوا قدر السلعة وأن لها شأنًا، فرَأَوْا مِن أعظم

الغبن أن يبيعوها لغيره بثمن بخس، فعقدوا معه بيعة الرضوان بالتراضي من غير

ثبوت خيار، وقالوا: والله لا نقيلك ولا نستقيلك. فلما تم العقد وسلموا المبيع قيل

لهم: مذ صارت نفوسكم وأموالكم لنا رددناها عليكم أوفر ما كانت وأضعافها

معها {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ *

فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} (آل عمران: 169-170) .

إذا غرست شجرة المحبة في القلب وسقيت بماء الإخلاص ومتابعة الحبيب

أثمرت أنواع الثمار، وآتت أكلها كل حين بإذن ربها، أصلها ثابت في قرار القلب،

وفرعها متصل بسدرة المنتهى، لا يزال سعي المحب صاعدًا إلى حبيبه لا يحجبه

دونه شيء {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (فاطر: 10) .

***

فصل

لا تُحد المحبة بحد أوضح منها، فالحدود لا تزيدها إلا خفاء وجفاء، فحدها

وجودها، ولا توصف المحبة بوصف أظهر من المحبة، وإنما يتكلم الناس في

أسبابها وموجباتها وعلاماتها وشواهدها وثمراتها وأحكامها، فحدودهم ورسومهم

دارت على هذه الستة، وتنوعت بهم العبارات وكثرت الإشارات بحسب إدراك

الشخص ومقامه وحاله، وملكه للعبارة. وهذه المادة تدور في اللغة على خمسة

أشياء:

(أحدها) : الصفاء والبياض. ومنه قولهم لصفاء بياض الأسنان ونضارتها:

حَبَب الأسنان.

(الثاني) : العلو والظهور، ومنه: حَبَبُ الماء وحُبابه، وهو ما يعلوه عند

المطر الشديد، وحبب الكأس منه.

(الثالث) : اللزوم والثبات، ومنه: حَبّ البعير وأحب: إذا برك ولم

يقم [6] قال الشاعر:

حلت عليه بالفلاة ضربا

ضرب بعير السوء إذ أحبا

(الرابع) : اللب ومنه حبة القلب للبه وداخله، ومنه الحبة لواحدة الحبوب [7]

إذ هي أصل الشيء ومادته وقوامه.

(الخامس) : الحفظ والإمساك. ومنه: حب الماء، للوعاء الذي يحفظ فيه

ويمسكه، وفيه معنى الثبوت أيضًا.

ولا ريب أن هذه الخمسة من لوازم المحبة، فإنها صفاء المودة وهيجان إرادات

القلب للمحبوب، وعُلوّها وظهورها منه لتعلقها بالمحبوب المراد، وثبوت إرادة

القلب للمحبوب ولزومها لزومًا لا تفارق [8] ولإعطاء المحب محبوبه لبَّه

وأشرف ما عنده وهو قلبه، ولاجتماع عزماته وإراداته وهمومه على محبوبه.

فاجتمعت فيها المعاني الخمسة ووضعوا لمعناها حرفين مناسبين للمسمى غاية

المناسبة، الحاء التي هي من أقصي الحلق، والباء الشفهية التي هي نهايته،

فللحاء الابتداء، وللباء الانتهاء، وهذا شأن المحبة وتعلقها بالمحبوب، فإن

ابتداءها منه وانتهاءها إليه. وقالوا في فعلها [9] حبَّه وأحبَّه قال الشاعر:

أحب أبا ثروان من حب تمرة

ولم تعلم أن الرفق بالجار أرفق [10]

فوالله لولا تمره ما حببته

ولا كان أدني من عبيد ومِشرق

ثم اقتصروا على اسم الفاعل من (أحب) فقالوا: مُحِب، ولم يقولوا حاب،

واقتصروا على اسم المفعول من (حب) فقالوا: محبوب، ولم يقولوا: مُحَب،

إلا قليلاً كما قال الشاعر:

ولقد نزلت فلا تظني غيره

مني بمنزلة المُحَب المكرَم

وأعطوا الحب حركة الضم التي هي أشد الحركات وأقواها مطابقة لشدة

حركة مسماه وقوتها، وأعطوا الحِب - وهو المحبوب - حركة الكسر لخفتها عن

الضمة وخفة المحبوب وذكره على قلوبهم وألسنتهم، مع إعطائه حكم نظائره كنِهب

بمعنى منهوب، وذِبح بمعنى مذبوح وحِمل للمحمول - بخلاف الحمل الذي هو

مصدر - لخفته، ثم ألحقوا به حملاً لا يشق على حامله حمله كحمل الشجرة والولد،

فتأمل هذا اللطف والمطابقة والمناسبة العحيبة بين الألفاظ والمعاني، تُطلعك على

قدر هذه اللغة وأن لها شأنًا ليس لسائر اللغات.

***

فصل

في ذكر رسوم وحدود قيلت في المحبة بحسب آثارها وشواهدها، والكلام

على ما يُحتاج إليه منها [11] .

(الأول) : قيل: المحبة: الميل الدائم، بالقلب الهائم، وهذا الحد لا تمييز

فيه بين المحبة الخاصة والمشتركة والصحيحة والمعلولة.

(الثاني) : إيثار المحبوب، على جميع المصحوب، وهذا حكم من أحكام

المحبة وأثر من آثارها.

(الثالث) : موافقة الحبيب، في المشهد والمغيب، وهذا أيضًا موجبها

ومقتضاها، وهو أكمل من الحدين قبله، فإنه يتناول المحبة الصادقة الصحيحة

خاصة، بخلاف مجرد الميل والإيثار بالإرادة؛ فإنه إن لم تصحبه موافقة فمحبته

معلولة.

(الرابع) : مَحْو المحب لصفاته، وإثبات المحبوب لذاته، وهذا أيضًا من

أحكام الفناء في المحبة، أن تنمحي صفات المحب وتفنى في صفات محبوبه وذاته،

وهذا يستدعي بيانًا أتم من هذا لا يدركه إلا من أفناه وارد المحبة عنه، وأخذه منه.

(الخامس) : مواطأة القلب لمرادات المحبوب، وهذا أيضًاً من موجباتها

وأحكامها، والمواطأة: الموافقة لمرادات المحبوب وأوامره ومراضيه.

(السادس) : خوف ترك الحرمة، مع إقامة الخدمة، وهذا أيضًا من

أعلامها وشواهدها وآثارها، أن يقوم بالخدمة كما ينبغي مع خوفه مِن ترك الحرمة

والتعظيم.

(السابع) : استقلال الكثير من نفسك، واستكثار القليل من حبيبك. وهذا

قول أبي يزيد، وهو أيضًا من أحكامها وموجباتها وشواهدها، والمحب الصادق لو

بذل لمحبوبه جميع ما يقدر عليه لاستقله واستحيا منه، ولو ناله من محبوبه

أيسر شيء لاستكثره واستعظمه.

(الثامن) : استكثار القليل من جنايتك، واستقلال الكثير من طاعتك، وهو

قريب من الذي قبله؛ لكنه مخصوص بما هو من المحب.

(التاسع) : معانقة الطاعة، ومباينة المخالفة. وهو لسهل بن عبد الله،

وهو أيضًا حكم المحبة وموجبها.

(العاشر) : دخول صفات المحبوب على البدل من صفات المحب. وهو

للجنيد. وفيه غموض، ومراده استيلاء ذكر المحبوب وصفاته وأسمائه على قلب

المحب؛ حتى لا يكون الغالب عليه إلا ذلك، ولا يكون شعوره وإحساسه في الغالب

إلا بها، فيصير شعوره وإحساسه به بدلاً من شعوره وإحساسه بصفات نفسه، وقد

يحتمل معنى أشرف من هذا، وهو تبدل صفات المحب الذميمة التي لا توافق

صفات المحبوب بالصفات الجميلة التي توافق صفاته والله أعلم.

(الحادي عشر) : أن تهب كلك لمن أحببت، فلا يبقى لك منك شيء، وهو

لأبي عبد الله القرشي. وهو أيضًا من موجبات المحبة وأحكامها، والمراد أن تهب

إرادتك وعزماتك وأفعالك ونفسك ومالك ووقتك لمن تحبه، وتجعلها حبسًا في

مرضاته ومحابه، فلا تأخذ لنفسك منها إلا ما أعطاك فتأخذه منه له.

(الثاني عشر) : أن تمحو من القلب ما سوى المحبوب. وهو للشبلي،

وكمال المحبة يقتضي ذلك، فإنه مادامت في القلب بقية لغيره ومسكن لغيره فالمحبة

مدخولة.

(الثالث عشر) : إقامة العتاب على الدوام. وهو لابن عطاء. وفيه

غموض؛ ومراده أن لا تزال عاتبًا على نفسك في مرضاة المحبوب، وأن لا

ترضى له فيها [12] عملاً ولا حالة.

(الرابع عشر) : أن تغار على المحبوب أن يحبه مثلك. وهو للشبلي أيضًا،

وفيه كلام سنذكره إن شاء الله في منزلة الغيرة، ومراده: احتقارك لنفسك أو

استصغارها أن يكون مثلك من محبيه.

(الخامس عشر) : إرادة غرست أغصانها في القلب فأثمرت الموافقة

والطاعة.

(السادس عشر) : أن ينسى المحب حظَّه في محبوبه، وينسى حوائجه

إليه. وهو لأبي يعقوب السوسي، ومراده أن استيلاء سلطانها على قلبه غيب عن

حظوظه وعن حوائجه، واندرجت كلها في حكم المحبة.

(السابع عشر) : مجانبة السلو على كل حال. وهو للنصرأبازي، وهو

أيضًا من لوازمها وثمراتها كما قيل:

مرت بأرجاء الخيال طيوفه

فبكت على رسم السلو الدارس

(الثامن عشر) : توحيد المحبوب بخالص الإرادة وصدق الطلب.

(التاسع عشر) : سقوط كل محبة من القلب إلا محبة الحبيب، وهو لمحمد

ابن الفضل، ومراده: توحيد المحبوب بالمحبة.

(العشرون) : غض طرف القلب [13] عما سوى المحبوب غيرة، وعن

المحبوب هيبة. وهذا يحتاج إلى تبيين: أما الأول فظاهر. وأما الثاني فإن غض

طرف القلب عن المحبوب مع كمال محبته كالمستحيل، ولكن عند استيلاء الهيبة

يقع مثل هذا، وذلك من علامات المحبة المقارنة للهيبة والتعظيم، وقد قيل: إن

هذا تفسير قول النبي صلى الله عليه وسلم: (حبك للشيء يعمي ويصم) أي يعميه

عمَّا سواه غيرة، وعنه هيبة. وليس هذا مراد الحديث، ولكن المراد به أن حبك

للشيء يعمي ويصم عن تأمل قبائحه ومساويه، فلا تراها ولا تسمعها وإن كانت فيه،

وليس المراد به ذكر المحبة المطلوبة المعلقة بالرب، ولا يقال في حب الرب

تبارك وتعالى: حبك الشيء، ولا يوصف صاحبها بالعمى والصمم. ونحن لا ننكر

المرتبتين المذكورتين، فإن المحب قد يعمى ويصم عنه بالهيبة [14] والإجلال ولكن

لا توصف محبة العبد لربه تعالى بذلك، وليس أهلها من أهل العمى والصمم؛ بل

هم أهل الأسماع والأبصار على الحقيقة، ومَن سواهم هم الصم البكم العمي الذين لا

يعقلون.

(الحادي والعشرون) : ميلك للشي بكليتك، ثم إيثارك له على نفسك

وروحك ومالك، ثم موافقتك له سرًّا وجهرًا، ثم علمك بتقصيرك في حبه. قال

الجنيد: سمعت الحارث المحاسبي رحمه الله يقول ذلك.

(الثاني والعشرون) : المحبة نار في القلب تحرق ما سوى مراد المحبوب.

وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: لُمْتُ بعضَ المباحية فقال لي

ذلك، ثم قال: والكون كله مراده، فأي شيء أُبْغِضُ منه؟ فقال الشيخ: قلت له: إذا

كان المحبوب قد أبغض أفعالاً وأقوالاً وأقوامًا وعاداهم فطردهم ولعنهم فأحببتهم أنت،

أكنت مواليًا للمحبوب أو معاديًا له - قال: فكأنما أُلْقِمَ حجرًا، وافتضح بين أصحابه،

وكان مقدمًا فيهم مشارًا إليه.

وهذا الحد صحيح، وقائله إنما أراد أنها تحرق من القلب ما سوى مراد

المحبوب الديني الأمري الذي يحبه ويرضاه، لا المراد الذي قدّره وقضاه؛ لكن لقلة

حظ المتأخرين منهم وغيرهم من العلم وقعوا فيما وقعوا فيه من الإباحة والحلول

والاتحاد، والمعصوم من عصمه الله.

(الثالث والعشرون) : المحبة بذل المجهود، وترك الاعتراض على

المحبوب، وهذا أيضًا من حقوقها وثمراتها وموجباتها.

(الرابع والعشرون) : سُكْر لا يصحو صاحبه إلا بمشاهدة محبوبه، ثم

السكر الذي يحصل عند المشاهدة لا يوصف، وأنشد:

فأسكر القوم دور الكأس بينهم

لكن سكري نشا من رؤية الساقي

وينبغي صون المحبة والحبيب عن هذه الألفاظ التي غاية صاحبها أن يُعذر

بصدقه وغلبة الوارد عليه وقهره له، فمحبة الله أعلى وأجل من أن تضرب لها هذه

الأمثال، وتجعل عرضه للأفواه المتلوثة، والألفاظ المبتدعة، ولكن الصادق في

خفارة صدقة.

(الخامس والعشرون) : أن لا يؤثر على المحبوب غيره، وأن لا يتولى

أمورك غيره.

(السادس والعشرون) : الدخول تحت رق المحبوب وعبوديته، والحرية

من استرقاق ما سواه.

(السابع والعشرون) : المحبة سَفَرُ القلب في طلب المحبوب، ولهج اللسان

بذكره على الدوام. قلت: أما سَفَرُ القلب في طلب المحبوب فهو الشوق إلى لقائه،

وأما لهج اللسان بذكره فلا ريب أن مَن أحبَّ شيئًا أكثر من ذكره.

(الثامن والعشرون) : أن المحبة هي ما لا تنقص بالجفاء ولا تزيد بالبر.

وهي ليحيى بن معاذ، بل الإرادة والطلب والشوق إلى المحبوب لذاته، فلا ينقص

ذلك جفاؤه ولا يزيده برّه، وفي ذلك ما فيه؛ فإن المحبة الذاتية تزيد بالبر ولا

تنقصها زيادتها بالبر، وليس ذلك بعلة؛ ولكن مراد يحيى أن القلب قد امتلأ بالمحبة

الذاتية، فإذا جاء البر من محبوبه لم يجد في القلب مكانًا خاليًا من حبه تشغله محبة

البر؛ بل تلك المحبة قد استحقت عليه بالذات بلا سبب، ومع هذا فلا يزيل الوهم،

فإن المحبة لا نهاية لها، وكلما قويت المعرفة والبر قويت المحبة، ولا نهاية لجمال

المحبوب ولا بره، فلا نهاية لمحبته، بل لو اجتمعت محبة الخلق كلهم وكانت على

قلب رجل واحد منهم كان ذلك دون ما يستحقه الرب جلا جلاله. ولهذا لا تسمى

محبة العبد لربه عشقًا - كما سيأتي - لأنه إفراط المحبة، والعبد لا يصل في محبة

الله إلى حد الإفراط ألبتة، والله أعلم.

(التاسع والعشرون) : المحبة أن تكون كلك بالمحبوب مشغولاًَ، وذُلُّك له

مبذولاً.

(الثلاثون) : وهو من أجمع ما قيل فيها - قال أبو بكر الكتاني رحمه الله:

جرت مسئلة في المحبة بمكة - أعزها الله تعالى - أيام الموسم، فتكلم الشيوخ فيها

وكان [15] الجنيد أصغرهم سنًّا، فقالوا: هات ما عندك يا عراقي! فأطرق رأسه

ودمعت عيناه ثم قال: عبد ذاهب [16] عن نفسه، متصل بذكر ربه، قائم بأداء

حقوقه، ناظر إليه بقلبه، أحرق قلبه أنوار هيبته وصفاء شربه من كأس وده،

وانكشف له الجبار من أستار غيبه، فإن تكلم فبالله، وإن نطق فعن الله، وإن

تحرك فبأمر الله، وإن سكن فمع الله، فهو بالله ولله ومع الله. فبكى الشيوخ وقالوا:

ما على هذا مزيد، جزاك [17] الله يا تاج العارفين.

***

فصل

في الأسباب الجالبة للمحبة والموجبة لها وهي عشرة:

(أحدها) : قراءة القرآن بالتدبر والتفهم لمعانيه وما أريد به، كتدبر الكتاب

الذي يحفظه العبد ويشرحه ليتفهم مراد صاحبه منه.

(الثاني) : التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض، فإنها توصله إلى درجة

المحبوبية بعد المحبة.

(الثالث) : دوام ذكره على كل حال باللسان والقلب والعمل والحال،

فنصيبه من المحبة على قدر نصيبه من هذا الذكر.

(الرابع) : إيثار محابّه على محابك عند غلبات الهوى، والتسنم إلى محابه

وإن صعُب المرتقى.

(الخامس) : مطالعة القلب لأسمائه وصفاته ومشاهدتها ومعرفتها، وتقلبه

في رياض هذه المعرفة ومباديها، فمَن عَرَفَ اللهَ بأسمائه وصفاته وأفعاله أحبه لا

محالة، ولهذا كانت المعطلة والفرعونية والجهمية قطَّاع الطريق على القلوب،

بينها وبين الوصول إلى المحبوب.

(السادس) : مشاهدة برّه وإحسانه وآلائه ونعمه الباطنة والظاهرة، فإنها

داعية إلى محبته.

(السابع) : وهو من أعجبها، انكسار القلب بكليته بين يديه تعالى،

وليس في التعبير عن هذا المعنى غير الأسماء والعبارات.

(الثامن) : الخلوة به وقت النزول الإلهي لمناجاته وتلاوة كلامه، والوقوف

بالقلب والتأدب بين يديه، ثُمَّ ختم ذلك بالاستغفار والتوبة.

(التاسع) : مجالسة المحبين الصادقين، والتقاط أطايب ثمرات كلامهم كما

ينتقى أطايب الثمر. ولا تتكلم إلا إذا ترجحت مصلحة الكلام وعلمت أن فيه مزيدًا

لحالك ومنفعة لغيرك.

(العاشر) : مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله عز وجل.

فمن هذه الأسباب العشرة وصل المحبون إلى منازل المحبة، ودخلوا على

الحبيب، ومِلاك ذلك كله أمران: استعداد الروح لهذا الشأن، وانفتاح عين البصيرة.

وبالله التوفيق.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

من الجزء الثالث من مدارج السالكين.

(2)

كذا ولعله تحريف فظاهر الإعراب الرفع بالعطف، ولا يظهر الاستثناء؛ بل المراد ليس ما يهديك هو المشاعل، ويمكن أن يقال: فاطف المشاعلا، أو: فارمِ المشاعلا.

(3)

(جمع) هي المزدلفة و (معرف) في البيت الذي قبله عرفات.

(4)

كذا والظاهر أن يقال: (قاتل) بالرفع؛ لأن (كم) خبرية كالتي قبلها.

(5)

في غير ح: فينفقها بالنسيئة.

(6)

في ب: فلم يقم.

(7)

وفي غيرها: ومنه لواجدة الحبوب.

(8)

لعلها (لا تفارقه) .

(9)

في غير ح: فعله.

(10)

هذا البيت من زيادة ب.

(11)

في ب: إلى الكلام فيها.

(12)

في ب (منها) .

(13)

في ب (غض طرفه) .

(14)

وفيها: (فإن المحب قد يعمى ويصم عن سوى محبوبه وقد يعمي ويصم عنه) إلخ.

(15)

في ح (فكان) إلخ.

(16)

في ب (ذهب) .

(17)

في ب وح (جبرك الله) .

ص: 903

الكاتب: أبو إسحاق الشاطبي

تابع لمقالة

الفرق بين البدع

والمصالح المرسلة والاستحسان

فصل [*]

فهذه أمثلة عشرة توضح لك الوجه العلمي في المصالح المرسلة وتبين لك

اعتبار أمور.

(أحدها) : الملاءمة لمقاصد الشرع بحيث لا تُنافي أصلاً من أصوله ولا

دليلاً من دلائله.

و (الثاني) : أن عامة النظر فيها إنما هو فيما عقل منها وجرى على دون

المناسبات المعقولة التي إذا عرضت على العقول تلقتها بالقبول، فلا مدخل لها في

التعبدات ولا ما جرى مجراها من الأمور الشرعية؛ لأن عامة التعبدات لا يعقل لها

معنى على التفصيل، كالوضوء والصلاة والصيام في زمان مخصوص دون غيره،

والحج، ونحو ذلك.

فليتأمل الناظر الموفق كيف وضعت على التحكم المحض المنافي للمناسبات

التفصيلية.

ألا ترى أن الطهارات على اختلاف أنواعها قد اختص كل نوع منها بتعبد

مخالف جدًّا لما يظهر لبادي الرأي؟ فإنَّ البول والغائط خارجان نجسان يجب بهما

تطهير أعضاء الوضوء دون المخرجين فقط، ودون جميع المخرج فقط، ودون

أعضاء الوضوء [1] .

ثُمَّ إن التطهير واجب مع نظافة الأعضاء، وغير واجب في قذارتها بالأوساخ

والأدران، إذا فرض أنه لم يُحدِث.

ثم التراب - ومن شأنه التلويث - يقوم مقام الماء الذي من شأنه التنظيف.

ثم نظرنا في أوقات الصلوات فلم نجد فيها مناسبة لإقامة الصلوات فيها

لاستواء الأوقات في ذلك.

وشرع للإعلام بها أذكار مخصوصة لا يزاد فيها ولا ينقص منها، فإذا أقيمت

ابتدأت إقامتها بأذكار أيضًا، ثم شرعت ركعاتها مختلفة باختلاف الأوقات، وكل

ركعة لها ركوع واحد وسجودان دون العكس، إلا صلاة خسوف الشمس فإنها على

غير ذلك، ثُم كانت خمس صلوات دون أربع أو ست وغير ذلك من الأعداد؛ فإذا

دخل المتطهر المسجد أُمر بتحيته بركعتين دون واحدة كالوتر، أو أربع كالظهر،

فإذا سها في صلاة سجد سجدتين دون سجدة واحدة، وإذا قرأ سجدة سجد واحدة دون

اثنتين.

ثم أُمر بصلاة النوافل ونهي عن الصلاة في أوقات مخصوصة، وعلل النهي

بأمر غير معقول المعنى، ثم شرعت الجماعة في بعض النوافل كالعيدين والخسوف

والاستسقاء، دون صلاة الليل ورواتب النوافل.

فإذا صرنا إلى غسل الميت وجدناه لا معنى له معقولاً؛ لأنه غير مكلف، ثم

أمرنا بالصلاة عليه بالتكبير دون ركوع أو سجود أو تشهد، والتكبير أربع تكبيرات

دون اثنتين أو ست أو سبع أو غيرها من الأعداد.

فإذا صرنا إلى الصيام وجدنا فيه من التعبدات غير المعقولة كثيرًا، كإمساك

النهار دون الليل، والإمساك عن المأكولات والمشروبات، دون الملبوسات

والمركوبات، والنظر والمشي والكلام وأشباه ذلك؛ وكان الجماع - وهو راجع إلى

الإخراج - كالمأكول وهو راجع إلي الضد؛ وكان شهر رمضان - وإن كان قد

أنزل فيه القرآن - ولم يكن أيام الجمع، وإن كانت خير أيام طلعت عليها الشمس،

أو كان الصيام أكثر من شهر أو أقل ثم الحج أكثر تعبدًا من الجميع.

وهكذا تجد عامة التعبدات في كل باب من أبواب الفقه ما عملوا (؟) إن في

هذا الاستقراء معنى يعلم من مقاصد الشرع أنه قد قصده ونحا نحوه واعتبرت

جهته، وهو أن ما كان من التكاليف من هذا القبيل فإن قصد الشارع أن يوقف عنده

ويعزل عنه النظر الاجتهادي جملة، وأن يوكل إلى واضعه ويسلم له فيه، سواء

علينا أقلنا: إن التكاليف معللة بمصالح العباد، أم لم نقله، اللهم إلا قليلاً من مسائلها

ظهر فيها معنى فهمناه من الشرع فاعتبرنا به أو شهدنا في بعضها بعدم الفرق بين

المنصوص عليه والمسكوت عنه، فلا حرج حينئذٍ. فإن أشكل الأمر فلا بد من

الرجوع إلى ذلك الأصل، فهو العروة الوثقى للمتفقه في الشريعة والوزر الأحمى.

ومن أجل ذلك قال حذيفة رضي الله عنه: كل عبادة لم يتعبدها أصحاب

رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تَعَبَّدُوهَا، فإن الأول لم يدع للآخر مقالاً، فاتقوا

الله يا معشر القراء، وخذوا بطريق من كان قبلكم. ونحوه لابن مسعود أيضًا وقد

تقدم من ذلك كثير.

ولذلك التزم مالك في العبادات عدم الالتفات إلى المعاني، وإن ظهرت لبادي

الرأي، وقوفًا مع ما فهم من مقصود الشارع فيها من التسليم على ما هي عليه، فلم

يلتفت في إزالة الأخباث، ورفع الأحداث، إلى مطلق النظافة التي اعتبرها غيره،

حتى اشترط في رفع الإحداث النية، ولم يقم غير الماء مقامه عنده -

وإن حصلت النظافة - حتى يكون بالماء المطلق، وامتنع من إقامة غير التكبير

والتسليم والقراءة بالعربية مقامها في التحريم والتحليل والإجزاء، ومنع من إخراج

القيم في الزكاة، واختصر في الكفارات على مراعاة العدد، وما أشبه ذلك.

ودورانه في ذلك كله على الوقوف مع ما حده الشارع دون ما يقتضيه معنى

مناسب - إن تُصور - لقلة ذلك في التعبدات وندوره، بخلاف قسم العادات الذي

هو جارٍ على المعني المناسب الظاهر للعقول، فإنه استرسل فيه استرسال المدل

العريق في فهم المعاني المصلحية، نعم مع مراعاة مقصود الشارع أن لا يخرج

عنه ولا يناقض أصلاً من أصوله، حتى لقد استشنع العلماء كثيرًا من وجوه

استرساله، زاعمين أنه خلع الربقة، وفتح باب التشريع. وهيهات ما أبعده من ذلك!

رحمه الله؛ بل هو الذي رضي لنفسه في فقهه بالاتباع بحيث يخيل للبعض أنه

مقلد لمن قبله؛ بل هو صاحب البصيرة في دين الله حسبما بيّن أصحابه في

كتاب سيره.

بل حكي عن أحمد بن حنبل أنه قال: إذا رأيت الرجل يبغض مالكًا فاعلم أنه

مبتدع. وهذه غاية في الشهادة بالاتباع، وقال أبو داود: أخشى عليه البدعة. (يعني

المبغض لمالك) قال ابن مهدي: إذا رأيت أحدًا يتناوله فاعلم أنه على خلاف السنة

وقال إبراهيم بن يحيى بن هشام: ما سمعت أبا داود لعن أحدًا قط إلا رجلين: أحدهما

رجل ذكر له أنه لعن مالكًا، والآخر بشر المريسي.

وعلى الجملة فغير مالك أيضًا موافق له في أن أصل العبادات عدم معقولية

المعنى، وإن اختلفوا في بعض التفاصيل، فالأصل متفق عليه عند الأكمة، ما عدا

الظاهرية، فإنهم لا يفرّقون بين العبادات والعادات؛ بل الكل تعبد غير معقول

المعنى، فهم أحرى بأن لا يقولوا بأصل المصالح فضلاً عن أن يعتقدوا المصالح

المرسلة.

و (الثالث) : أن حاصل المصالح المرسلة يرجع إلى حفظ أمر ضروري

ورفع حرج لازم في الدين، أيضًا مرجعها إلى حفظ الضروري، من باب: (ما

لا يتم الواجب إلا به) فهي إذًا من الوسائل لا من المقاصد. ورجوعها إلى رفع

الحرج راجع إلى باب التخفيف لا إلى التشديد. أما رجوعها إلى ضروري فقد ظهر

من الأمثلة المذكورة وكذلك رجوعها إلى دفع حرج لازم، وهو إما لاحقٌ

بالضروري وأما من الحاجي، وعلى كل تقدير فليس فيها ما يرجع إلى

التقبيح والتزيين ألبتة. فإن جاء من ذلك شيء: فإما من باب آخر منها، كقيام

رمضان في المساجد جماعة - حسبما تقدم - وإما معدود من قبيل البدع التي أنكرها

السلف الصالح - كزخرفة المساجد والتثويب بالصلاة - وهو من قبيل ما يلائم.

وأما كونها في الضروري من قبيل الوسائل، و (ما لا يتم الواجب إلا به

)

إن نص على اشتراطه، فهو شرط شرعي فلا مدخل له في هذا الباب؛ لأن نص

الشارع فيه قد كفانا مؤنة النظر فيه.

وإن لم ينص على اشتراطه فهو إما عقلي أو عادي، فلا يلزم أن يكون

شرعيًّا، كما أنه لا يلزم أن يكون على كيفية معلومة، فإنَّا لو فرضنا حفظ القرآن

والعلم بغير كتب مطَّرِدًا لصح ذلك، وكذلك سائر المصالح الضرورية يصح لنا

حفظها، كما أنا لو فرضنا حصول مصلحة الإمامة الكبرى بغير إمام على تقدير

عدم النص بها لصح ذلك، وكذلك سائر المصالح الضرورية - إذا ثبت هذا - لم

يصح أن يستنبط من بابها شيء من المقاصد الدينية التي ليست بوسائل.

وأما كونها في الحاجي من باب التخفيف فظاهر أيضًا، وهو أقوى في الدليل

الرافع للحرج، فليس فيه ما يدل على تشديد ولا زيادة تكليف، والأمثلة مبينة لهذا

الأصل أيضًا.

إذا تقررت هذه الشروط عُلم أن البدع كالمضادة للمصالح المرسلة لأن

موضوع المصالح المرسلة ما عقل معناه على التفصيل، والتعبدات من حقيقتها أن

لا يعقل معناها على التفصيل، وقد مرّ أن العادات إذا دخل فيها الابتداع فإنما

يدخلها من جهة ما فيها من التعبد لا بإطلاق.

وأيضًا فإن البدع في عامة أمرها لا تلائم مقاصد الشرع، بل إنما تتصور

على أحد وجهين: إما مناقِضة لمقصوده - كما تقدم في مسألة المفتي للملِك بصيام

شهرين متتابعين - وإما مسكوتًا عنه فيه كحرمان القاتل ومعاملته بنقيض مقصوده

على تقدير عدم النص به، وقد تقدم نقل الإجماع على اطِّراح القسمين، وعدم

اعتبارهما، ولا يقال: إن السكوت عنه يلحق بالمأذون فيه؛ إذ يلزم من ذلك خرق

الإجماع لعدم الملاءمة؛ ولأن العبادات ليس حكمها حكم العادات في أن المسكوت

عنه كالمأذون فيه إن قيل بذلك، فهي تفارقها؛ إذ لا يقدم على استنباط عبادة لا

أصل لها؛ لأنها مخصوصة بحكم الإذن المصرّح به بخلاف العادات، والفرق

بينهما ما تقدم من اهتداء العقول للعاديات في الجملة، وعدم اهتدائها لوجوه التقرّبات

إلى الله تعالى وقد أشير إلى هذا المعني في كتاب الموافقات وإلى هذا (؟) .

فإذا ثبت أن المصالح المرسلة ترجع إما إلى حفظ ضروري من باب الوسائل،

أو إلى الخفيف، فلا يمكن إحداث البدع من جهتها ولا الزيادة في المندوبات؛ لأن

البدع من باب الوسائل؛ لأنها متعبد بها بالفرض، ولأنها زيادة في التكليف، وهو

مضاد للتخفيف.

فحصل من هذا كله أن لا تعلق للمبتدع بباب المصالح المرسلة إلا القسم

الملغى باتفاق العلماء، وحسبك به متعلقاً، والله الموفق.

وبذلك كله يعلم من قصد الشارع أنه لم يكل شيئًا من التعبدات إلى آراء العباد،

فلم يبق إلا الوقوف عند ما حدّه، والزيادة عليه بدعة، كما أن النقصان منه بدعة

وقد مرّ لهما أمثلة كثيرة، وسيأتي آخرًا في أثناء الكتاب بحول الله.

***

فصل

وأما الاستحسان، فلأن لأهل البدع أيضًا تعلقًا به: فإن الاستحسان لا يكون

إلا بمستحسِن، وهو إما العقل أو الشرع.

أما الشرع فاستحسانه واستقباحه قد فرغ منهما؛ لأن الأدلة اقتضت ذلك فلا

فائدة لتسميته استحسانًا، ولا لوضع ترجمة له زائدة على الكتاب والسنة والإجماع،

وما ينشأ عنها من القياس والاستدلال. فلم يبق إلا العقل هو المستحسِن، فإن كان

بدليل فلا فائدة لهذه التسمية، لرجوعه إلى الأدلة لا إلى غيرها، وإن كان بغير

دليل فذلك هو البدعة التي تستحسن.

ويشهد [2] قول مَن قال في الاستحسان أنه يستحسنه [3] المجتهد بعقله، ويميل

إليه برأيه (قالوا) : وهو عند هؤلاء من جنسِ ما يستحسن في العوائد، وتميل

إليه الطِّبَاع، فيجوز الحكم بمقتضاه إذا لم يوجد في الشرع ما ينافي هذا الكلام ما

بيّن (؟) إن ثَمَّ من التعبدات ما لا يكون عليه دليل، وهو الذي يسمى بالبدعة،

فلا بد أن ينقسم إلى حسن وقبيح؛ إذ ليس كل استحسان حقًّا.

وأيضًا فقد يجري على التأويل الثاني للأصوليين في الاستحسان، وهو أن

المراد به دليل ينقدح في نفس المجتهد لا تساعده العبارة عنه ولا يقدر على إظهاره.

وهذا التأويل، فالاستحسان يساعده لبعده، لأنه يبعد في مجاري العادات أن يبتدع

أحد بدعة من غير شبهة دليل ينقدح له؛ بل عامة البدع لا بد لصاحبها من متعلق

دليل شرعي؛ لكن قد يمكنه إظهاره وقد لا يمكنه - وهو الأغلب - فهذا ممَّا يحتجُّون

به.

وربما ينقدح لهذا المعنى وجه بالأدلة التي استدل بها أهل التأويل الأولون،

وقد أَتوا بثلاثة أدلة:

(أحدها) : قول الله سبحانه: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم} (الزمر:

55) وقوله: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ} (الزمر: 23) وقوله: {فَبِشِّرْ

عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} (الزمر: 17-18) هو ما

تستحسنه عقولهم.

(والثاني) : قوله عليه السلام: (ما رآه المسلمون حسنًَا فهو عند الله

حسن) .

وإنما يعني بذلك ما رأوه بعقولهم، وإلا لو كان حسنه بالدليل الشرعي لم يكن

من أحسن ما يرون؛ إذ لا مجال للعقول في التشريع على ما زعمتم، فلم يكن

للحديث فائدة، فدل على أن المراد ما رأوه برأيهم.

و (الثالث) : أن الأمة قد استحسنت دخول الحمام من غير تقدير أجرة ولا

تقدير مدة اللبث ولا تقرير الماء المستعمل، ولا سبب لذلك إلا أن المشاحة في مثله

قبيحة في العادة، فاستحسن الناس تركه، مع أنا نقطع أن الإجارة المجهولة [4] أو

مدة الاستئجار أو مقدار المشترى إذا جُهل فإنه ممنوع، وقد استحسنت إجارته مع

مخالفة الدليل، فأولى أن يجوز إذا لم يخالف دليلاً.

فأنت ترى أن هذا الموضع مزلة قدم أيضًا لمن أراد أن يبتدع، فله أن يقول:

إن استحسنت كذا وكذا فغيري من العلماء قد استحسن.

وإذا كان كذلك فلا بد من فضل اعتناء بهذا الفصل؛ حتى لا يغتر به جاهل أو

زاعم أنه عالم، وبالله التوفيق، فنقول:

إن الاستحسان يراه معتبرًا في الأحكام مالك وأبو حنيفة، بخلاف الشافعي

فإنه منكِر له جدًّا حتى قال: (مَن استحسن فقد شرع) والذي يستقرى من

مذهبهما أنه يرجع إلى العمل بأقوى الدليلين، هكذا قال ابن العربي (قال)

فالعموم إذا استمر، والقياس إذا أطرد، فإن مالكًا وأبا حنيفة يريان تخصيص العموم

بأي دليل كان من ظاهر أو معنى (قال) ويستحسن مالك أن يخص بالمصلحة،

ويستحسن أبو حنيفة أن يخص بقول الواحد من الصحابة الوارد بخلاف القياس

(قال) ويريان معًا تخصيص القياس ونقص العلة، ولا يرى الشافعي لعلة الشرع إذا

ثبتت تخصيصًا.

هذا ما قال ابن العربي ويشعر بذلك تفسير الكرخي أنه العدول عن الحكم في

المسألة بحكم نظائرها إلى خلافه لوجه أقوى. وقال بعض الحنفية: إنه القياس

الذي يجب العمل به؛ لأن العلة كانت علة بأثرها، سموا الضعيف الأثر:

قياسًا، والقوي الأثر: استحسانًا، أي: قياسًا مستحسنًا، وكأنه نوع من العمل بأقوى

القياسين.

وهو يظهر من استقراء مسائلهم في الاستحسان بحسب النوازل الفقهية.

بل قد جاء عن مالك أن الاستحسان تسعة أعشار العلم، ورواه أصبغ عن ابن

القاسم عن مالك، قال أصبغ في الاستحسان: قد يكون أغلب من القياس. وجاء عن

مالك أن المفرق في القياس يكاد يفارق السنة [5] .

وهذا الكلام لا يمكن أن يكون بالمعنى الذي تقدم قبلُ، وأنه ما يستحسنه

المجتهد بعقله، أو أنه دليل ينقدح في نفس المجتهد تعسر عبارته عنه؛ فإن مثل

هذا لا يكون تسعة أعشار العلم، ولا أغلب من القياس الذي هو أحد الأدلة.

وقال ابن العربي في موضع آخر: الاستحسان إيثار ترك مقتضى الدليل،

على طريق الاستثناء والترخص، لمعارضة ما يعارض به في بعض مقتضياته.

وقسمه أقسامًا عد منها أربعة أقسام، وهي ترك الدليل للعرف وتركه للمصلحة،

وتركه لليسير، لرفع المشقة، وإيثار التوسعة [6] .

وحدّه غير ابن العربي من أهل المذهب بأنه عند مالك: استعمال مصلحة

جزئية في مقابلة قياس كلي. (قال) فهو تقديم الاستدلال المرسل على القياس.

وعرفه ابن رشد فقال: الاستحسان الذي يكثر استعماله حتى يكون أعمّ من

القياس هو أن يكون طرحًا لقياس يؤدي إلى غلو في الحكم ومبالغة فيه، فعدل عنه

في بعض المواضع لمعنى يؤثر في الحكم يختص به ذلك الموضع.

وهذه تعريفات قريب بعضها من بعض.

وإذا كان هذا معناه عن مالك وأبي حنيفة فليس بخارج عن الأدلة ألبتة؛ لأن

الأدلة يقيد بعضها ويخصص بعضها بعضًا، كما في الأدلة السنية مع القرآنية، ولا

يرد الشافعي مثل هذا أصلاً فلا حجة في تسميته استحسانًا لمبتدع [7] على حال.

ولا بد من الإتيان بأمثلة تبين المقصود بحول الله، ونقتصر على عشرة

أمثلة:

(أحدها) : أن يعدل بالمسألة عن نظائرها بدليل الكتاب، كقوله تعالى:

{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} (التوبة: 103) فظاهر اللفظ

العموم في جميع ما يتمول به، وهو مخصوص في الشرع بالأموال الزكوية

خاصة، فلو قال قائل: مالي صدقة. فظاهر لفظه يعم كل مال، ولكنا نحمله على

مال الزكاة، لكونه ثبت الحمل عليه في الكتاب. قال العلماء: وكأن هذا يرجع إلى

تخصيص العموم بعادة فهم خطاب القرآن وهذا المثال أورده الكرخي تمثيلاً لما

قاله في الاستحسان.

و (الثاني) : أن يقول الحنفي: سؤر سباع الطير نجس، قياسًا على سباع

البهائم، وهذا ظاهر الأثر، ولكنه ظاهر استحسانًا؛ لأن السبع ليس بنجس العين؛

ولكن لضرورة تحريم لحمه، فثبتت نجاسته بمجاورة رطوبات لعابه. وإذا كان

كذلك فارقه الطير؛ لأنه يشرب بمنقاره وهو طاهر بنفسه، فوجب الحكم بطهارة

سؤره؛ لأن هذا أثر قوي وإن خفي، فترجح على الأول، وإن كان أمره جليًّا،

والأخذ بأقوى القياسين متفق عليه.

و (الثالث) : أن أبا حنيفة قال: إذا شهد أربعة على رجل بالزنا ولكن عين

كل واحد غير الجهة التي عينها (الآخر) فالقياس أن لا يحد، ولكن استحسن

حده ووجه ذلك أنه لا يحد إلا من شهد عليه أربعة. فإذا عيَّن كلُّ واحد دارًا، فلم

يأت على كل مرتبة بأربعة لامتناع اجتماعهم على رتبة واحدة فإذا عيَّن كل واحد

زاوية فالظاهر تعدد الفعل، ويمكن التزاحف.

فإذا قال: القياس أن لا يحد فمعناه أن الظاهر أنه لم يجتمع الأربعة على زنا

واحد، ولكنه يقول [8] في المصير إلى الأمر الظاهر تفسيق العدول؛ فإنه إن لم يكن

محدودًا صار الشهود فسقة، ولا سبيل إلى [9] ما وجدنا إلى العدول عنه سبيلاً.

فيكون حمل الشهود على مقتضى العدالة عند الإمكان يجر ذلك الإمكان

البعيد، فليس هذا حكمًا بالقياس، وإنما [10] تمسك باحتمال تلقي الحكم من القرآن،

وهذا يرجع في الحقيقة إلى تحقيق مناطه.

و (الرابع) : أن مالك بن أنس من مذهبه أن يترك الدليل للعرف؛ فإنه رد

الأيمان إلى العرف، مع أن اللغة تقتضي في ألفاظها غير ما يقتضيه، كقوله: والله

لا دخلت مع فلان بيتًا، فهو يحنث [11] بدخول كل موضع يسمى بيتًا في اللغة،

والمسجد يسمى بيتًا فيحنث على ذلك، إلا إن كان عرف الناس أن لا يطلقوا هذا اللفظ

عليه، فخرج بالعرف على [12] مقتضى اللفظ فلا يحنث.

و (الخامس) : ترك الدليل لمصلحة، كما في تضمين الأجير المشترك وإن

لم يكن صانعًا، فإن مذهب مالك في هذه المسئلة على قولين، كتضمين صاحب

الحمام الثياب، وتضمين صاحب السفينة، وتضمين السماسرة المشتركين، وكذلك

حمال الطعام - على رأي مالك فإنه ضامن، ولا حق عنده بالصناع. والسبب في

ذلك عين السبب في تضمين الصناع.

فإن قيل: فهذا من باب المصالح المرسلة لا من باب الاستحسان.

قلنا: نعم: إلا أنهم صوَّروا الاستحسان تصور الاستثناء [13] من القواعد،

بخلاف المصالح المرسلة. ومثل ذلك يتصور في مسئلة التضمين، فإن الأجراء

مؤتمنون بالدليل لا بالبراءة الأصلية، فصار تضمينهم في حيز المستثنى من ذلك

الدليل، فدخلت تحت معنى الاستحسان بذلك النظر.

و (السادس) : أنهم يحكون الإجماع على إيجاب الغرم على من قطع ذنب

بغلة القاضي، يريدون غرم قيمة الدابة لا قيمة النقص الحاصل فيها.

ووجه ذلك ظاهر، فإن بغلة القاضي لا يحتاج إليها إلا للركوب، وقد امتنع

ركوبه لها بسبب فحش ذلك العيب، حتى صارت بالنسبة إلى ركوب مثله في حكم

العدم، فألزموا الفاعل غرم قيمة الجميع. وهو متجه بحسب الغرض الخاص،

وكان الأصل أن لا يغرم إلا قيمة ما نقصها القطع خاصة؛ لكن استحسنا ما تقدم.

وهذا الإجماع مما ينظر فيه، فإن المسئلة ذات قولين في المذهب وغيره،

ولكن الأشهر في المذهب المالكي ما تقدم حسبما نص عليه القاضي عبد الوهاب.

و (السابع) : ترك مقتضى الدليل في اليسير لتفاهته ونزارته لرفع المشقة،

وإيثار التوسعة على الخلق، فقد أجازوا التفاضل اليسير في المراطلة الكثيرة،

وأجازوا البيع بالصرف إذا كان أحدهما تابعاً للآخر، وأجازوا بدل الدرهم الناقص

بالوازن [14] لنزارة ما بينهما. والأصل المنع في الجميع، لما في الحديث من أن

الفضة بالفضة والذهب بالذهب مِثْلاً بمثل سواءً بسواء، وأن من زاد أو ازداد فقد

أربى، ووجه ذلك أن التافه في حكم العدم؛ ولذلك لا تنصرف إليه الأغراض في

الغالب، وأن المشاحة في اليسير قد تؤدي إلى الحرج والمشقة، وهما مرفوعان عن

المكلف.

و (الثامن) : أن في التبعية من سماع أصبغ في الشريكين يطآن الأمة في

طُهر واحد فتأتي بولد فينكر أحدهما الولد دون الآخر - أنه يكشف منكر الولد عن

وطئه الذي أقرَّ به، فإن كان في صفته ما يمكن معه الإنزال لم يلتفت إلى إنكاره،

وكان كما لو اشتركا فيه، وإن كان يدعي العزل من الوطء الذي أقرَّ به، فقال

أصبغ:

إني أستحسن هاهنا أن ألحقه بالآخر والقياس أن يكونا سواءً، فلعله غلب ولا

يدري، وقد قال عمرو بن العاص في نحو هذا:(إن الوكاء قد ينقلب) قال

والاستحسان هاهنا أن ألحقه بالآخر، والقياس أن يكونا في العلم قد يكون أغلب من

القياس (؟) ثم حكي عن مالك ما تقدم.

ووجه ذلك ابن رشد بأن الأصل: من وطئ أمته فعزل عنها وأتت الآخر الذي

لم يعزل عنها أن يكون الحكم في ذلك بمنزلة ما إذا كانا جميعًا يعزلان أو ينزلان.

والاستحسان - كما قال - أن يلحق الولد بالذي ادَّعاه وأقرَّ أنه كان ينزل، وتبرَّأ منه

الذي أنكره وادعى أنَّه كان يعزل؛ لأن الولد يكون مع الإنزال غالبًا، ولا يكون مع

العزل إلا نادرًا، فيغلب على الظن أن الولد إنما هو للذي ادَّعاه وكان ينزل، لا

الذي أنكره وهو يعزل، والحكم بغلبة الظن أصل في الأحكام، وله في الحكم تأثير،

فوجب أن يصار إليه استحسانًا - كما قل أصبغ - وهو ظاهر فيما نحن فيه.

و (التاسع) : ما تقدم أولاً من أن الأُمَّة استحسنت دخول الحمام من غير

تقدير أجرة ولا تقدير مدة اللبث ولا تقدير الماء المستعمل. والأصل في هذا المنع؛

إلا أنهم أجازوا - لا كما قال المحتجون على البدع، بل لأمر آخر هو من هذا

القبيل الذي ليس بخارج عن الأدلة، فأما تقدير العوض فالعرف هو الذي قدره، فلا

حاجة إلى التقدير، وأما مدة اللبث وقدر الماء المستعمل فإن لم يكن ذلك مقدرًا

بالعرف أيضًا؛ فإنه يسقط للضرورة إليه. وذلك لقاعدة فقهية، وهي أنَّ نفي جميع

الغرر في العقود لا يقدر عليه، وهو يضيق أبواب المعاملات، وهو تحسيم أبواب

المفاوضات (؟) ونفي الضرر إنما يطلب تكميلاً ورفعًا لما عسى أن يقع مِن نزاع،

فهو من الأمور المكمِّلة، والتكميلات إذا أفضى اعتبارها إلى إبطال المكملات

سقطت جملة، تحصيلاً للمهم - حسبما تبيَّن في الأصول - فوجب أن يسامح في

بعض أنواع الغرر التي لا ينفك عنها؛ إذ يشق طلب الانفكاك عنها، فسومح

المكلف بيسير الغرر، لضيق الاحتراز مع تفاهة ما يحصل مِن الغرض [15] ولم

يسامح في كثيره إذ ليس في محل الضرورة، ولعظيم ما يترتب عليه من الخطر،

لكن الفرق بين القليل والكثير غير منصوص عليه في جميع الأمور، وإنما نهي

عن بعض أنواعه مما يعظم فيه الغرر، فجعلت أصولاً يُقَاسُ عليها غير القليل

أصلاً في عدم الاعتبار وفي الجواز، وصار الكثير في [16] المنع، ودارَ في

الأصلين فروع تتجاذب العلماء النظر فيها، فإذا قلَّ الغرر وسَهُلَ الأمر وقلَّ النزاع

ومست الحاجة إلى المسامحة فلا بد من القول بها، ومن هذا القبيل مسألة التقدير

في ماء الحمام ومدة اللبث.

قال العلماء: ولقد بالغ مالك في هذا الباب وأمعن فيه، فَجَوَّزَ أن يستأجر الأجير

بطعامه وإن كان لا ينضبط مقدار أكله، ليسار أمره وخفة خطبه وعدم المشاحة،

وفرق بين تطرق يسير الغرر إلى الأجل فأجازه، وبيَّن تطرقه للثمرة فمنعه، فقال:

يجوز للإنسان أن يشتري سلعة إلى الحصاد أو إلى الجذاذ، وإن كان اليوم بعينه

لا ينضبط، ولو باع سلعة بدرهم أو ما يقاربه لم يجز، والسبب في التفرقة

المضايقة في تعيين الأثمان وتقديرها ليست في العرف، ولا مضايقة في الأجل؛ إذ

قد يسامح البائع في التقاضي الأيام، ولا يسامح في مقدار الثمن على حال.

يعضده ما روى عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عيه

وسلم أمر بشراء الإبل إلى خروج المصَّدق، وذلك لا يضبط يومه ولا يعين

ساعته؛ ولكنه على التقريب والتسهيل.

فتأمَّلوا كيف وجه الاستثناء من الأصول الثابتة بالحرج والمشقة، وأين هذا

من زعم الزاعم أنه استحسان العقل بحسب العوائد فقط؟ فتبيَّن لك بَوْنُ ما بين

المنزلتين.

(العاشر) : أنهم قالوا إن من جملة أنواع الاستحسان مراعاة خلاف العلماء،

وهو أصل في مذهب مالك ينبني عليه مسائل كثيرة.

(منها) أن الماء اليسير إذا حلت فيه النجاسة اليسيرة ولم تُغير أحد أوصافه

أنه لا يتوضأ به؛ بل يتيمم ويتركه، فإن توضأ به وصلَّى أعاد ما دام في الوقت ولم

يعد بعد الوقت، وإنما قال:(يعيد في الوقت) مراعاة لقول مَن يقول إنه طاهر

مطهر.

ويروى جواز الوضوء به ابتداء، وكان قياس هذا القول أن يعيد أبداً، إذ لم

يتوضأ إلا بماء يصح له تركه والانتقال عنه إلا التيمم.

(ومنها) قولهم في النكاح الفاسد الذي يجب فسخه: إن لم يتفق على فساده

فيفسخ بطلاق، ويكون فيه الميراث، ويلزم فيه الطلاق على حده في النكاح

الصحيح، فإن اتفق العلماء على فساده فُسِخَ بغير طلاق، ولا يكون فيه ميراث ولا

يلزم فيه طلاق.

(ومنها) مسألة من نسي تكبيرة الإحرام وكبَّر للركوع وكان مع الإمام [17]

أن يتمادى، لقول مَن قال: إن ذلك يجزئه فإذا سلَّم الإمام أعاد هذا المأموم. وهذا

المعنى كثير جدًّا في المذهب، ووجهه أنه راعى دليل المخالف في بعض الأحوال؛

لأنه ترجح عنده، ولم يترجح عنده في بعضها فلم يراعه.

ولقد كتبت في مسئلة مراعاة الخلاف إلى بلاد المغرب وإلى بلاد إفريقية

لإشكال عرض فيها من وجهين: أحدهما مما يخص هذا الموضع على فرض

صحتها، وهو ما أصله من الشريعة وعلى ما تبنى من قواعد أصول الفقه؟ فإن

الذي يظهر الآن أن الدليل هو المتبع فحيثما صار صير إليه، ومتى رجح للمجتهد

أحد الدليلين على الآخر - ولو بأدنى وجوه الترجيح - وجب التعويل عليه وإلغاء ما

سواه، على ما هو مقرر في الأصول، فإذا رجعوه - أعني المجتهد - إلى قول

الغير إعمال لدليله المرجوح عنده، وإهمال للدليل الراجح عنده الواجب عليه اتباعه،

وذلك على خلاف القواعد.

فأجابني بعضهم بأجوبة منها الأقرب والأبعد، إلا أني راجعت بعضهم

بالبحث، وهو أخي ومفيدي أبو العباس ابن القباب رحمة الله عليه، فكتب إلىَّ بما

نصه.

(وتضمن الكتاب المذكور عودة السؤال في مسألة مراعاة الخلاف، وقلتم إن

رجحان إحدى الأمارتين على الأخرى أن تقديمها على الأخرى [18] اقتضى ذلك عدم

المرجوحة مطلقًا واستشنعتم أن يقول المفتي: (هذا لا يجوز) ابتداءً، وبعد الوقوع

يقول بجوازه؛ لأنه يصير الممنوع إذا فعل جائزًا. وقلتم إنه إنما يتصور الجمع

في هذا النحو في منع التنزيه لا منع التحريم - إلى غير ذلك مما أوردتم في

المسألة) .

وكلها إيرادات شديدة صادرة عن قريحة قياسية منكرة لطريقة الاستحسان،

وإلى هذه الطريقة ميل فحول من الأئمة والنُظَّار، حتى قال الإمام أبو عبد الله

الشافعي: مَن استحسن فقد شرع.

ولقد ضاقت العبارة عن معنى أصل الاستحسان - كما في علمكم - حتى

قالوا: أصح عبارة فيه: إنه معنى ينقدح في نفس المجتهد تعسر العبارة عنه فإذا كان

هذا أصله الذي ترجع فروعه إليه، فيكف ما يُبني عليه؟ فلا بد أن تكون العبارة

عنه أضيق.

ولقد كنت أقول بمثل ما قال هؤلاء الأعلام في طرح الاستحسان وما بني

عليه. لولا أنه اعتضد وتقوَّى لِوُجدَانِهِ كثيرًا في فتاوى الخلفاء وأعلام الصحابة

وجمهورهم مع عدم النكير، فتقوى ذلك عندي، وسكنت إليه النفس، وانشرح

إليه الصدر، ووثق به القلب، للأمر باتباعهم والاقتداء بهم، رضي الله عنهم.

فمن ذلك المرأة يتزوجها رجلان ولا يعلم الآخر بتقدم نكاح غيره إلا بعد

البناء، فأبانها عليه بذلك عمر ومعاوية والحسن رضي الله عنهم. وكل ما أوردتم

في قضية السؤال وارد عليه، فإنه إذا تحقق أن الذي لم يبن هو الأول فدخول

الثاني بها دخول بزوج غيره، وكيف يكون غلطه على زوج غيره مبيحًا على

الدوام، ومصححًا لعقده الذي لم يصادف محلاًّ، ومبطلاً لعقد نكاح مجمع على

صحته؛ لوقوعه على وفق الكتاب والسنة ظاهرًا وباطنًا؟ وإنما المناسب أن الغلط

يرفع عن الغالط الإثم والعقوبة، لا إباحة زوج غيره دائمًا، ومنع زوجها منها.

ومثل ذلك ما قاله العلماء في مسألة امرأة المفقود: أنه إن قدم المفقود قبل

نكاحها فهو أحق بها، وإن كان بعد نكاحها والدخول بها بانت؛ وإن كانت بعد العقد

وقبل البناء فقولان، فإنه يقال: الحكم لها بالعدة من الأول إن كان قطعًا لعصمته فلا

حق له فيها ولو قدم قبل تزوجها، أو كان ليس بقاطع للعصمة، فكيف تباح لغيره

وهي في عصمة المفقودة؟

وما روي عن عمر وعثمان في ذلك أغرب، وهو أنهما قالا: إذا قدم

المفقود يخيّر بين امرأته أو صداقها، فإن اختار صداقها بقيت للثاني. فأين هذا من

القياس؟ وقد صحح ابن عبد البر هذا النقل عن الخليفتين عمر وعثمان رضي الله

عنهما، ونقل عن علي رضي الله عنه أنه قال بمثل ذلك، أو أمضى الحكم به،

وإن كان الأشهر عنه خلافه، ومثله في قضايا الصحابة كثير من ذلك.

قال ابن المعدل: لو أن رجلين حضرهما وقت الصلاة فقام أحدهما فأوقع

الصلاة بثوب نجس مجانًا (؟) وقعد الآخر حتى خرج الوقت ولا يغاربه (؟)[19]

مع نقل غير واحد من الأشياخ الإجماع على وجوب النجاسة (؟) عامدًا جمع

الناس أن لا يساوي مؤخرها على وجوب النجاسة حال الصلاة [20] وممن نقله

اللخمي والمازري، وصححه الباجي، وعليه مضى عبد الوهاب في تلقينه.

وعلى الطريقة التي أوردتم - أن المنهي عنه ابتداءً غير معتبر - أحرى بكون

أمر هذين الرجلين بعكس ما قال ابن المعدل؛ لأن الذي صلى بعد الوقت قضى ما

فرط فيه، والآخر لم يعمل كما أمر، ولا قضى شيئًا، وليس كل منهي عنه ابتداءً

غير معتبر بعد وقوعه.

وقد صحح الدارقطني حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله

عليه وسلم أنه قال: (لا تزوج المرأةُ المرأةَ ولا تزوج المرأةُ نفسَها، فإن الزانيةَ

هي التي تزوج نفسها) وأخرج أيضًا من حديث عائشة رضي الله عنها: (أيُّما

امرأةٍ نكحت بغير إذن مواليها فنكاحها باطل - ثلاث مرات - فإن دخل بها فالمهر لها

بما أصاب منها) . فحَكَم أولاً ببطلان العقد وأكده بالتكرار ثلاثًا، وسمَّاه زنًا، وأقلّ

مقتضياته عدم اعتبار هذه العقد جملةً لكنه صلى الله عليه وسلم عقبه بما اقتضى

اعتباره بعد الوقوع بقوله: (ولها مهرها بما أصاب منها) ومهر البغيّ حرام.

وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ} (المائدة: 2)

الآية، فعلل النهي عن استحلاله بابتغائهم فضل الله ورضوانه مع كفرهم بالله

تعالى، الذي لا يصح معه عبادة، ولا يقبل عمل، إن كان هذا الحكم الآن

منسوخًا، فذلك لا يمنع الاستدلال به في هذا المعنى.

من ذلك قول الصدّيق رضي الله عنه: وستجد أقوامًا زعموا أنهم حبسوا

أنفسهم لله، فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له، ولهذا لا يسبى الراهب

ويترك له ماله أو ما قلّ منه، على الخلاف في ذلك، وغيره ممن لا يقاتل يسبى

ويمتلك، وإنما ذلك لِمَا زعم أنه حبس نفسه له، وهي عبادة الله تعالى. وإن كانت

عبادته أبطل الباطل. فكيف يستبعد اعتبار عبادة مسلم على وفق دليل شرعي لا

يقطع بخطأ فيه؟ وإن كان يظن ذلك ظنًّا وتَتَبُّع مثل هذا يطول.

وقد اختلف فيما تحقق فيه نهي من الشارع: هل يقضي فساد المنهي عنه؟

وفيه بين الفقهاء والأصوليين ما لا يخفى عليكم، فكيف بهذا؟

وإذا خرجت المسألة المختلف فيها إلى أصل مختلف فيه؛ فقد خرجت عن

حيِّز الإشكال، ولم يبق إلا الترجيح لبعض تلك المسائل، ويرجح كلُّ أحد ما ظهر

له بحسب ما وفق له، ولنكتف بهذا القدر في هذه المسألة) .

انتهى ما كتب لي به وهو بسط أدلة شاهدة لأصل الاستحسان، فلا يمكن مع

هذا التقرير كله أن يتمسك به مَن أراد مَن يستحسن بغير دليل أصلاً.

***

فصل

فإذا تقرر هذا فلنرجع إلى ما احتجُّوا به أولاً: فأما من حد الاستحسان بأنه:

(ما يستحسنه المجتهد بعقله ويميل إليه برأيه) فكان هؤلاء يرون هذا النوع من

جملة أدلة الأحكام، ولا شك أن العقل يجوز أن يرد الشرع بذلك؛ بل يجوز أن يرد

بأنَّ ما سبق إلى أوهام العوام - مثلاً - فهو حكم الله عليهم، فيلزمهم العمل بمقتضاه،

ولكن لم يقع مثل هذا ولم يعرف التعبد به لا بضرورة ولا بنظر ولا بدليل من

الشرع قاطع ولا مظنون، فلا يجوز إسناده لحكم الله؛ لأنه ابتداء تشريع من جهة

العقل.

وأيضًا فإنَّّّا نعلم أن الصحابة رضي الله عنهم حصروا نظرهم في الوقائع

التي لا نصوص فيها في الاستنباط [21] والرد إلى ما فهموه من الأصول الثابتة. ولم

يقل أحد منهم: إنِّي حكمت في هذا بكذا لأن طبعي مال إليه، أو لأنه يوافق محبتي

ورضائي ولو قال ذلك لاشتد عليه النكير، وقيل له: مِن أين لك أن تحكم على عباد

الله بمحض ميل النفس وهوى القلب، هذا مقطوع ببطلانه.

بل كانوا يتناظرون ويعترض بعضهم بعضًا على مأخذ بعض، ويحصرون

ضوابط الشرع.

وأيضًا فلو رجع الحكم إلى مجرد الاستحسان لم يكن للمناظرة فائدة؛ لأن

الناس تختلف أهواؤهم وأغراضهم في الأطعمة والأشربة واللباس وغير ذلك، ولا

يحتاجون إلى مناظرة بعضهم بعضًا: لم كان هذا الماء أشهى عندك من الآخر،

والشريعة ليست كذلك.

على أن أرباب البدع العملية أكثرهم لا يحبون أن يناظروا أحدًا. ولا يفاتحون

عالمًا ولا غيره فيما يبتغون، خوفًا من الفضيحة أن لا يجدوا مستندًا شرعيًّا. وإنما

شأنهم إذا وجدوا عالمًا أو لقوه أن يصانعوه، وإذا وجدوا جاهلاً عاميًّا ألقوا عليه

في الشريعة الطاهرة إشكالات، حتى يزلزلوهم ويخلطوا عليهم، ويلبسوا دينهم

فإذا عرفوا منهم الحيرة والالتباس، ألقوا إليهم من بدعهم على التدريج شيئًا

فشيئًا، وذمَّوا أهل العم بأنهم أهل الدنيا المكبون عليها، وإن هذا الطائفة هم

أهل الله وخاصته. وربما أوردوا عليهم من كلام غلاة الصوفية شواهد على ما يلقون

إليهم، حتى يهووا بهم في نار جهنم. وأما أن يأتوا الأمر من بابه ويناظروا عليه

العلماء الراسخين فلا.

وتأمل ما نقله الغزالي في استدراج الباطنية غيرهم إلى مذهبهم، تجدهم لا

يعتمدون إلا على خديعة الناس من غير تقرير علم، والتحيل عليهم بأنواع الحيل،

حتى يخرجوهم من السنة أو من الدين جملة، ولولا الإطالة لأثبت كلامه، فطالعه

في كتابه (فضائح الباطنية) .

وأما الحد الثاني فقد رد بأنه لو فتح هذا الباب لبطلت الحجج وادعى كل من

شاء ما شاء، واكتفى بمجرد القول. فألجأ الخصم إلى الإبطال، وهذا يجر فسادًا

لا خفاء له، وإن سلم: فذلك الدليل إن كان فاسدًا فلا عبرة به، وإن كان صحيحًا فهو

راجع إلى الأدلة الشرعية فلا ضرر فيه.

وأما الدليل الأول فلا متعلق به، فإن أحسنَ الاتباع إلينا الأدلة الشرعية

وخصوصًا القرآن فإن الله يقول: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً} (الزمر: 23) ، الآية.

وجاء في صحيح الحديث - خرَّجه مسلم - أن الني صلى الله عليه وسلم قال

في خطبته: (أما بعد فأحسن الحديث كتاب الله) فيفتقر أصحاب الدليل أن يبينوا

أن ميل الطباع أو أهواء النفوس مما أنزل إلينا، فضلاً عن أن يكون من أحسنه.

وقوله: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} (الزمر: 18)

الآية

يحتاج إلى بيان أن ميل النفوس يسمى قولاً وحينئذٍ ينظر إلى كونه أحسن القول كما

تقدم وهذا كله فاسد.

ثم إنا نعارض هذا الاستحسان بأن عقولنا تميل إلى إبطاله، وأنه ليس بحجة،

وإنما الحجة الأدلة الشرعية المتلقاة من الشرع.

وأيضًا فيلزم عليه استحسان العوام، ومَن ليس من أهل النظر، إذا فرض أن

الحكم يتبع مجرد ميل النفوس وهوى الطباع، وذلك محال، للعلم بأن ذلك مضاد

للشريعة، فضلاً عن أن يكون من أدلتها.

وأما الدليل الثاني: فلا حجة فيه من أوجه:

(أحدها) : أن ظاهره يدل على أن ما رآه المسلمون حسنًا فهو حسن،

والأمة لا تجتمع على باطل. فاجتماعهم على حسن شيء يدل على حسنه شرعًا؛

لأن الإجماع يتضمن دليلاً شرعيًّا، فالحديث دليل عليكم لا لكم.

و (الثاني) : أنه خبر واحد في مسألة قطعية فلا يسمع.

و (الثالث) : أنه إذا لم يرد به أهل الإجماع وأريد بعضهم فيلزم عليه

استحسان العوام، وهو باطل بإجماع، لا يقال: إن المراد استحسان أهل الاجتهاد،

لأنا نقول: هذا ترك للظاهر، فيبطل الاستدلال. ثم إنَّه لا فائدة في اشتراط

الاجتهاد؛ لأن المستحسن بالفرض لا ينحصر في الأدلة، فأي حاجة إلى اشتراط

الاجتهاد.

فإن قيل: إنما يشترط حذرًا من مخالفة الأدلة فإنَّ العامي لا يعرفها. قيل:

بل المراد استحسان ينشأ عن الأدلة، بدليل أن الصحابة رضي الله عنهم

قصروا أحكامهم على اتباع الأدلة وفهم مقاصد الشرع فالحاصل أن تعلق المبتدعة

بمثل هذه الأمور تعلق بما لا يغنيهم ولا ينفعهم ألبتة، لكن ربما يتعلقون في آحاد

بدعتهم بآحاد شبه ستذكر في مواضعها إن شاء الله ومنها ما قد مضى.

***

فصل

فإن قيل: أفليس في الأحاديث ما يدل على الرجوع إلى ما يقع في القلب

ويجري في النفس، وإن لم يكن ثَمَّ دليل صريح على حكم مِن أحكام الشرع، ولا

غير صريح، فقد جاء في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول

(دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة) .

وخرّج مسلم عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: سألت رسول

الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم فقال: (البر حسن الخلق، والإثم ما حاك

في صدرك وكرهت أن يطّلع الناس عليه) وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال:

قال رجل: يا رسول الله ما الإيمان؟ قال: (إذا سرّتك حسناتك وساءتك سيئاتك

فأنت مؤمن) قال: يا رسول الله، فما الإثم؟ قال: (إذا حاك شيء في صدرك

فدعه) وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله

عليه وسلم يقول: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) وعن وابصة رضي الله عنه

قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم فقال: يا وابصة استفت

قلبك واستفت نفسك، البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك

في النفس وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك) وخرَّج البغوي في معجمه

عن عبد الرحمن بن معاوية: أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه

وسلم فقال: يا رسول الله: ما يحل لي مما يحرم عليَّ؟ فسكت رسول الله صلى الله

عليه وسلم، فردد عليه ثلاث مرات، كلُّ ذلك يسكت رسول الله صلى الله عليه

وسلم، ثم قال أين السائل؟ فقال: أنا ذا يا رسول الله فقال ونقر بأصبعه: (ما أنكر

فوك فدعه) .

وعن عبد الله قال: الإثم حواز القلوب، فما حاك من شيء في قلبك فدعه،

وكل شيء فيه نظرة فإن للشيطان فيه مطمعًا. وقال أيضًا: الحلال بيّن والحرام

بيّن وبينهما أمور مشتبهات، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك ، وعن أبي الدرداء -

رضي الله عنه: إن الخير طمأنينة، وإن الشر ريبة؛ فدع ما يريبك إلى ما لا

يريبك، فوالله ما وجدت فَقْد شيء تركتُه ابتغاء وجه الله.

فهذه ظهر من معناها الرجوع في جملة من الأحكام الشرعية لي ما يقع بالقلب

ويهجس بالنفس ويعرض بالخاطر، وأنه إذا اطمأنت النفس إليه فالإقدام عليه

صحيح، وإذا توقفت أو ارتابت فالإقدام عليه محظور، وهو عين ما وقع إنكاره من

الرجوع إلى الاستحسان الذي قع بالقلب ويميل إليه الخاطر، وإن لم يكن ثَمَّ دليل

شرعي، فإنه لو كان هناك دليل شرعي أو كان هذا التقرير مقيّدًا بالأدلة الشرعية لم

يحل به على ما في النفوس ولا على ما يقع بالقلوب، مع أنه عندكم عبث وغير

مفيد، كمن يحيل بالأحكام الشرعية على الأمور الوفاقية، أو الأفعال التي لا ارتباط

بينها وبين شرعية الأحكام - فدل ذلك على أن لاستحسان العقول وميل النفوس أثرًا

في شرعية الأحكام، وهو المطلوب.

والجواب: إن هذه الأحاديث، وما كان في معناها قد زعم الطبري في تهذيب

الآثار أن جماعةً من السلف قالوا بتصحيحها، والعمل بما دل عليه ظاهرها ، وأتى

بالآثار المتقدمة عن عمر، وابن مسعود ، وغيرهما، ثم ذكر عن آخرين القول

بتوهينها، وتضعيفها، وإحالة معانيها.

وكلامه وترتيبه بالنسبة إلى ما نحن فيه لائق أن يؤتى به على وجهه،

فأتيت به على تحري معناه دون لفظه لطوله فحكى عن جماعة أنهم قالوا: لا شيء

من أمر الدين إلا وقد ينه الله - تعالى - بنص عليه، أو بمعناه، فإن كان حلالاً

فعلى العامل به إذا كان عالمًا تحليله، أو حرامًا فعليه تحريمه، أو مكروهًا غير

حرام عليه اعتقاد التحليل، أو الترك تنزيهًا.

فأما العامل بحديث النفس، والعارض في القلب فلا، فإن الله حظر ذلك على

نبيه فقال: {إِنَّا أنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} (النساء: 105) فأمره بالحكم بما أراه الله لا بما رآه، وحدثته به نفسه، فغيره من

البشر أولى أن يكون ذلك محظوراً عليه ، وأما إن كان جاهلاً فعليه مسألة العلماء

دون ما حدثته نفسه.

ونقل عن عمر رضي الله عنه أنه خطب فقال: أيها الناس، قد سُنت

لكن السنن، وفُرضت لكم الفرائض، وتُرِكتم على الواضحة، أن تضلوا بالناس

يمينًا وشمالاً [22] . وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ما كان في القرآن من

حلال، أو حرام فهو كذلك، وما سكت عنه فهو مما عفي عنه.

وقال مالك: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تم هذا الأمر

واستكمل؛ فينبغي أن تًتبع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولا

يُتبع الرأي، فإنه من اتبع الرأي جاءه رجل آخر أقوى في الرأي منه فاتبعه، فكلما

غلبه رجل اتبعه، أرى أن هذا بعد لم يتم ، واعملوا من الآثار بما روي عن جابر -

رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قد تركت فيكم ما لن

تضلوا بعدي إذا اعتصمتم به: كتاب الله وسنتي ولن يتفرقا حتى يردا على

الحوض) [23] .

وروي عن عمرو بن.. .. . خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا وهم

يجادلون في القرآن، فخرج وجهه أحمر كالدم فقال [24] : (يا قوم! على هذا هلك

من كان قبلكم، جادلوا في القرآن، وضربوا بعضه ببعض، فما كان من حلال

فاعملوا به، وما كان من حرام فانتهوا عنه، وما كان من متشابه فآمنوا به) .

وعن أبي الدرداء رضي الله عنه يرفعه قال: ما أحل الله في كتابه فهو

حلال، وما حرم فيه فهو حرام، وما سكت عنه فهو عافية، فاقبلوا من الله عافيته،

فإن الله لم يكن لينسى شيئاً {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِياًّ} (مريم: 64) .

قالوا: فهذه الأخبار وردت بالعمل بما في كتاب الله، والإعلام بأن العامل به

لن يضل، ولم يأذن لأحد في العمل بمعنى ثالث غير ما في الكتاب والسنة، ولو

كان ثم ثالث لم يَدَعْ بيانه، فدل على أن لا ثالث؛ ومن ادعاه فهو مبطل.

قالوا: فإن قيل: فإنه عليه السلام قد سن لأمته وجهًا ثالثًا، وهو قوله:

(استفت قلبك) وقوله (الإثم حوار القلوب) إلى غير ذلك - قلنا: لو صحت هذه

الأخبار لكان ذلك إبطالاً لأمره بالعمل بالكتاب والسنة إذا صحَّا معًا؛ لأن أحكام الله

ورسوله لم ترد بما استحسنته النفوس واستقبحته، وإنما كان يكون وجهًا ثالثًا لو

خرج شيء من الدين عنهما، وليس بخارج، فلا ثالث يجب العمل به.

فإن قيل: قد يكون قوله: (استفت قلبك) ونحوه أمرًا لمن ليس في مسألته

نص من كتاب ولا سنة، واختلفت فيه الأمة، فيعد وجهًا ثالثًا - قلنا: لا يجوز ذلك

لأمور:

(أحدها) : أن كل ما لا نص فيه بعينه قد نصت على حكمه دلالة، فلو

كان فتوى القلب ونحوه دليلاً، لم يكن لنصب الدلالة الشرعية عليه معنى، فيكون

عبثاً، وهو باطل.

(والثاني) : أن الله - تعالى - قال {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ

وَالرَّسُولِ} (النساء: 59) فأمر المتنازعين بالرجوع إلى الله والرسول دون

حديث النفوس وفتيا القلوب.

(والثالث) : أن الله - تعالى - قال {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (النحل: 43) فأمرهم بمسألة أهل الذكر ليخبروهم بالحق فيما اختلفوا فيه من

أمر محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يأمرهم أن يستفتوا في ذلك أنفسهم.

(والرابع) أن الله - تعالى - قال لنبيه احتجاجًا على من أنكر وحدانيته

{أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} (الغاشية: 17) إلى آخرها فأمرهم

بالاعتبار بعبرته، والاستدلال بأدلته على صحة ما جاءهم به ، ولم يأمرهم أن

يستفتوا فيه نفوسهم، ويصدروا عما اطمأنت إليه قلوبهم، وقد وضع الأعلام والأدلة،

فالواجب في كل ما وضع الله عليه الدلالة أن يستدل بأدلته على ما دلت، دون

فتوى النفوس، وسكون القلوب من أهل الجهل بأحكام الله.

هذا ما حكاه الطبري عمن تقدم، ثم اختار إعمال تلك الأحاديث، إما لأنها

صحت عنده، أو صح منها عنده ما تدل عليه معانيها، كحديث (الحلال بَيّن

والحرام بَيّن) إلى آخر الحديث فإنه صحيح خرجه الإمامان ، ولكنه لم يعمله في

كل من أبواب الفقه، إذ لا يمكن ذلك في تشريع الأعمال، وإحداث التعبدات؛ فلا

يقال بالنسبة إلى إحداث الأعمال: إذا اطمأنت نفسك إلى هذا العمل فهو بر، أو:

استفت قلبك في إحداث هذا العمل، فإن اطمأنت إليه نفسك فاعمل به وإلا فلا.

وكذلك في النسبة إلى التشريع التَّركي، لا يتأتى تنزيل معاني الأحاديث عليه

بأن يقال: إن اطمأنت نفسك إلى ترك العمل الفلاني فاتركه، وإلا فدعه، أي فدع

الترك واعمل به. وإنما يستقيم إعمال الأحاديث المذكورة فيما أعمل فيه قوله

عليه السلام (الحلال بَيّن والحرام بَيّن) الحديث.

وما كان من قبيل العادات من استعمال الماء، والطعام، والشراب، والنكاح،

واللباس، وغير ذلك مما في هذا المعنى، فمنه ما هو بين الحلّية، وما هو بيّن

التحريم، وما فيه إشكال - وهو الأمر المشتبه الذي لا يُدرى أحلال هو أم حرام -

فإن ترك الإقدام أولى من الإقدام مع جهله بحاله نظير قوله عليه السلام (إني

لأجد التمرة ساقطةً على فراشي، فلولا أني أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها [25] )

فهذه التمرة لا شك أنها لم تخرج من إحدى الحالين: إما من الصدقة، وهي

حرام عليه، وإما من غيرها وهي حلال له، فترك أكلها حذرًا من أن تكون من

الصدقة في نفس الأمر.

قال الطبري: فكذلك حق الله على العبد فيما اشتبه عليه مما هو في سعة من

تركه والعمل به، أو مما هو غير واجب - أن يدع ما يريبه فيه إلى ما لا يريبه، إذ

يزول بذلك عن نفسه الشك، كمن يريد خطبة امرأة فتخبره امرأة أنها قد أرضعته

وإياها، ولا يعلم صدقها من كذبها، فإن تركها أزال عن نفسه الريبة اللاحقة له

بسبب إخبار المرأة، وليس تزوجه إياها بواجب بخلاف ما لو أقدم، فإن النفس لا

تطمئن إلى حلّية تلك الزوجة.

وكذلك قول عمر إنما هو فيما أُشكل أمره في البيوع فلم يدر حلال هو أم

حرام؟ ففي تركه سكون النفس وطمأنينة القلب، كما في الإقدام شك: هل هو إثم

أو لا؟ وهو معنى قوله عليه السلام للنواس ووابصة رضي الله عنهما

ودل على ذلك حديث المشتبهات لا ما ظن أولئك من أنه أمر للجهال أن يعملوا بما

رأته أنفسهم، ويتركوا ما استقبحوه دون أن يسألوا علماءهم.

قال الطبري: فإن قيل: إذا قال الرجل لامرأته: أنت علي حرام. فسأل

العلماء فاختلفوا عليه، فقال بعضهم: قد بانت منك بالثلاث ، وقال بعضهم: إنها

حلال غير أن عليك كفارة يمين ، وقال بعضهم: ذلك إلى نيته إن أراد الطلاق فهو

طلاق، أو الظهار فهو ظهار، أو يمينًا فهو يمين، وإن لم ينو شيئًا فليس بشيء

أيكون هذا اختلافًا في الحكم، كإخبار المرأة بالرضاع فيؤمر هنا بالفراق، كما يؤمر

هناك أن لا يتزوجها خوفًا من الوقوع في المحظور؟ أو لا؟ قيل: حكمه في مسألة

العلماء أن يبحث عن أحوالهم، وأمانتهم، ونصيحتهم، ثم يقلد الأرجح ، فهذا ممكن ،

والحزازة مرتفعة بهذا البحث، بخلاف ما إذا بحث مثلاً عن أحوال المرأة فإن

الحزازة لا تزول، وإن أظهر البحث أن أحوالها غير حميدة، فهما على هذا مختلفان،

وقد يتفقان في الحكم إذا بحث عن العلماء فاستوت أحوالهم عنده، لم يثبت له ترجيح

لأحدهم، فيكون العمل المأمور به من الاجتناب كالمعمول به في مسألة المخبرة

بالرضاع سواءً، إذ لا فرق بينهما على هذا التقدير انتهي معنى كلام الطبري.

وقد أثبت في مسألة اختلاف العلماء على المستفتي أنه غير مخير، بل حكمه

حكم من التبس عليه الأمر فلم يدر أحلال هو أم حرام، فلا خلاص له من الشبهة

إلا باتباع أفضلهم والعمل بما أفتى به، وإلا فالترك، إذ لا تطمئن النفس إلا بذلك،

حسبما اقتضته الأدلة المتقدمة.

***

فصل

ثم يبقى في هذا الفصل الذي فرغنا منه إشكال على كل من اختار استفتاء

القلب مطلقًا أو بقيد، وهو الذي رآه الطبري ، وذلك أن حاصل الأمر يقتضي أن

فتاوى القلوب، وما اطمأنت إليه النفوس معتبر في الأحكام الشرعية، وهو التشريع

بعينه، فإن طمأنينة النفس وسكون القلب مجردًا عن الدليل: إما أن تكون معتبرةً،

أو غير معتبرة شرعًا، فإن لم تكن معتبرةً فهو خلاف ما دلت عليه تلك الأخبار،

وقد تقدم أنها معتبرة بتلك الأدلة، وإن كانت معتبرةً فقد صار ثَمَّ قسم ثالث غير

الكتاب والسنة، وهو غير ما نفاه الطبري وغيره.

وإن قيل: إنها تعتبر في الإحجام دون الإقدام ، لم تخرج تلك عن الإشكال

الأول؛ لأن كل واحد من الإقدام والإحجام فعل لابد أن يتعلق به حكم شرعي، وهو

الجواز وعدمه، وقد علق ذلك بطمأنينة النفس، أو عدم طمأنينتها ، فإن كان ذلك

عن دليل، فهو ذلك الأول بعينه باق على كل تقدير.

والجواب أن الكلام الأول صحيح، وإنما النظر في تحقيقه:

فاعلم أن كل مسألة تفتقر إلى نظرين: نظر في دليل الحكم، ونظر في مناطه ،

فأما النظر في دليل الحكم فلا يمكن أن يكون إلا من الكتاب والسنة، أو ما يرجع

إليهما من إجماع، أو قياس، أو غيرهما، ولا يعتبر فيه طمأنينة النفس، ولا نفي

ريب القلب، لا من جهة اعتقاد كون الدليل دليلاً، أو غير دليل [26] ولا يقول أحد

إلا أهل البدع الذين يستحسنون الأمر بأشياء لا دليل عليها، أو يستقبحون كذلك من

غير دليل إلا طمأنينة النفس (؟) أن الأمر كما زعموا، وهو مخالف لإجماع

المسلمين.

وأما النظر في مناط الحكم، فإن المناط لا يلزم منه أن يكون ثابتاً بدليل

شرعي فقط، بل يثبت بدليل غير شرعي، أو بغير دليل، فلا يشترط فيه بلوغ

درجة الاجتهاد، بل لا يشترط فيه العلم فضلاً عن درجة الاجتهاد ، ألا ترى أن

العامي إذا سأل [27] عن الفعل الذي ليس من جنس الصلاة إذا فعله المصلي: هل

تبطل به الصلاة أم لا؟ فقال العامي: إن كان يسيرًا فمغتفر، وإن كان كثيرًا

فمبطل - لم يغتفر في اليسير إلى أن يحققه له العالم، بل العاقل يفرق بين الفعل

اليسير والكثير ، فقد انبنى هاهنا الحكم، وهو البطلان، أو عدمه على ما يقع بنفس

العامي، وليس واحدًا من الكتاب أو السنة؛ لأنه ليس ما وقع بقلبه دليلاً على حكم،

وإنما هو مناط الحكم، فإذا تحقق له المناط بأي وجه تحقق فهو المطلوب، فيقع

عليه الحكم بدليله الشرعي، وكذلك إذا قلنا بوجوب الفور في الطهارة، وفرقنا بين

اليسير والكثير في التفريق الحاصل أثناء الطهارة، فقد يكتفي العامي بذلك حسبما

يشهد قلبه في اليسير أو الكثير، فيبطل طهارته أو تصح بناءً على ذلك الواقع في

القلب؛ لأنه نظر في مناط الحكم.

فإذا ثبت هذا فمن ملك لحم شاة ذكية حل له أكله، لأن حِلّيته ظاهرة عنده إذا

حصل له شرط الحِلّية لتحقق مناطها بالنسبة إليه، أو ملك لحم شاة ميتة لم يحل له

أكله؛ لأن تحريمه ظاهر من جهة فقده شرط الحِلّية، فتحقق مناطها بالنسبة إليه.

وكل واحد من المناطين راجع إلى ما وقع بقلبه، واطمأنت إليه نفسه، لا بحسب

الأمر في نفسه، ألا ترى أن اللحم قد يكون واحدًا بعينه فيعتقد واحد حِلّيته بناءً على

ما تحقق له من مناطها بحسبه، ويعتقد آخر تحريمه بناءً على ما تحقق له من

مناطه بحسبه، فيأكله أحدهما حلالاً، ويجب على الآخر الاجتناب لأنه حرام؟

ولو كان ما يقع بالقلب يشترط فيه أن يدل عليه دليل شرعي لم يصح هذا المثال

وكان محالاً؛ لأن أدلة الشرع لا تتناقض أبدًا، فإذا فرضنا لحمًا أشكل على المالك

تحقيق مناطه لم [28] ينصرف إلى إحدى الجهتين، كاختلاط الميتة بالذكية، واختلاف

الزوجة بالأجنبية.

فها هنا قد وقع الريب والشك والإشكال والشبهة ، وهذا المناط محتاج إلى

دليل شرعي يبين حكمه، وهي تلك الأحاديث المتقدمة، كقوله: (دع ما يريبك إلى

ما لا يريبك) وقوله (البر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في صدرك)

كأنه يقول: إذا اعتبرنا [29] باصطلاحنا: ما تحققت مناطه في الحِلّية أو الحرمة

فالحكم فيه من الشرع بيّن، وما أشكل عليك تحقيقه فاتركه وإياك والتلبس به، وهو

معني قوله - إن صح - (استفت قلبك وإن أفتوك) فإن تحقيقك لمناط مسألتك أخص

بك من تحقيق غيرك له إذا كان مثلك ، ويظهر ذلك فيما إذا أشكل عليك المناط،

ولم يشكل على غيرك؛ لأنه لم يعرض له ما عرض لك ، وليس المراد بقوله:

(وإن أفتوك) أي إن نقلوا لك الحكم الشرعي فاتركه وانظر ما يفتيك به قلبك، فإن

هذا باطل وتقوّل على التشريع الحق ، وإنما المراد ما يرجع إلى تحقيق المناط.

نعم قد لا يكون ذلك درية [30] أو أنسا بتحقيقه فيحققه لك غيرك، وتقلده فيه،

وهذه الصورة خارجة عن الحديث، كما أنه قد يكون تحقيق المناط أيضًا موقوفًا

على تعريف الشارع، كحد الغنى الموجب للزكاة، فإنه يختلف باختلاف الأحوال،

فحققه الشارع بعشرين دينارًا ومائتي درهم وأشباه ذلك، وإنما النظر هنا فيما وكل

تحقيقه إلى المكلف.

فقد ظهر معني المسألة، وأن الأحاديث لم تتعرض لاقتناص الأحكام الشرعية

من طمأنينة النفس أو ميل القلب، كما أورده السائل المستشكل، وهو تحقيق بالغ ،

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

_________

(*) تابع لما نشر في ص 833.

(1)

روي عن بعض علماء السلف مثل هذا، وعد الطهارتين على خلاف القياس أو العقل، وأخذ الناس ذلك بالقبول مع أن حكمة الطهارتين معقولة، فإن خروج المني ودم الحيض يحدث من الفتور والضعف في البدن كله ما لا يحدث مثله بخروج البول والغائط، فشرع الغسل من الأولين ليعود به للبدن نشاطه وللعصب فيه تنبهه، فيقوى على العبادة، واكتفى بالوضوء من الآخرين لضعف تأثيرهما، وثم حكمة أخرى وهي جعل الطهارة الخفيفة لما يتكرر كل يوم، والطهارة الشاقة لما لا يتكرر إلا في الأسابيع أو الشهور، وللأمثلة الأخرى التي سيذكرها حِكَم أيضًا بينا بعضها في مجلة المنار وفي (تفسير القرآن الحكيم) ولا ينكر مع ذلك أن في كل عبادة معني التعبد الذي يؤخذ بالتسليم، كعدد الركعات والركوع والسجود فيها.

(2)

لعل أصله (ويشهد لذلك) أوله.

(3)

لعل أصله (ما يستحسنه) .

(4)

لابد أن يكون سقط من هنا شيئ ولعله (المنفعة) .

(5)

كانت العبارة في صلب النسخة هكذا: (إن المفرق في القياس، يكاد يفرق الناس) ووضع فوق (يفرق الناس) خط وكتب بإزائه في الحاشية (يفارق السنة) على أن معني العبارة المصححة ظاهر.

(6)

إذا كان قوله: (لرفع المشقة) إلخ تعليلاً لتركه في (لليسير)(وهو القليل التافه) فأين القسم الرابع، وإن كان قسمًا برأسه فلماذا لم يقل (وتركه لرفع المشقة) وليراجع المثال السابع في ص 927.

(7)

قوله: (لمبتدع) خبر قوله: (فلا حجة) .

(8)

لعل أصله (يؤول) فإن الزنا إذا لم يثبت بشهادة من شهدوا به يؤول الأمر إلى قذفهم للمشهود عليه وهو فسق، والعبارة كما ترى لا تفهم إلا بتكلف.

(9)

لعله سقط من هنا لفظ (التفسيق) .

(10)

لعله سقط من هنا كلمة (هو) .

(11)

نص نسختنا (فلا يحنث) وهو غلط حتمًا.

(12)

لعله عن.

(13)

الظاهر أن يقول: صوروا الاستحسان بصورة الاستثناء - أو تصوروا الاستحسان تصور الاستثناء إلخ.

(14)

الوازن ما وزن فعرف أنه تام يقال: درهم وزن ووازن وموزون.

(15)

لعله الغرر أو الضرر.

(16)

لعل أصله (في حكم المنع، أو: في حيز المنع) .

(17)

سقط من هنا ما يكون به قوله (أن يتمادى) جملة مفيدة، ولعل أصله: وجب، أو: فعليه أن يتمادى.

(18)

ينظر.

(19)

كذا في الأصل وفيه حذف وتحريف ظاهر وقد وضع فوق ألف (مجانًا) ثلاث نقاط، وكلمة (يغاربه) يحتمل أن تكون (يقاربه) .

(20)

لا تزال العبارة مضطربة تدل على الحذف والبتر والتصحيف والتحريف.

(21)

قوله: (في الوقائع) متعلق بـ (نظرهم) وقوله: (في الاستنباط) متعلق بـ (حصروا) .

(22)

أي: كراهة أن تضلوا، أو: اتقاء أن تضلوا.

(23)

لا أعرف الحديث بهذا اللفظ عن جابر، وهو مروي عنه بألفاظ أقربها إلى ما هنا ما رواه ابن أبي شيبة ، والخطيب في المتفق والمفترق عنه وهو (تركت فيكم ما لن تضلوا إن اعتصمتم به: كتاب الله وعترتي أهل بيتي) ورواه الترمذي والنسائي عنه بلفظ (يا أيها لناس إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا: كتاب الله وعترتى أهل بيتي) والحديث مروي بلفظ العترة بدل السنة عن كثير من الصحابة منهم زيد بن ثابت ، وزيد بن أرقم ، وأبو سعيد الخدري ، وروي عن أبي هريرة بلفظ السنة بدل العترة، وفي كلا السياقين لفظ (لن يفترقا حتى يردا علي الحوض) والجمع بينهما في المعنى أن عترته أهل بيته يحافظون على سنته، أي: لا يخلو الزمان عن قدوة منهم يقيمون سنته لا يثنيهم عنها التقليد، ولا الابتداع، ولا الفتن.

(24)

كذا في الأصل، والحديث أخرجه نصر المقدسي في الحجة عن ابن عمر قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن وراء حجرته قوم يتجادلون بالقرآن، فخرج محمرةً وجنتاه كأنما تقطران دمًا فقال:(يا قوم لا تجادلوا بالقرآن، فإنما ضل من قبلكم بجدالهم، إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضًا، ولكن نزل يصدق بعضه بعضًا فما كان من محكمه فاعملوا به، وما كان من متشابهه فآمنوا به) .

(25)

كان الحديث محرفًا تحريفًا مغيرًا للمعني.

(26)

يظهر أنه سقط من هذا الموضع مقابل (لا) فإن اعتقاد كون الدليل دليلاً، أو غير دليل أمر

واحد، أو جهة واحدة، وليتأمل قوله (ولا يقول أحد) إلخ، ولعله قد سقط منه شيء أيضًا.

(27)

لعله (سئل) .

(28)

هذا جواب (فإذا) وكان في الأصل مقرونًا بالفاء.

(29)

لعل أصله (عبرنا) من التعبير.

(30)

في الأصل (ذريعة) وقد جعل فوقها علامة الترميج، وأصلحت فصارت (درية) والدرّية أصلها دريئة وهي الحلقة التي يتعلم بها الطعن، وما يختل الصائد به الصيد، والأظهر أن يكون أصله: قد لا يكون لك دراية، أو أنس بتحقيقه.

ص: 913